تراجم مصرية وغربية

محمد حسين هيكل ت. 1375 هجري
62

تراجم مصرية وغربية

تصانيف

لتين إلى جانب هذه الميادين الكثيرة ميدان آخر لم يقتصر على التأليف فيه، بل كان فيه - كما كان في بعض الميادين الأخرى - مدرسا أيضا، ذلك ميدان الفن الجميل، ولقد كان تين موسيقيا، فلا عجب إذا هو تحدث أو كتب عن الفن الجميل، لكنك إذ تقرأ كتابه «فلسفة الفن» تراه يحلل الفن وصوره وتماثيله بالطريقة عينها التي يحلل بها المسائل النفسية والمسائل المادية ويخضع الصور والأنغام لقواعد الجبرية التي يخضع لها كل ما في الوجود من سماوات وأفلاك وكائنات، أليست الفنون بعض ثمرات الإنسان، «والإنسان ثمرة وسطه» على ما يقرر تين غير مرة وفي غير موضع؟ والوسط الذي يعيش فيه الإنسان ليس خاضعا له ولكنه خاضع لعوامل طبيعية وتاريخية لا قبل له بها ولا سلطان له عليها، إذا فالفن ثمرة محتومة لهذه العوامل، ويمكنك أن تفسره وأن تفهمه بشرح هذه العوامل، كما يمكنك ببسطها أن تفسر وأن تفهم أي عمل من أعمال الإنسان.

ولكن ليس معنى أن «المرء ثمرة وسطه، أو بيئته إن شئت» أن الناس يتساوون فيما بينهم كما يتساوى ثمر الشجرة الواحدة، بل إن ثمر الشجرة الواحدة لا يتساوى، فمنه الكبير والصغير ومنه الصالح والفاسد، والناس كذلك منهم الصغير والكبير والصالح والفاسد، وأنت تستطيع أن تعرف الفرق بين ثمر الشجرة بأن تشقه وأن تصل إلى دخيلته، فكيف تستطيع أن تصل إلى دخيلة الرجل لترى مبلغ ما يختلف أولئك المتشابهون من ثمر الوسط الواحد تشابه ثمرات الشجرة الواحدة واختلافها؟ الأمر هين يدلك عليه تين في مختلف من مواضع كتبه، ويدلك عليه بنوع خاص في كتابه عن «الذكاء» ويفرد له مقدمة الطبعة الأخيرة من تاريخ الأدب الإنجليزي التي طبعت سنة 1891.

فكل مظاهر الرجل وكل أعماله وكل مطامعه ومشاعره هي المسالك إلى دخيلة نفسه، فإذا أنت أردت على هذه الطريقة نفسها أن تعرف تين حق المعرفة فيجب أن تعرف كل مظاهره وكل أعماله، وكم كنا نود لو استطعنا القيام بهذا البحث في هذه العجالة القصيرة عن حياة ذلك الرجل العظيم ، لكنا مع ذلك نكتفي بالقليل الذي أتاحت لنا الظروف أن نعرف عنه عن الكثير الذي لا سبيل إلى معرفته غير الانقطاع لدراسة تين وحياته وكل كتبه دراسة ذاتية لا تتسنى إلا لأستاذ في الفلسفة أو في الأدب الفرنسي، ولعلنا في هذا الاكتفاء بالقليل الذي نعرف لا نغمط تين حقه، ثم لعلنا لا نعدو بعض مباحثه التاريخية في النقد، فأمامنا بعض الشيء عن حياته، وأمامنا مؤلفاته الكثيرة، وهي صورة نفسه وخلاصة حياته، وأمامنا إلى جانب هذا أسلوبه، والأسلوب - على ما قال تين - هو الإنسان. •••

ولد هبوليت تين إذا بفوزييه بمقاطعة الأردن في فرنسا في 21 أبريل سنة 1828 من عائلة رقيقة الحال، وكان لأبيه جان باتيسيت تين اتصال بالقضاء؛ لذلك استطاع تين أن يتلقى عليه تعاليمه إلى جانب دراساته بمدرسة مسيو بيرسن الصغيرة حتى بلغ الحادية عشرة من عمره، وإذ ذاك مرض أبوه فأرسل به في سنة 1839 إلى مدرسة دينية في (رتل) أقام بها ثمانية عشر شهرا توفي أبوه خلالها تاركا ثروة بسيطة لأرملته وابنه وابنتيه، وبعد وفاة أبيه سافر إلى باريس فالتحق بمعهد ماتيه، وكان تلاميذ هذا المعهد يدرسون بمدرسة بوربون

College Borbon ، وفيها ظهرت بوادر كفاياته النادرة كما اتصل فيها بأصدقاء كان لهم أبلغ الأثر في مستقبل أيامه من أمثال برفوبارادول، وبلانا، وكرنوليس، وفث وغيرهم.

