(1) -
النظم
وأما نظم هذه السورة فأقول فيه أن العاقل المميز إذ عرف نعم الله سبحانه بالمشاهدة وكان له من نفسه بذلك أعدل شاهد وأصدق رائد ابتدأ بآية التسمية استفتاحا باسم المنعم واعترافا بإلهيته واسترواحا إلى ذكر فضله ورحمته ولما اعترف بالمنعم الفرد اشتغل بالشكر له والحمد فقال الحمد لله ولما رأى نعم الله تعالى على غيره واضحة كما شاهد آثارها على نفسه لائحة عرف أنه رب الخلائق أجمعين فقال رب العالمين ولما رأى شمول فضله للمربوبين وعموم رزقه للمرزوقين قال الرحمن ولما رأى تقصيرهم في واجب شكره وتعذيرهم في الانزجار عند زجره واجتناب نهيه وامتثال أمره وأنه تعالى يتجاوز عنهم بالغفران ولا يؤاخذهم عاجلا بالعصيان ولا يسلبهم نعمه بالكفران قال الرحيم ولما رأى ما بين العباد من التباغي والتظالم والتكالم والتلاكم وأن ليس بعضهم من شر بعض بسالم على أن وراءهم يوما ينتصف فيه للمظلوم من الظالم فقال مالك يوم الدين وإذا عرف هذه الجملة فقد علم أن له خالقا رازقارحيما يحيي ويميت ويبدئ ويعيد وهو الحي لا يشبهه شيء والإله الذي لا يستحق العبادة سواه ولما صار الموصوف بهذا الوصف كالمدرك له بالعيان المشاهد بالبرهان تحول عن لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب فقال إياك نعبد وهذا كما أن الإنسان يصف الملك بصفاته فإذا رآه عدل عن الوصف إلى الخطاب ولما رأى اعتراض الأهواء والشبهات وتعاور الآراء المختلفات ولم يجد معينا غير الله تعالى سأله الإعانة على الطاعات بجميع الأسباب لها والوصلات فقال وإياك نستعين ولما عرف هذه الجملة وتبين له أنه بلغ من معرفة الحق المدى واستقام على منهج الهدى ولم يأمن العثرة لارتفاع العصمة سأل الله تعالى التوفيق للدوام عليه والثبات والعصمة من الزلات فقال اهدنا الصراط المستقيم وهذا لفظ جامع يشتمل على مسألة معرفة الأحكام والتوفيق لإقامة شرائع الإسلام والاقتداء بمن أوجب الله طاعته من أئمة الأنام واجتناب المحارم والآثام وإذا علم ذلك علم أن لله سبحانه عبادا خصهم بنعمته واصطفاهم على بريته وجعلهم حججا على خليقته فسأله أن يلحقه بهم ويسلك به سبيلهم وأن يعصمه عن مثل أحوال الزالين المزلين والضالين المضلين ممن عاند الحق وعمي عن طريق الرشد وخالف سبيل القصد فغضب الله عليه ولعنه وأعد له الخزي المقيم والعذاب الأليم أو شك في واضح الدليل فضل عن سواء السبيل فقال صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين .
صفحة ١١٠