وكنا ذكرنا أن السيد محمد كريم قد أخبر مراد بيك بذلك البلاء العظيم والخطب الجسيم، ولما وصلت النجابة إلى مصر، وأخبروا مراد بيك بقدوم الفرنساوية إلى مدينة الإسكندرية؛ طرح الكتاب من يده، وصاح على عساكره وجنده، واحمرت عيناه واضطرمت النار في أحشائه، وأمر بإحضار الخيل للركوب، وسار إلى منزل إبراهيم بيك على ذلك الأسلوب، وشاع الخبر واضطربت البشر، وهاجت تلك الأمم على ساق وقدم، وحل في القوم الأسف والندم، واجتمعت الكشاف والأمراء والأشراف لقصر إبراهيم بيك بلا خلاف، وحضر باكير باشا من القلعة السلطانية إلى المعنية، وحضروا جميع السناجق والأعيان؛ مثل إبراهيم بيك الكبير، ومراد بيك الكبير، ومصطفى بيك الكبير، وأيوب بيك الكبير، وإبراهيم بيك الصغير، ومراد بيك الصغير، وسليمان أبو دياب، وعثمان بيك الشرقاي، ومحمد بيك الألفي، ومحمد بيك المنوفي، وعثمان بيك البرديسي، وعثمان بيك الطبجي، وقاسم بيك المسكوبي، وقاسم بيك أبو سيف، وقاسم بيك أمين البحر، والأمير مرزوق بن إبراهيم بيك الكبير، وعثمان بيك الطويل، وشروان بيك، وحضر من العلماء الشيخ محمد الساده، والشيخ عبد الله الشرقاوي، والشيخ سليمان الفيومي، والشيخ مصطفى الصاوي، والشيخ محمد المهدي، والشيخ خليل البكري، والسيد عمر نقيب الأشراف، والشيخ العربي، والشيخ محمد الجوهري، وأما العلماء الصغار فلا نقدر نعدهم لكثرتهم.
فهؤلاء السناجق المذكورين مع العلماء المشهورين والوزير السلطاني باكير باشا العثماني عقدوا الديوان، وحضرت السبع أوجاقات وعدة من الأغاوات، وجملة من العوام أرباب الصوت والكلام، وبدوا يتداولون بأمر الفرنساوية ودخولهم إلى الإسكندرية، ويستغربون من هذا الخطب المهول والأمر المجهول، فأمير اللواء مراد بيك بما أنه عارف أن خاطر الدولة العلية متغير عليه؛ فالتفت إلى الوزير وقال له: إن هؤلاء الفرنساوية ما دخلوا على هذه الديار إلا بإذن الدولة العثمانية؛ ولا بد الوزير عنده علم بتلك النية، ولكن القدرة تساعدنا عليكم وعليهم، فأجابه الوزير: لا يجب عليك أيها الأمير أن تتكلم بهذا الكلام العظيم، ولا يمكن أن دولة بني عثمان تسمح بدخول الفرنساوية على بلاد الإسلامية، فدعوا عنكم ذلك المقال وانهضوا نهوض الأبطال، واستعدوا للحرب والقتال، ثم اتفق رأيهم أن يسجنوا القنصل والتجار الموجودين من الفرنساوية في مصر القاهرة؛ خوفا من الخون والمخامرة، وسجنوهم جميعا في قلعة الجليلة، وبعد ذلك اتفق الجميع الكبير منهم والوضيع على القتال والصدام، وأن مراد بيك يسير في العساكر المصرية لملاقاة الفرنساوية عند دمنهور، وإبراهيم بيك الكبير وباكير باشا الوزير مع بقية العساكر والقواد والدساكر يقيمون في المدينة، وكان قد هاج أكثر العلماء والأعيان وقالوا: لا بد نقتل بالسيف جميع النصارى قبل أن نخرج لا حرب الكفار، وقال الوزير وشيخ البلد إبراهيم بيك: غير ممكن أن نسلم إلى هذا الغرم والرأي؛ لأن هؤلاء رعية مولانا السلطان صاحب النصر والشان، وأما النصارى فوقع عليهم وهم عظيم وخوف جسيم، وبدوا الإسلام يتهددوهم بالقتل والسلب، ويقولوا لهم: اليوم يومكم قد حل قتلكم ونهبكم وسلبكم، وكانت مدة مهولة مرعبة ونار ثايرة ملهبة، ولكن بالمراحم المولى - عز شانه - إذ إنه قد عطف وحنن عليهم قلب الوزير وشيخ البلد، وكانوا في كل يوم يرسلوا إليهم سليم أغا أغة الإنكشارية حالا؛ يطمنوهم على أرواحهم وأموالهم، ويطلق المناداة في كل البلد على حفظ الرعايا وعدم المعارضة لهم.
