مقدمة في الأدب
الباب الأول
1 - في تعريف اللغة ونشأتها
2 - في تاريخ اللغة العربية
3 - في أول كتاب بلغة العرب
4 - في السنة أو الأحاديث النبوية
5 - في جواز الاستشهاد بالقرآن والحديث في علوم الأدب
6 - في بعض ما اشتهر من كتب اللغة
الباب الثاني
1 - في تعريف الكتابة
صفحة غير معروفة
2 - في تاريخ الخط العربي
3 - في الحروف ونقطها
4 - في علوم الخط
الباب الثالث
1 - في تعريف الشعر وفنونه ووجه تعلمه
2 - في تاريخ الشعر
3 - فيما يتبع الشعر
4 - في دواوين الشعر
الباب الرابع
في تاريخ العروض والقافية
صفحة غير معروفة
الباب الخامس
1 - في تعريف النحو والصرف والاشتقاق
2 - في تاريخ النحو بالمعنى العام
الباب السادس
المعاني والبيان والبديع
الباب السابع
في تاريخ المحاضرات
الباب الثامن
1 - في تعريف الإنشاء ووجه تعلمه وأنواعه
2 - في تاريخ الإنشاء
صفحة غير معروفة
3 - في شذرات من منشآت السلف والخلف
4 - فيما اشتهر من كتب الإنشاء
حياة المؤلف
مقدمة في الأدب
الباب الأول
1 - في تعريف اللغة ونشأتها
2 - في تاريخ اللغة العربية
3 - في أول كتاب بلغة العرب
4 - في السنة أو الأحاديث النبوية
5 - في جواز الاستشهاد بالقرآن والحديث في علوم الأدب
صفحة غير معروفة
6 - في بعض ما اشتهر من كتب اللغة
الباب الثاني
1 - في تعريف الكتابة
2 - في تاريخ الخط العربي
3 - في الحروف ونقطها
4 - في علوم الخط
الباب الثالث
1 - في تعريف الشعر وفنونه ووجه تعلمه
2 - في تاريخ الشعر
3 - فيما يتبع الشعر
صفحة غير معروفة
4 - في دواوين الشعر
الباب الرابع
في تاريخ العروض والقافية
الباب الخامس
1 - في تعريف النحو والصرف والاشتقاق
2 - في تاريخ النحو بالمعنى العام
الباب السادس
المعاني والبيان والبديع
الباب السابع
في تاريخ المحاضرات
صفحة غير معروفة
الباب الثامن
1 - في تعريف الإنشاء ووجه تعلمه وأنواعه
2 - في تاريخ الإنشاء
3 - في شذرات من منشآت السلف والخلف
4 - فيما اشتهر من كتب الإنشاء
حياة المؤلف
تاريخ آداب اللغة العربية
تاريخ آداب اللغة العربية
تأليف
محمد دياب
صفحة غير معروفة
العلم شيء حسن
فكن له ذا طلب
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمده، علم الإنسان ما لم يعلم، وأصلي على نبيه صاحب الفرقان المحكم، وعلى الآل والصحابة، والتابعين سننه وآدابه.
وبعد؛ فقد أخبرني فيما سلف صديق يعرف الألمانية أن مستشرقي الألمان عنوا بتاريخ آداب لغتنا العربية ؛ فوضعوا فيه كتابا ذا أسفار مطبوعا بلغتهم، وود الصديق لو يؤلف بالعربية مثل هذا الكتاب؛ فلاح بخاطري أن أشق عباب هذا الموضوع الجليل، فسرت في سبيله متجشما الصعاب بضعة أعوام إلى أن اهتديت إلى وضع مؤلف جامع لأشتاته المتفرقة في بطون مئين من أمهات الكتب ذات الاعتبار، وأبدعت فيه ما أبدعت مما لم تلده القرائح فيما غبر أو حضر، وقد شرحت فيه نشأة العلوم الأدبية وسيرها في مختلف العصور، والكتب التي ألفت فيها، وأزمانها وحياة مؤلفيها، وذكرت فصولا من كل فن اقتضاها سير التأليف، وغير ذلك مما يطول بيانه في هذا المقام، ولا أطري على هذا المؤلف بأنه جليل أو مفيد أو لم يسبق النسج على منواله أو أول كتاب في بابه أو ديوان أدب عزيز يضن به المالك، إلى غير ذلك من الدعاوى الواسعة، بل الحكم في هذا موكول إلى المطلعين، والله الهادي إلى الصواب.
