3
فمذهب الأشاعرة يوفق بين رأي المعتزلة العقلي وبين رأي أهل السنة النقلي ، ذلك أن المعتزلة في مسائل الاعتقاد لم يقبلوا ما جاء في الكتاب والسنة قبولا أعمى بل أثبتوا الوحدانية والصفات لله بالعقل، ثم تكلموا في القضاء والقدر كلاما أثبتوا فيه الحرية للإنسان، وأن أفعال العباد مخلوقة لهم، وهذا ما دعا الأشاعرة أن يخففوا من هذا التطرف العقلي، ويقفوا من إرادة الله موقفا وسطا، وأن ما يصيب الإنسان فمن الله.
ونحن نرى ألفاظا جديدة دخلت إلى الإسلام هي المجاهدة والمشاهدة والغيب والشهادة، وهذه كلها من مصطلحات المتصوفة التي استحدثوها مما لم يكن للمسلمين الأوائل عهد بها. وقد انتهى أمر المتصوفة فيما بعد إلى فهم الإسلام على نحو معقد بلغ من درجة تعقيده أنهم أوجبوا معرفة الطريق على قطب من أقطابهم، وذلك لصعوبة الوصول من غير مرشد يأخذ بيد المسلمين، ويرتفع بهم في درجات المقامات، ومختلف الأحوال.
تقدم المعتزلة والأشاعرة وأهل السنة والمتصوفة إلى الشعب يعرضون بضاعتهم العقلية، فوجد العامة أن ما يلائمهم منها هو بضاعة أهل السنة لسهولة فهمها، وبساطة عرضها، وخلوها من التعقيد والالتواء، وملاءمتها للطبائع البشرية جميعا، ففيها العمق لمن يريد التعمق، والوسط لمن يرغب في التوسط، والحث على مداومة العبادة لمن يريد الارتفاع إلى درجات الصالحين. ولا ننسى إلى جانب ذلك أن شخصية الرسول حجة في تدعيم الرأي، وأن الاعتقاد في الآراء يستند إلى شخصية قائلها إلى حد كبير إلى جانب ما في هذه الآراء من قيمة ذاتية، فاستناد أهل السنة إلى الآيات القرآنية وإلى أحاديث الرسول قربهم من أفهام العامة وعقولهم وقلوبهم.
والعمل في الحياة أسبق من الجدل، وأدعى إلى الفطرة السليمة، وأبعث إلى الشعور بلذة طبيعية غير مصنوعة.
والناس في حاجة إلى العمل في الدنيا لكسب المعاش، وإلى التفكير في الآخرة التي تقرر أحوال المعاد، فهم يعملون لدنياهم ودينهم. على أن الاستغراق في شئون الدنيا مما يصرف عن الدين ويفقد المرء معه نعيم الآخرة. والانصراف التام إلى أمور الدين يبعد الإنسان عن الدنيا فيعجز عن الكسب، بل يعجز عن الحياة. والطريقة المثلى هي الجمع بين الدين والدنيا بما يحقق المصلحة في الجانبين. وسيرة الرسول نفسه خير شاهد على ذلك، فإنه إلى جانب التعمق في العبادة كان يرعى الأغنام ويشتغل بالتجارة، وكذلك كان الصحابة. وفي القرآن إشارة إلى هذا الجمع بين شئون الدين والدنيا في أكثر من موضع:
وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا (القصص: 77).
وجدال المتكلمين يبلبل الأفكار، ولا ينتهي الجمهور منه إلى الاطمئنان الديني، وبعد فهو جدل لا نهاية له. وطريقة أهل التصوف تدفع إلى استغراق في العبادات يصرف عن الكسب. وأحوج الناس إلى تحصيل القوت هم العامة، فلا ضياع لهم ولا مال موروث. فإذا مال العامة مع المتكلمين أضاعوا دينهم، وإذا تصوفوا ضيعوا دنياهم. أما مذهب أهل السنة فإنه يثبتهم في العقيدة، ويقدم لهم الدين في صورة بسيطة، ويضمن لهم سلامة الدين. وهو إلى جانب ذلك لا يصرفهم عن العمل بل يحثهم عليه ويرتب لهم قواعد السلوك ووجوه الكسب الحرام والحلال.
ولم نذكر في هذا الصدد طائفة أخرى من المفكرين هم الفلاسفة فهؤلاء كانوا بعيدين كل البعد عن عقل الجماهير، وقد انطووا على أنفسهم، وقصروا دراسة الفلسفة على فئة خاصة، ولم يحاولوا إذاعتها في الناس كافة لمعرفتهم بصعوبة الآراء الفلسفية على الأفهام، ونستثني من الفلاسفة إخوان الصفا الذين تقربوا إلى الجمهور برسالتهم المعروفة.
فسموا مذاهب المعتزلة العقلية، ومغالاة المتصوفين في مسالكهم الروحية، وصعوبة الآراء الفلسفية، كل أولئك قرب بين أهل الحديث وبين العامة، وهي استجابة طبيعية لتأثير مذهب أهل الحديث الملائم لنفوسهم. ولهذا كان تعليم الشعب في أيدي من يفهمون الشعب ويفهمون عقليته ونفسيته.
صفحة غير معروفة