قبل أن تقرأ
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
شكر واجب
قبل أن تقرأ
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
شكر واجب
التلصص
التلصص
تأليف
صنع الله إبراهيم
قبل أن تقرأ
واكبت سنوات مراهقتي نهاية العهد الملكي في مصر. كانت البلاد تموج بدعوات التحرر الوطني من الوجود الإنجليزي العسكري، والتحرر الاجتماعي من سيطرة الإقطاع، ومن الأمية والمرض والحفاء! .. وشكلت هذه البيئة وجداني، وخاصة الحديث عن أن المعرفة هي كالماء والهواء يجب أن تكون للجميع وبالمجان.
وفي مغرب يوم من سنة 1951م، كنا أنا وأبي عائدين من زيارة لأحد أقاربنا في شرق القاهرة. توقفنا في ميدان العتبة لنأخذ «الباص» إلى غربها حيث نقطن. اتخذنا أماكننا في مقاعد الدرجة الثانية. نعم! كانت مقاعد «الباص» آنذاك - والترام أيضا - مقسمة إلى درجتين بثمنين متفاوتين للتذاكر التي يوزعها «كمساري» برداء أصفر مميز أثناء مروره على الركاب.
جلسنا أنا وأبي خلف الحاجز الزجاجي الذي يفصل الدرجتين، وتابعت في حسد ركاب الدرجة الأولى، بينما كان أبي غارقا في أفكاره التي تثيرها دائما أمثال هذه الزيارات.
قلت بحماس طفولي: «سيأتي اليوم الذي يزول فيه هذا الحاجز، بل ويصبح الركوب بالمجان.»
تذكرت الروايات التي أعشق قراءتها فأضفت: «والكتب أيضا!»
تطلع إلي باستياء من سذاجتي: نعم! الكتب بالمجان؟ يا لها من سذاجة!
ولم أتصور وقتها أن يأتي اليوم الذي تصبح فيه كتبي أنا متاحة للقراءة بالمجان! وذلك بفضل مبادرة جريئة من مؤسسة مصرية طموحة، فشكرا لها!
صنع الله إبراهيم
الفصل الأول
1
يتمهل أبي في مدخل المنزل قبل أن نخطو إلى الحارة. يرفع يده إلى فمه. يتحسس طرفي شاربه الرمادي الملويين إلى أعلى. يتأكد من أن طربوشه مائل قليلا ناحية اليسار. ينزع سيجارته السوداء المطفأة من ركن فمه. ينفض رمادها عن صدر معطفه الأسود الثقيل. يبسط أساريره لتتلاشى تجاعيد جبهته. يرسم ابتسامة على شفتيه. يقبض على يدي اليسرى. نتلمس طريقنا في ضوء الغروب.
نتجه يمينا نحو الفتحة الوحيدة للحارة. ندلف إلى الشارع الذي يعج بالمارة والحوانيت. بقالة الحاج «عبد العليم». شيخ الحارة ينادينا: - تفضل يا «خليل» بيه.
يجيب أبي في وقار: حنمر واحنا راجعين.
دكان الخردواتي يشع بالنظافة وتتصاعد منه رائحة الفنيك. باترينة زجاجية رصت داخلها قطع الشكولاتة والحلوى. أجذب يد أبي ناحيتها فينهرني. الجزمجي، المقاعد المرتفعة وأسفلها ماسحو الأحذية. حامل الصحف في المدخل والراديو الضخم في المؤخرة. كواء الطرابيش. القاعدة النحاسية المستطيلة وفوقها القوالب النحاسية الضخمة. وأخيرا الميدان.
الأنوار باهتة في لحظة أول الليل. صورة الملك مضاءة بالمصابيح. لافتات تهنئه بعيد ميلاده. لوحات الإعلانات السينمائية. فيلم «الشاطر حسن» به قسم بالألوان الطبيعية. «الفارس الأسود» بسينما «ميامي» والترجمة العربية على نفس الفيلم. أشعر بلسعة هواء باردة أحسها في ركبتي المكشوفة بين حافة البنطلون القصير والشراب الصوفي الطويل. يدي اليسرى دافئة في قبضة أبي القوية. الترام رقم 22 بعربتيه المكشوفتين ودككه الخشبية. أسابقه مع الأولاد من جهة اليسار لنقفز إليه ونثبت بذلك قدرتنا على التهرب من الكمساري. أوشك أن أقع تحت عجلات الترام المعاكس.
نستقل العربة الثانية. يزنقني في الركن لأبدو أقل من سني. يستخرج من جيب الصديري ثمانية مليمات للتذكرة. نغادر في ميدان «السيدة» الحافل بالأضواء. عربة «سوارس» يجرها بغلان ضامران. يملأ الركاب دكتين متقابلتين ويقف بعضهم على السلم الخلفي. سوط السائق يلسع ظهر الحيوانين. عجوز سمينة تفترش الأرض خلف صينية من أعقاب السجائر. مكان ضيق في نهايته طاولة صغيرة يعلوها حاجز زجاجي. عجوز محني الظهر ذو لحية كثيفة. يخرج أبي ساعة جيبه المستديرة من جيب صديريته. يتفحصها العجوز بدقة ثم يضعها جانبا. يعطي أبي بعض النقود.
الشارع من جديد. بائع يانصيب علق أوراقه على الحائط. يخرج أبي ورقتين من جيبه ونظارة القراءة. يقارن أرقامهما بدفاتر البائع. يكمش الورقتين ويلقي بهما في الطريق. يشتري ورقتين جديدتين؛ واحدة باللون الأزرق والثانية بالأحمر.
صف من باعة الأشياء القديمة وماسحي الأحذية. كوم من النظارات القديمة فوق جريدة على الأرض. البائع يرتدي نظارة طبية مكسورة من المنتصف وملحومة بقطعة بارزة من الصفيح. ينحني أبي ويقلب بين النظارات. يختار واحدة ويطلب مني أن أرتديها . أضع النظارة فوق عيني وأتطلع حولي. أجرب نظارة أخرى. ثالثة بيضاوية في إطار رفيع من معدن مذهب. أشعر بتحسن في الرؤية. يفاصل أبي في ثمنها. يشتريها.
أرتدي النظارة وأتبع أبي حتى دكان عطارة يشتري قرفة وفلفلا أسود مطحونا وقرنفلا. أرى الآن بوضوح.
مرة أخرى في عربة الترام المكشوفة. نصعد القمرة الأخيرة المسقوفة التي تحوي دكة واحدة موضوعة بعكس الاتجاه. نمر كالسهم بمحطة اختيارية خالية. ينبعث الشرر من السنجة. أضع يدي على نظارتي خوفا من أن تطير. ندلف إلى ميدان «الظاهر». سينما «فاليري» الصيفية مغلقة. أمي في فستان ملون. رأسها مغطى بإيشارب حريري يحيط بوجهها. في قدمها حذاء بكعب متوسط الارتفاع مقفول من الأمام. لونه أزرق مع أبيض. تجلس في مقعد بذراعين من القش. أهم بالجلوس فوق فخذيها فتبعدني عنها. يأخذني أبي بين ساقيه. يمر بنا بائع في جلباب نظيف علق في ذراعه سبتا مغطى بالقماش. يشتري أبي لكل منا سميطة بالسمسم. يعطينا البائع معها شريحة من الجبن الرومي فوق ورقة في حجم الكف.
تتأرجح العربة يمينا ويسارا. يضمني أبي إليه ليحميني من الهواء البارد. أنكمش في حضنه. تغمرني رائحته المشبعة بدخان التبغ. أقاوم النعاس. أود أن أقوم لأدير يد الفرملة وأرى أثرها على دائرة التروس أسفلها. أتمنى لو أجد نفسي في الفراش، فوق مرتبة على سجادة حجرة «المسافرين» إلى جوار الخادمة. الغرفة مظلمة وبابها مفتوح تبدو منه الفسحة. شعاع من ضوء المصباح الكهربائي لغرفة الطعام. الخادمة تغني مع الراديو: «يا أبو العيون السود.» ينطلق صوتها خافتا قريبا من أذني. يدها تعبث بشعري وتتحسس جلد رأسي. تنتهي الأغنية فتحكي لي قصة الشاطر حسن. تتحول المقاعد القابعة في الظلام إلى جبال وجياد وقصور. يرضع الشاطر حسن من ثدي الغولة فتقول له: «أخدت قطة من بزي اليمين بقيت زي ابني سماعين، وخدت قطة من بزي الشمال بقيت زي ابني سليمان.»
يبطئ الترام عندما يشرف على الميدان. نغادره ونعبر الطريق. يتوقف أبي عند الجزار. ضخم الجسم ذو شارب رفيع شديد السواد. يرتدي جلبابا أبيض ملوثا ببقع الدماء. يطلب أبي رطلا مشفى يصلح لعمل «كمونية».
يشمر الجزار كمي جلبابه كاشفا فانلة صوفية يميل لونها إلى البني. ينقل البصر بين قطع اللحم المعلقة في خطاطيف. ينتزع إحداها. يلقي بها فوق «أورمة» خشبية مستديرة. ينهال عليها بساطور عريض. يستبدله بسكين قصيرة يفصل بها اللحم عن العظام. يرفع قطعة من اللحم في الهواء أمام عيوننا. يطلب منه أبي إزالة الأختام والشغت. يضع القطعة في كفة الميزان النحاسي. ينقلها إلى الأورمة الخشبية. يتناول سكينا طويلة ذات نصل لامع. يقطعها أجزاء متساوية.
يستفسر أبي عن صحة أبيه المعلم «نصحي». يقول إنه لم يره من مدة. يتحاشى الجزار النظر في عيني أبي. يقول: الحمد لله.
أتسلل من جوار أبي. ألف حول الأورمة. يقرب الجزار اللحم من حافتها. يبدأ في لفه بالورق الرمادي السميك. يزيح بيده قطعة فتسقط على الأرض. يتجاهلها. أريد أن ألفت انتباه أبي، لكنه يأخذ لفافة اللحم وأتبعه إلى الطريق.
أذكر له ما رأيت. يضحك ويقول إن الجزارين هكذا، ولا فائدة معهم. يكفي أنه يحصل دائما على القطعة التي يريدها. يقول إنه يتعامل مع أبيه منذ عشرين سنة. يأتيه خصوصا من المنزل الذي ولدت به «نبيلة» في شارع «البراد».
ننتقل إلى حانوت اللبان. نشتري سلطانيتين من المهلبية. نعبر الميدان مرة أخرى. نتمهل أمام عربة تحمل كوما عاليا من الفول الحراتي الأخضر. يسأل أبي عن الثمن. يشتري رطلا. نتجه إلى شارعنا. دكان الخردواتي مغلق. يقول أبي إنه يغلق عادة عند صلاة العشاء.
نلج دكان البقال. الحاج «عبد العليم» خلف مكتب في نهاية الدكان تعلوه صورة كبيرة للملك. نحيف في معطف ثقيل، بني اللون، فوق جلباب من الصوف. حول رقبته كوفية بيضاء وفوق رأسه طربوش. تصدر عنه كل لحظة سعلة مبتسرة. ينهض واقفا ليصافح أبي. يبدو أبي قصيرا إلى جواره. يضع مشترياته فوق المكتب ويجلس على كرسي بجواره. أقف بين ساقيه. أمامي على الحائط لافتة بخط يد ركيك: «الشكك ممنوع والزعل مرفوع».
يوجه أبي التحية إلى «سليم» الواقف خلف منصة البيع . يرتدي جلبابا فوقه معطف أصفر يشبه معاطف السعاة والفراشين. فوق رأسه طاقية صغيرة من الصوف. وجهه شديد الشحوب. يرد التحية بصوت خافت بارد.
يقول «عبد العليم»: الواد «عباس» جاهز، تحب ينقل العفش بكرة؟
يومئ أبي برأسه موافقا: إياك ميكونش اتبهدل من السمنة والزبدة. - لا، أنا كنت حاطط حاجتك على جنب.
ينادي: «عباس»، إنت رحت فين؟ إوعى يكون راح يشرب الهباب اللي بيأربعه.
يظهر رجل أسود حافي القدمين في مدخل الدكان. عيناه حمراوان. يرتدي جلابية وطاقية قذرتين. تنبعث منه رائحة منفرة. يتحرك في بطء. - تنقل باقي عفش «خليل» بيه من المخزن بكرة الصبح.
يتمتم «عباس»: مش فاضي.
يقول «عبد العليم» في حسم: دول كنبة وكرسيين وترابيزة.
يلتفت لأبي: ولقيت لك واحدة كويسة ساكنة قريب، تنضف وتطبخ وتاخد بالشهر. - كام؟ - إديها جنيه.
يسأله أبي عن ساكن الغرفة المجاورة لنا. يداعب «عبد العليم» شاربا رفيعا، يقول إنه كونستابل في البوليس. - متجوز؟ - لأ.
يطلب أبي من «سليم» عشر بيضات وخمسين درهم جبنة وخمسين درهم حلاوة، وعلبة شاي «الشيخ الشريب»، وقطعة صابون «نابلسي»، وأخرى داكنة اللون للمطبخ.
يسأله «سليم» بوقاحة: على النوتة؟
يومئ أبي بالإيجاب.
يفتح «سليم» نوتة طويلة ويسجل فيها الطلبات، يحذره أبي: البيض طازة ولا ممشش؟ - طبعا طازة، عندنا كمان زبدة جاموسي.
يهز أبي رأسه بالنفي ويطلب رطلا من السمن البلدي.
يسأل «سليم» بنفس اللهجة: معاك حاجة تحطه فيها؟ - لأ.
يصيح به أخوه: حطه في برطمان قزاز.
يجمع لنا مشترياتنا في كيسين من الورق يضمهما أبي إلى صدره. نغادر الدكان. أطلب منه أن أحمل أحد الكيسين. يرفض قائلا إنه سيقع مني. كتاب المطالعة. «سرحان» بين البيت والغيط. يضع البيض في جيوبه فيتهشم. يحمل الخروف بين ساعديه فيعجز عن السير. يجر البطة بحبل فتختنق.
نتجه إلى الحارة. أسأله لماذا لم يشتر الزبدة. أحبها بالعسل الأبيض أو الأسود. وأحب «المورتة» التي تتخلف عن تسييحها. يقول إن «سليم» يحشو كوز الزبدة بالملح ليغش في الوزن. وإن أخاه الحاج «عبد العليم» حذره أكثر من مرة بلا فائدة .
نتمهل في مدخل الحارة المظلمة. نخطو في بطء. ضوء خفيف من خصاص الأبواب الخشبية للبلكونات. شيش بلكونة المنزل المقابل لنا مفتوح، لكن المصراع الزجاجي مغلق والستائر مسدلة خلفه. نتعثر في مدخل المنزل. نصعد الدرجات القليلة المتآكلة. باب شقتنا المظلمة يمين السلم المؤدي إلى الطوابق العليا. إلى اليسار فجوة غامضة تؤدي إلى مخزن البقالة. أتجنب النظر نحوها.
يناولني كيسا وهو يقول: امسكه كويس. يفك أزرار المعطف ويزيحه جانبا. يبحث عن المفتاح في جيب سترته، يدس المفتاح في قفل الباب ويديره. يدفع الباب. أتشبث بمعطفه. ندخل في حذر.
يردد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. يفتش بيده حتى يعثر على مفتاح النور. يلتمع الضوء الضعيف من مصباح كهربائي متسخ يتدلى من منتصف السقف. يطل المصباح على صالة بها مائدة طعام مستطيلة. نقف أمام باب حجرتنا المجاور للباب الخارجي. يستخرج أبي من جيبه مفتاحا آخر. يتقدمني إلى الداخل. يضيء النور.
يضع كيسه فوق المكتب. أهم بوضع كيسي بجواره فيسرع بتناوله مني. يضعه بنفسه. أجلس فوق حافة الفراش الحديدي الكبير. إلى يميني باب البلكونة الصغيرة المغلق. أمامي الدولاب الخشبي المائل. يعتمد على ثلاث كرات خشبية في حجم الرمان أسفل ثلاث زوايا. ضاعت كرة الزاوية الرابعة أثناء النقل فوضع أبي قطعا صغيرة من الخشب مكانها. والنتيجة أن الضلفة اليسرى لا يمكن إغلاقها بإحكام وتظل مواربة. إلى جوارها مشجب خشبي ثم باب الغرفة. إلى يساري المكتب مضغوطا بين السرير وحائط الباب.
يخلع معطفه ويعلقه في أحد سواعد المشجب. يتبعه بسترة البزة. في عروتها قطعة مستديرة من البرونز كتب عليها «الجلاء». يضع طربوشه فوق قمة المشجب. ينكشف رأسه الأصلع الذي يحيط به شعر يغلب عليه اللون الأبيض. يضغط فوقه طاقية من الصوف الوبري في لون الجمال ذات حواف عريضة مطوية إلى أعلى. يظل بالصديري الرمادي الصوفي ذي الزراير الخشبية. يرتدي روبه البني ويزرره بحبل رفيع أحمر اللون. يلف حول رقبته وصدره لفاعة عريضة من نفس قماش الطاقية.
أفك رباط حذائي وأضعه بجوار الباب . ألبس قبقابي محتفظا بالجورب. أخلع البزة وألقي بها فوق ظهر كرسي المكتب. أضم إليها القميص والبلوفر. أرتعش من البرد. أرتدي البيجامة وفوقها البلوفر. يتناول كيسا من القماش من فوق المكتب ويستخرج منه رغيفا من الخبز الملدن. يقفز صرصور صغير أسود من الكيس. أتراجع بعيدا. يسألني إذا كنت أفضل الجبن أو الحلاوة. عيني على المكان الذي خرج منه الصرصور. أقول إنني لست جائعا. يلح علي أن آكل لأقاوم البرد. أكرر أنه لا نفس لي. يقول: أعمل لك بيض بالعجوة؟ أهز رأسي نفيا. يعيد الرغيف إلى الكيس.
أقوم بإعداد شنطة المدرسة. أتأكد من وجود ورقة النشاف وزجاجة الحبر. ألحظ أنه ما زال يرتدي بنطلونه وحذاءه. أسأله: مش حتقلع؟
يقول: أشوح اللحمة الأول. - متسيبها للصبح. - بعدين تبوظ.
ينحني ويرفع ملاءة السرير. أحذية وأطباق وصناديق وأوان معدنية. علبة الحقنة الشرجية الصاج. يجذب حلة معدنية. يبحث عن غطائها حتى يجده. يغادر الغرفة فأتبعه. يتناول لفافة اللحم ويفض محتوياتها في الحلة. يتجه إلى مدخل طرقة مظلمة في مواجهة حجرتنا. كنيف لا ينغلق بابه وتنبعث منه رائحة كريهة. حمام مغلق ثبت بابه بلوح من الخشب. حوض مياه من الصاج مثبت في الحائط تطل عليه حنفية. يغسل اللحم جيدا. يخطو إلى نهاية الطرقة حيث المطبخ. يدخله وأنا متعلق بملابسه من الخلف. يخرج علبة ثقاب ويشعل منها عودا. يسقط الضوء على جانب من الحائط مبلل بالمياه. مائدة خشبية فوقها وابور كيروسين «بريموس». يفعص بقدمه صرصورا أحمر كبير الحجم. يضغط كباس البريموس عدة مرات ثم يشعل عود ثقاب ويقربه من الفونية. تتوهج النار. تستوي الحلة فوق النار. ألتصق به وأغمض عيني. تدلي «ست الحسن» جدائل شعرها الطويل من النافذة ليرتقيها الشاطر «حسن». وعند الظهر يظهر الغول قادما من بعيد. كتلة ضخمة أشبه بلفائف كبيرة من الشعر يطوحها الهواء تجتاح الفضاء وتنثر معها الغبار والعفار. يقف تحت النافذة ويصيح ب «ست الحسن»: «دلي شعورك الطوال، خدي الغول أحمد من حر الجبال».
الموقد يئز. تتنوع ألوان شعلته. يقلب اللحم بملعقة. يرفع الحلة ويتخلص من مائها في الحوض.
أسأل: لسه؟
يقول إنه لا بد من غلي اللحم جيدا للقضاء على الميكروبات.
يفتح برطمان السمن ويأخذ منه ملعقتين، يضعهما في الإناء، يقلب اللحم عدة مرات ثم يضيف الماء. يلقي به نتفة من الملح وأخرى من الفلفل الأسود. يغطيه.
يصحبني إلى الكنيف المفتوح لأتبول. أشكو من الرائحة فيقول إن السيفون تالف. أردد آية «الكرسي» كما علمني. يدفعني في رفق لأصعد فوق قاعدة الكنيف الحجرية. أقاوم فيصعد معي ليقف بجواري. يمسكني من كتفي بينما أفك أزرار سروالي. أرفع نظري إلى الجدران. يسقط شعاع من ضوء الصالة الضعيف على بقع كبيرة سوداء. تتحرك إحدى البقع فجأة صاعدة إلى أعلى. أتشبث بملابس أبي. يقول: متخفش، ده «أبو شبت».
نعود إلى المطبخ فيقلب اللحم ثم يضيف مزيدا من الماء. ينتظر قليلا حتى تغلي. يطفئ الموقد. يحمل الحلة إلى الصالة وأنا ملتصق به. يتركها فوق البوفيه. نعود إلى الطرقة فيغسل يديه بالصابون.
ندخل الغرفة. يغلق الباب بإحكام. يهتز باب البلكونة بعنف. يقول أبي إنها رياح «أمشير أبو الزعابيب». يتناول جلبابا قديما من فوق الشماعة فيسد الثغرة التي تفصل بين الباب والبلاط العاري. يضع قطعة قماش أخرى أسفل باب البلكونة. يتأمل الفراغ بين الدولاب والحائط. يركع على الأرض ويتفحص المسافة الضيقة الفاصلة بين قاعدة الدولاب والبلاط. يجذب مصراعي الدولاب ويدقق النظر داخله. ينحني ويرفع طرف ملاءة السرير. يلهث من المجهود. يخلع الروب ويعلقه في المشجب. يتلو:
الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم .
أرتقي السرير الحديدي المرتفع. يتبعني. أزحف إلى مكاني بجوار الحائط. ينحني ويلف الأغطية حولي وهو مستمر في التلاوة. ينتهي من آية «الكرسي» فيتبعها بأخرى. يزداد صوته هدوءا وتخفت نبراته. يمسح على وجهي بيده الدافئة. تنسدل جفوني في استسلام. يشم الغول رائحة الشاطر حسن فيقول: «ريحة إنس لا منا ولا من الجنس».
يرفع يده فأفتح عيني. يعيد يده. أغلق عيني. يرفع يده من جديد فأفتحهما. ينتهز الشاطر حسن وست الحسن فرصة خروج الغول للهرب . تدهن ست الحسن كل شيء في القصر بالحنة وتنسى الطبل. يعود الغول وينادي على ست الحسن فتقوم الأشياء التي دهنتها بالحنة بدورها. يقول الغربال بصوت منغم جميل يوحي بحركته: «بتغربل بتغربل بتغربل.» وتقول الرحاية: «بتطحن بتطحن بتطحن.» يقول المنخل: «بتنخل بتنخل بتنخل.» لكن الطبل الذي نسته يثأر لنفسه فيصيح: «خدها الشاطر حسن وطار!»
أتابع حركاته. ينتصب واقفا. ينحني. يدعك ركبتيه. يخلع الشال الصوفي والروب ثم الصديري. يزيح حمالتي البنطلون عن كتفيه. يجلس على حافة السرير. يخلع الحذاء والجورب. يلبس جوربا صوفيا طويلا. يرفع ساقه اليمنى ويجذب البنطلون. يثني الساق الثانية. ينهض واقفا. يخلع الكرافتة والقميص. يظل بالفانلة الصوفية ذات الكمين والكلسون الصوفي الطويل. يدس قدميه في القبقاب. يعلق ملابسه في الشماعة. ينحني مباعدا ما بين ساقيه. يفك رباط حزام الفتق الذي يدور بوسطه وبين فخذيه. يجره بصعوبة ويلقيه فوق المكتب متنهدا في ارتياح. يدعك ركبتيه ثم يطلق جيصا قوي الصوت.
يرتدي الجلابية الكستور المخططة. يلف الشال حول كتفيه وصدره. يمد يده إلى فمه ويخلع أسنانه. يضعها في كوب ماء على المكتب. يشرب من قلة في صينية معدنية على الأرض. يمسح فمه وشاربه بظهر يده. يصب الماء في كوب به مسامير صدئة ليشرب المحلول على الريق. يرفع يديه إلى رأسه ويضغط الطاقية. يخطو خطوتين ويمد يده بجوار الدولاب. يطفئ النور. يصعد إلى جواري. يبسط البطانية واللحاف. يستدير ناحيتي ويتأكد من إحكام الغطاء فوقي. تظل يده فوقي. يقترب وجه أمي المدور. تهدهدني مرددة الأغنية المنبعثة من الراديو: «نام يا حبيب الروووح».
2 - «في جمال الربيع عيدك أقبل. أنت أبهى من الربيع وأجمل.» نكرر النشيد خلف مدرس الموسيقى. يتدلى من جيب سترته العلوي منديل كبير ملون. سيصحبنا إلى قصر «عابدين» في عيد الميلاد الملكي. يعطونا ساندوتشات من جبن «الشيستر» الأصفر والحلاوة الطحينية. فيوم الإثنين نصف يوم. يكتب مدرس اللغة الإنجليزية التاريخ فوق السبورة. أرى المكتوب بوضوح بفضل النظارة. يبدأ الهرج في المقاعد الخلفية. يستدير المدرس ويتجه إلى كرسيه. ملابسه غالية وأنيقة. ثنية رجلي بنطلونه عريضة حسب الموضة. منتصبتان فوق مقدمتي حذائه دون ترهل وتغطيان نعل الحذاء من الخلف حتى نقطة تماسه بالأرض. يقول دون أن يتطلع إلى أحد منا: اللي مش عاوز الدرس يتفضل بالخروج.
ينهض تلاميذ الصفوف الخلفية الكبار ويغادرون الفصل. آخذ مسدسي من الدرج وأتبعهم. الردهة الخارجية المطلة على الفناء خالية. الهدوء الشامل يرين على المدرسة. الطرقة خالية. أنحني لأمر أسفل نوافذ الفصل المجاور. فصل آخر. غرفة المدرسين. بابها مغلق. ألصق عيني بثقب المفتاح. طاولة مستطيلة يجلس في طرفها رجل عاري الرأس. أصلع. طربوشه أمامه فوق مجموعة من الكراسات. أتبين فيه مدرس العلوم. شكله غريب بلا طربوش أو شعر. يتناول إحدى الكراسات. يتطلع في استهجان إلى ركن الطاولة. تظهر في مجال رؤيتي عدة أيد تلعب الكوتشينة.
ألحق بالتلاميذ على السلم. نتسلل إلى الفناء الخلفي حيث يجري بناء ملحق للمدرسة. يتوزعون خلف أكوام الرمال والتراب. يبسطون مناديلهم ويضعونها فوق أنوفهم ثم يربطونها خلف رءوسهم. أخلع النظارة التي ألصقت بي اسم «غاندي» وأربط منديلا فوق أنفي ثم أرتديها من جديد. أقرفص خلف كوم من الحجارة ومسدسي في يدي. فناء المدرسة السابقة تحيط به صفائح عريضة سوداء تحجب الرؤية. أشتري البطاطا والشطة من فتحة صغيرة في جانبها. نعثر على سلم ضيق بدرجات متآكلة تؤدي إلى أسفل. يقول تلميذ إن المبنى أصله قصر أمير، وإن في أعماقه بئرا مسحورا. نهبط خائفين. نصادف سحلية. تقول أمي إنها أميرة متخفية.
أظل في مكاني خلف كوم الحجارة دون أن يناديني أحد. يدق الجرس. نصعد إلى حصة اللغة العربية بخطوات متثاقلة. المدرس قصير القامة نحيفها. له رقبة طويلة ملفوفة بكوفية ثقيلة. يتحرك كتفاه باستمرار داخل بزته. نعرف أنه لم يتخل عن الجبة والعمامة إلا هذا العام.
أتبادل مكاني مع «فتحي» لأجلس إلى جوار «ماهر». لديه سلسلة مفاتيح وقلم حبر جاف ماركة «بيرو» وقلم أبنوس ماركة «ووترمان» وممحاة سمينة وطرية. يصفهم أمامه على سطح القمطر. يشرح المدرس قواعد المجرد والمزيد والإعلال والإبدال وهو جالس. يتجنب الوقوف أمام السبورة بسبب قصر قامته . يطلب من أحد التلاميذ طوال القامة أن يكتب عليها «أمير الشعراء يخاطب الشباب». نفتح كتاب «المطالعة المختارة». نقرأ معه قصيدة «أحمد شوقي». يعنفنا على جهلنا. أكتب معاني الكلمات في كراستي. أخطئ في هجاء كلمة. أحاول إزالتها بممحاتي الرخيصة المتحجرة. أقترض ممحاة «ماهر» الطرية.
يدق الجرس. أرفع غطاء القمطر. آخذ الكتب والكراسات التي أحتاجها لواجبات الغد. أضعها في حقيبتي «الفيبر». أعيد الغطاء إلى مكانه وأثبته بالقفل والمفتاح.
يلفحني الهواء البارد بمجرد أن أخرج إلى الطريق. أدفن عنقي في الكوفية وأنكمش في ملابسي. أجر قدمي في صعوبة. أمضي فوق رصيف المدرسة وأؤجل عبور الشارع الرئيسي حتى الميدان. ألمح قطعة مستطيلة من الحديد. أهم بشوطها بقدمي. أتذكر تحذيرات أبي من القنابل التي تنفجر بمجرد لمسها، وتكون على شكل علبة دواء أو قلم أبنوس أو لعبة. أتأمل القطعة جيدا ثم أبتعد عنها.
رصيف من الحصى الملون. فيلا مسورة بالقضبان الحديدية. أتلصص النظر من بين القضبان. مائدة خشبية ومقعدين في جانب من الحديقة. الباب الداخلي مغلق. أواصل السير. مدرسة اليهود مبنية من الطوب الوردي اللون. لا يحيط بها سور خارجي مثل مدرستنا. ملصق يدعو إلى إغاثة اللاجئين الفلسطينيين. عبارة بطلاء أسود تقول: «لا مفاوضة إلا بعد الجلاء.» أخرى: «شرم برم». نوافذ المدرسة في مستوى الشارع. تظهر منها قاعات كبيرة صفت بها موائد الطعام. التلاميذ يأكلون في ضوضاء. أواصل السير حتى الناصية ثم أستدير يسارا. أمضي بجوار جدار المدرسة. يبدأ الطريق في الصعود تحف به الأشجار. تتفتح زهورها الحمراء والصفراء في بداية الصيف ثم تتساقط وتغطي الرصيف في الخريف. نهاجمها بالنبال لنصيد العصافير دون أن ننجح ولا مرة.
أصبح في مواجهة منزلنا السابق. من الطوب الوردي اللون هو الآخر. يتصدره باب حديدي. بجواره منازل قديمة متهالكة. أمامه منخفض أحدثته قنبلة أسقطتها طائرة ألمانية. أضع حقيبتي على الأرض وأستند إلى جدار المدرسة.
يقع المنزل عند مفترق شارعين تفصل بينهما أرض فضاء مهملة مسيجة بقضبان معدنية. كانت في السابق مخزنا للترام. ترتبط قضبان السياج من أسفل بقضيب عرضي مرتفع عن الأرض بمقدار شبر. نقف على القضيب ونحشر أنفسنا بين الأعمدة ثم نصفر ونسوق.
يتجه الشارع الأول إلى منطقة من العشش والثاني إلى مصنع طرابيش والساحة التي يقام بها المولد النبوي. عند نقطة الملتقى تصطف عربات الكارو ورءوس جيادها مدفونة في أجولة التبن. يتوحد الشارعان في واحد تنحدر أرضه قليلا بعد منزلنا حتى تلتقي بالشارع المؤدي إلى الميدان. عند الناصية مشتل يبيع الورد.
يشغل مسكننا الطابق الأول وتطل نافذتان له على الشارع؛ إحداهما مغلقة الشيش والأخرى بالزجاج فقط. تنعكس عليه الأشجار والسماء الزرقاء. أخط بإصبعي اسمي واسمي أبي وأمي في البخار الذي يغطي زجاج النافذة المغلقة. أتأمل العمال المسرعين في اتجاه المصنع وقد حمل كل منهم غذاءه في منديل. بينهم أولاد صغار. تدوي صفارة المصنع الصباحية فأغادر المنزل. تستقبلني رائحة دخان المواقد والأفران. أرفع رأسي إلى النافذة فأري أبي بطاقيته البيضاء المستديرة يتابعني من خلف الزجاج. أعبر الطريق إلى رصيف مدرسة اليهود. أمر بعجوز ذي عمامة حمراء كبيرة يعتمد على عصا في يده ويستند بظهره إلى جدار المدرسة. أعطيه مليمين كما علمني أبي. ألتفت إلى النافذة لأراه لآخر مرة. أعدل وضع شنطتي على ظهري وأدس يدي الباردتين في جيبي سترتي. أشق طريقي بين التلاميذ اليهود المتدافعين. صبيان وبنات بملابس زرقاء. أدلف إلى الشارع الرئيسي المؤدي إلى مدرستي. تلفني الشبورة التي أحبها.
أحمل حقيبتي وأستدير متابعا طريقي. أخترق ممرا صغيرا. دكان تخديم. ساتر من الخشب يترك فتحة صغيرة. تبدو دكة عليها فتيات. واحدة معصوبة الرأس ترتدي جلابية. بجوارها واحدة في ملابس الفلاحات. أصبح في شارع «فاروق». أنتظر إشارة عسكري المرور. أسير من أمام مخبز «عبد الملاك» وأجزخانة «السبيل». أقرأ لافتتها: «المدير المسئول حلمي روفائيل». بضع خطوات ثم أدخل شارع «النزهة» المؤدي إلى منزلنا الجديد.
3
يرتدي أبي الروب. يفتح باب البلكونة الزجاجي. يدفع المصراع الخشبي إلى الخارج. يثبته في الجدار بالشنكل. يتسلل ضوء الصباح الضعيف إلى الغرفة. يغلق المصراع الزجاجي وهو يتأمل البلكونة المقابلة.
أسعل وأشكو من التهاب حلقي. يجس جبهتي . يتحسس أسفل صدغي متلمسا اللوزتين. يغادر الغرفة وينهمك في إعداد طبق من الفول المدمس بالزيت الحار.
يضع الطبق على الطاولة الخشبية المستديرة التي أحضرها «عباس» من المخزن. الطاولة في مستوى الفراش وتتسع بالكاد لطبق الفول وقطعة الجبن الأبيض في ورقتها ورغيف الخبز والليمونة المشقوقة. يستخرج بصلة صغيرة من تحت الفراش ويضعها في الحيز الفاصل بين باب الغرفة والحائط دون أن ينزع قشرتها. يجذب الباب إلى الداخل ويضغط قليلا. يعيد الباب إلى مكانه ويلتقط البصلة قبل أن تسقط فوق الأرض. ينتزع قلبها الذي برز خارجها ويلقي الأجزاء الخارجية جانبا. يقول إنها أفضل طريقة للمحافظة على فائدة البصل وطعمه.
يتربع فوق الفراش. أجر كرسي المكتب وأجلس أمامه. يعصر فص ليمون فوق الفول. أغمس لقمة صغيرة. وأقضم طرفا منها بغير حماس. أقول إني لا أحب الفول. يقول إنه كان يفطر وهو تلميذ من حلة الطبيخ البايت دون تسخين. تنادي عليه أمه من الطابق العلوي كل صباح: «عندك حلة الطبيخ في المنور».
ننتهي من الإفطار. نخرج إلى الصالة. نغتسل من حنفية الحوض. يدق جرس الباب. يفتحه لبائع اللبن. يحضر له حلة صغيرة ويأخذ رطلا. يشعل الموقد ويضع الحلة فوقه إلى أن يغلي اللبن. يضع إبريقا من الصاج مكانه ليعد القرفة. أظل واقفا بجواره إلى أن تغلي القرفة عدة مرات. يصب لي كوبا ويضيف إليه اللبن. أرفع الكوب إلى فمي. أشم رائحة الجاز. أعيده إليه. يغضب ويشرب من كوبه في صمت.
يدق الجرس مرة أخرى. أهرع إلى الباب وأفتحه. تدخل «أم نظيرة». نحيلة وقصيرة. رأسها ملفوف بمنديل أسود اللون معقود فوق جبهتها تتدلى من حافته خصلات بيضاء. وجهها شاحب وعيناها غائرتان. تترك صندلها الأسود بجوار الباب. تضع كيس الخضار على مائدة الطعام. تلقي ملاءتها السوداء فوق ظهر أحد المقاعد. تقول إنها تأخرت لأن متطوعات الكوليرا أوقفنها في الطريق وأخذنها لمركز التطعيم.
يعطيها أبي ما تبقى من إفطارنا. تهم بالجلوس على الأرض فيدعوها لأن تجلس على أحد مقاعد المائدة. يسألها عن أولادها وزوجها. يحسب معها ثمن الخضار الذي أحضرته. يعد لنفسه القهوة في كنكة صغيرة فوق موقد السبرتو. يفرغها في فنجان من الصيني المزخرف. يحمله في طبقه. أتبعه إلى الغرفة. يجلس متربعا فوق الفراش. يحتسي القهوة في بطء. أعيد الكرسي إلى مكانه خلف المكتب. أجلس وأفتح كراسة الحساب.
أبدأ حل الواجب. أتوقف حائرا أمام إحدى المسائل. أتطلع إليه. يجمع ويطرح ويضرب ويقسم دون أن يستخدم القلم والورقة. تقطيبة وجهه لا تشجعني على طلب مساعدته. يشعل سيجارته السوداء. أفكر في طريقة. أتذكر درس اللغة العربية عن المفردات اللغوية. أسأله عن صفة منزلنا بين أنواع المنازل. أعددها له على أصابعي: القصر، الصرح، الصومعة، السرداب، النجيرة. يهز رأسه قائلا إن منزلنا نسيج وحده. أعرض عليه مسألة الحساب فيحلها.
أرتدي نظارتي وأغادر الغرفة إلى الصالة. «أم نظيرة» تصف الأواني التي غسلتها فوق رخامة البوفيه. أتوقف أمام باب غرفة الكونستابل. أتلصص النظر من ثقب الباب فلا أرى غير طرف سرير منكوش الأغطية. أضع أذني على الثقب. لا أسمع حركة.
ألف من خلف مائدة الطعام. أبتعد عن الباب الزجاجي الذي يؤدي إلى المنور ويأتي منه الهواء البارد. ألف مرة أخرى وأتوقف أمام الحجرة الثالثة. أدير مقبض الباب وأدخل. أرض خشبية مهترئة مليئة بالحفر. أثاثنا القديم: كرسي هزاز من القش المخرم تمزق جانب منه. فوتيان وكنبة. أحد الفوتيين بقاعدة غائرة.
الغرفة باردة. دهان الحوائط متآكل يكشف عن رقع من المصيص. بعضها تغطيه أوراق ملونة. أقترب منها. صفحات من مجلة مصورة خضراء اللون مثبتة بالدبابيس. صورة الملك «فاروق» وهو صبي جميل بالبنطلون القصير والطربوش. صورة أخرى له في سيارة مفتوحة مع شقيقاته الثلاث الجميلات. صورة ثالثة له بجوار أبيه الملك «فؤاد» ذي الشارب المدبب الطرفين المرفوعين إلى أعلى. أتحسس بيدي سطح الصور المصقول. يتساقط المصيص من خلفها. تناديني «أم نظيرة» لأخرج كي تكنس الغرفة.
أبي فوق الفراش والمسبحة في يده. شيش البلكونة المقابلة مفتوح لكن ستارة من الدانتلا المخرمة مسدلة خلف مصراعه الزجاجي. البلكونة صغيرة وضيقة مثل بلكونتنا وبلكونات الطوابق الأولى. فوقها بلكونتان كبيرتان متجاورتان في شقة واحدة. يسكنها موظف متزوج من امرأتين لكل منهما بلكونة. واحدة مفتوحة والأغطية منشورة فوق سورها. الثانية مغلقة. معنى ذلك أنه قضى الليلة فيها. سيأتي الدور اليوم على البلكونة الأخرى.
أقف خلف الزجاج. ألصق وجنتي بسطحه لأتمكن من رؤية المنزل الواقع على الناصية. نافذة «صبري» أفندي مفتوحة. تظهر زوجته لحظة ثم تختفي. قصيرة سمينة. يمتلئ وجهها بحبوب الحمونيل. أولادها أيضا: البنت الكبيرة «سهام» والوسطى «سها» والصغيرة «سلمى» و«سمير» الأصغر منها.
تنادي علينا «أم نظيرة» لنغادر الغرفة كي تكنسها وتمسحها. يترجل أبي من فوق الفراش. يضع قدميه في القبقاب. تفتح باب البلكونة وتجر السجادة وتبسطها فوق السور. تكنس الأرض. نرقبها من مدخل الغرفة. يخشى أن تمد يدها إلى ملابسه المعلقة بالمشجب.
تنتهي من الكنس فتضع الخيشة في جردل الماء. ترفعها وتوزع المياه في أنحاء الغرفة. تركع لتمسح البلاط. يكشف جلبابها عن عظام ركبتيها البارزة. تعصر الممسحة في الجردل. تجفف الأرض. تنتصب واقفة وهي تلهث.
تحمل الجردل وتهم بالانصراف. يستوقفها أبي. يشير بيده إلى منطقة مبللة قرب البلكونة. تقول إنها لا ترى البلل، وإنه على أي حال سيجف بعد قليل لو تركنا باب البلكونة مفتوحا. يزعق فيها: اعملي زي ما بقولك. تنصاع غاضبة.
يخطو أبي إلى الداخل ويغلق باب البلكونة. يظل عندها وعينه على البلكونة المقابلة.
تصيح «أم نظيرة» من الصالة: المية سخنت. أحمل ملابس نظيفة ولوفة وأغادر الغرفة. يتبعني أبي حاملا جريدة قديمة. يغلق الباب بالمفتاح ويضعه في جيب الروب. نتجه إلى غرفة الضيوف. حوض الغسيل الصاج في الوسط. وابور الجاز يعلوه إناء مياه يتصاعد منه البخار. صفيحة من المياه الباردة. يخلع أبي روبه. يقرفص. يخلط المياه الباردة بالساخنة في الحوض ويقيس حرارتها بيده. أحاول أن أتذكر ما قاله مدرس العلوم عن كيفية تعيين نقطة الغليان. المياه تغلي فوق وابور الجاز. تملأ أمي كوزا معدنيا بالماء المغلي. وتضيف إليه مياه الصنبور ثم تصبه فوق جسدي العاري. تملأ كوز المياه الساخنة مرة أخرى. تنسى أن تخففه بالمياه الباردة وتصبه فوقي . أصرخ. يهرع أبي إلي. يحملني إلى غرفة النوم. يجفف جسدي برقة. يرش فوقي مسحوقا أبيض. يلبسني ملابسي ويصحبني معه إلى المسجد.
أخلع ملابسي وأغطس في مياه الحوض. يدعك شعر رأسي بالصابونة النابلسي. يدعك جسدي باللوفة. يطلب مني أن أقف ليشطفني بالمياه النظيفة. يجففني. أتطلع إلى صور الملك على الحائط. يلف صدري بورق الصحف. أرتدي ملابسي فوقها. ينادي على «أم نظيرة» لترمي المياه الوسخة وتملأ الصفيحة من جديد.
نذهب إلى حجرتنا. يخلع الروب والجلابية. يعطيني ظهره ويرفع فانلته الصوفية كاشفا عن ظهره. يطلب مني أن أهرش له. أرتدي نظارتي. أتجنب البثور الزرقاء الثلاثة الموزعة على ظهره. جسمه أبيض على خلاف وجهه وساعديه حتى المرفقين. يطلب مني أن أبحث عن القمل في أنحاء الفانلة. يشير لي أن أدقق في ثنيتي الحياكة على جانبيها. أعثر على واحدة سمينة بيضاء. في ظهرها نقطة سوداء. أفضلها على النوع الأسود الرفيع. أضعها فوق ظفر إبهامي الأيسر. أضغط بظفر الإبهام الأيمن. أسمع طقتها. يسدل الفانلة قائلا: كفاية.
ينتقي ملابس نظيفة من الدولاب. يقول بصوت خافت: خلي بالك من «أم نظيرة». أتبعه حتى باب الغرفة. «أم نظيرة» جالسة إلى مائدة الصالة. تقشر حبات القلقاس.
أجلس إلى مكتبي. أقوم أتلصص على «أم نظيرة» من فتحة الباب. تعمل السكين في حبة قلقاس. تقطعها إلى مكعبات صغيرة.
يخرج أبي من غرفة الضيوف مرتديا جلبابا نظيفا. يطلب من «أم نظيرة» أن ترمي المياه الوسخة وتجفف أرضية الغرفة.
تقول: لما أخلص اللي في إيدي.
يقول إن المياه يجب أن تجفف الآن قبل أن تتجمع في فتحات الأرضية الخشبية. تنهض ممتعضة وتمضي إلى المطبخ. تحضر الممسحة والجردل وتدخل غرفة الضيوف. تخرج بعد لحظة بالجردل. تذهب إلى المطبخ. تعود وتهم بالجلوس. يطلب منها أن تغسل يديها أولا. تذهب لغسلها. أقول له بصوت خافت إنها لم تغسل القلقاس بعد تقشيره. تعود وتجلس. تستأنف تقطيع القلقاس. يسألها عما إذا كانت غسلته بعد التقشير. تقول إنها ستفعل بعد أن تنتهي من تقطيعه. يزعق فيها قائلا: أنا مش قلتلك تغسليه الأول وبعدين تنشفيه بالفوطة؟
تقول: مفيش فرق.
