ولم يغير عدم نجاحه في إجازة الفلسفة من رأيه ولا من عزمه، واستمر في عمله وبحوثه وإن اشتغل بالتدريس في المدارس المختلفة أن عينه وزير المعارف مدرسا بمدرسة (نفير) في مفتتح عام 1851 الدراسي، لكنه لم يبق في هذه المدرسة إلا شهورا نقل بعدها إلى مدرسة دونها في الدرجة، ذلك أن اضطرابا سياسيا وقع في فرنسا واتهم المعلمون بأنهم سببه وطلب إليهم أن يعتذروا وأن يشكروا رئيس الجمهورية على التعديلات التي أدخلها على نظام الحكم، فكان تين هو الوحيد الذي رفض الاعتذار والشكر، وعلى ذلك أنذر ونقل إلى بواتييه ومنها نقل مساعد مدرس إلى بزانسون سبتمبر سنة 1852.
ومع تنقلاته الكثيرة وعدم رضا السلطات عنه فإن نشاط تين لم يفتر ودراساته وتحصيله لم يهنا وإيمانه بمذهبه في البحث لم يضطرب، فقد وضع رسالة عن المشاعر
Les Sansations
أو رسالة لاتينية تقدم بها إلى السوربون لنيل إجازة الفلسفة، ولما كانت هذه الإجازة قد ألغيت فقد أراد أن ينال بهما إجازة الآداب
Agregation-es-lettres
لكن طريقته في التفكير جنت عليه هذه المرة كذلك فلم تقبل رسالته، فوضع رسالة أخرى عن لافونتين هي التي نال بها دكتوراه الآداب في 30 مايو سنة 1853.
ومن بعد حصوله على الدكتوراه عرضت الأكاديمية الفرنسية موضوعا لجائزة تمنح في سنة 1855 رسالة تكتب عن تيت ليف الكاتب والمؤرخ الروماني الكبير، فتقدم لها تين وكتب فيها رسالة كانت هي الأولى بين كل الرسائل التي قدمت.
بعد هذه المجهودات المضنية ست سنوات تباعا شعر تين بالحاجة حاجة ماسة مطلقة إلى الراحة ونصح له بأن يذهب إلى جبال البرانس، وطلب إليه الناشر هاشت أن يكتب له دليلا عنها فوضع كتابه «سياحة في البرانس» وصف فيه هذه الطبيعة الجميلة العجيبة وعادات أهلها وقصصهم وصفا دقيقا، ناقدا ما رأى موضعا لنقده مازجا ذلك كله بفلسفته، متبعا حتى في هذا الكتاب طريقته الجديدة التي جنت عليه من قبل.
ما هي هذه الطريقة الجديدة؟ وكيف يمكن أن تجني على كاتب في عصر كالعصر الذي عاش فيه تين والذي تقررت فيه حرية الرأي والنشر على أنها مكفولة مقدسة؟!
أما طريقة تين في رسائله التي تقدم بها للامتحانات وفي كتاب تيت ليف وفي غير ذلك من الكتب التي ظهرت والتي ستظهر حتى آخر أيام حياته، فتقوم على فكرة أساسية هي تطبيق الطريقة الواقعية - أو الوضعية - التي قررها أوجست كومت على الأحياء بنفس الدقة التي تطبق بها على غير الأحياء، وتطبيقها على الإنسان وعلى النفس والروح بنفس الدقة التي تطبق بها على الأحياء الأخرى غير الإنسان وعلى غير الأحياء، فكما أن طريقة البحث العلمي في شأن غير الأحياء هي الملاحظة والتجربة واستنباط القوانين على قواعد هذه الملاحظة والتجربة، فيجب اتباع هذه الطريقة بعينها في شأن الحيوان والإنسان على السواء.
صفحة غير معروفة