[1 - سورة الفاتحة]
[1.1]
اتفق اصحابنا الامامية رضوان الله عليهم انه من القرآن وانه آية من كل سورة ذكر التسمية فى اولها وانه يجب الجهر به فيما يجهر به من الصلوات ولا يجوز تركه فى الفرائض وخالف فى ذلك العامة قال البيضاوى فى اول تفسيره: هو من الفاتحة وعليه قراء مكة والكوفة وفقهائهما وابن المبارك والشافعى وخالفهم الشيبانى وقراء المدينة والبصرة والشام وفقهاؤها ومالك والاوزاعى ولم ينص ابو حنيفة فيه بشئ فظن انها ليست من السورة عنده وسئل محمد بن الحسن عنها فقال ما بين الدفتين كلام الله تعالى لنا احاديث كثيرة منها ما روى ابو هريرة انه قال فاتحة الكتاب سبع آيات اوليهن بسم الله الرحمن الرحيم وقول ام سلمة
" قرأ رسول الله (ص) وعد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين آية "
ومن اجلهما اختلف فى انها آية برأسها او بما بعدها والاجماع على ان ما بين الدفتين كلام الله والوفاق على اثباتها فى المصاحف مع المبالغة فى تجريد القرآن حتى لم يكتب آمين، الى هاهنا كلام البيضاوى. وعن امير المؤمنين (ع) ان التسمية من الفاتحة وان رسول الله (ص) يقرؤها ويعدها آية منها وعن الصادق (ع) ما لهم قتلهم الله عمدوا الى اعظم آية فى كتاب الله فزعموا انها بدعة اذا اظهروها وعن الباقر (ع) سرقوا اكرم آية من كتاب الله بسم الله الرحمن الرحيم. وورد منهم الترغيب فى الابتداء به عند كل امر صغير او كبير ليبارك فيه فعن الصادق (ع) انه قال لا تدعها ولو كان بعدها شعر وعنه (ع) من تركها من شيعتنا امتحنه الله بمكروه لينبهه على الشكر والثناء ويمحق عنه وصمة تقصيره عند تركه. وعن امير المؤمنين (ع) ان رسول الله (ص) حدثنى عن الله عز وجل انه قال
" كل امر ذى بال لم يذكر فيه بسم الله الرحمن الرحيم فهو ابتر "
، وعن طريق العامة عنه
" كل امر ذى بال لم يبدء باسم الله فهو ابتر ".
ولفظ الباء فيه للالصاق باعتبار لصوق ابتداء القراءة باسمه تعالى او للمصاحبة او للاستعانة او للسببية والمتعلق محذوف من مادة الابتداء او من مادة الفعل الذى يقع بعده مثل اقرأ واقوم واقعد وادخل واخرج او من مادة الاسم اى اسم نفسى بسمة من سمات الله كما روى عن الرضا (ع) انه قال يعنى اسم نفسى بسمة من سمات الله وهى العبادة قيل له ما السمة قال العلامة وفى هذا الخبر تنبيه على ان القائل بسم الله الرحمن الرحيم ينبغى ان يجتهد حتى يجد حين هذا القول انموذجا من صفات الله فى وجوده وفى قوله وهى العبادة اشارة الى ان العبد حين هذا القول ينبغى ان يخرج من انانيته التى هى خروج من العبادة والعبودية ويخرج من مالكيته واختياره ويدخل تحت امر ربه ويجد ذلك من نفسه حتى يكون منه هذه الكلمة صادقة ولا يكون هو كاذبا بينه وبين الله سواء اريد بكلمة بسم الله انشاء الاتصاف بسمة من سمات الله او الاخبار به ويجوز تقدير التأخير فى المقدر وتقدير التقديم لكن التأخير ادخل فى التعظيم والاهتمام باسم الله ويفيد الحصر والاسم بكسر همزة الوصل وضمها والسم والسما بتثليث السين مأخوذ من السمو بمعنى الارتفاع او من الوسم بمعنى العلامة، وجمعه على اسماء وتصغيره على سمى يؤيد الاول، وكونه بمعنى العلامة يؤيد الثانى، وحديث الرضا (ع) فى بيان بسم الله ينبه على الثانى واسم الشئ علامته وكل لفظ وضع لجوهر او عرض من غير اعتبار نسبة فيه، واسماء الله عبارة عما يدل عليه تعالى من لفظ او مفهوم او جوهر عينى ولا اختصاص لها بالاسماء اللفظية او المفاهيم الذهنية فان اطلاق الاسم فى الاخبار على الذوات العينية كثير وسيجيئ تحقيق تام للاسم فى اول البقرة عند قوله تعالى
وعلم آدم الأسمآء كلها
[البقرة: 31] والفرق بين الاسم والصفة اذا اعتبر فى الاسم معنى من المعانى كالفرق بين المشتق ومبدء الاشتقاق كالعلم والعالم فان الاول مأخوذ بشرط لا ولذلك لا يصدق على الذات الموصوفة به والثانى مأخوذ لا بشرط شيئ ولذلك يصدق على الذات الموصوفة به وليست الذات معتبرة فى المشتق لانه اذا فرض علم مجرد قائم بذاته يصدق عليه العالم بل نقول ذات البارى جلت عظمته علم مجرد قائم بذاته كما انه عالم. وللاسم اعتبار ان اعتبار كونه اسما ومرآة للمسمى، وبهذا الاعتبار لا يكون له نفسية ولا وجود مغاير للمسمى بل يكون وجوده وجود المسمى ورقيقة منه ونفسيته نفسية المسمى ولذلك لا يكون الحكم فى الكلام الا على المسمى ولا يكون النظر الا الى المسمى فان قولك جاء زيد لا يكون النظر فيه ولا الحكم الا على المسمى، والآخر اعتبار كونه موجودا مغايرا للمسمى منظورا اليه محكوما عليه وبهذا الاعتبار يكون هو كالمسمى امرا موجودا مستقلا محكوما عليه مغايرا للمسمى وبهذا الاعتبار يصير الاسم مسمى وله اسماء مثل قولك زيد لفظ مركب من ثلاثة احرف فان زيدا فى هذا القول له اسماء عديدة مثل الاسم واللفظ والكلمة والمركب والموضوع والدال والعلم وغير ذلك وبهذا الاعتبار لا يكون مظهرا ومرآة للمسمى ولا دالا عليه ولما كان جملة العالم برمتها اسماء لله تعالى كان هذان الاعتباران ثابتين لها والى هذين الاعتبارين اشار تعالى بقوله إن هى الا أسماء يعنى ليست هى مسميات ومنظورا اليها ومستقلات مغايرات لله سميتموها انتم يعنى انكم صرتم محجوبين عن المسمى ناظرين الى الاسماء من حيث انها مستقلات فى الوجود جاعلين لها مسميات فصرتم مشركين وكافرين لهذا النظر، و الناس فى النظر الى الاشياء مختلفون فناظر ينظر اليها من حيث انها اسماء لله غافلا عن وجودها وعن النظر اليها او شاعرا بالنظر اليها، وناظر ينظر اليها من حيث انها مسميات غافلا عن المسمى، وناظر ينظر اليها مستقلات والى المسمى والاول وهو الذى ينظر الى الاشياء من حيث انها اسماء غافلا عن النظر اليها او شاعرا بالنظر اليها هو الذى يعبد المسمى بايقاع الاسماء عليه ويكون موحدا، والذى ينظر الى الاسماء من حيث انها مسميات مستقلات غافلا عن المسمى هو الذى يعبد الاسم دون المسمى ويكون كافرا وهذا حال اكثر الناس، والذى ينظر الى الاسماء حالكونها مسميات مستقلات والى المسمى حالكونه مسمى مستقلا مغايرا مباينا عن الاسماء هو الذى يعبد الاسم والمسمى ويكون مشركا، والناظر الى الاسماء من حيث انها اسماء غافلا عن نظره اليها هو المجذوب الذى رفع القلم عنه ولا حكم له فى الكثرات ولا تكليف، والناظر اليها من حيث انها اسماء شاعرا بنظره هو الكامل الجامع للطرفين، وهذا الكامل اما يكون استشعاره بالاسماء غالبا على استشعاره بالمسمى او يكون استشعاره بالمسمى غالبا او يكون استشعاره بالطرفين على السواء والاول هو الواقع فى النشأة الموسوية والثانى هو الواقع فى النشأة العيسوية والثالث هو الذى يراعى حقوق الكثرات والوحدة بحيث لا يهمل من حقوق الطرفين شيئا وهو الواقع فى النشأة المحمدية (ص) الجامعة للكثرة والوحدة بحيث لا يشذ شيئ من حقوقهما، والى النشئات الثلاث أشار تعالى بقوله
محمد رسول الله والذين معه أشدآء على الكفار رحمآء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه
[الفتح: 29]؛ الآية، فاشار بقوله ذلك: مثلهم فى التوراة؛ الى النشأة الموسوية وبقوله { ومثلهم في الإنجيل كزرع }؛ الآية، الى النشأة العيسوية، وبالجمع بين النشأتين الى النشأة المحمدية واعتبر ذلك المذكور من حال الكافر والمشرك والمجذوب والكامل ونشئاته الثلاث بالمرآة والنظر اليها ورؤية الصور فيها فانه قد ينظر الانسان الى المرآة من حيث صفائها واستدارتها وتربيعها وتسديسها وتحديبها او تقعيرها من غير رؤية صورة فيها او من غير شعور برؤية صورة فيها، وقد ينظر اليها من حيث رؤية الصور فيها من غير شعور بالمرآة وبرؤيتها، وقد ينظر الى المرآة من حيث اشكالها وصفائها وينظر الى الصورة التى فيها وقد ينظر الى المرآة حال كونها لا حكم لها فى نظره سوى ارائة الصور شاعرا بنظره الى المرآة وبنظره الى الصور بالاقسام الثلاثة السابقة وما ورد فى جواب من قال هل الله فى الخلق ام الخلق فى الله من قوله (ع) اخبرنى عن المرآة هل انت فى المرآة ام المرآة فيك يشير الى ما ذكرنا ومقامات الكثرة فى الوحدة والوحدة فى الكثرة والجمع بين الوحدة والكثرة الدايرة فى ألسنة الصوفية اشارة الى النشئات الثلاث وللاشارة الى تلك النشئات ورد فى خبر: ما رأيت شيئا الا ورأيت الله فيه وفى آخر: الا ورأيت الله قبله وفى آخر: الا ورأيت الله بعده وما قيل ان الاسم عين المسمى او غيره قد علم جوابه مما ذكرنا فان الاسم اذا كان منظورا اليه من حيث اسميته بحيث يكون الناظر غافلا عن نظره يكون عين المسمى بمعنى انه لا وجود ولا نفسية ولا حكم ولا اثر حينئذ الا للمسمى، واذا كان الناظر حينئذ شاعرا بنظره يكون بوجه غيره وبوجه عينه، واذا كان منظورا اليه بحيث يكون فى نظر الناظر ذا نفسية ووجود وانانية كان غيره سواء نظر الناظر من الاسم الى المسمى او لم ينظر، ولما كان الانسان واقعا بين دارى الرحمن والشيطان وكان دار الشيطان لغاية بعدها من الرحمن وغلبة الاعدام عليها وكونها بتمام اجزائها مظاهر قهره تعالى كأنها لم تكن مظاهر له تعالى وكانت مقابلة لدار الرحمن وكانت النفس الانسانية من حيث تسخره للشيطان كأنها اسم للشيطان لا للرحمن ومن حيث تسخره للعقل اسم للرحمن وكان جميع افعال الانسان صادرة من نفسه اما من جهتها الشيطانية او من جهتها العقلانية امروا العباد بالتسمية عند كل فعل صغير او عظيم حتى يخرجوا بالتسمية من جهة النفس الشيطانية ويدخلوا فى جهتها الرحمانية ويكون الفعل رحمانيا لا شيطانيا، ولما كان اكثر الناس قاصرين غير بالغين الى مقام النظر الى فاعلية الله تعالى بدون وساطة الوسائط ومن بلغ الى ذلك المقام لم تكن الوسائط مرتفعة فى أفعاله بل المرتفع فى حقه النظر الى الوسائط قال تعالى باسم الله بتخلل الاسم بين الباء والله ولم يقل بالله وان كان هذا ايضا صحيحا فى نفس الامر فان الافعال تصدر عن الانسان بتوسط نفسه التى هى اسم لله فما قيل ان الاسم مقحم بين الجار ومجروره ليس بشيئ وكذا ما يترائى من كون المراد من الله لفظه وكون الاضافة بيانية يأتي التوصيف بالرحمن، ولما كان المقصود من التسمية الخروج من الجهة الشيطانية والدخول فى الجهة العقلانية كما سبق عن الرضا (ع) فى تفسيرها من قوله يعنى اسم نفسى بسمة من سمات الله فلو قال القائل بسم الله الرحمن الرحيم كان قوله بسم الله مثل ان قال التجأت من دار الشيطان وتصرفه الى دار الرحمن وتصرفه ودخلت فى داره واتصفت بصفاته فكان يفيد فائدة الاستعاذة مع شيئ زائد ولذلك ورد عن الباقر (ع) اول كل كتاب نزل من السماء بسم الله الرحمن الرحيم فاذا قرأتها فلا تبال ان لا تستعيذ واذا قرأتها سترتك فيما بين السماء والارض، ولما كان التسمية من القائل اتصافا بسمة من سمات الله وهى بمنزلة السلاح للشيطان والشيطان يفر منها امروا بالجهر ببسم الله بخلاف الاستعاذة والله علم للذات بعنوان مقام ظهوره الذى هو فعله ومشيئة فان الذات غيب مطلق لا اسم له ولا رسم له وان الاسماء والصفات ليست له الا باعتبار ظهوره بفعله ومشيئة ومشيئة لها اعتباران؛ اعتبار وجهها الى مقام الغيب واعبار وجهها الى الخلق، وتسمى باعتبار وجهها الى الغيب عرشا، وباعتبار وجهها الى الخلق كرسيا، وبهذين العنوانين يسمى الحق الاول بالله وبالعلى وباعتبار هذين العنوانين قال تعالى
الرحمن على العرش استوى
[طه: 5] و
وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم
[البقرة: 255] وهل هو مشتق او جامد بمعنى انه من الاوصاف المشتقة من المصادر او ليس اسما مشتقا بل هو مصدر او اسم مصدر او اسم ليس له مادة متصرفة، اقوال؛ فقيل انه من مادة اله الهة والوهة مثل نصر بمعنى عبد واصله اله بكسر الهمزة حذف الهمزة وعوض عنها لام التعريف ولذلك او لمطلوبية التطويل والتفخيم فى نداء المحبوب لم يحذف الفه فى النداء، او من اله كفرح بمعنى تحير او اشتد جزعه عليه او فزع اليه ولاذ به او بمعنى اجاره، وقيل من مادة وله من باب حسب وعلم وضرب بمعنى حزن وتحير وخاف وجزع او من مادة لاه الله الخلق يلوه بمعنى خلقهم او من لاه يليه بمعنى تستر او علا، وقيل: اصله لاها بالسريانية فعرب بحذف الالف الاخيرة ودخل لام التعريف عليه وقيل كان اصله هو لانه موضوع لغائب معهود معروف والغائب عن الابصار مطلقا والمعهود المعروف للقلوب على الاطلاق هو الله ثم ادخل عليه لام الاختصاص للاشعار باختصاص كل ما سواه به، ثم اشبع فتحة اللام تفخيما ثم ادخل لام التعريف عليه لتفخيم آخر فصار الله.
و { الرحمن الرحيم } صفتان لله او للاسم فان اسماء الله العينية كما انها مظاهر لله مظاهر لجميع صفاته تعالى وجعلهما صفتين للاسم اولى من جعلهما صفتين لله للزوم التأكيد على الثانى مع ما بعده دون الاول ولان المنظور الاتسام باسم يكون به قوام الفعل المبتدأ به وينتهى الفعل اليه وهذا معنى كون الاسم متصفا بصفة الرحمانية والرحيمية وهما مأخوذتان من رحم بكسر العين للمبالغة او من رحم بضم العين صفتين مشبهتين وعلى اى تقدير فالرحمن ابلغ من الرحيم لزيادة مبناه ولعدم اختصاص الرحمة الرحمانية بشيئ دون شيئ وبحال دون حال وبجهة دون جهة بخلاف الرحمة الرحيمية فانها مختصة بالانسان ومن كان مثله سالكا الى الرحمن وبحال كونه على رضاه ومن جهة كونه على رضاه واما غير الانسان فان العناصر والمواليد لا توصف بالرحمة الرحيمية ولا بالغضب الذى هو ضدها والارواح العالية وجودهم كما هو رحمة رحمانية رحمة رحيمية ولا تمايز بين الرحمتين فيهم كما لا يتصور جهة غضب فيهم والارواح الخبيثة قد يجوز ان يتصفوا بالرحمة الرحيمية لكن الاغلب انهم متصفون بالغضب وذلك ان الرحمة الرحمانية عبارة عن افاضة الوجود على الاشياء وابقائها واكمالها بالكمالات اللائقة بفطرتها وهذا عام لجميع الاشياء دنيوية كانت او اخروية اناسى كانت او غير اناسى ولذلك قال { الرحمن على العرش استوى } وفسروه باستواء نسبته الى الجليل والحقير وورد:
" يا رحمن الدنيا والآخرة "
، وورد عن الصادق (ع) ان الرحمن اسم خاص لصفة عامة وورد عن امير المؤمنين (ع) ان الرحمن الذى يرحم ببسط الرزق علينا او العاطف على خلقه بالرزق لا يقطع عنهم مواد رزقه وان انقطعوا عن طاعته، ومن المعلوم ان رزق الاعيان الثابتة افاضة الوجود عليها ورزق الموجود افاضة ما به بقاء وجوده والرحمة الرحيمية عبارة عن افاضة الكمالات الاختيارية المرضية على المختارين من الانس والجن ولذلك ورد ان الرحيم اسم عام لصفة خاصة وورد عنهم (ع) الباء بهاء الله والسين سناء الله والميم مجد الله وفى رواية ملك الله والله اله كل شيئ، الرحمن بجميع خلقه والرحيم بالمؤمنين خاصة وما ورد انه الرحيم بعباده المؤمنين فى تخفيفه عليهم طاعاته وبعباده الكافرين فى الرفق فى دعائهم الى موافقته فتعلق الرحمة الرحيمية بالكافرين انما هو من جهة بقاء فطرتهم واقتضائها فعلية مرضية اختيارية من الفعليات المرضية تقتضى تلك الفعلية الرفق بهم ودعائهم الى الدين والمداراة معهم فى الدنيا والنصيحة لهم فى امر العقبى وفى آخر الخبر المروى عن امير المؤمنين (ع) الرحيم بنا فى ادياننا ودنيانا وآخرتنا خفف علينا الدين وجعله سهلا خفيفا وهو يرحمنا بتمييزنا من اعدائه فالرحمة الرحيمية بمعنى الرضا مقابل الغضب كالصورة للرحمة الرحمانية وهى مادة للرضا والغضب فان الرحمة الرحمانية وهى افاضة الوجود وكمالات الموجود قد تصير فى بعض الموجودين وهم المختارون العاصون غضبا وفى بعضهم وهم المختارون المطيعون رضا، والرحمة السابقة على الغضب هى الرحمة الرحمانية دون الرحمة الرحيمية او هى الرحمة الرحيمية والمراد بسبقها تعلقها بالمكلفين بحسب اقتضاء فطرتهم ذلك كما سبق وقد علم مما ذكر وجه تخلل الاسم بين الجار والله، ووجه تقديم الله على الرحمن، وتقديم الرحمن على الرحيم، واشار بالله الى جامعيته تعالى وبالرحمن الى مبدئيته وبالرحيم الى مرجعيته وقد جمع جميع اضافاته فيهما ولما كان الحروف اللفظيه بازاء مراتب الوجود العينية كان كل منها اشارة الى مرتبة منه فالالف لبساطتها اشارة الى مرتبة الوجوب والباء لكونها اقرب الى الالف فى البساطة اشارة الى فعله الذى لا فرق بينه وبينه، والنقطة تحت الباء اشارة الى تعين الفعل بالامكان ولذلك ورد: بالباء ظهر الوجود اشارة الى مقام المشيئة، وبالنقطة تحت الباء تميز العابد عن المعبود: اشارة الى تعينها بالامكان الاول العقلانى وقيل ظهرت الموجودات من باء بسم الله، وبلحاظ ان الحروف بازاء مراتب الوجود ولحاظ ان جميع الكتب السماوية لتصحيح النسب الحقية والنسب الخلقية وجميع النسب الحقية والخلقية مجتمعة بحسب الامهات فى فاتحة الكتاب وجميع ما فى الفاتحة مجتمعة فى بسم الله الرحمن الرحيم وجميع ما فى تمام بسم الله الرحمن الرحيم مجتمعة فى باء بسم الله صح ان يقال جميع ما فى القرآن فى سورة فاتحة الكتاب، وجميع ما فى سورة فاتحة الكتاب فى بسم الله الرحمن الرحيم، وجميع ما فى بسم الله فى باء بسم الله، وعلى (ع) باعتبار تعينه الاول هو النقطة تحت الباء وصح ان يقال، لو شاء العالم لاوقر سبعين بعيرا من تفسير فاتحة الكتاب او من تفسير بسم الله الرحمن الرحيم او من تفسير باء بسم الله كما نسب اكثر هذه المضامين الى مولانا امير المؤمنين عليه السلام.