ولقد امتاز تين لأول دخوله المدرسة بمقدرة على العمل مدهشة وبإكباب عليه لا يقل إثارة للدهشة، فلقد كان يكتفي لرياضة نفسه بعشرين دقيقة يقضيها لعبا بعد العشاء وبساعة يلعب في أثنائها الموسيقى بعد الغذاء، أما فيما سوى هذا وفيما سوى أوقات الطعام والنوم فكان لا يصرفه عن العمل صارف، وكان لذلك كثير التحصيل كثير التعليق على ما يحصل كثير التفكير فيه مما جعل له على أصدقائه جميعا نفوذا معترفا به منهم اعترافهم بفضله وبمقدرته في الكتابة نظما ونثرا في اللغتين الفرنسية واللاتينية.

وبعد انتهاء دراساته الثانوية انتقل إلى مدرسة المعلمين

L’Ecole Normale

وفيها ازداد إكبابه على الدرس فقرأ أفلاطون وأرسطو وآباء الكنيسة كما استمر يدرس الإنجليزية التي أتقنها ليدرس آداب اللغة الإنجليزية، وإذا كان تين قد ظهر تفوقه في أثناء دراساته الثانوية وفي أثناء مقامه بمدرسة المعلمين حتى لقد كانت الجوائز الأولى كلها من نصيبه، فإن الروح العلمية المنطقية التي امتاز بها بعد ذلك والتي وضع على قواعدها مذهبه في البحث، قد تبينت في أثناء وجوده في مدرسة المعلمين بنوع خاص، فقد لاحظ عليه أساتذته جميعا مبالغته في دقة الحرص على المنطق والسلوك به مسلكا رياضيا والوصول به دائما إلى قاعدة على نحو ما يصل الرياضيون في مسائل الحساب والهندسة والجبر، أثبت أستاذه فاشرو في مذاكراته عن تين - وما يزال تين طالبا بمدرسة المعلمين - ما يأتي: «أكثر تلميذ عرفت في المدرسة جدا ورقي نفس، علم مدهش بالنسبة لسنه، تحمس وشره للعرفان لم أر له مثالا، ذهن يلفت النظر بسرعة التصور والدقة والمرونة وقوة التفكير، لكنه يدرك ويتصور ويحكم ويقرر بغاية السرعة، مولع بالقواعد والتعاريف حتى لكثيرا ما يضحي بالحقيقة من أجلها، ومع ذلك لا يظن أنه يضحي بالحقيقة لأنه كان مخلصا لها أشد إخلاص، وسيكون تين أستاذا ممتازا، لكنه سيكون أكثر من ذلك وفوق ذلك عالما من الطراز الأول إذا أتاحت له صحته الاشتغال بالعلم زمنا طويلا، ومع ما له من دماثة في الخلق عظيمة ومن طباع غاية في الطيبة؛ فلذهنه قوة لا تلين حتى لن يستطيع أن يكون لأحد على تفكيره أي تأثير، وهو على كل حال ليس من أهله هذا العالم، فسيكون شعاره شعار سبنوزا (يعيش ليفكر) أما خلقه وأما طبيعته فيمتازان بمناعة لا يستهويه معهما إغراء.»

على أن هذا التفوق الذي كان للطالب تين لم يكن ليعترف الناس به من غير أن يجني على صاحبه جنايته، ومتى كان تفوق رجل من الناس تفوقا عقليا ألا يجني عليه في نظر السلطان والذين يمسكون بيدهم مصير الجماعات؟! صحيح أن هذا التفوق يقدر عند المخلصين والذين لا مصلحة لهم في سؤدد آراء ومبادئ معينة، وهذا التقدير هو الذي يكفل انتصار الحق ولو بعد حين، لكن تين الذي كان يقضي كل وقته قراءة وبحثا، والذي أوتي هبة النقد والتمحيص منذ شبابه، والذي لا يستطيع أن يسلم بغير ما يعتقده الحق، تين هذا - وهو طالب - لم يكن ليقر كثيرا من المبادئ الفلسفية التي كانت تدرس يومئذ وغايتها إما تأييد ناحية دينية تجعل التفكير خاضعا للمبادئ المسيحية التي تريد للكنيسة أن تسود، أو تأييد ناحية علمية خاصة هي ناحية المنطق المطلق، أو المنطق المجرد مما كان يدرسه كوزن وغير كوزن من فلاسفة ذلك العصر، وقد خرج تين - وما زال طالبا - على هاتين الطريقتين من طرائق التفكير، ورأى فيهما وسائل غير صالحة للكشف عما في العالم من حقيقة، ووضع تين - وما يزال طالبا - قواعد تفكيره هو، هذه القواعد التي سار عليها في مستقبل أيامه مجاهدا لإكمالها ما استطاع، ولكن من غير أن يرى في كل دراساته وبحوثه ما يطعن عليها أو ينقضها، وإذا فهو ثائر على التعاليم المقررة، وإذا فيجب ألا ينجح في إجازة الفلسفة التي تقدم لها مع زميليه أوبيه وسوكو في سنة 1851، وليكن عدم نجاحه هذا وهو المشهود له بالفضل والتفوق عزاء لغيره من الذين تقدموا للإجازة نفسها فرسبوا وهم دونه تفوقا وفضلا.

صفحة غير معروفة