يقول: تعملي زي ما أقولك.
تزم شفتيها. تواصل تقطيع القلقاس في صمت.
يستخرج موسا من علبة الحلاقة. صندوق صغير للسجائر من الكرتون. يفك غلاف الموس الذي يحمل صورة التمساح. يضع قدمه اليمنى فوق حافة السرير. ينحني ويكشط الكالو من إصبعه الصغير. يقول إنه ناتج من الأحذية المدببة التي كان يرتديها في شبابه حسب الموضة. يكشط الكالو من القدم اليسرى. يعيد الموس إلى غلافه. يضعه في العلبة الكرتون. يستخرج منها مقصا صغيرا. يقص الأظافر المتصلبة في أصابع قدميه بصعوبة. يغادر الغرفة ليغسل يديه. يعود يرتدي جوربا من الصوف.
يأتي صوت خطبة الجمعة من راديو «أم زكية». تسكن الطابق الأول في المنزل المجاور وتطل نافذتها على المنور. يرتقي أبي الفراش وينتصب واقفا. يقترب من الحائط. يلمسه براحتيه ثم يرفعهما إلى وجهه ويمسحه بهما وهو يتمتم بالدعوات. ينتهي من التيمم فيستعد للصلاة. أقف بسيارتي الحمراء عند باب حجرة الطعام ويدي على الدركسيون أنتظر بفارغ صبر وعيني على وجهه المتجهم. عزائي أني أشبه سائقي السيارات الذين تحتجزهم إشارات المرور. يصل خطيب الجمعة إلى نهاية الخطبة ويبدأ الدعاء للملك. يبسط أبي سجادة الصلاة في غرفة المسافرين. أنتظر ملولا وأنا أعد ركعاته. يلوي عنقه ناحية اليمين ليسلم على ملاك الكتف الأيمن ثم يفعل المثل مع الملاك الأيسر. وقبل أن ينهض واقفا وهو يطوي السجادة أكون قد انطلقت.
يركع فوق الفراش. أخرج إلى الصالة. أتناول طبقا من فوق البوفيه. أصب فيه من برطمان العسل الأسود. أتفحصه جيدا لأتأكد من عدم وجود نمل. أضيف قليلا من برطمان الطحينة. أتناول رغيف خبز. أوازنه في صعوبة مع الطبق. يهتز الطبق في يدي وتسيل قطرات منه على الأرض. أضع الطبق فوق المائدة. ألعق نقطة عسل فوق إصبعي. تلمح «أم نظيرة» نقاط العسل فوق الأرض. تقول غاضبة: أنا مش حامسح تاني.
تنتهي الصلاة ويظهر أبي عند الباب. يسألها عن سبب زعيقها. يقول لها في غضب إنه لا يسمح لها برفع صوتها علي. يأمرها بأن تمسح بقعة العسل. تنصاع متجهمة. ينتظر حتى تنتهي وتشرع في العودة إلى المائدة فيأمرها بأن تغسل يديها بالصابون.
نعود إلى الغرفة. أنتظر أن يعنفني لكنه لا يفعل. أحتل مكاني خلف المكتب وأفتح كراسة الحساب. يطلب مني أن أراقب «أم نظيرة» حتى لا تشرب السمن. يتربع فوق الفراش. يتناول المسبحة الطويلة ذات الحبيبات الخشبية الداكنة. يبدأ في العد عليها متمتما باسم «لطيف».
أتلصص على «أم نظيرة» من فتحة الباب. أراها تحمل إناء القلقاس وتذهب إلى المطبخ. أتبعها. أتجنب النظر إلى الكنيف. أقترب من باب المطبخ في خفة. أقف لصق الحائط. أمد رأسي قليلا محاذرا أن تراني.
تضع الحلة فوق وابور الجاز بعد أن تضيف إليها المياه. تقشر الثوم وتقطعه بالسكين إلى أجزاء دقيقة. تضعه مع السلق في قلاية معدنية بمقبض طويل. تتناول برطمان السمن. تأخذ منه ملعقة. تضيف محتوياتها إلى السلق والثوم. أحبس أنفاسي عندما تعيد الملعقة إلى البرطمان. تملؤها للمرة الثانية. هل ستشرب السمن؟ أرقب يدها وهي تتجه إلى القلاية.
أشعر بحركة خلفي. يقترب أبي في حذر. يضع يده على كتفي. يمد رأسه ليرقبها. تمسك حلة القلقاس بفوطة وترفعها عن النار. تضعها على المائدة. تضع المقلاة فوق النار. تقلب الخليط بالملعقة. تقترب برأسها لتدقق النظر. تتجه بالملعقة إلى برطمان السمن. يميل أبي برأسه ليتبين ما تفعل. تلتفت فجأة فتلمحه. تصرخ. تفلت يدها مقبض الإناء. تسيل محتوياته على الأرض. تخبط صدرها بيدها: خضتني، حرام عليك.
يلج أبي المطبخ ويزعق: حرمت عليك عيشتك، مش تاخدي بالك.
تصيح: دي مش شغلانة دي. - لمي اللي وقع.
تندفع خارجة: ابقى شوف اللي يلمه لك، أنا مش قاعدة.
يصيح أبي خلفها: في داهية.
4
نسير خلف امرأة متسربلة بملاءة اللف السوداء. تغطي وجهها بالبرقع الذي يكشف العينين ويستند إلى أسطوانة لامعة من النحاس فوق الأنف ثم يغطي الفم بنسيج شبكي. تسير بخطوات سريعة وهي تضم ملاءتها حول جسدها. أتابع بركن عيني نظرات أبي إلى مؤخرتها الممتلئة المترجرجة. أتعثر في طوبة فيعنفني: خلي بالك.
حوار ضيقة مزدحمة . بوابات قديمة ومصاطب حجرية أمام الدكاكين. روائح الطين والعفن ومعاصر الزيوت. تتوقف حتى تمر عربة خضار يجرها جواد. تحكم لف الملاءة السوداء حول جسدها مبرزة تفاصيله. ينبعث منها عطر جميل. أخرج إلى الصالة. أبحث عن أمي. يأتي صوت الموقد المزعج من المطبخ. أتسلل إلى غرفة نومهما. مرتبة. فوق السرير غطاء من الدانتلا المخرمة. أتناول زجاجة العطر الزرقاء من فوق التسريحة وأتشمم حافتها.
تبتعد ثم تختفي. حارة مظلمة. سلم ضيق بدرجات متآكلة. يشعل أبي عود كبريت. نصعد عدة طوابق. نتوقف أمام باب ذي شراعتين من الزجاج. إحداهما مغطاة بلوح من الكرتون. يدق الباب فيتردد صوت غاضب: مين؟ يدق مرة أخرى. تفتح عجوز تحمل مصباح زيت. ترفع المصباح إلى أعلى لترانا. يسقط الضوء فوق وجه شاحب متجهم. عين تالفة اختفت حدقتها تحت جفن منتفخ. الشيخ «عفيفي» موجود؟
تفسح الطريق في صمت. أثاث مكدس قديم. باب يفتحه عجوز ضئيل الحجم. متسربل بقفطان من قماش لامع مخطط. يرحب بأبي ويقوده إلى مائدة فوقها مصباح زيتي. يمشي بصعوبة ويترنح موشكا على السقوط. يضم القفطان حول جسده ويجلس إلى المائدة فوق مقعد. يجلس أبي أمامه وأقف إلى جواره. يتناول زجاجتين ويعد خليطا من سائلين. أحدهما له رائحة المسك. يغمس به قلما من البوص. يجذب صحنا من الصيني الأبيض. يقرب منه عينيه. ينقش عليه مربعات وحروفا غامضة. يسقط ضوء المصباح على وجهه الحليق الضامر وعينيه اللتين ترمشان بصورة متواصلة. عينا أبي متعلقتان بالقلم. على الجدران إطارات لآيات قرآنية. إعلان عن «الكوكاكولا» يقول إنها تروي العطش في الشتاء أيضا. مقاعد بالية مغطاة بقماش متسخ. أحدها بقاعدة متهاوية توشك أن تلمس الأرض.
أتحرك مبتعدا عن أبي. أقترب من الباب الموارب. أضع عيني على فتحته. تواجهني مباشرة دائرة زرقاء ذات سطح بارز. أتبين فيها العين التالفة للعجوز التي فتحت لنا. راكعة على ركبتيها تتنصت. أتراجع ملتجئا إلى أبي. ألتصق به. مائل برأسه ينصت إلى كلمات الشيخ. شفته السفلى ممتلئة ومتهدلة. يقول لأبي: إيه رأيك تشوف لي الطالع؟
يقول أبي مندهشا : أنا ؟ - أيوه أنت. أعلمك. الحكاية سهلة جدا. - طب اعملها لنفسك. - يا ريت. ما ينفعش. - وعاوز تعرف إيه؟ - ما بقي من العمر.
يتنهد أبي قائلا: فات الكتير وما بقي إلا القليل.
يعطيه عملة فضية. يسأله عن واحدة كويسة تنظف وتطبخ. يقول إنه مستعد لأن يتزوجها إذا كانت بنت ناس.
نغادر المنزل ونستقل الترام. أسأله عن العمر الذي سيعيشه. يقول إنه سيعيش حتى المائة. نمر من أمام الخردواتي. مغلق على غير العادة. يتجه أبي إلى عربة يد عليها كتلة ضخمة من العجوة مغطاة بقماش شفاف أبيض. يسقط عليها الضوء من كلوب مثبت وسطها. يشتري رطلا. ينادي علينا الحاج «عبد العليم». ندخل الدكان. الحاج خلف مكتبه. بجواره شيخ معمم يخلو فمه من الأسنان. في يده جريدة «أخبار اليوم». يقول أبي ل «سليم» إن بيضة من التي اشتراها منه قبل يومين ممششة. يجلس أبي على كرسي وأجلس إلى جواره على آخر. يقول «عبد العليم» وهو يتنحنح إن الخردواتي باع كراسة بسعر يزيد مليمين عن التسعيرة الجبرية فحوكم بستة أشهر وغرامة مائة جنيه.
يسأل أبي عن «جمعة» أفندي. يقول شيخ الحارة: مع «زراكش». - «زراكش» مين؟ - هو إنت متعرفش؟ الجنية اللي اتجوزها.
يسأل أبي في اهتمام: اتجوز جنية؟ إزاي؟
يقول «عبد العليم» إن قطة بيضاء اللون لزقت له وصارت تشاركه الفراش. وفي يوم رآها تقف على ساقيها الخلفيتين ويأخذ طولها بالتمدد ثم خلعت فراءها فكشفت عن فتاة غاية في الجمال. سألها عن اسمها فقالت إنه «زراكش». شرعت ترقص له ثم طلبت أن تتزوجه قائلة إنها مسلمة مثله.
يستفسر أبي عن الجزار المختفي. يقول «عبد العليم» إنه تزوج على امرأته. يسأل أبي: بنت بنوت؟ لا. مطلقة تزوجت من قبله ثلاثة رجال. ترك الدكان لابنه وانتقل من الحي. يقول إن «أم نظيرة» جاءته اليوم وتوسلت إليه. هي مستعدة تقبل جزمته لتعود. يقول أبي في حسم: لا. مش عايزها. يستفسر «عبد العليم»: جربت مكتب التخديم؟ يقول أبي إنه لا يطمئن إلى بناته. ثم إن صاحب المكتب يأخذ عمولة كبيرة .
يدخل الدكان رجل أسمر أنيق بقميصه الأبيض ياقة منشاة وفوق رأسه طربوش مائل ناحية اليسار. يرحب به شيخ الحارة: أهلا «رأفت» أفندي. يأخذني أبي فوق ركبتيه ليجلس «رأفت» مكاني. يقول إنه دافع اليوم عن امرأة مهددة بالإعدام. عمرها ثلاث وعشرون سنة ومتزوجة من عجوز تجاوز الستين. نقلوه إلى المستشفى في حالة قيء.
يسأل «عبد العليم»: كوليرا؟
يهز المحامي رأسه: لا، الكوليرا الوقت في إجازة لغاية الصيف. - أمال إيه؟
يقول المحامي إن العجوز اتهم زوجته بمحاولة تسميمه لتتخلص منه وتتزوج بشاب في سنها. وأثبت الطبيب الشرعي أن الشيخ تناول كمية من الويسكي ممزوجة بزيت الكافور.
يتوقف المحامي ويقول: كل الأدلة ضد البنت. وكانت حتروح أونطة لولا إني سألت العجوز ثلاثة أسئلة.
يرددون جميعا في صوت واحد عدا أبي: إيه هي؟
يقول: سألته إذا كانت عادته أن يدهن ساقه بزيت الكافور قبل النوم. الراجل قال أيوه. سألته عن مكان قزازة الكافور. قال على الكوميدينو جنب السرير. سألته: وفين كانت قزازة الويسكي؟ قال: جنب الكافور.
يتطلع إلينا مزهوا: المحكمة استدلت إن الراجل لما سكر صب من الكافور بدل الويسكي.
يعلق الشيخ المعمم وهو ينظر إلى أبي: ده نتيجة جوازه من بنت في عمر بنته. يتجهم وجه أبي. يتدخل شيخ الحارة عارضا على أبي أن يشترك مع بقية الشلة في شراء «الأهرام». يدفع كل واحد قرش صاغ ويقرأ الجرنال طول الشهر. يقول أبي إنه يقرأ الجرنال عند الجزمجي. وعلى العموم أخبار النهارده زي إمبارح.
يقول «رأفت» أفندي: على رأيك. شوف خبر النهارده عن يهود «اليمن» وازاي «إنجلترا» بتهربهم «فلسطين». من ساعة التقسيم والمراكب رايحة جاية تلمهم من كل حتة.
يضيف بصوت خافت إن طلبة الجامعة مزقوا صورة الملك ولقبوه بملك «مصر والسودان وسامية جمال». يقول الشيخ «فضل» إن الملك ترك «سامية جمال» من مدة واستبدلها ب «أم كلثوم». يقول المحامي إنها وضعت جهاز تكييف في فيلتها.
يقول الشيخ المعمم إن ابنه حصل على البكالوريا بالمجانية في الجامعة فعمل في مديرية «قنا» بستة جنيهات درجة تاسعة . يقول المحامي إن «لطفي السيد» باشا رئيس المجمع اللغوي يأخذ 9 جنيه شهريا وعلاوة غلاء 3 جنيهات. وكان يأخذ 4 جنيهات في الشهر عندما توظف في النيابة من خمسين سنة. يقول الشيخ: أقة السكر بالكوبون 75 مليما وثمنها في السوق السوداء 200 مليم.
يسأل الحاج «عبد العليم»: قريتم «فكري أباظة»؟ بيطالب بفرض الضرائب التصاعدية وتحديد الملكية وتوزيع الأراضي ومحاربة الغلاء. يعلق الشيخ بأن الدعوة إلى تحديد الملكية تخالف الدين، وأن شيخ الأزهر أفتى بذلك. يقول شيخ الحارة: سيبونا بأه من السياسة، تسمعوا آخر نكتة؟ يقول إن مترو «مصر الجديدة» له خطان، واحد يتوقف في محطة «منشية الصدر» والثاني يتوقف في محطة «منشية البكري»، وذات يوم صعدت فتاة ذات صدر بارز وسألت الكمساري عما إذا سيتوقف في محطة «منشية البكري»، قال وهو يتطلع إلى صدرها: لأ. رايحين «منشية الصدر» ونقف هناك.
يضحك الجميع عدا أبي. ينهض واقفا ويستأذن منصرفا. أسأله ونحن ندخل الحارة عن معنى النكتة ولماذا ضحك الجميع. لا يرد. أسأله: هو شيخ الحارة بيعمل إيه؟ - يقعد ساعة كل يوم في قسم البوليس. يمضي الشهادات والأوراق الشخصية لأهل الحتة. - وياخد كام ماهية؟ - ملوش ماهية. بياخد من الناس. بيطلع بقرشين كويسين.
أسأل ونحن نلج منزلنا: هي ماما عندها كم سنة؟
يرد في اقتضاب: ستة وعشرين.
5
نترك ترام رقم 3 عند نهايته في ميدان «العباسية». نستقل الترام الأبيض الذاهب إلى «مصر الجديدة». ننطلق بحذاء ثكنات الجيش الإنجليزي. الطريق تحف به الأشجار. ضوء النهار يوشك أن يتلاشى. مستشفى عسكري: شرفات خشبية في مبان من طابق واحد.
نغادر الترام في محطته الأخيرة بميدان «الإسماعيلية». مقهى محاط بالزجاج. عجوز أرمني يدير صندوق بيانولا. صالة باتيناج. شارع مظلم به منازل ذات حدائق مسورة. روائح الياسمين. باب حديدي مغلق تتوسطه سلسلة بقفل. ندخل من باب جانبي. ممر مرصوف ببلاط ملون. درجات رخامية عريضة. الباب المطل على السلم مغلق. لا يستعمل إلا في الصيف. نطرق الباب المجاور. تفتحه «سعدية» زوجة البواب. ضئيلة الجسم شاحبة الوجه. يرحب بنا عمو «فهمي» زوج أختي: أهلا أهلا ، البيت نور. طويل وعريض في روب من الصوف السميك الكاروهات. سيجارته في يده. يعمل محاسبا في شركة أجنبية. يتقدمنا بنشاط إلى غرفة الترسينة القبلية. أرضها من الخشب. يخلع أبي معطفه. يتناوله منه عمو «فهمي». نجلس فوق كنبة في مواجهة الباب. أمامنا مائدة معدنية فوقها صندوق «طاولة» مغلق.
تنضم إلينا «نبيلة». أختي من أبي. نحيفة مثلي وشعرها ناعم وطويل. ترتدي روبا من الكستور وفي قدميها مانتوفلي وردي اللون تعلوه وردة من قماش منفوش. يبدو منه جورب أبيض سميك. في يدها مقلم أظافر. تقبل أبي في خده فيرد القبلة بصوت مسموع. تصرخ ضاحكة: شنبك بيشوك. تجلس إلى جواره من الناحية الأخرى. تواصل تقليم أظافر يدها. تحني رأسها لأن نظرها قصير.
يسأل أبي عن «شوقي» و«شيرين». تقول أختي إنهما عند «سميرة». يجلس زوجها على مقعد في مواجهتنا. يرفع غطاء صندوق الطاولة. تقول أختي: سيبه ياخد نفسه الأول. يبتسم في حذر وهو ينظر إلى أبي بعينين ضيقتين. يمر بيده على شاربه القصير. يستخرج علبة سجائر معدنية من جيب الروب. ثلاث خمسات. يفتحها ويلتقط منها سيجارة. يشعلها بولاعة مبططة. أصابعه سمينة مدورة الأطراف ومقصوصة بعناية. أطرافها مكسوة بلون النيكوتين الأصفر.
يسأله أبي: ولاعة جديدة؟ - «رونسون»، تضغط عليها تولع وتنطفي من نفسها.
يدلي يده اليمنى في حذر بجوار المقعد وينفض رماد السيجارة. لا تغيب هذه الحركة عن أختي فتخاطبه في حدة: فين الطفاية؟ يقوم مسرعا وهو يحافظ على ابتسامة متكلفة: حاضر يا ستي. يجذب منفضة السجائر من فوق مائدة صغيرة بسيقان رفيعة مذهبة. يضعها بجوار صندوق الطاولة. يتطلع إلى وجهه في مرآة مستديرة على الحائط المواجه. يسوي شعر رأسه الخفيف بيده اليسرى. تضع أختي المقلم جانبا وتتناول مشطا تجريه في شعرها الناعم الطويل.
يوجه عمو «فهمي» نظرة جانبية حذرة إلى أختي: أبيض ولا أسود يا «خليل» بيه؟ يعتدل أبي في جلسته ويشعل سيجارته السوداء يسحب منها نفسا ثم يضعها على حافة المنفضة. يلقي بالزهر. أنحني فوقه لأرى النتيجة. يبعدني بساعده. يقول: أسود، زي حظي.
تحضر «سعدية » صينية الشاي الأخضر. يقدم لنا عمو «فهمي» صندوقا مستطيلا من الصفيح. أتناول منه قطعة شكولاتة في حجم الليمونة. أفك غلافها المفضض. أبسط ورقة الحظ الشفافة وأقرأ: «يا مسهرني.» يكمش أبي ورقته ويلقي بها في المنفضة. ألتقطها وأبسطها. «نجاح مؤكد فيما أنت مقدم عليه».
تقلب أختي صحيفة «الأهرام». تقول إنها تريد أن ترى «إليزابيث تايلور» في فيلم «ليدي هاميلتون».
أتسلل مغادرا الغرفة. إلى اليمين حائط يفصل بين المطبخ والردهة. يأتي من خلفه صوت حركة «سعدية». إلى اليسار باب يؤدي إلى الصالة. مائدة الطعام بين بوفيهات ضخمة تعلوها مرايا مستطيلة. راديو «جروندج» كبير الحجم. أدور حول المائدة حتى غرفة المسافرين. بابها مغلق. أتطلع من ثقب المفتاح. أتبين في الظلام هيكل الباب المؤدي إلى الفرانده. ألف حتى غرفة النوم. أفتح بابها وأدخل. دولاب عريض تتألف واجهته من ثلاث مرايا متجاورة. بجواره شماعة خشبية مغطاة بقماش أبيض نظيف. سرير بأعمدة نحاسية. فرش مرتب بغطاء من الدانتلا كالذي كان عندنا في المنزل القديم. أتجه إلى المرآة المجاورة له. أسفلها صف من زجاجات الروائح وعلب الكريمات: «شانيل 5». «كولونيا» «أتكينسون». علبة «ماكس فاكتور». زجاجة زرقاء مثل التي كانت عند أمي. أتحسس الزجاجات وأشم روائحها.
أخرج وأغلق الباب في هدوء. أنتقل إلى غرفة الأولاد. أفتح بابها. سريران متواجهان بجوار كل منهما مكتب صغير. فوق كل منهما مقلمة ملونة ذات غطاء متحرك يكشف عن أماكن للأقلام والممحاة والبراية. دولاب عريض. كل شيء مرتب ونظيف. فوق الدولاب صندوق الكرتون الملون. تنزله أبلة «نبيلة» وتضعه فوق السجادة. تستخرج منه عددا من القضبان الحديدية. تصلها ببعضها البعض على شكل دائرة. تضع فوقها عربات قطار. سيمافور ومزلقان ثم محطة. سلم بدرجات صغيرة. الأجزاء كلها بألوان لامعة. ليس بها خدش واحد. تدير الزنبرك فينطلق القطار ويلف الدائرة وسط الأنفاس المبهورة. ممنوع اللمس. تدير الزنبرك مرة أخرى. وبعد لفتين أو ثلاث تقول: كفاية. تعيد كل شيء إلى الصندوق ويختفي فوق الدولاب.
أغادر الغرفة وأغلق بابها. أخرج من باب الصالة. أعبر الردهة إلى الطرقة المجاورة للمطبخ . الثلاجة الخشبية التي تغلق في الشتاء ويوضع الثلج فوق أنابيبها في الصيف. أتجاوزها وأمر بالحمام الأفرنجي. في نهايتها الحمام البلدي. أفتح بابه. أقف فوق القدمين الرخاميتين البارزتين بجوار فتحته. أتبول. أغادر الحمام. أغلق بابه خلفي. أدخل الحمام الآخر الكبير. تواليت أفرنجي ودوش أعلى البلاعة. أغسل يدي وأتأمل محتويات رف المرآة. صابون «سلكت». علبة أمواس «جيليت». أنبوبة. «كولينوس». مرهم «زامبوك» للبشرة وإزالة الشعر. «نولين» لفرد الشعر. برطمان «بريلكريم». أنزع غطاءه. أزيل قطعة بإصبعي. أدعك بها شعري. أعيد الغطاء مكانه. أتأمل شعري في المرآة. أكرت كما هو بلا تغيير. أغادر الحمام. أتوقف قرب غرفة الترسينة.
صوت أبي: بتشوفي أخوك؟ صوت أختي: قليل، وأنت؟ - لسه مقاطعني من ساعة ما ماتت المرحومة وعرف إني متجوز. - و«روحية» عاملة إيه؟ صوت أبي: زي ما هي. - والتركية؟ اسمها إيه؟ بسيمة؟ متربعة فوق كنبة مغطاة بقماش ملون وأنا إلى جوارها. بيضاء سمينة. ترتدي فستانا أحمر لامعا وتغطي رأسها بطرحة بيضاء. على الجدار صورة ضابط كبير ذي شارب ضخم فوق جواد وسيفه مرفوع في يده. تعطيني قطعة كبيرة الحجم من الشوكولاتة. أمزق غلافها الأحمر المذهب من جانب وأقضم قطعة ثم أعيد الغلاف مكانه. أضعها في جيب سترتي. بعد قليل أخرجها وأقضم قطعة أخرى. همهمة أصوات في حجرة المسافرين المجاورة. أميز صوت أبي وصوت رجل آخر. السيدة السمينة تصغي للأصوات في اهتمام. تكتشف أني أرقبها. تنادي على الخادمة وتأمرها بفتح الراديو. موضوع فوق رف صغير على الحائط المواجه. مغطى بغلاف من القماش الأبيض. تسألني عن سني. أقول: تسعة. تنصت للراديو. حوار ثم موسيقى. أتجرأ وأسألها: إيه ده؟ تقول: فيلم. - فيلم إيه؟ - الماضي المجهول. أتعرف على صوت «ليلى مراد» تغني: «منايا في قربك أشوفك بعيني.» أنهض وأقترب من حجرة المسافرين. الباب ذو المربعات الزجاجية موارب. أنصت للحديث. صوت الرجل: الولد كبير. صوت أبي: لكن مجتهد في دروسه ويسمع الكلام. يخرج. يأخذني من يدي ونتجه نحو باب المسكن. السيدة السمينة اختفت لكن «ليلى مراد» ما زالت تغني.
صوت أبي: بريتني وكل واحد راح لحاله.
أختي: بطل بأه يا بابا.
والله أنا اتجوزتها لما غلبت مع الخدامات والطباخات. - إنت يا بابا محدش يقدر يتحملك.
يسأل أبي عن «سميرة» أخت عمو «فهمي». تقول إنها مشغولة بتجهيز ابنتها من موبيليات «السمري». تسأله عن عمي. تقول إنه لم يظهر منذ العيد الماضي. يتوقف الحديث ويتردد صوت الزهر وهو يصطدم بقاع الطاولة. صوت عمو «فهمي»: الظاهر إنهم حيقفلوا بيوت الدعارة. صوت أختي: والبنات تروح فين؟ - ينزلوا الشوارع بأه.
أدخل غرفة الترسينة. يتوقف الحديث. أقف إلى جوار أبي. يلعب بغير حماس. ينتهي الدور بانتصار زوج أختي. يغلق أبي الطاولة قائلا إن الدنيا ليلت ويتعين أن نذهب. يغادر عمو «فهمي» الغرفة ليحضر علبة سجائر جديدة. يميل أبي ناحية «نبيلة» ويهمس لها بشيء. تهز رأسها بالرفض. ينهض أبي واقفا. يعود عمو «فهمي». يحلف علينا بالبقاء. تنضم إليه أختي: باتوا هنا. العشا جاهز. تفرش لنا مرتبة وثيرة على الأرض تغطيها ملاءة نظيفة لها رائحة مميزة. ربما زهرة الغسيل مع الديتول. المخدات طرية ونظيفة وليست متعجنة متخشبة كمخداتنا. اللحاف أيضا نظيف ورائحته حلوة. يرتدي أبي جلبابا مخصصا له. أبيض زي الفل. يظل النور مضاء وتأتيني أصوات زهر الطاولة.
يصر على موقفه. تحضر أختي بنطلون بيجامة صغيرا وردي اللون. - فاكر يا بابا البيجامة دي. إنت جبتهالي وأنا في الابتدائية. كنت حارميها وبعدين قلت تنفع. تقربها مني وتقيس طولها على ساقي. تلفها في صحيفة. يأخذها أبي صامتا. يشعل عمو «فهمي» نور السلم. - ما تغيبش علينا يا بابا. - تصبحوا على خير.
السلم يضيئه مصباح في كل طابق، لكن مصباح الطابق الأرضي مطفأ. نتقدم في الظلام حتى الباب الخارجي. أنصت لصوت الكلاب. أتعلق بيد أبي. نخرج إلى الشارع. رائحة الزهور من حدائق الفيلات. نقف عند محطة الترام. تمر سيارة على مهل. يميل سائقها على امرأة بجانبه ويقبلها في فمها. أضع ذراعي على ساعد أبي لألفت نظره إلى الأمر. - في إيه؟ لا أرد.
نسمع صوت الترام قبل أن يظهر. ينطلق بنا في سرعة هائلة. تتأرجح العربة يمينا ويسارا. أبي متجهم. أسمعه يغمغم: قلبي على ابني انفطر وقلب ابني علي حجر. المحطات خالية فنجتازها دون توقف.
ننتقل في «العباسية» إلى الترام الآخر. نغادره في الميدان. نعبر الشارع. نتوقف أمام مخبز «عبد الملاك» الأفرنجي. يشتري أبي كيسا من الكعك الهش المرشوق بالسمسم. نمضي في طريق جانبي كي لا نمر على دكان البقال. الحارة مظلمة ومدخل منزلنا أيضا. ندخل الشقة في الظلام. مصباح الصالة محترق. أتعلق بملابس أبي حتى يفتح باب حجرتنا ويضيء مصباحها. يعد كوبا من الماء المحلى بالسكر. نضع المائدة الصغيرة أمام السرير ونجلس حولها. نغمس البسكوت في الماء. يقول إن بيتنا أحسن مكان في الدنيا.
6
أفتح كراسة العلوم القديمة. أتأكد من وجود ريش الطيور المثبت في الصفحات. أتوقف عند الهدهد الذي أحبه. يخفت ضوء المصباح الكهربائي ككل ليلة. أتناول كتاب تاريخ مصر الفرعونية ذا الغلاف الأزرق. أقلب صفحاته متأملا الرسوم. «مينا» ذو التاجين. ينتهي من صلاة العشاء فوق السرير. يترجل. يضغط الطاقية الصوفية فوق رأسه وحول رقبته. يحكم روبه حول جسده. يضم قبضتيه ثم يسندهما إلى حافتي جيبيه. يقطع الغرفة جيئة وذهابا. «يضرب بلطة» كما يقول. يراها ضرورية بعد تناول العشاء.
أشكو من البرد. يحضر وابور الجاز من الصالة ويشعله ويضعه عند الباب قرب حافة السجادة. يتمزق غلاف كراسة. أعهد إليه بإعادة تغليفها. أناوله فرخ ورق التجليد الأصفر. أحضر له المقص فيرفض استخدامه. يجلس فوق حافة الفراش يطوي الورقة ويمر عليها بأصابعه عدة مرات. ثم يمزقها عند الثنية بعناية. ينفصل فرخ الورق إلى قسمين متساويين ليس بهما أثر القطع. يضع أحدهما جانبا ويضع الكتاب بين دفتي الآخر. يثني الورقة داخل الغلاف الأمامي للكتاب ثم يطوي حافتها العليا. يدسها بين الورقة والغلاف. يكرر الأمر عند الحافة السفلى. ثم ينتقل إلى الغلاف الخلفي ويكرر العملية.
يدق باب الغرفة. أفتحه لعمو «كريم» الكونستابل. يرتدي معطفا عسكريا أسود فوق جلباب أبيض. له شارب كثيف يمتد بحذاء شفته العليا. يرحب به أبي ويومئ له أن يجلس على حافة الفراش. أعود إلى مكتبي. يصبح ظهره لي. أتشمم رائحة معطفه العسكري التي أحبها. يتربع أبي فوق السرير. يستدير بجسمه قليلا حتى يصبح في مواجهتنا أنا والكونستابل. يسند ظهره إلى حافة القائم الحديدي عند رأس السرير.
يخرج الكونستابل من جيب معطفه علبة سجائر «هوليوود». يقدم واحدة إلى أبي فيعتذر. يبرز علبة سجائره السوداء. غلافها الأصفر يتوسطه رأس حبشي أحمر. يشعل الكونستابل عود ثقاب. يمد يده. يحني أبي رأسه مقربا سيجارته. يبقي طرف السيجارة في النار حتى تتوهج. أحمل منفضة السجائر من فوق المكتب وأضعها بينهما فوق الأغطية. يضع الكونستابل ساقا على ساق ويشبك يديه فوق ركبتيه. تظهر ساعة ذهبية في معصمه.
يتطلع حوله. يقول: إنت معندكش راديو ولا إيه؟ - الراديو بتاعنا بيتصلح.
أعرف أن هذا غير صحيح. فقد باعه أبي من زمن. يواصل الكونستابل كأنه لا يصدق أبي: فيه راديو فيلبس ب 12 جنيه. - يعني ماهية شهر. - ده سعره بالتقسيط.
يقترح على أبي أن يلعبا الدومينو. يستخرج من جيبه كبشة قصاصات متساوية من ورق سميك رمادي اللون. يسوي أبي الأغطية. يجذب وسادة الرأس الطويلة فيثنيها ويضعها بينه وبين الشاب. يطلب مني أن أناوله نظارته من فوق المكتب. يضع «كريم» الأوراق فوق الوسادة. يتناول أبي إحداها ويتأملها. يقول الكونستابل إنها تذاكر القطار الذي يستقله عندما يزور أمه. يخلط الأوراق بين راحتيه مثل الكوتشينة. يضعها فوق الوسادة. يختار كل منهما 7 ورقات. يسند أبي سيجارته إلى حافة المنفضة. يصف الورقات على راحتي يديه. يقيمها على حدي الكفين بحيث يبعدهما عن نظر الآخر. يفعل الآخر المثل. يكشف ورقة ويضعها في منتصف الوسادة. يقول: دبش. التضمين من 101.
يلحظ أبي أني أتابع اللعب فينهرني. يطلب مني أن أنهي واجباتي وأرتب حقيبتي. تسقط ورقة دومينو على الأرض فأسرع بالتقاطها. عبارة «المطرية - كوبري الليمون» مكتوبة بالأسود على أحد وجهيها. على الوجه الآخر دوائر مرسومة ومسودة بقلم الكوبيا. في أحد جانبيها أثر مقرض على شكل مثلث صغير.
ينتقي أبي من ورقه واحدة. يلصقها بالدبش قائلا: دو. يضع الكونستابل ورقة. يضطر أبي للسحب من كبشة الأوراق. يروي قصة «أبو شبت» الذي رأيناه في الكنيف. يقول «كريم» إنه يتسلل إلى أماكن الجسم الدافئة خاصة بين الفخذين أو أسفل الركبة. يكمن بها حتى يشعر بالحرارة. عندئذ يلدغ ويقتل. يقول أبي إنه نوع من العناكب وغير مؤذ. يضيف: الشقة لازم تتبيض.
يقول الشاب: أو الواحد يدور على مكان تاني. - رجلي على رجلك. إنما فين؟ كنا فاكرين السكن حيرخص بعد ما الإنجليز خرجوا من «القاهرة». لكن الدنيا بقت نار. - سمعت حضرتك عن شقق الأوقاف؟ - أيوه. الوزارة حددت إيجار الأوضة الواحدة فيها بخمسة جنيه. يعني الشقة توصل لعشرين أو تلاتين جنيه في الشهر. يعمل إيه الموظف اللي مرتبه بين 10 و15 جنيه؟ - جهار يك. أنا حاكلم الحاج «عبد الرازق». - مين ده؟ - تاجر كبير في وكالة البلح. بيبني عمارة في آخر شارع «النزهة».
يحكي أنه في الأصل بائع متجول للزجاج. وقبل الحرب تعاقد مع شركة أدوية على أن يورد لها عشرة آلاف زجاجة فارغة. الواحدة بمليمين. كان سيكسب في الصفقة كلها عشرة جنيه. وفجأة قامت الحرب وفسخت الشركة الاتفاق. اضطر للعمل في معسكرات الجيش الإنجليزي. وبعد الحرب ارتفعت الأسعار ووصل ثمن الزجاجة الفارغة إلى 4 قروش. فباع كل ما عنده لمصنع بيرة ب 400 جنيه وأصبح لديه رأسمال.
يقول أبي: يرزق من يشاء بغير حساب.
يهز الكونستابل رأسه. يقول إن الحظ له عمايل. وإنه يعرف واحدا اشترى مخلفات معسكر بريطاني ب 100 ألف جنيه. ووجد فيها كمية براميل ضخمة من الصلب. وعندما فتحها وجدها محشوة بإطارات السيارات. باعها بخمسين ألف جنيه.
أسعل بشدة. يقوم أبي إلى باب البلكونة ليواربه كي تتخلص الغرفة من دخان السجائر. يقول «كريم» إن الناس تؤلف الآن جمعيات من عدة أفراد يدفع الواحد منهم مبلغا كل شهر ويقبض أنصبة الآخرين. يلزم أبي الصمت ولا يعلق.
يخلط الكونستابل أوراق الدومينو ويضعها على الوسادة: إذا كان عندك فائض من كوبونات السكر والكيروسين 18 لتر أشتريهم. يصيح بي مدرس الحساب: مد إيديك. أبسط يدي الباردتين وراحتيهما إلى أسفل. يرفع المسطرة في الهواء. يديرها ليهبط بسنها على ظهر يدي. أقول إني أحضرت كوبونات الكيروسين. يبعد المسطرة.
ضجة في الحارة. يتعالى صراخ أكثر من شخص. يتلاشى بعد قليل. يقول الكونستابل: ده الراجل اللي متجوز اتنين.
يستفسر أبي عن سكان البلكونة المقابلة. يقول الكونستابل إنه طالب في الطب مع أختيه، وإنهما تقفان طول الوقت في البلكونة في انتظار العدل. - والبنات اللي في أول الشارع؟ - دول ولاد «صبري» أفندي الموظف في وزارة الحقانية. أكبرهم اسمها «سهام». طول الوقت واقفة في الشباك. مستنية العدل هي كمان. - والست اللي فوقينا؟ - حلوة، مش كده؟ دي ممرضة. الظاهر مطلقة أو أرملة. ساكنة وحدها مع ابنها.
يقول أبي: يا ريت ألاقي واحدة طيبة بنت ناس ترضى بشيبتي وتربيلي الولد. تعبت من الخدامات والطباخات. - وتتجوزها؟ - آه. بس تكون مبتخلفش. - يمكن ألاقيلك واحدة عندنا في البلد.
نتشاجر أنا وابن الطباخة. تعامله «بسيمة» كأنه ابنها. أنتظر في الصباح حتى تخرج من غرفة النوم إلى الحمام. أدخل لأشكو لأبي. واقف بجوار السرير. يثبت حزام الفتاق. وجهه متجهم. فوق كوميدينو بجوار الفراش زجاجة صغيرة عليها صورة أسد.
يغادر الكونستابل الغرفة ويعود بقطعة قماش وبيجامتين. القماش سميك ذو لون بني داكن. يقول أبي وهو يفحصه: ده قماش ستاير. يقول الكونستابل: وينفع بدلة. يبسط البيجامتين. واحدة بيضاء مخططة. لها زراير من الصفيح. يقول أبي: دي بتاعة أسرى الحرب. يطلب مني ارتداءها. أجدها على مقاسي. الأخرى لونها سمني. بزراير من الصدف. يقول إنها خفيفة تصلح للصيف. يستمهله أبي حتى أول الشهر.
يقول الكونستابل: خلي عنك. من غير فلوس. يضع أبي القماش والبيجامتين جانبا. يقول الكونستابل: عندي كمان شرابات نايلون للستات. يضحك أبي: إنت شايف حد منهم هنا؟
7
يضع كوبا من الماء فوق سطح المكتب. يخرج من الدولاب المرآة ذات الإطار المعدن «المكسور» وصندوق الكرتون الصغير الذي يحوي عدة الحلاقة. يضعهما على المكتب ويجلس خلفه. يدس الفرشاة ذات القاعدة الخشبية والطلاء المقشور في الماء. يدعكها في قطعة من الصابون على شكل شمعة بغلاف من ورق مفضض. أسأله إذا كان ينوي الخروج. لا يرد علي . يدهن ذقنه عدة مرات حتى يصنع رغوة كبيرة. يفض غلاف الموس البنفسجي. يحرك حافته فوق كفه السمين جيئة وذهابا. يضعه في ماكينة الحلاقة المعدنية. يمر بها على ذقنه ثم يخلصها من الصابون في كوب الماء. يكرر ذلك عدة مرات. يصبح خداه ناعمين كالحرير. يتناول الفوطة الملونة من فوق حافة الفراش. يزيل بها آثار الصابون من وجهه. ينهض واقفا ويبدأ في ارتداء ملابسه. يتناول البزة الزرقاء. يثبت حمالتي البنطلون في كتفيه. يرتدي الصدرية. من قماش البزة ولونها. ظهرها من قماش حريري أسود اللون. يتدلى من جانبيها طرفا الإبزيم الذي يحبكها على الجسم. يعطيني ظهره لأتولى تعشيق الطرفين. أتوسل إليه أن يأخذني معه. يرفض: لا، إنت وراك مذاكرة. يشير إلى المكتب: تقعد هنا متقومش، أنا مش حتأخر.
يمسح سطح طربوشه بكم سترته. يطوي طرفي شاربه داخل فتحتي أنفه ثم يطلقهما. يبرمهما بأصابعه. يفتح مصراع البلكونة الزجاجي ويرفع شنكل الباب الخشبي. يدفعه إلى الخارج ويثبته بالشنكلين الجانبيين. يغلق المصراع الزجاجي. أطلب منه أن يغلق باب الغرفة خلفه. أنصت إلى صوت إغلاق باب الشقة وخطواته المتمهلة على السلم.
يبتعد صوت قدميه. أغادر مقعد مكتبي أتخلص من البطانية التي أحيط بها جسدي. أجذب باب الدولاب الموارب. أبحث بين الملابس المتناثرة في غير نظام. أجذب مقعد المكتب. أقف فوقه. أرى الكتاب مدسوسا في جانب من الرف العلوي. أحضره الكونستابل وأردت أن أتصفحه فنهرني أبي. الكتاب صغير الحجم وبلغة أجنبية مطوي على صفحة بها صورة تمثال لامرأة عارية. أتبين اسم «فينوس» في سطر أسفل الصورة. أقلب الصفحات. أعيده إلى مكانه.
أتفحص محتويات الرف. زجاجات دواء. أنبوبة زجاجية رفيعة بها ورقة حمراء: حبوب «كارتر» لعسر الهضم. «بلمونكس» للسعال. زجاجة «أسبرو». قطرة «بروتكتين». نصف ثمرة من جوزة الطيب. يضع أبي نتفة منها تحت لسانه عندما يشرب القهوة. برطمان به مسحوق بيكربونات الصودا. يذيبه في الماء ويستنشق منه. بقايا متسخة من عروسة المولد النبوي. حبتان من ثمرة «القراصيا» السوداء. يستخدمها أبي ضد الإمساك. كتاب بغلاف ملون يحمل عنوان «رسول الملكة ». الصفحة الداخلية بها إعلان عن «كرسي الظايط» وآخر عن براندي «أوتار». كاسات الهواء مرصوصة في نظام فوق بعضها. دفتر حكومي كبير يحوي مذكرات أمي. تكتب فيه بالقلم الرصاص بحروف كبيرة. ينتهي السطر فتترك السطر التالي وتواصل الكتابة. تقرأ لأبي بعض ما كتبت. أسمع اسم «هتلر» و«غاندي» و«مايلز لامبسون».
علبة صغيرة بها بطاقات باسم أبي. ليست هناك كلمة «بك». يقول إنها لا تكتب إلا إذا كانت البكوية من الدرجة الأولى أما بكويته هو فمن الدرجة الثانية. صورتان قديمتان في حجم الكارت بوستال. الأولى رمادية يتوسطها إطار بيضاوي. داخله طفل يرتدي فستانا طويلا مزركشا وصندلا أبيض. تحيط بعنقه فوطة بيضاء تتدلى فوق صدره. يقف فوق درجة سلم. يده ممسكة بسياج حجري. تفاصيل الوجه غير واضحة. أقلب الكارت بوستال. في الخلف اسمي كاملا مع اسم أبي بخط أمي.
الصورة الثانية لأبي جالسا بالطربوش والكرافت. بين ساقيه يقف طفل صغير في «بارباتوز» من قطعتين. الأولى تبدأ من الرقبة والثانية تصل حتى الركبتين. الصورة غير ملونة فيما عدا ملابس الطفل. لونها أخضر بشريط أصفر حول الرسغين وحول الوسط. على ظهر الصورة اسمي واسم أبي أيضا. الخط لأمي.
أبحث في بقية الرفوف. كتاب «طبيب العائلة». أقلب صفحاته. وجوه مشوهة في صفحة مصقولة. كتاب عن صلاة الجمعة به «الفاتحة» وبعض الأدعية. «بردة البوصيري». «المحاسن والأضداد» ل «الجاحظ». صفحة مثنية الطرف. في رأسها عنوان «محاسن النكاح». عدد من مجلة «مسامرات الجيب». فوق الغلاف صورة ملونة لممثلة أجنبية جميلة. دائرة في الركن حول ثمن المجلة: «20 مليما». ألقي بها فوق الفراش. كتاب ضخم تتدلى من بعض صفحاته قصاصات من الورق الأبيض. أحمله وأهبط.
أرتقي الفراش وألتف بالأغطية. أقلب صفحات المجلة. صورة فتاة عارية الظهر إلا من كلسون صغير. أتوقف عند النكات المرسومة. أغلبها تصور رجالا بكروش بارزة يدخنون سيجارات كبيرة. أثرياء الحرب. رسم لرجلين بعنوان «في المعرض الزراعي الصناعي». يقول أحدهما: إنت ازاي جايب حماتك معاك في المعرض؟ يرد الثاني: قلت آخذها، ربك كريم، يمكن تتوه منا في الزحمة. واحد يقول لآخر: الأسعار مولعة. يلا نتدفي.