[1.2]
{ الحمد لله } قرأ القراء بضم الدال وكسر اللام وقرء فى الشواذ بفتح الدال وكسر اللام وقرء ايضا بكسر الدال واللام لاتباع الدال للام ولام الحمد لتعريف الجنس او الاستغراق وعلى اى تقدير فالكلام للحصر وهو على تقدير الاستغراق واضح وعلى تقدير الجنسية فالحصر يستفاد من لام لله لانه للاختصاص والحمد اما بمعنى ما يحمد عليه وصح الحصر حينئذ مع ما يترائى من صفات الكمال لغيره تعالى لان ما للغير من صفات الكمال انما هى له تعالى حقيقة واتصاف الغير بها باعتبار مظهريته لها لا باعتبار انها من نفسه او بمعناه المصدرى وفاعله الله واصله حمدا لله حمدا ثم حذف الفعل ونقل المصدر الى الرفع وادخل عليه لام التعريف وجعل الله خبره بتوسط اللام للدلالة على الثبات والاستغراق والحصر وحصر الحمد بهذا المعنى فى الله مع تعدد الحامدين وكثرتهم لما سيأتى فى سورة البقرة عند قوله
ولكن الله يفعل ما يريد
[البقرة: 253] من انه تعالى فاعل كل فعل ظاهر من كل فاعل وانه لا فاعل فى الوجود الا الله ولا حول ولا قوة الا بالله ولان كل مادح اذا كان مدحه حمدا يعنى ثناء على جميل واقعى اختيارى لا يكون مادحا الا اذا صار عقلانيا ناظرا بنظر العقل ومتكلما بلسان العقل لا بنظر الجهل ونظر نفسه ولا بلسان الجهل ولسانه، ونظر العقل ولسانه نظر الله ولسانه فحمده يكون حينئذ حمدا لله لا حمد غير الله، او بمعناه المصدرى والله مفعوله والاصل حمدت الله حمدا فحذف الفعل واقيم المصدر مقامه وادخل عليه اللام وعدل به الى الرفع وجعل مفعوله بتوسط اللام خبرا له هذا باعتبار الحدوث والصدور للمعنى المصدرى ويجوز ان يعتبر المصدر مبنيا للفاعل او المفعول بمعنى اعتبار ثبوت الحدث للفاعل او المفعول واتصافه به من غير اعتبار الحدوث والصدور فيه، ويكون المعنى الحامدية لله او المحمودية لله.
اعلم ان ما يحمد عليه من صفاته الجمالية عين ما يسبح تعالى به من صفاته الجلالية لان اصل جميع صفاته الثبوتية الجمالية التى يحمد تعالى عليها هو سعة وجوده واحاطته لكل وجود وعدم وكل موجود ومعدوم لان العدم ثابت له نفسه التى هى عدم النفسية بالوجود والمعدوم محكوم عليه بالعدم بسبب الوجود وسعة وجوده ليست الا سعة جملة صفاته واصل جميع صفاته السلبية الجلالية التى يسبح تعالى بها هو سلب الحدود عنه تعالى وسلب الحدود راجع الى سلب السلوب ومصداق سلب السلوب ليس الا الوجود وهذا بخلاف الممكنات المحدودات فان السلوب الراجعة اليها هى سلوب الوجودات التى هى منتزعة من حدود وجوداتها لا من نفس وجوداتها فسبحان من لا يحمد الا على ما يسبح به ولا يسبح الا بما يحمد عليه ولذلك كان قلما ينفك ذكر التسبيح عن صريح الحمد او معناه فى الكتاب والسنة والمراد انشاء الحمد بهذه الكلمة او الاخبار بمحموديته تعالى ولما كان الله اسما للذات باعتبار ظهوره والذات متحدة مع جميع الصفات الحقيقية وظهور الذات ظهور لتلك الصفات كان الكلام فى قوة ان يقال: الحمد للذات الجامعة لجميع صفات الكمال لجمعها جميع صفات الكمال.
{ رب العالمين } قرء بكسر الباء وفتحها من ربه بمعنى ملكه او جمعه او رباه او اصلحه او صاحبه او لزمه والكل مناسب، والرب صفة مشبهة او اسم فاعل مخفف راب او مصدر اقيم مقام اسم الفاعل، والعالم من العلم او من العلامة مثل الخاتم بمعنى ما يعلم به ويطلق على ما سوى الله جملة وعلى كل مرتبة من مراتب ما سوى الله، وعلى كل نوع من انواع الموجودات، وعلى كل فرد من افراد الانسان كأنه اعتبر فى اطلاقه اجتماع امور مع نحو اتحاد بينها وجمعه بالواو والنون على خلاف القياس وربوبيته تعالى ليست كربوبية الملاك للاملاك ولا كربوبية الاباء للاولاد، ولا كربوبية النفس للاعضاء، بل كربوبية النفس للقوى من حيث انها تكون محصلة للقوى ومقومة لها وحافظة ومبلغة لها الى كمالاتها الاولية والثانوية فان الله تعالى مفيض الوجود على العالمين وحافظ ومقوم لها ومبلغ لها الى كمالاتها الاولية والثانوية ولذلك عقبها بقوله { الرحمن الرحيم }.
[1.3]
ليكون تفضيلا لها وقد مضى تحقيق الصفتين وجعلهما هاهنا صفتين لله يشعر بجعلهما فى التسمية صفتين لاسم الله ليكون تأسيسا واشارة الى ان القارى ينبغى ان يكون فى قرائته مرتقيا من النظر الى الاسماء والاتسام بها وتوصيفها بصفات الله الى النظر الى الذات وتوصيفها بصفاتها حتى يتحقق فى حقه امتثال امر: اقرء وارق.
[1.4]
قرء مالك على وزن الفاعل بالجر والاضافة وبالنصب والاضافة وبالرفع والاضافة وبالرفع منونا، وقرء ملك بفتح الميم وكسر اللام بالجر والنصب والرفع والاضافة، وقرء ملك باسكان اللام تخفيفا، وقرء ملك على لفظ الفعل، ومالكيته تعالى للاشياء ليست كمالكية الملاك لاملاكهم ولا كمالكية الملوك لممالكهم ولا كمالكية النفوس لاعضائها بل كمالكية النفوس لقويها وصورها العلمية الحاصلة الحاضرة عندها يفنى ما شاء منها ويوجد ما شاء ويمحو ويثبت، وتخصيص مالكيته تعالى بيوم الدين للاشارة الى الارتقاء الذى ذكرنا فان الانسان ما بقى فى عالم الطبع والبشرية لم يظهر عليه مالكيته تعالى واذا ارتقى الى اول عالم الجزاء وهو عالم المثال ظهر عليه انه تعالى مالك للاشياء كمالكيته لصوره العلمية وقواه النفسية فالمعنى ظاهر مالكيته يوم الدين سواء كان المراد ظاهر مالكيته للاشياء او لنفس يوم الدين ولما كان الواصل الى يوم الجزاء حاضرا بوجه عند مالكه قال تعالى بطريق التعليم { إياك نعبد }.
[1.5]
{ إياك نعبد } يعنى ينبغى للقارى ان يرتقى الى مقام الحضور ويشاهد الحق تعالى فى مظاهره تعالى فيرى انه ما كان مالكا لشيىء من امواله وافعاله واوصافه وذاته وان الله كان هو المالك للكل بالاستحقاق فيقع فى مقام الالتجاء ويخاطبه بلسان حاله وقاله ولسان ذاته وجميع جنوده وقواه ويظهر عبوديته ورقيته له تعالى بنحو حصر العبودية فيه فان مقام الحضور يقتضى التضييق فى العبودية بحيث لا يبقى للحاضر مجال النظر الى غير المعبود الم تنظر الى قوله تعالى
ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها
[النساء: 97] من غير ذكر عبادة فيه فضلا عن حصر العبادة فيه تعالى، والى قوله تعالى
يعبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون
[العنكبوت: 56] بذكر العبادة وحصرها فيه تعالى، فان مقام الغيبة لا يكون فيه عبادة ولو فرض عبادة لم يكن الا للاسم لا لله فضلا عن الحصر فيه تعالى، وفى مقام الحضور لا يكون غير العبادة ولا تكون العبادة الا لمن حضر لديه ولذلك قال تعالى فى موضع آخر { واعبدوا الله } { واعبدوا ربكم } ويكون المقصود من اظهار العبادة والحصر فى الله تعالى تمهيدا لطلب الاعانة منه ويقول بطريق الحصر نفعل فعل العبيد لك لا لغيرك او نصير عبيدا لك لا لغيرك { وإياك نستعين } فى دوام الحضور عندك وعدم الخروج من هذا المقام والبقاء على عبوديتك وفى جملة الامور سوى هذا، واذا بلغ السالك فى قراءته الى مقام الحضور عند ربه يكون لا محالة يتجاذبه كثرات وجوده ورعايا مملكته وتتقاضى منه قضاء حاجاتها واحقاق حقوقها فيضطر الى الالتفات اليها والى كثرات خارجة من مملكته لاضطرار الحاجة اليها فى قضاء حقوق رعاياه ويرى انه قلما ينفك فى معاملة الكثرات عن الافراط والتفريط وهما مانعان عن مقام الحضور ولذة الوصال فيتضرع على ربه ويسأله الابقاء على لذة الوصال عن الاشتغال بالاغيار ويقول { اهدنا الصراط المستقيم }.
[1.6]
فى معاملاتنا مع اهل مملكتنا والكثرات الخارجة من مملكتنا بالتوسط بين افراط التنصر وتفريط التهود فان الافراط وهو التجاوز عن الطريق بعد الوصول اليه يمنعنا عن مشاهدة جمالك بعد ما منحتنا بها، والتفريط ايضا يقصر بنا عن الحضور لديك. والهداية هى ارائة الطريق سواء كانت مع الايصال الى المطلوب او الى الطريق او مجردة عنهما، وسواء عديت بنفسها او بالى او باللام، والصراط بالصاد والسراط بالسين والزراط بالزاء الطريق وقرء هاهنا بالصاد والسين والصراط الظاهر ظاهر ومستقيمه معلوم والمستوى منه ما كان فى حاق الوسط او مستقيما وقد يقال المستقيم للطريق الذى يكون على اقرب الخطوط الى المقصود وهكذا المستوى والطريق فى الحركات الاينية هو المسافة بين مبدء الحركة ومنتهاها سواء صارت جادة وطريقا فى الارض او لم تصر، وهكذا الحال فى الحركات الوضعية ويكون المسافة وحدودها فى هاتين الحركتين موجودة قبل الحركة واما الحركات الكيفية والكمية والجوهرية فالطريق فيها وهى مراتب الكيف والكم الطارئة على الجسم المتحرك ومراتب الصور الجوهرية المتعاقبة على الجوهر المتحرك غير موجود لا قبل الحركة ولا بعدها بل هو كالحركة القطعية التى لا وجود لها لا قبل الحركة ولا بعدها بل وجودها يكون فى الذهن بسبب رسم وصول المتحرك الى حدود المراتب امرا متصلا وحدانيا فيه والموجود من الطريق فيها هو مرتبة من الكيف او الكم او الجوهر التى وجودها كالحركة التوسطية عين قوة عدمها وتكونها عين قوة تصرفها ولذلك اشكل الامر على كثير من اهل النظر فى بقاء موضوع محفوظ فى هذه الحركات خصوصا فى الحركات الكمية والجوهرية بناء على ان الجسم التعليمى منتزع عن الجسم الطبيعى وبتبدله يتبدل الجسم الطبيعى وبتبدله يتبدل الموضوع وهكذا الحال فى توارد الصور الجوهرية فى الحركات الجوهرية والحق ان الموضوع محفوظ بكم ما وصورة ما محفوظين فى ضمن الكميات والصور الواردة بحافظ شخصى غيبى ومادة باقية بكم ما وصورة ما فان الاتصال الوحدانى مساو للوحدة الشخصية وكل مكون من الجماد والنبات والحيوان متحرك من اول تكونه فى الكيف والكم بل فى الصور الجوهرية حتى ينتهى الى كماله اللائق بنوعه او شخصه وهذا معنى كون الكون فى الترقى فان الحركة خروج تدريجا من القوة الى الفعل والخروج من القوة الى الفعل معنى الترقى وكل من هذه خروجه من القوة الى الفعل من اول تكونه الى كماله اللائق به يكون على الصراط المستقيم والفعليات اللائقة به ان لم يمنعه مانع ولم يعقه عائق سوى الانسان من افراد الحيوان فانه بحسب استكمال بدنه يخرج على الصراط المستقيم اللائق بنوعه وشخصه ان لم يعقه عائق وبحسب استكمال نفسه ايضا يخرج من القوة الى الفعل على الصراط اللائق بنوعه وشخصه ما لم يحصل له استقلال فى اختياره فاذا حصل له استقلال فى اختياره وحان اوان تمرينه وتكليفه فقد يخرج من القوى الى الفعليات اللائقة بنوع الانسان من دون حصول فعلية مخالفة لنوعه متخللة بين تلك الفعليات حتى يصل الى آخرة فعلياته وهى مقام الاطلاق والولاية الكلية وعلوية على (ع) وهذا نادر وكثيرا ما يخرج من القوى الى الفعليات اللائقة به بتخلل فعليات غير لائقة به فيكون خروجه الى الفعليات لا على الصراط المستقيم الانسانى بل قد يعود صراطه الى غير الفعليات اللائقة به وقوله تعالى
ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال
اشارة الى هؤلاء السلاك، وقد يخرج الانسان الى الطرق المعوجة والفعليات الغير اللائقة به من دون فعلية لائقة به فقد ينتهى فى تلك الفعليات فيصير أخس من البهائم او السباع او الشيطان وقد يقف فيمسخ بصورة الفعلية التى وقف عليها ولما كان الصراط المستقيم الانسانى ادق الامور بحيث لا يمكن لكل بصير تمييزه، وأحد الامور بحيث لا يمكن لكل سالك سلوكه من غير زلة الى احد الطرفين، وأخفى الامور بحيث لا يمكن لكل مدرك ادراكه وكان الاشخاص مختلفين فى السير عليه بحسب فطرتهم وبحسب الاسباب والمعاونات الخارجة وصف بأنه أدق من الشعر وأحد من السيف وانه مظلم يسعى الناس عليه على قدر انوارهم ولكون تلك الفعليات اللائقة بالانسان صور مراتب انسانية الانسان ومحفوفة بفعليات الافراط والتفريط التى هى انموذجات الجحيم ومخرجة للانسان فى كل مرتبة وفعلية من صورة من صور مراتب النيران وموصلة الى صورة مرتبة من مراتب الجنان ورد ان الصورة الانسانية هى الطريق المستقيم الى كل خير والجسر الممدود بين الجنة والنار؛ وان الصراط ممدود على متن جهنم، ولما كان السلوك على الصراط الانسانى والخروج من القوى الى الفعليات الانسانية مستلزما للتوسط بين الافراط والتفريط فى الاعمال البدنية والاحكام الشرعية وفى الاعمال القلبية يعنى الاخلاق النفسية والاحوال الطارئة وفى الاوصاف العقلية والعقائد الدينية وكان التوسط فى ذلك مستلزما للسلوك على الصراط الانسانى فسر الصراط بالتوسط فى الاعمال والاحوال والاخلاق والعقائد والتوسط فى الاعمال مثل التوسط فى الاكل والشرب المشار اليه بقوله تعالى { كلوا واشربوا } فانه اباحة للاكل والشرب او استحباب او وجوب ومنع عن الامساك { ولا تسرفوا } فانه منع صريحا عن الافراط، ومثل التوسط فى الانفاقات المشار اليه بقوله تعالى
ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط
[الإسراء: 29]، ومثل قوله تعالى فى الصدقات الواجبة او المستحبة
وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا
[الأنعام: 141]، ومثل قوله تعالى فى الصلاة او فى مطلق العبادات البدنية
ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا
[الإسراء: 110]، والتوسط فى الاحوال كالتوسط بين الجذب والسلوك الصرف، والتوسط بين القبض والبسط، والتوسط بين الخوف والرجاء، والتوسط فى الاخلاق كالتوسط بين الشره والخمود المسمى بالعفة، والتوسط بين التهور والجبن المسمى بالشجاعة، والتوسط بين الجزبرة والبلاهة المسمى بالحكمة، والتوسط بين الظلم والانظلام المسمى بالعدالة، والتوسط فى العقائد كالتوسط بين التنزيه المحدد والتشبيه المجسم فى الحق الاول تعالى شأنه، والتوسط بين حصر النبى (ص) والامام (ع) على المرتبة الجسمانية واعلائهما الى مرتبة الآلهة فى اعتقاد النبوة والامامة، والتوسط بين الجسمانية الطبيعية والروحانية الصرفة فى اعتقاد المعاد وطبقات الجنان ولذاتها ودركات النيران وآلامها، ولما كان الخارج الى الفعليات الانسانية والسالك على الصراط المستقيم يصير متحققا بتلك الفعليات فاذا بلغ الى مقام من مقامات الآلهه وصار به نبيا او خليفة وصار بنفسه طريقا وصراطا مستقيما من مقام بشريته ومقامات روحانيته وصار ولايته التى هى البيعة معه والاتصال به بنحو مخصوص وكيفية خاصة طريقا انسانيا لانها طريق الى روحانيته وروحانيته طريق حقيقة الى الله صح ما ورد عن الصادق (ع) من انها الطريق الى معرفة الله وهما صراطان صراط فى الدنيا وصراط فى الآخرة فاما الصراط فى الدنيا فهو الامام المفترض الطاعة؛ من عرفه فى الدنيا واقتدى بهديه مر على الصراط الذى هو جسر جهنم فى الآخرة، ومن لم يعرفه فى الدنيا زلت قدمه عن الصراط فى الآخرة فتردى فى نار جهنم، وما ورد عنه ان الصراط امير المؤمنين (ع) وزيد فى خبر: ومعرفته، وما ورد انه معرفة الامام (ع) وما ورد من قولهم: نحن الصراط المستقيم وصح ان يقال ان بشرية الامام ومعرفة بشريته من دون معرفة نورانيته والاتصال ببشريته والبيعة معه طريق الى الطريق الى الله وان الطريق الى الله هو نورانية الامام (ع) ومعرفتها والاتصال بها ويسمى الاتصال بالامام (ع) ومعرفته بحسب نورانيته عند الصوفية بالحضور والفكر واول مرتبة ذلك الاتصال والمعرفة هو ظهور الامام بحسب مقام مثاله على صدر السالك الى الله وليس المراد بهذا الفكر والحضور ما اشتهر بين مرتاضى العجم من جعل صورة الشيخ نصب العين بالتعمل وان كان ورد عن ائمتنا (ع) الاشعار بمثل هذا المعنى فانه ورد عن الصادق (ع) وقت تكبيرة الاحرام تذكر رسول الله (ص) واجعل واحدا من الائمة (ع) نصب عينيك، فانه تقيد بالصورة وشبيه بعبادة الاصنام بل المراد ان السالك ينبغى ان يجلو مرآة قلبه بالذكر والاعمال المأخوذة من شيخه، فاذا اجتلى الذهن وقوى الذكر وخلا القلب من الاغيار ظهر الشيخ بمثاله على السالك فان الذكر المأخوذ منه نازلة وجوده فاذا قوى تمثل بصورته واذا ظهر الشيخ بمثاله على السالك فان الذكر المأخوذ منه نازلة وجوده فاذا قوى تمثل بصورته واذا ظهر الشيخ بمثاله رفع كلفة التكليف عنه والتذ بحضوره عند محبوبه ورأى ان كل ما يرد عليه انما هو من محبوبه فيلتذ بها ولو لم يكن ملائما لانه يراها من محبوبه وحينئذ قد يكون ظهور الشيخ بنحو ظهور المباين الخارج على المباين، وقد يكون بنحو الحلول فى وجوده، وقد يكون بنحو الاتحاد، وقد يكون بنحو فناء السالك وبقاء الشيخ وحده وللسالك فى كل من المراتب مراتب ودرجات وحالات وورطات مهلكات اذا اغتر وخرج من تصرف الشيخ ومن عرض حاله عليه فانه كثيرا يغتر بما يشاهده من غير تميز ويعتقد ما عاينه من غير عرض على بصير حتى يبين له سالمه عن سقيمه فيظهر منه ما لا يرضيه الشرع من مثل انى انا الله، وليس فى جبتى سوى الله ويظهر منه اعتقاد الحلول والاتحاد والوحدة الممنوعة والاباحة والالحاد فى الشريعة المطهرة، ولما كان السالك على الفعليات الانسانية يصير الفعلية الاخيرة صورة له وسائر الفعليات تصير كالمادة وشيئية الشيئ بصورته لا بمادته صح اضافة الطريق اليه باعتبار انه الفعلية الاخيرة وصح تفسيره به باعتبار انه متحقق بجميع الفعليات، ولما كانت السورة تعليما للعباد كيف يحمدونه ويلتجؤن اليه ويدعونه فقوله تعالى اهدنا تلقين لكل العباد ان يدعوه للهداية فمعنى اهدنا بالنسبة الى غير المسلم دلنا على الطريق الذى هو النبى الذى هو الطريق اليك او اوصلنا اليه وبالنسبة الى المسلم دلنا على الطريق الذى هو الولى الذى يؤمن به او اوصلنا او ابقنا على الصراط الذى هو الاسلام باختلاف نظره فانه ان كان ناظرا الى اسلامه وراضيا به فالمعنى أدمنا، وان كان ملتفتا الى ان الاسلام طريق الى الايمان فالمعنى دلنا او أوصلنا الى الايمان، وبالنسبة الى المؤمن الغير الحاضر عند شيخه بحسب نورانيته أدمنا على الطريق او أوصلنا او دلنا بحسب اختلاف نظره وبالنسبة الى الحاضر عند شيخه بحسب نورانيته أدمنا او اذهب بنا على الطريق، وبهذه الاعتبارات اختلفت الاخبار فى تفسير " اهدنا " ولما كان السلوك على الصراط المستقيم الانسانى لا يحصل الا بالولاية والولاية هى النعمة الحقيقية وبها يصير الاسلام نعمة ابدل تعالى عنه قوله تعالى { صراط الذين أنعمت عليهم }.
