{ إن الذين يكتمون مآ أنزلنا من البينات } اعلم أن أمثال هذه الآيات ما مضى منها وما يأتى نازلة فى شأن على (ع) وولايته سواء كان نزولها فى أهل الكتاب او فى غيرهم فان المقصود منها التعريض بولاية على (ع) فالمعنى ان الذين يكتمون ما أنزلنا على محمد (ص) من دلائل ولاية على (ع) التى لم يخف على احد بعد وفاة محمد (ص) { والهدى } المطلق الذى هو ولاية على (ع) فانه حقيقة الهدى، وكلما يدل على الولاية فهو هدى باعتبار انتهائه الى الهدى المطلق { من بعد ما بيناه } اى الهدى الذى هو الولاية { للناس في الكتاب } اى القرآن وأخبار الرسول { أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون } اى الذين يتأتى منهم اللعن من الملائكة والثقلين حتى أنفسهم فانهم يقولون: لعن الله الكافرين كما فى تفسير الامام (ع) او من كل شيء فان الكل باعتبار شعورهم بقدر وجودهم يلعنون الملعونين، وهذا لا ينافى جريانه فى أهل الكتاب الكاتمين لامر محمد (ص) وعلى (ع) وفى سائر العلماء الكاتمين لمطلق الحق وفيمن علم شيئا من الحق فكتمه، ونسب الى ابى محمد (ع) انه قال: قيل لامير المؤمنين (ع): من خير خلق الله بعد ائمة الهدى ومصابيح الدجى؟ - قال: العلماء اذا صلحوا، قيل: فمن شر خلق الله بعد ابليس وفرعون ونمرود وبعد المتسمين بأسمائكم والمتلقبين بألقابكم والآخذين لامكنتكم والمتأمرين فى ممالككم؟ - قال: العلماء اذا فسدوا؛ هم المظهرون للاباطيل الكاتمون للحقائق وفيهم قال الله عز وجل:
أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون
[البقرة: 159]، ونسب الى الباقر (ع) انه قال: ان رجلا اتى سلمان الفارسى رحمه الله فقال: حدثنى فسكت عنه؛ ثم عاد فسكت ثم عاد فسكت فأدبر الرجل وهو يتلو هذه الآية: ان الذين يكتمون (الى آخره) فقال له: أقبل انا لو وجدنا أمينا حدثناه (الحديث).
[2.160-162]
{ إلا الذين تابوا } عن الكتمان { وأصلحوا } ما أفسدوه بالجبران { وبينوا } ما كتموه { فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم إن الذين كفروا } استئناف فى مقام التعليل ولذا قطعه عما قبله والمراد اصالة الكفر بولاية على (ع) { وماتوا وهم كفار } يعنى ان الكفار حين الموت وظهور على (ع) عليهم يعرض عليهم الولاية فيقبل بعضهم ويرد بعضهم فلا يعلم حال الكافر بعد الموت الا المطلع على خفايا الاحوال، فلا يجوز لعن الكافر بعد موته الا لمن يعلم حاله، والا لمن سمع ممن يعلم حاله جواز لعنه، ولما كان هذا الحكم تعليلا للسابق ومن متعلقاته والمتكلم فى مقام السخط كلما ازداد ذمه للمغضوب عليه اشتد غضبه، وكلما اشتد غضبه ازداد فى بسط الكلام وتغليظ الحكم وتأكيده بسط تعالى فى الكلام وأكد فقال تعالى: { أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها } فى اللعنة او فى نار جهنم { لا يخفف عنهم العذاب } بعد دخولهم فى العذاب { ولا هم ينظرون } يمهلون قبل دخول العذاب او لا يمهلون فى العذاب برفع العذاب او تخفيفه ليعتذروا، او لا ينظر اليهم.