محمد دياب
المفتش بالمعارف
قد عرض هذا الكتاب على نظارة المعارف فأرسلته إلى الأستاذ الفاضل الشيخ حمزة فتح الله المفتش الأول لهذه اللغة، فكتب إلى الأمير الهمام صاحب السعادة يعقوب أرتين باشا وكيل المعارف ما نصه:
قد فحصنا «تاريخ آداب اللغة العربية» الصادر لنا بشأنه أمر سعادتكم الشفاهي؛ فوجدناه مودعا من الفوائد العلمية والمحاسن الأدبية ما يشهد لمؤلفه الفاضل بطول الباع وسعة الاطلاع، فلا أقل من أن تتكرم النظارة بشراء جملة نسخ منه بعد طبعه على نفقة مؤلفه مساعدة للعلم وأهله والفضل وذويه، وها هي نسخته عائدة مع هذا. أفندم 18 ذي الحجة سنة 1314ه / 20 مايو سنة 1897م.
الفقير إليه عز شأنه
صفحة غير معروفة
حمزة فتح الله
وقد سجل هذا في دفاتر الديوان بقلم اللوازم نمرة 406 في 24 مايو سنة 1897م.
مقدمة في الأدب
(1) أدب النفس
الأدب: تحلي النفس بالفضيلة، ومظهر ذلك جميل الفعل وحسن القول، قال الشاعر الفزاري:
أكنيه حين أناديه لأكرمه
ولا ألقبه والسوأة اللقبا
كذاك أدبت حتى صار من خلقي
أني وجدت ملاك الشيمة الأدبا
ولذا أطلقوه على آثاره فقالوا إنه استعمال ما يحمد قولا وفعلا، أو هو الوقوف مع المستحسنات، أو هو أن تعظم من فوقك وترفق بمن هو دونك.
صفحة غير معروفة
وأصل الأدب: الدعاء، ومنه قيل للوليمة يدعى إليها: مأدبة. (2) أدب الدرس
ولما كانت علوم اللسان في صدر الإسلام لها العناية القصوى في أخذ الناس بها، وكانت أعظم وسيلة آدبة إلى تزكية نفوسهم؛ أطلقوا عليها اسم «الأدب» وأضافوها إليه، فقالوا: علوم الأدب أو علم الأدب. قال ابن عباس: كفاك من علم الدين أن تعرف ما لا يسع جهله، ومن علم الأدب أن تروي الشاهد والمثل. وقال والد لابنه: حبب إلى نفسك العلم حتى ترأمه، ويكون لهوك وسكوتك. والعلم علمان: علم يدعوك إلى آخرتك فآثره على ما سواه، وعلم لتزكية القلوب وهو جلاؤها وهو علم الأدب، فخذ بحظك منه. وقال الإمام المطرزي: الأدب الذي كانت تعرفه العرب هو ما يحسن من الأخلاق وفعل المكارم. قال الغنوي:
لا يمنع الناس مني ما أردت ولا
أعطيهم ما أرادوا حسن ذا أدبا
واصطلح الناس بعد الإسلام بمدة طويلة على تسمية العالم بالشعر أديبا وعلوم العربية أدبا. ا.ه. باختصار.
وقد يطلق الأدب على الملكة التي يكتسبها ممارس هذه العلوم فيقتدر بها على رواية أشعار العرب وأمثالهم وأخبارهم ونوادرهم، وعلى إجادة قرض الشعر وكتابة الإنشاء؛ فيكون بذلك أديبا، وكانوا يصنفون لهذا الغرض مصنفات جامعة لما عساه تحصل به هذه الملكة من أشعار وأخبار وأمثال ومسائل لغوية ونحوية مبثوثة في أثناء شرح ذلك. وقد قالوا إن أصول هذا الفن وأركانه أربعة دواوين؛ وهي: «أدب الكاتب» لابن قتيبة المتوفى سنة 270 للهجرة، و«الكامل» للمبرد المتوفى سنة 285، و«البيان والتبيين» للجاحظ المتوفى بالبصرة سنة 255، و«النوادر» لأبي علي القالي البغدادي، وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع عنها، وكتب المحدثين في ذلك كثيرة.