[1.7]
{ صراط الذين أنعمت عليهم } فان الانعام للانسان ايتائه ما يلائم انسانيته والملايم لانسانيته هى الولاية المخرجة له الى فعلياته الانسانية، والفعليات الانسانية من مراتب الولاية والآثار الصادرة واللازمة من فعلياته الانسانية من التوسط فى الامور المذكورة وهكذا الاعمال المعينة على الخروج المذكور انما هى نعمة باعتبار اتصالها بالنعمة التى هى الولاية ولذلك ورد عن مولينا امير المؤمنين (ع) فى تفسيره انه قال: قولوا اهدنا صراط الذين انعمت عليهم بالتوفيق لدينك وطاعتك لا بالمال والصحة فانهم قد يكونون كفارا او فساقا قال وهم الذين قال الله تعالى
ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم
[النساء: 69] الى قوله
وحسن أولئك رفيقا
[النساء: 69]. والنعم الصورية ان كانت مرتبطة بالولاية كانت نعمة والا صارت نقمة اذا كانت معينة على الخروج الى الفعليات الغير الانسانية وهكذا كان حال الفعليات الانسانية بعد ما حصلت بالولاية يعنى اذا صارت مسخرة للشيطان بعد ما كانت مسخرة للرحمن صارت نقمة بعد ما كانت نعمة، ولما كان المنعم عليهم بالولاية هم المتوسطين بين التفريط والتقصير فى ترك الولاية والافراط المخرج عن حد الولاية وصراطهم كان متوسطا بين التفريط والافراط فى جملة الامور وصفهم بقوله { غير المغضوب عليهم ولا الضآلين } فانه قد فسر المغضوب عليهم بالمفرطين المقصرين والضالون بالمفرطين المتجاوزين لان المفرط المقصر لما لم يبلغ الى الولاية لم يصر مرضيا اصلا والمفرط فى امر الولاية لما صار بالوصول الى حد الولاية مرضيا خرج من المغضوبية لكنه بتجاوزه عن حد الولاية ضل عن طريق الانسانية وعن طريق الرضا فان المعيار للرضا والغضب وللافراط والتفريط هو الولاية لا غير لانها حد استقامة الانسان وسبب ارتضائه وقد يفسر " المغضوب " عليهم بمن لم يبلغ فى وصفه مقام النبى (ص) او الامام (ع) والضال بمن وصفهما بما هو فوق ادراكه او فوق مقامهما وبهذا المعنى فسرا باليهود والنصارى وان كان يجوز ان يكون تفسيرهما باليهود والنصارى باعتبار المعنى الاول ويجوز ان يجعل عطف الضالين من قبيل عطف الاوصاف المتعددة لذات واحدة فان المفرط والمفرط كليهما مغضوب عليهما وضالان بمعنى انهما فاقدان للطريق سواء كان الفقدان بعد الوجدان او قبل الوجدان، وقد يفسر " المغضوب عليهم " بالنصاب لشدة غضب الله عليهم " والضالون " بمن لم يعرف الامام وبمن كان شاكا فيه.
اعلم ان السورة المباركة تعليم للعباد كيف يحمدون ويثنون على الله تعالى وكيف يقرؤن ويرتقون فى قراءتهم وكيف يخاطبون ويسألون فالامر بالاستعاذة فى اول القراءة للاشارة الى ان الانسان واقع بين تصرف الرحمن والشيطان الا من عصمه الله فاذا اراد القرائة او الثناء على الله والمناجاة له ينبغى ان يستعيذ من تصرف الشيطان ويلتجئ الى حفظ الله وامانه حتى لا يكمن الشيطان خلف قلبه ولا يخلى الفاظ ثنائه ومقرؤاته من معانيها المقصودة لله ولا يدخل فيها المعانى الشيطانية فيصير الحامد حامدا للشيطان وقاريا لكتاب الشيطان وهو يحسب انه حامد لله وقار لكتاب الله ويكون داخلا فى مصداق قوله تعالى
يلوون ألسنتهم
[آل عمران: 78] يعنى لا لسان الله
بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب
[آل عمران: 78] فلا بد للمستعيذ ان يكون ملتفتا الى ما يقول ويجعل حاله حال الاستعاذة من الشيطان والا كان استعاذته كقراءته بتصرف الشيطان واستعاذة من الرحمن لا الى الرحمن وجعل التسمية جزء من اول كل سورة والامر بها فى اول كل امر اشارة الى ان الفاعل لكل فعل وخصوصا عند تلاوة القرآن الذى هو كلام الله ينبغى ان يسم نفسه بسمة من سمات الله حتى يصير لسانه وسائر اعضائه آلات لتلك السمة وكلامه وافعاله كلاما وافعالا لذلك الاسم فيصبح جعلها لله فانها ان لم تكن من الله لم تكن لله ولم يسم نفسه بسمة من سمات الله صار متسما بسمة من سمات نفسه وسمات الشيطان فصارت اعضاؤه آلات للشيطان فكان افعالها افعالا صادرة من الشيطان وراجعة اليه وصار القارى والفاعل ممن يلوون السنتهم بالكتاب وممن قال الله فيهم
فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم
[البقرة: 79] لا بيد الله ثم ينظر الى سعة ظهوره تعالى بصفاته فى كل سمة من سماته فينظر الى جملة اضافاته تعالى الظاهرة من تلك السمة بالنسبة الى اهل مملكته ان كان قاصرا عن رؤية اضافاته بالنسبة الى خارج مملكته فيصفها بأمهات اضافاته تعالى وهى رحمته الرحمانية الدالة على الابداء والابقاء ورحمته الرحيمية الدالة على الاعادة وافاضة الكمالات الاختيارية الانسانية حتى يستعد بذلك التوصيف للنظر الى الله تعالى وتوصيفه بصفاته فى حمده وثنائه بدون وساطة سماته وتختلف السمات بحسب اختلاف حال القارى والمتسم فتلك السمة بالنسبة الى المنقادين القابلين للولاية الغائبين عن الله وعن امامهم هى جهة النفس المنقادة لولى امرها وهى المقومة والرازقة المبقية بالنسبة الى اهل مملكتها والمفيضة لكمالاتها الاختيارية وبالنسبة الى من عرف ووجد انموذجات اسمائه تعالى فى وجوده تلك الانموذجات وبالنسبة الى من حضر عند شيخه ووجد مثال شيخه فى مملكته هى صورة شيخه وهو اول مقامات المعرفة بالنورانية، وبالنسبة الى من خرج من مقام التقدر وعاين الاشياء مجردة عن التقدر روحانية شيخه مجردة عن التقدر، وبالنسبة الى من خرج عن مقام التحدد والتقييدات الامكانية مقام الاطلاق المعبر عنه بالمشية وبالنسبة الى الجامع لجميع المقامات سمات تمام المقامات وبعد الاستعداد للنظر الى الذات من غير احتجاب بحجب السمات ينبغى للقارى ان يجرد النظر عن الاسماء وينظر الى الله فى كل شيئ وفيئ، ولا يرى من الاشياء الا الحدود والنقائص ولا يرى صفات الكمال الا من الله، ويطلق لسانه بصيغة الحمد انشاء او اخبارا بنحو حصر المحامد او الحامدية او المحمودية فيه تعالى، ويصفه بربوبيته التى هى حفظ الاشياء بكمالاتها الموجودة وتبليغها الى كمالاتها المفقودة وهكذا الى آخر السورة بنحو ما ذكر سابقا.
ثم اعلم ان للسالكين الى الله اسفارا ومنازل ومقامات ومراحل لا يحصيها الا الله وقد قالوا انها بحسب الامهات منحصرة فى أربعة اسفار، الاول، السفر من الخلق الى الحق وهو السير من حدود الكثرات والنظر اليها الى الحق الاول، ومنتهى هذا السفر الوصول الى حدود القلب ومشاهدة الحق الاول فى مظاهره بصفاته واسمائه، ولا ينفك السالك فى هذا السفر من العنا وكلفة التكليف وفى حق هذا السالك قال المولوى قدس سره:
جملة دانسته كه اين هستى فخ است
ذكرو فكر اختيارى دوزخ است
والثاني، السفر من الحق فى مظاهره الى الحق المطلق وفى هذا السفر يتبدل الكلفة راحة والمرارة لذة والخوف أمنا، وفى هذا السفر ورطات مهلكات كما سيجيئ. والثالث، السفر بالحق فى الحق، وفى هذا السفر يسير السالك بتسيير الحق من غير شعور منه بسيره ولا بذاته، والسلاك فى هذا السفر احد مصاديق قوله تعالى
" ان اوليائى تحت قبابى لا يعرفهم غيرى "
والرابع، السفر الحق فى الخلق وابتداء هذا السفر ابتداء الربوبية وانتهاء العبودية ومقامات هذا السفر لا يحصيها الا الله وتحديد عدد الانبياء (ع) والاوصياء (ع) بمأئة واربعة وعشرين الفا اشارة الى امهات تلك المقامات وسيجيئ تحقيق تام لبيان الاسفار ومراتب الانسان عند قوله تعالى
وإثمهمآ أكبر من نفعهما
[البقرة: 219] فى سورة البقرة. اذا تنبهت بذلك فاعلم ان السورة المباركة اشارة اجمالا الى الاسفار الاربعة المذكورة فان الاستعاذة اشارة الى السفر من الخلق الى الحق لان هذا السفر فرار من الكثرات ومظاهر الشيطان الى عالم التوحيد ومظاهر الحق تعالى، و الاستعاذة القولية اخبار بهذا الالتجاء والاستعاذة الفعلية نفس ذلك الالتجاء والفرار، والتسمية الى قوله مالك يوم الدين اشارة الى السفر من الحق الى الحق فان التسمية اخبار بالاتصاف بصفاته تعالى وما بعده الى مالك يوم الدين اعلام بحركة السالك فى صفات الحق تعالى الى ظهور مالكيته وفناء العبد من ذاته وهذا السفر حركة فى صفات الحق تعالى الى فناء العبد، وقوله { إياك نعبد وإياك نستعين } اشارة الى السفر بالحق في الحق لان مالكيته تعالى لا يظهر الا اذا صار العبد فانيا من فعله ووصفه وذاته وبفناء ذاته يتم عبوديته وبعد كمال عبوديته لا يكون سيره الا فى الحق المطلق ولا يكون الا بالحق لعدم ذات له، وقوله تعالى { اهدنا الصراط المستقيم } اشارة الى السفر بالحق فى الخلق وهذا هو الرجعة الاختيارية فى العالم الصغير والبقاء بعد الفناء والصحو بعد المحو، وينبغى ان يكون هذا السفر بحفظ الوحدة فى الكثرات والصراط المستقيم فى هذا السفر هو محفوظية الوحدة فى الكثرة بحيث لا يغلب احديهما على الاخرى ولا يختفى احديهما تحت الاخرى وهذه الاحوال قد تطرؤ على السلاك سواء استشعروا بها او لم يستشعروا.
اذاقنا الله وجميع المؤمنين منها ومكننا فيها والحمد لله اولا وآخرا ولا حول ولا قوة الا بالله العلى العظيم.
[2 - سورة البقرة]
[2.1-2]
تحقيق مراتب الوجود وانه حقيقة واحدة مشككة
{ الم } ، اعلم ان الوجود حقيقة واحدة متأصلة فى التحقق ظاهرة فى مراتب كثيرة متفاوتة بالشدة والضعف والتقدم والتأخر متكثرة بحسب تكثر التعينات التى نشأت من تنزلاتها والتعينات تابعة لها فى التحقق مجعولة بمجعوليتها معلولة بمعلوليتها لا حكم لها فى انفسها لانها من حيث هى ليست الا هى لا معدومة ولا موجودة ولا موصوفة بشيء من توابعهما، والمدارك الحيوانية لتقيدها بالتعينات الكثيرة لا تدرك الا الموجودات المقيدة بالتعينات من حيث هى مقيدة ولذا تتوهم ان الاصل فى التحقق والمجعول بالذات والمحكوم عليه هى التعينات وان الوجودات امور اعتبارية لا حقيقة لها ولا علية ولا معلولية فيها.
واعلم ايضا ان مرتبة من تلك الحقيقة غيب مطلق لا خبر عنها ولا اسم لها ولا رسم والاخبار عنها بأن لا خبر عنها من قبيل الأخبار عن المعدوم المطلق بأنه لا خبر عنه والاسم الذى استأثره الله تعالى لنفسه ولم يظهره لغيره هو فى تلك المرتبة، ومرتبة منها ظهور المرتبة الاولى وتجليه تعالى بأسمائه وصفاته وذلك الظهور يسمى باعتبار بالواحدية وباعتبار بالمشيئة كما يسمى باعتبار بالعرش وباعتبار بالكرسى وباعتبار بالله وباعتبار بالعلى وهى كلمة الله وفعل الله واضافته الاشراقية ونور الله فى السماوات والارض وتسمى بنفس الرحمن للتشبيه بنفس الانسان وهى البرزخ بين الوجوب والامكان والجامع بين الاضداد كلها وفى تلك المرتبة يجئ الكثرة كما شئت بحسب كثرة الاسماء والصفات وبحسب كثرة التعينات:
تحقيق معنى بسيط الحقيقة كل الاشياء
وما قيل ان بسيط الحقيقة كل الاشياء وليس بشئ منها، اشارة الى تلك المرتبة؛ والا فمرتبة الوجوب الذاتى لا خبر عنه كما مر ووجه كونها كل الاشياء انها ماخوذة لا بشرط والمأخوذ لا بشرط لا ينافى المأخوذ بشرط بل هو مقطوع النظر عن الشرط وما ورد فى الايات والاخبار فى بيان هذا الاتحاد مشيرا الى بقاء المغايرة بين هذه المرتبة وبين الاشياء مثل قوله تعالى
وهو معكم
[الحديد: 4] وقوله تعالى
فأينما تولوا فثم وجه الله
[البقرة: 115] وقوله
ألا إنه بكل شيء محيط
[فصلت: 54] وقوله
الله نور السماوات والأرض
[النور: 35] وقول المعصوم (ع) داخل فى الاشياء لا بالممازجة وقوله (ع) ما رأيت شيئا الا ورأيت الله فيه وغير ذلك مما يدل على الاتحاد والمغايرة اجود من قولهم بسيط الحقيقة كل الاشياء وليس بشيئ من الاشياء، حيث يحتاج الى هذا القيد ويوهم اتحاده مع الاشياء ومن حيث انها مقيدة بقيودها ومراتب منها ظهورات تلك المرتبة بحسب تنزلاتها وترقياتها وتكثراتها بحسب التعينات وتلك المراتب هى التى تسمى باعتبار بالملائكة الذين هم قيام لا ينظرون والصافات صفا والمدبرات امرا والركع والسجد وعالم الكون المنقسم الى السماويات والارضيات، وباعتبار بالاقلام العالية واللوح المحفوظ ولوح المحو والاثبات وعالم العين المنقسم الى الاباء العلوية والامهات السفلية ودار الجنة وكل تلك المراتب نازلها مثال وظهور لعاليها وعاليها حقيقة لنازلها والانسان الذى هو خلاصة جملة الموجودات ايضا له مراتب كمراتب العالم وكل مرتبة منه حقيقة او رقيقة لما سواه فكلما يجرى على لسان بشريته رقيقة وتنزل وظهور لما يجرى على لسان مرتبة مثاله، وما يجرى على لسان مثاله رقيقة لما يجرى على لسان قلبه، وهكذا وكل تلك رقائق لما ثبت فى المشية وفضل الانسان بقدر الاستشعار بتلك المراتب والاتصال بها، ومن لا يدرك من الانسان سوى البشرية فقدره قدر البهيمة واكثر الناس غافلون عن تلك المراتب لا يدركون من الانسان سوى ما فى ظاهره والمستشعر بتلك المراتب والمتحقق بها اذا تكلم هو او غيره بكلمة يستشعر بحقائق تلك الكلمة وصور حروفها فى المراتب العالية او يتحقق بها.
تحقيق جريان الحروف المقطعة على لسان المنسلخ عن هذا البنيان
وما قيل: ان كل حرف من القرآن فى الالواح العالية اعظم من جبل احد؛ صحيح عند هذا الاستشعار او التحقق، وقد يتحقق الانسان بالمراتب العالية او يستشعر بها اولا ثم ينزل من تلك المراتب على بشريته الكلمات التى هى رقائق ما يظهر عليه من الحقائق فى تلك المراتب، وقد نقل عن بعض انه كان اذا سمع كلمة دالة على المعانى العالية او ذكر كلمة كذلك يأخذه الغشى وينسلخ من بشريته وربما كان يتكلم حين الغشى بالحقائق الالهية وقد كان رسول الله (ص) يأخذه حالة شبيهة بالغشى حين نزول الوحى وكان (ص) قد يظهر عليه الحقائق حينئذ فى تلك المراتب بنحو التفصيل وتنزل على بشريته ايضا بنحو التفصيل وتسمى النازلة بكلام الله وبالحديث القدسى، وقد يظهر الحقائق بنحو الاجمال والبساطة وتنزل على بشريته كذلك فيعبر عنها بطريق الاجمال وبالحروف المقطعة مثل فواتح السور.
معنى تأويل القرآن وبطونه
وتأويل القرآن عبارة عن ارجاع الفاظه الى حقائقها الثابتة فى تلك المراتب، وبطون القرآن عبارة عن الحقائق الثابتة فى تلك المراتب ولكن المراتب باعتبار كلياتها سبعا وباعتبار جزئياتها ترتقى الى سبعمائة الف اختلف الاخبار فى تحديد البطون ولعدم امكان التعبير عن تلك الحقايق للراقدين فى مراقد الطبع الا بالامثال كما يظهر الحقائق العينية للنائمين عن هذا العالم بالامثال اختلف الاخبار فى تفسر فواتح السور وما ورد فى تفسيرها صريحا او تلويحا تبلغ اثنى عشر وجها فنقول: { الم } ، اما بعض حروف الاسم الاعظم القى اليه (ص) تنبيها له (ص) حتى يؤلفه ويدعو به او هو من الأسرار التى لا يطلع عليها احدا او هو مأخوذ من حروف الكلمات التى هي اشارة اليها مثل انا الله المجيد او هو مأخوذ من حروف الاسماء التى هي اشارة اليها مثل الله، جبرئيل (ع) محمد (ص) او هو اسم للسورة او للقرآن كما قيل او هو اسم لله أو لمحمد (ص) او هى اسماء للحروف البسيطة المركب منها الكلمات، والمقصود ان المؤلف، من مسمياتها هذا القرآن او السورة وهى لغتكم وانتم عاجزون عن مثله او هو اشارة الى مراتب وجود العالم او مراتب وجوده (ص) او هو اشارة الى بد وظهور اقوام وآجالهم.
