16
وقد عقد ابن عبد البر فصلا في مكان آخر قال فيه: «وقد تبين بما ذكرنا أن حب المال والرياسة والحرص عليهما يفسد دين المرء ...» إلى أن قال: «واعلم أن النفس تحب الرفعة والعلو على أبناء جنسها، ومن هذا نشأ الكبر والحسد، ولكن العاقل ينافس في العلو الدائم الباقي الذي فيه رضوان الله وقربه وجواره.»
17
والدين والدنيا يجتمعان ويفترقان، فمن طلب الدنيا ذهبت منه الآخرة، ومن عمل للآخرة أقبلت عليه الدنيا أيضا. وفي ذلك يقول ابن عبد البر: «وبكل حال فطلب شرف الآخرة يحصل معه شرف في الدنيا وإن لم يرده صاحبه ولم يطلبه. وطلب شرف الدنيا لا يجامع شرف الآخرة ولا يجتمع معه. والسعيد من آثر الباقي على الفاني.»
18
ولا نريد أن نستقصي جميع كتاب المسلمين لتصحيح ما أخذه عنهم الباحثون في التربية، والرأي عندنا أنهم جميعا جعلوا الغاية من التعليم غاية دينية، وأكدوا هذه الغاية تأكيدا لا يقبل الشك، وإذا كان بعضهم وجد أن التعليم يحقق أغراضا اجتماعية أو عقلية أو مادية، فإن هذه الغايات الأخيرة تأتي في المرتبة بعد الغاية الدينية، وليست مقصودة لذاتها، ولم يفتهم النص على إيثار الدين على الدنيا في جميع الأحوال.
هذا إلى أن البحث في التعليم عموما يختلف عن البحث في تعليم الصبيان، والغرض من تعليم الصبيان هو معرفة الدين قبل كل شيء. ولذلك أوجبوا تعليمهم.
وإذا نظرنا إلى المواد التي كان يتعلمها الصبيان في الكتاتيب تبين لنا أن الغاية التي حددت هذه العلوم هي الغاية الدينية، وأول هذه العلوم هو القرآن الذي يحفظه الصبي قراءة وكتابة، فالكتابة ليست مقصودة لذاتها من حيث فائدتها الاجتماعية أو العقلية أو المادية، بل لسهولة حفظ القرآن وتقييده، للرجوع إلى المكتوب المقيد في أي وقت يشاء الصبي، والنحو والعربية الغرض منهما قراءة القرآن على الوجه الصحيح وحسن فهمه. وقد نص القابسي على أن تعليم الحساب ليس بلازم إلا إذا اشترط عليه. وقد بحث الفقهاء بعد هذا العصر في تعليم الحساب، والتمسوا له علة دينية هي الفائدة في معرفة المواريث وقسمتها كما هو وارد في الشرع، فإذا كانت هناك ضرورة لتعلم الحساب فهي إذن ضرورة شرعية لا اجتماعية أو مادية.
لقد بدأ القابسي كتابه بفصل عن الإيمان والإسلام، واختتمه بفصل في القراءات والكلام عن فضل المقرئين، وبهذا يبدأ الصبي مؤمنا مسلما وينتهي قارئا للقرآن.
الفصل السادس
صفحة غير معروفة