وقد أنهى العلماء علوم الأدب إلى ثلاثة عشر؛ وهي: متن اللغة، وكتابة الحروف أو الخط، وقرض الشعر، والعروض، والقافية، والنحو، والصرف أو علم الأبنية، والاشتقاق، والمعاني، والبيان، والبديع، والتاريخ أو المحاضرات، وإنشاء النثر. وبعض يسقط البديع ويجعله ذيلا لعلمي المعاني والبيان. وقد نظمت أسماءها غير مراع هذا الترتيب، فقلت:
لغة وشعر ثم قافية
نحو عروض ثم إنشاء
وكذا اشتقاق ثم أبنية
صفحة غير معروفة
خط بديع فيه آراء
وبيان معنى مع محاضرة
أدب له شرح وأنباء
وسأبسط القول على تاريخ هذه الفنون باذلا جهد المستطيع في بيان نشأة كل فن، وأدوار سيره، وترقيه مع العصور والأجيال، وهذا في ثمانية أبواب.
الباب الأول
في تاريخ اللغة
الفصل الأول
في تعريف اللغة ونشأتها
اللغة من حيث هي أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم؛ فاللغة العربية ألفاظ يعبر بها العرب عن المعاني المرادة لهم، وما يبين الألفاظ ومعانيها يسمى «متن اللغة». ومن ذلك: «القاموس». وقال ابن الحاجب: «حد اللغة كل لفظ وضع لمعنى.» وفي «كشف الظنون»: علم اللغة؛ علم باحث عن مدلولات جواهر المفردات وهيئاتها الجزئية التي وضعت تلك الجواهر معها لتلك المدلولات بالوضع الشخصي، وعما حصل من تركيب كل جوهر، وهيئاتها من حيث الوضع والدلالة على المعاني الجزئية، وغايته الاحتراز عن الخطأ في فهم المعاني الوضعية، والوقوف على ما يفهم من كلمات العرب، ومنفعته الإحاطة بهذه المعلومات وطلاقة العبارة وجزالتها والتمكن من التفنن في الكلام، وإيضاح المعاني بالبيانات الفصيحة والأقوال البليغة. فإن قيل: علم اللغة عبارة عن تعريفات لفظية، والتعريف اللفظي من المطالب التصورية، وحقيقة كل علم مسائله وهي قضايا كلية والتصديقات بها وأيا ما كان فهي من المطالب التصديقية؛ فلا تكون اللغة علما. أجيب بأن التعريف اللفظي لا يقصد به تحصيل صورة غير حاصلة كما في سائر التعاريف من الحدود والرسوم الحقيقية أو الاسمية، بل المقصود من التعريف اللفظي تعيين صورة من بين الصور الحاصلة؛ ليلتفت إليه ويعلم أنه موضوع له اللفظ، فمآله إلى التصديق بأن هذا اللفظ موضوع بإزاء ذلك المعنى؛ فهو من المطالب التصديقية. لكن يبقى أنه حينئذ يكون علم اللغة عبارة عن قضايا شخصية حكم فيها على الألفاظ المعينة المشخصة بأنها وضعت بإزاء المعنى الفلاني، والمسألة لا بد وأن تكون قضية.
واختلف في نشأة اللغة: أهي من الأوضاع الإلهية؟ أم من الموضوعات البشرية ؟ (1) فذهب ذاهب إلى أنها توقيف وإيحاء من الله. (2) وذهب آخر إلى أنها مواضعة وتواطؤ من الناس. (3) وقال ثالث: إنها مأخوذة من الأصوات المسموعات كزفيف الريح، وحفيف الطائر، وخرير الماء، وجعجعة الرحى، وأز القدر، وصهيل الفرس، ونعيق الغراب، وبغام الظبية، ومواء الهر، وخشخشة السلاح، وصلصلة الحديد ... وغير ذلك مما يطول تعداده. ولما اختلف اعتبار الصوت عند السامعين تولدت ألفاظ متقاربة النطق لمدلول واحد: كغطيط النائم وخطيطه، وقهقهة الضاحك وقرقرته وكركرته، وكالشخشخة والخشخشة وكالطنطنة والدندنة. ويمكن الجمع والتوفيق بين هذه الأقوال المتضاربة الظاهر، وذلك بأن يلقي الله في صدور بعض خلقه علوما بديهية بأخذ أسامي الأشياء من أصواتها الساذجة، ثم يحرك نفوسهم إلى الاصطلاح والتواطؤ على التسمية؛ ليسهل التفاهم فيما بينهم، وألفاظهم الموضوعة يتناقلها قوم، ويزيد فيها آخرون وهكذا حسب ما تقتضيه ضرورات التخاطب. وصاحب القول الثالث يقول: إن بين اللفظ ومدلوله مناسبة طبيعية حاملة للواضع على أن يضع. (1) المناسبة بين الألفاظ ومعانيها