فى الوجوه المحتملة فى اعراب فواتح السور وعدم اعرابها
وقد ذكر اكثر هذه الوجوه فى الاخبار صريحا وما لم يذكر صريحا يستفاد منها تلويحا وسائر ما قيل فيها ضعيف جدا وما يترتب عليها من جهة خواصها ومزاجها واعدادها فخارج عن اسلوب العربية، فإن كان حروف الاسم الاعظم فاما ان يكون له محل من الاعراب اولا، فان كان ذا محل من الاعراب فاما ان يكون مبتدء محذوف الخبر او خبرا محذوف المبتدأ او مفعولا لمحذوف مثل اذكر او ادع او الف مما يناسب المقام او هو مقسم به منصوب بفعل القسم او مبتدأ لما بعده او خبر لما بعده او منادى بتقدير حرف النداء فهذه ثمانية اوجه تجرى بأعيانها او بامثالها فى جميع الوجوه المحتملة فى { الم } التى هى اثنا عشر ويحصل من ضرب الثمانية فى الاثنى عشر ستة وتسعون وجها ويجرى فى كل وجوه عديدة من الاعراب بحسب تركيبه مع ما بعده ونذكر وجوه الاعراب فى واحد من الستة والتسعين لتكون ميزانا للباقى فنقول اذا كان { الم } مأخوذا من حروف الاسم الاعظم وكان مبتدء محذوف الخبر تقديره { الم } حروف الاسم الاعظم مثلا فذلك بدل منه او عطف بيان والكتاب صفة لذلك او بدل منه ولا ريب على قراءة الفتح والرفع " لا " فيه لنفى الجنس او عاملة عمل ليس او ملغاة عن العمل فتلك اثنى عشر والجملة حال او مستأنفة فتلك اربعة وعشرون وخبر " لا " محذوف لشيوع حذف خبر لا حتى قيل انه لا خبر لها وفيه صفة لريب او حال عنه لوقوعه فى سياق النفى او حال عن { الم } فتلك اثنان وسبعون وهدى حال من الريب او من { الم } او صفة لريب او خبر مبتدء محذوف او مفعول فعل محذوف بالوجوه الثلثة فى حمل المصدر على الذات او تمييز فتلك ستة عشر وجها مضروبة فى الاثنين والسبعين فيحصل الف ومئة واثنان وخمسون 1152 و { للمتقين } صفة لهدى او لريب او حال عن الم او عن ريب او خبر مبتدء محذوف او ظرف لغو متعلق بهدى او بفيه فتلك سبعة مضروبة فى سابقتها تحصل ثمانية آلاف واربعة وستون 8064، او على الوجوه الاربعة والعشرين الحاصلة عند تركيب لا ريب، لفظ فيه خبر مقدم { وهدى } مبتدء مؤخر والجملة صفة لريب او حال منه او حال من الم او مستأنفة فتلك ستة وتسعون و { للمتقين } على الوجوه الثمانية باضافة وجه كونه خبرا بعد خبر الى الوجوه السبعة السابقة فتلك بعد الضرب سبعمائة وثمانية وستون تجمع مع الوجوه السابقة تحصل ثمانية آلاف وثمانمائة واثنان وثلثون 8832، او على الوجوه الاربعة والعشرين { هدى } مبتدء وللمتقين خبره والمسوغ تقديم فيه وفيه حال عن هدى او ظرف لغو متعلق بالخبر او متعلق بهدى على ضعف والجملة على الوجوه الاربعة فتلك اثنا عشر تضرب فى الاربعة والعشرين وتحصل مئتان وثمانية وثمانون وتجمع مع السابقة حتى تحصل تسعة آلاف ومائة وعشرون 9120، أو نقول على الوجوه الاربعة والعشرين " فيه " خبر لا وهدى صفة للريب او حال عنه او عن الم او خبر بعد خبر او خبر مبتدء محذوف او مفعول فعل محذوف بالاوجه الثلاثة فى حمل المصدر او هدى تميز وللمتقين صفة بالوجهين او حال بالوجهين او خبر مبتدء محذوف او خبر بعد خبر او لغو بالوجهين فهذه ثلاثة آلاف وستمائة وثمانية واربعون 3648 أو نقول على الوجوه الاربعة والعشرين فيه صفة لريب او حال عنه او عن " الم " وهدى على الوجوه الثلاثة فى حمل المصدر خبر لا وللمتقين على الوجوه الثمانية وبعد الضرب تحصل الف وسبعمائة وثمانية وعشرون 1728، أو نقول على الاربعة والعشرين فيه على الوجوه الثلاثة وهدى على التسعة عشر وللمتقين خبر لا تحصل بعد الضرب الف وثلاث مئة وتسعة وستون 1369، أو نقول على الوجوه الاربعة والعشرين فيه هدى جملة معترضة او صفة او حال بالوجهين وللمتقين خبر لا فهذه بعد الضرب ستة وتسعون 96، أو نقول على الاربعة والعشرين فيه هدى خبر لا وللمتقين على الوجوه التسعة باضافة كونه خبرا بعد خبر لهدى الى الثمانية السابقة فهذه مأتان وستة عشر 216، أو نقول على الاربعة والعشرين فيه هدى للمتقين جملة واحدة خبر لا وفيه لغو متعلق بقوله للمتقين او بهدى او حال عن هدى فهذه اثنان وسبعون 72 تجمع وتضاف الى مجموع الحاصل السابق تحصل ستة عشر الفا ومائان وتسعة واربعون 16249 او نقول ذلك بدل او عطف بيان على تقدير كون " الم " مبتدء محذوف الخبر والكتاب مبتدء وما بعده خبره والجملة حال او مستأنفة والخبر لا ريب محذوف الخبر على الثلاثة في لفظ لا وفيه صفة الريب او حال منه واما كونه خبرا بعد خبر او حالا عن " الم " او عن الكتاب فضعيف جدا لاحتياج لا ريب حينئذ الى تقدير عائد للمبتدء وهدى صفة للريب او حال عنه او عن " الم " او عن الكتاب او خبر بعد خبر للكتاب او خبر مبتدء محذوف او مفعول فعل محذوف بالاوجه الثلاثة فى حمل المصدر او هدى تميز وللمتقين صفة لهدى او لريب او حال عن " الم " او عن الكتاب او عن الريب او خبر بعد خبر او خبر مبتدء محذوف او ظرف لغو متعلق بهدى او بفيه فهذه بعد الضرب اربعة آلاف وسبعمائة واثنان وخمسون 4752، او نقول على الوجوه الاثنى عشر حين كون لا ريب محذوف الخبر خبرا للكتاب فيه هدى صفة لريب او حال منه او من الكتاب او من " الم " او خبر بعد خبر او جملة مستأنفة وللمتقين على العشرة باضافة كونه خبرا بعد خبر لهدى الى التسعة السابقة تحصل بعد الضرب سبعمائة وعشرون 720 او نقول على الاثنى عشر هدى للمتقين جملة على الستة وفيه حال من هدى او لغو متعلق بقوله للمتقين او بهدى فهذه مأتان وستة عشر 216، او نقول على الاثنى عشر خبر لا ريب لفظة فيه وهدى صفة للريب او حال منه او من " الم " او من الكتاب او خبر بعد خبر للكتاب او خبر بعد خبر للا ريب او خبر مبتدء محذوف او مفعول فعل محذوف بثلاثة اوجه فى حمل المصدر او تميز وللمتقين صفة هدى او صفة ريب او حال عن الريب او عن " الم " او عن الكتاب او خبر بعد خبر للكتاب او للا ريب او خبر مبتدء محذوف او لغو متعلق بهدى او بفيه فهذه ثلثة آلاف 3000، او نقول على الوجوه الاثنى عشر فيه صفة لريب او حال عنه او عن الكتاب وهدى خبر لا ريب على الوجوه الثلاثة فى المصدر وللمتقين على العشرة فهذه الف وثمانون 1080، او نقول على الاثنى عشر فيه على الثلاثة وهدى على الاثنين والعشرين وللمتقين خبر لا او على الاثنى عشر فيه هدى صفة او حال عن الريب او عن الكتاب او خبر بعد خبر وللمتقين خبر لا او على الاثنى عشر فيه هدى خبر لا وللمتقين على العشرة او فيه هدى للمتقين خبر لا فهذه تسعمائة واثنان وسبعون يجمع مع سابقتها فتصير عشرة آلاف وسبعمائة وستين 10760 تضاف عليها المجموع السابق فتصير سبعة وعشرين الفا وتسعة 27009، او نقول ذلك بدل او عطف بيان والكتاب مبتدء والجملة حال او مستأنفة ولا ريب محذوف الخبر على الثلاثة حال او معترضة وفيه خبر الكتاب وهدى على الاثنين والعشرين وللمتقين على التسعة فهذه بعد الضرب تصير اربعة آلاف وسبعمائة واثنين وخمسين 4752، او نقول ذلك بدل او عطف بيان والكتاب معطوف مبتدء والجملة على الوجهين ولا ريب محذوف الخبر على الستة وفيه صفة لريب او حال عنه او عن الكتاب وهدى على الثلاثة خبر الكتاب وللمتقين على التسعة فهذه الف وتسعمائة واربعة واربعون 1944، او نقول على الاربعة والعشرين عند لا ريب لفظ فيه خبر لا وهدى على الثلاثة خبر الكتاب وللمتقين على التسعة فهذه ستمائة وثمانية واربعون 648، او نقول ذلك بدل او عطف بيان والكتاب مبتدء والجملة على الوجهين والخبر للمتقين ولا ريب محذوف الخبر على الستة وفيه على الثلاثة وهدى صفة لريب او حال منه او من الكتاب او خبر مبتدء محذوف بالاوجه الثلاثة فى المصدر او تميز فهذه الف ومائة واثنان وخمسون 1152، او نقول على الاربعة والعشرين عند تركيب لا ريب حين كون للمتقين خبر الكتاب فيه خبر لا وهدى خبر بعد خبر او صفة للريب او حال عنه او عن الكتاب او خبر مبتدء محذوف او مفعول فعل محذوف على الثلاثة فى حمل المصدر او تميز فهذه اربعمائة وستة وخمسون 456، او نقول على الاربعة والعشرين عند لا ريب حين كون خبر الكتاب للمتقين فيه على الثلاثة وهدى خبر لا على الثلاثة او على الاربعة والعشرين فيه هدى خبر لا فهذه مئتان واربعون 240، او نقول ذلك بدل او عطف بيان والكتاب مبتدء والجملة على الوجهين ولا ريب محذوف الخبر على الستة وخبر الكتاب فيه هدى وللمتقين على التسعة او على الاربعة والعشرين فيه هدى للمتقين خبر الكتاب فهذه مئتان واربعون تجمع مع سابقتها وتضاف الى المجموع فتصير ستة وثلثين الفا واربعمائة وواحدا واربعين 36441، او نقول " الم " محذوف الخبر وذلك مبتدء والكتاب خبره والجملة حال او مستأنفة ولا ريب محذوف الخبر على الثلاثة فى لفظ لا خبر بعد خبر او حال عن " الم " او عن ذلك او مستأنفة وفيه خبر بعد خبر او صفة للريب او حال عنه او عن ذلك او عن " الم " وهدى صفة للريب او حال عنه او عن ذلك او عن " الم " او خبر بعد خبر او خبر مبتدء محذوف او مفعول فعل محذوف بالاوجه الثلاثة فى حمل المصدر او تميز وللمتقين صفة هدى او صفة ريب او حال عن الريب او عن ذلك او عن " الم " او خبر بعد خبر او خبر مبتدء محذوف او ظرف لغو بالوجهين فهذه ثلاثة وعشرون الفا وسبعمائة وستون 23760، او نقول ذلك مبتدء والكتاب خبره والجملة على الوجهين ولا ريب على الاثنى عشر وجملة فيه هدى على الخمسة وللمتقين على التسعة او على الاربعة والعشرين الحاصلة عند تركيب لا ريب جملة فيه هدى للمتقين على الخمسة وفيه على الاربعة بجعله حالا عن هدى او ظرفا للخبر او لهدى او خبرا مقدما فهذه الف وخمسمائة وستون 1560، او نقول جملة ذلك الكتاب على الوجهين ولا ريب على الاثنى عشر وفيه خبر لا وهدى خبر بعد خبر للا ريب او لذلك او خبر مبتدء محذوف او مفعول فعل محذوف او صفة ريب او حال عنه او عن ذلك او عن " الم " بثلاثة اوجه فى المصدر او تميز وللمتقين خبر بعد خبر بالوجهين او خبر مبتدء محذوف او صفة هدى او صفة ريب او حال عن الريب او عن ذلك او عن " الم " او ظرف لغو متعلق بهدى او بفيه فهذه ستة آلاف 6000، او نقول جملة ذلك الكتاب على الوجهين ولا ريب على الاثنى عشر وفيه صفة ريب او حال عنه او عن " الم " او عن ذلك وهدى على الثلاثة خبر لا وللمتقين على العشرة فهذه الفان وثمان مئة وثمانون 2880، او نقول على الاربعة والعشرين عند تركيب لا ريب فيه على الاربعة وهدى على التسعة عشر وللمتقين خبر لا فهذه الف وثمانمائة واربعة وعشرون 1824 او نقول على الاربعة والعشرين فيه هدى خبر لا وللمتقين على العشرة او فيه هدى للمتقين بالوجوه الاربعة فى لفظ فيه خبر لا فهذه ثلاثمائة وستة وثلاثون 336، تجمع مع سابقتها وتضاف الى المجموع الحاصل السابق فتصير اثنين وسبعين الفا وثمانمائة وواحدا 72801، او نقول ذلك مبتدء والجملة على الوجهين والكتاب بدل او عطف بيان ولا ريب محذوف الخبر على الثلاثة خبر ذلك وفيه على الخمسة وهدى على الاثنين والعشرين وللمتقين على التسعة فهذه احد عشر الفا وثمانمائة وثمانون 11880، او نقول على الاثنى عشر عند تركيب لا ريب لفظ فيه خبر لا وهدى على الخمسة والعشرين وللمتقين على العشرة فهذه ثلاثة آلاف 3000، او نقول على الوجوه الاثنى عشر عند لا ريب جملة فيه خبر لا وللمتقين على العشرة او جملة فيه هدى للمتقين بالوجوه الاربعة فى لفظ فيه خبر لا فهذه مائة وثمانية وستون 168، او نقول على الوجوه الاثنى عشر عند لا ريب لفظ فيه على الاربعة وهدى خبر لا بالثلاثة وللمتقين على العشرة فهذه الف واربعمائة واربعون 1440، او نقول على الاثنى عشر عند لا ريب لفظ فيه على الاربعة وهدى على التسعة عشر وللمتقين خبر لا فهذه تسعمائة واثنا عشر 912، او نقول على الاثنى عشر عند لا ريب للمتقين خبر لا وفيه هدى على الخمسة باضافة كونها جملة معترضة فهذه ستون 60 تجمع مع سابقتها وتضاف الى مجموع الحاصل السابق فتصير تسعين الفا وتسعمائة وثلاثة وخمسين 90953، او نقول ذلك مبتدء والجملة على الوجهين والكتاب بدل او عطف بيان ولا ريب محذوف الخبر على الستة وفيه خبر ذلك وهدى على الاثنين والعشرين وللمتقين على التسعة فهذه اربعة آلاف وسبعمائة واثنان وخمسون 4752، او نقول على الاربعة والعشرين عند تركيب لا ريب محذوف الخبر لفظ فيه على الاربعة وهدى على الثلاثة خبر ذلك وللمتقين على التسعة او على الاربعة والعشرين فيه خبر لا وهدى على الثلاثة خبر ذلك وللمتقين على العشرة او فيه على الاربعة وهدى على الثلاثة خبر ذلك وللمتقين خبر لا على ضعف فهذه ثلاثة آلاف وستمائة 3600 او نقول على الاربعة والعشرين عند لا ريب محذوف الخبر لفظ فيه على الاربعة وهدى على التسعة عشر وللمتقين خبر ذلك او فيه هدى على الاربعة او على الاربعة والعشرين للمتقين خبر ذلك وفيه خبر لا وهدى على الاثنين والعشرين او على الاربعة والعشرين للمتقين خبر ذلك وفيه على الاربعة وهدى خبر لا بالثلاثة او على الاربعة والعشرين للمتقين خبر ذلك وفيه هدى خبر لا فهذه الفان وسبعمائة وستون 2760، او نقول على الاربعة والعشرين عند لا ريب محذوف الخبر فيه هدى خبر ذلك وللمتقين على التسعة او للمتقين خبر لا او فيه هدى للمتقين بالوجوه الاربعة فى لفظ فيه خبر ذلك فهذه ثلاثمائة وستة وثلاثون 336 تجمع مع سابقتها وتضاف الى مجموع الحاصل السابق فتصير مائة الف والفين واربعمائة وواحدا 102401، او نقول على تقدير كون " الم " محذوف الخبر ذلك مبتدء والكتاب مبتدئان والجملة على الوجهين ولا ريب محذوف الخبر بالثلاثة خبر المبتدء الثانى وفيه صفة للريب او حال منه او من الكتاب او من ذلك او " الم " او خبر بعد خبر لذلك او للكتاب وهدى خبر بعد خبر بالوجهين او صفة الريب او حال منه او من الكتاب او من ذلك او من " الم " او خبر مبتدأ محذوف او مفعول فعل محذوف بالثلاثة فى حمل المصدر او تميز وللمتقين صفة لهدى او لريب او حال بالوجوه الاربعة او خبر بعد خبر بالوجهين او خبر مبتدء محذوف او ظرف لغو بالوجهين فهذه اثنا عشر الفا وتسعمائة وستة وثلاثون 12936، او نقول على الستة عند لا ريب لفظ فيه خبر لا وهدى خبر بعد خبر للا ريب او للكتاب او لذلك او صفة لريب او حال بالوجوه الاربعة او خبر مبتدأ محذوف او مفعول فعل محذوف بالوجوه الثلاثة فى المصدر او تميز وللمتقين صفة لهدى او لريب او حال بالاربعة او خبر بعد خبر بالثلاثة او خبر مبتدأ محذوف او ظرف لغو بالوجهين فهذه الفان ومائتان واثنان وثلاثون 2232، او نقول على الستة عند لا ريب لفظ فيه على السبعة وهدى على الثلاثة خبر لا وللمتقين على الاثنى عشر فهذه الف وخمسمائة واثنا عشر 1512، او نقول على الستة عند لا ريب لفظ فيه على السبعة وهدى على الاحد والثلاثين وللمتقين خبر لا او على الستة عند لا ريب فيه هدى على السبعة وللمتقين خبر لا او فيه هدى للمتقين بالاربعة فى لفظ فيه خبر لا او فيه هدى خبر لا وللمتقين على الاثنى عشر فهذه الف واربعمائة واربعون 1440، او نقول ذلك مبتدء والكتاب مبتدئان والجملة على الوجهين ولا ريب محذوف الخبر بالثلاثة فى لفظ لا معترضة او حال عن الكتاب او عن ذلك او عن " الم " وفيه خبر الكتاب وهدى صفة ريب او خبر بعد خبر بالوجهين او حال بالوجوه الاربعة او خبر مبتدأ محذوف او مفعول فعل محذوف بالثلاثة فى لفظ المصدر او تميز وللمتقين صفة بالوجهين او حال بالاربعة او خبر بعد خبر بالوجهين او خبر مبتدأ محذوف او ظرف لغو بالوجهين فهذه سبعة آلاف وثلاثمائة واثنان وتسعون 7392، او نقول على الاربعة والعشرين عند لا ريب لفظ فيه صفة او حال بالاربعة وهدى بالثلاثة خبر الكتاب وللمتقين بالاحد عشر فهذه ثلاثة آلاف وتسعمائة وستون 3960، او نقول على الاربعة والعشرين فيه خبر لا وهدى بالثلاثة خبر الكتاب وللمتقين على الاحد عشر فهذه سبعمائة واثنان وتسعون 792، او نقول على الاربعة والعشرين عند لا ريب لفظ فيه على الخمسة وهدى صفة او حال بالاربعة او خبر مبتدأ محذوف او مفعول فعل محذوف بالثلاثة فى لفظ المصدر او تميز وللمتقين خبر الكتاب او على الاربعة والعشرين فيه خبر لا وهدى على الخمسة والعشرين بزيادة كونه خبرا بعد خبر للا ريب على الوجوه السابقة وللمتقين خبر الكتاب او على الاربعة والعشرين فيه هدى خبر لا وللمتقين خبر الكتاب او فيه على الخمسة وهدى خبر لا بالثلاثة او على الاربعة والعشرين عند لا ريب محذوف الخبر فيه هدى على الخمسة وللمتقين خبر الكتاب فهذه ثلاثة آلاف وسبعمائة واربعة واربعون 3744، او نقول على الاربعة والعشرين عند لا ريب محذوف الخبر فيه هدى خبر الكتاب وللمتقين على الاحد عشر او فيه هدى للمتقين بالاربعة فى لفظ فيه خبر الكتاب فهذه مئتان واربعة وستون 264 تجمع مع سابقتها وتضاف الى مجموع الحاصل السابق فتصير مائة وستة وثلاثين الفا وستمائة وثلاثة وسبعين 136673.
