الفصل الثاني
الآداب العربيّة في أوربَّة في بدء القرن التاسع عشر
هلمَّ بنا نوجه الآن الأنظار إلى أحوال الآداب العربية بين الأوربيين في مفتتح القرن التاسع عشر ليظهر للقراء كيف تمَّت بعد ذلك تلك النهضة العجيبة التي جعلت الدروس العربيّة في مقام ممتاز كما نراها اليوم في حواضر أوربية وأميركة ليس درس اللغات الشرقية عمومًا والعربيّة خصوصًا أمرًا مستحدثًا بين علماء أوربة كما يزعم البعض بل ابتدأت الأفكار تتوجّه إلى إحراز معانيها والتقاط لأليها منذ الفتوحات الإسلامية التي قرّبت أمم الشرق من تخوم البلاد الغربية ولو تتبعنا الآثار المنبئة ببيان هذه القضية لتعددَّت لدينا الشواهد لا سيمّا في جهات الأندلس وبعض جهات الروم. لكنّ تلك الحركة زادت قوة وانتشارًا في القرن الثاني عشر لِما جرى في ذلك العهد من الأمور الجليلة والأحداث الخطيرة التي كادت تمزج طرفي الشرق والغرب مزج ما بالراح.
والكنيسة الكاثوليكية كانت أعظم ساعية في إدراك هذه الغاية. فممّن اشتهروا إذا ذلك في الدروس الشرقية واعتنوا بنقل الآثار العربيّة إلى اللاتينية أو بنوا أبحاثهم على أحوال الشرقيين رئيسُ دير كاوني بطرس المكرّم (١٠٩٢ - ١١٥٦م) وكان رحل إلى الأندلس ورقب شؤون العرب فيها فأعجب بآدابهم فلمّا عاد إلى ديرهِ عُني بانتقاد كتبهم. وفي عهده عرف جيرّ رَد دي كريمونا (١١١٤ - ١١٨٧) وكان مولعًا بنقل تأليف العرب في فنون الحكمة وكان أتقن درس العربيّة فترجمه إلى اللاتينية نحو ستين مصنفًا جليلًا لمشاهير الكتبة كالرازي وابن سينا في الرياضيّات والهيئة والطبّ طُبع منها قسمٌ صالح وفقد منها الكثير.
ولما أنشأت في ذلك القرن رهبانيّتا القديسين دومنيك وفرنسيس الأسيزي صرف من أبنائهما عددٌ يُذكر عنايتَهم إلى درس العلوم الشرقية. فأنّ الدومنيكي النابغة البرتوس الكبير (١١٩٣ - ١٢٨٠) لَما كان يفسر كتب الفيلسوف أرسطاطاليس في كلية باريس كان يستند في شروحه إلى ترجمة منقولة عن العربيّة ويستعين في تحصيل
1 / 11