نلج الشارع ونتطلع إلى واجهة المنزل في نهايته. يتساءل: يا ترى موجودين؟ الشمس حارقة وهو يحمل بطيختين. يخلع طربوشه ويمسح العرق عن رأسه الأصلع بمنديل. نوافذ الترسينة مغلقة. نعود في صمت ووجهه مكفهر.
أدقق النظر في النوافذ الخشبية التي تتيح الفرجة من خلال فتحاتها الضيقة. إحداها مرفوعة قليلا إلى أعلى. أقول: لو خرجوا كانوا قفلوها.
نتوقف أمام البقالة الوحيدة. أمامها صناديق لسمك «البكلاه»، عريضة مصبوغة بلون ناصع البياض. كوم من البطيخ والشمام. عدة أقفاص من العنب والتين. يشتري أبي أقة من العنب البناتي وأخرى من التين الفيومي. يختار ثمرات التين المفتوحة ويتجنب المغلقة. يحملهما في كيسين مضمومين إلى صدره. واحد في كل ذراع. نواصل السير حتى المنزل. أمامه سيارة «سكودا» وسيارة أخرى «كرايزلر» ذات سطح مقبب. الممر ذو البلاط الملون. نصعد السلم.
ضجة العيد تأتي من الطابق الأول. تسكن به عائلة كبيرة في شقتين متصلتين. نواصل الصعود إلى الطابق الثاني. الباب المواجه للترسينة مغلق. الباب المطل على السلم مفتوح. ندخل منه. يرتمي أبي على كنبة وهو يلهث. أقف إلى جانبه. يتنهد في ارتياح. يخلع طربوشه ويضعه فوق وسادة في منتصف الكنبة. تيار الهواء يسري بين باب السلم المفتوح وباب حجرة الضيوف المؤدية إلى الفرانده. يندفع منها «شوقي». يماثلني في العمر. أبيض وسيم بشعر أسود ناعم. يرتدي بزة جديدة كاملة. يميل لونها إلى البني وتقطعها خطوط طولية بيضاء. حذاؤه بني بكعب كريب. تتبعه أخته «شيرين» في فستان ملون بكمين قصيرين. شعرها معكوص في فيونكة خلف رأسها. في جبهتها أثر جرح غائر. يتعلقان بأبي. يحتضنهما ويقبلهما. يعطيهما العيدية.
تقترب أختي «نبيلة» قادمة من ناحية المطبخ. ترتدي فستانا بلون داكن الحمرة بلا أكمام. وجهها ملون بالروج والبودرة. تقبل أبي في خده: كل سنة وانت طيب يا بابا. يهم بتقبيلها فتمنعه. - بلاش يا بابا، أحسن الماكياج يبوظ، تعال في الفرانده، الطراوة هناك حلوة. يشير أبي بيده أن تصبر عليه قليلا. يقول: الظاهر أخدت ضربة شمس. تقول: حاحط لك مية بخل. - اديني كوباية ميه الأول.
تنادي: «خضرة». تأتي الخادمة الجديدة مسرعة. سمراء أطول من أختي. لها صدر ممتلئ. سريعة الحركة في جلباب ملون. شعر رأسها ملفوف بمنديل في ألوان الجلباب. قدماها نظيفتان في صندل من البلاستيك. تتجه إلى صينية القلل الموضوعة فوق البوفيه إلى جوار جهاز الراديو. ترفع الغطاء النحاسي لإحداها وتصب منها الماء في كوب من الزجاج. تقدمه لأبي فوق طبق صغير من الفضة. تلتفت إلي: تشرب يا سيدي؟ تناولني كوبا آخر. أجرع المياه الباردة بطعم ماء الزهر. تأمرها «نبيلة» بإحضار فنجان ماء به قليل من الخل.
يخلع أبي سترته ويلقي بها إلى جواره. ترفع «نبيلة» الطربوش والسترة. تناولهما لي: علقهم جوه. يدي اليمنى ما زالت تحمل كتاب الإنجليزية والكراسة. تقول: حطهم على ترابيزة السفرة.
أطير بالسترة والطربوش إلى حجرة النوم. أشب فوق أصابع قدمي وأعلق السترة فوق أحد سواعد الشماعة. أثبت فيه الطربوش. أتطلع إلى أعلى متشمما. ترص «نبيلة» ثمرات المانجو فوق سطح الدولاب بعد جمعها من الحديقة. أمي تقدم شرائح المانجو في صينية مستديرة من الصيني مزخرفة برسوم ملونة. يحيط بها سور رفيع من المعدن. أحولها أحيانا إلى ميدان فوق السجادة تتجه إليه سيارات من علب الكبريت. تتناول تانت «دولت» طبقا صغيرا وشوكة وسكينا. تلتقط شريحة وتضعها أمامها في الطبق. أترقب دوري.
أعود إلى الصالة. يتمدد أبي فوق الكنبة على جانبه الأيسر معتمدا برأسه على فوطة بيضاء فوق ذراعه. تحضر الخادمة فنجان الماء والخل. أتناوله منها قائلا إني أعرف كيف أنقط له. أنحني فوقه. أغمس إصبعا في المحلول. أضعه في أذنه. أكرر العملية إلى أن أسمع طشا. ينقلب أبي على جانبه الآخر جاذبا الفوطة معه. أكرر التنقيط في الأذن الأخرى. ينهض جالسا محتفظا بالفوطة لصق أذنه. يقول: أهو كده فقت.
ينضم إلينا عمو «فهمي» بخطى سريعة يتقدمه كرشه البارز. يميل برأسه قليلا إلى اليمين ليرى صورته في مرآة البوفيه. تهز نسمة هواء جلبابه الأبيض الخفيف. - كل سنة وانت طيب يا «خليل» بيه، الطاولة جاهزة، النهارده العيد والعشرة بريال. يبتسم أبي: أشم نفسي الأول. يجذب عمو «فهمي» أحد مقاعد السفرة ويديره ليجلس في مواجهة الكنبة. يشعل سيجارة. يعطيني العيدية. ورقة جديدة من فئة خمسة قروش عليها صورة الملك «فاروق» في دائرة بيضاوية.
صفحة غير معروفة