وهذه وجوه الوجه الواحد من الوجوه الستة والتسعين واذا ضرب هذه فى الستة والتسعين تحصل ثلاثة عشر الف الف ومائة وعشرون الفا وستمائة وثمانية 13120608، وعلى الوجوه المندرجة السابقة.
[2.3-5]
فقوله تعالى { الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بمآ أنزل إليك ومآ أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون } يحتمل وجوها عديدة من الاعراب فنقول فى بيانها { الذين يؤمنون بالغيب } اما صفة للمتقين او بدل او عطف بيان او خبر مبتدء محذوف او مفعول فعل محذوف فهذه خمسة { ومما رزقناهم ينفقون } جملة فعلية معطوفة على الصلة او جملة اسمية معطوفة على الصلة او مستأنفة او حالية فهذه اربعة مضروبة فى الخمسة { والذين يؤمنون بمآ أنزل إليك } عطف على المتقين او على الذين يؤمنون بالغيب وما فى " ما انزل اليك " موصولة اسمية او موصوفة او مصدرية وما انزل من قبلك بثلاثة اوجه فى لفظ ما معطوفة على ما انزل اليك او ما انزل من قبلك جملة حالية او مستأنفة ولفظ " ما " نافية او استفهامية فهذه احد وعشرون مضروبة فى الاربعين و " بالاخرة " عطف على ما انزل اليك وجملة { هم يوقنون } حال او مستأنفة او بالاخرة متعلق بيوقنون والجملة حال او مستأنفة او معطوفة على الصلة فهذه خمسة مضروبة فى الثمانمائة والاربعين الحاصلة من ضرب الاحد والعشرين فى الاربعين والحاصل من الضرب اربعة آلاف ومائان 4200 وعليها فاولئك الاولى بدل او عطف بيان للذين الاول او الثانى و { على هدى من ربهم } حال مفردا او جملة مستأنفة بتقدير مبتدء { وأولئك } الثانية عطف على { أولئك } الاولى و { هم المفلحون } جملة حالية او مستأنفة او { أولئك هم المفلحون } جملة معطوفة على على { هدى من ربهم } او حالية او مستأنفة وهم ضمير الفصل او مبتدء فهذه اربعة وستون مضروبة فى الاربعة الالاف والمأتين والحاصل من الضرب مأتان وثمانية وستون الفا وثمانمائة 268800، او على الاربعة الالاف والمئتين { أولئك } الاولى مبتدء والجملة حال او مستأنفة وعلى هدى خبره { وأولئك } الثانية عطف عليها عطف المفرد وهم المفلحون جملة حالية او مستأنفة او اولئك هم المفلحون جملة معطوفة على جملة اولئك على هدى او حال او مستأنفة والضمير للفصل او مبتدئان فهذه ستة عشر مضروبة فى الاربعة الالاف والمئتين والحاصل من الضرب سبعة وستون الفا ومائتان 67200 او على الاربعة الالاف والمئتين اولئك الاولى مبتدأ والجملة حال او مستأنفة وعلى هدى من ربهم حال { وأولئك } الثانية عطف عليه وهم المفلحون خبره والضمير للفصل او مبتدأ ثان فهذه اربعة مضروبة فى السابق والحاصل ستة عشر الفا وثمانمائة 16800، او نقول الذين يؤمنون بالغيب على الخمسة ومما رزقناهم ينفقون على الاربعة والذين الثانى مبتدأ والجملة حال او مستأنفة وبما انزل اليك وما انزل من قبلك على الاحد والعشرين { وبالآخرة هم يوقنون } على الخمسة فهذه ايضا اربعة آلاف ومائتان 4200، وعليها فاولئك الاولى خبره وعلى هدى خبر بعد خبر او حال او مستأنف بتقدير مبتدأ واولئك الثانية عطف على الاولى عطف المفرد وهم المفلحون حال او مستأنفة او اولئك الثانية مبتدأ والجملة معطوفة على جملة { الذين يؤمنون بمآ أنزل } او على، { على هدى } او حال او مستأنفة والضمير على الوجهين فهذه ثلاثون وجها مضروبة والحاصل مائة وستة وعشرون الفا 126000 او على الاربعة الالاف والمأتين اولئك الاولى بدل او عطف بيان للذين الثانى و { على هدى } خبر الذين الثانى { وأولئك } الثانى عطف على { أولئك } الاول او على { الذين } الثانى وهم المفلحون على الوجهين او اولئك الثانى مبتدأ وهم المفلحون بالوجهين فى الضمير خبره والجملة معطوفة على جملة الذين يؤمنون بما انزل او على على هدى او حال او مستأنفة فهذه اربعة وعشرون والحاصل من الضرب مائة الف وثمن مئة 100800، او على الاربعة الالاف والمئتين اولئك الاولى بدل او عطف بيان و { على هدى } حال او مستأنف { وأولئك } الثانية عطف عليها عطف المفرد وهم المفلحون خبر { الذين } الثانى والضمير بالوجهين فهذه ثمانية مضروبة والحاصل ثلاثة وثلاثون الفا وستمائة 33600، او على الاربعة الالاف والمئتين { أولئك } الاولى مبتدء ثان و { على هدى } خبره والجملة خبر الذين الثانى واولئك الثانية عطف على الذين الثانى او على اولئك او على على هدى عطف المفرد وهم المفلحون بالوجهين او { اولئك هم المفلحون } بالوجهين فى الضمير جملة معطوفة على جملة الذين وخبره او على جملة { أولئك على هدى } او على، على هدى او حال او مستأنفة او اولئك الاولى مبتدأ ثان وعلى هدى بالوجهين واولئك الثانية عطف على اولئك الاولى او على الذين الثانى وهم المفلحون بالوجهين فى الضمير خبر اولئك الاولى والجملة خبر الذين الثانى فهذه اربعة وعشرون مضروبة والحاصل مائة الف وثمانمائة 100800، او نقول الذين الاول مبتدء والجملة حال او مستأنفة { ومما رزقناهم ينفقون } على الاربعة والذين الثانى عطف على الاول و { بمآ أنزل إليك ومآ أنزل من قبلك } على الاحد والعشرين { وبالآخرة هم يوقنون } على الخمسة فهذه ثمانمائة واربعون 840 وعليها فاولئك الاولى خبره وعلى هدى على الثلاثة واولئك الثانية عطف على المتقين او على الذين او على اولئك الاولى عطف المفرد وهم المفلحون على الوجهين او اولئك الثانية مبتدأ وهم المفلحون بالوجهين فى الضمير خبره والجملة عطف على جملة الذين وخبره او على { اولئك على هدى } او على { على هدى } او حال او مستأنفة فهذه ثمانية واربعون مضروبة فى الثمانمائة والاربعين والحاصل اربعون الفا وثلاثمائة وعشرون 40320، او على الثمانمائة والاربعين اولئك الاولى بدل او عطف بيان وعلى هدى خبر الذين واولئك الثانية عطف على الذين او على اولئك او على، على هدى وهم المفلحون على الوجهين او اولئك الثانية مبتدأ وهم المفلحون بالوجهين فى الضمير خبره والجملة عطف على جملة الذين وخبره او على { على هدى } او حال او مستأنفة فهذه ثمانية وعشرون مضروبة والحاصل ثلاثة وعشرون الفا وخمسمائة وعشرون 23520، او على الثمانمائة والاربعين اولئك الاولى بدل او عطف بيان وعلى هدى حال او مستأنف او اولئك على هدى مبتدأ وخبر وحال او مستأنف واولئك الثانية عطف على الذين او على اولئك الاولى وهم المفلحون بالوجهين فى الضمير خبره فهذه اربعة وعشرون مضروبة والحاصل عشرون الفا ومائة وستون 20160، او نقول الذين الاول مبتدأ والجملة حال او مستأنفة { ومما رزقناهم ينفقون } على الاربعة والذين الثانى مبتدء والجملة حال او معترضة { بمآ أنزل إليك ومآ أنزل من قبلك } على الاحد والعشرين { وبالآخرة هم يوقنون } على الخمسة فهذه الف وستمائة وثمانون 1680، وعليها فاولئك الاولى خبر المبتدأ الثانى وعلى هدى خبر الاول واولئك مفردا عطف على المبتدء الاول او الثانى او الخبر الاول او الثانى وهم المفلحون بالوجهين، او اولئك هم المفلحون بالوجهين فى الضمير جملة معطوفة على الجملة الاولى او الثانية او الخبر الاول او الثانى او حال او مستأنفة فهذه ثلاثة وثلاثون الفا وستمائة 33600 او على الالف والستمائة والثمانين اولئك الاولى بدل او عطف بيان للذين الثانى وعلى هدى خبر الذين الثانى واولئك الثانى عطف على الذين الاول او الثانى او على اولئك الاولى او على على هدى وهم المفلحون بالوجهين فى الضمير خبر الاول فهذه ستة وعشرون الفا وثمانمائة وثمانون 26880، او على الالف والستمائة والثمانين اولئك مبتدأ ثان وعلى هدى خبره والجملة خبر الذين الثانى واولئك الثانية عطف على الذين الاول والثانى او على جملة اولئك على هدى او على على هدى او على اولئك نفسه وهم المفلحون بالوجهين فى الضمير خبر الذين الاول فهذه ستة عشر الفا وثمانمائة 16800، واذا جمعت المجموعات الحاصلات حصل ثمانمائة وخمسة وسبعون الفا ومائتان وثمانون 875280، ويجرى كل فى مجموع الوجوه المحتملة فى { الم } الى قوله للمتقين وهى ثلاثة عشر الف الف ومائة وعشرون الفا وستمائة وثمانية 13120608، واذا ضرب ذلك المجموع فى هذا المجموع يحصل احد عشر الف الف الف الف واربعمائة واربعة وثمانون الف الف الف ومئتان وخمسة آلاف الف وسبعمائة وسبعون الفا ومئتان واربعون وهذه ارقامه، 11484205770240.
وهذه هى الوجوه الشايعة التى لا شذوذ لها ولا ندور ولا غلق فيها، واما الوجوه الضعيفة التى فيها اما ضعف بحسب المعنى او غلق بحسب اللفظ او يورث التباسا فى المعنى وقد رأيت بعض من تعرض لوجوه الاعراب ذكر اكثرها وترك اكثر هذه الوجوه القوية الشائعة فهى ايضا كثيرة تركناها وكذا تركنا الوجوه التى فيها شوب تكرار مثل كون الاحوال مترادفة ومتداخلة وقد ذكرنا هذه الوجوه فى الآية الشريفة مع التزامنا فى هذا التفسير الاختصار وعدم التعرض لتصريف الكلمات ووجوه الاعراب والقراءات تنبيها على سعة وجوه القرآن بحسب اللفظ، الدالة على سعة وجوهه بحسب المعنى التى تدل على سعة بطون القرآن وتأويله، وبعد ما عرفت ان الانسان حين الانسلاخ من هذا البنيان يشاهد او يتحقق بمراتب العالم التى هى بوجه حقائق القرآن وبوجه مراتب الانسان، ويظهر من تلك الحقائق بحكم اتباع الدانى للعالى واقتضائه من حظوظ العالى وافاضة العالى على الدانى واجابته لاقتضاء الدانى واستدعائه على بشريته ومداركها اجمالا او تفصيلا صور مناسبة لتلك الحقائق وتلك المدارك وكلمات وحروف كذلك منقوشة على الواح او مسموعة مدركة بآلة السمع او البصر الخياليتين او الجسمانيتين وان " الم " وكذا سائر فواتح السور اشارة الى تلك الحقائق ولا يمكن التعبير عما يشار بها اليه الا بالامثال، وما ورد فى تفسيرها ليس الا امثالا مناسبة لتلك الحقائق موافقة لشاكلة المخاطب سهل عليك معرفة ان:
تحقيق كون جميع الكتب المدونة حقه وباطله صور الكتاب الحقيقى الذى هو حقيقة القرآن
قوله تعالى { ذلك الكتاب } اشارة الى تلك الحقائق وان الاتيان باسم الاشارة البعيدة لعظمة تلك الحقائق وبعدها غاية البعد عن ادراك الابصار والبصائر وان الحصر المستفاد من تعريف المسند على تقدير كون ذلك الكتاب مبتدأ وخبرا انما هو باعتبار ان تلك الحقائق حقيقة الكتاب الذى كتبه الرحمن بالاقلام الالهية على الالواح السماوية او الأرضية العينية وان سائر الكتب المدونة الالهية او غير الالهية صور شؤن ذلك الكتاب ونازلته لكن الكتب الحقة المدونة فى العلوم الشائعة الشرعية وغير الشرعية وفى العلوم الغير الشائعة من العلوم الغريبة بأنواعها صور شؤن تلك الحقائق التى تترائى فى المرآة المستقيمة الصافية والكتب الغير الحقة المدونة فى العلوم الباطلة الشيطانية بأنواعها وفنونها شؤنها المتراءاة فى المرايا المعوجة الكدرة التى لا تترائى الصور فيها الا بخلاف ما هى عليه وتفسير ذلك الكتاب بالقرآن كما ورد عن الامام (ع) انه قال يعنى القرآن الذى افتتح ب " الم " هو ذلك الكتاب الذى أخبرت به موسى (ع) ومن بعده من الانبياء (ع) وهم أخبروا بنى اسرائيل انى سأنزله عليك يا محمد (ص) باعتبار ان القرآن هو الكتاب الجامع لصور جميع شؤن تلك الحقائق، وهذا الخبر يدل على جعل ذلك الكتاب خبرا ل " الم " وقد سبق، او خبرا لمحذوف ولم نذكره فى الوجوه السابقة؛ وتفسيره بمحمد (ص) او على (ع) باعتبار انهما متحققان بتلك الحقائق، وتفسيره بالرسالة او النبوة او الولاية باعتبار ظهور تلك الحقائق بجميع شؤنها او ببعضها فيها وكذلك تفسيره بالصدر والقلب والروح من حيث انتقاشها بصور تلك الحقائق، وما ورد من تفسيره بكتاب على (ع) يمكن ان يراد به مكتوب كتبه على (ع) بعلويته فان جملة ما سوى الله مكتوب علوية على (ع)، وان يراد به كتاب نزل من الله على محمد (ص) فى على (ع) وخلافته، وان يراد كتاب هو على (ع) على ان يكون الاضافة بيانية.
وروى عن الصادق (ع) ان الكتاب على (ع) لا شك فيه.
تحقيق الكتاب ومصاديقه
ولفظ الكتاب مصدر يطلق على ما من شأنه ان ينطبع بنفسه كالصور المنطبعة فى المواد او بصورته كالالفاظ المنطبعة بصورها الكتبية فى شئ آخر وعلى الصورة المنطبعة وعلى ما يرتسم فيه الصور باعتبار ارتسام الصور فيه فالالفاظ الموضوعة لارتسام صورها فى الصحائف والصور المكتوبة والصحائف المرتسمة فيها الصور تسمى كتابا، والصور الطبيعية والمواد المنطبعة فيها الصور تسمى ايضا كتابا، والنفوس الحيوانية والنفوس الانسانية والفلكية ومحالها كتاب، والنفوس المتعلقة بالاجساد المثالية والاجساد المثالية كتاب، والصور العلمية الحاصلة فى النفوس السفلية او العلوية ونفس تلك النفوس من حيث حصول العلوم فيها كتاب، والرذائل والخصائل الحاصلة فى النفوس؛ ونفس تلك النفوس من حيث حصول الاخلاق فيها كتاب، والعلوم الفائضة على العقول والعقول كتاب، والاسماء الالهية ولوازمها الظاهرة فى مقام الواحدية والفيض المنبسط الذى هو محل ظهور الاسماء والصفات كتاب، والتعينات الامكانية والوجودات المتعينة بتلك التعينات كتاب، كما قيل بالفارسية:
بنزد آنكه جانش درتجلى است
همه عالم كتاب حق تعالى است
وقد كثر اطلاق الكتاب فى الآيات والاخبار على مراتب وجود العالم، وعلى بنى آدم، وعلى الصدر المستنير بنور الرسالة، وعلى أحكام الرسالة، وعلى القلب المستنير بنور النبوة، وعلى احكام النبوة، وعلى الروح المستنير بنور الولاية، وعلى آثار الولاية.
تحقيق معنى الكلام
والكلام مصدر لم يستعمل فعله لان الكلام مجردا لم يستعمل فى معنى التكلم بل استعمل من باب قتل وضرب بمعنى جرح والمستعمل بمعنى التكلم كلم من باب التفعيل وتكلم من باب التفعل وكالم من المفاعلة وتكالم من التفاعل، وقيل هو اسم مصدر بمعنى التكلم لكنه فى العرف العام صار اسما للحاصل بالتكلم وفى عرف النحاة صار اسما للمركب المفيد من الكلمات.
الفرق بين الكتاب والكلام
والفرق بين الكتاب والكلام بالنسبة الى ما صدر من المبادئ العالية اعتبارى محض فان الفيض المقدس المسمى بفعل الحق تعالى واضافته الاشراقية ونفس الرحمن ومشيئة باعتبار ظهور الصفات والاسماء ولوازم الاسماء به اذا لوحظ نسبته الى الحق الاول تعالى وقيامه به قيام الفعل بالفاعل كان كلاما ومتكلمية له تعالى، واذا لوحظ شيئيته فى نفسه ومغايرته له تعالى وبينونته منه كان كتابا له تعالى، وهكذا الحال فى العقول والنفوس وعالم المثال وعالم الطبع فانها بالنسبة اليه تعالى كلام وكتاب بتوسط المشيئة التى هى من الله كنفس الانسان من الانسان، ومن مراتب الممكنات كنفس الانسان من مخارج الحروف ولذا سميت بنفس الرحمن، وكل مرتبة من مراتب الوجود بالنسبة الى عاليها كلام وكتاب بالاعتبارين، والانسان بمراتبه العالية نظير المراتب العالية للعالم، واما بمقامه البشرى فنفسه المتكيف بكيفية الحروف بتوسط تقطيعه بمخارج الحروف بسبب عدم ظهور استقلاله ونفسيته كلاميته ظاهرة وكتابيته خفية، ومكتوبه لظهور بينونته واستقلاله كتابيته ظاهرة وكلاميته خفية، ونظير هذين عالم الارواح وعالم الطبع بالنسبة الى الله تعالى لاختفاء البينونة هناك وظهورها هاهنا.
{ لا ريب فيه } لا لنفى الجنس او لنفى الفرد الشائع على اختلاف القراءتين والريب والريبة القلق والاضطراب فى النفس عن الانقياد لامر معلوم او مظنون او مشكوك وتبادر معنى الشك واستعماله فيه لكونه فى الاغلب مع الشك، ولانه اذا كان مع العلم والظن يستعقب الشك كما ورد:
" لا ترتابوا فتشكوا، ولا تشكوا فتكفروا "
، والمراد منه هاهنا معناه الحقيقى، او الشك والضمير المجرور راجع الى الكتاب او الى " الم ".
اعلم ان الكتاب هنا كما مرت الاشارة اليه عبارة عن الحقائق المشهودة له (ص) حين الانسلاخ عن البشرية والاتصال بالعوالم العالية المشار اليها ب " الم " او المأخوذ منها " الم " وتفسيره بالقرآن المفتتح ب " الم " وبعلى (ع) او بما نزل فى على (ع) يعنى بالولاية وآثارها او بالنبوة او الرسالة وأحكامهما لكون المذكورات نازلة تلك الحقائق وظهورها.