فلنرجع إلى ما كنا في صدده؛ وهو أن مراد بيك جمع الفرسان والغز والعربان وأهل تلك الأطراف، ما ينوف عن عشرين ألف مقاتل من كل فارس وراجل، وسار في العساكر كالبحور الزواخر نهار الجمعة إلى أرض الرحمانية، وهي بلاد بالقرب من رشيد، وكان قد أرسل الجبخانات والذخاير مع عسكر كريد في بحر النيل، وكان صحبتهم علي باشا الجزام، الذي كان مطرودا من جزاير الغرب ومقيما في مدينة مصر، وناصيف باشا بن سعد الدين باشا العظم مطرودا من الدولة، فهؤلاء كانوا ملتجيين إلى مراد بيك في ذلك الوقت، فأرسلهم مع الذخاير والجبخانات، وسار مراد بيك مع العساكر على شاطئ النيل أمامهم، وعندما وصلوا إلى أراضي الرحمانية فقابلوا الجيوش الفرنساوية قادمين كالسيل القاطر، وكانت غلايطهم سايرة تجاههم بحرا، وعندما نظروا الغلايط إلى تلك المراكب التي بها الذخيرة، فتجاروا إليهم ووقع الكون بينهم، وأرموا بعضهم بالمدافع والقنابر، فسقطت إحدى القنابر على المركب الذي كانت به الجبخانة فطار البارود، واحترق المركب والذي بقربه من المراكب، وكانت الناس تتطاير بالجو كالطيور، ووصلت إلى الجبخانة التي على البر فشعلت فيها، وانوعرت العساكر لما شاهدت تلك النار، واستفئلوا من الانكسار، وأيقنوا بالعدم والدمار، وفي ذلك الوقت دهمتهم العساكر الفرنساوية، وأنزلت بهم البلية، فولت العساكر المصرية مدبرين، وإلى النجاة طالبين، ولا زالوا راجعين وفي مسيرهم مجدين إلى أن وصلوا إلى محل يقال له الجسر الأسود، وأقاموا هناك في غاية الذل والنكد، فهذا ما كان من مراد بيك وذلك التدبير، وما أصابه عسكره من الذل والتدمير.
وأما ما كان من باكير باشا وإبراهيم بيك الكبير؛ فإنهم بعد مسير مراد بيك نزلوا إلى بولاق ونصبوا الخيام والوطاق، وابتدوا يبنوا المتاريس على شاطئ النيل، وعندما أتتهم الأخبار بما قد حصل بعساكر مراد بيك من الدمار والانكسار من الأعداء الكفار الفرنساوية الأشرار، فتقطعت ظهورهم وحاروا في أمورهم، ووصلت الأخبار إلى مصر، فكان يوما مهولا، وقامت أهالي البلد بالسلاح والعدد وتهددوا النصارى وصاحوا: اليوم قد حل قتلكم يا ملاعين، وصرتم غنيمة للمسلمين، ثم أرسل إبراهيم بيك إلى مراد بيك أن يحضر إلى إمبابة تجاه بولاق، ويبنوا المتاريس على شاطئ البحر، ويضعوا المدافع، ويبقى إبراهيم بيك وعسكره في بولاق، ومراد بيك وعسكره في إمبابة تجاه بعضهما والبحر بين الجهتين؛ احتسابا بأن الفرنساوية إذا أتوا بحرا يتلقاهم إبراهيم بيك، وإذا أتوا برا يتلقاهم مراد بيك.
وفي نهار الجمعة سادس عشر يوم من شهر صفر صعدت علماء مصر وعامة الناس إلى القلعة السلطانية، وأحضروا البيراق النبوي بضجيج عظيم واحتفال جسيم، وأتوا به إلى مدينة بولاق، وهم يموجون كالبحر الدفاق، وجميع تلك الأقاليم في الوجل العظيم، ويضجون بالدعا المستديم إلى الرب الكريم، وقد صعدوا إلى المنابر، وفتحوا المصاحف وهم في غاية المخاوف، ونهار السبت سابع عشر صفر أقبلت الجيوش الفرنساوية برا وبحرا، وتقدمت العساكر المصرية، واستعدوا لحرب الفرنساوية، وقرعوا طبول الحرب ووطدوا نفوسهم على الطعن والضرب، وتقدم إلى المحاربة الجبار العنيد والمعد في الحرب بألف صنديد الجنرال دبوي، فتلاطما العسكران وتصادما الجيشان، وتهاجمت الشجعان وفر الجبان وبان القوي من الجبان، وجادت العربان وتقدموا إلى الضرب والطعان، وتجارت الفرسان إلى حومة الميدان، وعجت بالمناداة: اليوم يوم المغازاة، ثم انقضت السناجق كانقضاض البواشق بالسيوف البوارق والرماح الخوارق والخيول السوابق، وأطلقوا المدافع كالصواعق، وثار العجاج وزاد الهياج.