صفحة غير معروفة
في «المزهر»: وقد كاد أهل اللغة يطبقون على ثبوت المناسبة بين الألفاظ والمعاني، قال الخليل: «كأنهم توهموا في صوت الجندب استطالة؛ فقالوا: صر، وفي صوت البازي تقطيعا؛ فقالوا: صرصر». وقال سيبويه في المصادر التي جاءت على الفعلان: إنها تأتي للاضطراب والحركة؛ نحو: الغليان، والغثيان، فقابلوا بتوالي حركات الأمثال حركات الأفعال. وقال ابن جني: وقد وجدت أشياء كثيرة من هذا النمط؛ من ذلك: المصادر الرباعية المضعفة تأتي للتكرير والزعزعة؛ نحو: القلقلة، والصلصلة، والقعقعة، والقرقرة. والفعلى تأتي للسرعة؛ نحو: الجمزى والزلقى. ومن ذلك: الخضم لأكل الرطب، والقضم لأكل اليابس، فاختاروا الخاء لرخاوتها للرطب، والقاف لصلابتها لليابس، وغير هذا. وفي «الجمهرة»: الخنن في الكلام أشد من الغنن، والخنة أشد من الغنة، والأنيت أشد من الأنين، والرنين أشد من الحنين، والعطعطة تتابع الأصوات في الحرب وغيرها، والغطغطة صوت غليان القدر وما أشبهها، والجمجمة أن يخفي الرجل في صدره شيئا ولا يبديه، والحمحمة أن يردد الفرس صوته ولا يصهل، والقبص الأخذ بأطراف الأصابع، والقبض الأخذ بالكف كلها. وقال الأصمعي: من أصوات الخيل: الشخير، والنخير ، والكرير؛ فالأول من الفم، والثاني من المنخرين، والثالث من الصدر. والهتل من المطر أصغر من الهطل. ومن ذلك: المد والمط؛ فإن فعل المط أقوى؛ لأنه مد وزيادة جذب فناسب الطاء التي هي أعلى من الدال. وفي «فقه اللغة» للثعالبي: النقش في الحائط، والرقش في القرطاس، والوشم في اليد، والوسم في الجلد، والوشي في الثوب. وقد قالوا: زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى؛ من ذلك ما حكاه الزمخشري عن نفسه قال: اجتزت يوما بساحل البحر فرأيت رجلا أعرابيا فسألته عن مركبين؛ صغير وكبير، فسألته عن اسم الكبير، فأشار إلى الصغير وقال: أليس هذا الشقدف؟ فقلت: بلى. فقال: فهذا الشقداف! فانظر إلى بديع مناسبة الألفاظ لمعانيها، وكيف فاوتت العرب في هذه الألفاظ المقترنة المتقاربة في المعاني، فجعلت الحرف الأضعف فيها والألين والأخفى والأسهل والأهمس لما هو أدنى وأقل وأخف عملا أو صوتا، وجعلت الحرف الأقوى والأشد والأظهر والأجهر لما هو أقوى عملا وأعظم حسا! ا.ه. بتصرف.
السبب في وضع الألفاظ
وفي «المزهر» أيضا: وقال الإمام فخر الدين وأتباعه: السبب في وضع الألفاظ أن الإنسان الواحد وحده لا يستقل بجميع حاجاته، بل لا بد له من التعاون، ولا تعاون إلا بالتعارف، ولا تعارف إلا بأسباب، كحركات أو إشارات أو نقوش أو ألفاظ توضع بإزاء المقاصد، وأيسرها وأفيدها وأعمها الألفاظ؛ أما أنها أيسر فلأن الحروف كيفيات تعرض لأصوات عارضة للهواء الخارج بالتنفس الضروري الممدود من قبل الطبيعة دون تكلف اختياري؛ وأما أنها أفيد فلأنها موجودة عند الحاجة، معدومة عند عدمها؛ وأما أنها أعمها فليس يمكن أن يكون لكل شيء نقش، كذات الله تعالى والعلوم أو إليه إشارة كالغائبات، ويمكن أن يكون لكل شيء لفظ، فلما كانت الألفاظ أيسر وأفيد وأعم صارت موضوعة بإزاء المعاني.