تحقيق ان الانسان ما لم يخرج من اسر نفسه لا يدرك من القرآن الا اللفظ والعبارة
والانسان ما لم يخرج من اسر نفسه وهواها ولم يبلغ حد التسليم والاستماع الذى هو اولى درجات العلم بوجه، وثانيتها بوجه، اوحد التحقيق والغنى عن التقليد مشار اليهما بقوله تعالى
لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد
[ق: 37] لا يمكن له ادراك تلك الحقائق ولا ادراك نازلتها وظهورها فلا يمكن له ادراك القرآن ولا النبوات والرسالات والولايات من حيث انها ظهور تلك الحقائق ونازلتها، بل لا يدرك من القرآن الا الصوت والعبارة او النقش والكتابة ولا يتصور من معانيه الا ما هو الموافق لشأنه المناسب لمقامه لا ما هو العناوين الالهية للحقائق العالية كما قال تعالى
لا يمسه إلا المطهرون
[الواقعة: 79] ولا يدرك من خلفاء الله الا مقامهم البشرى ولا من دعاويهم الا ما هو الموافق لادراكاته الشيطانية وشؤنها البهيمية والسبعية لا مقاماتهم العالية وأخلاقهم الملكوتية وأوصافهم الالهية ولهذا نسبوا الانبياء الى ما نسبوهم فاللفظ المسموع من القرآن والنقش المبصر منه ان كان لفظ القرآن ونقشه بان لا يكون المتكلم بالقرآن متكلما بلسانه ولم يكن الكاتب كاتبا بيده فالشيطان يخليهما من معانيهما ويجعل فيهما معانى اخر موافقة له حين السماع والابصار؛ وهذا احد وجوه تحريف الكلم عن مواضعه، وهؤلاء هم الذين يقال فيهم: { فويل للذين يكتبون الكتاب } ويسمعونه ويبصرونه { بأيديهم } وأسماعهم وأبصارهم { فويل لهم مما كتبت أيديهم } وسمعت اذانهم وابصرت عيونهم { وويل لهم مما يكسبون }.
والشك والارتياب من جنود الجهل والنفس، والعلم والانقياد من جنود العقل والقلب، اذا تمهد هذا فنقول: من لم يخرج من أسر نفيه لا يدرك الكتاب فى مرتبة من مراتبه، ومن خرج من أسر نفسه لا يقع منه شك وارتياب فيما أدرك من الكتاب، فالشاكون فى الكتاب شكهم راجع الى مدركاتهم لا الى الكتاب، فما وقع فيه الشك غير الكتاب، وما هو الكتاب لا يقع فيه شك وريبة، فصح نفى جنس الريب او جميع افراده من الكتاب من غير حاجة الى ارتكاب تضمين او تقدير او تقييد بمعنى لا ينبغي الريب بتضمين الابتغاء او تقديره، او لا ريب للعاقل بالتقدير، او للمتقين بتقييده بالظرف.
تحقيق معنى الهداية
{ هدى } الهدى كالتقى مصدر بمعنى اراءة الطريق مصاحبة للايصال اليه او الى المقصود، او غير مصاحبة سواء عدى الى المفعول الثانى بنفسه او باللام او بلفظ الى، وسواء كانت الهداية من الله او من الخلق، وسواء تعلقت بنفس الطريق او بالمقصود، واما الهداية من الله اذا تعلقت بشئ اى شيئ كان مطلقة عن المهدى اليه فالمراد هدايته الى طريق كماله المطلوب منه، والكمال المطلوب من الانسان هو حصول الولاية المطلقة ثم النبوة المطلقة ثم الرسالة المطلقة، وطريقه الى هذا الكمال هو طريقه من نفسه الانسانية التى يعبر عنها بالصدر منشرحا بالكفر او بالاسلام، او غير منشرح بشئ منهما الى قلبه ومنه الى روحه وهكذا الى الولاية المطلقة، ولما كان هذا الطريق مختفيا عن الابصار مسدودا بالتعينات النفسية وكان المرور عليه اختياريا والانسان فى بيداء النفس ضالا فى بدو حاله ظانا ان الكمال المطلوب منه هو الوصول الى المشتهيات النفسية واستكال القوى الحيوانية والشيطانية مبغضا لما سوى مظنونه اقتضت الحكمة البالغة الالهية والرحمة التامة الربوبية ان يبعث الى النوع من ينبههم عن ضلالهم، وان ما وراء مظنونهم هو الكمال المطلوب منهم، وان ما ظنوه كمالا سموم مهلكة وشباك الشيطان، وان فى الوادى سباعا مترصدة ضلالهم مغتنمة ضياعهم، ويحذرهم عن الوقوف فيه وعن ترصد السباع لهم وعن حبائل الشيطان حتى يتنبهوا ويأخذوا حذرهم ويتأهبوا للخروج منه ويطلبوا الطريق ومن يدلهم عليه؛ حتى يبعث بعد ذلك عليهم من يرفع موانعهم بالرفق ويريهم طريق كمالاتهم ويذهب بهم الى غاياتهم، وتلك الاراءة وهذا الاذهاب تسمى هداية، والرسول وخليفته لما كان كل منهما ذا شأنين شأن الرسالة وبه يقع التنبيه والانذار المذكوران، وشأن الولاية وبه يقع الاذهاب والاراءة المزبوران كان كل منهما بوجه منذرا وبوجه هاديا، وحصر شأن الرسول فى الانذار فى قوله تعالى:
انما انت منذر
؛ مع انه امام الكل فى الكل للاشارة الى شأن الرسالة وان المخاطب هو الرسول بما هو رسول لا بما هو ولى او نبى، والا فهو بولايته صاحب الهداية المطلقة وكل الهادين مقتبسون منه، وبنبوته صاحب الشأنين فالرسول بما هو رسول منذر والولى بما هو ولى هاد، والنبى صاحب الشأنين والهداية من الله لا تتعلق الا بمن أنذر واتقى فاذا أخذ هدى هاهنا مطلقا بحسب اللفظ او مقيدا بقوله للمتقين كان المقصود واحدا.
تحقيق معنى التقوى ومراتبها
والتقوى والتقى والتقاة مصادر من الوقاية واذا نسبت الى الله او الى سخطه او الى المحرمات او اطلقت فالمراد منها التحفظ عما ينافى او يضر حصول الكمالات او الكمالات الحاصلة الانسانية؛ ولها مراتب عديدة بعضها قبل الاسلام، وبعضها بعد الاسلام وقبل الايمان، وبعضها بعد الايمان بمراتبها الى الفناء التام الذاتى، فأول مراتبها الانزجار عن مساوى النفس ودواعيها المنافية للعاقلة وهى مقام الاستغفار، وثانيها الانصراف عنها وطلب الخلاص منها بالفرار وهى مقام التوبة، وثالثها الرجوع فى الفرار الى خلفاء الله ووسائله بينه وبين خلقه وهى مقام الانابة؛ وهذه الثلاثة مقدمة على الاسلام واليها اشار تعالى بقوله حكاية عن قول بعض أنبيائه مع أممهم:
ويقوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه
[هود: 52]؛ وتقييد التوبة بقوله " اليه " اشارة الى المرتبة الثالثة، واذا اسلم الانسان على يد نبى (ص) او خليفته (ع) وقبل منه احكامه القلبية من أوامره ونواهيه حصل له مرتبة رابعة من التقوى التى هى التحفظ عن مخالفة قوله بامتثال اوامره ونواهيه، والخامسة الانزجار عن الوقوف على ظاهر الاوامر وطلب بواطنها وروحها وطلب من يدله على بواطنها، وهاتان بعد الاسلام وقبل الايمان؛ وهذه التقوى هى تقوى العوام وتنقسم بوجه الى تقوى العوام من الحرام، وتقوى الخواص من الشبهات، وتقوى الاخص من المباح، واذا وجد الطالب من يدله على روح الاعمال وتاب على يده توبة خاصة وآمن بالبيعة الخاصة الولاية واستبصر بباطنه وبرذائله وخصائله حصل له مرتبة أخرى من التقوى وهى التحفظ من الرذائل باستكمال الخصائل، واذا تطهر قلبه من الرذائل وتحلى بالخصائل تمثل امامه ودخل بيت قلبه وحينئذ يشاهد فى وجوده فاعلا الهيا وفاعلا شيطانيا فيظن ان فى الوجود الاهين فيقع فى ورطة الاشراك والثنوية ويرى وجودا لنفسه ووجودا لشيخه داخلا فى مملكته فيظن انه حال فى وجوده فيقع فى ورطة الحلول، او يرى وجودا واحدا هو ذاته وامامه فيقع فى ورطة الاتحاد، وان ساعده التوفيق واتقى نسبة الافعال الى الشيطان ورأى الفعل مطلقا من الرحمن فى المظهر الالهى او الشيطانى وحصل ووجد معنى لا حول ولا قوة الا بالله والتذ به حصل له مرتبة أخرى من التقوى هى التحفظ من نسبة الافعال الى غير الله والخروج من الاشراك الفعلى الى التوحيد الفعلى، واذا تفطن بان الاوصاف الوجودية كالافعال نسبتها الى الله بالصدور والوجوب والى غيره تعالى بالظهور والقبول؛ وان الكل مظاهر اوصاف الله وحصل ووجد معنى الحمد لله والتذ به حصل له مرتبة أخرى من التقوى هى التحفظ عن رؤية نسبة الاوصاف الى غيره تعالى.
بيان سر ظهور بعض الشطحات من السلاك
وفي هذه المرتبة قد يتجلى الله على المؤمن بصفة الواحدية فلا يرى لشيئ ذاتا ولا صفة مع بقاء انانية ما لنفسه فيقع فى ورطة الوحدة الممنوعة، ويظن ان الوجود واحد والموجود واحد وبعد الافاقة يعتقد ذلك ويتفوه به ويقع فى الاباحة والالحاد لو لم يكن له شيخ او لم يرجع الى شيخه ولا يعد الرسل وشرائعهم حينئذ فى شيئ بل يستهزء بهم وبها، وقد يتجلى بصفة الصمدية عليه فيظهر الانانية منه والاستغناء من كل شيئ حتى من الله وهكذا، ففى هذه المرتبة من التقوى والمرتبة السابقة ورطات مهلكة وعقبات موبقة ان لم يكن المؤمن فى تربية شيخ او لم يرجع اليه واستغنى منه أعاذنا الله وجميع المؤمنين منها وفى هاتين المرتبتين يظهر جميع ما يظهر من السلاك من الشطحات الممنوعة؛ واكثر الغالين نشأ غلوهم من هاتين المرتبتين، واكثر المتشيخة المغرورين من هاتين استدرجوا وهلكوا من حيث ظنوا انهم وصلوا واستغنوا عن الشيخ المكمل والحال انهم فى هذه الاحوال أشد احتياجا منهم الى الشيخ فى غير هذه الاحوال، وبالجملة مهالك مراتب التوحيد الفعلى والوصفى الى الخروج الى التوحيد الذاتى اكثر من ان يحيط بها البيان او يحصيها تحرير الاقلام، واذا تفطن بأن المتحقق بالذات هو الحق الاول تعالى شأنه وان سائر مراتب الوجود اعتبارات محضة وتعينات اعتبارية ناشئة من مراتب سعة تلك الحقيقة وانقلب بصره فلا يرى فى دار الوجود الا الوجود الحق المنزه عن كل تعين واعتبار وحصل ووجد معنى لا اله الا الله بل معنى لا هو الا هو، والتذ به حصل له مرتبة أخرى من التقوى وهى آخر مراتب التقوى فانه لا يبقى للسالك بعد هذه عين ولا اثر حتى يتصور له فعل ووصف وتقوى، فان ادركته العناية الالهية بموهبة البقاء بعد الفناء والصحو بعد المحو وشهود الحق فى الخلق والتشبه بالرحمن باعطاء الله له فضيلة الاحسان لتكميل العباد وتكثير جنوده عوضا لما اقرض الله من الجنود والاعوان فى جهاد الاعداء فى سبيله تم له السلوك وصار نبيا او خليفته، ولما لم يكن مراتب التقوى التى قبل الاسلام من مراتب حقيقة التقوى لان الانسان ما لم يدخل فى دين الاسلام ولم يتعلم ما يضره فى تحصيل كما له من عالم وقته لا يدرى اى شيئ يضره حتى يتقى منه، ولما كان المراتب الباقية منقسمة الى ثلاثة اقسام؛ التقوى التى بعد الاسلام وقبل الايمان، والتى بعد الايمان وقبل التقوى عن نسبة الصفات الى غير الله تعالى، والتقوى عن رؤية صفة وذات غيره تعالى اسقط التقوى التى قبل الاسلام وذكر الاقسام الثلاثة الباقية فى قوله تعالى: { ليس على الذين آمنوا }
تحقيق قوله تعالى { ليس على الذين آمنوا }
ليس على الذين آمنوا
[المائدة: 93] اى اسلموا فان المراد بالايمان هنا الايمان العام الذى هو الاسلام كما سيجيئ تحقيقه وتفصيله، ولم يقل { ليس على الذين اتقوا وآمنوا } للاشارة الى ان التى قبل هذا الايمان ليست من التقوى { وعملوا الصالحات } والمراد بعمل الصالحات العمل بالاحكام الشرعية القالبية جناح فيما طعموا { اذا ما اتقوا } اى اتقوا بالتقوى التى بعد الاسلام وقبل الايمان وآمنوا بالايمان الخاص الذى يحصل بالبيعة الخاصة الولاية ويدخل به بذر الايمان فى القلب وبه يتمسك بالعروة الوثقى التى هى حبل من الناس مضافا الى التمسك بالعروة التكوينية التى هى حبل من الله { وعملوا الصالحات } التى هى اعمالهم القلبية مضافة الى اعمالهم القالبية { ثم اتقوا } بمراتب التقوى التى بعد الايمان وقبل التقوى عن نسبة الصفات الى غير الله { وآمنوا } شهودا اى أيقنوا عين اليقين بان الافعال كلها منه جارية على مظاهره اللطفية والقهرية ولم يقل وعملوا الصالحات لما ذكر من ان هذه التقوى تطهير عن الرذائل وتحفظ عن نسبة الافعال الى غير الله فلا يرون فعلا لانفسهم حتى ينسب الاعمال اليهم لكن بقى بعد نسبة الصفات الى الذوات الامكانية ونفس الذوات الامكانية فى انظارهم { ثم اتقوا } عن نسبة الصفات الى غيره تعالى وعن رؤية الذوات الامكانية فى جنب ذاته حتى عن رؤية ذواتهم وعن رؤية اتقائهم ويعبر عن الاتقاء عن رؤية التقوى بفناء الفناء فلا يبقى حينئذ عنهم فعل ولا صفة ولا ذات فلا يبقى ايمان ولا عمل لهم ولذا لم يأت بهما بعد هذه التقوى وقال { احسنوا } اشارة الى البقاء بعد الفناء فان الباقى بعد الفناء فعله على الاطلاق احسان لا غير، وفى الخبر: المتقون شيعتنا؛ والمراد بالتقوى فى الخبر التقوى عما يخرج من الطريق الانسانى او ينافى السلوك عليه، وغير المؤمن بالايمان الخاص لما لم يكن على الطريق لا يتصور له تقوى بهذا المعنى ولما لم يكن لغير الشيعة بهذا المعنى تقوى صح حصر المتقى فى الشيعة. ونعم ما قيل:
هرجه كيرد علتى علت شود
كفر كيرد سلتى ملت شود
تحقيق الايمان ومراتبه
{ الذين يؤمنون بالغيب } الايمان لغة التصديق والاذعان واعطاء الامان وانفاذ الامان وجعله آمنا من الخوف والايتمان، وشرعا يطلق على البيعة الاسلامية وقبول الدعوة الظاهرة وعلى ما بعد التوبة من اجزاء البيعة وعلى الحالة الحاصلة بالبيعة العامة من كون البائع مقرا بالاصول الاسلامية قابلا للفروع وعلى الحالة الشبيهة بالحالة الحاصلة بالبيعة الاسلامية من كون الانسان مقرا وقابلا كالبايع حين عدم الوصول الى البيعة، ويطلق على ارادة البيعة والاشراف عليها وهذه بعينها معانى الاسلام الذى هو مقابل الايمان الحقيقى ومقدمته، ويطلق على البيعة الخاصة الايمانية وقبول الدعوة الباطنة، وعلى ما بعد التوبة من اجزاء البيعة وعلى الحالة الحاصلة بالبيعة الخاصة الولوية من كون البائع مقرا بالتوحيد والرسالة والولاية وقابلا للاحكام القلبية مضافة الى الاحكام القالبية، وعلى الحالة الشبيهة بالحالة المزبورة من الاقرار والقبول المذكورين من دون بيعة حين عدم الوصول الى البيعة، ويشبه ان يكون اطلاقه على معانى الاسلام مجازا لسلبه عنها فى قوله تعالى
قالت الأعراب آمنا
[الحجرات: 14]؛ من حيث انهم بايعوا البيعة العامة الاسلامية قل لهم يا محمد لم تؤمنوا حتى تنبههم على ان الايمان امر آخر يقتضى بيعة أخرى فلم يقفوا على ظاهر الاسلام وحتى يطلبوا ويجدوا من يدلهم على الايمان ولكن قولوا اسلمنا لان البيعة العامة والاقرار بالاصول الاسلامية وقبول الاحكام القالبية ان كانت موافقة لما فى القلب كانت اسلاما وان لم تكن موافقة للقلب لم تكن اسلاما ايضا ولذا قال { قولوا أسلمنا } ولم يقل ولكن اسلمتم، { ولما يدخل الإيمان } اى البذر الذى يدخل بسبب البيعة الايمانية فى القلوب { في قلوبكم } وما لم يدخل فى قلب الانسان بذر الايمان الذى بسببه يصدق اسم الايمان وان لم يكن الموصوف باسم الايمان متصفا بحقيقته التى هى شأن من حقيقة الانسان لم يصدق عليه أنه مؤمن، { وإن تطيعوا الله ورسوله } بالوفاء بالعهد الذى أخذه رسوله (ص ) فى البيعة الاسلامية وامتثال اوامره ونواهيه بظاهرهما لا يلتكم من اعمالكم شيئا وهذا يدل على كفاية البيعة العامة فى النجاة ان كان البايع صادقا فى بيعته، وعلى ان من مات فى زمان الرسول على البيعة العامة كان مغفورا لا محالة، وفى قوله تعالى
يمنون عليك ان اسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان
[الحجرات:17] تصريح بان المسمى بالاسلام غير الايمان وان الاسلام مقدمة للايمان وبه يرى طريق الايمان وفى الاخبار تصريحات بمغايرة الاسلام للايمان وان الاسلام قبل الايمان وان الثواب على الايمان، والاسلام لا يفيد الا حفظ الدماء وجواز المناكحة وصحة التوارث، والايمان بمعناه الشرعى يناسب كلا من معانيه اللغوية والمراد به هاهنا ان كان الظرف صلة له معنى التصديق او الاذعان وفيما روى عن مولانا الصادق (ع) ان المراد بالغيب هنا ثلاثة اشياء يوم قيام القائم (ع) ويوم الكرة ويوم القيامة من آمن بها فقد آمن بالغيب وهذا بعينه هو معنى قوله تعالى
وذكرهم بأيام الله
[إبراهيم: 5] دلالة على كونه صلة ليؤمنون، وان كان مستقرا حالا من الفاعل والمعنى الذين يؤمنون حال كونهم فى الغياب من الله او الآخرة او متلبسا بالغيب يمكن ان يراد معناه الشرعى او كل واحد من معانيه اللغوية سوى اعطاء الامان وانفاذ الامان.
تحقيق الصلاة ومراتبها
{ ويقيمون الصلاة } اعلم ان الانسان كما مر ذو مراتب كثيرة وادنى مراتبه مرتبة القالب الجسمانى وبعدها مرتبة نفسه التى يعبر عنها بالصدر وبالقلب ايضا وبعدها مرتبة قلبه التى هى بين النفس والروح، وبعدها مراتب الاخر، وفى كل مرتبة له صلاة وصلاته القالبية فى الشريعة المحمدية (ص) الافعال والاذكار والهيئات المخصوصة المعلومة لكل من دخل فى هذا الدين بالضرورة وصلاة قلبه الذى هو صدره الذكر المخصوص المأخوذ من صاحب الاجازة، والفكر المخصوص المأخوذ من قوة الذكر او من تعمل المفكرة، والمراد بالفكر ما هو مصطلح الصوفية زمن التوجه الى الامام كما ورد وقت تكبيرة الاحرام تذكر رسول الله (ص) واجعل واحدا من الائمة نصب عينيك وصلاة القلب الذى هو بين النفس والروح مشاهدة معانى اذكار الصلاة ومشاهدة الاحوال والشؤن المشار اليها بأطوار الصلاة وصلاة الروح معاينة هذه وهكذا، ومعنى اقامة الصلاة جعل صلاة القالب متصلة بصلاة الصدر وصلاة الصدر متصلة بصلاة القلب، وهكذا سواء كان الاقامة بمعنى الاقامة عن اعوجاج او عن قعود، او بمعنى اقامة حدود الصلاة فان اعظم حدودهما حدودها الطولية فانها بالنسبة الى الحدود العرضية كالروح بالنسبة الى القالب فصلاة القالب كقالب الانسان والصلاة الذكرية القلبية الجسمانية كالروح البخار من الانسان الذى هو مركب القوى والمدارك الحيوانية، والصلوة الفكرية الصدرية كالبدن المثالى من الانسان، والصلاة القلبية الروحانية كروح الانسان، فكما ان الانسان بدون المراتب الباطنة ميتة عفنة تؤذى قرينها كذلك الصلاة القالبية بدون مراتبها الباطنة جيفة عفنة مؤذية؛ وقد ورد
" رب مصل والصلاة تلعنه ".