ألقي المجلة جانبا وأتناول الكتاب الضخم: «شمس المعارف الكبرى». الورق أصفر اللون. الكتابة بحرف النسخ في مستطيلات وسط الصفحات وحولها من كافة الجهات الحروف صعبة القراءة. هناك دوائر ومربعات مقسمة إلى خانات تضم أرقاما وحروفا. أفتح الصفحات التي تتدلى منها القصاصات. فائدة للصلح بين الرجل وزوجته. فائدة لتكثير المال. فائدة لإذهاب النسيان. فائدة لطول العمر. فائدة لإخراج الحشرات من البيوت. فائدة لتسهيل الفهم والحفظ. لرد البصر. لمنع النفس عن الشهوات. لجلب الرزق من غير تعب. للاختفاء عن أعين الناس. لقضاء الحوائج والدخول على الحكام. للبليد وإعانته على الفهم والحفظ.
أغلق الكتاب وأعيده مكانه في الدولاب هو والمجلة. أستخرج الهون النحاسي الصغير من أسفل الفراش. أصب به قليلا من السكر ونصف محتويات كيس حمص. أتربع على حافة السجادة قرب الباب. أضع الهون أمامي على البلاط. أدق الخليط بيد الهون. أستمر في الدق حتى يتحول الخليط إلى مسحوق أصفر ناعم. أزيل كتلة منه التصقت بيد الهون. أتذكر أن الملاعق كلها بالصالة. أتطلع إلى الباب المغلق. أحمل الهون في يدي وآكل منه بأصابعي.
أقف خلف باب البلكونة. حبة الحلبة المزروعة داخل قطنة في كوب. نبت لها ساق خضراء دقيقة. الهواء يهزها. البلكونة المقابلة مضاءة. الشيش مفتوح لكن الزجاج مغلق. تتطلع إلي إحدى الأختين من خلفه. تخرج «أم صفوت» من باب المنزل. بيضاء طويلة. عارية الرأس. شعرها الناعم قصير. حول رقبتها كوفية ملونة. وجهها مغطى بالمساحيق. يلحق بها ابنها. في سني. يرتدي بزة مكوية. يسير منكس الرأس. تصرخ فيه.
أنكمش من البرد. أضع الهون فوق المائدة. أتناول ثمرة يوسفندي. أقشرها وألقي بالقشر والبذر أسفل السرير. أنحني وأجذب الحقيبة الكبيرة المنبعجة الجانب. أرفع الغطاء. سطحه الداخلي مغطى بورق أزرق اللون. كتب ممزقة الصفحات. بعضها يحمل شخبطة بالقلم الرصاص. كتاب ذو غلاف ملون مرعب عنوانه «القصر المهجور». حزام عسكري رفيع من الصوف الزيتوني اللون ذو طرف نحاسي يستخدم في ربط الحقيبة عند العزال. دفتر شيكات قديم . كمامة وقاية من الغاز. قطع صغيرة من أقلام رصاص. علب ثقاب فارغة. مطفأة سجائر من الخزف. التماثيل الصغيرة خلف الباب الزجاجي لخزانة مغلقة دائما. صينية مستديرة بقاع من الخزف الملون برسوم يابانية. أخرى مستطيلة ذات سياج معدني مخرم. أضعها أمامي على السجادة وأدفعها وأنا أنفخ مرة كالقطار ومرة كالسيارة. أصف مقاعد السفرة في طابور. أعلق شنطة الكمساري في كتفي. دفتر التذاكر في يدي. صنعها أبي من أوراق ملونة وثبتها بقطعة دوبار في لوح من الكارتون.
أعيد الغطاء إلى مكانه. أستخرج المراكب المصنوعة من الورق. يصنعها أبي ببراعة وسهولة. أحملها إلى الفراش وأرصها. القوارب الصغيرة أولا ثم البوارج الأكبر. أقسمها إلى مجموعتين متواجهتين. لكل منهما سفينة قيادة يميزها عود كبريت في مقدمتها. تدور المعارك بين المجموعتين وتصاب عدة مراكب فتقع على جوانبها. أمل بعد قليل.
فوق المائدة لفافة من الجبن الرومي وأخرى من البسطرمة. أتناول نصف رغيف من فوق المائدة. وأضع فيه شريحة بسطرمة. يتناهى إلي صوت الأولاد في الحارة. أهرع إلى البلكونة. أولاد في سني وأصغر يمسكون بملابس بعضهم البعض على هيئة قطار ويلفون الحارة. تتصاعد أصواتهم: يا وابور يا مولع حط الفحم. يكونون حلقة ويدور أحدهم من خلف ظهورهم. يصيح: الثعلب. يردون في صوت واحد: فات فات. - وديله؟ - سبع لفات. - والدبة؟ - وقعت في البير. - وصاحبها؟ - واحد خنزير. - ما فتش عليكو الديب الديب السحلاوي؟ - فات فات. يطل من النافذة بطاقيته البيضاء المربعة وسيجارته السوداء. عسكر وحرامية. ألعب بجرأة ولا أخشى الأولاد.
صوت «رجاء عبده» من راديو «أم زكية». تختفي الشمس. أشعل المصباح الكهربائي. البطانية باردة. يهز الهواء باب البلكونة. أتناول كتابا باللغة الفرنسية. من كتب «نبيلة» المدرسية. أقلب صفحاته. رسم لرجل تحت المطر. يتغطى بحرملة واسعة. ويرفع مظلة فوق رأسه. شارع خال. قارب. أرهف السمع.
يتردد وقع خطوات متمهلة على السلم. تتوقف الخطوات أمام شقتنا. تتواصل صاعدة إلى أعلى. بابا جاي إمتى. جاي الساعة ستة. راكب ولا ماشي. راكب بسكليتة. يظهر عند باب الشقة في ملابسه الكاملة وطربوشه حاملا كيسا من الورق في ذراعه الأيسر. وجهه الأسمر متهلل. ينحني فوقي. يحتويني بين ساعديه. يقبلني في خدي ويدفن فمه في عنقي. أزيح وجهي لأتجنب شاربه الذي يشك. أقول له: بابا سيب. يداعب ذقني بإصبعه قائلا: حطه يا بطه يا دقن القطة.
أخيرا وقع خطواته. يصعد على مهل وحذاؤه يحتك بالأرض. صوت المفتاح في قفل الباب الخارجي. يفتح باب الغرفة. يدخل ويستدير خلفه: ادخلي يا «أم محمد». تدخل امرأة طويلة شديدة النحافة في رداء ريفي أسود. تغطي رأسها بطرحة سوداء. وجهها شديد السمرة مليء بالتجاعيد. أنف بارز. عينان ضيقتان. تحمل بقجة كبيرة تحت إبطها. تقف وسط الحجرة. يدعوها للجلوس فوق حافة الفراش. تجلس فتستقر قدماها على الأرض. شراب أسود وحذاء أسود قديم بكعب صغير. تضع البقجة بجوارها فوق الفراش. تتجنب النظر إلى أي منا.
يخلع أبي معطفه ويعلقه في المشجب. يقول لها: تعالي أوريك الشقة وتغيري هدومك. تحمل بقجتها في يدها وتتبعه إلى الصالة. - الكنيف هناك. بابه ميتقفلش. الحمام متمسمر. غيري في أوضة المسافرين.
يتركها ويعود. يخلع سترته. يرتدي الروب فوق الصدرية والبنطلون. ينحني أمام الفراش. يستخرج كيس الشعرية وبرطمان السكر. - تاكل شعرية باللبن؟ لا أرد. يغادر الغرفة وأسمع صوت مكبس الموقد ثم أزيز النار. طشيش السمن. يعود بعد برهة بوجه متجهم: اللبن قطع. تدخل «أم محمد» في ثوب أسود طويل. جورب أسود سميك في قدميها. بقجتها تحت إبطها. تضعها على السرير. تجلس على حافته. تستخرج من بقجتها علبة سجائر في حجم الكف. تلتقط منها سيجارة مبططة. يقطب أبي جبينه. يقدم لها علبة كبريت في صمت. تشعل سيجارة. يحضر أبي حلة الشعرية. تقول إنها ليست جائعة. نأكل أنا وهو الشعرية بالسكر دون لبن.
يقترح عليها أن تتمدد على الفراش إذا كانت متعبة. لا ترد. يقول لها: إحنا يا «أم محمد» متجوزين على سنة الله ورسوله. تنهض واقفة. تصعد السرير. تستولي على مكاني بجوار الحائط. أستلقي بجوارها. تأتيني رائحة تراب أو طين. تصطدم ساقاها بقائم السرير. تثنيهما. تصطدم بي ركبتها الصلبة. أبتعد عنها مقتربا من حافة السرير. يطفئ أبي النور ويستلقي إلى جواري. ألتصق به وأحيطه بذراعي.
الفصل الثاني
1
يظهر «ماجد» أفندي في مدخل الدكان. يرتدي بزة كاملة دون معطف. البزة مكوية جيدا. يلمع وجهه في ضوء المصباح الكهربائي. جبهته غائرة يعلوها شعر أسود مصفف في عناية. أذناه بارزتان. يرحب به الجميع. يصيح «عبد العليم»: أهلا بالعريس. يبتسم العريس في زهو. يسأله أبي: اتجوزت جنية صحيح؟ يجذبني من يدي لأترك الكرسي. أقف بين ساقيه ويجلس «ماجد» أفندي مكاني.
تتعلق به أنظار الجالسين: الشيخ المعمم في الجبة والقفطان و«رأفت» أفندي بجريدة «المصري» المطوية في يده. يواصل أبي: وإزي الحال؟ يفكر «ماجد» أفندي لحظة ثم يقول: زي أي جواز. يصيح «عبد العليم»: معقول؟ احكيلنا. تشرب إيه الأول؟ - حلبة باللبن. ينادي «عبد العليم» على «عباس» الواقف عند عتبة الدكان ويطلب منه إحضار الحلبة.
يقول «ماجد» أفندي إنها هي التي طلبت الزواج منه واشترطت عليه ألا يتزوج عليها وألا يتناول الثوم أو البصل في طعام العشاء. يعلق أبي: معها حق. يواصل «ماجد» أفندي: إنه لا ينكر محاسنها؛ فهي تمده بالأموال التي يحتاجها وعند عودته من الخارج يجد الطعام جاهزا مع جميع أنواع الفاكهة في غير أوانها، كما يجد البيت نظيفا والملابس مغسولة. - طيب وأنت زعلان من إيه؟
يقول إنه لا يستطيع السيطرة عليها؛ فهي تحضر فورا بمجرد التفكير فيها وتنصرف وقتما تشاء. وهي تقرأ أفكاره أولا بأول فلا يستطيع الاحتفاظ بأي أسرار.
تأتي الحلبة ويتناول منها رشفة. يميل عليه «عبد العليم» ويهمس في أذنه. يقول «جمعة» أفندي: فوق ما تتصور. يخاطب الجميع قائلا إنها تبذل كل شيء لإسعاده وطرد الملل عن نفسه. وفي بعض الليالي تسأله عن شكل المرأة التي يرغب فيها، وتتشكل في الحال على هيئتها. مرة خواجاية بشعر أصفر ولابسة مايوه. ومرة راقصة شبه «تحية كاريوكا». ومرة في جونلة قصيرة كأنها تلميذة راجعة من المدرسة.
يرين الصمت على الجميع. تدخل امرأة في ملاءة سوداء. تعطينا ظهرها وتطلب من «سليم» خمسين درهم حلاوة. تتجه إليها أنظار الجميع . تضم الملاءة حول جسدها فينكشف جزء من ساقها. تستقر عينا أبي على باطن ساقها الممتلئ. يزيح أبي سترته ويضع يده في جيب الصديري مكان الساعة. يرفع يده اليسرى إلى فمه ويمر بإصبعه فوق شاربه وهو يتبادل نظرة باسمة مع الحاج «عبد العليم».
يهب «ماجد» أفندي واقفا: عن إذنكم يا جماعة، أحسن بتندهلي. يغادر الدكان مهرولا. أستعيد مقعدي. يقول الشيخ المعمم: البنات مش لاقية جواز وهو يروح يجوز جنية؟ يبسط «رأفت» جرنال «المصري». يقلب صفحاته ثم يتوقف عند إحداها. - اسمعوا «درية شفيق» بتقول إيه. خطر العنوسة يهدد بنات مصر لأن الرجال مضربون عن الزواج. يقول الشيخ المعمم: الست دي زودتها قوي. النسوان بقوا يزاحموا الرجالة في الوظائف. وآخر بدعة تعيين بنات العائلات مضيفات في الطائرات.
يميل الحاج «عبد العليم» على أبي ويهمس بشيء. يجيب أبي: مش نافعة. طول الوقت قاعدة جنب البلكونة وفي إيدها سيجارة «كوتاريللي». لا تعرف تطبخ ولا تنضف. تجيب كوز ميه وترميه على الأرض وخلاص. فاكرة إنها قاعدة في البلد وبترش الميه عشان التراب يهدا. يضيف بعد لحظة: النهارده زعقت فيها. قعدت تبرطم طول اليوم من غير ما أفهم بتقول إيه.
يقترح «عبد العليم» الانتقال إلى الخارج لأن الجو دافئ. يحمل «عباس» مقاعدنا ويصفها على الرصيف بجوار المدخل. ألمح الضوء المنبعث من محل الخردواتي. آخذ من أبي تعريفة وأذهب إليه. أشتري قطعة روبسوس مدورة في وسطها حمصة زرقاء.
عند عودتي أجد الدكتور «عزيز» يحتل مقعدي. له كرش كبير متهدل فوق حافة بنطلونه. أقف بين ساقي أبي. يسألني الدكتور عن المدرسة. يشكو له أبي من عزوفي عن الأكل. ينصح الدكتور بأن أتناول «أوفالتين» وفيتامينات. يقول له أبي: أنا كمان تعبان، بتجيلي دوخة ومبقاش قادر أقوم من السرير. - ابقى مر علي في العيادة أقيسلك الضغط.
يسأل أبي الحاج «عبد العليم» عن وعد أصحاب المنزل بفتح باب الحمام وتشغيله. يقول «عبد العليم» إنه كلمهم من غير فائدة. يضيف: ما تروحوا الحمام البلدي في «الحسينية»؟ يهز الشيخ المعمم رأسه: الشخص المحترم ميروحش الحمام البلدي. إنتو عارفين الفضايح اللي بتحصل هناك.
ينضم إلينا قسيس بدين في رداء أسود. رأسه مغطى بما يشبه الطبق الملفوف بقماش مشدود. يسأل «رأفت» أفندي: حد قرا قصيدة «العقاد» الجديدة؟ يستفسر أبي: عن إيه؟ - بيتغزل في شفايف الممثلة «كاميليا». صاحبة الفم الدافئ كما تسميها «أخبار اليوم». يقول الدكتور «عزيز» إنها أصبحت عشيقة للملك. يقول الحاج «عبد العليم»: مسكينة الملكة «فريدة». يقول «رأفت»: إن بائع بطيخ نادى على بضاعته صائحا: بطيخ الملك. واشترى أحد المارة واحدة وعندما شقها له البائع تبين أنها قرعة، هنا صاح البائع: بطيخ الملك «فاروق». يضحك الجميع فأدرك أنها نكتة.
أغادر مكاني وألف بحيث أصبح خلفه. أطل على الصحيفة في يده. صورة سيارة شرطة مكشوفة وبها عدد من الشبان في حراسة الجنود. السيارة تسير في منتصف الشارع. عربة «سوارس» يجرها حماران انتحت جانبا. يقول «رأفت» أفندي: محاكمة «حسين توفيق» و«أنور السادات» قربت تخلص. الدور بعد كده على الشيوعيين.
يقرأ أحد العناوين الجانبية: الحكومة المصرية تتسلم سكة حديد القنطرة. - حيفا من الإنجليز. أبتعد برأسي عندما يطوي الصحيفة. أنظر داخل جيب سترته العلوي الذي يبرز منه منديل أبيض. هناك قلم حبر من غير غطاء وبقعة حبر كبيرة على قاعدة المنديل. يقول في لهجة ساخطة: اليهود ناويين على حرب. واحنا في دنيا تانية. الحكومة بتشتي وبعدين تصيف. والزعماء بيتكلموا عن حاجة اسمها «العمل الإيجابي». ولا حد عارف إيه هو ده العمل الإيجابي.
يتنحنح الحاج «عبد العليم». يقول إن الناس فقدت ثقتها في زعماء الأحزاب وانصرفت عنهم.
يستعد «رأفت» أفندي للدفاع عن حزب «الوفد» وزعيمه «مصطفى النحاس». يخاطبه أبي قائلا إنه كتب شكوى بشأن استبدال المعاش أرسلها إلى جريدة «الأهرام» لكنها لم تنشرها. يشرح أنه استبدل جزءا من معاش التقاعد مقابل أن تخصم الحكومة قسطا كل شهر. - المبلغ خلص وهي لسه بتخصم. ده أفظع من الربا. أنا بفكر أرفع قضية على الحكومة. يسأله المحامي: لما طلبت الاستبدال كنت عارف إنهم حيقعدوا يخصموا على طول؟ يقول أبي إنه كان في أشد الحاجة للنقود. يقول المحامي بلهجة حاسمة: دا تعاقد بينك وبين الحكومة. وأنت وافقت على الشرط ده. العقد شريعة المتعاقدين. يضع ساقا على ساق ثم يضيف: على العموم نقدر نطعن فيه على أساس إنه عقد إذعان.
يتحول أبي إلى القسيس: قول يا مقدس، حنفتح المندل إمتى؟ يجلسون حول دائرة مرسومة على الأرض الحجرية. بها مثلثات ومربعات وكلمات غريبة. يقرأ القسيس بصوت مرتفع من كتاب وعيونهم على الأشكال. يوزع عليهم أبي أطباق الأرز باللبن.
يبدي الشيخ المعمم امتعاضه. يخاطبه الحاج «عبد العليم»: الله سخر الجان لسيدنا «سليمان». إحنا حنكلم الجن المسلم المؤمن. ومش طالبين حاجة وحشة. بس يرفع لنا الكنز من باطن الأرض.
يتحدث أبي عن تجربته في استدعاء خادم اسمه «لطيف». ظل يقرأ عديته كل ليلة. وفي مرة سمع خبطا في الصالة فوق البوفيه. وجاءه صوت غاضب: عاوز إيه. ومن الرعب لم يرد. ولم يعد الخادم بعد ذلك.
يستأذن الدكتور «عزيز» منصرفا. يسأله الحاج «عبد العليم»: ناوي تسمع «أم كلثوم»؟ يستفسر أبي عن الأغنية الجديدة. يقول الحاج: «غلبت أصالح في روحي.» يقول الدكتور إنه سيسمعها في بيته.
يتحدثون عن الحاج «مشعل». يقول «عبد العليم» إنه يعد أوراق البنكنوت من فئة الميت جنيه. كما يعد الناس فكة من أوراق النقد الصغيرة. يضيف الشيخ المعمم أنه كان بائع «روبابيكيا» قبل الحرب.
يمر بائع فاكهة متجول. ينادي علي برتقال «يافاوي». يشتري أبي أقتين. يقول ل «رأفت» أفندي: مين عارف حنشوفه تاني إمتى. نقوم بعد قليل. مدخل المنزل مظلم كالعادة. شقتنا أيضا. ضوء خفيف في مدخل المخزن. مثل شمعة أو مصباح زيت. يدق أبي الباب. يخرج المفتاح ويفتحه. باب غرفتنا مفتوح. الغرفة مظلمة. ينادي: «أم محمد». لا ترد. يكرر النداء. أتعلق بملابسه. ندخل الغرفة ويشعل النور. يغادرها وأنا خلفه. يطوف بأنحاء الشقة مناديا أم «محمد». لا أثر لها. نعود إلى الغرفة. يبحث عن بقجتها فلا يجدها. يقول: الولية طفشت.
يفتش الدولاب. يتأكد أنها لم تسرق شيئا. أجلس إلى المكتب. أفتح كراس الإنشاء . زيارة لحديقة الحيوان. كلب البحر «حسن». القردة «شيتا». «سيد قشطة». أمي في معطف خفيف فوق فستان مشجر. نسير فوق طرقات من الحصى الملون. نجلس في جزيرة الشاي. تقوم أمي فجأة قائلة: لا بد أن نخرج من هنا. نرجع الوقت. يحاول أبي تهدئتها. تردد: حاجة وحشة حتحصل. نعود من حيث جئنا.
2
أقول ل «ماهر» إن قريبا لي يملك سيارة. يختطف «جلال» مسدسي ويرفض إعادته لي. يجذبني من ياقة سترتي فيمزق طرفها. أتوعده بأن أبي سيشكوه إلى الناظر. يقول: طظ.
ننتقل إلى المدرج الكبير لنشاهد فيلم «طرزان في نيويورك». أسير بجانب «لمعي». أطول مني. وجهه متورد وفوق ساقيه زغب أصفر. أدعوه لأن يجلس بجواري. يفضل الجلوس في صف آخر. أخلع نظارتي وأمسح عدستيها بالمنديل. أتابع الفيلم مبهورا. نعود إلى الفصل. نحمل حقائبنا وننزل إلى قاعة الرسم. المدرس يرتدي سترة من الشامواه. هادئ وصموت. يرسم أي شيء بسهولة وسرعة. طاولات الرسم مصفوفة في مربع من ثلاثة أضلاع. يقتصر الضلع الرابع على طاولته أسفل السبورة.
ألقي بحقيبتي فوق الأرض. أجلس إلى إحدى الطاولات. أضع الكراسة على سطحها المائل. يكتب المدرس على السبورة: «شاهدت موكب المحمل في شهر أكتوبر الماضي.» يجلس إلى طاولته. يفتح كراسا عريضا من الورق السميك. ينهمك في الرسم.
أخرج القلم الرصاص والبراية وأفتح كراستي. ننحدر في الطريق حتى بائع الورد ثم ندلف إلى الميدان. نعبره ونقف على الرصيف بين الحشود في انتظار موكب المحمل. ولو كنا محظوظين سنرى الملك في سيارته الحمراء.
أرسم جملا. يشبه الحمار. أزيله بممحاتي. يتبقى أثره واضحا في الصفحة. أتطلع بحثا عن «ماهر» فلا أجده. المدرس منهمك في الرسم. لا يبدو عليه أنه يشعر بوجودنا. يقترب منه أحد التلاميذ طالبا مساعدته. يستجيب ويملأ له الصفحة بخطوط سريعة. يعود التلميذ إلى مقعده. يضع الكراسة في حقيبته. يحملها ويتجه إلى باب القاعة. يتسلل خارجا.
أضع البراية في طرف القلم وأديرها عدة مرات. يبرز السن ثم ينكسر. أبري القلم مرة ثانية. يلجأ تلميذ آخر إلى المدرس. يتبعه واحد ثالث. رابع وخامس. يغادرون القاعة بعد أن يرسم لهم. يتضاءل عددنا بالتدريج. أجد نفسي وحيدا. أحمل كراستي وأذهب إليه. أضعها أمامه دون كلمة. لا ينظر إلي أو يكلمني. يرسم لي جملا باركا بجرة واحدة من القلم. أختلس النظر إلى كراسته. بيوت ريفية متلاصقة. واجهاتها دقيقة التفاصيل. أعود إلى مقعدي. أضع الكراسة في حقيبتي. أحملها وأتجه إلى الباب. ألتفت خلفي. منهمك في الرسم.
نتفرق أمام باب المدرسة. السماء غائمة تنذر بالمطر. رائحة جميلة في الهواء. رصيف الحصى الملون. جدار مدرسة اليهود. إعلان ملون عن فيلم «العقل في أجازة». «محمد فوزي»، «ليلى فوزي»، «بشارة واكيم»، «عبد السلام النابلسي». فيلم «بلبل أفندي» في سينما «الكورسال». «صباح» و«فريد الأطرش».
أدور مع جدار المدرسة عند الناصية. النوافذ الطويلة مفتوحة. أطل على موائد صفت بغير نظام وتناثرت فوقها بقايا حبات قمح. رائحة غريبة. خطوات وأصبح في مواجهة منزلنا القديم. تتراجع السحب وتظهر شمس باهتة. الباب الحديدي مغلق. النوافذ مغلقة. تنهض أمي وتنصرف إلى رضاعة أختي. يرتدي أبي روبا فوق جلبابه ويستبدل الطاقية بالطربوش. يصحبني معه إلى الطريق. نتمشى في الشارع الساكن. نلتقي براهب في ملابس بيضاء. وجهه أبيض شديد الحمرة. يومئ أبي له محييا ويتمتم بالفرنسية: كومنتاليه فو؟ نصعد في الشارع حتى منتصفه ثم نعود. أقترب من سور حديقة مدرسة الراهبات المكون من أشجار كثيفة. أتلصص النظر داخلها. يتوقف أبي في انتظاري. أعرف أنه يراقبني. أتظاهر بالانهماك في الفرجة. يبدأ ضوء الغروب في الانحسار. يناديني بصوته الآمر.
أعبر الطريق. أقف تحت إحدى النافذتين. واحدة لغرفة النوم والأخرى لمائدة الطعام. بجوارها الحارة التي تطل عليها نافذة حجرة الضيوف ونافذة المطبخ المسورة بالقضبان الحديدية. تنتهي الحارة بمخزن لقدور العسل الأسود؛ لهذا تتجمع به الزنابير ذات الأشرطة الصفراء. أحد الأولاد ينجح في اصطياد أحدها. يربط زبانه بفتلة.
تقترب سيارة ملاكي ذات سقف مقوس صاعدة من طرف الشارع المؤدي إلى الميدان. تدلف في الشارع الجانبي الذي يؤدي إلى منطقة العشش. تقف أمام الفيلا التي تبعد عن منزلنا بعدة بيوت. ينزل منها رجل ممتلئ في ملابس ريفية أسفل عباءة سوداء فضفاضة. الرجل نفسه في جاكت أبيض وبنطلون أزرق وحذاء أبيض بصحبة امرأة رائعة الجمال في فستان أخضر. بقعة غائرة في جبهتها بجوار أذنها. يقول أبي إنه من أثر وشم أخضر. يخرجان من باب الفيلا. أقف أنا والأولاد على الرصيف المقابل. نختلس النظر داخل الفيلا. حديقة صغيرة دائرية ترتفع منها نباتات صبار.
تختفي الشمس. يمر ثلاثة رهبان سمان في أردية بنية سابغة. حول وسط كل منهم حبل طويل يتدلى طرفاه من الأمام. عربة كارو محملة ببوبينات الورق. راهبتان سمينتان في ملابس بيضاء. عربة حنطور. نجري خلفها صائحين بالسائق: أبو لبن. فيرفع سوطه في الهواء ويحاول إصابتنا وهو يسب آباءنا. نلمح شابا وفتاة يتمشيان تحت الأشجار. نصيح بهما: سيب النعجة يا خروف.
أعرف أني تأخرت وسأجد أبي ينتظرني غاضبا في البلكونة. سيعنفني على تمزق ياقة سترتي. ثم نأكل طبيخا بايتا. وينشغل أبي في المطبخ. وأبقى وحدي خلف المكتب. ولا يلبث الظلام أن يحل ولا أجد الوقت الكافي لإنجاز واجباتي.
أستأنف السير في غير حماس. أخرج إلى الميدان. أعبر. أتوقف أمام إعلان عن حفلة خاصة للطلبة لفيلم «فتح مصر» بسينما «كوزمو». «الصيت ولا الغنى» في سينما «ماجستيك» «محمد عبد المطلب» و«علي الكسار» و«هاجر حمدي» و«عبد الفتاح القصري» و«إسماعيل ياسين».
أدخل الحارة. ألمح أبي واقفا أمام باب المنزل المقابل يتحدث مع البواب. يشير إلي أن أدخل منزلنا. «عباس» يجلس على درجات المدخل وبجواره زجاجة السبرتو الأحمر التي لا تفارقه. أعبر بجواره في حذر متجنبا رائحته العفنة. ألج المنزل. صوت الراديو: «عبد الوهاب» يغني: «القمح الليلة ليلة عيده.» الصوت ينبعث من داخل الشقة. الباب مفتوح. مصباح الصالة مضاء. حبال الغسيل ممتدة بين باب غرفة الكونستابل وباب غرفة الصالون. امرأة قصيرة بيضاء عارية الذراعين تنشر الملابس وهي تغني مع الراديو. الصالة نظيفة. مفرش المائدة مغسول. سطح البوفيه يلمع. باب غرفتنا موارب. أدخل وأضع الشنطة فوق المكتب. أذهب إلى زجاج البلكونة. ما زال أبي يتحدث مع البواب . يتركه ويتجه إلى منزلنا. أسمع صوت خطواته المتمهلة على السلم. يغلق باب الشقة خلفه. يدخل الغرفة. يغلق الباب. أسأله عن المرأة التي تنشر الغسيل. يقول إنها زوجة الكونستابل.
يقترب من البلكونة. يقف إلى جواري. يتأمل المنزل المقابل. يشعل سيجارته. يتمشى حتى باب الغرفة. يعود إلى باب البلكونة. يظهر البواب بعد قليل في مدخل المنزل المقابل. يعبر الحارة متجها إلى منزلنا. يمضي أبي إلى باب الغرفة. يواربه. ينتظر حتى يسمع دقا على باب الشقة. يخرج ليفتحه. أتقدم من الباب الموارب. أمد رأسي محاذرا أن يراني. أراه يتحدث همسا مع البواب. يعطيه نقودا ويتحول عائدا. أهرع مسرعا إلى مكتبي. يدخل أبي ويقول إن جيراننا في البلكونة المقابلة يريدون رؤيتي.
أغادر الشقة. أعبر الحارة. مدخل المنزل المقابل مظلم. يشير البواب إلى باب الشقة المطلة على السلم. أطرقه. تفتح لي «حكمت». طويلة ممتلئة ترتدي روبا ورديا خفيفا فوق قميص النوم. شعرها طويل. وجهها باسم. شفتاها ملونتان بالروج. تحتضنني وتجذبني إلى الداخل. صوت صفق باب. أخوها أم أختها الصغيرة؟ صالة ضيقة مكدسة بالأثاث. تجلسني فوق فوتيه مغطى بقماش أبيض. راديو متوسط الحجم فوق بوفيه. صوت «أسمهان»: «دخلت مرة جنينة. أشم ريحة الزهور».
تجلس مقابلي. تسألني عن اسمي وعن سني وعن المدرسة. أجيبها. تسألني عن أمي. لا أرد. تسألني عما إذا كان لي إخوة وأخوات. أقول: أختين وأخ. تسألني عن الأختين. أقول إن الكبيرة متزوجة. - والصغيرة؟ - ماتت من زمان. - وأخوك؟ - كبير. - هو فين؟ - في بيته. أصله متجوز.
تقدم لي بومبوني. تسألني إذا كنت أحب أن آكل شيئا. أهز رأسي نفيا. تحضر لي بسكوتا. تصر أن آكله. تتأملني باسمة. أنتهي من أكل البسكوت وأقوم واقفا. تطلب مني البقاء. أقول لها إن عندي واجبات. أتجه إلى الباب. تسألني كيف سأقضي يوم «شم النسيم». يمتلئ البيت بالخس والملانة. يعلق أبي ربطة من البصل الأخضر فوق قائم الفراش. يوقظنا في الصباح بالبصل وهو يدعكه في أنوفنا.
تعرض علي أن أذهب معها هي وأخويها إلى حديقة الحيوان. أقول: معرفش ، حاسأل بابا .
3
يحاول إقناعي بأن آكل قطعة أخرى من محشي الكرمب. لا أحبه. أبعد فمي عن يده التي حملت قطعة. يقول: فاضل صباع. كل عشان نرجع الطبق. تخصص لنا زوجة الكونستابل جانبا مما تطهوه مقابل مبلغ شهري. أرفض. يأكل هو الإصبع المتبقي. يحمل الطبق إلى المطبخ. يعود بعد أن يغسله. ينفض الماء عنه في الأرض. يجففه بالفوطة. يناولنيه قائلا: إوعى يقع منك. آخذه وأخرج إلى الصالة. أطرق باب الكونستابل. نور المصباح الكهربائي يبدو أسفله. أطرقه مرة أخرى ثم أصيح: أنا يا ست «تحية».
تفتح لي باسمة. ترتدي روبا أبيض حريريا مثبتا بزرار في خصرها. رائحة السجائر. أتلصص بعيني خلفها. لا أحد. الفراش الضيق متناثر الأغطية. هل يسعها هي والكونستابل؟ شوفينيرة على اليمين من عدة أدراج استقرت فوقها مرآة كبيرة الحجم معتمدة على الحائط. هناك شرخ في أعلاها. تتناول مني الطبق. الدماء تندفع إلى وجهي.
أعود جريا إلى غرفتنا. أجلس إلى المكتب وأبدأ في حل واجب الحساب. أشعر بسخونة وبصعوبة في البلع. يجس أبي جبهتي. يحضر كوبا من الماء. أدير وجهي بعيدا لكنه يأمرني في حزم أن أفتح فمي. أبتلع قرص «الأسبيرين». يلف منديلا حول عنقي فوق اللوزتين الملتهبتين. يصحبني إلى الكنيف لأتبول. باب غرفة الكونستابل مغلق. صوت الراديو ينبعث من خلفه. نعود إلى الغرفة. يساعدني على ارتقاء الفراش. يحكم الغطاء من حولي. يطمئنني أنه سيحل لي الواجب.
أغفو وأستيقظ. أراه في مواجهتي مستندا بظهره إلى قائم السرير. النظارة منحدرة فوق أنفه وكراسة الحساب في يده. فوق رأسه طاقية بيضاء مربعة. أغفو مرة أخرى.
أنتبه لصوت جهوري. «علي صفا» صديق أبي. يحمل في يده عصا خشبية قصيرة ذات لون بني لامع تنتهي بقطعة من الجلد. يرتدي بزة بنية اللون. تبدو من حافة طربوشه خصلات شعر ناصعة البياض. يصيح: هو ده «خليل» بتاع زمان؟ مش معقول. قوم يا راجل نخرج. فيه بارتيتة «بوكر» حلوة. يقول أبي: هس. الولد نايم وعنده حرارة.
يجر «علي صفا» كرسي المكتب أمام السرير. يجلس أبي أمامه فوق السرير مدليا ساقيه. يجيل «علي صفا» نظراته في أنحاء الغرفة. يهز رأسه متعجبا. يوشك أن يقول شيئا ثم يلزم الصمت.
يقول بعد لحظة: سمعت آخر فضائح الملك؟ عجبته مراة واحد ضابط. أمر قائده يحجزه في القشلاق. الفار لعب في عب الضابط فهرب وراح بيته. لقى مراته مع الملك في السرير. الملك رفع طبنجته وضربه بالرصاص. وتاني يوم أنعم على أبوه بالباشوية. مش عارف الشعب حيفضل ساكت لإمتى؟ يقول أبي: وحيعمل إيه الشعب؟ خليها على الله. يتساءل «علي صفا»: يا تري الإخوان المسلمين ناويين يقتلوا مين بعد وكيل محكمة الاستئناف؟
أجاهد حتى أظل مستيقظا. يتلاشى صوته. أتبين أنه يتحدث همسا. أرهف السمع: ... عمرها 16 سنة. أبوها مات وعايشة مع أمها لوحدهم. كانوا واقفين على البسطة بيفاصلوا بياعة زبدة. أمها عملت مكسوفة واستخبت ورا الباب. البنت فضلت واقفة. كانت لابسة قميص نوم بفتحة صدر واسعة. حاطة روج خفيف في شفايفها. لأول مرة آخذ بالي إنها كبرت. كنت أقابلها دايما على السلم من غير ما أهتم بيها. لما وطت على مشنة الزبدة شفت بزازها. اللهم صلي على النبي. عملت زي ما أكون ناوي أشتري. سألت عن سعر الزبدة. كانت بتبتسم مكسوفة. ولاحظت إنها بتدعك شفايفها ببعض. يمكن عشان تحمرهم زيادة.
يشعل أبي سيجارته ويعلق: البنات بتكبر بسرعة. يواصل «علي صفا»: بعد كام يوم سمعتها بتصرخ متوجعة. خبطت على بابهم. فتحت وهي تعرج. قالت لي: ركبتي يا عمو. يقاطعه أبي ضاحكا: ركبتي يا عمو.
يستطرد «علي صفا»: ما لها ركبتك يا حبيبتي؟ قالت اتخبطت. سألتها إنت لوحدك؟ قالت لي ماما خرجت. قلت لها وريني، فين بالضبط؟ سندت رجلها على كرسي ورفعت قميص النوم لحد ركبتها. سبحان الخالق المبدع. تقول مرمر؟ سمانة متينة ومنحوتة نحت. كان نفسي ساعتها أركع وأحط شفايفي عليها. قلت لها ادعكيها وهي تخف، ولا أقولك تدهنيها بمرهم. سبتها واقفة وحاطة رجلها على الكرسي ودخلت جبت مرهم الروماتزم اللي بادهن بيه مفاصلي. اديتها الأنبوبة وقلتلها تدهني بيها. كان نفسي تطلب مني أدهن لها . لكنها نزلت رجلها وخدت الأنبوبة وقالتلي متشكرة يا عمو.
تبدأ رقبة أبي في الالتفات نحوي. أغلق عيني فورا. أصيخ السمع: بعد أسبوع كنت راكب التروماي، لقيتها راجعة من المدرسة، التروماي كان زحمة، قربت مني فوقفتها بين رجلي، انتصبت جامد. يعلق أبي: يا بختك. يقول «علي صفا»: لازم تكون حست بي.
أسعل وتهاجمني نوبة سعال. يساعدني أبي على الجلوس. يغادر الغرفة ويأتي بكوب من الماء. أشرب. يحضر زجاجة «البلمونكس» وملعقة صغيرة. يملؤها ويقربها من فمي. أشرب متأففا. يطلب مني أن أنتظر قليلا قبل أن أستلقي.
يقول «علي صفا»: سمعت آخر نوادر الدكتور «إبراهيم ناجي»؟ كان ماشي في الشارع، شاف راجل أنيق، افتكر إنه من زباينه القدام، قاله: سلامات، إيه الغيبة الطويلة دي، من زمان يا «محمد» بيه، باين صحتك أحسن والحمد لله، بس شكلك اتغير، سمنت كتير واسمريت. الراجل قال له: لكن أنا مش «محمد» بيه. يقوم «إبراهيم ناجي» يقوله: الله! وكمان اسمك تغير يا «محمد» بيه؟
أستلقي ويضغط أبي الأغطية من حولي. أنقلب على جانبي الأيسر. أغلق عيني متظاهرا بالنوم. أفتحهما بعد لحظة. يرفع أبي ساقيه ويتربع فوق الفراش.
يروي «علي صفا» تفاصيل مذبحة قرية «دير ياسين». دخلها الصهاينة تتقدمهم سيارة مصفحة عليها ميكروفون. وطلبوا من السكان أن يخرجوا من بيوتهم لينقذوا أنفسهم. صدق البعض وخرجوا فأطلقوا عليهم الرصاص وقتلوهم. ثم ألقوا القنابل على من بقي في البيوت من النساء والأطفال والشيوخ فقتلوهم عن آخرهم.
يهب واقفا وهو يقول: الدنيا كتمة. منفتح البلكونة. يقول أبي: أنا خايف ع الواد من تيار الهوا.
يجلس «علي صفا» ويستأنف الحديث بصوت خافت: من ساعة التروماي وأنا مش قادر أبعدها عن دماغي، أتخيل إنها وحدها وتخبط علي بالليل، تقول إنها خايفة، سمعت صوت حرامي، أو شافت فار. أي حاجة. أقترح عليها تبات عندي مع بناتي. أفرش لهم مرتبة على الأرض. وأنام معاهم علشان يتطمنوا. تروح في النوم. يمكن تكون رمت دراعها علي زي ما بتعمل مع أمها. تدور وتديني ضهرها. لو الدنيا حر حترمي الغطا. ولو برد يكون أجمل. أدور عشان يبقى ضهرها في صدري. تلزق في. أكون منتصب زي الحديد. تتحرك وأتحرك وراها. قلبي بيدق. يا ترى صحيت؟ يا ترى حاسة باللي بيحصل؟ أكيد. يمكن يتهيأ لها إنها بتحلم. الكلسون بتاعها مبلول. تتنهد. وبعدين تروح في النوم. كل ده في الخيال طبعا!
يصمت. يرتفع صوته بعد لحظة: مش قادر أشيلها من دماغي. فكرت أطلب إيدها من أمها، إيه رأيك يا حكيم الزمان؟ - وبناتك يقولوا إيه؟ - وهم مالهم. بكره يتجوزوا ويسيبوني. - وتخلف تاني؟ - شوف مين بيتكلم.
يلتفت أبي نحوي فأغلق عيني. يقول: المرة الأولانية مخدتش بالي. - والتانية؟ - الكبود اتقطع.
يضحك «علي صفا» بصوت مرتفع. يتوقف مرة واحدة. يقول: الله يرحمها. أنقلب على ظهري. يقول له أبي: موتها أثر في «روحية» جامد. - كان عندها كام سنة لما اتجوزتها؟ - «روحية»؟ ستاشر برضه.
يقول «علي صفا» بلهجة المنتصر: شفت؟
أفتح عيني على سعتهما. يرد أبي في صوت هادئ: أنا حبيتها. مصباح الصالة يضيء سطح المائدة. مزدحمة على غير العادة. رائحة كبدة محمرة. زيتون. فستق. زجاجة صغيرة بها سائل في لون الماء. صوتها يأتي من غرفة النوم. تردد أغنية «أسمهان»: «إمتي حتعرف إمتى. إني باحبك إنت.» ضحكات. صوتها مرة أخرى بنبرة مختلفة: «يا حبيبي تعالى الحقني شوف اللي جرالي.» صوت أبي ببقية الأغنية: «غرامي هالكني». - إنت عرفتها إزاي؟
يسكت أبي أسمعه يشعل سيجارته. - جابها لنا الدكتور لما «أم نبيلة» الله يرحمها قعدت في السرير. كانت بتشتغل عنده في العيادة. تنضف وتقابل الزباين. معاها الابتدائية. الدم بيفط من خدودها. أبوها صاحب ورشة. متجوز على أمها. الأم صفرا وقاسية مبترحمش. دايما تضربها ... «نبيلة» وأخوها كانوا اتجوزوا وسابوا البيت. لقيت حد يتكلم معايا. كانت بتقرا الجرايد وتكلمني في السياسة. وتتنبأ بحاجات كتير. قالت لي «هتلر» نهايته وحشة و«غاندي» حيتقتل. لحست عقلي. ولأول مرة في حياتي أحب. تصور؟ واحد عنده 55 سنة ويحب؟ قلت لها نتجوز. وافقت. أبوها قال فرق السن كبير. قالت له: وما له. أنا باحبه. اتجوزتها في السر.
أنصت مبهورا. يستطرد أبي: أجرت شقة قريبة. اللي أنت عارفها قدام مدرسة اليهود. راعيت الله في كل شيء. أنام جنب «أم نبيلة» كل ليلة. أقوم الصبح على الديوان. الضهر أجري على الشقة الثانية. يظهر عند باب الشقة في بزته البيضاء الكاملة وطربوشه. المظلة البيضاء في يده اليمنى. يضم ذراعه الأيسر علي كيس فاكهة من الورق. وجهه الأسمر متهلل. ينحني علي ويحتويني بين ساعديه. - أول ما الدنيا تليل ألبس عشان أروح البيت الأولاني. تمسك في. تترجاني أقعد لغاية ما تنام. تقول إنها بتخاف تبقى لوحدها. تقفل الشبابيك وتولع أنوار الشقة. تنكمش في السرير. تقعد تقرا قرآن لغاية ما تنعس. تقوم مفزوعة في نص الليل. تسمع أصوات بتنده عليها بشويش. تلزق في السرير. تسد ودانها لغاية ما النهار يطلع.
ألمح بقة تقترب من رأسي. لا أريد أن أتحرك كي لا يكتشف أبي أني مستيقظ. أعرف أنها ستقرصني عندما ينطفئ النور وتحرمني من النوم. أتابعها ببصري لأرى أين ستختفي. - أخيرا ماتت «أم نبيلة». خلصنا الميتم فقالت لي «نبيلة» تيجي عندي بأه يا بابا. قلت لها إني متجوز وعندي بيت تاني. زعلت وأخوها اتنرفز علي وقال لي إنت حتقعد تزرب لنا. نقلت على الشقة التانية. وبدأت أدوق معنى السعادة.
يسكت. يشعل سيجارته مرة أخرى: لما خلفت «نبيلة» وأخوها كنت لسه شاب وأغلب الوقت بره البيت. المرة دي اتمتعت بالخلفة. خصوصا بعد ما طلعت المعاش. يلتفت نحوي فأغمض عيني. - عمري ما حانسي منظره وهو بيحبي ويفتح الأدراج ويقطع الكتب. كان كل ما يشوف حاجة يشاور عليها ويسألني: ده؟ وبعدين بقت: إيه ده؟ يحاول يوريني إنه بيفهم. لا يمكن أنسي منظره لما وقف على رجليه أول مرة. مشي خطوتين وبص لي وصقف. حس إنه عمل حاجة كبيرة.
أنعس وأستيقظ على أزيز بعوضة بجوار أذني. أدعو الله ألا تقرصني. صوت «علي صفا»: حتجنن. بالليل أتقلب وأنا نفسي إنه يكون فيه جسم طري في حضني. مش ضروري أعمل حاجة.