لا يجب أن يكون لكل معنى لفظ
قال الإمام فخر الدين الرازي وأتباعه: لا يجب أن يكون لكل معنى لفظ؛ لأن المعاني التي يمكن أن تعقل لا تتناهى، والألفاظ متناهية لأنها مركبة من الحروف، والحروف متناهية ، والمركب من المتناهي متناه، والمتناهي لا يضبط ما لا يتناهى، وإلا لزم تناهي المدلولات، قالوا: فالمعاني منها ما تكثر الحاجة إليه فلا يخلو عن الألفاظ؛ لأن الداعي لوضع الألفاظ لها حاصل والمانع زائل فيجب الوضع، والتي تندر الحاجة إليها يجوز أن يكون لها ألفاظ وألا يكون. ا.ه.
ولم تجئ اللغة مرة واحدة، بل جاءت تباعا سائرة مع الاجتماع الإنساني، وكانت مركبة في الأصل من مقاطع ساذجة؛ أي كلمات غير متصرفة ولا متغيرة الأواخر ينطق بها دفعة واحدة مشابهة لأصوات الأشياء المنقولة عنها، وكانت تستعمل أسماء وأفعالا في آن واحد ويعين المراد منها سياقها في الكلام وقرينة الحال. ثم دخل في أبنية هذه الكلمات حروف زوائد للدلالة على اختلاف المراد، وترقت شيئا فشيئا في التصرف وتغير الأواخر إلى أن بلغت ما بلغت من الكمال. وكانت اللغة كما قيل واحدة قبل تفرق بني آدم في أرجاء البسيطة وأقاصيها، فلما تفرقوا اختلفت لهجاتهم لاختلاف طبائع الأقاليم التي سكنوها، فإن كل إقليم له مشاهدات ومسموعات ومؤثرات خاصة به؛ ومن هذا نشأ اختلاف اللغات.
الفصل الثاني
في تاريخ اللغة العربية
بعد هذا الانتشار تناسل ممن استوطن جنوب آسية الغربي قبائل العرب العاربة عاد وثمود وطسم وجديس وعمليق وأميم وجاسم، فكان لسانهم العربية القديمة إلى أن جاء يعرب بن قحطان من ولد أرفخشذ بن سام وغلب عادا على اليمن، فاعتدل لسانه من السريانية إلى العربية؛ ولذا يقال: إنه أول من تكلم بالعربية؛ أي من ولد أرفخشذ ذوي اللسان السرياني، وسمي بنو قحطان بالعرب المتعربة، ونشأ عن ذلك عربية حمير. ولما انتقل منهم إلى الحجاز جرهم الثانية تعلم منهم إسماعيل - عليه السلام - العربية، وكان لسان أبيه إبراهيم عبرانيا أو عبريا؛ ولهذا سمي بنو إسماعيل ب «بالعرب المستعربة». وروي: أول من فتق لسانه بالعربية المتينة إسماعيل. (1) مقارنة ألفاظ عربية بأخرى عبرية
والعبرية قريبة من العربية بقدر قرب اللفظين؛ فيقولون في رأس: «روش»، وفي عين: «عاين»، وفي أذن: «أوذن»، وفي يد: «ياد»، وفي رجل: «رغل»، وفي أسبوع: «شابوع »، وفي ساعة: «شاعا »، وفي أرض: «أرص»، وسماء: «شمايم»، وفي كوكب: «كوخاب»، وفي كرم: «كيريم»، وفي زيتون: «زايت»، وفي أكل: «أخال»، وفي ذبح: «ذاباح» ... وغير ذلك كثير يكاد ألا يحصى، وربما اتحد اللفظ في اللغتين: كالحانوت، واليوم.
صفحة غير معروفة
ورأيت في «الوسيلة الأدبية» ما نصه بالحرف: «وحكى صاحب «المثل السائر» أنه ورد في بعض سياحته مصر فلقي رجلا من بني إسرائيل عالما فجرى بينهما ذكر اللغة بالفصاحة والملاحة، فقال اليهودي: كيف لا تكون فصيحة مليحة وهي منتخبة من اللغات؟! ومثل لذلك بلفظ «الجمل»، فقال: إنه كان بالعبرانية «كوميلا»، فغير إلى ما سمعت فصار عذبا وفصيحا.» وأقول: إني سمعت من بعض اليهود العارفين بالعبرية أن الجمل يسمى «جمال»، فيكون الفرق بينهما الألف بعد الميم، وأنكر تسميته «كوميلا»، إلا أن هذا يقرب من اسمه بالرومية.