تحقيق استمرار الصلاة والزكاة للانسان تكوينا
واعلم ايضا ان الانسان خلق ذا قوة وفعلية من اول خلقة مادته الى مرتبته الاخيرة التى هى بالفعل من كل جهة وليس فيها قوة فالنطفة لها فعلية النطفة وقوة العلقة قريبة وقوة المضغة والجنين والطفل الانسانى وهكذا بعيدة، وما لم ينقص من فعلية النطفة شيئ لم يحصل من فعلية العلقة شيئ ويحصل بالاتصال والاستمرار فعلية العلقة بقدر نقصان فعلية النطفة الى ان صار العلقة بالفعل من جهة كونها علقة ثم يصير فعلية العلقة فى النقصان وفعلية المضغة فى الحصول والازدياد وهكذا جميع المراتب فان فعلية كل مرتبة موقوفة على نقصان سابقتها او فنائها، وهذا النقصان والفناء زكاة الانسان تكوينا، وذلك الحصول والازدياد صلاته تكوينا لان الزكاة اعطاء فضول المال وتطهير باقيه، وهذا ايضا كذلك والصلاة جلب الرحمة وطلبها والازدياد المذكور جلب للرحمة التى هى كمالات الانسان واستجماع لها، ولما كان التكليف موافقا للتكوين وحسن الاعمال الاختيارية بكونها مطابقة للافعال التكوينية لم يبعث نبى قط الا بتشريع الصلاة والزكاة وجعلهما اصلا وعمادا لتمام الاعمال الشرعية الفرعية لكن وضعهما وصورتهما فى الشرائع مختلفة غير متوافقة، وتقديم الصلاة فى هذه الآية وفى سائر الآيات على الزكاة اما لتقدمها طبعا لان اسقاط ما فى اليد موقوف على وجدان غيره او طلب الافضل منه والصلوة كما علمت وجدان او طلب للكمال المفقود بعد الاتصاف بكمال موجود، فما لم يطلب الانسان كمالا آخر لا يترك كمالا حاصلا وقيل بالفارسية:
تا نبيند كود كى كه سيب هست
او بياز كنده را ندهد زدست
او لان الصلاة اشرف والاهتمام بها اتم لانها طلب ووجدان، والزكاة ترك وفقدان.
{ ومما رزقناهم ينفقون } انفق من باب الافعال من نفق ماله اى نفد لكن خصص بانفاق المال فيما ينتفع به وتقديم الظرف للاهتمام ومراعاة رؤس الاى وللحصر كأنه اراد ان يشير الى ان الاموال قد تحصل بامرنا ومن الوجه الذى قررناه لتحصيلها، وقد تحصل بأمر الشيطان ومن الوجه الذى نهينا عنه، وقد تحصل بشركة الشيطان، وكذا العلوم والقوى والشؤن والنيات والخيالات المتولدة فى عالم الانسان وان المؤمن لا يوجد فى ملكه الا ما رزقناه لانه لو أراد الشيطان ان يداخله فى تحصيل ما له تذكر فاذا هو يبصر ويتقى فلا ينفق الا ما رزقناه، ولهذا الوجه عدل عن قوله يؤتون الزكاة وكأنك تفطنت مما اسلفنا بتعميم ما رزقهم الله وتعميم الانفاق فان الانفاق الاختيارى للانسان من اول بلوغه بل من اول زمان تمرينه الى آخر مقام الاطلاق والخروج من التعينات، وروى عن الصادق (ع) ان معناه ومما علمناهم يبثون، وهذا بيان لاحد وجوه المرزوق والانفاق بحسب اقتضاء المقام، وادخال من التبعيضية للاشعار الى التوسط فى الانفاق وانه لا ينبغى انفاق الجميع كما لا ينبغى التقتير وعدم الانفاق.
{ والذين يؤمنون بمآ أنزل إليك } ان كانت الباء للسببية صح ارادة كل من المعانى الشرعية واللغوية من الايمان وان كانت صلة للايمان فمعناه التصديق او الاذعان والمراد بما انزل اليه جملة ما نزل اليه من القرآن والاحكام، او خصوص ما نزل فى ولاية على (ع) من القرآن، او خصوص ما نزل من حقيقة الولاية على قلبه؛ هذا اذا كان ما موصولة او موصوفة، واذا كانت مصدرية فالمعنى الايمان بنفس الوحى وانزال الكتاب من دون اعتبار المنزل.
{ ومآ أنزل من قبلك } من الشرايع والكتب او من التنصيص على ولاية الاوصياء او من الولايات النازلة على الانبياء من علوية على (ع) هذا ان كان ما انزل من قبلك معطوفا على ما انزل اليك، وان كان جملة حالية ولفظة ما نافية او استفهامية فالمعنى وما أنزل، ما أنزل اليك من الشرايع والقرآن او الولاية من قبلك، او اى شيئ أنزل من قبلك على معنى الانكار اى ليس ما أنزل اليهم بشيئ فى جنب ما أنزل اليك.
{ وبالآخرة هم يوقنون } الايقان اتقان العلم بحيث لا يعتريه شك وارتياب ولا يشوبه تقليد واعتياد والحصر المستفاد من تقديم الضمير سواء كان مسندا اليه او للفصل اشعار بان الايقان الذى هو من صفات العقلاء مختص بهؤلاء الموصوفين بما ذكر دون غيرهم فانهم أصحاب النفوس التى ليس من شأنها الا الظن والشك والريبة، وعلومهم ان كانت برهانية فهى ظنون ولا يخلو من شوب ريبة وتقليد وعادة، وتقديم الظرف على تقدير كونه معمولا ليوقنون لا على تقدير جعله عطفا على بما أنزل لمراعاة رؤس الاى وللحصر مشارا به الى ان هؤلاء الموصوفين بالاوصاف السابقة المختص بهم اليقين ليس علمهم وايقانهم الا متعلقا بالآخرة لانهم جعلوا الآخرة نصب أعينهم وغاية هممهم فلا يلتفتون الى غيرها حتى يتعلق يقينهم به بخلاف غيرهم فانهم جعلوا الدنيا نصب أعينهم ونبذوا الآخرة وراء ظهورهم فلا تعلق لعلمهم النفسانى بالآخرة لان علومهم مقصورة على الدنيا وعلى ما يلزم العيش فيها فتكون نفسانية غير ايقانية يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، ذلك مبلغهم من العلم؛ وقد قيل بالفارسية:
اندر اين سوراخ بنائى كرفت
در خور سوراخ دانائى كرفت
جون بى دانش نه بهرروشنى است
همجو طالب علم دنياى دنيست
طالب علم است بهرعام وخاص
نى كه تايابد ازاين عالم خلاص
همجو موشى هرطرف سوراخ كرد
جونكه نورش راند ازدركشت سرد
والآخرة تأنيث الآخر كان فى الاصل وصفا والتأنيث باعتبار الموصوف الذى هى الدار ثم غلب عليه الاسمية، واطلاق الآخرة على عالم الغيب باعتبار انها للانسان بعد الدار الدنيا ومتأخرة عنها، فان كان المراد بالغيب المبدء والعوالم العالية فى سلسلة النزول؛ وبالآخرة العوالم المتأخرة فى سلسلة الصعود يعنى المعاد فالكلام تأسيس، وان كان المراد بالغيب مطلق العوالم العالية مبدء ومعادا فالكلام مبتن على ذكر الخاص بعد العام وكان الكلام باعتبار ذكر الايقان بعد الاسمان تأسيسا ايضا.
{ أولئك } العظماء المذكورون بالاوصاف العظام { على هدى من ربهم } بحيث انهم حاكمون على وصف الهدى لا أنهم محكومون به فالاتيان باسم الاشارة البعيدة لاحضار المسند اليه بأوصافه المذكورة ليكون كالعلة للحكم وللاشارة الى بعد مرتبتهم لعظمتهم، وان كان { الذين } الاولى او الثانية مبتدأ فتكرير المبتدأ باسم الاشارة يفيد الحصر، وان كانتا تابعتين للمتقين فكون الجملة جوابا لسؤال ناشئ عن المقام يقتضى الحصر فانه بعد ذكر المتقين وكون الكتاب هاديا لهم وذكر اوصافهم الجميلة صار المقام مقام ان يقال: ما لهم من الله، وبما امتازوا من غيرهم فقال: اولئك امتازوا عن غيرهم بكونهم على هدى اهدى اليهم من ربهم دون غيرهم، والحصر فى القرين الثانى قرينة للحصر هاهنا.
{ وأولئك هم المفلحون } تكرار المبتدأ للاشارة الى امتيازهم بكل من الصفتين على حيالهما لا بجمعهم بينهما، وتوسيط العاطف للاشارة الى ان كلا من الوصفين غير الآخر، ولو اتى بالجملة الثانية مجردة عن العاطف لتوهم ان الثانية تأكيد للاولى وان الوصفين متحدان او متلازمان.
[2.6]
بيان الكفر واقسامه
{ إن الذين كفروا } بالله لا بالشيطان فان الكفر كفران؛ كفر بالله وكفر بالشيطان وإذا اطلق فى الآيات والاخبار كان المراد الكفر بالله؛ والكفر بالله ينقسم الى كفر الوجوب الذاتى وكفر الآلهة وكفر التوحيد وكفر الرسالة وكفر الولاية وكفر المعاد وكفر النعماء؛ فان القائلين بالبخت والاتفاق كافرون بالوجوب الذاتى، واليهود القائلين بالوجوب الذاتى وانه قد فرغ من الامر، والمعتزلة القائلين بأن العباد فاعلون بالاستقلال كافرون بالآلهة، والقائلون بمبدأين واجبين او بمبدء واحد واجب وفاعلين الاهين كافرون بالتوحيد، ومنكر الرسالة المطلقة او رسالة رسول خاص كافر بالرسالة، ومنكر بقاء الولاية بعد انقطاع الرسالة مطلقا او منكر ولاية ولى خاص كالعامة، والفرق المنحرفة من الشيعة كافرون بالولاية، ومنكر المعاد كافر بالمعاد، ومنكر انعام المنعم كافر بالنعم، وكل واحد من ذلك اما كفر قولي او جنانى او حالى او شهودى او تحققى، والمنفصلة مانعة الخلو فان الكافر بالنعمة اما كافر لسانا كقارون حين قال: انما اوتيته على علم عندى، او اعتقادا كمن لا يعتقد مبدء ولا انعاما منه، او حالا كاكثر المقرين بالله وبانعامه الغافلين عنه، او شهودا وقل من لا يكفر بهذا الكفر، او تحققا ولا ينفك عنه الا الانبياء وبعض الاولياء، وينقسم بقسمة أخرى الى الكفر الفطرى وهو الكفر الذاتى الذى لا ينفع لصاحبه الانذار، والى الكفر العرضى الذى ينتفع صاحبه بالانذار بل الانذار لهذا الكافر والا فالمؤمن بجهة ايمانه ليس له الا البشارة، والمراد بالكفر فى الآية الكفر الذاتى الذى لا ينتفع صاحبه بالانذار ولذا حمل على الذين كفروا قوله { سوآء } مصدر بمعنى مستو سواء فيه المفرد والجمع والمذكر والمؤنث { عليهم } لا عليك فان الانذار طاعة ونافع لك سواء اثر ام لم يؤثر فانما عليك البلاغ وهم المذمومون بعدم التأثر والكلام فى ذمهم عكس قوله تعالى { سواء عليكم ادعوتموهم ام انتم صامتون } فان المراد ذم المخاطبين على ارتكاب امر لا ينفعهم { أأنذرتهم أم لم تنذرهم } الفعل الذى بعد همزة التسوية اما مؤول بالمصدر او ملحوظ فيه معنى المصدر مقطوع النظر عن النسبة التى هى جزء من معناه ولذا يحكم عليه وسواء هاهنا خبر ان وما بعد الهمزة فاعله او سواء مبتدأ لما بعده او خبر عنه والجملة خبر ان او فاعل سواء مستتر وما بعد الهمزة مفسر له { لا يؤمنون } خبر بعد خبر او مستأنف جواب للسؤال عن حالهم او دعاء عليهم او خبر ان { لا يؤمنون } و { سواء عليهم } الى الآخر حالية او معترضة.
[2.7]
{ ختم الله } خبر بعد خبر او حال او استئناف فى مقام التعليل او فى مقام الدعاء والختم الطبع ختم الكتاب والاناء وختم على الكتاب طبع عليه بخاتمه او بشيئ مثل الخاتم بحيث اذا فتح لا يمكن ختمه الا بمثل ذلك وختم الكتاب بلغ آخره فى قراءته.
تحقيق مراتب القلب واطلاقاته وتحقيق ختم القلب والبصر
{ على قلوبهم } جمع القلب والقلب يطلق على القلب الصنوبرى اللحمى وعلى النفس الانسانية التى هى برزخ بين عالم الجنة والشياطين وبين عالم الملائكة وهى التى يعبر عنها بالصدر منشرحا بالكفر او الاسلام او غير منشرح بشيئ منهما ويعبر عنها بالاعتبارات بالنفس الامارة واللوامة والمطمئنة ويطلق على المرتبة التى بين هذه النفس والعقل ويدرك الانسان فى تلك المرتبة شيئا من حقائق علومه وثمرات اعماله ويتشأن بشؤنات علومه وأعماله ولذا قيل ان القلب معدن المشاهدة اى مشاهدة شيئ جزئى من حقائق العلوم والاعمال، والى هذا اشار تعالى بقوله:
إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد
[ق:37] فان المراد بمن كان له قلب من كان متحققا ومشاهدا لشيء يسير من حقائق علمه وعمله وخارجا من التقليد الصرف داخلا فى تحقيق ما، ويطلق على اللطيفة السيارة الانسانية وعلى المرتبة الروحانية من الانسان من دون اعتبار مرتبة خاصة، ويسمى القلب قلبا لتقلبه بين عالمى الملائكة والشياطين وتقلبه فى العلوم والاحوال وفى الشؤن والاطوار، والمراد بالقلوب هاهنا هى النفوس الانسانية، وجمع القلوب اما باعتبار جمعية المضاف اليه او باعتبار كل واحد من المضاف اليه اى ختم الله على قلب كل منهم او على قلوب كل منهم نظير كل قلب متكبر جبار على قراءة اضافة القلب الى متكبر جبار فان النفس الانسانية ذات شؤن كثيرة كدار ذات بيوت كثيرة فى طبقة واحدة، وذات مراتب كثيرة بعضها فوق بعض كدار ذات بيوت بعضها فوق بعض وكل شأن او مرتبة منها يسمى قلبا، والقلب لما كان واقعا بين مصرى الاشقياء والسعداء ومحلا للجنود العقلية والجهلية، وله بابان الى مصر السعداء والاشقياء قال تعالى: ختم الله على ابواب قلوبهم الى مصر السعداء حتى لا يتمكن أحد من الدخول والخروج من تلك الابواب وختم تلك الابواب ملازم لفتح ابواب العالم السفلى، واطلاق الختم للاشارة الى أن باب القلب هو الباب الذى الى العالم العلوى وأما بابه الى العالم السفلى فليس بابا للقلب حقيقة، ونسبة الختم اليه تعالى كنسبة الاضلال لا يستلزم جبرا لان الختم من شعب الرحمة الرحمانية التى تختلف باعتبار القابل فان الرحمة الرحمانية كشعاع الشمس الذى يبيض ثوب القصار ويسود وجهه ويطيب ريح الورد وينتن ريح الغايط حسب استعداد القابل واقتضائه وسيأتى تمام الكلام فيه ان شاء الله فى موضع آخر.
{ وعلى سمعهم } السمع مصدر سمع الكلام كالسماع ويطلق على العضو الذى قوة السماع موضوعة فيه، ويطلق على القوة المودعة فى الروح المصبوبة فى العصبة المفروشة فى الصماخ التى بها يحصل السماع، والمدرك بالسمع هو الصوت الحاصل من تموج الهواء والحاصل من امساس عنيف سواء كان بالقرع او الامرار؛ او تفريق عنيف كقلع الشجرة وخرق الثوب، والقوة التى بها يدرك النفس المسموعات شأن من شؤن النفس ولها كالقلب سوى قوتها الى الخارج قوتان؛ قوة الى العالم العلوى والى الارواح الطيبة بها تسمع من الملائكة، وما تسمع من الخارج بها تؤدى جهته الحقة الى مرتبتها الحقة العقلانية، وقوة الى العالم السفلى والى الارواح الخبيثة بها تسمع من الشيطان وتصغى اليه، وما تسمع من خارج بها تؤدى الى جهته الباطلة الى مرتبتها الباطلة السفلية، ولما كان قوتها الى الارواح الطيبة ذاتية لها وقوتها الى الارواح الخبيثة غير ذاتية فختمها على الاطلاق منصرف الى ختم قوتها العلوية فلا ينفث فيها الملك ويوسوس فيها الشيطان وما تسمع من خارج يصرفه الشيطان الى ما يوافقه ويحرف الكلمة عن معناها ويجعل فيها معنى؛ آخر، وافراد السمع مع كون القلوب والابصار جمعين لملاحظة كونه مصدرا فى الاصل واستواء التأنيث والتذكير والافراد والتثنية والجمع فيه بخلاف الاذن ولذا اتى بالجمع فى قوله تعالى
وفي آذانهم وقرا
[الأنعام: 25]
فضربنا على آذانهم
[الكهف: 11]؛ وتقديمه على الابصار لانه أعلى تجردا من البصر كما حقق فى موضعه ولذا لا يغلبه النوم فى بعض ما يغلب البصر { وعلى أبصارهم } عطف على: { على قلوبهم }؛ او متعلق بمحذوف اى جعل على أبصارهم على قراءة نصب ما بعده وخبر مقدم على قراءة رفعه او مبتدأ مكتف بمرفوعه عن الخبر، والابصار جمع البصر وهو ادراك العين او العضو المخصوص او القوة المودعة فى الروح المصبوبة فى العصبتين المجوفتين الممتدتين الى العينين وهذه ايضا كقوة السماع شأن من شؤن النفس ولها سوى قوتها الى الخارج قوتان، وختمها على الاطلاق ختم قوتها العلوية وكذا حجابها { غشاوة } قرء بالنصب وبالرفع وبتثليث الفاء وتنكير الغشاوة للتفخيم. { ولهم عذاب عظيم } عطف على قوله تعالى " على أبصارهم " غشاوة او على قوله " ختم الله "
[2.8]
{ ومن الناس } لما انساق ذكر الكتاب الذى هو اصل كل الخيرات وعنوان كل غائب وغائب كل عنوان ومصدر الكل وكل المصادر والصوادر اعنى كتاب على (ع) الى ذكر المؤمنين وذكر قسيمهم اعنى المسجل عليهم بالكفر اراد ان يذكر المذبذب بينهما أعنى المنافق المظهر للايمان باللسان المضمر للكفر فى القلب تتميما للقسمة وتنبيها للامة على حال هذه الفرقة تحذيرا لهم عن مثل أحوالهم بل نقول كان المقصود من سوق تبجيل الكتاب الى ذكر المؤمنين واستطرادهم بالكافرين ذكر هؤلاء المنافقين الذين نافقوا بولاية على (ع) خصوصا على ما هو المقصود الاتم من الكتاب والايمان والكفر والنفاق اعنى كتاب الولاية والايمان والكفر والنفاق به فانه اقبح اقسام الكفر فى نفسه واضرها على المؤمنين واشدها منعا للطالبين ولذا بسط فى ذمهم وبالغ فى ذكر قبائحهم وذكر مثل حالهم فى آخر ذمهم قرينة دالة على ان المراد المنافقون بالولاية لان المنافقين بالرسالة ليست حالهم شبيهة بحال المستوقد المضيئ فان المنافق بالرسالة لا يستضيئ بشيئ من الاعمال لعدم اعتقاده بالرسالة وعدم القبول من الرسول بخلاف المنافق بالولاية فانه بقبوله للرسالة يستضيئ بنور الرسالة والاعمال المأخوذة من الرسول (ص) لكن لما لم يكن اعماله المأخوذة وقبوله الرسالة متصلة بنور الولاية كان نوره منقطعا، وما يستفاد من تفسير الامام ان الآية كانت اشارة الى ما سيقع من النفاق بعلى (ع) يوم الغدير ومبايعة الامة والمنافقين معه وتواطؤهم على خلافه بعد البيعة وبعد التأكيد بالعهود والمواثيق عليهم يدل على ان المراد النفاق بالولاية. والناس اسم جمع من النسيان مقلوب العين لاما، او محذوف اللام لغلبة النسيان عليه حيث لم يتذكر ما الفه فى العوالم السابقة، او من النسيئ بمعنى التأخير مقلوبا؛ او محذوف اللام، او من الانس بمعنى الالفة ضد التوحش محذوف الفاء او مقلوبه، او هو مأخوذ من الايناس بمعنى الابصار مع الاطمئنان بالمبصر كما قال:
إني آنست نارا
[طه: 10] اى رأيت نارا واطمأننت بها؛ والاظهر أن الناس مأخوذ من النسيان او النسيئ لاستعماله فى الاغلب فى مقام مناسب لهما وان الانسان من الانس لذلك، وقيل ان اللام فى الناس عوض عن المحذوف وهو بعيد والجار والمجرور مبتدأ اما لقيامه مقام الموصوف المحذوف المقدر او لنيابته عنه لقوة معنى البعضية فيه حتى قيل: انه بنفسه مبتدأ من دون قيام مقام الغير وتقدير ونيابة والمعنى بعض الناس. او خبر مقدم، { من يقول } بألسنتهم من دون موافقة قلوبهم { آمنا بالله } او بعلى (ع) الذى هو مظهر الآلهة على ما ورد من التفسير بالايمان بالولاية { وباليوم الآخر } يعنى بالمبدء والمعاد كأنهم اشاروا بتكرار الجار الى ان ايمانهم بكل مأخوذ عن برهان لا ان الايمان باليوم الآخر مأخوذ من الايمان بالله من دون تحقيق وبرهان عليه.
