لما تقدم كفر أهل الكتاب، وما أعد لهم من عذابه بين صفة المؤمنين، وما أعد لهم من ثوابه، تنبيها على أن استحقاق الثواب بالإيمان والعمل فقال تعالى: (إن الذين ءامنوا) يعني صدقوا الله ورسوله، واختلفوا من هم؟ فقيل: قوم آمنوا بعيسى، وانتظروا خروج محمد، وقيل: هم طلاب الدين كقس وورقة وسلمان، وقيل: هم مؤمنو الأمم الماضية، وقيل: هم المؤمنون من هذه الأمة، وقيل: المراد المنافقون آمنوا ظاهرا، وقيل: هم من آمن بالكتب المتقدمة والذين هادوا يعني اليهود، عن ابن عباس وجماعة من أهل العلم والنصارى من ادعى أنه على دين عيسى والصابئين قيل: طائفة من أهل الكتاب، ذبائحهم كذبائح أهل الكتاب، عن السدي وأبي العالية، وقيل: لا دين لهم وليسوا من أهل الكتاب، عن ابن عباس، وقيل: يقرون بالله ويعبدون الملائكة، ويقرؤون الزبور، ويصلون، أخذوا من كل دين شيئا، عن قتادة ومقاتل. وقيل: قوم بين اليهود والنصارى، عن الكلبي. وقيل: قوم بادوا، عن عبد العزيز بن يحيى، وإنما اشتبه مذهبهم لأنهم يدينون بالكتمان من آمن يحتمل أن يرجع إلى اليهود والنصارى والصابين، ويحتمل أن يرجع إلى جميع من تقدم، ثم اختلفوا في قوله: من آمن مع قوله: (الذين ءامنوا) فقيل: (من آمن) أي ثبت على إيمانه في مستقبل عمره، كما آمن في الماضي؛ لأن الثواب يحصل بمجموع الأمرين، وقيل: آمنوا بموسى وعيسى، ثم آمنوا بمحمد، وقيل: آمنوا بسائر الكتب، ثم آمنوا بالقرآن، وقيل: آمن في الباطن كما آمن في الظاهر، وقيل: فيه إضمار، أي من آمن معك إلى يوم القيامة، بالله أي بتوحيده، وصفاته وعدله واليوم الآخر يعني يوم القيامة والبعث، سمي آخرا لتأخره عن الدنيا وعمل صالحا يعني عمل ما أمره الله به من الطاعات، واجتناب المعاصي؛ وإنما لم يذكر ترك المعاصي، لأن تركها من الأعمال الصالحة فلهم أجرهم أي جزاؤهم وثوابهم عند ربهم أي معدة عنده ولا خوف عليهم فيما قدموا عليه من عذاب يوم القيامة ولا هم يحزنون: ولا يحزنون على ما خلفوا يوم القيامة.
* * *
(الأحكام)
الآية تدل على أن عذاب الكفر يزول بالإيمان والعمل الصالح، وفيه إجماع.
وتدل على أن استحقاق الثواب والجنة بالإيمان والعمل الصالح، خلاف ما تقوله المرجئة. ولا يقال: لم لم تذكر التوبة؛ لأن ذلك داخل في الإيمان والعمل الصالح.
وتدل على أن المؤمن لا يناله خوف ولا حزن يوم القيامة خلاف ما يقوله قوم.
ويقال: إذا كان العمل الصالح يدخل تحت الإيمان فما الفائدة في ذكره؟
قلنا: لأنه ذكر إيمانا مقيدا، فصح ضم العمل الصالح إليه، بل لا بد من ذلك؛ لأنه عند التقييد يجري على طريقة اللغة، وقيل: ذكر ذلك تأكيدا، وعطفه عليه لا يوجب خروجه منه، كقوله: (من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال)
وكقوله: (فاكهة ونخل ورمان).
فإن قيل: هل يجوز ما يروى عن ابن عباس أنه منسوخ بقوله: (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه)؟
قلنا: لا يجوز ذلك؛ لأن هذا وعد من الله للمحسنين بالثواب، ولا يجوز نسخه، ولأنه لا تنافي بين الاثنين، ويبعد أن يصح ذلك عن ابن عباس، فيحمل على أنه غلط عليه غير صحيح عنه.
صفحة ٤١٣