وقد هجم في ذلك الوقت البطل المغوار والأسد الهدار أيوب بيك الدفتردار، وقحم بحصانه وسط الغبار، وصاح في الأعداء: ويلكم يا لئام! ساقكم الغرور لفتح هذه الثغور، اليوم نملي منكم القبور، ونجعله عليكم يوما مشهور، وفي مثل هذا الأوان تبان الشجعان وتبلغ المنازل العالية الفرسان، وتكسب الحمد والثناء، فمن مات منا احتوى بالجنان، ومن عاش ربح من دون خسران، وكان بدنياه سعيد، ومن مات راح بالله شهيد، ولما طال الحرب واشتد البلاء والكرب، ودام الطعن والضرب، فعند ذلك الوقت قرعت الفرنساوية الطبول النحاسية، وهجم ذلك البطل الذي ذكره تقدم الجنرال دبوي المعظم، ولا زالوا يلتقون الكلل في صدروهم، ويدوسون مجروحهم ومقتولهم، حتى ملكوا المتاريس، وكان ذلك على الغز أنكيس، وبدوا يطلقون المدافع على الإسلام ويورثوهم مواريث الإعدام، وجادت الإفرنج في القتال لما ملك دبوي المتاريس.
وكانت الإفرنج ثلاثين ألف مقاتل ما بين فارس وراجل، وكان كل من هؤلاء الصلدات في كل دقيقة يطلق الرصاص سبع دفعات، فعند ذلك صاحت الغز: الفرار الفرار من حرب هؤلاء الكفار، وولت العربان وانهزمت الشجعان، وإذ ضاق عليهم ذلك السبيل؛ ألقوا أرواحهم في بحر النيل، فما سلم منهم إلا القليل، وكان قد سقط قتيل وداسته الخيل ذلك الجبار والأسد المغوار أيوب بيك الدفتردار، ولم يبان له علائم ولا آثار، بعد أن قتل جمعا غفير وثبت قدام تلك الجماهير.
وأما مراد بيك فر في رجاله وأبطاله، طالب النجاة لنفسه العزيزة ودخل إلى الجيزة، وقد أحرق مركبه الكبير الذي كان أنشأه؛ خوفا ليلا تكسبه أعداؤه، ثم سار نحو الصعيد.
وكان باكير باشا وإبراهيم بيك حين انهزموا من بولاق، وقلوبهم بنار الاحتراق ودمعهم ينحدر من الآماق، وقلوبهم مغترمات بالحسرات وهم يتأسفون على ما فات، ثم أخذوا أعيالهم ورجالهم وخرجوا من المدينة من باب النصر قاصدين البرية والديار الشامية، وبقت بقية أهل القاهرة تلك الليلة بمخاوف وافرة، وعند الصباح اجتمع القاضي والأعيان وقالوا: إن الحكام ولت وأحوالهم اضمحلت، فالتسليم لنا أصلح، وحقن دماء الإسلام أوفق وأربح.
وقد كنا ذكرنا أن القنصل والتجار الفرنساوية تحت اليسق في قلعة الجبل، فأحضروهم وطلبوا منهم أن يسيروا معهم إلى بولاق ويأخذوا لهم الأمان، فأشار عليهم القنصل أن يتوجه اثنان من التجار ومحمد كتخدا إبراهيم بيك، وساروا إلى بر إمبابة، وفي وصولهم تقدموا إلى مقابلة الجنرال دبوي، وترحب بهم، وسألهم عن أحوال مدينة، وما هو مراد أهلها، فقالوا له: إن الحكام ولت والرعية ذلت، وقد أتينا من قبل علماء البلد والأعيان نطلب لهم الأمان، فأجابهم الجنرال دبوي: من ألقى سلاحه حرم قتاله، فلهم مني الأمان ومن أمير الجيوش ومن كل من في هذا المكان، وإنما يلزمكم في هذه الليلة ترسلوا المعادي والقوارب؛ لننقل بهم العساكر؛ لأن مرادي في هذه الليلة أدخل البلد، ثم رجعوا محمد كتخدا والتجار وأعلموا العلماء بتلك الأخبار، فأمرت العلماء والحكام البلد حالا بمسير القوارب والمعادي إلى بر إمبابة، ونزل الجنرال دبوي بماية وخمسين صلدات إلى بولاق حيث كانت العلماء بذلك الاتفاق، وحين تقابلوا أعطاهم الأمان، وساروا قدامه بالمشاعيل إلى أن دخلوا المدينة، والمنادية تنادي أمامه بالأمان على الرعية والأعيان، وجلس الجنرال دبوي في منزل إبراهيم بيك الصغير، وأرسل بعض الصلدات تسلمت قلعة السلطان، واتقدت تلك الليلة النار بمنزل مراد بيك، وكان ذلك من الذين ينهبون وهم من أولاد البلد، فنهض الجنرال دبوي وأطفأ تلك النار.
صفحة غير معروفة