يقول أبي: وتعمل إيه يا خي؟ مفضلش غير البص. - على رأيك. وأنا جاي لعندك شفت واحدة بتجري في الشارع. بزازها بيترجرجوا. أتهيألي إني سامع صوت فلقتيها وهما بيخبطوا في بعض. كل حاجة الوقت تفكرني باللي كان. ملاية لف محبكة على طيز مقلوظة. شفتين تخان من البرقع. دراع مربرب في نص كم أو كتف عريان من بلوزة جابونيز.
يرين الصمت على الاثنين. صوت الراديو من غرفة الكونستابل. «فريد الأطرش». ألمح بقة مسرعة على الحائط. تريد أن تختفي من النور. أمد إصبعي وأفعصها. أكتم تنفسي كي لا أشم رائحتها الكريهة.
صوت أبي: أول الشهر رحت أقبض المعاش. كان فيه واحد عجوز لابس جاكتة كاروهات وقميص غامق وكرافتة دايبة. حرف طربوشه مسود من العرق. كان واقف مسنود على عصاية. لابس نضارة مقعرة. متعرفش بيبص فين. دوره جه متحركش. فضل واقف ساكت زي ما يكون سرحان ومستعد يفضل مستني لتاني يوم. موظف الخزينة يعرفني. بياخد مني البواقي. مد لي إيده ياخد السركي. قمت شاورت للعجوز يسبقني. قال حاجة بصوت مش واضح. الموظف أشار له على شباك تاني. بدأ يتحرك بصعوبة. ساعدته يوصل للشباك التاني. لا شكرني ولا بص لي. كأني مش هنا. لما خرجت لقيته واقف مسنود على عمود النور. فضل واقف مدة طويلة باصص قدامه. زي ما يكون نسي هو فين. مقدرتش أقرب منه. كلها سنتين تلاتة وأبقى زيه.
يقول «علي صفا»: يا راجل تف من بقك، لسه بدري. أشعر بأبي يهز رأسه: أنا الوقت بتكعبل وأنا ماشي، عيني بتزغلل، ومعدتش بأسمع كويس، ضرسي وجعني ورحت للدكتور، قاللي اللحم بيكش. يقول «صفا»: المهم العصب. يأتيني صوت أبي كأنه من بعيد: عصب إيه؟ دول بقوا نقطتين. راح الرشاش بتاع زمان.
4
ينهض تلاميذ الصفوف الخلفية الكبار واقفين. صيحات في الحوش. نحمل حقائبنا ونغادر الفصل. ننضم إلى تلاميذ الفصول الأخرى. يردد الجميع: «اليوم حرام فيه العلم.» نتجمع في الفناء. الناظر يقف عند باب المدرسة المغلق. أصوات مظاهرة في الخارج. ينهال الطوب على باب المدرسة. ينسحب الناظر ويفتح البواب الباب. نتدفق إلى الشارع وننضم إلى تلاميذ المدارس المجاورة. تنطلق المظاهرة في اتجاه الشارع الرئيسي. نردد خلف التلاميذ المحمولين على الأعناق: «الله أكبر ولله الحمد.» «عاش الكفاح المشترك لشعوب وادي النيل.» «الجلاء بالدماء.» «النحاس زعيم الأمة.» ينتظرنا البوليس في نهاية الشارع. يسدون الطريق بصف من الجياد. يتقدمون نحونا فنجري.
أهرب من حارة جانبية. أقف أمام بائع صحف. أتأمل صور الممثلات فوق أغلفة مجلات «الكواكب» و«الاثنين» و«مسامرات الجيب». أتناول واحدة عليها صورة «طرزان». ينهرني البائع ويجذبها من يدي. أشتري كراسة أغاني بخمسة مليمات. أواصل السير. أعبث بقدمي في التراب. ألمح قطعة حديد مستديرة. أبتعد عنها. أتحاشي المرور أمام دكان شيخ الحارة. أبلغ المنزل. أدق الجرس. لا يستجيب أبي. أدق الجرس مرة أخرى. تفتح لي ست «تحية». تقول: «أبوك خرج. اقفل الباب وراك.» تتركني وتتجه إلى المطبخ. أغلق الباب الخارجي. أدفع باب الغرفة فأجده مغلقا. معي المفتاح. أدخل وأضع الشنطة فوق المكتب. أخلع ملابسي وأرتدي البيجامة ذات الزراير الصفيح. أعود إلى الباب. أقف في فتحته منصتا. أخرج إلى الصالة.
صوت وابور «البريموس» في المطبخ. أخطو في خفة نحو الطرقة. أتحاشى النظر إلى فتحة الكنيف. أقترب من باب المطبخ. ألتصق بالحائط. أمد رأسي في حذر. تجلس فوق مقعد المطبخ الواطئ. تقشر فصوص ثوم. بجوارها طبق فول مدمس. أتراجع نحو الصالة. أدور حول المائدة حتى باب غرفتها. مفتوح. أقترب منه. فوق السرير فستان أزرق مشجر وعلى الأرض حذاء أبيض بكعب عال. على الحائط صورة كبيرة في إطار مذهب للكونستابل في ملابسه العسكرية. وجهه باسم. طربوشه طويل ومائل ناحية اليسار. شوفينيرة على اليمين فوقها مرآة كبيرة في إطار معدني باهت اللون. المرآة مائلة مستندة على سطح الشوفينيرة. بها شق في أعلى زجاجها. فوق الشوفينيرة أشياء كثيرة بينها صندوق شكولاتة. هل تكتشف الأمر إذا أخذت قطعة؟ أرهف السمع. تغني في المطبخ: «يوم ما اتقابلنا إحنا الاتنين.» يقترب صوتها.
أبتعد عن باب الغرفة. أقف إلى جوار باب المنور. أتطلع إلى نافذة «أم زكية». مغلقة ومظلمة. تلج الصالة. في يدها كوب من الشاي. تتجه إلى غرفتها . تشير إلي أن أتبعها. تضع الكوب فوق الشوفينيرة. تفتح صندوق الشكولاتة وتتناول قطعة ملفوفة في ورق أصفر اللون. تقدمها إلي. تستفسر عن أمي. يحمر وجهي ولا أجيب. جالسة في مقعد وسط الصالة وقد تهدل شعرها الغزير على كتفيها. تولول: آه يا دماغي. وجهها متألم. يناولها أبي قطعا من الثلج. تضعها فوق رأسها وتضغطها بيدها.
تشعل سيجارة. تنحني أمام المرآة المائلة. تمشط شعرها وتتفرس في ملامحها. تلف خصلة فوق جبينها. تمر بإصبع الروج على شفتيها الممتلئتين. لأول مرة أشهد عملية وضع الألوان لأن أمي لم تكن تستخدمها. شفتها السفلى الممتلئة مشقوقة تنز منها الدماء.
أرقبها مبهورا. وجهها يزداد جمالا لحظة بعد أخرى. تلتقي عيناي بعينيها في المرآة. يتضرج وجهي. أندفع نحوها بغتة قائلا: ماما «تحية»، إنت حلوة قوي. تحتويني بين ساعديها وتضمني إلى صدرها. تتسلل إلى أنفي رائحتها النظيفة المختلطة برائحة صابون «اللوكس». تملأ وجهي بالقبل فوق عيني وخدي وفمي قائلة: وانت كمان حلو. تبعدني عن صدرها وتتأملني. تمد إصبعها إلى فمي فتفصل شفتي عن بعضهما ثم تجذب السفلى في رقة كأنها تداعب طفلا صغيرا. تبدو في عينيها ابتسامة ساهمة. تضمني من جديد. تقول في صوت خافت: أنا عندي ابن أصغر منك بسنتين. أسألها: هو فين؟ تقول: مع أبوه. تدمع عيناها. وفجأة تنفرج أساريرها وتضحك.
تبعدني عنها وتشير إلى خدي وشفتي: وشك اتملى أحمر. شوف. أقترب من الشوفينيرة. أتطلع في المرآة. تجذبني نحوها وتجلس فوق حافة السرير. تأخذني بين ساقيها. تتناول فوطة رطبة وتنظف لي وجهي. تتخلل شعر رأسي بأصابعها. تفليه لي وهي تغني. أقبلها في ساعدها الطري وفي رقبتها. أطلب منها أن تحكي لي حكاية.
تفكر قليلا ثم تقول: كان فيه راجل عجوز فقير وابنه. أنظر إليها في ارتياب. تواصل: كانوا قاعدين في شقة أول دور. أدرك أنها تقصدنا أنا وأبي. أتضايق لأنها تصفنا بالفقراء. أقرر أن أشكو لأبي عند عودته. أبتعد عنها. تحتضنني وهي تضحك: ما تزعلش. أتخلص من ذراعيها غاضبا. تربت علي وتصالحني. تقول يلا نخرج . أقول: وبابا ؟ - راجع متأخر. اخرج علشان ألبس.
أذهب إلى غرفتنا. تنادي علي بعد قليل. أقول إني أرتدي ملابس الخروج. تقول: مش ضروري، خليك بالبيجامة. - طب الجزمة؟ - خليك بالشبشب. أذهب إلى غرفتها. أجدها قد ارتدت الفستان المشجر والحذاء الأبيض. تلف نفسها بملاءة سوداء. تسوي طرفها فوق رأسها لتغطي شعرها. تحبك لفها حول وسطها. تتأمل نفسها في المرآة تستدير قليلا لترى ظهرها. أقترح أن تكتب ورقة لأبي تخبره بخروجنا. تقول: اكتبها إنت. أنا معرفش أكتب. أمي تبري القلم الرصاص. ينكسر السن. تعطيه لأبي مع البراية. يضع البراية جانبا. يحضر الموس ويبري القلم بعناية. لا ينكسر منه السن أبدا. تفتح صفحة جديدة في دفترها الكبير.
أكتب الورقة وأضعها فوق فراشنا. أغلق باب الحجرة. أضع المفتاح في جيبي. نغادر المنزل. نبلغ الشارع فنتجه يسارا. المقلة والمكوجي. الرءوس تستدير نحونا. العيون تتابعنا. أحد الجالسين أمام دكان فسخاني يصيح: «يا باشا.» أدرك أن صيحته موجهة إلينا. أنظر إلى الأرض. تسير في ثبات دون أن تعبأ. دكان منجد أمامه أكياس القطن. يعمل في لحاف مفروش وسط الدكان. يجلس في الصالة. يضرب القطن بسلك مثبت في عصا كبيرة. تفتح أمي شباك المنور لتطرد الغبار. يفرش قماش المرتبة. أخفي عنه المقص. يبحث عنه في لهوجة.
نعبر شارعا فسيحا. نمر من أمام كنيسة. ندلف إلى حارة مظلمة. حارة أخرى. حانوت تصطف أمامه براميل الطرشي. مدخل قذر ومظلم. نصعد سلما ضيقا. رائحة عفن. أتعثر في إحدى الدرجات. تلحقني بيدها وتضمني إليها. نتوقف أمام باب شقة. تدق الباب. تفتح لنا فتاة صغيرة. تحمل مصباح زيت. تقودنا إلى صالة خالية من الأثاث. غرفة مفتوحة بها فراش عريض. امرأة ممددة تحت الأغطية. في عمر ماما «تحية» أو أكبر قليلا. هناك منديل حول عنقها. تقول ماما «تحية»: ما لك يا «صباح»؟ تجيب في صوت مبحوح: شوية برد. تنظر إلي مبتسمة. - ابنه؟
تضحك «ماما تحية»: لا إبني أنا. - لا يا شيخة. - ابن الجيران.
تخلع الملاءة وتضعها فوق كرسي. تتأمل «صباح» فستانها. تسألها «ماما تحية»: إيه عاجبك ؟ - قوي. هو اللي جابهولي. تجلس على حافة الفراش وأجلس إلى جوارها. تلتقط مجلة مصورة من فوق الأغطية. تفتحها على صفحة أزياء. تشير إلى فستان حريري تزينه الورود فوق كرانيش كبيرة متكررة من أعلى إلى أسفل. بجواره حقيبة يد من الخوص. تقول: أنا نفسي في فستان زي ده. تقول «ماما تحية»: يجنن. تضع «صباح» المجلة جانبا وتسأل عن الكونستابل. تقول «ماما تحية»: نقلوه الصعيد. - ليه؟ - عشان إضراب البوليس. - وهم أضربوا ليه؟ - عاوزين يتساووا في المعاملة والرواتب مع الجيش.
تقول «صباح»: الممرضين مضربين هم كمان. بياخدوا أربعة ولا خمسة جنيه. يعملوا إيه دول؟ - أهم بيكملوا من العيانين. تقول «صباح» إن زوج أختها أصيب في رأسه عندما اقتحم البوليس مستشفى القصر العيني. - وبعدين؟ - ولا قبلين. اتفصل فوق ألف ممرض. وعينوا ممرضات بدلهم.
تزيح عنها الأغطية. تغادر الفراش. عليها جلباب كستور بكمين طويلين. القماش أبيض تتخلله ورود صغيرة. تنحني فوق موقد «بريموس» بجوار الحائط. تشعله وتضع فوقه كنكة القهوة. تنظر إلي: أبعت أجيبلك كازوزة؟ تقول «ماما تحية»: لأ إحنا ماشيين على طول. تعطيني بومبونة. تقول «ماما تحية»: سمعت إنهم ناويين يقفلوا البيوت. قال مخالفة للشرع. - وكانوا فين من زمان؟ - حتعملي إيه؟
تقول «صباح»: العمل عمل ربنا. مبيسيبش حد من عبيده. تصب القهوة في فنجانين. يرتشفانها في صمت. تشعل «صباح» سيجارة «هوليوود». تعطي واحدة ل «ماما تحية». تسألها: ناوي يتجوزك؟ تجيب «ماما تحية» وهي تنفث دخان السيجارة: مش عارفة.
5
أبلغ الميدان فأتجه يمينا. أتخطى شارعي «قمر» و«أحمد سعيد». أمضي مع الترام في شارع «الظاهر» حتى منتصفه. أعبر الشارع جريا أمام مقلة اليهودي. أشتري بمليمين لب «جرنة». أصغر حجما من اللب الأسمر لكنه مشقوق وله طعم مميز. أضع القرطاس في جيب البيجامة.
أعود في اتجاه الميدان. أتوقف أمام دكان الدخاخني عند الناصية. أشتري علبة سجائر لأبي. يعطيني البائع علبة خضراء بدلا من الصفراء التي طلبتها. أعود إلى المنزل. أتعثر في بركة مياه. يغطي الطين شبشبي الكاوتشوك المصنوع من إطار سيارة. أحك الشبشب في درجات السلم محاولا إزالته . أدير المفتاح في باب الشقة. نور مصباح الصالة مضاء كما تركته. غرفة الكونستابل مغلقة. ينبعث منها صوت الراديو. باب غرفتنا أيضا مغلق. أضع علبة السجائر فوق البوفيه. أتقدم من حوض المياه. أخلع الشبشب وأغسله.
أحمل علبة السجائر وأدخل غرفتنا. أبي متربع فوق السرير. عيناه حمراوان ووجهه متجهم. شأنه دائما عندما يقوم من نوم القيلولة. أقدم إليه علبة السجائر. ينفجر غاضبا: أنا مش قلتلك «توسكاني»، تقوم تجيب «توسكانيللي». أقول إن البائع هو الذي أعطاني العلبة. - وانت ملكش لسان؟ إنت مش نافع في حاجة أبدا. أعرض عليه أن أعود إلى البائع وأستبدل العلبة. تهدأ ثورته ويقول: لأ. يمكن معندوش. اعمل لي قهوة.
أخرج إلى الصالة. أقف أمام البوفيه. أتناول كنكة القهوة. أضع ملعقة بن ونصف ملعقة سكر في الكنكة. أصب فيها الماء من القلة. أقلب المحتويات بالملعقة. موقد السبرتو في مستوى رأسي. أرفع غطاء شعلته النحاسي. أقرب منها عود كبريت. أضع الكنكة فوق الشعلة. ما يزال باب «ماما تحية» مغلقا وصوت الراديو يتردد خلفه.
أخطو ناحية باب المنور. نافذة «أم زكية» مغلقة. أعود بسرعة إلى القهوة. أنتظر في صبر حتى تبدأ في الغليان. أبعد الكنكة عن النار قبل أن تفور. أعيدها إلى النار عدة مرات. أضع الغطاء النحاسي فوق الشعلة فتنطفئ. أصب محتويات الكنكة بعناية في فنجان. أحمله وأعود إلى الغرفة. أمشي في حذر كي لا تهتز محتويات الفنجان ويزول وش القهوة. يتناول مني الفنجان. أحضر له قلة الماء. يجرع منها بصوت مسموع. أمي ترفع القلة في الهواء وتصب منها في فمها دون أن تلمس حافتها. أحاول تقليدها فأبلل ملابسي.
يشعل سيجارة. أجلس إلى مكتبي. أفرغ قرطاس اللب أمامي. أفتح كتاب القراءة الإنجليزية. ينتهي من شرب القهوة. يغادر الفراش. يلقي الفوطة فوق كتفه. يشعل النور. يغادر الغرفة ليتوضأ. يعود ويفرش سجادة الصلاة على الأرض. يصلي المغرب. يجذب المصراع الزجاجي للبلكونة. يدفع مصراعها الخشبي إلى الخارج. يجر كرسي المكتب إلى البلكونة الضيقة. يجلس. يضع ساعده الأيمن فوق سورها الحديدي. أقف إلى جواره. تأتي أمي بالقهوة وهي تغني: «أنا أهوى واسقيك بإيدي قهوة.» يشفط أبي القهوة بصوت مسموع. يشعل سيجارته السوداء. نجلس بجوار النافذة المفتوحة. يترك سيجارته في المنفضة. ينهض ليصلي المغرب. يعود ويشعل سيجارته. يظهر عامل الغاز عند أول الشارع. يسند سلمه إلى عمود النور. يصعد فوقه. يجذب المصراع الزجاجي. يشعل المصباح. يغلق المصراع. يهبط. ويحمل السلم على كتفه. ينتقل إلى العمود التالي.
البلكونة المقابلة مغلقة ومظلمة. النافذة المجاورة لها مفتوحة ومضاءة. نعرف أنها غرفة «المسافرين» ولا تفتح إلا للضيوف. ستائرها مسدلة. نور ضعيف في شقة الطابق الثاني التي يقطنها تاجر الحديد مع زوجتيه. النور في غرفة الزوجة الأولى. ينطفئ ويظهر في غرفة الزوجة الثانية. صوت «أم صفوت» تصرخ في ابنها. يظهر «أبو وديع» قادما من مدخل الحارة. يرتدي بزة سوداء. يحمل أكياسا بين ساعديه. يقف أمام باب منزلنا ويصيح ككل ليلة: «وديع». يتبادل تحية المساء مع أبي. ترد عليه زوجته من شقة فوقنا. يقول لها ككل ليلة: السبت. تدليه له فيضع فيه الأكياس. يرتفع السبت في بطء. يلج المنزل.
يميل أبي برأسه ليتمكن من رؤية نافذة «صبري» أفندي. ابنته الكبرى «سهام» في قميص نوم عاري الذراعين. مستندة بصدرها إلى حافة النافذة. خلفها ضجة من صنع إخوتها. عيناها على مدخل الحارة. تتراجع إلى الوراء عندما يظهر الشاب الذي يسكن غرفة فوق السطح. طالب هندسة وسيم. أبيض البشرة مثل الخواجات بنظارة مذهبة الإطار.
يعود أبي برأسه إلى الخلف. يتأمل النافذة المجاورة للبلكونة المقابلة. يزيح الهواء ستائرها. مقعد بمسندين يجلس فوقه رجل في بزة كاملة داكنة اللون. أمامه طاولة واطئة صفت فوق سطحها بنظام أجسام صغيرة سوداء متماثلة. يديرها بين أصابعه ثم يعيدها إلى مكانها في حرص.
يقول: يا ترى ده العريس؟ نعرف أن «حكمت» يجري الاحتفال بخطبتها اليوم. يأمرني أبي بإطفاء النور. نجلس في الظلام وعيوننا على النافذة المقابلة. يقترب «أبو زكية» قادما من مدخل الحارة. أسمر نحيف بشعر رمادي. له عين مغلقة تماما. يمشي ببطء كأنه متعب. هادئ الطبع ولا يسمع له صوت . لا يرانا ويلج المنزل المجاور. يقول أبي: سبحان اللي وفق. يقصد أن زوجته بيضاء وأصغر منه في السن.
يمد رأسه إلى الأمام. يدقق النظر: إيه الحاجات دي؟ أمعن النظر بدوري. كئوس شربات؟ لا أحد يقترب منها. لا يظهر أثر لشخص آخر كما لو أن الحجرة لا تضم غير هذا الرجل. ليست هناك زغاريد أو ضجة ما. يقول أبي: يمكن حجر جوزة حشيش؟ يضيف بعد لحظة: غريبة. بص كويس.
أعدل وضع نظارتي وأضيق من حدقتي عيني لكني لا أميز تلك الأشياء السوداء. يقترح أبي أن ألمع زجاج نظارتي. أدخل الغرفة وأدعكها في ملاءة السرير. أعود إلى البلكونة. الرجل ما زال جالسا يتأمل الأشياء الصغيرة. يمد أبي يده إلي دون أن يلتفت نحوي. يهمس: وريني نضارتك. أخلعها وأعطيها له. يقربها من عينيه دون أن يرتديها. يهز رأسه. يعيد إلي النظارة قائلا: مفيش فايدة.
6
يصلي العصر. يجلسني أمامه فوق السرير. يضع نظارته فوق أنفه. يشرح لي من كتاب الجغرافيا الفرق بين البوغاز والخليج والبرزخ. يوبخني لأني أنسي. ضيق الصدر. يعطيني واجبا للحفظ. يرتدي ملابسه ويخرج. أسمعه يرجو «ماما تحية» أن تأخذ بالها مني. يقول إنه ربما يتأخر في العودة.
أنصت لوقع خطواته على السلم. أنتظر حتى يخرج إلى الحارة. أغادر الغرفة. «ماما تحية» تنشر غسيلها على الحبال الممدودة بين باب حجرة الصالون وباب غرفتها. تحضر جردل مياه. تنظف الغرفة وتغسل بابها بالصابون. أناولها أكواز ماء من الحنفية. تمسح أرض الصالة. تغني: «حاقابله بكره وبعد بكره.» تحضر موقد البريموس ومقعد المطبخ الخشبي الصغير الذي يعلو شبرا عن الأرض. تضعهما وسط حجرة الضيوف بجوار حوض الزنك. تجلب نصف كوب سكر من غرفتها. تضيف إليه نصف كوب من الماء. تقلبهما جيدا. تصب الخليط في حلة معدنية صغيرة. تضعها على النار. تجمع رداءها بين ساقيها. تجلس على كرسي المطبخ. ضوء الشمس الغاربة يأتي من نافذة المنور. يقع على ركبتيها العاريتين.
أدخل وأجلس على الكنبة. تبدأ المياه المسكرة في الغليان. تعصر فوقها ليمونة. وتواصل التقليب. أسألها ماذا تصنع ؟ تقول: حلاوة. تعطيني «أم إبراهيم» قطعة ثم تحمل الإناء إلى أمي في الحمام. يغلقان الباب عليهما.
تواصل التقليب حتى يصبح الخليط عجينة شفافة لينة. ترفع الإناء من فوق الموقد وتضعه على الأرض. تغادر الغرفة وأنا خلفها. تملأ صفيحة المياه وتحملها عائدة. تضعها فوق الموقد. تجس حرارة العجينة. تناولني نتفة منها. أضعها في فمي وأستحلبها. تطوي العجينة وتشدها بيديها الاثنتين. تكرر ذلك حتى تزداد العجينة لينا ويعتم لونها. تبسطها. تقتطع قطعة صغيرة وتفردها فوق ساعدها عند الكتف ثم تشدها بقوة مرة واحدة. تضغط عليها بين أصابعها لتلينها. تكرر ذلك حتى تصل إلى يدها. ترمي القطعة جانبا وتتناول قطعة أخرى. ترفع ساعدها إلى أعلى وتضعها فوق إبطها. تجذبها في قوة. تكرر ذلك حتى يصبح إبطها أبيض ناعما. تنتقل إلى ذراعها الآخر.
يدق جرس الباب الخارجي. أقف خلف الباب وأزعق: مين؟ يرد علي صوت أنثوي: أنا «عطيات»، «تحية» هنا؟ أجري عائدا إلى الغرفة لأخبر «ماما تحية». تقول لي: افتح لها، دي بنت خالتي.
أفتح الباب. سمراء طويلة في الملاءة اللف. تتبعني إلى الصالون. تخبط على صدرها قائلة: يا خبر. قدام الواد؟ ترد عليها «ماما تحية» في غير مبالاة وهي تمر بيدها في خفة فوق ذراعها العارية: وإيه يعني؟! تجلس. تسأل عن موعد عودة الكونستابل. تقول «ماما تحية»: يمكن بكره. ابعتيلي الأولاد يباتوا معايا الليلة. خلي «راجي» يجيب الطبلة معاه. تقف «عطيات» وتضم الملاءة حولها. تنقل البصر بيني وبين «ماما تحية». تنصرف.
تنتقل «ماما تحية» إلى الإبط الثاني. تدير رأسها لتتأمله. تتحسسه بأصابعها. تنهض واقفة. تقول لي وهي تمسكني برقة من أذني: على أوضتك، تقعد فيها متخرجش منها. أمسك بيدها في رجاء: لا والنبي يا ماما بلاش لوحدي. تتأملني باسمة: طيب تقعد في الصالة بشرط متبصش علي. تشعل النور. أحضر كتاب الجغرافيا. أجلس إلى المائدة قرب الباب الخارجي.
أضع الكتاب أمامي. أفتحه على كراسة الأغاني المدسوسة بين صفحاته. تنتقل بنشاط بين غرفتها وغرفة الصالون حاملة بعض الملابس على ساعدها. في يدها صابونة لوكس وليفة ومرآة في حجم الكف. تملأ صفيحة من الحوض وتحملها بالماء إلى الغرفة. تعود إلى باب حجرتها فتغلقه. تقول لي وهي تهز إصبعها محذرة: متقومش من مكانك لغاية ما أخلص. - ولو الباب خبط؟
تقول وهي تلج الصالون: ما تردش. - طب لو جت طنط «عطيات»؟
تغلق الباب وراءها قائلة: اطمن. مش جاية. - وبابا؟ - معاه المفتاح. - طب لو النور انقطع؟ - ساعتها أقولك تعمل إيه.
أفتح كراسة الأغاني. أبحث عن أغنية «أنا أهوى أسقيك بإيدي قهوة.» أضع الكراسة جانبا. أقف في حذر. أتسلل من مكاني دون أن أحرك الكرسي. النور يتضاءل حتى يوشك أن يختفي ثم يعود ضعيفا.
أدير مقبض باب غرفتها. أدفع الباب وأدخل. النور مضاء. أقترب من الشوفينيرة. صورة مدسوسة بين الإطار المعدني للمرآة وسطحها. هي بجوار الكونستابل في شارع مزدحم. ترتدي فستانا بلا أكمام وحذاء بكعب مرتفع وهو في قميص وبنطلون. سطح الشوفنيرة مغطى بأشياء كثيرة؛ زجاجة ريحة ماركة «الغزالة». مسامير. إبر خياطة. بكرة خيط. قلم حواجب مكسور. كستبان قديم. إصبع روج علا الصدأ قاعدته النحاسية. علبة بودرة اسود صفارها. مشابك شعر. أوراق من كوتشينة ممزقة. صورة قديمة لها تمزق جزء منها وبقي من الجزء الممزق جانب من ساق في حذاء رجالي. علبة سجائر «هوليوود» من النوع الذي يضم خمس سجائر. شريط «أسبرو». ليمونة متحجرة. فرشاة أسنان. زجاجة زيت الأناضول للشعر. فلاية حديدية. تمثال من المعدن لامرأة عارية. مطفأة سجائر من الصفيح انثنى طرفها.
أجذب أحد الأدراج. قطع ملابس مرتبة في نظام. أعيد الدرج إلى مكانه وأجذب الدرج الذي يتلوه. برطمان مربي. علبة لقطع الجبن المثلثة. علب سجائر كبيرة من الصفيح. أغلق الدرج. أغادر الغرفة. أجذب الباب خلفي في رفق.
أقترب في خفة من باب غرفة الضيوف. ألصق عيني بثقب المفتاح. أراها جالسة فوق مقعد المطبخ. جانبها الأيمن ناحيتي فلا أرى وجهها. منحنية فوق ساقها اليمنى المثنية. تضع قطعة حلاوة أعلى القدم. ترفعها وتلينها. تضعها على منتصف الساق. تكرر العملية مقتربة من فخذها. تلتفت نحو الباب فأبتعد بسرعة. أسرع إلى مقعدي . أجلس وأفتح كراسة الأغاني. أقلب صفحاتها. أتوقف عند أغاني «أسمهان». أنصت. صوت الموقد.
أغادر مقعدي وأخطو نحو الباب في حذر. أتطلع من ثقب المفتاح. ظهرها لي. تتناول قطعة حلاوة وتضعها بين ساقيها ثم تشدها. تهمس: «آه». تتناول آخر قطعة من الحلاوة. تضعها بين ساقيها ثم تجذبها بقوة. تكرر العملية عدة مرات. تتنهد. تلتقط قطعة حجر في حجم برتقال «يافا». تدعك بها كعبيها. تلتفت نحو الموقد. البخار يتصاعد من الصفيحة. تصب المياه الساخنة بالكوز في حوض الزنك. تهم واقفة وتمد يدها لتخلع جلبابها. يغطي البخار عدستي نظارتي. أخلعها وأمسحها في بيجامتي. ماما بسيمة عارية فوق مقعد الحمام. شعرها مدهون بالحنة. أقف بين ساقيها الضخمتين. تصب الماء على جسمي وهي تتأمل حمامتي.
صوت قدمين على السلم. أسرع إلى مقعدي. أفتح كتاب الجغرافيا. تتوقف القدمان عند الباب. تواصلان الصعود إلى أعلى. أهم بالقيام فأسمع صوت إطفاء الموقد. أجلس.
يفتح باب غرفة الضيوف. تخرج «ماما تحية». ترتدي قميص نوم بحمالتين. شعرها ملفوف بفوطة كبيرة. تسألني: خفت؟ أهز رأسي نفيا. أحمل كتاب الجغرافيا وكراسة الأغاني وأتبعها إلى غرفتها.
تجذب الكرسي وتجلس. تخلع القبقاب. تضع قدميها على حافة السرير. تتأمل كعبيها. يتوهجان بالحمرة. تلتمع ساقاها في الضوء. تخفض قدميها وتقف. تستدير نحو المرآة. تفك الفوطة. تتناول مشطا وترفع ذراعها إلى أعلى. يلتمع إبطها الناعم. تمشط شعرها الطويل الذي يتساقط منه الماء. أجلس على السرير. تميل على المرآة وهي تجذب شعرها أمام عينيها. تتركه منسابا على جانبي وجهها. أقول لها: اعمليه «بوكل». تلم شعرها وتصنع دائرة منه فوق جبهتها. تتناول إصبع الروج وتلون شفتيها. تلتفت إلي: حلوة؟ يحمر وجهي.
يدق جرس الباب فأسرع لفتحه. ولدان في سني؛ أحدهما له شعر ناعم مفروق من جهة اليسار، الثاني شديد السمرة يحمل طبلة صغيرة تحت إبطه. أتقدمهما إلى الحجرة. نترك شباشبنا عند الباب. نجلس نحن الثلاثة فوق حافة الفراش. الولدان يتجاهلاني. تعطي لكل واحد منا قطعة جبن «نستله» وبسكوتة ثم قطعة شكولاتة.
أسمع صوت أبي يناديني. أترك كراسة الأغاني فوق السرير وأحمل كتاب الجغرافيا. أخرج إلى الصالة. واقف في مدخل حجرتنا وطربوشه في يده. يتقدمني إلى الداخل. يسألني إذا كنت ذاكرت. أحلف له أني فعلت. يصحبني إلى الكنيف لأتبول. يطلب مني أن أستعد للنوم. أتوسل إليه أن يتركني ألعب عند «ماما تحية». يقول إن الوقت تأخر. أقول: بكره الجمعة. - والعشا؟ - اتعشيت.
يوافق. أجري إليها. ترتدي روبها الأبيض. تقول لي: اسأل أبوك إذا كان يحب يشرب شاي. تغادر الغرفة إلى المطبخ. أهرع إليه وأخاطبه من خلف الباب. يقول لأ. أهتف لها من مدخل الطرقة: لا، مش عايز. أتجه إلى غرفتها. الولد ذو الشعر المفروق أمام الشوفينيرة. يمسك بإصبع الروج. يدهن شفتيه ويتأمل وجهه في المرآة. تحضر «ماما تحية» الشاي. تضحك عندما ترى منظره. تقول له: يخرب عقلك يا واد يا «عفت». دا انت كده بقيت بنت زي القمر. نجلس على الأرض. تصب لنا الشاي في أكواب صغيرة. تستخرج من تحت سريرها رقا ثبتت في جوانبه صاجات نحاسية. تهز الرق فتشخلل الصاجات. تعطيه للولد.
تغني ل «عبد الوهاب»: «ليلنا خمر وأشواق تغني حولنا. يا حبيبي هذه ليلة حبي.» يبدأ الولد الآخر في الدق على الطبلة. يقول لها: ارقصي يا أبلة. تخلع الروب وتتحزم بفوطة بيضاء حول وسطها. تغني: «إنت إنت ومنتش داري.» تحرك جسمها على إيقاع الطبلة والرق. تتأمل خفقان نهديها في افتتان. تمد ساعديها أمامها. تلصق كفيها ببعض. تطرقع بإبهاميها. تقف على أطراف أصابع قدميها. تهز خصرها هزات سريعة متتابعة. تنظر إلي باسمة. تندفع الدماء إلى وجهي.
تكف عن الرقص وهي تلهث من المجهود. تجذب بطانيتين من فوق السرير. تطويهما وتبسطهما على الأرض. نتربع فوقهما. تحضر الكوتشينة. نلعب «الكومي» ثم تقترح أن نلعب «الشايب». تستبعد ثلاث ورقات برسم العجوز. تفنط الورق. تقول: اللي يفضل معاه «الشايب» ينفذ اللي نحكم بيه.
توزع الورق. أسحب ورقة. سبعة قلب. لدي سبعة أخرى. أضعهما معا على الأرض. الولدان يلعبان بسرعة وتمكن. نتطلع إلى وجوه بعضنا البعض. نريد أن نخمن من معه «الشايب». أسحب فيخرج لي . يتناقص الورق بسرعة في أيدينا. يتجمع كله على الأرض. تتبقى معي ورقة «الشايب». نرسم «الحجلة» على الأسفلت بالطباشير. ستة أنهر عرضية واسعة في نهايتها نصف دائرة. أقف على ساق واحدة. أزيح الطوبة فتعبر الخط. أنتقل بنجاح من نهر إلى آخر. يرقبني أبي من النافذة. أبلغ نصف الدائرة وأعلن انتصاري.
تقول: نحكم عليك بإيه؟
يقول «عفت»: يركع على الأرض ويلف حوالينا وهو بيهوهو.
تنظر إلي. تتردد لحظة ثم تقول: لا، يغنيلنا. أقول: معرفش اغني. - وماله. غني «البوسطجية اشتكوا من كتر مراسيلي.»
أردد الأغنية دون أن أنجح في تقليد نغمتها.
نواصل اللعب. أشعر بثقل جفني.
أقاوم النعاس بصعوبة. تقول: كفاية كده. تنظر إلي: استأذن من أبوك تبات معانا. أجده جالسا فوق السرير مستندا بظهره إلى القائم. يقرأ في كتاب. أتوسل إليه أن يتركني أبيت معهم. يوافق. أعود إلى الغرفة.
تصحبنا إلى دورة المياه. تقف في مدخل الطرقة بينما نتبول. يغسل الولدان قدميهما في الحوض. نعود إلى الغرفة. تبسط البطانيتين المطويتين وتفرشهما على الأرض. تشير للولدين أن يستلقيا فوقهما. تعطيهما وسادة طويلة. تغطيهما ببطانية. تقول لي: نام جنب الحيطة عشان متقعش.
أضع نظارتي على الشوفينيرة. أرتقي السرير. أتمدد إلى جوار الحائط. تخلع الروب. تطفئ النور. تستلقي بجواري. تضمني إلى صدرها. يستقر رأسي فوق نهديها. أشم رائحتها النظيفة. تفلتني وتستدير معطية ظهرها لي. تقول: تصبحوا على خير يا ولاد. يرد الولدان في نفس واحد: وانت بخير يا أبلة. أقول: وانت بخير يا ماما. تبسط بطانية فوقنا. أروح في النوم. أستيقظ فجأة. لا أستطيع الحركة. أكتشف أنني في حضنها وساقي بين فخذيها. أسمعها تتنهد. تضمني بقوة. أقول لها: ماما، عاوزة حاجة؟ لا ترد علي. أجذب ساقي من بين فخذيها لكنها تتشبث بي. تفلتني بعد لحظة. يتصاعد شخيرها.
7
يقترب الوجه الأسود ذو العينين الحمراوين في بطء من خلف القضبان الحديدية التي تسد النافذة. أتعرف على «عباس». ينفرج الباب ويظهر مصباح زيت بزجاجة رفيعة مستطيلة. يقترب المصباح. تستطيل شعلته. يطل من خلفه وجه «ماما تحية » الأبيض المدور . «بوكل» الشعر فوق جبينها. الروج في شفتيها. الكونستابل خلفها. يحاول ضمها لكنها تقاوم. تضرب صدره بقبضتيها في قوة محاولة التخلص من ساعديه. تصيح: ده ابنك. ابنك يا كداب يا نصاب. يدهشني أنها لا تتعرف علي. أفتح فمي لأقول لها من أنا. لكن وجهها يتبدل بوجه أمي. الدماء تسيل من شق شفتها السفلى. يتقلص وجهها ويلتوي. يختفي. يظهر مكانه ذراعان كبيران مليئان بالشعر. يقتربان مني. أريد أن أصرخ لكن الصوت لا يخرج من فمي.
أستيقظ فجأة وأنا أرتجف. النور مضاء. أنادي على أبي. أهب جالسا. أتفصد عرقا. أدفع اللحاف. أزحف حتى حافة الفراش والدموع تتجمع في عيني. أقفز إلى الأرض. أندفع إلى باب الغرفة. أفتحه. نور الصالة مضاء. أنادي مرة أخرى: بابا، «ماما تحية». لا يرد علي أحد. غرفة الكونستابل مغلقة. أتجنب النظر ناحية الكنيف. أفتح باب الشقة. أخرج إلى البسطة المظلمة. أتجنب النظر إلى ركن المخزن. أترك الباب مفتوحا وأهبط درجات المدخل جريا. أواصل الجري في الحارة حتى الشارع. أستدير نحو اليمين وأواصل الجري حتى دكان شيخ الحارة.
من غير نظارة أتعرف على الجالسين فوق كراسي على الرصيف. الشيخ «عبد العليم» و«رأفت» أفندي والقسيس. ألمح أبي جالسا على جانب. يستمع في اهتمام إلى شيخ معمم بنظارة. أهرع إليه. يلتفت إلي مكشرا. أقف بين ساقيه. يقول لي: إيه اللي جابك؟ تعتريني نوبة سعال. يتحسس عنقي وصدري. - شوف عرقان إزاي. ينهض واقفا وهو يقول للشيخ: عن إذنك يا فضيلة الشيخ.
يقبض على يدي في عنف. يجرني إلى الحارة ثم المنزل. يغلق باب الشقة خلفنا. يدفعني داخل الحجرة: اطلع. أرتقي السرير. ينحني فوقي ويحكم الغطاء من حولي: مش قادر تفضل شوية لوحدك؟ العفاريت تاكلك؟ لازم أسحبك من إيدي مكان ما أروح؟
يبتعد عني. يهبط عن الفراش. أسعل. يختفي عن نظري في اتجاه باب البلكونة. يعود إلى الظهور. يخطو نحو باب الغرفة. - تعبت. تعبت خلاص. أنا كان مالي ومال العذاب ده. كنت عملت زي «علي صفا». هايص ولا سائل في بناته . يتحول المقعد إلى ما يشبه عربة اليد التي يبيعون عليها الخيار والبلح الأحمر. المزلاج الخشبي يحول بيني وبين الزحف على البلاط والانطلاق في أرجاء الشقة بحثا عن أمي. تحتي فتحة فوق القصرية. أتسلى بالعبث بالدوائر الحمراء والزرقاء والصفراء المثبتة في سلك متين بأحد جوانب العربة.
أقاوم الرغبة في السعال. أتابعه في مرواحه ومجيئه بجوار الدولاب. يبتعد وجهه فأرفع رأسي قليلا عن الوسادة. أراه يدور حول المكتب ويجلس مستندا بساعديه إلى سطحه. يزيح طربوشه قليلا إلى الخلف. شفتاه تتحركان بهمهمة غير مفهومة. يزيح سترته ويستخرج سيجارته المطفأة من جيب الصديري. يبحث في ملابسه عن علبة الكبريت حتى يجدها. يشعل نصف السيجارة. يضعها بين شفتيه. ينتزعها قائلا: معرفش أغيب خمس دقائق. هو أنا كنت قاعد ألعب؟ ما كله علشانك. لي شهر أجري ورا القاضي. ستك عاوزة تاخدك مني. تحب تروح عندها؟ وتنام على الأرض؟ السلم العالي. باب السطح الموارب. الغرفة الضيقة. فراش في ركن وأدوات الطهو في ركن آخر. الهواء البارد عند الذهاب إلى الكنيف. وجه ستي الأصفر.
يتناول كتابا. يخرج نظارته من جيب السترة العلوي. يرتديها ويبحث عن الصفحة التي توقف عندها. لا يجدها فيقرأ كما اتفق. يترك الكتاب. ينهض واقفا. يتجه إلى الباب. هل سيخرج من جديد؟ يستدير عائدا. أتابعه بركن عيني. يزفر: كان يوم أسود يوم ما شفت وشك ووش أمك. أسعل. - يا ريت ربنا ياخدك ويريحني منك. أسعل مرة أخرى. أرتعش. تصطك أسناني. أغمض عيني. الملائكة يحيطون بي. أمي تحملني. النور يأتي من الصالة. يلف في دوائر.
أفتح عيني. النور يلف في دوائر. رأسه منحن فوقي. تغطيها الطاقية. لن يخرج إذن. يجس جبهتي. يرفع رأسي ويضع ملعقة «البلمونكس» في فمي. يطوي منديلا مبللا ويضعه فوق جبهتي. يختفي ويعود بكوب من الماء. يعصر فيه ليمونتين. يحضر زجاجة «الأسبرين». يفرغ حبتين في كفه. يذيبهما في الماء. يرفع رأسي. يجبرني على الشرب. أزيح الكوب بيدي بعد رشفة واحدة. لا أستطيع التنفس. أفتح فمي وأتنفس منه. ينقبض صدري وأنهج. يضمني إلى صدره . يقرب منديلا من أنفي. يطالبني بأن أتمخط. أنفي مسدود. يرفع المرآة الصغيرة أمام وجهي. أرى فتحتي أنفي ملوثتين ببقع «المكروكروم» الحمراء.
يغادر السرير. أتابعه ببصري. يفتح الدولاب وينكش داخله. يعود بأنبوبة البول الزجاجية الرفيعة. يعتلي السرير. ينحني فوقي. يضع طرف الأنبوبة في إحدى فتحتي أنفي. يشفط محتوياتها. يبصق في طبق. يضع الأنبوبة في الفتحة الثانية. يشفط. يبصق في الطبق. أتمكن من التنفس. يضع يده فوق رأسي ويتلو آية «الكرسي». السعال لا يريد أن يتوقف. يسقيني على الريق صبغة يود ممزوجة بالماء. يأخذني إلى بئر تتصاعد منه رائحة الجاز. يجلسني فوق حافته. يطلب مني أن أحني رأسي وأستنشق. البئر عميقة. ساعده القوي يحيط بي ويحول بيني وبين السقوط.
8
أفتح الباب في حذر. أتطلع خلفي. أبي غارق في نوم القيلولة. أخرج إلى الصالة. أقترب في خفة من باب حجرة الكونستابل. مغلق. أضع عيني على ثقب المفتاح. طرف السرير. أربع أقدام عارية فوقه. الأقدام متشابكة ولا تتحرك. أتقدم من المنور. أتطلع إلى شباك «أم زكية». مفتوح. يبدو جانب من ساعدها العاري. ألف حول المائدة. ألمح فأرا يجري في اتجاه دورة المياه والمطبخ. أعود إلى غرفة «ماما تحية». أسمع حركة داخلها فأسرع إلى غرفتنا.
أبي نائم على جانبه الأيسر وظهره لي. يشخر. أجلس إلى المكتب. أفتح كتاب العلوم.
أسمع حركة في الصالة. أهرع إلى الباب. أتطلع من ثقب المفتاح. الكونستابل بالفانلة وبنطلون البيجامة أمام الحوض. يغتسل ثم يتجه إلى غرفته. أنتظر. «ماما تحية» في روبها الأبيض. أنتظر حتى تنتهي من الاغتسال وتستدير. أفتح الباب وأخرج إلى الصالة. تشير لي أن أتبعها إلى الغرفة.
الكونستابل مستلق فوق الفراش. ما زال بالفانلة. يداه مشبوكتان خلف رأسه المستند إلى الجدار. شعر إبطيه غزير. الأغطية منكوشة. تزيحها جانبا لتخلي لي مكانا. تقدم لي طبقا من ثمرة «النبق» التي أحبها. تقول إن «كريم» أحضره معه من «أسيوط». تمشط شعرها أمام المرآة. تمرر إصبع الروج فوق شفتيها.