وفي قرب اللغتين وسبق العبرية على العربية دليل على أن الثانية تهذيب للأولى.
وتناسل من إسماعيل جيل عظيم كانوا شعوبا وقبائل اختلفت لهجاتهم مع رجوع الكل إلى العربية، ونشأ عن ذلك أن يقال: لغة تميم، لغة هذيل، لغة قيس، لغة طيئ، لغة قريش، وغير ذلك. (2) اختلاف لهجات القبائل
وهذه العربية المختلفة اللهجات مخالفة أيضا للهجة حمير وقبائل اليمن، وهذا الاختلاف قد يكون بإبدال حركة بأخرى: (1) ككسر أحرف المضارعة في لغة بهراء، فيقولون في نسمع ما تقول: «نسمع ما تقول» ويسمى هذا «تلتلة»، وهي شائعة في لسان أهل مصر، ما عدا الهمزة فإنهم ينطقون بها مفتوحة. (2) وككسر الكاف في نحو: عليكم وبكم في لغة ربيعة، وهم قوم من كلب، ويسمى هذا «وكما». (3) وككسر الهاء في نحو: منهم وعنهم وبينهم في لغة كلب، مع أنه لم يكن قبلها كسرة ولا ياء، ويسمى هذا «وهما».
وقد يكون بإبدال حرف بآخر: (1) كإبدال الهمزة التي في أول الكلمة عينا في لغة تميم وقيس، فيقولون في أراق الدم: «عراق الدم»، ويسمى هذا «عنعنة»، ويظهر أن هذا ليس خاصا بالهمزة الأولى؛ فإنه جاء كثأ وكثع اللبن، والكثأة والكثعة وموت ذؤاف وذعاف وغير ذلك. والفرنج يبدلون العين بالهمزة فيقولون في علي : «ألي». (2) وكإبدال الحاء عينا في لغة هذيل فيقولون في حتى حين: «عتى عين» ويسمى هذا «فحفحة». والفرنج يبدلون الخاء بالهاء، فيقولون في أحمد: «أهمد». (3) وكإبدال العين الساكنة المتلوة بالطاء نونا في لغة سعد وهذيل والأزد وقيس والأنصار، فيقولون في أعطاه: «أنطاه»، ويسمى هذا «استنطاء»، وهو شائع الآن في لغة أعراب مصر. (4) وكتبادل الباء والميم في لغة مازن، فيقولون في ابني في مكة: «امني في بكة»، وفي يرمي من كثب: «يرمي من كثم»؛ أي من قرب. وفي كتاب: «مميزات لغات العرب» لصديقنا الفاضل حفني بك ناصف ما نصه:
وأهل مديرية الدقهلية وبعض الغربية يبدلون هذا الإبدال، ولكن لا في كل المواضع، بل يبدلون الباء الساكنة إذا تلاها نون؛ فيقولون: «يا امني، الجمنة وقعت على التمن»؛ أي: يا ابني، الجبنة وقعت على التبن. وقسم ديروط من أسيوط يبدلون الميم باء في بعض الكلمات، فيقولون: «اقعد بكانك»؛ أي مكانك. (5) وكإبدال كاف المخاطب سينا مهملة، وكاف المخاطبة شينا معجمة في لغة ربيعة ومضر، فيقولون في منك: «منس»، ومنك: «منش»، وتظهر فائدة هذا عند الوقف، ويسمى الأول: «كسكسة»، والثاني: «كشكشة». (6) وكإبدال الكاف شينا مطلقا في لغة اليمن؛ فيقولون في كلمني كلاما فأورثني كلاما: «شلمني شلاما فأورثني شلاما»، ويسمى هذا «شنشنة». (7) وكإبدال لام التعريف ميما في لغة حمير؛ فيقولون في القمر والشمس: «امقمر وامشمس» ويسمى هذا: «طمطمانية». (8) وكإبدال السين تاء في لغة اليمن أيضا؛ فيقولون في الناس: «النات»، ويسمى هذا «وتما». (9) وكإبدال الجيم من الياء المشددة أو المخففة أو المفتوحة في لغة قضاعة.
فالأول نحو:
خالي عويف «وأبو علج»
المطعمان اللحم في «العشج»
أي: أبو علي، والعشي.
