أتفرج على الأولاد وهم يرددون: حالو يا حالو. رمضان جانا يا حالو. يقاطعهم «سمير» بصوته الرفيع: وحوي يا وحوي. إيوحة. يتقدمون من عمق الحارة. يصبحون أمامنا فيصيح أحدهم: يا فاطر رمضان. يا خاسر دينك. هل يقصدوني؟ يمضون إلى مدخل الحارة.
4
يصلي العشاء. نرتدي ملابس الخروج. يلف حذاءه البني ذا المقدمة البيضاء في جريدة. يلف أيضا قطعة القماش البني اللون التي باعها لنا الكونستابل. نغادر المنزل. نخرج إلى الشارع. نمر من أمام بقالة شيخ الحارة. ليس بها غير «سليم» خلف المنصة. نتوقف لدى الجزمجي. يناوله الحذاء. يقلبه الجزمجي في يده. يقول: النعل دايب من قدام ومن ورا.
يقول أبي: حط حديدة قدام واعمل لها نص نعل. - اسمع كلامي واعمل نعل كامل. دي إنجليزي. مش خسارة فيها. - زي ما بقولك. حديدة ونص نعل. - حاضر. تعرف يا بيه الجزمة الجديدة بكام؟ فيه واحدة أمريكاني عند «ناصف» ب 68 قرش. - وياريتها تعيش إنما لبستين وبس ... أمريكاني.
يلتفت نحوي قائلا: وانت جبت جزمة للعيد؟
يسبقني أبي في الرد: حاجيبله على العيد الكبير بإذن الله.
ينزع الحامل الخشبي للصحيفة. يبسطها ويقرأ العناوين. أدس رأسي بين بطنه والجريدة. الملك بنظارته السوداء في زيارة للمستشفى العسكري يواسي الجرحى العائدين من جبهة القتال. برفقته ملك شرق الأردن. خلفهما الأميرتان «فوزية» و«فائزة» بالملابس العسكرية. تحمل الأولى لقب الفريق والثانية لقب اللواء. يقول الجزمجي إننا شاركنا في حرب لا شأن لنا بها.
نواصل السير حتى الميدان ثم نتجه يمينا. نلج شارع «قمر». نتوقف عند دكان الترزي. يجلس أمامها فوق كرسي مادا ساقه فوق أخرى. يعمل في حياكة سترة. يناوله أبي قطعة القماش قائلا: عاوزين نعمل له بدلة العيد. يتفحص الترزي القماش ثم يقول: لكن ده قماش ستاير يا «خليل» بيه. - ستاير ولا مش ستاير. ينفع ولا لأ؟
يهز الترزي رأسه ممتعضا. يأخذ مقاساتي. البنطلون قصير حتى الركبة. نتفق على أن نأتيه بعد أسبوع لعمل البروفة الأولى. نتركه ونواصل السير حتى ميدان «السكاكيني». نمر بالكنيسة. نمضي في شارع «طورسينا» حتى ملتقاه بشارع «النزهة». يتوقف أبي أمام فيلا صديقه اللواء «فريد». يدفع الباب الحديدي وأتبعه إلى ممر وسط حديقة. نصعد بضع درجات وهو يكحت الحذاء في الرخام لينبه بوصولنا. يدق بابا حديديا. تفتح لنا خادمة عجوز. يسأل: البيه هنا؟ تدعوه للدخول.
نقف في ردهة مزدحمة بالأثاث فوق سجاد سميك. تختفي ثم تعود. تفضل يا بيه. نتبعها إلى حجرة الضيوف. على الجدران صور ضباط كالتي عندنا. تتدلى من السقف نجفة ضخمة. يظهر اللواء بعد فترة. يرتدي روبا من الحرير الملون ويعتمد على عصا. - أهلا «خليل» بيه. خطوة عزيزة. يجلس بجانبنا ويضع عصاه بين ساقيه. وجهه أسمر بحفرة غائرة أسفل عنقه. أعرف أنها من أثر رصاصة. أسفل الروب قميص أبيض بياقة منشاة تتدلى أوداجه فوقها. شاربه كبير ومنفوش الطرفين. ينادي على الخادمة ويطلب منها إحضار أطباق الخشاف من الثلاجة. تحضر ثلاثة أطباق في صينية مدورة. يعطيني أبي طبقا ويتناول واحدا. يبدي استحسانه لبرودة الخشاف. ترص أمي أطباق الخشاف الصغيرة فوق رخامة البوفيه. تفتت قطعة ثلج بقادوم خشبي. تنثرها فوق الأطباق.
صفحة غير معروفة