أنتقي حبة سمينة برتقالية اللون. أمسحها في سترة بيجامتي. أستمتع بمذاق لحمها الجاف والحلو. ألفظ البذرة وأتلفت حولي حائرا فيما أفعله بها. أضعها في جيبي. ألتقط واحدة أخرى. مرة. ألفظها وأنتقي واحدة حمراء.
أتطلع إلى «ماما تحية». ترسل شعرها حول كتفيها. عيناها تلمعان. تنظر إلى «كريم». علامات الضيق على وجهه. تبتسم. أشعر أنه ضيق بوجودي. - أعمل شاي؟
لا تنتظر إجابة وتغادر الغرفة. ألمح مجلة مصورة ملقاة على جانب الفراش. ألتقطها وأقلب صفحاتها. صورة الملك في اجتماعه بضباط الجيش الذاهبين إلى «فلسطين» في رداء عسكري بنصف كم. يمسك بطرف عصا تحت إبطه. فوق عينيه نظارة بعوينات سوداء مستديرة. شارب كث بطرفين رفيعين محاذيين لفمه. فوق رأسه «بيريه» مائل ناحية اليمين.
أسأل الكونستابل: هو إحنا حنحارب؟ يقول إنه لا مفر من ذلك بعد أن أعلنت «إسرائيل» قيام دولتها. يضيف: على العموم أمريكا هددت بقطع البترول والسماد عنا لو دخلنا «فلسطين».
تعود «ماما تحية» بصينية فوقها ثلاثة أكواب من الشاي. نشربه في صمت. تنهمك في جمع أوراق الكوتشينة المتناثرة في أرجاء الغرفة. ترتبها وتفنطها. تجلس متربعة. ينزاح روبها وتبدو ركبتاها.
تقول: يلا نلعب «الشايب».
تستبعد ثلاث ورقات برسم العجوز. تفنط الورق مرة أخرى. يستدير الكونستابل على جانبه الأيسر. يعتمد على كوعه الأيمن. يسحب ورقة. أتصفح ورقي. ألمح يده تتسلل إلى فخذي «ماما تحية». تضحك وتبعد جسدها. يتناقص الورق بسرعة في أيدينا. تتبقى ورقة واحدة معه. يكشفها فتطالعنا صورة الملك العجوز.
تصفق «ماما تحية»: نحكم عليك بإيه؟ تضيف: غطي عنيك. أبي يعلمها لعبة «البوكر». يضحك منتصرا. تضع الورق على المائدة. تقول: اللعبة دي حرام. يقول لها: يا شيخة، إحنا بنلعب بملاليم. تقول بعناد: لا، حرام.
يستلقي على ظهره. تجذب إيشارب وتبرك فوقه. يمد يده إلى صدرها فتتهرب منه. تربط الإيشارب فوق عينيه وتعقده فوق أذنه. تشير لي أن أقترب. تهمس لي: تف في بقه. تطلب منه أن يفتح فمه. يفعل. أميل فوقه. أبصق في فمه.
ينتفض جالسا وهو يصرخ: يا كلب يا ابن الكلب. يفك الإيشارب ويبعده عن وجهه. أقفز أنا و«ماما تحية» من السرير. تفتح الباب وتدفعني إلى الصالة. تغلق الباب خلفي. أهرع إلى غرفتنا. أسمع صوت خبط وتحطم شيء. تمر لحظة سكون. يرتفع صوت «ماما تحية»: آه. أدفع بابنا وأدخل. أبي واقف في فتحة البلكونة. أناديه: بابا. إلحق. عمو بيضرب «ماما تحية».
يستدير ويخطو نحوي. نغادر الغرفة. نقترب في هدوء من الغرفة الأخرى. صوت آهات متتابعة. ينصت أبي في استغراق. يجذبني من يدي لنعود إلى حجرتنا. يغلق الباب خلفنا. يبتسم قائلا: ده مش ضرب.
9
يعد «سخينة» باللبن للعشاء. يغلي الحلبة. يضيف إليها العسل الأسود. يقطع الخبز إلى لقم. يضعها في إناء. يحمرها على النار. يضيف خليط الحلبة والعسل. يقلبها عدة مرات. يغرف لي في طبق ويصب قليلا من اللبن. أتناولها بالملعقة وأنا جالس فوق حافة السرير. يرتفع المقعد إلى مستوى المائدة الكبيرة. أمي تحيط صدري بمريلة تربطها خلف رأسي. تضع أمامي طبق الشوربة. تعطيني ملعقتي الصغيرة. يجلسان حولي.
ينطفئ النور ثم يعود. يطلب مني أن أعد شنطتي وأستعد للنوم. يصحبني إلى الكنيف. باب غرفة الكونستابل موارب. يأتي منه صوت الراديو ممتزجا بهمهمة. راديو «أم زكية» عالي الصوت. «يا مجاهد في سبيل الله. دا اليوم اللي بتتمناه.» أردد مع الراديو: «فن الحرب إحنا بدعناه».
تعبر «ماما تحية» الصالة. ترتدي فستانا حريريا أصفر اللون بدون أكمام. تحمل في يدها حقيبة بيضاء اللون. فوق ساعدها بلوفر مطوي. يتبعها «كريم» في قميص أبيض وبنطلون رمادي. يبرز منديلا منفوشا كالزهرة من كم قميصه أسفل راحة يده اليسرى. يوجهان التحية إلى أبي. يغادران الشقة. أستقر في الفراش. يجلس أبي في بزته الكاملة إلى مكتبي. يرتدي نظارته ويمسك كتابا. أغالب النوم. أشعر أنه ينوي الخروج. أقرر ألا أغفو إلى أن يخلع ملابسه.
يرتفع صوت الحاج «عبد العليم» من الحارة: «خليل» بيه. «خليل» بيه. يفتح أبي زجاج البلكونة ويطلب منه الصعود. يفتح له الباب. يقدم له كرسي المكتب. يجلس على حافة الفراش. يتنحنح شيخ الحارة كعادته. يقول إن «عباس» تزوج وأحضر زوجته من البلد. وإنها بنت طيبة وخام. ويمكن أن تنظف لنا الغرفة وتطبخ أيضا. يقول أبي: يا ريت.
يسأل «عبد العليم»: إنت مخرجتش النهارده؟ البلد مليانة مظاهرات والناس بتهتف: «أين الكساء والغذاء يا ملك النساء؟»
يقول أبي: دول زودوها خالص. - الجرايد مسمياه «الفدائي الأول». «رأفت» أفندي كان في «بورسعيد» امبارح وبيقول الفلسطينيين ماليينها. هاربين من الصهاينة. - أخبار «ماجد» أفندي إيه؟
يقول «عبد العليم» إن «زراكش» حملت منه وأخذته معها إلى مملكة الجان لتلد هناك. وإنها وضعت مولودها دون مساعدة من أحد وسار على قدميه من أول لحظة.
يسأل أبي في اهتمام: شاف إيه هناك؟ - مفيش عندهم لا تروماي ولا أتوبيس. ومفيش كمان طيور أو حيوانات أو حشرات ولا مقابر. والجهاز الهضمي عندهم زي موتور الأوتومبيل السيارة. الفضلات، ولا مؤاخذة، تطلع بخار من ضهرهم زي الأوتومبيل بالظبط. - ورجع ليه؟ حقه يفضل هناك. - حس بالخنقة من قلة الأكسجين. قالها عاوز ارجع. خلته يقف على قدمها ويحط إيده على راسها. نفخت ببقها. وهوب لقى نفسه في سريره. - كده على طول؟ ما جرالوش حاجة؟ - عنده بس شوية صداع ومرات ميقدرش يتحكم في المشي.
يستفسر أبي عن أطفاله. يجيب: البنت سخنت إمبارح بالليل. كلمت دكتور حميات بالتليفون. قعد يسألني عن شغلتي وساكن فين وفي الآخر طلب 3 جنيه عشان ييجي البيت. - يا خبر. وعملت إيه؟ - ربنا ستر. إديتها أسبرين وعملتلها كمادات. ع الصبح بقت كويسة.
يقول إنه جاء لأبي في خدمة. - خير إنشالله.
يقول إن الحاج «مشعل» لفق له قضية مخدرات. وإنه يحتاج شهادة من أبي في المحكمة.
يقول أبي على الفور: أنا تحت أمرك. هو إيه اللي حصل؟ - خد الدكان اللي قدامي وعاوز ياخد دكاني كمان. مرضيتش أبيع.
ينهض قائلا: لازم أفوت على الدكان. شفت الميكروفون اللي «مشعل» معلقه؟ - أيوه. جايب لهنا. مبيخلنيش أنام. - ناوي تسهر معانا الليلة؟ «أم كلثوم» حتغني «هلت ليالي القمر.» يلتفت أبي ناحيتي ثم يقول: لما أشوف.
ينصرف «عبد العليم». أعتدل جالسا. أقول له: بابا متسيبنيش لوحدي. يتأملني لحظة ثم يقول: طب قوم البس هدومك.
أرتدي ملابسي بسرعة. أمسح زجاج النظارة بمنديل . نخرج إلى الحارة. «سهام» في نافذتها كالعادة. نخرج إلى الشارع. نتجه إلى ميدان «السكاكيني». نجتاز عدة شوارع إلى أن نبلغ سينما «ريالتو». قاعة مزدحمة. صفير وضجيج وصياح. نصعد سلما قصيرا إلى منصة عالية. نجلس فوق دكة خشبية. باعة اللب والسوداني والسميط يسعون بين الدكك. أهم بالجلوس فوق فخذيها فتبعدني عنها. يأخذني أبي بين ساقيه. يمر بنا بائع في جلباب نظيف علق في ذراعه سبتا مغطى بالقماش. يشتري لكل منا سميطة بالسمسم. يعطينا البائع معها شريحة من الجبن الرومي فوق ورقة في حجم الكف.
يشتري لي أبي كيسا من اللب. فيلمان. الأول قصير عبارة عن حلقة من مغامرات «جيس وجيمس». الثاني «بلبل أفندي». ل «فريد الأطرش» و«صباح».
تظلم الشاشة فجأة ويضيء نور القاعة. تتصاعد الصيحات. يخلع أبي طربوشه تلمع صلعته في الضوء. يشعل سيجارته. سينما «الهلال» في ميدان السيدة زينب. أنا و«عزمي» ابن خادمة «ماما بسيمة». نقف عند شباك التذاكر. البائع يرتدي بزة كاملة أنيقة وطربوشا مائلا. ليس معنا ثمن التذاكر. يشير لنا أن نتسلل من باب الدرجة الثالثة. نقف قرب الشاشة. وجه «ليلى مراد» يملؤها.
تظلم القاعة. يتواصل العرض. الجو خانق. يخلع أبي سترته. ينتهي الفيلم ويسطع النور. وجهه عابس. يمسح عرقه. يرسم على شفتيه ابتسامة. ننتظر حتى يخف زحام الخارجين. يحتوي يدي في قبضته القوية. نخرج إلى الشارع. يشتري لي «بسبوسة» من محل حلواني. نمشي على مهل. الحارة غارقة في الظلام. مدخل منزلنا أيضا. أتعلق بسترته. تلتف ذراعاه حولي.
10
نتوضأ سويا. يفرش بطانية على الأرض. يتربع فوقها ممسكا بمسبحته الطويلة. متجهم. يقرأ البسملة. يكررها وهو يعد على حبات المسبحة. يدعوها ب «الألفية» لأنها من ألف حبة. يأتي صوت خطبة الجمعة من راديو «أم زكية». تنتهي الخطبة. أصلي معه. تنتهي الصلاة فيواصل عدة ركعات. يستوثق من أني طاهر. يقول إني لن أتمكن من دخول الحمام لمدة ساعة. يحذرني من الرد لو رن جرس الشقة أو طرق أحد بابنا. يقول إنه اتفق مع زوجة «عباس» على أن تأتي بعد الظهر.
يغلق باب البلكونة بإحكام. يضع قطعة قماش أسفله. قطعة أخرى أسفل باب الغرفة. يضع موقد الجاز فوق البلاط عند حافة البطانية. يشعله. يضع فوق شعلته رقيقة من الصفيح كانت غطاء لعلبة سمن. يرمي فوقها حبات من اللبان الدكر. وبعض أعشاب من أكياس صغيرة صفت فوق المكتب بجوار طبق من الصيني الأبيض. يحضر كتاب «شمس المعارف». ترتفع أدخنة البخور في الغرفة. أسعل. يغمغم بأسماء الله الحسنى. يحضر ورقة وإبرة. يتربع. يلقي مزيدا من اللبان والأعشاب فوق النار. يقرأ:
قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق * ومن شر غاسق إذا وقب * ومن شر النفاثات في العقد * ومن شر حاسد إذا حسد . أتأمل النار. يلكزني بكوعه لأردد السورة خلفه. نقرؤها عدة مرات.
يمسك بورقة ودبوس. يخزق جانبا منها: من عين «نبيلة». من عين جوزها. من عين «تحية». من عين الكونستابل. من عين «عبد العليم». من عين «علي صفا». من عين «أم صفوت». من عين «حكمت». من عين الشيخ «عفيفي». يفكر لحظة ثم يضيف: من عين «خليل». يلقي بالورقة فوق النار فتشتعل.
أهم بالقيام فيقول إننا لم ننته بعد. يتناول طبق الصيني من فوق المكتب. يضعه أمامه. يحضر زجاجة الحبر الأزرق وقلم البسط. يفتح كتاب «شمس المعارف» على صفحة معلمة بورقة بيضاء. يغمس قلم البسط في زجاجة الحبر. يمسك بالطبق ويكتب على حافته سورة «الفاتحة». يدير الطبق في يده ويواصل الكتابة حتى ينتهي من السورة. يتأمل الصفحة المعلمة في «شمس المعارف». ينقل منها مربعا كبيرا تتخلله أعمدة طولية وأخرى عرضية. يصب في الطبق كوب ماء. يضيف عدة نقاط من زجاجة ماء ورد وملعقة من عسل النحل. يقدمه لي لأشربه. أبعد رأسي. يشخط في: اشرب.
أبتلع المزيج. يطلب مني أن أردد خلفه: اللهم ببركة ما شربت، أن تهون علي الحفظ والفهم. يقرأ سورة «العلق»:
اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم . يصلي ركعتين وأنا معه. صوت أمي من غرفة النوم :
يس * والقرآن الحكيم * إنك لمن المرسلين . يضع مرآة الحلاقة الصغيرة في يدي. يطلب مني أن أضغط بأصابعي على إطارها النحاسي الذي ينخلع أحيانا.
يفتح الكتاب على صفحة أخرى. يقول إن أسئلة الامتحان ستظهر على سطح المرآة وعلي أن أنتبه جيدا. يقرأ من الكتاب بصوت متهدج: اللهم سخر لي الملك والملكوت. لا إله إلا أنت يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم بك أستغيث يا مغيث أغثني. يكرر الدعاء أربعين مرة وهو يعد على أصابعه. يقول: يا مجيب أجب دعوتي واقض حاجتي.
أتأمل سطح المرآة وأردد خلفه: إني أسألك ب «بوقاليم» يا «شوناهيل» يا «شهرين» أسألك بحرمة «كشهيل» «برديم» «بهوائيل» «عجاجيل» «عناسيل» وأسألك بحرمة «جبرائيل» و«ميكائيل» و«إسرافيل» و«عزرائيل». اللهم إني أسألك يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم. أسألك باسمك العظيم الأعظم. يشخط في: على مهلك. يواصل: وأسألك باسمك الله الله الله اللطيف الكريم، وأسألك باسمك الواحد الماجد، وأسألك باسمك الله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار، سبحان الله عما يشركون. ألا ما جئتم يا خدام هذه الأسماء، أجيبوا بحق من قال للسموات والأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين. بحق «أعيا» «شراهيا» «إدو تاي» «أصباوت». الوحا الوحا. العجل العجل. الساعة الساعة.
يسألني: حاجة ظهرت؟
أجيب: مش متأكد. فيه شخبطة في الركن.
يسأل في لهفة: إنجليزي؟ - مش عارف.
يتناولها مني. يتأملها ثم يعيدها إلي قائلا إن الشخبطة بقع صدأ. أثبت عيني على المرآة. يقرأ في الكتاب ثم يقلب صفحاته. - حاجة ظهرت؟
أهز رأسي نفيا. يقول في أسف: مش عارف إيه اللي حصل. إنت متأكد إنك طاهر؟ أقول إني متأكد. يهز رأسه في حيرة.
يقلب في الكتاب ثم يتوقف عند إحدى الصفحات. يتناول ورقة ويكتب عليها بضع كلمات. يطويها ويناولها لي: خليها دايما في جيبك.
أهم بالقيام. يستمهلني: الدعا ده تحفظه. قول معايا. يقرأ: بحق هذه الأسماء الشريفة «كهيعص» «حم. عسق». «صم بكم عمي فهم لا يرجعون». أردد الدعاء خلفه. يمتحنني. يتأكد من أني حفظته . يطلب مني أن أقرأه سبعين مرة عند دخول الامتحان الشفوي. ثم أكرر كلمة «كهيعص» حرفا بحرف. ومع كل حرف أعقد إصبعا من اليد اليمنى. وعندما يأتي دوري أمام الممتحن أرفع يدي وأبسطها في وجهه. يبسط الحاوي بضاعته حول دائرة كبيرة. نتجمع حول الدائرة. يخرج سلسلة مناديل ملونة من كمه. يرفع زجاجة جاز إلى فمه. يقرب منه قضيبا من الحديد في نهايته شعلة نار. يفتح فمه ويطلق صاروخا من النيران. يعدنا بأن نرى خروج الثعبان من البيضة بعد أن ندفع. يدور علينا بالرق ساحبا القرد المربوط في سلسلة خلفه. ينتهي من الدوران فيهز الرق في يده. يعلن أن ما جمعه لا يكفي. يجمع بضاعته وينصرف.
الفصل الثالث
1
تبسط الملاءات والمخدات فوق سور البلكونة. يصيح فيها: المرتبة الأول. تزيح الملاءات والمخدات جانبا. تدخل الغرفة وتميل فوق المرتبة. يعاونها على حملها فوق رأسها. يترنح جسمها النحيل. تلقي بها فوق السور. تنهال بالمنفضة البوص فوقها. يتصاعد تراب كثيف. تنفض البطاطين والمخدات. تلهث من المجهود ويحمر وجهها الشاحب.
تزيح السرير بعيدا عن الحائط. تشعل موقد الجاز. تحمله في يدها وتنحني فوق الملة الحديدية. تضم فتحة جلبابها التي أوشكت أن تكشف ثدييها. يرتدي أبي نظارته. يقول لها: هاتي. يأخذ منها الموقد ويقرفص بجوار قائم السرير. يضع الوابور تحت الثقب الذي تثبت فيه الملة. أنحني بجواره. أتأمل يديه القويتين اللتين تمسكان بالوابور في ثبات. ألمح عدة بقات متلاصقة. تلمسها النيران فتتفحم وتتساقط على الأرض. أشير بيدي إلى بقة هاربة. يلحقها بالنار. يدور بالوابور أسفل جوانب السرير الأخرى. تحضر له زجاجة جاز فيصب منها فوق أماكن الحرق. يطلب منا أن نتفحص جوانب المرتبة وثنايا المخدات. - هاتيلي قلة.
تحضر قلة ماء من الصالة. يكرع منها. يمسح شفتيه بكم الجلابية. يقول: سخنة. حطيها فوق البوفيه في التيار. تقول: أروح أجيب تلج يا سيدي؟ يكشف فمها عن أسنان صفراء. يجيب: لا، مش الوقت. بائع الثلج عند الباب. يحمل نصف لوح ملفوفا في الخيش. يضعه فوق مائدة الطعام. تحمله أمي إلى المطبخ . تكسر قطعة بيد الهون الخشبية. تدقها إلى قطع أصغر. تغسلها بالماء. تنثرها فوق أطباق «البالوظة» البيضاء المرصوصة فوق سطح البوفيه. نأكلها في مجلسنا عند النافذة.
يجر كرسي المكتب ويقف فوقه. يجذب ساعة الحائط برفق. يناولها ل «فاطمة» وهو يقول: على مهلك، خدي بالك. تضع الساعة فوق ملة السرير. تحضر قطعة قماش وتبللها بالجاز. تهم بتنظيف الساعة فينهاها. يترجل. يتناول منها القماش. يمسح بها الجوانب الخارجية للساعة. يفتح بابها الزجاجي. يمسح الجوانب المحيطة بالعدة. يطلب منها زجاجة البنزين وقطعة قماش أخرى. تناوله جوربا قديما من الصوف. يبلله بالبنزين. يخلع رقاص الساعة ويدعكه جيدا. يمسح في رفق الأرقام الرومانية. يتناول علبة صغيرة في حجم الكف لها بزبوز رفيع. يضع البزبوز أسفل عدة الساعة. يميله ليصب محتوياته. يصب منه في فتحتين وسط دائرة الأرقام. يمسح مفتاحا قصيرا من النحاس اللامع. يدسه في إحدى الفتحتين ويديره برفق. ينتقل إلى الفتحة الأخرى. يدير المفتاح عدة مرات حتى يستعصي على التحريك.
يحمل الساعة إلى الصالة ويضعها فوق المائدة. يدير عينيه بين الجدران. يستقر على مكان بين باب المنور وباب حجرة الضيوف. تجر «فاطمة» أحد مقاعد المائدة وتضعه أسفل المكان الذي عينه. يرتقي المقعد. يطلب مني إحضار الشاكوش ومسمار متوسط الحجم. أجري إلى الحجرة. أنحني فوق ركبتي أمام السرير. أجذب الشاكوش وصندوقا من الكرتون. يمتلئ بالمسامير وقطع الأسلاك الكهربائية والدبابيس وأجزاء من دوايا المصابيح. أنتقي مسمارين مختلفي الحجم. أجري عائدا. يمد أبي يده إلي. تختطف «فاطمة» الشاكوش والمسمارين من يدي. تناولهم له. يختار أحد المسمارين. يدقه في الحائط. ضرباته قوية ثابتة.
أقترب من باب غرفة الكونستابل و«ماما تحية». أتطلع من ثقب المفتاح. لا يوجد أثر للسرير والشوفينيرة. أخذا كل عفشهما عندما انتقلا إلى مسكن آخر. يصيح بي أبي: إنت فين؟ أهرع إليه. يمد يده بالشاكوش فتسبقني «فاطمة» إلى أخذه. يوشك الشاكوش أن يقع فيخاطبني: إنت مش نافع في حاجة. يطلب منها أن تناوله الساعة في رفق. تحملها إليه. يعلقها في المسمار. يتناول منها الرفاص ويثبته تحت العدة. يهزه فيواصل الحركة من تلقاء نفسه. يغلق باب الساعة. يهبط.
نعود إلى الغرفة. يطلب منها إنزال الصور المؤطرة. تصعد فوق المقعد. تتعلق طرحتها بحافة الدولاب. تفكها وتربطها من جديد فوق شعرها الخشن. ينحشر جلبابها بين فلقتيها. تمد يدها وتعدله. عين أبي على مؤخرتها الصغيرة. تجذب صورة وتناوله إياها. كبيرة بإطار عريض من الخشب. تضم صور وجوه صغيرة بيضاوية الشكل في صفوف متلاصقة. أعرف مكان صورة أبي في الصف الثاني من أسفل. أزالها «عزمي» ابن طباخة ماما «بسيمة». ينفضها أبي بخرقة ويضعها فوق الملة.
تناوله صورة أخرى. تهتز في يدها. يصرخ فيها: إنت إيديك سايبة. الصورة له جالسا في المنتصف بين عدد من ضباط الجيش. باسم في ملابس أنيقة. حذاؤه لامع ومدبب الطرف. المنشة في يده مستقرة فوق فخذيه. شاربه مرفوع إلى أعلى كشارب الملك «فؤاد».
صورة ثالثة ذات إطار خشبي رفيع ينتهي في الأركان الأربعة بما يشبه الصليب. واقف بين ضابطين أحدهما في بنطلون منفوخ يبرز من حذاء مرتفع حتى الركبة. فوق أكتافهما السيوف المعدنية الصغيرة التي تميز كبار الضباط. يمسك الصورة في يده ويتطلع إلى الحائط كأنما يبحث عن مكان لتعليقها. أقول له: مش نحطلها قزاز الأول؟ يهز رأسه في أسى: ربنا ينتقم منهم. تخرج «ماما بسيمة» غاضبة برفقة «عزمي» وتتركنا مع أمه. نبدأ في جمع حاجياتنا في أكياس من القماش. يضع الصور الكبيرة المؤطرة في كيس مخدة ويربطها بالدوبار. نكوم حاجياتنا إلى جوار الباب. نرتدي ملابسنا ونستعد للخروج. أدخل الحمام لأتبول. أتعثر في جردل مياه فيندلق. تصيح بي: إنت أعمى. يصرخ فيها: اخرسي. تهرع إلى الباب. تفتحه. تحمل أحد الأكياس. تقذفه من فوق سور السلم. تتبعه بكيس آخر. نهرول نازلين. يلحق بنا كيس الصور. يصطدم بالقاع. أسمع صوت تكسير الزجاج.
تعيد «فاطمة» الصور إلى مكانها فوق الدولاب. يشير إلى مظروف أصفر. يطلب منها إحضاره. يلقي به فوق المكتب. تهبط. تقوم بإدخال الفرش.
نترك لها الغرفة لتكنسها وتمسحها. يحمل أبي المظروف الأصفر. يجلس إلى مائدة الصالة في مواجهة باب الغرفة . أقف إلى جواره. يفض محتويات المظروف. صور بلا أطر بعضها في حجم الكارت بوستال. يتناول واحدة ويتأملها. أنحني فوق كتفه. تنزلق نظارتي فوق أنفي فأعيدها مكانها. أبي بين عمتي وزوجة عمي. الثلاثة في جلاليب بيضاء. وحده أبي الذي غطى رأسه بطاقية بيضاء. شعر عمتي وزوجة عمي أسود فاحم. قصير ومرسل حول وجهيهما. «نبيلة» بين ساقي أبي. خلفهم حائط من البوص وأمامهم شاطئ البحر. أسأله: فين دي؟ يقول: قدام عشة «راس البر».
يضع الصورة جانبا ويتناول صورة أخرى. شاطئ مزدحم. أبي بوجه ضاحك في بزة بيضاء وطربوش وكرافتة. يمسك سيجارة عادية. إلى جواره أشخاص لا أعرفهم بينهم أخي في برنس حمام.
ينهض واقفا ويذهب إلى مدخل الغرفة. يتابع «فاطمة» وهي منحنية فوق الممسحة. تكومها بيدها. يشير إليها أن تبسطها ثم تطويها طية واحدة مستقيمة. تنتهي من تنظيف الغرفة. تجلس على حافة السرير لتغير أكياس المخدات المعروقة. أنتظر في ضيق حتى تنهض وتبتعد عن السرير. يهش أبي الذباب بفوطة. تقول إن زوجها اشترى للدكان من محطة البنزين علبة «موبيلتوكس» لإبادة الحشرات. يقول أبي: وعرفتي كمان «الموبيلتوكس»؟ تقول: هو اني عشان فلاحة أبقى جاهلة؟ تجلب السجادة المنشورة فوق سور البلكونة. تسأل أبي: أفرشها يا سيدي؟ يجيب: لا، الدنيا حر، طبقيها وحطيها تحت السرير.
يرتفع في الخارج صوت بائع بطيخ. يخرج أبي إلى البلكونة. يناديه: ع السكين؟ - أيوه يا بيه. يتناول البائع بطيخة ويدق عليها بكفه. يضعها ويتناول واحدة أخرى. يكرر الدق. يهم أبي بالكلام فيطعنها بالسكين. يحدث فتحة مربعة في جانبها. يميلها ويستقبل بيده قطعة شديدة الحمرة. يعيدها إلى الفتحة. يضعها جانبا ويتناول بطيخة أخرى. يصيح به أبي: كفاية واحدة. ينحني ويتناول منه البطيخة المفتوحة. يعطيه ثمنها. يحملها إلى الحوض ويغسل سطحها محاذرا أن تسقط المياه في فتحتها. يضعها في صينية فوق البوفيه. يجلب من الدولاب قطعة من الشاش يبسطها فوقها.
نستعد لتناول طعام الغداء. يكتشف أبي أن «البامية» حامضة. تقول إنها نسيت غليها بالأمس. أترقب في لهفة ثورة أبي لكنه لا يفوه بشيء. يرسلها لشراء لحمة رأس من مسمط «الحسينية». أقول: أروح أنا. يقول لا. تذهب إلى المخزن. تعود متسربلة بالملاءة اللف السوداء. يعطيها نقودا. يكرر عليها: جبهة وجوهرة ومخ وكرشة. يلحق بها على السلم قائلا: متنسيش الطرشي والجرجير.
يحمل مظروف الصور إلى الغرفة ويلقي به فوق المكتب. ألتقط منه صورة لشخص مجهول في معطف ضخم متهدل يصل إلى قرب حذائه. الطربوش يغطي جبهته ويكاد يصل إلى عينيه. شاربه الصغير مبروم إلى أعلى. يده اليمنى خلف ظهره وقبضته اليسرى فوق مائدة. فازة كبيرة على الأرض يعلوها طرف من ستارة. الصورة بالية وظرفها مقطوع. أقلب ظهر الصورة. لا شيء. أريها لأبي: مين ده؟ يتناولها ويتأملها طويلا. يقول: أنا. - إنت؟ - أيوه لما كان عندي 18 سنة.
أريه صورة ثانية لرجل في بزة شتوية. الطربوش على نفس المسافة من العينين والشنب مبروم إلى أعلى. جالس في مقعد مرفقه الأيسر فوق مسند ينتهي برأس أسد. إبهام يده مستند إلى خده. اليد الأخرى تمسك بمبسم سيجارة بين الإبهام والسبابة. يبدو منها كم قميص مطوي بزرار عند الرسغ. يقول: أنا كمان بعد ما اتجوزت «أم نبيلة». كان عندي حوالي سبعة وعشرين سنة. أقلب الصورة وأقرأ اسم أبي الكامل بقلم رصاص أحمر اللون. الخط لأمي.
أتعرف عليه بسهولة في صورة أخرى. في بزة أنيقة معتمدا بيده على مقبض عصا. مستندا بظهره إلى سور حجري. يبدو شديد الوسامة. إلى جواره صبي جميل في بزة بصفي زراير. يتدلى منديل مطوي من جيب سترته العلوي. البنطلون قصير ينتهي أسفل الركبة عند حافتي جورب. أقلب الصورة فأقرأ: «حضرة المحترم «خليل» أفندي مع نجله في عيد سنة 1928». أسفل ذلك إمضاء باسم أخي.
الصورة الأخيرة تشبهه كما هو الآن. جالسا يقرأ في بزته الكاملة. طربوشه منزاح إلى الخلف. النظارة منحدرة فوق أنفه. أوداجه متهدلة فوق حافة قميصه. على ظهر الصورة بخط يده: «سنة 1945».
تعود «فاطمة» بلفافة لحم الرأس. تضعها في طبق فوق المائدة. تحمل الجرجير إلى المطبخ. يصيح فيها أبي: اغسليه كويس. يشير إليها أن تجلس لتأكل معنا. أمتعض وأفكر في عدم الأكل لو فعلت. تقول إنها يجب أن تعد طعام الغداء لزوجها. يضع لها قطعة من اللحم في نصف رغيف. تأخذها شاكرة.
أغادر مقعدي وأجره إلى الطاولة. ألمح صورة صغيرة الحجم فوق الأرض. لا بد وقعت من الظرف. طفلة ترتدي فستانا بنصف كم. وجهها مستدير وشعرها أكرت. في قدميها بوت قصير. تضم يدها إلى بطنها واليسرى فوق سور حجري. في عينيها نظرة غريبة. خائفة؟ متوجسة؟ غاضبة؟ أتعرف على خط أبي الجميل في ظهر الصورة: «منتصف 1921». أناولها لأبي متسائلا: صورة مين دي؟
يقول باقتضاب: أمك. أقف في بيجامتي البيضاء الصيفية ذات الكمين القصيرين فوق مقعد. أستند بمرفقي على حافة النافذة. أتفرج على المارة. تقترب الشمس من حافة النافذة. أهبط إلى الأرض وأخرج إلى الصالة. صوت أمي يأتي من المطبخ. تغني: «نويت أداري آلامي.»
2
نترك الترام في ميدان «لاظوغلي». أتأمل رأس التمثال الذي تحيط به عمامة كبيرة. نمر من أمام مقهى كبير تغطي المرايا اللامعة جدرانه. المقهى على ناصيتي شارعين يصبان في الميدان. اثنان من أصدقاء أبي يلوحان له ويدعوانه للانضمام إليهما. يشير إليهما أنه ذاهب إلى المبنى المقابل. وأنه سيمر عليهما عند العودة.
نعبر الشارع. مبنى قديم. ندخل من باب مفتوح. نسير في ممر طويل مزدحم برجال كبار. عجوز في بزة كاملة. أقصر من أبي. يعتمد على عصا ويسير بصعوبة. وجهه شديد البياض. يظهر شعر أبيض من حافة طربوشه. نقترب منه. نهم بتجاوزه. يستوقف العجوز أبي. يتطلع إليه أبي مفاجأ. يقول العجوز بصوت متهدج: «خليل» أفندي؟ أنا «رفقي». يصافحه أبي في حرج قائلا: إزيك يا «رفقي» بيه؟ - زي ما أنت شايف. يقول أبي: ربنا يديك الصحة. ينظر العجوز إلي ويسأل: حفيدك؟ - لا إبني. - ما شاء الله. عمل إيه في الامتحان؟ ناجح إن شاء الله؟ يقول أبي: عنده ملحق إنجليزي.
نتركه ونواصل السير. خطوات أبي تبطئ. تختفي الابتسامة التي يرسمها على شفتيه عندما نخرج. نقف في طابور ينتهي بنافذة من الزجاج كتب فوقها بخط نسخ في شبه دائرة: الخزينة وتحتها كلمة أجنبية.
يقترب منا رجل ذو وجه سمين ضاحك. يصافح أبي بحرارة. يسأله لماذا لم يأت إلى اجتماعات الرابطة. يعتذر أبي بمشغوليات الحياة. يسأل عن مصير الشكوى الخاصة بموضوع الاستبدال. يهز الرجل رأسه أسفا: الظاهر مفيش فايدة، الحكومة مصممة تسرقنا. - والحل؟ - لازم نوكل محامي كبير.
يتحرك الطابور. نصبح أمام النافذة. يخرج أبي «سركي المعاش» من جيب سترته. يعطيه للموظف الجالس وراء النافذة. يناوله الموظف بضعة جنيهات. يوقع أبي بالاستلام.
نغادر المبنى. نعبر الشارع. أتوقع أن يذهب إلى المقهى، لكنه يتجنبه. يخترق حارة صغيرة في مواجهتنا. نصبح في شارع الترام. نقف على رصيف المحطة. نركب. ننزل في «العتبة». أعرف الميدان من مبنى المطافئ الأبيض الذي تقف في مدخله سيارات الحريق الحمراء.
نعبر الميدان إلى العمارة الضخمة المقابلة. تعلوها قبة مستديرة. أقول إني عطشان. يعترضنا بائع عرقسوس يدق صاجاته. أجر أحد مقاعد السفرة إلى النافذة وأرتقيه. يخرج بائع العرقسوس من الحارة الجانبية. ملابسه بيضاء نظيفة. إناء العرقسوس الزجاجي مستند إلى بطنه. في فوهته كتلة من القش تبرز منها قطعة ثلج. ظهره مائل إلى الخلف. الصاجات في يده. أنتظر حتى يدقها في إيقاع لطيف ويصيح: «شفا يا عرقسوس حلاوة.»
يعرف أبي أني لا أحب شراب العرقسوس. ندور حول المبنى. نتوقف أمام حانوت «ويلسون». تتصدره منصة فوقها ثلاث أوان زجاجية مستديرة؛ واحدة لمشروب الشعير الأبيض والثانية للتمر هندي والثالثة لشربات أحمر اللون.
يطلب أبي لي كوبا من عصير القصب. يضع العامل ثلاثة أعواد من القصب بين أسطوانتين خشبيتين. يدفع العجلة التي تحركهما. يسيل العصير في مجري معدني. يلقي بقطع من الثلج في دورق زجاجي. يضعه أسفل نهاية المجرى. يرفعه عندما يمتلئ. يصب لي كوبا. أشربه في استمتاع.
نعود إلى الميدان. نلج ممرا ضيقا داخل العمارة الضخمة. حديقة صغيرة. صالة واسعة بها موائد ومقاعد. نجلس في أحد الأركان. يقترب منا جرسون يوناني في قميص أبيض وبنطلون أسود. تزين رقبته ربطة عنق سوداء على هيئة فراشة. يخاطب أبي قائلا: بونجور يا إكسلانس. يحضر صينية فوق فوطة بيضاء نظيفة. ينقل منها إلى المائدة أطباقا صغيرة. طحينة وقطع من خبز الفينو على شكل أهله. زيتون أسود. فول سوداني. يمضي إلى منصة عالية في نهاية الصالة. أمامها مقاعد عالية. في طرفها برميل من الخشب مائل على جانبه. يضع كوبا زجاجية أسفل حنفية صغيرة في طرف البرميل. ينتظر حتى تمتلئ وتسيل الرغوة البيضاء على جوانبها. يرفع الكوب ويجفف جوانبها بالفوطة. يحملها إلينا.
يخلع أبي طربوشه. يمسح العرق عن صلعته بمنديل. يحتسي رشفة من كوب البيرة ثم يشعل سيجارته. أتناول قطعة خبز. أغمسها في الطحينة وألتهمها. ألتقط حبات الفول السوداني. يقترب منا بائع بجلابية يحمل سبتا صغيرا به جمبري مسلوق. يهز أبي رأسه نفيا. يتبعه بائع أوراق اليانصيب. يتناول أبي منه دفترا به جداول من الأرقام. يخرج من سترته ورقة يانصيب. يراجع رقمها على الدفتر. ثم يعيدها للبائع وعلى وجهه ابتسامة أسف. يتناول منه عدة أوراق. يختار منها واحدة. يدفع له قرشا. يقترب منا ماسح أحذية. يقعي عند قدمي أبي. يضع أبي قدمه اليمنى على مسند المسح.
أتأمل المنصة العالية التي تحلق حولها عدد من الرجال. خلفها رفوف من الزجاجات الملونة. ألمح عجوزا ذا ملامح أجنبية في ملابس أنيقة ممددا على الأرض بجوار المنصة. يردد كلمات يضحك لها الواقفون. لا يعبأ أحد بمساعدته على النهوض. الزجاجة الصغيرة فوق سطح المائدة. حولها أطباق عديدة. رائحة كبدة محمرة. الغرفة خالية. يأتي صوت أمي من غرفة النوم: «يا حبيبي تعالى الحقني شوف اللي جرالي.» صوت أبي ببقية الأغنية: «غرامي هالكني».
ينتهي الماسح من فردة الحذاء اليمنى فيدق صندوقه الخشبي. ينزل أبي قدمه ويضع القدم اليسرى. أتناول قطعة الخبز الباقية. أمسح بها طبق الطحينة. ينتهي مسح الحذاء. يعطي أبي الماسح تعريفة. يرفع كوب البيرة إلى شفتيه. يجرع ثمالته على مهل. يأتي الجرسون ويسأل إذا كان أبي يريد شيئا. يهز رأسه نفيا. يدفع ونغادر المكان.
نستقل الترام. نركب العربة المغلقة. نجد مقعدا خاليا إلى جوار رجل في قفطان ولبدة رأس ريفية . أجلس فوق ركبتي أبي. ظهر المقعد التالي أمامي. تحتله امرأة في ملاءة سوداء وبجوارها فتاة في بلوزة وجونلة. الأولى جالسة لصق الممر الفاصل بين المقاعد. فخذها بارز قليلا خارج المقعد. يقترب رجل في بزة وطربوش. يقف إلى جانب مقعدها. يستند بيده على حافة المقعد. ركبته قريبة من الجزء الخلفي من فخذ المرأة.
أتطلع من النافذة إلى إعلانات الأفلام. يهتز الترام. ألتفت أمامي. ألمح ركبة الرجل تحتك بساق المرأة. تميل على صديقتها. تبادلها حديثا خافتا. يحرك الرجل ركبته فوق فخذها. أرفع عيني إلى وجهه. يبادلني النظر. أتحول بعيني نحو النافذة. أتظاهر بتأمل الشارع. أراها بركن عيني تزداد ميلا على صديقتها. تصبح ركبة الرجل بين فلقتيها. أرفع عيني إلى وجهه. يتطلع إلي. يحدق في فأحول نظري. يتوقف الترام. تقوم المرأة مسرعة. تودع صديقتها. تتحاشي النظر إلى الرجل. تمرق بسرعة بين الواقفين. ألمح وجهها مضرجا. تتجه إلى الباب. الملاءة مكومة بين فلقتيها. يحتل أحد الواقفين مكانها. وجه الرجل شاحب. العرق يتجمع فوق جبينه. ينحني برأسه لينظر من نافذة الترام. يعتدل واقفا. ينظر حوله. تلتقي عيوننا. يحدق في. أحول عيني بعيدا.
نغادر الترام في الميدان. نعبره إلى حانوت الدخاخني على ناصية شارعي «فاروق» و«الظاهر». يشتري أبي علبة سجائره ذات الغلاف الأصفر الذي يتوسطه رأس حبشي. نلف الميدان. نعبر الشارع المؤدي إلى منزلنا القديم. نصبح أمام سبيل «أم عباس». أحد المارة يشرب من حنفية السبيل. أتطلع إلى الشارع الصاعد إلى منزلنا القديم. بائع الورد على الناصية. رأس حصان مدفون في كيس تبن. ثلاثة من الكناسين بملابسهم الصفراء وشواربهم المدلاة ومقشاتهم الطويلة. الحواف الأمامية لأغطية رءوسهم مدارة فوق أقفيتهم. يدق عصا المكنسة في الأرض ليثبت قشها. يزيح الأتربة. ينفصل القش عن العصا مرة أخرى. يقتعد الرصيف. يدس خرقة قماش بين العصا وحزمة القش.
نعبر الشارع. نتجاوز مخبز «عبد الملاك». نتجه إلى الأجزخانة. يدفع أبي بابا من الزجاج المغبش. يلفحنا الهواء الذي تحركه مروحة دائرية مدلاة من السقف. الصيدلي يرتدي نظارة ذات عدستين سميكتين. يستفسر أبي عن حسابه . يقلب الصيدلي صفحات دفتر. يدفع له أبي جانبا من الحساب. يعده بأن يدفع الباقي في أول الشهر القادم. يميل عليه ويهمس بشيء. يبتسم الرجل ويقول: يا ريت. خد فيتامين ب. يشتري أبي زجاجتين صغيرتين؛ واحدة من صبغة اليود والأخرى من الميكروكروم.
نعود في اتجاه شارع «النزهة». نتوقف أمام الجزار. يشتري أبي رطلا من الكلاوي وخصية خروف. يدفع حساب الشهر الماضي. يسأله: أخبار أبوك إيه؟
يجيب بلهجة مستنكرة: قاعد مع العروسة.
يبتسم أبي: هنياله. - يصح راجل كبير يعمل كده؟ - يعني عنده كام سنة؟ - أهو عدى الستين.
يهز أبي رأسه: ناوي يخلف؟ - لا. الحمد لله مبتخلفش. بس عايز يكتب الدكان باسمها.
نشتري شمامة من عربة بحصان. نعبر الشارع إلى دكان الحاج «عبد العليم». نلج الدكان. يفتح «سليم» دفتر «الشكك» بمجرد رؤية أبي. يحسب ما علينا. يطلب منه أبي قليلا من السكر الناعم. يسأله «سليم» بلهجته الجافة: قد إيه يعني؟ - خمسين درهم. علشان الشمامة.
نتجه إلى الحارة. يقول لي أبي: زمان «فاطمة» عملت الفاصوليا والرز. أقول: متعرفش تعمل رز زي اللي إنت بتعمله.
3
يتردد أذان العصر عاليا من ميكروفون الحاج «مشعل» المعلق في مدخل الحارة. يطل تاجر الحديد من بلكونة الزوجة الثانية. يستند بساعده إلى حافتها. علامات الغضب على وجهه. يمد يده اليمنى بطرف خرطوم من المطاط الأسود. يوجه فوهة الخرطوم نحو المنطقة التي حفرنا بها دوائر البلي الخمس. تنطلق المياه من فوهة الخرطوم. تنحدر إلى حفر البلي فتغمرها. نجمع البلي. يأخذ كل واحد ما يخصه. يصعد «صفوت» إلى شقته. أقف أنا و«سمير» حائرين. وجهه مليء ببثور «الحمونيل» مثل وجه أمه. تكتسح المياه الحارة. ولا تترك لنا فرصة للعب. يناديني أبي من البلكونة. أصعد. أغسل وجهي وقدمي من صنبور الحوض. أعود إلى الغرفة فأجفف وجهي بالفوطة الملقاة فوق حافة السرير. تختفي الشمس فيستدعيني. أسرع إلى الداخل وأذهب على الفور إلى الحمام. أغسل وجهي وقدمي. ألحق به عند النافذة. يكون الظلام قد حل. نجلس في الظلام دون أن نشعل النور. الشارع ساكن ليس به أحد.