صفحة غير معروفة
والثاني نحو:
لاهم إن كنت قبلت «حجتج»
فلا يزال ساجح يأتيك «بج»
أي: حجتي، وبي. والساجح: السريع من الدواب.
والثالث نحو:
حتى إذا ما أمسجت وأمسجا
أي: أمسيت وأمسيا.
ويسمى هذا «عجعجة» وفي العجعجة كلام غير هذا. والترك يجعلون «جي» بدلا من ياء النسب في نحو: «مخزنجي».
وقد يكون بالحذف نحو: حب، واستحى، في: أحب، واستحيا .
وقد يكون بإمالة الألف نحو الياء في لغة عامة نجد؛ فيقولون في: هوى وغوى: «هوى وغوى».
صفحة غير معروفة
وقد يكون بتغيير نحو: رضي وبقي إلى: «رضى وبقى» في لغة طيئ.
وقد يكون بتخفيف الهمزة نحو: كأس، وبئر، وشؤم في لغة تميم؛ فيقولون: «كاس، وبير، وشوم».
التضاد
وقد يكون بإطلاق اللفظ على ما يباين معناه، كإطلاق الجون وهو الأسود على الأبيض، وكإطلاق الوثب على القعود في لغة حمير، روي في أصل المثل «من دخل ظفار حمر» أن أعرابيا دخل على ملك من ملوك حمير، فقال له الملك: «ثب» يريد اقعد بلغته، فوثب الأعرابي، فسأل الملك عن ذلك، فقيل له: إن الوثب بلغة العرب هكذا، فقال: أما إنه ليست عندنا عربيت «من دخل ظفار حمر» أي: تكلم بلغة حمير؛ يضرب لمن يدخل في القوم فيأخذ بزيهم؛ ومن هذا نشأ التضاد في اللغة.
الترادف
وقد يكون بإطلاق لفظ آخر على معنى واحد؛ كإطلاق الحوجم على الورد، روي أن النبي
صلى الله عليه وسلم
وقعت من يده سكين، فقال لأبي هريرة: ناولني السكين، فالتفت أبو هريرة يمنة ويسرة ولم يفهم ما المراد بهذا اللفظ، فكرر له القول فقال: آلمدية تريد؟ وأشار إليها، فقيل له: نعم. فقال: أوتسمى عندكم سكينا؟ ثم قال: والله لم أكن سمعتها إلا يومئذ. وكان أبو هريرة من قبيلة دوس. ومن هذا نشأ ترادف الألفاظ في اللغة.
اشتراك المعاني في لفظ واحد
وأما اشتراك المعاني في لفظ واحد فيظهر أن ليس منشؤه اختلاف القبائل، فإننا لو قلنا بلغة واحدة عامة لزم فيها وجود الاشتراك؛ لأن الأشياء التي تستحق التسمية غير متناهية والأسماء متناهية لتركبها من الحروف المتناهية. ومن الاشتراك: النوى في الدار والنية والبعد والغروب في قوله:
صفحة غير معروفة
يا ويح قلبي من دواعي الهوى
إذا رحل الجيران عند الغروب (1)
أتبعتهم طرفي وقد أزمعوا
ودمع عيني كفيض الغروب (2)
بانوا وفيهم طفلة حرة
تفتر عن مثل أقاحي الغروب (3)
يريد: (1) غروب الشمس. (2) والدلاء العظيمة. (3) والوهاد المنخفضة.