[2.163]
{ وإلهكم إله } جملة مستأنفة لابداء حكم آخر على مجيء الواو للاستئناف او حالية والمعنى أنهم مخلدون فى العذاب لا يخفف عنهم ولا يمهلون والحال ان لا اله سوى الاله المعذب يدفع عنهم العذاب ويخلصهم من الاله المعذب، والاله مأخوذ من اله بفتح العين بمعنى عبد فهو فعال بمعنى المفعول وجاء اله كفرح بمعنى تحير، وعليه؛ اشتد جزعه عليه، واليه؛ فزع ولاذ، والهه أجاره وآمنه، ويصح جعله مشتقا من الجميع؛ ومعنى الهكم اله أن ما جعلتموه معبودا مستحق للعبادة لا انه غير مستحق للعبادة { واحد } لا متعدد { لا إله إلا هو } يعنى لا مستحق للعبادة سواه حتى يكون معبودا لغيركم او يدافعكم عن الهكم { الرحمن } المفيض لوجود الاشياء كلها والمبقى لها والمعطى لما تحتاج هى اليه فى بقائها { الرحيم } المفيض للكمالات الاختيارية البشرية فاثبت ألا ألهة للاله المضاف الى المخاطبين ثم التوحيد ثم حصر الآلهة فيه وأثبت له المبدئية والمنتهائية والمالكية وهذه فى امهات صفاته تعالى وأقام البرهان عليه بقوله: { إن في خلق السماوات والأرض }
[2.164]
{ إن في خلق السماوات والأرض } فهو استئناف فى مقام التعليل وجمع السماوات لتعددها حقيقة بخلاف الارض وآيات خلق السماوات الدالة على صانع حكيم عليم قادر ذى عناية بالخلق رحمن رحيم كثيرة خارجة عن احصاء البشر وما أحصوه منها لا يحيط به البيان من وضع أفلاكها الكلية والجزئية المحيطة وغير المحيطة وحركاتها الجزئية والكلية المختلفة بالسرعة والبطوء والاقامة والاستقامة والرجعة والشرقية والغربية المنضبطة فى اختلافها المنوط بها نظام مواليد الارض من توليدها وبقائها واستكمالها فى ذاتها وصفاتها ووضع كواكبها واختلافها بالقرب والبعد من الارض وشدة النور وضعفه وعظم الجرم وصغره والتسخين والتبريد وظهور آثار منها فى الارضيات وغير ذلك مما فصل فى علم الهيئة والنجوم وأحكام النجوم وكذا آيات خلق الارض من تحيزها حول المركز بحيث يمكن تأثير السماويات فيها من جوانبها ودورانها حولها وتحيز الماء حولها وخروج بعض سطوحها عن الماء لامكان توليد المواليد البرية عليها وتوليد الماء فى جوفها ووضع الجبال عليها وانحدار سفوحها لامكان جريان العيون عليها وامكان اجراء القنوات فيها وجعلها غير لينة غامرة وغير صلبة صعبة البناء عليها متماسكة يتماسك البناء عليها وغير ذلك من المنافع الكثيرة التى لا يحصيها الا الله والآيات المستنبطة من كيفية تعانقهما ومحبتهما وتأثير كل وتأثرها من الاخرى كثيرة ايضا. { واختلاف الليل والنهار } اى تعاقبهما ومجيء كل خلف الآخر او اختلاف كل منهما فى ازمان السنة بالزيادة والنقصان او اختلافهما بزيادة أحدهما على الآخر فى أغلب الاوقات وباختلافهما فى الصفات والآثار آيات عديدة دالة على صانع حكيم قادر رحمن رحيم { والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس } يعنى فى جعل الماء مائعة سائلة وجعل مواد الفلك بحيث تطفو على وجه الماء وهدايتكم الى ترتيبها بحيث يجريها الرياح على وجه الماء غير خارجة عن اختياركم وفى الآثار المترتبة على الفلك وسرعة سيرها مع عدم احتياجها الى مؤنة من حمل اثقال كثيرة الى بلاد بعيدة آيات عديدة دالة على صانع حكيم قدير ذى عناية بالخلق { ومآ أنزل الله من السمآء } من جهة الفلك او من جهة العلو { من مآء فأحيا به الأرض بعد موتها } بتهييج قواها وانبات نباتها وتوريق أشجارها { وبث } عطف على أنزل الله اى فيما بث من الحشرات والانعام والسباع وأصناف الانسان، او عطف على أحيا اى فيما أنزل من السماء فأحيا بسببه الارض وبث بسببه { فيها من كل دآبة } ولفظة من على الاول بيانية، وعلى الثانى تبعيضية ووجة سببية المطر لبث الدواب ان توليد المتولدات من الحشرات انما يكون برطوبة الارض والهواء الممتزجة بحرارة الشمس المختلطة بالاجزاء الارضية المتعفنة بسبب الحرارة وبقائها وبقاء المتولدات وتعيشها انما يكون بسبب كثرة نبات الارض الحاصلة من كثرة رطوبة الارض والهواء الحاصلة من كثرة المطر { وتصريف الرياح } الذى به تبديل الهواء حتى لا يركن فيتعفن فيفسد أمزجة الحيوان والنبات وحتى يذهب بالهواء العفن ويبرد ابدان الحيوان والنبات بتبديل الهواء المجاور المتسخن بالمجاورة والركون، وتنتفعون به فى معايشكم باجراء الفلك واقلال السحاب وتمييز الحبوب من الاتبان { والسحاب المسخر بين السمآء والأرض } بحيث يحمل الاجزاء الرشية المائية ويستحيل اليها اجزاء هوائية فيذهب بها الى مواضع أمره الله بالامطار فيها فيمطر بحيث ينتفع الارض به من أنواع المطر لا بحيث يفسد الارض وعماراتها ومواليدها وقد يأتى بالثلج فى وقته او بالبرد فى محل ينتفع به وقد يأتى بالمطر او الثلج او البرد بحيث يكون ضررها اكثر من نفعها اذا أراد الله بقوم ضرا { لآيات } دالة على صانع عليم حكيم قادر لا يشذ عن علمه شيء رحمن رحيم كما اشير اليها { لقوم يعقلون } يدركون بالعقول لا بالمدارك الحيوانية او لقوم صائرين عقلاء، والاتيان بالمضارع للدلالة على حدوث العقل بعد ان لم يكن لا لغير العقلاء ممن كانوا كالانعام او هم أضل فان العاقل يدرك من الاشياء دقائق الحكم المودعة فيها واسبابها ومسبباتها لا غيره.
[2.165-166]
صفحة غير معروفة