أفتح ضلفة الدولاب اليسرى. أمد يدي إلى كيس النقل. أغرف كبشة من البندق واللوز والجوز. أضعها على المكتب. أفتح الضلفة اليمنى. أتناول لفافة «قمر الدين». أقتطع قطعة في حجم الكف. أبحث عن الكسارة حتى أجدها مدفونة بين الملابس. أجلس إلى المكتب. أفتح كراسة أغاني «ليلى مراد». أكسر بندقتين ولوزتين وجوزة. أقضم قطعة من قمر الدين. أستحلبها في فمي ثم أضيف إليها بندقة أو لوزة. أبي يروح ويجيء بين البلكونة وباب الغرفة. يزفر متشكيا من الحر. يردد: «اشتدي أزمة تنفرجي.» ينش الذباب للمرة الرابعة. يتردد صوت مألوف من الحارة. ««شكوكو» بقزازة.» أهرع إلى البلكونة. يتكرر النداء من صاحب عربة امتلأت بتماثيل صغيرة من الجص للمغني المشهور. ألتفت لأطلب من أبي زجاجة فارغة كي أبادلها بأحد التماثيل. لا يشجعني وجهه المقطب.
يصيح بائع من مدخل الحارة: «لوز يا أمهات». ينادي أبي على «فاطمة». تظهر في مدخل الغرفة. تمسح يديها في جلبابها. يسألها ماذا تفعل. تقول: باخرط الملوخية يا سيدي. يلتفت إلي قائلا: خد قرش صاغ من جيبي وروح هات رطل بلح. أندفع إلى سترته المعلقة على الشماعة. أبحث في جيوبها حتى أجد الفكة. أستخرجها في كفي وألتقط منها قرش صاغ. آخذ أيضا مليمين. أسأله: أدفع كام؟ يقول: زي ما يقولك؛ مش حتعرف تفاصل. أتجه إلى الباب. يصيح بي: خلي بالك من الميزان، إوعى يضحك عليك.
أغادر الشقة جريا. أقطع الحارة حتى الشارع. بائع البلح يجلس فوق أحد ساعدي عربة يد مستندا بساق فوق المسند الآخر. قدمه حافية ومطينة. البلح مكوم في قفص مستدير من الخوص. فوقه ستارة بيضاء شفافة. يزيح الستارة قليلا. يتناول بيده كمية من البلح. يضعها في إحدى كفتي الميزان. ألف حوله لأكون قريبا من الميزان وأتأكد من سلامته. يصنع قرطاسا من الورق. يصب فيه محتويات كفة الميزان. يضيف إليها بلحتين. يعطيني باقي القرش. أجري حتى بائع اللب وأشتري بمليم لبا وبمليم حمصا.
أخرج مرة أخرى قبل المغرب لشراء فول مدمس للسحور. البائع خلف قدرته في مدخل الحارة . حوله زحام من الأطفال والبنات. أيديهم ممدودة بالأطباق والحلل. يتصايحون كي يلفتوا انتباهه. نتابع في لهفة خروج يده اليمنى من القدرة بكبشة الفول. أشاركهم الصياح مادا يدي اليمنى بالطبق واليسرى بالنقود. أصواتهم أعلى من صوتي.
أعود بطبق الفول بعد أن بدأت تلاوة القرآن. تأتينا عبر الراديو من ناحيتين؛ ميكروفون الحاج «مشعل» وراديو «أم زكية». يضع أبي حبتين من البلح الإبريمي الجاف في كوب ماء. تنتهي «فاطمة» من خرط الملوخية. تضعها على النار. تبدأ في تقشير الثوم لإعداد التقلية. يحذرها أبي من طش التقلية الآن. يقول إن «أم نبيلة» - الله يرحمها - كانت تستعد لطش الملوخية عندما تسمع صوت أقدامه على السلم، ولا تطشها إلا بعد أن يجلس إلى المائدة كي تغمره الرائحة.
يتوضأ ويستعد للصلاة. يختم المقرئ ب «صدق الله العظيم.» تمر لحظة صمت ونحن ننتظر في لهفة. ينطلق مدفع الإفطار من «القلعة». يتكرر صوته من الراديو والميكروفون. يتبعه أذان المغرب. يرفع أبي كوب البلح ويرتشف منه على مهل. يمضغ بلحة. يفرش سجادة الصلاة فوق البلاط. يصلي المغرب. تطش «فاطمة» الملوخية. تجلب الحلة إلى المائدة المستديرة. تتبعها بحلة الأرز وطبقين. - عاوزين حاجة تانية؟ يرفع أبي صوته بالتلاوة ناهرا. تقول: طيب، أنا مروحة. تخرج مهرولة. ينتهي أبي من الصلاة. ضوء المغرب يتلاشى بسرعة. يضيء نور المصباح الكهربائي. يجلس على حافة السرير. أجلس أمامه فوق الكرسي. يغرف لي بالكبشة من الملوخية. يضيف قطعة من اللحم. أمزق نصف رغيف إلى لقيمات. أدسها في الملوخية. يغرف لنفسه. يسود الحارة هدوء تام. صوت ملعقة تصطدم بطبق. الصوت قريب للغاية كأنه في شقتنا.
تدوي فجأة صفارة الإنذار. أصوات من الحارة: طفي النور. أزيح الكرسي إلى الخلف. أهرع إلى مفتاح النور. أضغطه. يسود الظلام. ينهض أبي واقفا. ينادي علي. أقول له: أنا هنا يا بابا. يمد يده فيحتضنني. نستدير ناحية البلكونة. نقترب منها. تسكت الصفارة. يسود سكون شامل. يقول: الكلاب. ده الهدنة مخلصتش. يمد يده ليغلق باب البلكونة. ثم يعود يفتحه. يقول: أحسن القزاز يكسر.
أقترب أكثر. الحارة غارقة في الظلام. أمد عنقي متطلعا إلى أعلى. الكشافات تجوب السماء في سرعة محمومة. يتوقف اثنان منها فوق نقطة مضيئة. يبتعدان. تختفي الكشافات كلها مرة واحدة. يدوي صوت انفجار خافت بعيد. تقبض يده على كتفي بعنف. يقول: تعالى هنا أأمن.
يجذب بطانية من فوق السرير. يزحف أسفله. يزيح حقيبة السفر القديمة. يبسط البطانية فوق البلاط. أتبعه. يعتمد على ركبتيه منحنيا إلى الأمام حتى لا يصطدم رأسه بملة السرير. أنكمش إلى جواره. يحتضنني بذراعه.
أزحف إلى حافة السرير مقتربا من باب البلكونة. أخرج رأسي وأتطلع إلى الجزء الظاهر من السماء. تنساب إحدى النجوم في سرعة. تتلاقى الكشافات وتتعانق في محاولة للإمساك بها. يهمس أبي: إنت رحت فين، تعالى هنا. أعود إلى جواره. ألتصق به. ننتظر في صمت. يتناهي إلى سمعنا طنين. يزداد اقترابا. يتوقف فجأة.
أسمع صوت انفجار. صفارة الإنذار المتقطعة. أبي يطفئ الأنوار. ترفض أمي الذهاب إلى المخبأ. يلح عليها. تصيح به: هو المخبأ يحمينا؟ فوق يا راجل لنفسك. الله هو المنجي. نجلس في الصالة. يأخذني في حضنه. أصوات مدافع بين الحين والآخر. أزيز خافت مألوف. يقترب الصوت. يزداد اقترابا. يتوقف. تسقط القنبلة الألمانية في دوي أمام المنزل. يتحطم زجاج نافذة المنور. يتحرك البوفيه إلى الأمام. تسقط المرآة التي تتصدره. بعد قليل تنطلق صفارة الأمان. ينهض أبي ليضيء النور وهو يغمغم بالشكر لله. وجه أمي شديد الشحوب.
ألتصق بأبي. يجذبني إلى حضنه. يزحف خارج السرير وأنا معه. نغادر الغرفة إلى الصالة. نتجه إلى دورة المياه. يدخل الكنيف. الماء يسيل من الحنفية في سرسوب ضئيل. يلم جلبابه وينحني إلى الأمام. يحكم إغلاق الصنبور. يخرج علبة كبريت من جيبه. يشعل عودا. تظهر الفتحة الدائرية للكنيف. يرفع العود إلى أعلى. يرتقي القاعدة الحجرية. أتشبث بجلبابه. يمد يده إلي ويجذبني إلى جواره. أتحاشى النظر إلى الجدران. أغلق عيني. أتجاهل رائحة الكنيف المقززة. أدفن رأسي في جلبابه. أنصت إلى صوت تنفسه. تحتك أذني بقطعة معدنية في حزام الفتق. تتوالى أصوات الانفجارات. يرتجف. يهتف بقوة: يا لطيف الطف.
أدرك بعد قليل أن الانفجارات توقفت. تسترخي قبضته فوق كتفي. يدوم السكون بعض الوقت. ثم تدوي صفارة الأمان الطويلة. يهدأ تنفسه. نخرج إلى الطرقة. يضيء نور الصالة. ندخل الغرفة. يضيء النور. يشعل سيجارته السوداء. نتجاهل الطعام ونقف في البلكونة. يظهر أولاد الحارة بالفوانيس. «سمير» يحمل. فانوسا ذا جوانب بيضاوية الشكل. كل جانب بلون مختلف. آخر يحمل فانوسا على شكل الكرة. أدخل الغرفة. أتناول فانوسي من فوق المكتب. جوانبه الزجاجية مربعة الشكل. أفتح بابه وأشعل شمعته. أغلق الباب فينفتح مرة ثانية. أغلقه بقوة. أحمله في حذر من حلقة صفيح في قمته كي لا تجرحني حافة قاعدته أخرج إلى البلكونة.
أتفرج على الأولاد وهم يرددون: حالو يا حالو. رمضان جانا يا حالو. يقاطعهم «سمير» بصوته الرفيع: وحوي يا وحوي. إيوحة. يتقدمون من عمق الحارة. يصبحون أمامنا فيصيح أحدهم: يا فاطر رمضان. يا خاسر دينك. هل يقصدوني؟ يمضون إلى مدخل الحارة.
4
يصلي العشاء. نرتدي ملابس الخروج. يلف حذاءه البني ذا المقدمة البيضاء في جريدة. يلف أيضا قطعة القماش البني اللون التي باعها لنا الكونستابل. نغادر المنزل. نخرج إلى الشارع. نمر من أمام بقالة شيخ الحارة. ليس بها غير «سليم» خلف المنصة. نتوقف لدى الجزمجي. يناوله الحذاء. يقلبه الجزمجي في يده. يقول: النعل دايب من قدام ومن ورا.
يقول أبي: حط حديدة قدام واعمل لها نص نعل. - اسمع كلامي واعمل نعل كامل. دي إنجليزي. مش خسارة فيها. - زي ما بقولك. حديدة ونص نعل. - حاضر. تعرف يا بيه الجزمة الجديدة بكام؟ فيه واحدة أمريكاني عند «ناصف» ب 68 قرش. - وياريتها تعيش إنما لبستين وبس ... أمريكاني.
يلتفت نحوي قائلا: وانت جبت جزمة للعيد؟
يسبقني أبي في الرد: حاجيبله على العيد الكبير بإذن الله.
ينزع الحامل الخشبي للصحيفة. يبسطها ويقرأ العناوين. أدس رأسي بين بطنه والجريدة. الملك بنظارته السوداء في زيارة للمستشفى العسكري يواسي الجرحى العائدين من جبهة القتال. برفقته ملك شرق الأردن. خلفهما الأميرتان «فوزية» و«فائزة» بالملابس العسكرية. تحمل الأولى لقب الفريق والثانية لقب اللواء. يقول الجزمجي إننا شاركنا في حرب لا شأن لنا بها.
نواصل السير حتى الميدان ثم نتجه يمينا. نلج شارع «قمر». نتوقف عند دكان الترزي. يجلس أمامها فوق كرسي مادا ساقه فوق أخرى. يعمل في حياكة سترة. يناوله أبي قطعة القماش قائلا: عاوزين نعمل له بدلة العيد. يتفحص الترزي القماش ثم يقول: لكن ده قماش ستاير يا «خليل» بيه. - ستاير ولا مش ستاير. ينفع ولا لأ؟
يهز الترزي رأسه ممتعضا. يأخذ مقاساتي. البنطلون قصير حتى الركبة. نتفق على أن نأتيه بعد أسبوع لعمل البروفة الأولى. نتركه ونواصل السير حتى ميدان «السكاكيني». نمر بالكنيسة. نمضي في شارع «طورسينا» حتى ملتقاه بشارع «النزهة». يتوقف أبي أمام فيلا صديقه اللواء «فريد». يدفع الباب الحديدي وأتبعه إلى ممر وسط حديقة. نصعد بضع درجات وهو يكحت الحذاء في الرخام لينبه بوصولنا. يدق بابا حديديا. تفتح لنا خادمة عجوز. يسأل: البيه هنا؟ تدعوه للدخول.
نقف في ردهة مزدحمة بالأثاث فوق سجاد سميك. تختفي ثم تعود. تفضل يا بيه. نتبعها إلى حجرة الضيوف. على الجدران صور ضباط كالتي عندنا. تتدلى من السقف نجفة ضخمة. يظهر اللواء بعد فترة. يرتدي روبا من الحرير الملون ويعتمد على عصا. - أهلا «خليل» بيه. خطوة عزيزة. يجلس بجانبنا ويضع عصاه بين ساقيه. وجهه أسمر بحفرة غائرة أسفل عنقه. أعرف أنها من أثر رصاصة. أسفل الروب قميص أبيض بياقة منشاة تتدلى أوداجه فوقها. شاربه كبير ومنفوش الطرفين. ينادي على الخادمة ويطلب منها إحضار أطباق الخشاف من الثلاجة. تحضر ثلاثة أطباق في صينية مدورة. يعطيني أبي طبقا ويتناول واحدا. يبدي استحسانه لبرودة الخشاف. ترص أمي أطباق الخشاف الصغيرة فوق رخامة البوفيه. تفتت قطعة ثلج بقادوم خشبي. تنثرها فوق الأطباق.
يتحدثان عن الغارة. يقول أبي إننا أخطأنا بقبول الهدنة. يقول اللواء إنها كانت ضرورية بسبب فداحة خسائرنا. كما إننا محاصرون في «الفالوجا». واليهود منعوا الماء عن رجالنا فاضطروا لأن يشربوا بولهم. يسخر مما نشر في الصحف عن حديث بين «حيدر» باشا وزير الدفاع وأحد الوزراء . قال له الوزير: شيد حيلك يا باشا، عاوزين نعيد في «تل أبيب». يعلق اللواء: يبقى يقابلني.
ينتقل الحديث إلى أزمة المساكن. يقول أبي: تصور الشقة بقت بخلو 300 جنيه. يقول اللواء وهو يتناول مجلة مصورة: شفت الحكم على قتلة «أمين عثمان»؟ «أنور السادات» طلع براءة. يضع المجلة جانبا ويقول: كان ضابط عندي. محبتوش أبدا. خنيث. أتناول المجلة. أتأمل صورة «السادات». ملابسه أنيقة. عقدة ربطة العنق أصغر من المألوف. حليق شعر الرأس والذقن. الحلاقة وفقا للموضة التي تخفف الشعر المحيط بالأذنين.
ينادي اللواء على الخادمة ويطلب منها استدعاء ولديه. كبيران طويلا القامة. يقفان في رهبة عند الباب. يسأل أكبرهما: حضرتك عاوز حاجة؟ يأمرهما باصطحابي. نذهب إلى غرفة ضيوف أخرى. نجلس فوق سجاد سميك داكن الحمرة. تحضر الخادمة صينية كبيرة من الياميش. أتناول الكسارة وبندقة. يستأنفان لعبة كوتشينة ثنائية سريعة لا أتمكن من متابعتها. يقترح أكبرهما رهانا على فوز «أبو حباجة» في أوليمبياد «لندن» آخر الشهر. أسأل: «أبو حباجة» مين؟ يقول الأصغر: حد ميعرفش بطل النادي الأهلي؟ يؤكد شقيقه: أعظم لعيب كورة في العالم.
أنهض وأطوف بالغرفة. أجلس فوق أريكة. وسائدها وثيرة ملونة بألوان داكنة. على الجدار صور للولدين مع أبيهما وأقارب آخرين. أنهض. الولدان منهمكان في اللعب. أتسلل من الغرفة إلى الصالة. مظلمة. في نهايتها غرفة مضاءة. أقترب منها. أسمع صوت تلاوة القرآن. أطل بحذر. شيخ بعمامة وجبة فضفاضة متربع فوق كنبة بلدية. يده على خده. يتلو وهو يميل بجسمه يمنة ثم يسرة. تنتهي الآية فيواصل الاهتزاز صامتا. أعود إلى الصالون الصغير. يقترح الولد الكبير أن نلعب «الكومي».
يظهر أبي عند الباب واللواء من خلفه. أتبعه إلى الخارج. نغادر الفيلا ونأخذ طريقنا إلى المنزل. نتوقف عند حانوت للأدوات المنزلية. يشتري دستة أكواب صغيرة زجاجية صغيرة لشرب الشاي تزين جوانبها نقوش ملونة. يضعها على البوفيه قائلا إنها للعيد.
يرتفع نداء بائع الزبادي. يلتقط سلطانية فارغة من الفخار البني اللون. ندخل الغرفة ونفتح باب البلكونة. ينادي البائع ويعطيها له. يستخرج البائع واحدة ممتلئة من أسفل غطاء من القماش الأبيض. يناولها لأبي.
يتردد صوت المسحراتي من بعيد: قوم يا نايم وحد الدايم. يقترب صوت طبلته. يلج الحارة. لا تبدو ملامحه في الظلام. يقف أمام كل منزل وينادي السكان بأسمائهم. يدق على الطبلة في نهاية كل اسم. ينادي اسم أبي ثم اسمي.
5
يعد أبي طبقا من البيض المقلي. أسأله: هي «فاطمة» فين؟ يقول: بتعيد.
نتناول الإفطار في الصالة. يجلب براد الشاي. يصبه في اثنين من الأكواب الجديدة. يضع السكر ويقلبه. أتناول كوبي فتنفصل قاعدته ويسيل الشاي الساخن على المائدة. يجرب كوبه فيحدث المثل. ينهض واقفا. يترك كل شيء كما هو على المائدة. نغسل أيدينا.
يجر كرسي المكتب إلى البلكونة. يشعل سيجارته. يطلب مني أن أبحث له عن ورقة وقلم. أحضر له كراسة الواجب وقلمي الرصاص. يطوي الورقة. أقف إلى جواره. أطل على ما يكتبه:
عيد بأية حال عدت يا عيد
بما مضى أم بأمر فيك تجديد
يتطلع إلى الحارة مفكرا. أدرك أنه يحاول إكمال النظم من تأليفه كعادته في كل عيد. أقول: مش حنخرج بأه؟ لا يرد. ينهض متثاقلا بعد قليل. يحضر صندوق الحلاقة. يضعه على الطاولة. أملأ له كوبا من الماء. يبلل الفرشاة ثم يدعكها بالصابون.
أتناول قميصي الجديد. أقلب الياقة وأدس «باغة» في كل من الفتحتين المخصصتين لها. أرتدي بنطلون البزة الجديدة. القماش ثقيل وخشن. يطلب مني أن أكتفي بالقميص والبنطلون لأن الجو شديد الحرارة. أنصاع متضررا. أطمئن على وجود لفافة الأحجبة في جيب بنطلوني الخلفي. أسمع ضجة الأولاد في الحارة. أهرع إلى البلكونة. كلهم في ملابس العيد. البنات بفيونكات في شعورهن. يصيحون في نفس واحد: حل الكيس وادينا بقشيش يا حالو. يفجرون البمب. يحمل «سمير» شريطا من «حرب إيطاليا». يحك حباته في الأرض فتشتعل.
أستدير وأخطو داخل الحجرة. أروح وأجيء عدة مرات إلى أن ينتهي من الحلاقة. يدعك خديه وأسفل ذقنه بإصبع «الشبة» ذي الغلاف المفضض. يترك عدة الحلاقة فوق المكتب. ينهض واقفا. يخلع ملابسه. يرتدي القميص. يثبت الأزرار. ينقطع واحد ويتدحرج على الأرض. أحضره. يبحث في الرف العلوي للدولاب حتى يعثر على بكرة خيط وإبرة حياكة. يحاول إدخال الفتلة في فتحة الإبرة. يفشل. يعطيهما لي. أبلل طرف الفتلة بريقي. أدسها في الفتحة بسهولة.
يرتدي بنطلون البزة البيضاء. يثبت حمالتيه. - ناولني الجزمة. أحضر له الحذاء البني ذا المقدمة البيضاء. أنظفه بقطعة قماش. يجلس فوق حافة السرير. يدس قدميه في الحذاء. يعقد رباطه. يظل جالسا وهو يحدق في الأرض. أستعجله: يلا بأه. ينهض واقفا. يرتدي سترة البزة. يتناول الطربوش من فوق الشماعة ويضعه فوق رأسه. يلوي طرفي شاربه ويفركهما بأصابعه على الوضع المشدود إلى أعلى.
يغلق مصراعي البلكونة. يبحث عن المفتاح بين الملابس والأغطية المتناثرة فوق الفراش. يتناول المظلة البيضاء المعلقة في الشماعة. يضغط مقبضها فتنبسط ويظهر شق واضح في جانبها. يلقي بها جانبا في سخط. ينبهني ألا أنسى كتاب اللغة الإنجليزية وكراسة الواجبات.
نغادر الغرفة ونغلق بابها بالمفتاح. تظهر «فاطمة» عند باب المخزن: كل سنة وانت طيب يا سيدي، تروح وتيجي بالسلامة. يعطيها العيدية فتقبل يده: ربنا يخليك يا سيدي. يعترضنا المسحراتي في مدخل الحارة. لأول مرة أرى وجهه بالنهار. أسمر مليء بالتجاعيد. يقول لأبي: كل سنة وأنت طيب يا بيه. يعطيه أبي نصف فرنك.
دكان البقال مغلق. نبلغ الميدان. المراجيح منصوبة أمام مدخل شارع «الحسينية». نستقل الترام من الباب المجاور للسائق. أشرئب بعنقي لأقرأ اللافتتين الموضوعتين فوق رأسه: «ممنوع البصق.» «ممنوع الكلام مع السائق.» نترجل في ميدان «العباسية». الترام الأبيض. نغادره في ميدان «الإسماعيلية». يخرج أبي منديلا ويمسح العرق عن وجهه. يدور به حول رقبته خلف ياقة القميص. يخلع طربوشه. يلف المنديل حول إصبعه ويدور به حول الحافة الجلدية الداخلية للطربوش. يضع المنديل فوق رأسه فتتدلى حوافه على جبهته. يكبس الطربوش فوقه.
نلج الشارع ونتطلع إلى واجهة المنزل في نهايته. يتساءل: يا ترى موجودين؟ الشمس حارقة وهو يحمل بطيختين. يخلع طربوشه ويمسح العرق عن رأسه الأصلع بمنديل. نوافذ الترسينة مغلقة. نعود في صمت ووجهه مكفهر.
أدقق النظر في النوافذ الخشبية التي تتيح الفرجة من خلال فتحاتها الضيقة. إحداها مرفوعة قليلا إلى أعلى. أقول: لو خرجوا كانوا قفلوها.
نتوقف أمام البقالة الوحيدة. أمامها صناديق لسمك «البكلاه»، عريضة مصبوغة بلون ناصع البياض. كوم من البطيخ والشمام. عدة أقفاص من العنب والتين. يشتري أبي أقة من العنب البناتي وأخرى من التين الفيومي. يختار ثمرات التين المفتوحة ويتجنب المغلقة. يحملهما في كيسين مضمومين إلى صدره. واحد في كل ذراع. نواصل السير حتى المنزل. أمامه سيارة «سكودا» وسيارة أخرى «كرايزلر» ذات سطح مقبب. الممر ذو البلاط الملون. نصعد السلم.
ضجة العيد تأتي من الطابق الأول. تسكن به عائلة كبيرة في شقتين متصلتين. نواصل الصعود إلى الطابق الثاني. الباب المواجه للترسينة مغلق. الباب المطل على السلم مفتوح. ندخل منه. يرتمي أبي على كنبة وهو يلهث. أقف إلى جانبه. يتنهد في ارتياح. يخلع طربوشه ويضعه فوق وسادة في منتصف الكنبة. تيار الهواء يسري بين باب السلم المفتوح وباب حجرة الضيوف المؤدية إلى الفرانده. يندفع منها «شوقي». يماثلني في العمر. أبيض وسيم بشعر أسود ناعم. يرتدي بزة جديدة كاملة. يميل لونها إلى البني وتقطعها خطوط طولية بيضاء. حذاؤه بني بكعب كريب. تتبعه أخته «شيرين» في فستان ملون بكمين قصيرين. شعرها معكوص في فيونكة خلف رأسها. في جبهتها أثر جرح غائر. يتعلقان بأبي. يحتضنهما ويقبلهما. يعطيهما العيدية.
تقترب أختي «نبيلة» قادمة من ناحية المطبخ. ترتدي فستانا بلون داكن الحمرة بلا أكمام. وجهها ملون بالروج والبودرة. تقبل أبي في خده: كل سنة وانت طيب يا بابا. يهم بتقبيلها فتمنعه. - بلاش يا بابا، أحسن الماكياج يبوظ، تعال في الفرانده، الطراوة هناك حلوة. يشير أبي بيده أن تصبر عليه قليلا. يقول: الظاهر أخدت ضربة شمس. تقول: حاحط لك مية بخل. - اديني كوباية ميه الأول.
تنادي: «خضرة». تأتي الخادمة الجديدة مسرعة. سمراء أطول من أختي. لها صدر ممتلئ. سريعة الحركة في جلباب ملون. شعر رأسها ملفوف بمنديل في ألوان الجلباب. قدماها نظيفتان في صندل من البلاستيك. تتجه إلى صينية القلل الموضوعة فوق البوفيه إلى جوار جهاز الراديو. ترفع الغطاء النحاسي لإحداها وتصب منها الماء في كوب من الزجاج. تقدمه لأبي فوق طبق صغير من الفضة. تلتفت إلي: تشرب يا سيدي؟ تناولني كوبا آخر. أجرع المياه الباردة بطعم ماء الزهر. تأمرها «نبيلة» بإحضار فنجان ماء به قليل من الخل.
يخلع أبي سترته ويلقي بها إلى جواره. ترفع «نبيلة» الطربوش والسترة. تناولهما لي: علقهم جوه. يدي اليمنى ما زالت تحمل كتاب الإنجليزية والكراسة. تقول: حطهم على ترابيزة السفرة.
أطير بالسترة والطربوش إلى حجرة النوم. أشب فوق أصابع قدمي وأعلق السترة فوق أحد سواعد الشماعة. أثبت فيه الطربوش. أتطلع إلى أعلى متشمما. ترص «نبيلة» ثمرات المانجو فوق سطح الدولاب بعد جمعها من الحديقة. أمي تقدم شرائح المانجو في صينية مستديرة من الصيني مزخرفة برسوم ملونة. يحيط بها سور رفيع من المعدن. أحولها أحيانا إلى ميدان فوق السجادة تتجه إليه سيارات من علب الكبريت. تتناول تانت «دولت» طبقا صغيرا وشوكة وسكينا. تلتقط شريحة وتضعها أمامها في الطبق. أترقب دوري.
أعود إلى الصالة. يتمدد أبي فوق الكنبة على جانبه الأيسر معتمدا برأسه على فوطة بيضاء فوق ذراعه. تحضر الخادمة فنجان الماء والخل. أتناوله منها قائلا إني أعرف كيف أنقط له. أنحني فوقه. أغمس إصبعا في المحلول. أضعه في أذنه. أكرر العملية إلى أن أسمع طشا. ينقلب أبي على جانبه الآخر جاذبا الفوطة معه. أكرر التنقيط في الأذن الأخرى. ينهض جالسا محتفظا بالفوطة لصق أذنه. يقول: أهو كده فقت.
ينضم إلينا عمو «فهمي» بخطى سريعة يتقدمه كرشه البارز. يميل برأسه قليلا إلى اليمين ليرى صورته في مرآة البوفيه. تهز نسمة هواء جلبابه الأبيض الخفيف. - كل سنة وانت طيب يا «خليل» بيه، الطاولة جاهزة، النهارده العيد والعشرة بريال. يبتسم أبي: أشم نفسي الأول. يجذب عمو «فهمي» أحد مقاعد السفرة ويديره ليجلس في مواجهة الكنبة. يشعل سيجارة. يعطيني العيدية. ورقة جديدة من فئة خمسة قروش عليها صورة الملك «فاروق» في دائرة بيضاوية.
تحضر «خضرة» صينية كعك وغريبة. تضعها فوق مائدة صغيرة أمام أبي . تقدم إلي «نبيلة» طبقا صغيرا. أضع فيه قطعتين. أقضم واحدة محشوة بالملبن. يتناول أبي قطعة «غريبة». يأكلها في استحسان. يقول إنها معمولة جيدا لأنها ذابت في فمه على الفور. تقول «نبيلة» في زهو: صنعة إيدي، تعليم ماما الله يرحمها. يقول لي أبي: دوق واحدة. أهز رأسي نفيا. تقول باستهجان: ما ليش نفس. ما ليش نفس. حتفضل ترفع كده لغاية ما تطير. يعلق «فهمي» باسما وهو يتجنب النظر إليها: شوفوا مين بيتكلم. يتناول كعكة. تلتفت إليه في حدة ناظرة إلى كرشه: مش أحسن ما أكون زي الواحدة الحبلة.
يتجاهلها ويخاطب أبي: والنبي قول لها تسمن شوية، جبت لها مفتقة من «الحمزاوي»، مش راضية تاكل منها. يقول لها أبي: معه حق، الراجل يحب يلاقي حاجة يمسكها. يضحكون. تأتي «خضرة» بفناجين القهوة. ينحني أبي ليفك رباط حذائه. تسرع «خضرة» إلى مساعدته. تحضر له خفا من القماش. يسألها عن بلدها ويعطيها العيدية. يرفع ساقه اليسرى ويطويها فوق الكنبة أسفل اليمنى. يشعل «فهمي» سيجارة ويشعل لأبي سيجارته. - نلعب هنا ولا في الفرانده؟
يجيب أبي: الفرانده طبعا. بس استنى لما عرقي ينشف. - حق الناس في الحر ده تخرج بالقميص الاسبور والبنطلون القصير.
يقول أبي إن ابن عمه يكتفي في الصيف بقميص بكمين قصيرين ويخرج من غير طربوش فيبدو كالعلوق.
أسعل عدة مرات. تقول «نبيلة» وهي تنظر إلي في قلق إن مرض السل آخذ في الانتشار. تقترب من السرير الذي أرقد فيه مع ولديها. تقف فوق رأسي. ترقبني أسعل. عمو «فهمي» يقول لها إنها كحة عادية لأن السعال الديكي راح. تقول: أهو بكره بابا جاي ياخده. في الصباح أجوس أرجاء الشقة الواسعة في بيجامة ابنها «شوقي». أتجنب الاقتراب من قطع الأثاث المغطاة. أسألها متى يأتي أبي. تقول بعد الظهر. عند الظهر تغلق الشبابيك وتظلم الغرف. تنهمك في إعداد الحقائب وإغلاق الدواليب كأنها ستسافر. تعد لولديها ملابس يرتدونها. لا أحد يكلمني أو يعد لي ملابسي. أسأل «شيرين»: إنتو خارجين؟ تجيب هامسة: رايحين نقعد عند خالتي. - وتاخدوني معاكم؟ - لا ، حتفضل مع «سعدية» لغاية ما جدي ييجي ياخدك.
ينضم إلينا الحاج «حمدي» شقيق عمو «فهمي» الأكبر. يرتدي جلبابا أبيض وحذاء «موكاسان». له لحية كبيرة مشذبة. يغلب عليها اللون الأبيض. يحمل في يده مسبحة فضية. يقول: سمعتم عن القنابل؟
يسأل أبي: بتاعت «بنزايون» و«جاتينيو»؟ الإخوان المسلمين زودوها خالص.
يحمل عمو «فهمي» صندوق الطاولة: يلا ع الفرانده. يدخلون غرفة المسافرين ومنها إلى الفرانده. أتبعهم. أتلكأ قرب بابها. يجلسون فوق كنبة بلدية تحيط بها كراسي معدنية. صوت الحاج «أحمد» يسأل عن «شوقي» و«شيرين». صوت عمو «فهمي»: بيلعبوا تحت. - عملوا إيه في الامتحان؟ صوت «نبيلة»: نجحوا الحمد لله. زي كل سنة.
يلمحني الحاج «حمدي». يسألني: وانت عملت إيه؟ أتقدم منهم وأجلس على حافة الكنبة بجوار أبي. يرد عني باقتضاب: عنده ملحق إنجليزي. هي فين «سميرة»؟ يقول عمو «فهمي»: بيصيفوا في «راس البر». حنحصلهم بعد العيد إن شاء الله.
تقول «نبيلة»: تصور يا بابا «شيرين» عاوزة تلبس شورت؟
يفتح عمو «فهمي» صندوق الطاولة. يلعب الحاج «حمدي» مع أبي دورا ثم يستأذن منصرفا. يحل عمو «فهمي» محله. أتابع اللعب بصعوبة. يلعبان بسرعة فائقة. يتعادلان بعد عشرتين. يقترح عمو «فهمي» عشرة ثالثة تحسم النصر.
تظهر الخادمة قائلة: الغدا جاهز. يغلق عمو «فهمي» صندوق الطاولة وينهض واقفا. نمضي إلى الصالة. ينحني ليرى وجهه في المرايا. يرفع يده ويمر بها على شعره الخفيف. يعتدل واقفا. يلتقط كعكة من الصينية الموضوعة فوق البوفيه. يلتهمها. يشير إلى لوحة عريضة فوق المرآة مخاطبا أبي: إيه رأيك فيها؟ قول بصراحة. أحسن من القديمة ولا لأ؟
يتجه أبي إلى كرسيه. يستوقفه عمو «فهمي» ممسكا بذراعه وهو يلقي نظرة جانبية إلى أختي: إيه رأيك في ذوقي؟ مش عاجبة الست. أتأمل اللوحة. ألوانها داكنة. في ركنها شخص ضئيل جدا غير واضح الملامح يتطلع إلى شيء ما مختف في زحمة من الألوان. ربما قارب مقلوب.
يجلس على رأس المائدة. تجلس «نبيلة» في مواجهته عند الطرف الآخر. ينضم إلينا «شوقي» و«شيرين». يأمر عمو «فهمي» الخادمة بإضاءة النجفة. تنتقل عيناه بسرعة بين أطباق الطعام. تتوقفان عند الدجاج المحمر في الطبق المستطيل. يمد يده إلى دجاجة قائلا لأبي وهو يغمز بعينه: صدر أو ورك؟ يتبادلان الابتسام.
يرفع وركا إلى فمه. ينظر من طرف عينه إلى أختي. تستخدم الشوكة والسكين. يأتي على الورك بسرعة. يمد يده إلى بقية الدجاجة. تنظر إليه في صرامة. يمزق جزءا ويرفعه إلى فمه. تقول: شوف يا بابا، بياكل زي الفلاحين. يواصل التهام الدجاجة دون أن يعبأ.
نختتم بشرائح البطيخ. نغسل أيدينا في الحمام. تحضر الخادمة صينية فوقها عدد من زجاجات الكازوزة «كوثر».
تسأل «نبيلة» أبي: تحب تقيل جوه. يقول إنه يفضل كنبة الفرانده. تحضر له الجلابية البيضاء المخصصة له. يأخذها ويدخل غرفة الضيوف.
تنتهي «خضرة» من إزالة محتويات المائدة وتنظيفها. يلتقط «عمو فهمي» كعكة. يلقي بها في فمه. يطلب مني الجلوس إلى المائدة. يجلس إلى جواري. أفتح كتاب اللغة الإنجليزية. أقرأ الدرس. يشرح لي معاني الكلمات. انتباهي موزع بين صوته الرتيب وأصوات الصبية في الشارع. يعطيني واجبا للحل. يدخل غرفة النوم وتتبعه أختي.
يسود الهدوء. أشرع في الإجابة على الأسئلة. أقوم بعد فترة. أغادر الصالة. أمضي إلى الكنيف البلدي. أتبول. أعود إلى الصالة. أقترب في حذر من غرفة النوم. يتجلى الفراش في مجال رؤيتي. «فهمي» في كلسون أبيض واسع يصل إلى ركبتيه. مستلق على جانبه الأيسر بحيث يواجهني. خلفه «نبيلة» فوق ظهرها. ركبتاها مرفوعتان إلى أعلى. فخذاها عاريتان.
أعود إلى مقعدي. أحدق في اللوحة. يتناهي إلى سمعي صوت مألوف في الخارج. «دندورمة كايماك». عجوز ضيق الخلق يدفع أمامه عربة يد. بها إناءان معدنيان للجيلاتي يغطيهما الشاش. واحد للحليب بطعم مثل القشطة. الآخر للفراولة الطبيعية التي تتخللها بذور النبات. يردد نداءه في كبرياء. أتمنى أن تنزل الخادمة للشراء منه. لا أسمع صوت فتح باب الشقة.
يظهر أبي عند باب غرفة المسافرين. في القميص والبنطلون. يخرج عمو «فهمي» من غرفة النوم مرتديا جلبابه. تتبعه «نبيلة» في فستان أزرق. تحضر «خضرة» الشاي الأخضر. يقول عمو «فهمي »: عندنا كمان «لبتون». يلتهم كعكة. نشرب الشاي ثم ننتقل إلى الفرانده.
تجلب «خضرة» القهوة. يقترح عمو «فهمي» على أبي عشرة جديدة من الطاولة. تصر «نبيلة» على لعب «الكونكان». تفنط الكوتشينة وتفرق الورق. أريد أن ألعب فينهرني أبي. أبتعد إلى حافة الكنبة. أضع إصبعي في فتحة أنفي. ينتهي الدور بانتصار «نبيلة». تجمع أوراق الكوتشينة ومكسبها من القروش في فرح. يخفي زوجها ضيقه ويبتسم في تكلف.
يرتفع صوتها: عيب كده، قوم اغسل إيديك. أقوم على الفور وأنا لا أجسر على النظر إلى أحد. أتبعها إلى الحمام الأفرنجي. تشير إلى الغطاء البلاستيكي للتواليت. فوقه آثار قدمين. - إنت اللي طلعت فوقه برجليك؟ أقول لها إني تبولت في الكنيف الآخر. لا تصدقني. أغسل يدي بالصابون. تسألني: هو بابا عنده فلوس في البنك؟ أقول إني لا أعرف. تسأل من جديد: معندوش دفتر شيكات؟ أكرر عدم معرفتي.
أتبعها إلى الفرانده. أتوقف عند بابها. تهز نسمة هواء اللمبة المدلاة من السقف. على مبعدة بقع صغيرة من الضوء تخفق في ضعف. غرفة المائدة مظلمة. نافذتها مفتوحة. ضوء مصباح الشارع يسقط على محتويات المائدة.
أقترب من زوج أختي. أمد له يدي بالكراسة. يتناولها ويضعها جانبا حتى ينتهي الدور. يراجع إجاباتي. يعيدها إلي. يربت على كتفي مشجعا. ينهض أبي. نخرج إلى الصالة. أحضر له السترة والطربوش. تختفي أختي. تعود بصندوق أحذية من الكرتون ملفوف بدوبارة. تضعه على المائدة. نتجه إلى باب الشقة. تقول «نبيلة»: الكحك. يلكزني أبي بمرفقه. أتقدم من الصندوق. أحمله من الدوبارة. هناك دائرة واسعة من السمن على جداره.
6
نتجمع عصرا فوق السلالم الخمس بمدخل منزل الناصية. «سمير» و«صفوت» وولد سمين يسكن في آخر منزل بالحارة. نلعب الكوتشينة. تنضم إلينا «سلمى». أخت «سمير». في سني أو أكبر قليلا. ترتدي فستانا من غير أكمام. ذراعاها رفيعتان. تجلس فوق البسطة أمام شقتهم. نصبح نحن تحتها. تحدق أمامها ساهمة. أرفع رأسي. تفرج ساقيها. ألمح فخذيها. يرتفع صوت أمها من داخل الشقة. تزعق في زوجها. أنتظر صوت أبي يستدعيني كعادته كل ليلة عندما يحل الظلام. أميز ضجة غامضة صادرة عن منزلنا. أنفصل عن رفاقي وأسرع إلى مدخل المنزل أدفع بابه الحديدي. نور السلم مضاء. أصعد درجتين. باب الشقة مفتوح. أبي على مقعد أسفل نافذة المنور في ملابسه الكاملة. يحمل طربوشه في يده مقلوبا إلى أعلى. وجهه متجهم. أمي تروح وتجيء منكوشة الشعر. تصيح وتصرخ وتشتم. تهجم عليه. تختطف الطربوش من يده. تلقي به على الأرض. تدوسه بقدميها في عنف. تختطف نظارة القراءة من جيب سترته العلوي. تهرسها على البلاط. أبي جامد في مكانه. يوجه إليها كلمات حازمة: كفاية بأه يا «روحية». بلاش فضايح. تسرع إلى نافذة المنور. تفتح مصراعيها على سعتهما. تردد كلمات غريبة. تهدأ بعد قليل. ينتزع أبي الطربوش من الأرض. يبسط جوانبه. يضم حافتيه ثم يبسطهما عدة مرات. يمسده بذراعه. يرتديه. ينهض واقفا. يصحبني إلى الخارج.
تظهر «سهام» أخت «سلمى» الكبرى على باب الشقة. ترتدي جلبابا منزليا بغير أكمام. تحمل سبت غسيل فوق رأسها. تصعد السلم. أتابع اهتزاز فلقتيها حتى تختفي.
تشير «سلمى» إلى الطابق الأعلى في منزلنا. تسألنا إذا كنا نعرف ما حدث في الفجر. البوليس هاجم المنزل وقبض على «وديع».
أسألها بدوري: «وديع» مين؟
ابن «أم وديع».
ليه؟ هو حرامي؟ - لأ. شيوعي. - يعني إيه؟
تقول إنها لا تعرف. - شكله إيه؟
لا أتذكر أني رأيته. تقول إنه طالب في الجامعة. وإنه كان يدور على منازل الحارة في السنة الماضية يشرح كيفية الاحتراز من الكوليرا.
يرتفع ذيل فستانها إلى أعلى فتمد يدها وتنزله فوق ركبتيها، لكنها تترك ساقيها منفرجتين. تظهر منطقة مظلمة بينهما. أكتشف أنها لا ترتدي لباسا. تمد أمي يدها أسفل جلبابها. تجذب قطعة كبيرة مطوية من القماش مبللة بالدماء. تدخل الحمام. تخرج بعد قليل. أخاطبها فلا ترد علي. تبدو ضيقة الصدر. تحني رأسها وتنصت. كأنما لصوت ما داخل رأسها. تتجه إلى النافذة. أقترب منها في حذر. أرقد فوق الأرض وأدس رأسي أسفل ثوبها. أعرف أنها ستغتاظ. لا ترتدي لباسا. تزيحني جانبا.
أرتب ورقي. أنظر إلى «سلمى ». تتطلع إلى الأرض ساهمة. ترفع رأسها فتلتقي نظراتنا. تشيح بعينيها. تسقط نظراتي على ساقيها. تفرج ساقيها أكثر. أصعد إلى شقة صاحب المنزل لأقترض قليلا من الملح. تنتحي بي ابنتاه على السلم. تسألاني في صوت هامس عما كانت أمي تقوله بالأمس وهي تصرخ في أبي. لا أفهم أي كلمات تعنيان. تقول إحداهن وهي تبتسم: «شراشيب إيه؟» أقول لهما. يحمر وجهاهما وتضحكان في خفوت.
تتردد الزغاريد. من منزل «حكمت». ترفع «سلمى» عينيها إلى البلكونة التي تعلو بلكونة «صفوت». يقف فيها «عبد الحميد» المجنون ابن صاحب منزلنا. في ملابسه الكاملة والصحيفة المطبقة في يده اليمنى. يوجه نظراته إلينا.
تفرج ساقيها إلى آخرهما ثم تسدل فستانها. تهب واقفة. تختفي في شقتها. تنادي «أم سمير» عليه. يلعلع صوت «أم صفوت» تستدعي ابنها. ينصرفان ويتبعهما الولد السمين. أنتظر لحظة ثم أتسلل صاعدا السلم حتى السطح. بابه مغلق. أدفعه فيفتح. سبت الغسيل في المنتصف. بعض محتوياته فوق الحبال. لا أثر ل «سهام». أقترب من حجرة طالب الهندسة. يدق قلبي. الباب مغلق. أنصت فلا أسمع شيئا. أضع عيني على ثقب المفتاح. لا أرى سوى مكتب خال. أسمع حركة خلف الباب. أجري نحو باب السطح. أهبط مسرعا.
تنبعث الزغاريد من منزل العروس. أصعد إلى شقتنا. أبي جالس في الصالة. «فاطمة» تشكو له من زوجها. تقول إنه يسكر دائما بالسبرتو الأحمر. وبعد ذلك يصبح عدوانيا ويضربها. يهون أبي عليها. يطلب منها إحضار صفيحة جبن قديمة. يأمرها بتنظيفها جيدا بالماء والصابون ثم تجفيفها. يملؤها بكسرات الخبز المتجمع لدينا. يضيف إليها الماء. يبعثها لتشتري خميرة بيرة من الفرن. تلتف بملاءتها السوداء وتذهب. أقف في البلكونة. تعود بالخميرة. يعترضها زوجها «عباس» عند المدخل. «كنت فين يا بنت الكلب؟» تقول في تحد: سيدي «خليل» بعتني السوق.
يضع أبي الخميرة في الصفيحة. يقلب محتوياتها. يقول لها أن تنتظر ثلاثة أيام ثم تعطي «عباس» منها. يقول إن «البوظة» مفيدة للمعدة ومسكرة أيضا. وإنها ستساعده على الامتناع عن السبرتو الأحمر. تنحني على يده وتقبلها: ربنا يخليك يا سيدي.
