وقد أثرت هذه النزعة في التعليم أثرا كبيرا، إذ إن تأصل فكرة الديمقراطية والمساواة الدينيتين، انتقلتا إلى التعليم أيضا.
وقد تنبه المسلمون منذ عصر النبي إلى قيمة التعليم في معرفة الدين معرفة صحيحة. وكان التعليم ضروريا في ذلك العهد لحاجة النبي والخلفاء من بعده إلى نشر الإسلام بين سكان جزيرة العرب الذين يدينون بالوثنية، وبين الفرس الذين يدينون بالمجوسية، وبين أهل الكتاب، فلما أسلم أهل تلك البلاد المختلفة في خلال قرن أو قرنين من الزمان، لم تبطل الحاجة إلى التعليم، لتفقيه الأبناء شئون دينهم المفروض عليهم. (5) إلزام التعليم
وكان التعليم في بدء الأمر تطوعا في سبيل الله. ثم انتظم التعليم في الكتاتيب والمدارس، وتناول المعلمون الأجر. فأصبحت المسألة التي تواجه الفقهاء هي البحث في تعليم الصبيان أواجب هو أم لا؟ وإذا كان واجبا، فمن هم المكلفون بذلك؟ وما هو نوع التعليم الذي ينبغي أن يكتسبه الطفل؟ إلى غير ذلك من المسائل الطارئة في الإسلام، والتي لم يحكم فيها فقهاء العهد الأول في الإسلام، وهم المتبعون في الأحكام.
والمعروف أنه بعد استقرار المذاهب الأربعة في الأمصار، أصبح باب الاجتهاد عسيرا، بحيث يحتاج الفقيه إلى كثير من الجرأة في الفكر والاعتدال في الرأي ليخرج على الناس بحكم جديد.
وقد كان القابسي، على الرغم من اتباعه الدقيق لشيوخه الفقهاء، جريئا في مسألة من المسائل الاجتماعية التي شق بها الطريق لمن جاءوا بعده؛ تلك هي مسألة إلزام التعليم التي أحسن عرضها، وساقها في تطورها مع التاريخ حتى وصل بها إلى العصر الذي يعيش فيه، إلى أن بسطها الفقهاء الذين خلفوه بسطا جديدا، ولكنه أحس بها إحساس من يلتمسها التماسا، ويدور حولها دوران من يشعر بغموض الفكرة.
وإلزام التعليم خطاب للمجتمع بأسره لا لبعض الأفراد فيه.
فالقابسي يريد أن يعلم أبناء الشعب جميعا؛ لأنه يريد أن ينشر الدين ولا يحرم أحدا.
ولم يرد في القرآن نص على وجوب التعليم، ولا يوجب الحديث مثل ذلك، ولم يعهد عن الصحابة والتابعين أنهم أوجبوا على الناس تعليم أبنائهم وإرغامهم على إرسالهم إلى الكتاتيب، أو استحضار المعلمين لهم، والكتاب والسنة والإجماع هي الأصول التي يرجع إليها الفقهاء في أحكامهم. وليس غريبا أن نجد القرآن خلوا من نص على التعليم، فلم يكن في العهد الذي نزل به القرآن كتاتيب، إلى جانب أن التعليم في الكتاتيب من الأمور الدنيوية البحتة التي لا يتعرض لأمثالها القرآن وإنما يتركه لتصرف العباد.
لذلك احتال القابسي للحكم في هذه المسألة الجديدة التي لم يسبقه إليها أحد. وبين أيدينا كتاب ابن سحنون مما دون عن أبيه في التعليم، فلا نجد فيه ذكرا لهذا الموضوع.
وأدلة القابسي قوية أخاذة تنقلك من فكرة إلى أخرى حتى ينتهي بك إلى أن تعليم جميع الصبيان ضروري واجب، وأن هذا الوجوب هو الوجوب الشرعي، على طريقة الفقهاء.
صفحة غير معروفة