توجه العرب إلى توحيد لغات القبائل
ولاختلاف لهجات القبائل أرادت العرب أن توحد اللغة وتهذبها؛ ليسهل التفاهم فيما بينهم بلسان عام، فكانوا يقيمون لذلك حول مكة أسواقهم الشهيرة كسوق عكاظ وذي المجاز ومجنة، ويتناشدون الأشعار ويلقون الخطب ويتبارون في ميادين الفصاحة، ويستقضون قضاة يرضون عنهم ليفصلوا بينهم فيما يختلفون فيه، فكان القضاة يفضلون من رقت عبارته أوج الفصاحة والبلاغة على غيره، ويتخيرون من الألفاظ المترادفة على معنى واحد ما قبله السمع، ويهجرون منها ما مجه الطبع؛ فلهذا كان الشاعر أو الخطيب يبذل مجهوده في أن تكون ألفاظ قصيدته أو خطبته فصيحة مألوفة لكل القبائل، فبهذا فصحت اللغة وخلصت من شوائب الغرابة والوحشة. ولنذكر مثالين لما وصلت إليه اللغة من درجة الفصاحة والبلاغة:
خطابة أكثم بن صيفي أمام كسرى
صفحة غير معروفة
الأول:
قام أكثم بن صيفي بين يدي كسرى، فقال:
إن أفضل الأشياء أعاليها، وأعلى الرجال ملوكها، وأفضل الملوك أعمها نفعا، وخير الأزمنة أخصبها، وأفضل الخطباء أصدقها، والصدق منجاة، والكذب مهواة، والشر لجاجة، والحزم مركب صعب، والعجز مركب وطيء، وآفة الرأي الهوى، والعجز مفتاح الفقر، وخير الأمور منقبة الصبر، وحسن الظن ورطة، وسوء الظن عصمة، وإصلاح فساد الرعية خير من إصلاح فساد الراعي، ومن فسدت بطانته كان كالغاص بالماء، وشر البلاد بلاد لا أمير لها، وشر الملوك من خافه البريء، وخير الأعوان من لم يراع الصحبة، وأحق الجنود من حسنت سيرته، ويكفيك من الزاد ما بلغك المحل، وحسبك من شر سماعه، والصمت حكم وقليل فاعله. البلاغة في الإيجاز. من شدد نفر، ومن تراخى ألف.
فتعجب كسرى من أكثم وأمثاله.
خطابة قس بن ساعدة في سوق عكاظ
والثاني:
خطب قس بن ساعدة في سوق عكاظ فقال:
أيها الناس، اجتمعوا واسمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، ليل موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تغور، وبحر يمور.
أما بعد؛ فإن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا. ما لي أرى الناس يموتون ولا يرجعون؟ أرضوا بالإقامة فأقاموا؟ أم تركوا كما هم فناموا؟!
في الذاهبين الأولي
صفحة غير معروفة
ن من القرون لنا بصائر
لما رأيت مواردا
للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها
تمضي الأصاغر والأكابر
لا يرجع الماضي ولا
يبقى من الباقين عابر
أيقنت أني لا محا
لة حيث صار القوم صائر
فصاحة لغة قريش
صفحة غير معروفة
وكانت لغة قريش - وهم سكان مكة وضواحيها - منتهى هذا الترقي؛ ففاقت غيرها فصاحة وصراحة، يشهد لذلك ما رواه الأصمعي، وهو: «قال معاوية: أي الناس أفصح؟ فقال رجل من السماط: يا أمير المؤمنين، قوم ارتفعوا عن فراتية العراق، وتياسروا عن كسكسة بكر، وتيامنوا عن كشكشة تغلب، ليست فيهم غمغمة قضاعة ولا طمطمانية حمير. قال: من هم؟ قال: قومك يا أمير المؤمنين. قال: صدقت. قال: فممن أنت؟ قال: من جرم.» قال الأصمعي: وجرم فصحاء العرب. (3) الدخيل في لغة العرب من الألفاظ
اعلم أن من العرب قبل الإسلام من كان تابعا للفرس؛ كآل المنذر ملوك الحيرة، ومن كان تابعا للروم كآل غسان ملوك الشام. وكان الفرس والروم في ذلك العصر السالف ذوي السلطان وعلو الشأن، فقضى حكم التبع والاختلاط على العرب أن يستعملوا في كلامهم ألفاظا فارسية ورومية مع تغيير فيها إذا اقتضاه منهاج لغتهم، كما دخل في لغتهم من قبل ألفاظ سريانية وحبشة وهندية.
فمن الفارسية:
الإبريق والإستبرق والإسفيداج.
1
والبنفسج والبلور والتنور والجرة والجلنار والخوان والخز والديباج والديوان والرسن والزنديق والسكرجة.
2
والسندس والسوسن والشطرنج والشهر والصندل والطبق والطشت والعنبر والفالوذج والفيروزج والقرفة والقرنفل والكافور والكرويا والمسك والنرجس والنسرين.
3
والياسمين والياقوت.
صفحة غير معروفة
ومن الرومية:
الأسطرلاب والإسفنط
4
والبستان والبطاقة والبطريق والترياق والخندريس والخوخ والسجنجل والصراط والفردوس والقسطاس والقسطل والقنطار والقنطرة.
ومن السريانية:
البرنسا والتامور والترعة والرباني والطور واليم.
ومن الهندية:
أوج معرب أود، ومعناه العلو.
ومن الحبشية:
المشكاة، وحار يحور، بمعنى رجع يرجع.
صفحة غير معروفة