يطلب منها نقل المخدات إلى الجانب الآخر من الفراش؛ لنكون في مواجهة باب البلكونة ونحصل على بعض الهواء. أشم رائحة شواء رنجة. أسأله لماذا لا نأكلها. يقول إنها أكل الفقراء.
أقف في البلكونة. عيني على شقة العروس. تلج الحارة عربة كارو فوقها عدد كبير من الكراسي والسواتر الملونة التي تستخدم أيضا في المآتم. يجري نقلها إلى سطح المنزل المقابل. يسمح لي أبي بالخروج. أنضم إلى الأولاد المتحلقين حول المدخل. نصعد السلم حتى السطح ثم ننزل. تختفي الشمس فيشعلون الكلوبات. يجربون الميكروفون: آلو. آلو. واحد. اتنين. تلاتة. نتزاحم حول مائدة الشربات. نحتل كراسي الصفوف الأولى فينهروننا. يبعدوننا إلى الخلف. ننتظر في لهفة. يظهر العروسان أخيرا في مدخل السطح. تبدو «حكمت» جميلة في ملابس الزفاف. العريس أقصر منها وأكثر سمنة. في بزة سوداء وربطة عنق على شكل الفراشة. يجلسان في كوشة في طرف السطح.
تصل الراقصة. سمراء قصيرة. يلقي الطبال عدة مونولوجات ل «شكوكو» و«ثريا حلمي». تختفي الراقصة ثم تظهر في بزة الرقص. ذراعاها عاريان. ألمح أعلى ثدييها. نصفق لها. ترقص على أغنية «البوسطجية اشتكوا من كتر مراسيلي.» تستدير أمام العروسين. تنحني إلى الخلف وهي ترقص. تضع رأسها في حجر العريس. تنفرج بزتها للحظة عن أعلى فخذيها. تجلس في الصف الأول لتستريح. يعطيها أحد الجالسين قطعة من الكرتون تحرك بها الهواء أمام وجهها وصدرها. أتسلل بين الكراسي مقتربا منها. أقف خلفها تماما. أمد يدي وألمس ساعدها الممتلئ عند الكتف. أتوقعه ساخنا. أفاجأ ببرودته.
7
يسألني الدكتور «عزيز»: عملت إيه في الملحق؟ يرد أبي: نجح والحمد لله. المهم ميعملهاش تاني. تتجه جميع الأنظار إلى امرأة سمينة في بنطلون على الرصيف المقابل. تسقط أضواء الدكاكين على ظهرها فيبدو ترهل إليتيها. يقول الشيخ المعمم: شوف الولية اللي متختشيش. كل حاجة باينة. يخبط القس كفا بكف قائلا: الدنيا باظت. يقول الشيخ المعمم: تفتكروا إحنا انهزمنا في «فلسطين» من شيء شوية؟ ده عقاب من ربنا. يقول «رأفت»: المدافع بتاعتنا كانت بتنفجر فينا. يقول أبي: الملك «عبد الله» كان شغال مع اليهود. يقول الدكتور «عزيز»: اليهود شردوا نصف مليون عربي في «شرق الأردن» و«سوريا» و«لبنان» و«مصر». و«عزام» باشا يقولك سيصلاها اليهود نارا حامية. يضحكون.
يقول «رأفت» مستنكرا وهي هزيمتنا في أوليمبياد «لندن» برضه عقاب من ربنا؟ يقول «عبد العليم»: ده اتصرف على بعثتنا آلاف الجنيهات. راحت كلها على فاشوش. يقول «عبد العليم»: حقنا نسميها النكبة الأوليمبية. وبعدين يقولوا إننا حنستعد من الوقت لأوليمبياد 52.
يعرض عليه الشيخ ما اشتراه للحج: كيس من القماش لماء الشرب والاغتسال وحزام عريض من الجلد اسمه «الكمر» يعقده المسافر على وسطه تحت الملابس ويضع فيه ماله. يبدي أبي إعجابه بالقميص الجديد الذي يرتديه «رأفت» أفندي. - جبته منين؟ - من «شملا» ب 58 قرش.
يقترب منا رجل ممتلئ أسمر البشرة. الطربوش في يده. شعر رأسه أسود غزير. رأسه ضخم ووجهه عريض. ينهض الحاج «عبد العليم» و«رأفت» أفندي: تفضل يا «مندور» بيه. يلكزني أبي لأترك مقعدي له. يقول «عبد العليم»: الدكتور «مندور» بلدياتي من «منيا القمح»، واشترك في ثورة 19. يقول الدكتور «مندور» في خجل: الحقيقة أنا كنت وقتها عيل صغير. كنت راجع من المدرسة على حمار. وفوق كوبري «مطوبس» شفت مظاهرة من الفلاحين والأفندية بيهتفوا للاستقلال ول «سعد». خرج عساكر إنجليز من نقطة البوليس وضربوا عليهم نار. يوميها اتصاب أكتر من مية مات منهم كتير. رجعت البلد بالخبر. الناس اتجمعت وحملوا الفوس علشان يكسروا سكة حديد الحكومة. لحقهم «عثمان باشا أباظة» أكبر مالك في المنطقة وهداهم.
يقول «رأفت»: برضه حنعتبرك من رجال الثورة وننتخبك عن الدايرة. يضحك «مندور»: ده لو فيه انتخابات. يقول «عبد العليم» للقس: وانت يا مقدس تنتخب مين؟ يقول القس: والله أنا تعاهدت مع «جرجس صالح» مرشح الحزب السعدي. يقول أبي: أنا كمان. يقول الدكتور «عزيز»: البلد محتاجة انتخابات نزيهة وحكومة جديدة. يقول «رأفت»: ده مستحيل في ظل الأحكام العرفية. يقول أبي: الأحكام العرفية ضرورية علشان الاغتيالات السياسية والحرب. لو اتلغت وحصلت انتخابات حييجي «الوفد».
يقول «مندور» محتدا: طب وفيها إيه ؟ - حنرجع للرشاوى واستغلال النفوذ.
يتمالك «مندور» نفسه: وحضرتك فاكر إن الوقت مفيش رشاوى واستغلال نفوذ؟
يقول «عبد العليم»: الدكتور معاه حق. إحنا قرينا اللي كتبه عن مطار «المنيا» وعلاقة رجال الدولة بكبار الملاك.
يستطرد الدكتور «مندور»: ثم إن «الوفد» مش «عثمان محرم» و«فؤاد سراج الدين» وبس. فيه ناس تانية كويسة ووطنية. المهم إن الوضع الحالي مش نافع. الأسعار بتزيد كل يوم. مصاريف المدارس زادت. والملك بيلعب القمار كل ليلة في نادي السيارات. والمسئولين بيلعبوا «التيرو».
يسأل الشيخ المعمم: هو إيه «التيرو» ده؟ - مراهنات الرماية في نادي الصيد.
تحرك نسمة هواء التراب المكوم على جانب في أول الشارع فيهب علينا. يقول «عبد العليم» إن مصلحة التنظيم تحفر الشوارع وتترك تراب الحفر على الجانبين تنثره العربات والهواء. ثم تأخذ في دك الشوارع بالحجر والزلط ولا تراعي الارتفاع، فيعلو مستوى الأرض عن مستوى الشوارع المقاطعة له فتضطر المصلحة إلى حفره مرة أخرى لمساواته ببقية الشوارع، وهكذا دواليك. يقول الدكتور «مندور» إن المقاولين هم المستفيدون. أصبحوا مليونيرات وعندهم كلاب وموظفون لخدمتها بمرتبات يحلم بها خريجو الجامعة.
يقول «رأفت»: الواحد معدش عارف يركب الأتوبيسات من الزحمة. يقول الدكتور «عزيز» إن الشركات التي وضعت تحت إشراف الحكومة تخسر. التأميم مش نافع. يقول «مندور» منفعلا: ده اللي بيقوله «عبود» باشا. الشركات هي السبب في الزحمة. بتخلي السواقين والكمسارية ياخدوا أكبر عدد من الركاب. عايزين يلموا فلوس قبل ما يسلموا العربيات للحكومة خردة.
ألمح مجلة فوق مكتب الحاج «عبد العليم». أتسلل داخل الدكان وأتناولها. مطوية على صفحة بها إعلان عن فيلم «غرام وانتقام» ل «أسمهان» و«يوسف وهبي». أتناول المجلة وأحملها إلى الخارج. أريها لأبي: فيه فيلم جديد ل «أسمهان». يقول: ده فيلم قديم، عملته قبل متموت. - هي ماتت إمتي؟ - من أربع سنين. مش كده يا «رأفت» أفندي؟
يضع «رأفت» ساقا على ساق. يلمع حذاؤه الأسود في الضوء الضعيف: أيوه مظبوط، أربع سنين.
يعلق «عبد العليم»: لحد الوقت محدش عارف إذا كانت ماتت موتة ربنا أو حد قتلها.
يقول الدكتور «عزيز»: طبعا ماتت مقتولة. الأوتوموبيل نزل في المية من غير السواق. راح فين؟
يسأل الشيخ المعمم: ومين قتلها؟
يقول أبي: المخابرات الإنجليزية، كانت جاسوسة للألمان. تفتح لأبي عشر دقائق يذهب فيها إلى دورة المياه. ترافقه حتى بابها وتقف خارجه إلى أن يفرغ. تعيده إلى الغرفة وهي ترمقه بصرامة. يحاول ملاطفتها فتقول: متحاولش. إنت جاسوس ألماني ولا بد من سجنك ولا تحب أبلغ البوليس وأعمل لك فضيحة بجلاجل؟ أتسلل منه إلى داخل الغرفة. تغلق الباب علينا بالمفتاح. يقول لي أبي متفكها: السجن مكتوب لي وهنا أهون من سجن الحكومة. على اليمين تكومت فوتيات الصالون فوق بعضها. وعلى اليسار انتصب السرير ذو الأعمدة النحاسية. يطلب مني أن أخرج بالقلة لأملأها وأرى ما يحدث. أطرق الباب لتفتحه. أملأ القلة وأتلصص عليها. أعود إليه بسرعة لأخبره.
يقول الدكتور «مندور»: الملكة «نازلي» هي اللي دبرت القتل. كانت بتغير منها.
أنصت في اهتمام فالحديث عن أم الملك. يستفسر أبي: وليه؟ - بسبب «أحمد حسنين» باشا. - ماله؟ - كانت عشيقته. - مين؟ أسمهان؟ - «أسمهان» الأول وبعدين «نازلي».
يتحدث عن أزمة السينما والمسرح. يقول إن المنتجين حققوا أثناء الحرب العالمية أرباحا هائلة بأفلام كوميدية وتافهة. وارتفعت أجور الممثلين إلى مستوى خيالي. وأغرى هذا كل من هب ودب بدخول ميدان الإنتاج السينمائي فانحط مستوى الأفلام وانحدرت إلى تملق الجمهور واستثارة غرائزه. أميل على أبي وأهمس في أذنه: عايز أشوف فيلم «أسمهان». يقول في ضيق: إن شاء الله.
8
يجر كرسي المكتب إلى البلكونة. الحارة مظلمة. يتراءى ضوء ضعيف في النوافذ والبلكونات. يتأفف من الحرارة. يخلع طاقيته. يحركها أمام وجهه. أقف إلى جواره. نلمح «سهام» مستندة بمرفقيها إلى حافة نافذتها. بجوارها طالب الهندسة. تقترب منا «فاطمة» وفي يدها عود من قصب السكر. ترى اتجاه نظراتنا فتقول إن «سهام» حملت من الطالب ولهذا سارعا بالزواج من سكات. يعنفها أبي: وانت مالك.
تتربع حافية عند قدميه فوق البلاط النظيف العاري. تقشر عود القصب وتقطع منه عقلة بالسكين. تقدمها إلى أبي. يقول ضاحكا إنه لا يستطيع مضغها. تعطيها لي. أطبق عليها بأسناني وأمتصها حتى آخرها ثم ألقي بالمصاصة في الطبق. تمد ساقيها أمامها. تلقي العقلة الثانية جانبا قائلة إنها مسوسة.
ينخفض ضوء المصباح الكهربائي. تقوم لإعداد مصباح الزيت تحسبا لانقطاع الكهرباء. يزعق لها: البسي الشبشب. تعود بطبق من «حب العزيز». تتربع على الأرض فينحسر ثوبها عن فخذيها. أجلس أمامها على البلاط. تتناول بضع حبات. تخفي يديها خلف ظهرها ثم تبرزهما مضمومتين. تضعهما فوق فخذيها العاريين. أقول: حادي بادي، سيدي «محمد» البغدادي، شاله كله وحطه على دي. أهوي بيدي على قبضتها اليمنى فتسحب يدها ضاحكة. تستقر يدي على فخذها العارية. يقول أبي: لظلظ. مش كده؟ أمسك لحم فخذها وأردد: لظلظ.
تقول: حتى «حب العزيز» سعره زاد. كل حاجة زادت. يقول أبي إن المصريين عانوا دائما من ظلم الحكام وغلاء الأسعار. أيام المماليك كانوا يصرخون من غلو الضرائب مرددين: «إيش يجيلك من تفليسي يا برديسي.» أطلب منه أن يحكي لنا إحدى نوادره. يقول إنه سافر مرة إلى «تركيا» وطاف بقصر «يلدز» العجيب. حماماته مصنوعة من المرمر. ومزودة بالكنيف الأفرنجي. أحس بحاجة تضغط عليه فجلس فوق واحد منها. وعندما انتهى أدار صنبور المياه وفوجئ بشيء غريب يحتك بفخذيه. كما لو كان أيديا بشرية. قفز واقفا واكتشف عدة فرش صغيرة من المياه تتحرك بخفة في اتجاهات مختلفة.
تبدي عجبها: يعملوا كده في بلد الخلافة؟ - خلافة إيه؟ إنتي متعرفيش حاجة. لما «استامبول» اتهدت في الزلزال وجم يشيلوا الناس من تحت الأنقاض لقوا الرجالة والستات لابسين في بعض كده. يتخلل أصابع يده اليسرى بأصابع اليد اليمنى. - هم مش مسلمين؟ - الإسلام كان أيام الرسول والخلفاء الراشدين. يحكي لنا عن الرسول وأمانته. وعن «عمر بن الخطاب» وعدله. وعن «علي بن أبي طالب» وولديه.
أسأله إذا كان قد اشترك في ثورة 19. يقول: أمال. كنت أسيب الديوان مع الموظفين. نترص فوق عربات الكارو ونلف الشوارع واحنا بنهتف ضد الإنجليز وبحياة «سعد زغلول».
تسأله «فاطمة»: إنت شفت بلاد كتيرة يا سيدي؟ يقول: مش كتير. احكي لنا يا سيدي. يقول: حاحكيلك، ناوليني القلة الأول. تهب واقفة وتتناول إحدى القلل الثلاث الموضوعة في صينية على حافة سور البلكونة لتبرد. يكرع منها ويتنهد راضيا. يطلب منها أن تتأكد من امتلاء القلتين الأخريين. تحمل إحداهما إلى الداخل لتملأها. تعود فتضعها في الصينية بين حبات الليمون والخيار.
يسترخي أبي في جلسته. يشعل سيجارته السوداء. يقول: أول مرة كانت للسودان مع الجيش. كانت «أم نبيلة» الله يرحمها معايا. وكانت حبلة في «نبيلة». نزلنا في بيت من بابه. الدنيا حر ولعة. أدور على حد يساعدنا في فك العفش. مفيش. شفت اتنين رجالة لابسين أبيض وممددين تحت شجرة. كل واحد ساند على كوعه وبيلعبوا «السيجة». واحد منهم كان بيمضغ حاجة في بقه وسنانه سودة زي الفحم. ناديت عليه: يا زول. ولا حياة لمن تنادي. سمعت صراخ «أم نبيلة». جريت لقيتها لازقة في الحيطة. وشها أصفر وعنيها على ربطة قماش مفكوكة وحشرة صغيرة. عقربة زبانها مرفوع. جيت أدوسها. مطلتهاش. جريت على الحيطة وخرجت من الشباك. «أم نبيلة» اترمت في حضني. سقيتها كوباية مية. بقينا ننام جوة الناموسية ونحط علب صفيح مية تحت عمدان السرير.
تضع «فاطمة» يدها على صدرها وتبسط ساقيها: حق الواحد ميتغربش. يفضل في بلده. - إنت فاكرة هنا كان أمان؟
يحكي لنا عن «القرعة» وكيف كان الناس يتهربون من التجنيد. الفقراء يصيبون أنفسهم بعاهات. في العين أو الذراع أو الساق. أما الأغنياء فيشترون حريتهم بالمال. يدفعون «البدلية». وعندما تتجمع لدى موظفي القرعة يصبحون هدفا للصوص.
يهوي بالطاقية أمام وجهه: كنت أنام والطبنجة تحت المخدة. هي وكيس الفلوس. في ليلة صحيت على صوت رجل فوق السقف. أخدت الطبنجة من تحت المخدة. وقمت بشويش. وقفت في الضلمة وزعقت بقوة وجراءة: مين هناك؟ محدش رد. فات ربع ساعة ولا صوت. بعد شوية طلع الفجر فرجعت نمت.
تتطلع إليه «فاطمة» مبهورة: ياه. دا انت قلبك جامد قوي يا سيدي. يستطرد قائلا إن الطرق أيضا لم تكن آمنة. وخاصة في الصعيد. في الليل تكمن الرباطيات على جوانبها . يكون راجعا من سهرة في بيت المأمور أو وكيل النيابة. الدنيا ضلمة كحل. يده تقبض في حزم على كيس النقود وعيناه تفتشان في الظلام. - كان نظري وقتها ستة على ستة. مرة اتصبت برصاصة. يشير إلى أثر جرح في جبهته بين عينيه. - ومرة انضربت بسكينة. يدير رأسه ليرينا أثر جرح مائل في قفاه.
أسأله: ولسه عندك المسدس؟ - لا. الإنجليز كانوا بيلموا السلاح فخبيته في جنينة الفيلا. الظاهر خال «نبيلة» اللي كان عايش معانا سرقه وباعه.
يرين علينا الصمت. يقول بعد لحظة: المهم الواحد يعرف إزاي يتصرف. مرة كنت راكب التروماي. طلع اتنين. واحد وقف على السلم من اليمين. والتاني نط من الشمال. سألني عن الساعة. اشتبهت في إنهم نشالين. مديت إيدي في جيبي وطلعتها مقفولة. عملت إني بابص فيها. وقلت له الوقت بالتقريب. اللي على اليمين راح ضاحك وقال لزميله: سيبه يا جدع. باين عليه من أهل الصنعة.
تضحك «فاطمة» وتخبط بيدها على فخذيها العاريين. أطلب منه أن يحكي لنا عن «حافظ نجيب». يقول إنه كان لصا داهية ونصابا دوليا. واشتهر بقدرته على التنكر والإفلات من البوليس. - مرة مسكوه متنكر على هيئة بارون إيطالي. ومرة زي السفير التركي. ومرة ثالثة لابس قسيس. المهم. في المحكمة كان واقف في القفص. وهب القاضي بيلتفت ملقاهوش. لحد الوقت محدش يعرف إزاي خرج من القفص.
تقول: والنبي يا سيدي تحكيلنا عن «جحا». يقول إن «جحا» سكن مرة في دار. بعد يومين اشتكى لصاحبها من قرقعة في سقفها. وإنه يخشي سقوطه. طمأنه صاحب الدار قائلا إن السقف يسبح الله. قال «جحا»: ما هو ده اللي أنا خايف منه. قاله: ليه؟ قال: يمكن يسوق فيها ويسجد علينا. ينفجر أبي ضاحكا حتى تدمع عيناه. يمسحهما قائلا: ربنا يجعله خير. أسأله لماذا يقول ذلك؟ يقول إن الوقت السعيد يتبعه دائما وقت سيئ. نتناول الإفطار فوق مركب عند روض الفرج. فول مدمس وعسل نحل بالقشطة. المائدة خشبية مدهونة باللون الأزرق. أمي تدندن بأغنية. نغادر المركب ونمشي وسط مزارع . ندخل بستانا للفاكهة. يشتري أبي موزا وبلحا. يدعوني صاحب المشتل لأكل الجوافة. آكل حتى تمتلئ بطني. نغادر المشتل. أتعثر في غطاء بكبورت. أقع فوقه وتصطدم رأسي به. أتقيأ كل ما أكلته.
يتناهى إلينا صوت «عبد الوهاب» من راديو «أم زكية». يغني: في البحر لم فتكم في البر فتوني. بالتبر لم بعتكم بالتبن بعتوني. يغني أبي معه: أنا كنت وردة في بستان قطفتوني، وكنت شمعة جوه البيت طفيتوني. يهز رأسه في حزن ويقول: بعد ما كنت يا «خليل» وردة في إيد الناس يشموك، بقيت يا «خليل» زي الطبيخ اللي حمض دلقوك. تقول «فاطمة»: ما تقولش كده يا سيدي. إنت أهه زي الفل.
ينهض واقفا ويخطو عبر الغرفة. عيناه على فخذي فاطمة. يرتفع صوت «عباس» مناديا عليها. تغطي فخذيها بسرعة وتنهض واقفة. تقول: تصبحوا على خير. يصحبني إلى الكنيف استعدادا للنوم. يطفئ النور. يستلقي إلى جواري. يترك باب البلكونة مفتوحا. أقول له: مش خايف حرامي يدخل؟ يقول: من توكل على الله حماه. يتلو آية «الكرسي». أفكر في الملائكة التي تحرسنا وترفرف حولنا. أروح في النوم. أستيقظ فجأة على حركة بجواري. أبي يهرش بين ساقيه. أنام. أستيقظ مرة أخرى. ما زال يهرش. تتسارع حركة يده. يتنهد. يستدير ناحيتي. أغلق عيني وأستغرق في النوم.
الفصل الرابع
1
يبدأ الإضراب بعد الحصة الأولى مباشرة. نردد خلف طالب بطربوش من السنة الخامسة: «عاشت مصر حرة مستقلة.» نطالب باستئناف القتال مع الصهاينة وجلاء الإنجليز ووحدة مصر والسودان. نغادر المدرسة. يقترح البعض الذهاب إلى الجامعة للانضمام إلى طلبتها. يقترح آخرون الاتجاه إلى مدرستي «فؤاد الأول» و«الحسينية». أتذكر تعليمات أبي. أنسحب من المظاهرة وأتسلل عبر الشوارع الجانبية المؤدية إلى منزلنا.
يفتح لي في جلبابه الكستور. الطاقية البيضاء فوق رأسه. مقطب. بقايا الإفطار على مائدة الصالة. أروي له ما حدث. يقول: حط الشنطة واقعد ذاكر. غرفتنا مكتومة والفراش غير مرتب. أسأله: هي «فاطمة» مجتش ولا إيه؟ يرد باقتضاب: لا. أضع الشنطة على المكتب. أستخرج كتاب التاريخ. أفتحه على الدولة الإسلامية في عهد «عثمان». أقرأ قصة الخلاف بينه وبين «علي بن أبي طالب» والنهاية المأساوية للاثنين.
يدق جرس الباب. أجري لأفتح. «فاطمة» تحمل صرة ملابس. في قدميها شبشب من البلاستيك الشفاف. دموعها تسيل على خديها. تقول إن «عباس» ضربها وطردها. وإنها ستسافر إلى البلد. يقول لها أبي: اهدي واقعدي. تقول إنها لا يمكن أن تبيت ليلة أخرى مع «عباس». يقول إن البيت بيتها وإنها يمكن أن تبيت عندنا إلى أن يخرج الحاج «عبد العليم» من الحبس. - يلا بلاش عياط. قومي شوفي شغلك.
تنظف المائدة والغرفة والمطبخ. يطلب منها أن تعد لنفسها حماما. تنقل الموقد إلى غرفة الصالون. تشعله وتضع فوقه صفيحة المياه. تملأ حوض الزنك إلى منتصفه بالماء. تضعه وسط الغرفة. ندخل معها. يطلب منها أن تغسل شعرها جيدا. يسألها: عندك فلاية؟ - أيوه. ليه؟ - علشان القمل.
تقول إن شعرها نظيف. - معاك ليفة؟ ولا أجيبلك ليفتنا؟
تقول: لأ معايا. - عندك هدوم نضيفة؟ - عندي.
يطلب منها أن تضع ملابسها المتسخة جانبا لتغليها بعد ذلك. نغادر الغرفة. تغلق الباب خلفنا.
ندخل غرفتنا. أجلس إلى مكتبي وأواصل الاستذكار. يشعل أبي سيجارته. يغادر الغرفة. أتبعه. - بابا. ليه بيقولوا على سيدنا «علي» كرم الله وجهه؟ - لأن عمره ما بص على عورة حد. ولا حتى على نفسه.
أسأل: هو ده حرام؟ - أيوه. تفرج «سلمي» ساقيها. منطقة مظلمة بينهما. تنتقل «ماما تحية» إلى الإبط الثاني. تدير رأسها لتتأمله. تتحسسه بأصابعها. تنهض واقفة. تقول لي وهي تمسكني برقة من أذني: على أوضتك، تقعد فيها متخرجش منها. أمسك بيدها في رجاء: لا والنبي يا ماما بلاش لوحدي. تتأملني باسمة: طيب تقعد في الصالة بشرط ما تبصش علي.
أدخل غرفتنا ثم أخرج. يتمشى في الصالة جيئة وذهابا ويداه معقودتان خلف ظهره. يقول لي إنها عبيطة ويمكن أن تحرق نفسها. أو ربما تخدعنا ولا تستحم، بص كده شوف بتعمل إيه. أتطلع من ثقب المفتاح. تصطدم نظارتي بالباب. أضغطها على أنفي. أتطلع من جديد. أراها جالسة في الحوض ولا يظهر منها غير كتفيها العاريين . البخار يتصاعد من صفيحة المياه. تمسك أمي بالكوز المعدني. تملؤه إلى منتصفه بالماء الساخن. تنسى أن تخففه بالمياه الباردة.
أقول له إنها عارية في الحوض. يقول: وريني. ينحني وينظر من ثقب الباب. يعتدل ويواصل المشي حول مائدة الصالة. يمسد شاربه بسبابته. ألاحظ أن عينيه تلمعان. يطلب مني أن أعرض عليها المساعدة في دعك ظهرها. أفعل متضررا. ترفض. تخرج بعد قليل في جلباب ملون وهي تمشط شعرها. تتناثر منه المياه. يسألها إذا كانت غلت ملابسها. تقول أيوه.
تغير مياه الحوض. تحضر طشت الغسيل من المطبخ. تضعه بجوار الصفيحة. يتمشى أبي في الصالة وهو يرقبها. أحضر كتاب التاريخ وأجلس إلى المائدة في مواجهة غرفة الضيوف. تجلس فوق مقعد المطبخ الخشبي الواطئ. تجمع جلبابها بين فخذيها فتتعرى ركبتاها وجزء من فخذيها. منحنية فوق ساقها اليمنى المثنية. تضع قطعة حلاوة أعلى القدم. ترفعها وتلينها. تضعها على منتصف الساق. تكرر العملية مقتربة من فخذها.
تنقل الملابس من الصفيحة إلى الطشت وتدعكها. تضعها في مياه الحوض. تدعكها ثم تعصرها. تنشرها فوق حبل المنور. تتخلص من مياه الحوض والصفيحة. تجفف الأرض. تعيد الموقد إلى المطبخ. يطلب منها أن تنقع مفرش المائدة المشمع في الطشت. يتبدى سطح المائدة الخشبي ملوثا ببقع من الزيت.
يطلب منها إشعال الموقد ليعد طعام الغداء. ينهمك في تحمير قطعة من اللحم. يضيف إليها حبات من الفحم. يعد السلاطة الخضراء. ينادي علي لأحضر له علبة الملح من فوق البوفيه. أهرع إليها. أمد يدي لأتناولها. تسبقني «فاطمة» وتزيح يدي. تصيح: حاضر يا سيدي. تحمل إليه الملح. أتبعها ساخطا.
ينتهي من تحمير اللحم. يسخن الخبز فوق النار. تضع طبقين فوق المائدة. يقول إن المائدة قذرة لا تفتح الشهية. تهرع لتنظيفها بليفة المطبخ. يطلب منها أن تؤجل ذلك إلى بعد الأكل. يحمل حلة اللحم إلى غرفتنا. يضعها على المائدة المستديرة. تضم إليها الطبقين والخبز. تحتفظ بطبقها في يدها. يجلس فوق حافة السرير. أجر كرسي المكتب وأجلس أمامه. يغرف لنا. تقدم إليه طبقها. يغرف لها. تهم بالجلوس على الأرض فيقول لها: اقعدي ع السرير. إنت زي بنتي. تجلس إلى جواره. أفقد كل رغبة في الأكل.
يدق جرس الباب. تهم بالقيام لفتحه فيشير لها أن تبقى. يشير إلي أن أرى من الطارق. أفتح الباب لأجد «عباس» أمامي. - «فاطمة» هنا؟ لا أعرف بماذا أجيب. - طب اندهلي البيه.
أتركه وأسرع لأبي. ينهض واقفا ويغادر الغرفة. يغلق الباب خلفه. أفكر في أن أتبعه لكني لا أريد أن أترك «فاطمة» وحدها. أقف خلف الباب. تقف إلى جواري. ننصت. صوت أبي: اقعد يا «عباس». يحدثه بلهجة حازمة. لا نتبين شيئا من الحديث الدائر. صوت «عباس» يوحي بالمسكنة. ينادي أبي على «فاطمة». تخرج إلى الصالة وأنا خلفها. يقول لها: خلاص يا بنتي. روحي مع جوزك. مش حيمد إيده عليكي تاني. وابقي خدي هدومك بعدين لما تنشف. يتجه «عباس» إلى باب الشقة وهي في أعقابه.
2
يتناول طربوشه بيده اليسرى. يرفعه إلى مستوى صدره. يثني ذراعه الأيمن. يقرب اليد اليمنى من الطربوش. يمسح جوانبه بكمه. يضعه فوق رأسه. يغلق باب الغرفة بالمفتاح. يطلب من «فاطمة» أن تطهو «السبانخ» كما علمها. وتضيف إليها قليلا من الحمص الجاف. نخرج إلى الشارع. بقالة شيخ الحارة مغلقة. أميل ناحية دكان الخردواتي. يجذبني في حدة من ذراعي. نعبر إلى الرصيف الآخر. نمر من أمام دكان الحاج «مشعل». جالس في المدخل. ضخم الجسم. يرتدي قميصا بكم طويل وبنطلونا. شعر رأسه مدهون بالفازلين. يبتسم ابتسامة غير مريحة عندما يرانا. يتجاهله أبي.
ندلف إلى حارة مجاورة. نصبح في شارع مواز. - «خليل». ألتفت ضيقا بمن ينادي أبي دون لقب البيه. «علي صفا» يقترب مهرولا. يمشي وقدماه منفرجتان لأقصى اليمين واليسار. يرتدي سترة زرقاء وبنطلونا رماديا. يتوقف أبي حتى يلحق بنا. يتصافحان. أقف بينهما. ينحيني أبي إلى يمينه ونواصل السير بحيث يكون «علي صفا» إلى يساره. يسأله أبي: إنت رحت فين؟ اتجوزت؟ يقول «علي صفا»: هو أنا مجنون؟
يمد يده ليداعب خدي متسائلا: مفيش مدرسة النهارده؟ يبعدني أبي بحزم عن يده قائلا في اقتضاب: كل يوم الوقت إضراب. يقول إنه ذاهب إلى كبانية النور. يمضي مبتعدا. أسأل أبي لماذا شدني؟ يقول: أصله بيبوظ العيال الصغيرين. أفكر في هذا اللغز.
ندلف إلى حارة صغيرة. رائحة عفونة ورطوبة. نلج منزلا بلا بواب. نرتقي الدرج إلى الطابق الثاني. يدق باب شقة. يأتي صوت أنثوي بعد لحظة: مين؟ يقول أبي: أنا يا «عزيزة». يتكرر الصوت: مين؟ - أنا «خليل» يا «عزيزة» افتحي. - دقيقة يا بيه. ينفرج الباب عن زوجة الحاج «عبد العليم». أطول من أبي وذات وجه أبيض جميل تتناثر عليه عدة حسنات سوداء صغيرة. شعر رأسها ملفوف بطرحة تبدأ من منتصف رأسها حتى عنقها. تبدو منها ضفيرة شعر. تحمل طفلا فوق ذراعها. - اتفضل يا بيه - تمط كلمة «بيه» كعادة الفلاحين - إنت مش غريب.
ندخل أنا وأبي. صالة واسعة خالية تماما من الأثاث. في مواجهتنا غرفة تقف في مدخلها «صفية» زوجة شقيق الحاج. يبدو خلفها سرير مرتفع عن الأرض بأعمدة نحاسية عالية. يخاطبها أبي قائلا: العواف. تقول ببرود: العواف عليك. يتجاهلها ويتبع «عزيزة» إلى الغرفة الثانية. نقف عند الباب. بها سرير مماثل يرقد عليه طفل. يقول أبي: أنا جاي بس أطمن عليك. تحبي تبعتيله أكل ولا حاجة؟ - ربنا يخليك يا بيه. «سليم» أخد له أكل وفلوس. يستدير أبي وأنا معه في اتجاه الباب الخارجي: إن شاء الله يخرج النهارده. ع العموم لو عزت أي حاجة قولي. - ربنا ما يحرمنا منك يا بيه.
نغادر الشقة. نخرج إلى الشارع الرئيسي. نتجه إلى محطة الترام القريبة. نركب. نستبدل الترام في العتبة. يتجه الترام الجديد إلى شارع «عبد العزيز» المجاور لمبنى المطافئ. يستدير الترام أمام مبنى «عمر أفندي». نغادره بعد محطتين. نعبر القضبان إلى الرصيف المقابل. نتوقف أمام مبنى ضخم تجمع الناس أمامه. يضع أبي يده على صدره فوق قلبه مباشرة. أسأله: مالك؟ يقول النشالين هنا كتير. نصعد درجات قليلة بين أعمدة حجرية. نلج باحة واسعة امتلأت بالناس. بائع متربع أسفل عمود رخام. أمامه صينية بها أقراص طعمية وأرغفة عيش وطبق سلاطة. يحيط به الآكلون.
أسفل عمود مجاور رجل متربع وحوله عدة نساء مقرفصات. يرتدي جلابية بفتحة صدر مزدانة بشريط أسود. فوق رأسه طربوش قديم. أمامه حقيبة مدرسية من «الفيبر» يسند ورقة فوقها. قلم الحبر في يده. نصعد السلم إلى الطابق الثاني. نشق طريقنا وسط الزحام إلى ممر انتشرت القاعات المغلقة على جانبيه. يقترب أبي من باب كل قاعة ويقرأ الورقة المعلقة فوقه بدبوس. نكرر عملية البحث بلا فائدة. نعود إلى السلم. نفاجأ بامرأة تخلع ملاءتها وتردفها بجلباب أسود. تكشف عن قميص رجالي وبنطلون أصفر من مخلفات الجيش. تنتزع دكة من الجالسين فوقها وتهاجم بها الواقفين حولها. يحاول رجل في جلباب وطاقية أن يحتويها لكنها تضرب رأسه برأسها. نهرع على السلم إلى أسفل. نقف قرب المدخل.
يصل الدكتور «مندور» في بنطلون أسود وسترة رصاصية. يقول: خير إن شاء الله. يأتي له أحد السعاة بمعطف المحاماة الأسود. يقول أبي: إحنا قرينا مقالك في «الوفد المصري». إنت إيه بينك وبين «أخبار اليوم»؟ يضحك: مفيش. أنا سميتها بالصحيفة الصفراء لأنها نشرة بريطانية طلعت مخصوص لمناصرة الملك ضد «الوفد». تقول عليه الملك الصالح والعامل الأول والتقي الأول.
أتسلل خلف الكاتب. تمليه امرأة مقرفصة أمامه وهو يكتب. يبدو أن القلم لا يشفط الحبر لأنه يغمسه في محبرة بجواره كلما كتب عدة كلمات. ينهرها بين الحين والآخر. ينتهي من الكتابة ويشير إليها أن تنتقل إلى زميل له. يجلو هذا قطعة نحاس صغيرة في حجم الخاتم. تميل عليه المرأة وتقدم له الورقة. يصيح بها: اسمك؟
تجيب: «عايدة».
يقول: اسمك الكامل يا ولية. - يعني إيه؟ - يعني اسمك واسم أبوك وجدك.
تخرج ورقة ملفوفة من صدرها وتعطيها له. يفكها متعجلا. يقرأ. يحفر اسمها في قطعة النحاس. يناولها الكاتب. يضغطها هذا في علبة صغيرة. يتأمل الختم. يسألها: إنت «عايدة جرجس اسطفانوس». تقول بلهجة الصعايدة: إيوه. يضغط الختم فوق الورقة. يقدمها إليها. تعطيه نقودا. يقول لها: وديها للباشكاتب. يشير إلى رجل يقف على مقربة. طربوشه طويل على غير العادة ونظارة قراءة مغبشة. يأخذ منها الورقة. يصحبها إلى بائع الطعمية . تشتري له رغيفا وبضع حبات.
أسمع صوت أبي ينادي اسمي فأهرع إليه. يؤنبني لأني تركته. نتجه إلى الجانب الآخر من المبنى. هناك حشد من النساء البلديات الجالسات على الأرض مع أطفالهن. ندخل قاعة مزدحمة. تجلس في الصف الأول بجوار جدتي. ترتدي معطفا من الحرير الأسود وحول رأسها بيشة رمادية اللون. أطول وأعرض عن آخر مرة رأيتها فيها. تتطلع جدتي خلفها في اهتمام. ترتسم على شفتيها ابتسامة غريبة. تنظر إلي في جمود. وجهها الأسمر الشاحب محاط بطرحة بيضاء باهتة اللون. تلمحني أمي. لا يبدو عليها أنها عرفتني. تخاطبني فجأة بغير اكتراث كأنني لم أفترق عنها أبدا: إزيك؟ لا تطلب مني الجلوس إلى جوارها. تنصرف إلى تأمل منصة القاضي. منصت إلى شيخ بقفطان وعمة ونظارة قراءة. أتطلع خلفي بحثا عن أبي. يشير إلي من مدخل القاعة. أذهب إليه.
نحشر أنفسنا بين الجالسين فوق دكة في نهايتها. نلمح «سليم» في الصف الأول. منصة القاضي في صدر القاعة. أمامها تجمع المحامون وبينهم الدكتور «مندور» في معطف المحاماة الأسود. يدور بينهم حديث لا يصل إلى مسامعنا. الحاج «عبد العليم» يقف خلف قضبان حديدية. يقول القاضي شيئا فينسحب المحامون. ينادي الحاجب على متهمين آخرين. تنتهي الجلسة فجأة. يختفي القاضي ومعاونه من باب خلف المنصة. يقف الجالسون ويتقدمون من قفص الاتهام. ينادي المتهمون على معارفهم وأقربائهم. يلوح لنا الحاج «عبد العليم». يبدو مرحا وغير قلق.
نغادر المحكمة. نتجه يمينا. بعد خطوات تظهر مباني قصر «عابدين». ألمح جانبا من الساحة الفسيحة أمامه. نقف في صفوف من الصباح الباكر حتى بعد الظهر. يقودنا ضابط المدرسة. نرتدي الفانلة الزرقاء التي وزعوها علينا. تشبه ملابس أطفال الملاجئ. ننتظر إطلالة الملك لنهنئه بعيد الجلوس.
ننحرف يسارا في شارع مظلل بالأشجار. نتوقف أمام عمارة أنيقة. يقف لنا بواب نوبي. نستقل مصعدا نظيفا. يصعد ببطء دون صوت. أجلس فوق مقعد مثبت إلى جداره. نتوقف في الطابق الرابع. نطرق باب شقة طنط «زينب». تفتح لنا خادمتها السوداء «زهرة». ترحب بنا وتضمني إلى صدرها . تقبل خدي . أعرف قصتها من أبي. كانت ملك أهل طنط «زينب» ثم ألغى الخديوي «إسماعيل» الرق. ولأنها لا تعرف أهلها أو من أين جاءت بقيت في خدمة طنط «زينب».
نجلس في أنتريه وثير بجوار الباب. صور عائلية على الجدران. تظهر طنط «زينب» بعد قليل. تقترب في بطء. سمراء قصيرة. تلهث بصورة مستمرة لأنها مريضة بالقلب. - إزيك يا أخويا؟ أعرف أنها ابنة خال أبي. وأنها كانت مخطوبة له وهو شاب قبل أن يتزوج من «أم نبيلة». ولم تتزوج حتى الآن. وتعيش مع أخيها «شمس» الذي لم يتزوج أيضا رغم أنه متقدم في العمر. تنظر إلي باسمة في حنان. تجلس «زهرة» عند قدميها. يسأل أبي عن صحتها. تقول: اللي يجيبه ربنا خير. أخبار «روحية» إيه؟ يقول: مفيش. الباب الحديدي مغلق. أمامه نساء وأطفال من الجيران. يتطلعون من شق كبير في زجاجه المموه. أرى من خلاله أمي واقفة أمام باب الشقة. بجانبها جدتي وبنات صاحب المنزل. أبي بملابسه الكاملة. رأسه عار. تصيح: عايز يسمني. حاطط لي السم هنا. تشير إلى كوب من الزجاج فوق حافة الدرابزين. يقول أبي في صوت هادئ متعب: معلهش. اشربي وانتي تروقي.
تقول وهي تنهج: اتغديت يا خويا؟ إحنا أكلنا و«شمس» دخل يقيل. تنهض بصعوبة. نتبعها إلى الداخل. غرفة منكوشة ليس بها أثاث غير مائدة مستديرة. نجلس حولها. تقدم لنا «زهرة» مكرونة اسباجتي مسلوقة وسلاطة خضراء. تغرف لي. ترش فوق طبقي الجبن الرومي المبشور. آكل بالشوكة في صعوبة. أذوق المكرونة بالجبن لأول مرة. لا أكمل طبقي. تطلب منها طنط «زينب» أن تفتح علبة «كومبوت». تحضر علبة ملونة وتغرف لي منها قطعا من التفاح والكمثرى. تضيف ملعقة من السائل السكري.
أذهب إلى الحمام مع أبي. جهاز معلق في الحائط. على سطحه نقش لشعلة نار فوق عبارة «شل بوتاجاز». يقول أبي إنه لتسخين المياه. ننتقل إلى الأنتريه. تحضر «زهرة» فنجانا من القهوة لأبي. يسأل طنط «زينب» عن ثمن سخان المياه. تقول: 16 جنيه. يتبادلان الأسئلة عن أحوال الأقارب. - بتشوف «نبيلة» يا خويا؟ - أيوه . - وإزيها؟ - والله .. يتوقف وينظر إلي. يطلب من «زهرة» أن تصحبني إلى البلكونة. أرافقها على مضض. أختلس نظرة خلفي. أبي يتكلم بصوت خافت. تبدو عليه الجدية البالغة. ندخل البلكونة الدائرية الصغيرة. من زاويتها اليسرى يمكن رؤية الميدان الفسيح الخالي أمام القصر. يحملني بين ساعديه ويضعني على السور الحديدي. يده القوية فوق ركبتي. أتطلع إلى الحشود المتجمعة في الميدان.
3
أرسم خريطة لتضاريس القارة الأفريقية. أعين المرتفعات والمنخفضات. أخطط الأسهم الدالة على الرياح. يرتفع فجأة صياح من الحارة. أهرع إلى البلكونة. الحارة مظلمة. يأتي الصياح من شقة «سهام» و«سلمى». ألوي رأسي لأرى مدخل الحارة. أنتظر عودة أبي من زيارة الحاج «عبد العليم» بمناسبة خروجه من الحبس. أستدير وأدخل. أقترب من باب الغرفة. أنصت. مصباح الصالة مضاء. أسمع صوت «فاطمة» أمام حوض المياه. تغسل زجاجة مصباح الزيت. تعلقه في مسمار فوق الحوض. تختفي في المطبخ. أخرج إلى الصالة. أقترب في تردد من مدخل طرقة المياه. أسمعها تشعل موقد الكيروسين.
أعود إلى الغرفة. ينطفئ النور فجأة. أنادي عليها. ترد علي. يقترب صوتها. تقول إن علبة الكبريت فرغت. تطلب مني البحث عن واحدة. - فين؟ - عندك. شوف جيب روب أبوك.
أتحسس طريقي في الظلام إلى شماعة الملابس. أمد يدي في جيب الروب. أصيح: مفيش. تصيح: هات ورقة جرنال. أحاول أن أتذكر أين موضع الجرنال. أقطع ورقة من نهاية كراسة الجغرافيا. أزعق: الورقة أهه. - هاتها. - لا، تعالي خديها. - مش شايفة من الضلمة.
أشم رائحة خوف في صوتها: أنا كمان مش شايف.
أقترب من باب الغرفة. أخطو إلى الصالة في رهبة: أنا أهو. أصطدم بها. تنزع الورقة من يدي في عنف. «أم إبراهيم» مقتعدة الأرض وسط الصالة أمام موقد الكيروسين. شعر رأسها مكشوف. أكرت وأحمر بلون الحنة. لون عينيها أقرب من الرمادي. تبدو عليها أمارات الخوف. أمي جالسة أمامها على مقعد. تأمرها بسلق الخيار. تبدي «أم إبراهيم» تعجبها: أسلقه؟ هو الخيار يتسلق يا ستي؟ تصرخ أمي فيها: ملكيش دعوة. اعملي زي ما باقولك. - حاضر يا ستي حاضر. بس متزعقيش. ترمي الخيار في الحلة الموضوعة على النار. أحمل فنجان القهوة في يدي. تنهض أمي. تخرج المفتاح من جيب ردائها. تفتح الغرفة. أدخل حاملا القهوة في حرص. يتناولها أبي. أحكي له ما حدث مع «أم إبراهيم». يضحك: تستاهل. طلعت عيني.
