أسفل عمود مجاور رجل متربع وحوله عدة نساء مقرفصات. يرتدي جلابية بفتحة صدر مزدانة بشريط أسود. فوق رأسه طربوش قديم. أمامه حقيبة مدرسية من «الفيبر» يسند ورقة فوقها. قلم الحبر في يده. نصعد السلم إلى الطابق الثاني. نشق طريقنا وسط الزحام إلى ممر انتشرت القاعات المغلقة على جانبيه. يقترب أبي من باب كل قاعة ويقرأ الورقة المعلقة فوقه بدبوس. نكرر عملية البحث بلا فائدة. نعود إلى السلم. نفاجأ بامرأة تخلع ملاءتها وتردفها بجلباب أسود. تكشف عن قميص رجالي وبنطلون أصفر من مخلفات الجيش. تنتزع دكة من الجالسين فوقها وتهاجم بها الواقفين حولها. يحاول رجل في جلباب وطاقية أن يحتويها لكنها تضرب رأسه برأسها. نهرع على السلم إلى أسفل. نقف قرب المدخل.
يصل الدكتور «مندور» في بنطلون أسود وسترة رصاصية. يقول: خير إن شاء الله. يأتي له أحد السعاة بمعطف المحاماة الأسود. يقول أبي: إحنا قرينا مقالك في «الوفد المصري». إنت إيه بينك وبين «أخبار اليوم»؟ يضحك: مفيش. أنا سميتها بالصحيفة الصفراء لأنها نشرة بريطانية طلعت مخصوص لمناصرة الملك ضد «الوفد». تقول عليه الملك الصالح والعامل الأول والتقي الأول.
أتسلل خلف الكاتب. تمليه امرأة مقرفصة أمامه وهو يكتب. يبدو أن القلم لا يشفط الحبر لأنه يغمسه في محبرة بجواره كلما كتب عدة كلمات. ينهرها بين الحين والآخر. ينتهي من الكتابة ويشير إليها أن تنتقل إلى زميل له. يجلو هذا قطعة نحاس صغيرة في حجم الخاتم. تميل عليه المرأة وتقدم له الورقة. يصيح بها: اسمك؟
تجيب: «عايدة».
يقول: اسمك الكامل يا ولية. - يعني إيه؟ - يعني اسمك واسم أبوك وجدك.
تخرج ورقة ملفوفة من صدرها وتعطيها له. يفكها متعجلا. يقرأ. يحفر اسمها في قطعة النحاس. يناولها الكاتب. يضغطها هذا في علبة صغيرة. يتأمل الختم. يسألها: إنت «عايدة جرجس اسطفانوس». تقول بلهجة الصعايدة: إيوه. يضغط الختم فوق الورقة. يقدمها إليها. تعطيه نقودا. يقول لها: وديها للباشكاتب. يشير إلى رجل يقف على مقربة. طربوشه طويل على غير العادة ونظارة قراءة مغبشة. يأخذ منها الورقة. يصحبها إلى بائع الطعمية . تشتري له رغيفا وبضع حبات.
أسمع صوت أبي ينادي اسمي فأهرع إليه. يؤنبني لأني تركته. نتجه إلى الجانب الآخر من المبنى. هناك حشد من النساء البلديات الجالسات على الأرض مع أطفالهن. ندخل قاعة مزدحمة. تجلس في الصف الأول بجوار جدتي. ترتدي معطفا من الحرير الأسود وحول رأسها بيشة رمادية اللون. أطول وأعرض عن آخر مرة رأيتها فيها. تتطلع جدتي خلفها في اهتمام. ترتسم على شفتيها ابتسامة غريبة. تنظر إلي في جمود. وجهها الأسمر الشاحب محاط بطرحة بيضاء باهتة اللون. تلمحني أمي. لا يبدو عليها أنها عرفتني. تخاطبني فجأة بغير اكتراث كأنني لم أفترق عنها أبدا: إزيك؟ لا تطلب مني الجلوس إلى جوارها. تنصرف إلى تأمل منصة القاضي. منصت إلى شيخ بقفطان وعمة ونظارة قراءة. أتطلع خلفي بحثا عن أبي. يشير إلي من مدخل القاعة. أذهب إليه.
نحشر أنفسنا بين الجالسين فوق دكة في نهايتها. نلمح «سليم» في الصف الأول. منصة القاضي في صدر القاعة. أمامها تجمع المحامون وبينهم الدكتور «مندور» في معطف المحاماة الأسود. يدور بينهم حديث لا يصل إلى مسامعنا. الحاج «عبد العليم» يقف خلف قضبان حديدية. يقول القاضي شيئا فينسحب المحامون. ينادي الحاجب على متهمين آخرين. تنتهي الجلسة فجأة. يختفي القاضي ومعاونه من باب خلف المنصة. يقف الجالسون ويتقدمون من قفص الاتهام. ينادي المتهمون على معارفهم وأقربائهم. يلوح لنا الحاج «عبد العليم». يبدو مرحا وغير قلق.
نغادر المحكمة. نتجه يمينا. بعد خطوات تظهر مباني قصر «عابدين». ألمح جانبا من الساحة الفسيحة أمامه. نقف في صفوف من الصباح الباكر حتى بعد الظهر. يقودنا ضابط المدرسة. نرتدي الفانلة الزرقاء التي وزعوها علينا. تشبه ملابس أطفال الملاجئ. ننتظر إطلالة الملك لنهنئه بعيد الجلوس.
ننحرف يسارا في شارع مظلل بالأشجار. نتوقف أمام عمارة أنيقة. يقف لنا بواب نوبي. نستقل مصعدا نظيفا. يصعد ببطء دون صوت. أجلس فوق مقعد مثبت إلى جداره. نتوقف في الطابق الرابع. نطرق باب شقة طنط «زينب». تفتح لنا خادمتها السوداء «زهرة». ترحب بنا وتضمني إلى صدرها . تقبل خدي . أعرف قصتها من أبي. كانت ملك أهل طنط «زينب» ثم ألغى الخديوي «إسماعيل» الرق. ولأنها لا تعرف أهلها أو من أين جاءت بقيت في خدمة طنط «زينب».
صفحة غير معروفة