أتبعها إلى الطرقة. أشيح بوجهي عن فوهة الكنيف. تتقدمني إلى المطبخ وتعود بالموقد. ينبعث منه قليل من الضوء. تضعه على الأرض تحت الحوض. تخلع مصباح الزيت من مسماره. تنزع الزجاجة. تشعل الورقة من الموقد. تشعل فتيلة المصباح. تقدم إلي المصباح قائلة: تعالي معايا المطبخ. أقول: نقعد في الصالة أحسن. تقول: عندي غسيل. أحمل المصباح وأتبعها إلى المطبخ مكرها. تضع الموقد على الأرض بجوار طشت مليء بالملابس المتسخة. تتناول مني المصباح وتعلقه في مسمار على الجدار. تضع صفيحة المياه فوق الموقد. تجلس فوق المقعد الخشبي الواطئ أمام الطشت. تمد يدها. تقلب جردل المسح على فوهته. تزيحه بقدمها ليصبح بين الطشت والباب. تشير إلي أن أجلس فوق قاعدته. يصبح الباب خلفي. وهي أمامي. - تفتكري بابا حيتأخر؟
ترد عابسة: زمانه جاي.
يتصاعد البخار من صفيحة المياه. ترمي فيها بالملابس. تقلبها بطرف كبشة معدنية. تستخرج قطعة. تلقي بها في الطشت. تدعكها بالصابون وهي توحوح من سخونتها.
تهب لفحة هواء من النافذة. تهتز ذبالة المصباح. تتراقص الظلال فوق الجدران. أتابعها في قلق. تقع عيناي علي صرصور كبير. ثابت على الحائط. رأسه في اتجاهي. تهتز شواربه. أتطلع إلى الطشت. ما زال به كوم من الملابس. أشعر بالنعاس. رائحة الكنيف تصلني قوية نفاذة. تعصر الملابس وهي تتأمل الفجوة المظلمة خلفي في رهبة. أقاوم الرغبة في الالتفات مثلها. يظهر الغول قادما من بعيد. كتلة ضخمة من الشعر يطوحها الهواء. يشم الغول رائحة الشاطر حسن فيقول: ريحة إنس لا منا ولا من الجنس.
أغمض عيني. تلكزني لأظل مستيقظا. تحدق في بعينين باردتين: خليك صاحي لغاية ما اخلص غسيل. تتطلع خلفي في خوف. - ولا أحطك في أوضة الضيوف واسيبك للعفاريت؟
أنصت لعلي أسمع وقع أقدام أبي. يسقط رأسي فجأة على صدري. تقرصني في فخذي بأصابعها المبتلة لأظل يقظا. القرصة موجعة. تتجمع الدموع في عيني. أدعك مكان القرصة. تهددني بأن تقطع أذني بالسكين لو شكوت لأبي.
4
يردد الأولاد في الحارة دعاء صلاة العيد الكبير: الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا. يتناول أبي المقص ويجلسني بين ساقيه. يقص لي شعري. المرآة ذات الإطار المعدني المكسور في يدي. أقول له إن الناحية اليمنى أعلى من اليسرى. يلقي بالمقص فوق المكتب ويدفعني بعيدا عنه. - لأ. كويسة. المزين يبسط الشريط الجلدي المعلق بجوار باب الدكان. يمرر عليه حافة الموس في قوة. ينتهي من حلاقة ذقن زبون. يأتي دوري. يبصق في المبصقة الصاج. أجلس في مقعد الحلاقة ويثبت فوطة حول عنقي.
أرتدي بزتي. أبحث عن كراسة الأغاني فوق المكتب. تصطدم يدي بزجاجة الحبر فتنسكب محتوياتها فوق صدر سترتي وبنطلوني.
ينفجر أبي ساخطا: إيدك سايبة. عمرك ما انت نافع. إقلع.
أخلع السترة والبنطلون. ينتزعهما مني في غضب. يتفحص بقع الحبر. أتبعه إلى المطبخ. يرش الملح فوقها. يعود إلى الصالة. يتناول ليمونة من صينية القلل. يقطعها بالسكين. يعصر أحد فصيها فوق الملح. نعود إلى الغرفة. يتأمل البقع في الضوء. يضع السترة والبنطلون فوق ظهر الكرسي.
يقول: مش حتنضف الوقت. البس البيجامة الخفيفة. أسأله مستنكرا: وأخرج بيها؟ - نعمل ايه؟ أكويهالك وتبقى عال. هات المكوة. أنحني وأجر المكواة الحديدية الثقيلة من أسفل السرير. يحملها إلى المطبخ لتسخينها. يعود بها مع فوطة مبللة. يبسط سترة البيجامة فوق السرير. يغطيها بالفوطة. يمر بالمكواة فوقها. ينتقل إلى الكمين ثم الظهر. يناولها لي ويكوي البنطلون. أرتديهما متأففا.
يصلي الظهر ثم يرتدي البزة البنية. نغادر المنزل. نخرج إلى الشارع. لافتة كبيرة بعرضه تهنئ «مشعل» بالعودة من الحج. «حج مبرور وذنب مغفور». نستقل الترام. «العباسية» ثم «مصر الجديدة». نمضي من أمام فيلا فخمة تجمع أمامها جمهور من السيدات البلديات. يقول أبي إنهم فقراء ينتظرون الزكاة من اللحم. وإنهم ربما سيذوقونه لأول مرة.
تستقبلنا «نبيلة» قائلة: اتأخرتوا قوي كده ليه؟ الغدا جاهز من بدري. تلتفت إلي: مين اللي حلقلك كده؟ يقول أبي: أنا. تقول: مش كنت توديه للمزين. تتحسس شعر رأسي. - شعرك أكرت زي شعر أمك. تتأمل ملابسي. تهم بالكلام ثم تلزم الصمت. تفتح أمي شراعة الباب الخارجي الزجاجية. تقول ل «نبيلة»: عايزة إيه؟ - أشوف بابا. تقول لها أمي: مش أبوكي ولا يعرفك. تغلق الشراعة في عنف. أسرع إلى الغرفة. أدفع الباب فينفتح. نست أمي إغلاقه بالمفتاح. أدخل وأخبر أبي. يتوارى بعيدا عن النافذة. تمر «نبيلة» تحتها. ترفع عينيها إلى أعلى. على شفتيها ابتسامة غريبة.
يتقدم «شوقي» و«شيرين» من أبي ليحتضنهما. ملابسهما جديدة. تتأمل «شيرين» ملابسي ثم تقول: يا خبر إنت لابس بيجامة؟ يوجه إليها عمو «فهمي» نظرة صارمة فتصمت.
نغسل أيدينا ونجلس حول المائدة. تغرف لنا «نبيلة» من سلطانية حساء اللحم. صينية رقاق ولحم خروف محمر وبامية. يحتسي أبي الشوربة بصوت مسموع. تراقبني أختي وتضبطني وأنا أحدث صوتا بشفتي فتنهرني.
نصطف بعد الأكل فوق كنبة الصالة. يستأذن «شوقي» من أبيه للعب مع الأولاد في الشارع. يقول لي عمو «فهمي»: متروح معاه. أخفض رأسي وأتأمل بيجامتي: مش عاوز.
تظهر طنط «سميرة» شقيقة عمو «فهمي» عند الباب. في صحبتها زوجها وابنتها «نادين». ينزل أبي ساقه المطوية ويرحب بهم. يتأمل «سميرة» بتمعن. طويلة وعريضة مثل أخيها. وجهها أبيض مستدير وجميل. عيناها واسعتان مكحلتان. فمها صغير ملون بالروج. يتضوع المكان بعطر منبعث من ملابسها. سترة سوداء اللون. بلوزة بياقات طويلة تعلو ياقة السترة. جونلة برتقالية مليئة بالكسرات. حذاء أبيض وأسود بكعب عال. تقرب «خضرة» مقاعد المائدة ليجلس الجميع.
زوجها موظف في وزارة المالية. يرتدي طربوشا. بزته بلون بيج. يفك زرار السترة فيكشف عن كرش مدلي فوق حافة البنطلون. «نادين» أكبر مني بسبع سنوات. لها شفتان ممتلئتان وعينان ضيقتان وصدر صغير. ترتدي بلوزة حريرية بياقة صغيرة وأكمام واسعة تنتهي بأساور ضيقة. صدر البلوزة به كشكشة عرضية وأزرار صدفية مستديرة.
تبدي أختي إعجابها بالبلوزة: الشميزيت ده يجنن. تهبط بنظراتها فوق جونلة زرقاء يعلو طرفها القدم بشبر. ثم حذاء بكعب عال تخين . - إيه ده. إيه ده. تضحك «سميرة»: الموضة يا ستي. - جبتيهم منين؟ - من «شيكوريل». قبل ما يحطوا له الديناميت بتلات أيام. تلاقيه في «شملا» و«أوريكو». - الواحدة تخاف تروح المحلات دي الوقت. - جربي شركة بيع المصنوعات.
يقول زوجها إن الوقت قد حان لأن تحل الحكومة جماعة الإخوان المسلمين. تشتكي «سميرة» من أن «نادين» تريد عمل تسريحة جديدة لشعرها حسب الموضة: خصلتان متموجتان وشعر قصير حول جانبي الرأس وفوق العنق بما يشبه القلنسوة. تضع ساقا فوق ساق. ترتفع الجونلة حتى ركبتها. ترتدي جوربا من النايلون. يتأمل أبي ربلة ساقها الممتلئة. تقول «نبيلة»: شفتي البرانيط اللي طالعين فيها الوقت. تقول «سميرة»: إن قريبة لزوجها حضرت حفل شاي أقامته الأميرة «فايزة» لجمعية المرأة الجديدة. رأت السيدات في برانيط غريبة يعلوها ريش الطيور. - أغلبهم كان لابس أسود كأنهم في جنازة. تقول «نبيلة» إن اللون الأسود ما زال هو الموضة.
يسأل أبي «نادين» عن القسم الذي ستلتحق به السنة القادمة. تقول: فلسفة. يقترح عليها أن تقرأ من الآن بعض الكتب. يعطيها اسم كتاب في الفلسفة الإسلامية. وآخر في علم النفس. أشعر أنها تستخف باقتراحاته.
ينضم إلينا قريب لعمو «فهمي». طالب في السنة النهائية بكلية الحقوق. يرتدي بزة من قماش كحلي مقلم بزراير على الصفين. ربطة عنق دقيقة. نظارة نظر كبيرة مربعة الإطار. يخاطب أبي بلقب «أنيشتا» تتبعه أخته «سلوى» الطالبة في الكلية الأمريكية للبنات.
تنسحب الفتاتان وتختفيان في حجرة «شوقي وشيرين». يفد «علوي» الابن الأكبر للحاج «حمدي». سترة بيضاء بزرار واحد على جانب وياقتين طويلتين تنتهيان أسفل البطن. بنطلون رمادي بثنية وحذاء أبيض. يخلع الطربوش فيكشف عن شعر خفيف لامع ملتصق بجلد رأسه.
يسأله أبي عن أخبار والده الذي يحج للمرة الثانية. يقول: زمانه الوقت فوق جبل «عرفات». تحضر «خضرة» فناجين القهوة وزجاجات كازوزة «سباتس».
يخرج «علوي» من جيبه فنجانا صغيرا من الزجاج. يصفق «فهمي»: أهو جاب العدة. يقول «علوي»: عشان ما تكونش لك حجة. أعرف أنه يقرص «الزهر» ولا يلعب معه أحد إلا إذا ألقى الزهر من الفنجان كي لا يلمسه.
ينتقل الجميع إلى الفرانده. ترتدي «نبيلة» بلوفر قائلة إن الجو مائل إلى البرودة. تتردد قهقهات أبي عالية. أقترب من غرفة الأولاد. الباب موارب. أتلصص النظر. «شيرين» منحنية فوق الفراش تتصفح مجلة. أسمع صوت «سلوى» تقول بصوت خفيض إنها حصلت على رواية ل «يوسف السباعي». تريهما «شيرين» صفحة في المجلة عن رقصة أمريكية جديدة تدعى «الهولاهوب». تظهر «نادين» في مجال رؤيتي. تضع يدها على صدرها الصغير. تلتفت نحو الباب فأبتعد بسرعة. أسمعها تقول إن الأمريكان اخترعوا سوتيانا جديدا يشبك ويفصل من الأمام فلا تحتاج الواحدة لأن تلوي يدها خلف ظهرها كي تفكه. يضحكن في خجل.
أدفع الباب وأدخل. لا تلتفت إلي إحداهن. تقلب «شيرين» صفحة المجلة. تستعرض الأفلام الموجودة في السوق بصوت مرتفع: «الصيت ولا الغنى.» «محمد عبد المطلب» و«حسن فايق». «أميرة الجزيرة». «تحية كاريوكا». «بشارة واكيم». «إسماعيل يس» و«شكوكو». «رجل لا ينام» في «مترو» «يوسف وهبي» و«مديحة يسري». «نحو المجد» بطولة وإخراج «حسين صدقي». دمه تقيل. تضع المجلة جانبا. أتناولها. أقلب صفحاتها. تطالعني صورة الملك بالملابس العسكرية والنظارة العسكرية. تحت الصورة بخط الرقعة: «الفدائي الأول».
أغادر الغرفة ومنها إلى الردهة الخارجية. أتنصت بجوار الحائط الذي يفصلها عن المطبخ. صوت غسيل الصحون. باب غرفة الترسينة مغلق. أمضي في الطرقة المؤدية إلى الحمام البلدي. هناك نافذة مفتوحة تطل على الشارع. تتصاعد منه فرقعات البمب. أشب بقدمي. ألمح «شوقي» وفي يده بندقية صيد. أدخل الحمام البلدي. أتبول. أغادره. أفتح باب غرفة الترسينة. أدخل وأغلق الباب ورائي. أجذب المقبض النحاسي المكسور للدولاب الصغير. الأدراج فارغة. ببعضها ملابس قديمة. أغلق الدولاب. أهم بمغادرة الغرفة. صوت أقدام تجري. أفتح الباب في خفة وأواربه. «خضرة» مندفعة نحو باب الصالة. على وجهها أمارات الخوف. يندفع عمو «فهمي» خلفها قادما من المطبخ. يحتك المانتوفلي الذي يرتديه بالبلاط العاري. يحاول الإمساك بها. تلج الصالة وهو خلفها. أخرج إلى الردهة. أطل من باب الصالة. تصطدم نظارتي بالمصراع الخشبي. يلحق بها عند الكنبة . وجهه متضرج وعيناه تبرقان. يمد يده إلى صدرها. تزيحه عنها هامسة في لهوجة: لا يا سيدي. حرام تقطع عيشي. تدور حول المائدة. تمر من أمام غرفة الأولاد. تقترب من الباب المؤدي إلى الردهة الخارجية. أتراجع بسرعة. أختفي في الترسينة. أسمعها تفتح باب الشقة وتخرج. أغادر الترسينة إلى الصالة. عمو «فهمي» منحن أمام مرآة البوفيه. يتأمل وجهه. يسوي شعره. يعتدل واقفا. يدخل غرفة الضيوف في طريقه إلى الفرانده. يتلاشي صوت قدميه في البساط السميك.
5
يتكرر الطرق على الباب الخارجي. أمتطي جسم أبي النائم على ظهره وأهبط عن السرير. أرتدي شبشبي. أخرج إلى الصالة. أدير المفتاح في الباب. تدفعه «فاطمة» فيوشك على الاصطدام بوجهي. تتقدمني داخل الغرفة. - إنتم لسه نايمين؟
يجيب أبي وهو يزيح الغطاء عن جسده: النهارده الجمعة. - يلا أحضر لكم الفطار.
يعتدل أبي على جانبه الأيمن. يزيح جلبابه كاشفا عن ساقيه. تقع عيني على حمامته بارزة من فتحة كلسونه. منتفخة كرأس قط. يظل ممددا على جانبه دون أن يعبأ بتغطية نفسه. ينظر إلى «فاطمة». يمد يده ويدعك حمامته. يعتدل جالسا ويدلي ساقيه.
تسأل: تحبوا تفطروا إيه؟ أعمل سخينة باللبن ولا فول مدمس؟ أقول: عسل بطحينة. تقول: مفيش. يخاطبني أبي: خد نص فرنك وروح هات من السرجة. - ما تبعت «فاطمة». يقول: النهارده الجمعة و«عباس» عايز يفطر. تقول: أيوه. لازم أروحله ولا يهري جتتي.
أذهب إلى دورة المياه. أغالب خوفي وأدخل الكنيف. أتبول وأغسل يدي ووجهي. أعود إلى الغرفة. أبي واقف بجوار الدولاب و«فاطمة» جالسة على حافة السرير. أجفف وجهي بالفوطة الملقاة على مسنده. أهم بخلع سترة البيجامة لأرتدي القميص والبنطلون. يقول أبي: متضيعش وقت. روح بالبيجامة. يعطيني نصف فرنك. أقول: فين الطبق؟ تقول «فاطمة»: على البوفيه.
أغادر الغرفة. أترك الباب مواربا. أتناول الطبق. يغلق أبي باب الغرفة. أفتح باب الشقة ثم أغلقه بقوة. أسرع بالاختباء تحت المائدة. أبتعد ناحية باب المنور كي لا تكشفني حواف المفرش. ترتطم رأسي بحافة المائدة. أضع يدي على فمي لأحبس صرخة. أدعك مكان الخبطة . أنكمش بعيدا عن أعشاش الصراصير المرصوصة في الركن. يدق قلبي بقوة. لا أقوى على الخروج من مكمني والاقتراب من باب الغرفة. أرهف السمع. لا صوت. لا أجسر على الحركة. قلبي يواصل الدق في قوة. ضوء الصباح يعم الغرفة. أدخل في هدوء دون أن يشعرا بي. أتوارى خلف عمود المشجب الخشبي. أنكمش بين بزة أبي ومنشته ومظلته. أسمع حركتهما على السرير. صوت ضحكات هامسة. هو أو هي؟ علي كوميدينو مجاور للسرير كأس ماء به طاقم أسنانه. أزيح سترته جانبا. ظهره لي. رأسه عار يحف الشعر الرمادي بصلعته. ألمح جانبا من وجهه الضاحك. يحيط أمي بذراعه. تضحك هي الأخرى. أمد يدي إلى سترته. أدسها في الجيب الداخلي الذي يضم النقود. آخذ كل شيء. أتسلل خارجا. يغادران الغرفة بعد قليل. يعود إلى الغرفة. يستدعيني. يغلق الباب. يجلسني أمامه. يستجوبني. يتناول الخرزانة الرفيعة من فوق سطح الدولاب. ينهال بها علي.
أسمع حركة. يفتح باب الغرفة. تخرج «فاطمة». تغدو بين البوفيه والمطبخ. قبقابها يطرقع. تعد طبقا من الفول المدمس. تحمله إلى أبي. تظل في الداخل. تخرج بعد قليل. تفتح باب الشقة. تخرج. تغلقه خلفها. يغادر أبي الغرفة إلى الحمام. يتمتم ببعض الآيات. أعرف أنه يتوضأ. أزحف تحت المائدة في اتجاه باب الشقة. ألمح ساقيه أمام الحوض. أغادر مكمني والطبق في يدي. أتجه إلى باب الشقة. أفتحه في رفق ثم أغلقه بقوة. ما زال أبي عند الحوض. يملس أذنيه بالماء. يلتفت نحوي. يقول: هي «فاطمة» نسيت تقفل الباب؟ أقول وأنا ألوح بالطبق الفارغ أمامه: السرجة قافلة. النهارده الجمعة. يقول: كانوا بيفتحوا قبل الصلاة. أعملك بيض؟ أقول: مليش نفس. أدخل الغرفة وأجلس إلى مكتبي. أخرج كراريسي من الشنطة. أفتح كتاب المطالعة أقرأ قصيدة بعنوان: «رثاء قطة». يدخل أبي. يفرش سجادة الصلاة على الأرض. يصلي الصبح.
يرتدي ملابسه. يخرج لصلاة الجمعة في المسجد. أتأكد من إغلاق باب الشقة وباب الغرفة. أفتح الدولاب. أجر كرسي المكتب أمامه. أعتليه. في مدخل الرف العلوي زجاجة عليها صور أسد. الكينا الحديدية «بيسليري ». أتناول كتاب «شمس المعارف». أحمله إلى المكتب. أقلب صفحاته. تسقط منه صورة صغيرة في حجم صور الكارنيهات. جديدة. ورقها لامع. أتعرف على صاحبتها من رائحة العطر التي تنبعث منها. طنط «سميرة». تبدو كما رأيتها في العيد. جميلة جدا.
أعيد الصورة مكانها. أتفحص الصفحات التي عينها أبي بقصاصات الورق. أقلب الصفحات مرة أخرى. في نهاية الكتاب فهرست لأجزائه الأربعة. أقرؤه بسرعة. أخط أرقام بعض الصفحات في كراس الإنشاء. أبدأ بصفحة 108 في الجزء الأول. لا أفهم منها شيئا. أنتقل إلى صفحة 25 من الجزء الثاني. ثم صفحة 61 من الجزء الثالث وصفحتي 3 و140 من الجزء الرابع.
أقرأ: «تأخذ جلد بومة تدبغه بالحنا والشب وتكتب عليه حرف الألف، وارسم معه اسم الملك والدعوة والإضمار واعمله عرقية والبسها.» ماذا يعني الإضمار أو عرقية؟ أنتقل إلى غيرها: تكتب «يا قرشيا شرابيا يهوبيا» على رمل وتجلس عليه وتقرأ قوله تعالى
وجعلنا من بين أيديهم سدا
إلى قوله
فهم لا يبصرون . وتقول: خذوا أعينهم وأبصارهم واجعلوهم يا خدام هذه الأسماء في بحر من الظلمات حتى لا يروني. صم بكم عمي فهم لا يبصرون.
أواصل القراءة: «فائدة اسم «غفار». من وضعه في مربع في آخر ليلة من الشهر في صحيفة من رصاص وحمله بعد تلاوة الاسم عدده أعمى الله عنه بصر كل ظالم.» بجوار هذه الفقرة مربع بأربعة صفوف من الأعمدة المتقاطعة. المربعات الرأسية تبدأ بحروف غ، ف، ا، ر. المربعات الأخرى تحوي أرقاما.
أعود إلى «يا قرشيا شرابيا يهوبيا.» أنقل السطور القليلة في آخر صفحة بكراس الإنشاء. أغلق الكتاب وأعيد الاثنين إلى مكانهما في الدولاب. أجر الكرسي إلى مكانه.
أطل من البلكونة. «عبد الحميد» المجنون. يغادر المنزل ويتقدم إلى مدخل الحارة. في ملابسه الكاملة والجريدة المطوية في يده. تدس أمي المفتاح بعنف في القفل. تدفع الباب. أدخل الغرفة. تغلق الباب ورائي بالمفتاح. أبي واقف عند النافذة. يتأمل حركة الشارع. أروي له أخبار أمي. تسقط حصاة من النافذة. أسمع أحد الأولاد يهتف: «المجنون أهوه.»
يعود أبي حاملا كيسا من عنب «جناكليس » الوردي ذي الثمرات السميكة. وآخر من «القتة». لا أحب «القتة» لما بها من مرارة. أفضل عليها الخيار.
أنتظر حتى يستبدل ملابسه. أتظاهر بحفظ إحدى الآيات القرآنية المقررة علينا. أسأله عن الآية التي تبدأ ب:
وجعلنا من بين أيديهم سدا . يعرف كثيرا من الآيات عن ظهر قلب. يمليها علي.
6
يحضر لنا عمو «فهمي» صندوقا مستديرا من البومبوني. فوق غطائه صورة ملونة لولد أجنبي يرتدي قبعة عالية ويمسك بعصا. آخذ الصندوق منه وأضعه على المكتب. يجلس فوق حافة الفراش. يرتدي سترة بلون بني داكن وبنطلون بلون بيج. يحمل في يده كتابا. يضع الكتاب فوق المكتب. يتربع أبي إلى جواره. يستديران ليتواجها. أجلس إلى مكتبي. أستأنف مراجعة الميزان الصرفي وأفعال المقاربة والرجاء والشروع. ألتقط كتاب عمو «فهمي»: «ألف ليلة الجديدة» ل «عبد الرحمن الخميسي». «كتب للجميع». الثمن 5 قروش. يقول لي أبي في صرامة: سيب الكتاب والتفت لدروسك. أقول إني انتهيت من درس القواعد. يقول: شوف حاجة تانية. ينادي على «فاطمة» لتعد القهوة. أجذب كراسة الكيمياء. أقرأ كيفية فصل الرمل عن الملح.
يخلع عمو «فهمي» الطربوش ويضعه إلى جواره. يمر بيده فوق شعره. حوله حز دائري من أثر الطربوش. يقول إن البلد هايصة بسبب طلاق الملك من الملكة «فريدة». وإن بنات مدرسة «السنية» تظاهرن هاتفات: «خرجت من بيت الدعارة إلى بيت الطهارة.»
تجلب «فاطمة» فنجانين من القهوة في صينية. تضعها على المائدة المستديرة. تتلكأ قائلة: حاجة تانية يا بيه؟ يقول أبي: لأ. مفيش. تغادر الغرفة. يرتشفان القهوة في صمت. يقول له أبي: إيه القميص الشيك ده؟ - «فان هاوزن». يخرج من جيبه علبة سجائر «بليرز» نمرة 3. يسأله أبي: غيرت؟ يقول: أرخص من 3 خمسات بعشرة قروش. يعرض على أبي سيجارة. يرفض قائلا: أنا مبغيرش. يشعل عمو «فهمي» سيجارة بولاعته «الرونسون». أناوله المطفأة فيضعها بينهما على السرير. يسأل: يا ترى معندكش طاولة؟ يهز أبي رأسه: لا. يضيف أنه كان يلعب كل ليلة في قهوة «البرلمان» أيام تجارة الأراضي. يتحسر على ذلك الوقت. يدور السمسار على اللاعبين بخريطة . يلقي عليها نظرة. يختار قطعة أرض. لا يدفع شيئا. ولا يكاد يلقي بالزهر ويأخذ رشفة من كأس الويسكي حتى يعود السمسار. يعلن له أن قطعته بيعت بثمن أعلى. يحصل على الفرق دون مجهود. أكثر من ليلة يعود إلى المنزل في عربة حنطور وفي يده كيس من العملات الذهبية.
يسأل عن «سميرة». يجيب عمو «فهمي» بأنها مشغولة على «نادين» لأنها متمردة. تريد الذهاب مع خطيبها وحدهما إلى السينما. يقول أبي: وفيها إيه؟ يلتفت ناحيتي فأتظاهر بالانهماك في القراءة. يواصل: افرض باسوا بعض أو حاجة زي كده؟ مش بتحبه وحتتجوزه؟ يبقى خلاص. سيبوكو بأه من الكلام القديم الفارغ. الدنيا تغيرت.
يشعل عمو «فهمي» سيجارة جديدة. يقول: الحقيقة يا «خليل» بيه أنا جايلك في موضوع شخصي. أرفع رأسي عن الكتاب وأرهف السمع. يلتفت أبي ناحيتي. أخفض رأسي. أحرك شفتي ويدي بالقلم. يشكو عمو «فهمي» متاعبه مع «نبيلة». يقول: أنا مش متأخر عن طلباتها. جبتلها غسالة كهربا بعصارة وحوض متحرك يساع 52 لتر. دخلت تليفون. جبتلها تلاجة «إليكترولكس». - كهربا؟ - تشتغل بالكيروسين أو الكهربا أو الغاز. يسأل أبي: طب وإيه اللي مزعلها؟
يميل عمو «فهمي» برأسه ناحية أبي. أرهف السمع. يلتفت أبي نحوي. يأمرني بالاستذكار في الصالة. أحمل الكراس وأفتح باب الغرفة الموارب. أصطدم ب «فاطمة» التي تبتعد بسرعة. أترك الباب مواربا. أقف قريبا منه. تقف «فاطمة» أمام البوفيه. تتشاغل بإغلاق الملاحة. أسمع عمو «فهمي» يقول: مبترضاش تنام جنبي. وبتقول إنه معدش لي في الستات.
يسأله أبي: ده صحيح؟ - اسمع يا «خليل» بيه. أنت فاهم اللي يحصل لما الست ترفض جوزها. - قصدك إيه؟
يرتفع صوت «فهمي» منفعلا: هي اللي قضت على رجولتي. - وطي صوتك.
يستطرد «فهمي» دون أن يهتم: أنا مقدرش أقعد كده. بقالي أسبوع في الهدوم دي مش قادر أغير لأن كل هدومي هناك. نتمشى جيئة وذهابا فوق رصيف مدرسة اليهود. الشارع مظلم. شقتنا مضاءة. نافذة غرفة النوم مفتوحة. نتوقف على الرصيف المقابل في مواجهتها. أمي وجدتي تفتحان الدواليب. تكومان الملابس وتحزمان الحقائب.
نتبادل أنا و«فاطمة» النظرات. ننصت. صوت أبي: وقاعد فين الوقت؟ - عند واحد صاحبي. مقدرش أفضل كده. - طب هدي نفسك. - الوقت أنا كويس خالص. باقوم الصبح عال العال.
يكمل عبارته بصوت خافت. صوت أبي في حسم: ده انتعاظ الصباح. ما لوش قيمة. يتوقفان عن الكلام. يتهامسان. ينادي أبي علي. أنتظر لحظة ثم أدخل. يقول: هات كتاب الإنجليزي. وري عمك «فهمي» الكلمات اللي انت مش عارفها.
7
أشرب كوب القرفة باللبن. تعد لي «فاطمة» الساندوتش الذي سآخذه معي. مربي فراولة بالزبدة. تلفه في ورقة جريدة. تضعه إلى جوار الشنطة فوق المكتب. أرتدي ملابسي. أحمل شنطتي وأترك الساندوتش. يطلب مني أبي أن أرتدي البلوفر لأن الدنيا بردت. يعتدل أبي جالسا. يشكو من تنميل في قدميه. تقرفص «فاطمة» تحت قدميه وتدعكهما له. أغادر الغرفة. أخلع مفتاح الباب وأنا أتابعهما بركن عيني. أضعه في جيبي. أوارب الباب. أفتح باب الشقة. أرهف السمع. لا حركة. يبدأ قلبي في الدق. أغلق الباب بصوت مسموع وأهرع أسفل المائدة. أضع الشنطة أمامي. أسمع صوت إغلاق باب الغرفة. صوت أبي: اقفليه بالمفتاح. صوت «فاطمة»: مش لاقياه. - طيب، مش مهم، تعالي هنا.
أرفع رأسي محاذرا الاصطدام بسطح المائدة السفلي. أفتح الشنطة وأخرج منها كيس الرمل. أنثره على الأرض. أكتب فيه بإصبعي «يا قرشيا شرابيا يهوبيا.» أجلس فوق الرمل. أتحاشى النظر إلى أعشاش الصراصير. أردد بصوت خافت: خذوا أعينهم وأبصارهم واجعلوهم يا خدام هذه الأسماء في بحر من الظلمات حتى لا يروني. صم بكم عمي فهم لا يبصرون. أسكت. أنصت. لا صوت.
أخرج بحذر من تحت المائدة. أترك الشنطة فوق البوفيه وأقترب من باب الغرفة. قلبي يدق في عنف. أضع عيني على ثقب المفتاح. لا أرى شيئا. أدير رأسي وألصق أذني به. لا أسمع شيئا. أعدل وضع نظارتي فوق أنفي. أدير مقبض الباب برفق وأدفعه قليلا. أردد في سري: «يا قرشيا شرابيا يهوبيا.» أخطو داخلا في اطمئنان لأنهم لن يروني. تطالعني مؤخرة أبي العارية بين ساقي «فاطمة» العاريتين المرفوعتين إلى أعلى . راقدة على السرير ورأسها فوق الوسادة. أقترب خطوة. أسمعها تقول: معلهش. الظاهر انت مليكش مزاج. يقترب بفمه من فمها. تزيح فمها جانبا. يحاول تقبيلها. تبدو عليها الدهشة. يقول لها: افتحي بقك. لا تفعل. يقول: امسكيه. تقول: كده؟ يقول: أيوه. تقول بعد لحظة: مفيش فايدة. أقترب أكثر. تلتفت ناحيتي. تصرخ: يا دهوتي. تزيحه جانبا وتبسط ملابسها. تهم جالسة. يلتفت أبي برأسه. يزعق: بتعمل هنا إيه؟ أصيح: ينعل أبوكم.
أستدير مغادرا الغرفة. ألتقط شنطتي من فوق البوفيه. أفتح باب الشقة. أغلقه خلفي بعنف. أخرج إلى الشارع. أعبر عرض الطريق إلى الناحية الأخرى. أمضي في الشارع الجانبي الضيق الموازي لشارع الترام. أبلغ المدرسة عند نهاية تحية العلم. أنضم إلى الطابور أثناء الصعود إلى حجرات الدراسة.
درس اللغة الإنجليزية. ثم درس الطبيعة: خواص السوائل وقاعدة «أرشميدس». ننزل إلى المعمل لنأخذ درس الكيمياء. المحضر غير موجود ومصباح «بنسن» تالف. يشرح لنا المدرس على السبورة تحضير «الأكسجين» من «كلورات البوتاسيوم».
يدق جرس الفسحة الصغيرة. يستعد الأولاد لنزول الفناء. يتجمعون حول «ماهر». شعر رأسه مفروق من الجانب الأيسر. ياقة قميصه الأبيض مفتوحة ومطوية فوق ياقة السترة. يحمل في يده جهازا غريبا. يقول إنه ليس كاميرا وإنما نظارة مجسمة. «ستيريو سكوب فيوماستر». نردد الاسم في صعوبة. يقول إنها تتيح للناظر من فتحتها رؤية الدنيا على حقيقتها. تعرض صورا مجسمة بالألوان الطبيعية لأشهر المعالم والحيوانات. يقترب المدرس ويمد يده ليتناول الجهاز. ينظر في عدسته ثم يقول: ياه. الزرافة زي متكون واقفة قدامنا. يرينا «ماهر» الفتحة التي توضع فيها أقراص الصور. يقول إن هناك 94 قرصا منها 7 مشاهد ملونة. يسأل المدرس عن ثمن الجهاز. يقول «ماهر» بزهو: مائة قرش. - ياه! والأقراص؟ - الواحد بعشرين قرش.
نهبط إلى الفناء. ينادي البواب اسمي. يعطيني لفافة قائلا إن رجلا أسود على دراجة أحضرها. الساندوتش الذي نسيته. يلعب الأولاد بالكرة الشراب. أراقبهم وأنا ألتهم الساندوتش. نحدد مرميا الأهداف بقطع من الطوب. نتجمع حول «مجدي» و«هاني». يقذفان مليما في الهواء. ملك أو كتابة؟ يفوز «هاني» بالملك . يبدأ اختيار أعضاء فريقه. يتصفح الوجوه. يشير بإصبعه. يهرع أحدنا إلى جواره مزهوا. يتلوه «مجدي». تتعلق عيناي بعينيه وهما تمران بنا. لا تتوقفان عندي وإنما تنتقلان لمن يقف إلى جواري. يتواصل اختيار أعضاء الفريقين. لا يتبقى في النهاية سواي. يعد كل كابتن أعضاء فريقه. فريق «رمزي» ينقص واحدا. يشير إلي مستسلما.
يدق الجرس معلنا انتهاء الفسحة. نصعد إلى الفصول. يدخل مدرس اللغة العربية. يشرح لنا الفعل المطلق. يتعجب من غبائي. طرق علي الباب. يبدأ قلبي في الخفقان. يصيح المدرس: ادخل. يدخل مدرس الجغرافيا حاملا خرزانة طويلة. خلفه «لمعي» الوسيم ذو الشفاه الغليظة والوجه المتورد. تقترب قدماه من مكاني وهو يهز الخرزانة. حذاؤه ضخم يكاد ينفجر من الجانبين. يزداد خفقان قلبي. يتجاوزني إلى الصفوف الخلفية التي يجلس بها التلاميذ الكبار والراسبين. ينتقي واحدا ذا رأس مبعجر. يجره إلى مقدمة الفصل. ينهال عليه ضربا بالخرزانة دون كلمة. يتهمه بقلة الأدب وعدم التربية. لا ينبس الولد بآهة ويتحمل العلقة صامتا. يستقر خلف قمطره. يرين علينا جميعا الصمت. لا يعلق مدرس اللغة العربية بشيء. يخرج مدرس الجغرافيا. نستأنف الدرس. نقرأ من كتاب النصوص واحدا بعنوان: «موت محقق ونجاة غريبة.» يؤنبني المدرس على أخطائي في النطق.
تنتهي الحصة. لا يشير أحد منا إلى ما حدث. ننزل إلى قاعة الرسم. المدرس أسمر متوسط القامة نحيلها. ربطة عنقه غير محكمة. عصبي. في يده مجلة «المصور». يقرأ لنا منها قصة ولد عمره 13 سنة: قال لأبيه: عار علينا يا والدي أن نبقى في «دمشق» و«فلسطين» تحترق. سأؤلف فرقة كوماندوز من زملائي الأطفال. ونذهب إلى الميدان. أكبر الأب روح الرجولة المبكرة في نجله فقبله وقال سنذهب سويا يا بني. وليكن أول المنضمين إلى فرقتك أخويك الصغيرين.
يواصل القراءة وهو يلف القاعة: التحق الأب بقوات جيش الإنقاذ وكون الولد فرقة من 30 طفلا. تسللوا معه من الحدود حتى «القدس». نسفوا معاقل اليهود في حي النبي «داود». كان الصغير يقتحم حقول الألغام وينسفها. أشرف على ثلاثة بيوت تحصن بها اليهود بمدافعهم الرشاشة . تمكن من نسف البيتين الأول والثاني. هاجم الثالث ممسكا مدفعه الرشاش بيمينه وفتيل اللغم بيساره وصاح: يا «هاجناه». إن كنتم رجالا أطلوا برءوسكم وقاتلوني وجها لوجه. لم يجرؤ أحد وإنما انطلقت رصاصة في ظهر الطفل أردته قتيلا.
ينتقل المدرس إلى السبورة. يقول: كل واحد يرسم اللي يعجبه من القصة. أرسم الأب وولده. لا يعجبني الرسم. أزيله بالممحاة. أرسم حقلا من النباتات والأشجار. أحتار في شكل الألغام وأين أضعها. المدرس يلف من خلفنا. يتأمل ما نرسم. ينحني فوقي ويرسم لي شجرة. يربت على ظهري مشجعا. أرسم ولدا على حافة الحقل.
يستبقيني المدرس أنا وثلاثة آخرين في نهاية الحصة. يأخذنا إلى حديقة المدرسة. نجلس فوق الحشائش الخضراء أسفل شجرة. يعدنا أن يجعل منا رسامين. يطلب منا أن نرسم فرع شجرة بما عليه من أوراق. أنقل الفرع وأوراقه بدقة بالقلم الرصاص. أملأ الصفحة. أمشي فوق الرصاص بقلم الحبر. يقول: كفاية كده النهارده.
أحمل شنطتي وأغادر المدرسة. أمضي في الشارع المؤدي إلى مدرسة اليهود. أخطو فوق الحصى الملون. أقف عند الناصية. أتطلع يسارا. أغصان الأشجار جرداء. أخطو فوق زهور صفراء وحمراء. أبلغ الناحية المقابلة لمنزلنا. نوافذ شقتنا مفتوحة. يتراءى منها خيال شخص. على بعد خطوات وابور زلط هاجع. جانب الطريق مرصوف بالأسفلت. رائحة الزفت المغلي. كوم الزلط أمام المنزل. تلمع حباته في ضوء القمر. نجلس فوق قمته. نحك حبات الزلط بعضها ببعض. ينطلق منها شرار ملون. يناديني أبي فأسرع إلى الداخل. أذهب على الفور إلى الحمام. أغسل وجهي وقدمي. ألحق به عند النافذة. يكون الظلام قد حل. تأتي أمي بالقهوة وهي تغني.
أعود إلى بداية الشارع ومنه إلى الميدان. أعبره. أمضي من أمام دكان الحاج «عبد العليم». أدخل الحارة. ألمح أبي في البلكونة. الشال الصوفي العريض حول رقبته. الطاقية الصوفية الكبيرة فوق رأسه. عنقه ملوي نحو مدخل الحارة. يتراجع بمجرد أن يراني. أصعد الدرج. أفتح الباب بمفتاحي. أدخل الحجرة. يقف إلى جوار الدولاب ممسكا بكتاب «شمس المعارف». لا يكلمني.
أضع الشنطة فوق المكتب. أستخرج كراساتي. أرصها فوق بعضها. أتابعه بركن عيني. يستدير. يضع الكتاب مفتوحا على السرير. يغادر الغرفة. أختلس النظر من الباب الموارب. أسمع صوته في المطبخ يعد الطعام. أستخرج مفتاح الغرفة من جيبي. أدفعه في ثقب الباب. أقترب من السرير. أنحني فوق الكتاب. هناك كتيب صغير بين دفتيه. أرفعه لأقرأ عنوانه. أتوقع شيئا عن عقاب الابن العاق. «في القوة على الباه». أقلب صفحاته. لا أفهم شيئا. أعيده إلى مكانه.
أخرج إلى الصالة. أبحث عنه. لا أثر له في الكنيف أو المطبخ. أعود إلى الصالة. باب المنور مغلق. أقترب من حجرة «ماما تحية». الباب مغلق. أنظر من ثقب المفتاح. كما هي عارية من أي أثاث. ألف حول المائدة. باب حجرة الضيوف مغلق. أنظر من ثقب المفتاح. يطالعني جالسا فوق الكنبة. رأسه منحن. يتأمل الأرض. يرفع يديه إلى وجهه. يجهش فجأة بالبكاء وينهنه كالأطفال.
8
ينتهي من صلاة الجمعة فوق السرير. ينزوي متجهما في ركنه اللاصق بالحائط. المسبحة الألفية في يده. يردد في تركيز اسم «لطيف».
أسمع ضجة في الحارة. ألبس نظارتي وأهرع إلى البلكونة. يرتفع صوته بالاسم الإلهي دون أن يلتفت نحوي. طريقته في التحذير من عمل أي ضجة.
أقف خلف المصراع الزجاجي. الأولاد يحملون الطائرات الورقية. ترتفع في سماء الحارة بألوان وأحجام مختلفة. يصنع لي طائرة بلون برتقالي. أصعد مع الأولاد إلى سطح المنزل. كل واحد معه طائرته. نقبض بشدة على الخيوط. نطلقها في الهواء. تحلق عاليا.
يجري الأولاد خلف طائراتهم المحلقة. يختفون عن نظري. أعود إلى المكتب. أراجع درس قياس الأطوال واستعمال الفرجار والقدمة. يتردد نداء في الحارة: سن السكين والمقص. أهرع إلى البلكونة. الرجل وسط الحارة خلف آلته. يحضر له «سمير» عدة سكاكين. يدفع العجلة المطاطية بيده فتدور. يضع سكينا على حافتها. ينطلق منها الشرر. يحركها من مقبضها حتى طرفها. يرفعها ويعكسها. يضعها فوق العجلة. يظهر «عبد الحميد» قادما من مدخل الحارة. يسير في وقار حتى باب المنزل. نمر من البوابة الحديدية الكبيرة. يضم أبي كيس التفاح إلى صدره. نمشي في طريق طويل مترب تحف به الأشجار الباهتة. نصل إلى مبنى من طابق واحد. ممرضات ذوات أجساد ضخمة. تتقدمنا واحدة تتدلى من خصرها سلسلة حديدية طويلة. تجرها خلفها على البلاط العاري. شبشبها المتآكل يكحت الأرض. كعباها تتخللهما الشقوق السوداء. ممر طويل تصطف على جانبيه أبواب مغلقة. بعضها له قضبان حديدية. خلفها نساء لهن نظرات غريبة. إحداهن تقهقه ضاحكة بصوت عال. تشير إلي امرأة بيضاء سمينة بوجه مليء بالبثور وتهمس: تعال. أتعلق بيد أبي. صالة مفتوحة بها عدة أسرة. أمي فوق أحدها. تبتسم في هدوء. يقدم إليها أبي كيس التفاح. تتناول منه واحدة. تمسحها بيدها وتقضم جانبا منها. تداعب وجهي بأصابعها. تسألني عن المدرسة في غير اهتمام. الممرضة الضخمة ترقبها عن كثب وعيناها على التفاح.
تصل أصابعه إلى منتصف السبحة. أفتح الشنطة. أستعرض ما لدي من بلي. أحرص على أن تكون من نوع واحد. الغالبية على هيئة كرات شفافة داخلها خطوط متعرجة متنوعة الألوان. أنتقي أربعة من أحجام وأشكال مغايرة. أضعها جانبا لأستبدلها أثناء اللعب.
تقترب أصابعه من نهاية المسبحة. أضع الشنطة جانبا. أفتح كراسة الإنشاء. أكتب كلمة «المطالعة» في منتصف السطر. أفكر ثم أترك سطرا وأكتب بحروف كبيرة: «المطالعة وما أدراك ما المطالعة.» يمتلئ السطر. أترك سطرا وأنتقل إلى السطر التالي. أتوقف عاجزا عن الاستمرار.
أنتظر حتى ينتهي من ألفيته. أقترب منه في تردد حاملا كراسة المسودات وقلم الحبر. يكتب لي دائما موضوعات الإنشاء ثم أنقلها بخطي. أتطلع إلى خده الحليق الناعم. يتناول مني الكراس.
يقول: هات قلم الرصاص.
شكر واجب
للشاعر «حمزة قناوي» على ما قدمه من عون في المراحل المختلفة من إعداد هذا الكتاب وخاصة في مراجعة المخطوطة وإعدادها للطباعة.
صفحة غير معروفة