واعلم ان العوالم باعتبار كلياتها سبعة ومراتب كل عالم عشرة ودرجات كل مرتبة عشرة الى مئة الى ما شاء الله وبسبب هذه الاعتبارات اختلف الاخبار فى تحديد العوالم وبطون الآيات بالسبعة والسبعين والسبعمائة الى سبعين الفا الى ما شاء الله، واذا لوحظ المراتب من البدء الاول الى آخر العوالم كان كل مرتبة بالنسبة الى سابقتها ليلة لقوة الظلمة الحاصلة من تنزلات الوجود وكثرة التعيتات، واذا لوحظت من المنتهى الى المبدء كان كل مرتبة بالنسبة الى سابقتها يوما لقوة النور وضعف الظلمة بالنسبة الى سابقتها، ولهذا ذكر اليوم فى الآيات والاخبار عند ذكر العروج والصعود والانتهاء والخروج، وذكر الليلة عند ذكر النزول، والمراد باليوم الآخر اما يوم حشر الخلائق للحساب، او يوم قيام كل صنف فى مقامهم الذى لا خروج لهم عنه.
{ وما هم بمؤمنين } كان المناسب لرد قولهم: { آمنا بالله واليوم الآخر } ان يقول تعالى شأنه: لم يؤمنوا بالله واليوم الآخر نفيا لما ادعوه من حصول الايمان فى الزمن الماضى لكنه عدل الى الاسمية مطلقة عن التقيد بالزمان والمتعلق اشعارا بنفى الايمان عنهم فطرة وتكليفا ماضيا ومستقبلا متعلقا بشيئ من الاشياء فانه كما ان اسمية الجملة تكون لتأكيد الايجاب تكون لتأكيد النفى، ونفى المطلق يكون لاطلاق النفى الا ان يقيد المطلق بالاطلاق فان النفى الوارد عليه حينئذ قد يكون لنفى الاطلاق.
[2.9]
{ يخادعون الله والذين آمنوا } الخداع والمخادعة والخدع بفتح الفاء وبكسرها مصادر، والخديعة اسم للمصدر والخدع ان تظهر الاحسان وتبطن الاساءة او تظهر الموافقة مع ابطان المخالفة، او تظهر الاعراض مع ابطان التعرض، والخداع مصدر خادع بمعنى خدع او للمشاركة او للمبالغة فانهم باظهارهم الايمان يظهرون الموافقة مع ابطانهم المخالفة والله تعالى بامهالهم فى الخديعة والانعام عليهم كأنه يريهم الاعراض والاحسان مع انه يخفى التعرض والاساءة والرسول والمؤمنون بمداراتهم معهم يظهرون الموافقة مع علمهم بالمخالفة منهم باطنا وابطانهم المخالفة وكأنهم يغالبون الله والرسول والمؤمنين فى الخديعة، و المراد بالله واجد الوجود او الرسول (ص) او على (ع) لان آلهيته تعالى شأنه ظهرت بهما { وما يخدعون } قرء يخدعون بالبناء للفاعل والمفعول ويخادعون كذلك ويخدعون من التفعيل ويخدعون من الافتعال { إلا أنفسهم } فانهم بمخادعة الرسول والمؤمنين يضرون بأنفسهم ويحسبون أنهم يحسنون صنعا لأنهم ينزلون أنفسهم عن مقاماتهم الانسانية المقتضية للصدق والمحبة والانس الى الشيطانية المقتضية للكذب والبغض والتوحش ويقطعون عما يجب ان يوصل ويصلون الى ما يجب ان يقطع منه من الرسول والشيطان، والنفس تطلق على ذات الشيء وعلى النفس الانسانية التى هى النفس الحيوانية المستضيئة بنور العقل؛ ويجوز ارادتهما من الانفس هاهنا، وعلى النفس الحيوانية، وعلى النفس النباتية، وعلى الدم لمناسبة ما بين تلك الانفس والدم، وعلى مراتب النفس الانسانية من الأمارة واللوامة والمطمئنة، واما تفسيرها بالامام فى أمثال:
" من عرف نفسه فقد عرف ربه، وأعرفكم بنفسه أعرفكم بربه "
، واعرف نفسك تعرف ربك؛ فانما هو لكون الامام ذات كل شيئ ولا سيما ذات من بايع معه وقبل ولايته { وما يشعرون } ما يعلمون او يتفطنون او يحسون بالمدارك وكأنه اراد به احد المعنيين الاخيرين حتى يكون مع ما يأتى من قوله ولكن لا يعلمون تأسيسا، وكثيرا ما يستعمل الشعور فى الالتفات الى المدرك، والمقصود ان خداعهم لأنفسهم من كثرة ظهوره كأنه محسوس بالحواس الظاهرة، وعدم ادراكهم له مع ظهوره من عدم التفاتهم وشعورهم مثل من يقع ابصاره على المرئى لكن لشدة اشتغال النفس بامر آخر لا يشعر بادراكه ولم يأت هاهنا باداة الاستدراك كما أتى بها فيما بعد من قوله ولكن لا يشعرون وقوله { ولكن لا يعلمون } لانه تعالى جرى فى مخاطباته على طريقة المخاطبات الانسانية والاغلب ان المتكلم فى اول ذكر ذمائم المذموم لا يكون غضبه شديدا فلا يناسبه البسط والتأكيد والتغليظ ولذا لم يؤكد الكلام السابق عليه بخلاف ما يأتى، والمخاطب فى اول الكلام يكون خالى الذهن عن الرد والشك والقبول وعن توهم الخلاف والوفاق فلا يناسبه التأكيد واداة الاستدراك أيضا.
[2.10]
{ في قلوبهم مرض } مستأنفة جوابا عما ينبغى ان يسأل عنه من حالهم او من علة مخادعة الله او علة عدم الشعور او مستأنفة للدعاء عليهم او حال من فاعل الفعل الاول او الثانى او الثالث، والمرض علة فى الحيوان لا تلائم مزاجه الطبيعى واهل الحس خصصوه بما فى بدن الحيوان ولا اختصاص له به بل يعمه وما فى نفسه من الاعراض الغير الملائمة لمزاجها الالهى لان كل ما يخرج نفس الانسان عما هى عليه بحسب التكوين والتكليف فهو مرضها وقد مضى ان للقلب اطلاقات عديدة والمراد بالقلوب هنا اما القلوب الصنوبرية الجسمانية فانها لشدة غيظهم وحقنهم دمائها فى شدة الغليان او من شدة خوفهم دمائها فى عدم الغليان وكلاهما غير ملائم لمزاجها او القلوب المعنوية وامراضها بجملة الرذائل الشيطانية.
{ فزادهم الله مرضا } دعاء او اخبار، وازدياد مرضها بازدياد بعدها عن الخصائل وتمكنها فى الرذائل { ولهم عذاب } دعاء او اخبار { أليم } صيغة مبالغة من الم اذا وجع، وتوصيف العذاب بالاليم مجازا للمبالغة فى شدته كأن العذاب من شدته متعذب بنفسه، ويجوز ان يراد معنى المولم مثل ارادة المطهر من الطهور لان المبالغة فى مثله تقتضى التعدى الى الغير وهذا أبلغ من الاول لانه يفيد تألم العذاب بحيث يقتضى تألمه الم الغير بتألمه { بما كانوا } بكونهم او بشيئ او بالذى كانوا { يكذبون } قرئ بالتخفيف وبالتشديد من كذبه اذا نسبه الى الكذب او من كذب اللازم للمبالغة او التكثير والكذب كالصدق يستعمل كثيرا فى الاقوال لكن لا اختصاص له بها بل كل فعل او حال او خلق او شأن يصدر من الانسان يكون مطابقا لما يقتضيه حقيقة الانسانية فهو صدق، وكلما لم يكن كذلك فهو كذب.
[2.11]
{ وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض } عطف على " يكذبون " او على " فى قلوبهم مرض " او على " يخادعون الله " او " يقول آمنا بالله " والافساد تغيير الشيئ عما هو عليه او منعه عن كمال يقتضيه والمراد بالارض اعم من ارض العالم الكبير او الصغير والخروج عن طاعة العقل والامام افساد فى العالم الصغير ويؤدى الى الافساد فى الكبير والى الافساد الكبير الذى هو الاستهزاء بالامام وقتله، وما نسب الى سلمان رضى الله عنه: ان اهل هذه الآية لم يأتوا بعد؛ يدل على ان الآية نزلت فى منافقى الامة بعد النبى (ص).
{ قالوا إنما نحن مصلحون } فان منكرى التوحيد او الرسالة او الولاية يظنون الخير والصلاح فى فعلهم لا الشر والفساد فان كل ذى شعور يقصد بفعله خيره وصلاحه كما نسب الى بعض الصحابة انه علل منع خلافة على (ع) بأنه قليل السن كثير المزاح.
ولما زعموا انهم مصلحون فى فعلهم وسمعوا نسبة الافساد اليهم نسبوا الاصلاح الى انفسهم بطريق قصر شؤنهم عليه مؤكدا باسمية الجملة وان وافادة الحصر.
[2.12]
{ ألا إنهم هم المفسدون } قابل انكارهم المؤكد باسناد الافساد اليهم مؤكدا باداة الاستفتاح وان واسمية الجملة وضمير الفصل وافادة الحصر وأتى فى مقابلة حصرهم شؤنهم فى الاصلاح بحصر شؤنهم فى الافساد { ولكن لا يشعرون } اتى هاهنا باداة الاستدراك لاقتضاء المقام استدراك توهم الخلاف والبسط فى الكلام كما مضى آنفا.
[2.13]
{ وإذا قيل لهم آمنوا } لما كان القائل هو الرسول او المؤمنين اشار تعالى شأنه الى أن الناصح لهم جمع بين وصفى التحذير والترغيب والانذار والتبشير وانهم ردوا عليه كلا شقى نصحه والمراد بالايمان الايمان بالرسول (ص) بالبيعة العامة مع تواطؤ القلب واللسان او الايمان بعلى (ع) { كمآ آمن الناس } بالبيعة مع محمد (ص) او على (ع) مع تواطؤ القلب والعزم على الوفاء بما أخذ عليهم من الشروط والمواثيق ويجوز ان يراد بالايمان فى قولهم " آمنا بالله " الاذعان او التصديق وان يراد به هاهنا ايضا ذلك لكن الايمان اذا اطلق فى الكتاب والسنة يراد به البيعة العامة او الخاصة او ما بعد التوبة من أجزاء البيعة او الحالة الحاصلة بالبيعة واما محض الاقرار بالتوحيد والرسالة فلم يكن يسمى بالايمان حالة حياة الرسول (ص) وما نقل فى تفسير الامام يدل على أن المراد به البيعة مع على (ع). { قالوا } مع نظرائهم من المنافقين لا مع المؤمنين والناصحين فانهم لمخادعتهم للمؤمنين واخفاء حالهم عنهم لا يكاشفون بمثل هذا الجواب معهم { أنؤمن } انكارا لصدور مثل ايمان المؤمنين الذين هم سفهاء بظنهم عن مثلهم { كمآ آمن السفهآء } السفيه غير الرشيد وهو المحجور عليه الذى يحتاج الى القيم، ويطلق على خفيف العقل الذى لا يكون افعاله على ما ينبغى ولا يكون مبذرا ولا منميا لما له كما ينبغى، ويطلق على من لا يعرف الحق ولا ينقاد تحت حكم حاكم الهى، وكثيرا ما يستعمل فى الآيات والاخبار بهذا المعنى، ولما رأوا المؤمنين على حالة لا يرتضيها عقولهم الشيطانية مع انقيادهم ظاهرا وباطنا لمحمد (ص) او على (ع) وعدم قدرتهما بزعمهم على محافظة اتباعهما من اعدائهم سموهم سفهاء ، ولما كان اتباع المؤمنين وانقيادهم لخليفة الله هو مقتضى العقل ومقتضى معرفة الحق وخروج المنافقين عن الانقياد والخديعة مع العباد خروجا عن مقتضى العقل السليم وعن مقتضى معرفة الحق حصر تعالى شأنه السفاهة فيهم مؤكدا بالتأكيدات العديدة حصر قلب ليفيد نفيها عمن نسبوها اليهم فقال { ألا إنهم هم السفهآء ولكن لا يعلمون } قد مضى وجه الاتيان بأدوات التأكيد واداة الاستدراك.
[2.14]
{ وإذا لقوا الذين آمنوا } كانت الفقرتان الاوليان لبيان حالهم فى أنفسهم وأنهم باعجابهم بأنفسهم وارتضائهم لافعالهم لا يسمعون نصح الناصح وهاتان لبيان حالهم مع المؤمنين والكفار وبيان خديعتهم للمؤمنين { قالوا آمنا } بالجملة الفعلية الخالية عن المؤكدات لايهام ان ايمانهم لا ينبغى ان ينكر او يشكك فيه ولعدم مساعدة قلوبهم على المبالغة والتأكيد { وإذا خلوا إلى شياطينهم } جمع الشيطان والشيطان معروف، وتسمية الانسان شيطانا اما لصيرورته مظهرا للشيطان ومسخرا تحت حكمه، او للمشاكلة والمشابهة، او لكون الانسان احد مصاديقه باعتبار معناه اللغوى فانه مشتق من شطن اذا بعد لبعد شياطين الجن والانس عن الخير، او من الشطن بمعنى الحبل الطويل المضطرب، او من شاط اذا بطل لبطلانهم فى ذواتهم فعلى هذا كان نونه زائدة { قالوا إنا معكم } فى الدين والاعتقاد اكدوا الحكم لتوهم انكاره او الشك فيه من شياطينهم لمخالطتهم مع المؤمنين ولنشاطهم فى اظهاره فان نشاط المتكلم فى الحكم يدعوه الى المبالغة والتأكيد، ولهذا لم يكتفوا بهذا القدر وبسطوا فى الكلام وقالوا مؤكدين بتأكيدات قاصرين شأنهم قصر القلب او الافراد { إنما نحن مستهزئون } الاستهزاء معروف وان كان بحسب حال المستهزء والمستهزء به من حيث الاستهزاء محتاجا الى شرح وتفصيل وكيف كان فالاستهزاء المنسوب الى الله كان مجازا.
[2.15]
معنى قوله تعالى { الله يستهزىء بهم } يجازيهم جزاء استهزائهم او يهينهم او يفعل بهم ما يشابه الاستهزاء، او الاتيان بالاستهزاء من باب صنعة المشاكلة ولم يأت بأداة العطف لعدم المناسبة بينه وبين ما قبله فالجملة اما مستأنفة جوابا عن سؤال مقدر او دعاء عليهم ويحتمل ان تكون حالا عن فاعل قالوا ولم يقل : الله مستهزئ بهم، ليكون المقابلة اتم لان نشاطهم فى الاخبار بالاستهزاء كما يقتضى ان يبالغوا فى تأكيد الحكم يقتضى ان يخبروا ان الاستهزاء بالمؤمنين صار سجية لهم او كالسجية فى الثبات والاستمرار بخلاف اخبار الله بالاستهزاء بهم فانه ليس فى اخباره نشاط له تعالى وليس استهزاؤه باى معنى كان من صفاته الثابتة له بالذات فضلا عن ان يكون التى هى عين الذات بل هو من شعب القهر الثابت له بالعرض ولا يكون الا فى عالم الطبع وما دونه من عالم الارواح الخبيثة، والتجدد ذاتى لعالم الطبع وكلما فيه فهو متجدد بتجدده وفى اخباره تعالى بتجديد الهوان اخبار بتشديد الهوان { ويمدهم } من المدد او المداى يمد قواهم ويقويها ويزيد فيها، او يمد لهم فى عمرهم وامهالهم وهذا بيان للاستهزاء بهم { في طغيانهم } ظرف لغو متعلق بما قبله او بما بعده او مستقر حالا او مستأنفا بتقدير مبتدأ جوابا لسؤال مقدر والطغيان تجاوز الشيئ عن حده اى شيئ كان وحد الانسان انقياده تحت حكم العقل الذى يبينه نبى وقته فمن تجاوز عن هذا الحد كان طاغيا { يعمهون } يتحيرون، والعمه هو التحير فى الآراء فان نسبته الى البصيرة كنسبة العمى الى البصر وهو حال او مستأنف.
[2.16]
بيان اشتراء الضلالة بالهدى
{ أولئك } المحضرون بالاوصاف المذمومة المهانون غاية الهوان { الذين اشتروا الضلالة بالهدى } الضلال والضلالة مصدرا ضل الانسان اذا فقد الطريق، وضل المال اذا فقد ولم يدر صاحبه اين هو، والهدى الدلالة والرشد والبيان يذكر ويؤنث والمراد به هنا الاهتداء الى الطريق المستقيم الانسانى على ان يكون مصدرا مبنيا للمفعول، او هداية الله لهم الى الطريق المستقيم الانسانى على ان يكون مبنيا للفاعل، " والشرا " مقصورا وممدودا من الاضداد يطلق على البيع والشراء، والاشتراء خاص بالمشترى فى العرف العام كالبيع للبائع.
واعلم ان الانسان ذا شؤن كثيرة بحسب طرقه الى دار الاشقياء وطريقه الى دار السعداء وشؤنه التى له بحسب كونه على طريق السعداء ذاتية له فكأن الله ملكه اياها والشؤن التى له بحسب كونه على طريق الاشقياء عرضية له كأنها مملوكة لغيره وان الاوصاف التى هى فى هذا العالم أعراض قائمة بغيرها لها حقائق قائمة بذواتها فى عالم آخر فان الضلالة التى هى وصف اعتبارى اضافى لها حقيقة متجوهرة فى عالم النفس وهى من شؤنها ومراتبها وكذلك الهداية اذا تمهد هذا فنقول: لما كان الاشتراء أخذ مال الغير بثمن مملوك للمشترى فان لم يعتبر فيه قيد آخر كما هو الحق فالشراء على حقيقته وان اعتبر كون المبيع والثمن من الاعراض الدنيوية وكون الاشتراء بصيغة مخصوصة كان الاشتراء استعارة وكان قوله { فما ربحت تجارتهم } ترشيحا للاستعارة ونسبة الربح الى التجارة مجاز عقلى والربح هو الفضل على رأس المال فى المعاملة كما ان الخسران هو نقصان رأس المال، ونفى الربح اعم من بقاء رأس المال ونقصانه واتلافه رأسا كما ان الخسران أعم من نقصان رأس المال واتلافه { وما كانوا مهتدين } من قبيل عطف الاقوى على الاضعف والمعنى بل ما كانوا مهتدين اى اتلفوا بضاعتهم رأسا فانه تعالى جعل الهدى بضاعتهم ولذا جعله فى الاشتراء ثمنا او من قبيل عطف العلة على المعلول اى ما ربحوا لانهم لم يهتدوا الى طرق التجارة والمرابحة او المعنى اشتروا الضلالة بالهدى لانهم ما كانوا مالكين للهدى فان الهدى كان عارية لهم سواء أريد بالهدى الاستضاءة بنور الاسلام بالبيعة مع محمد (ص) او شؤن النفس المستضيئة بنور الاسلام او الشؤن المستعدة للاستضاءة بنور الاسلام او الايمان، او من قبيل عطف الجمع اى ما ربحوا ما صاروا مهتدين الى طريق النجاة.
[2.17]
{ مثلهم } فى قبول نور الاسلام والاستضاءة به { كمثل الذي استوقد نارا } المثل بالتحريك والمثل بالكسر والاسكان والمثيل كالشبه والشبه والشبيه لفظا ومعنى لكن استعمال المثل بالتحريك فى التشبيه المركب اكثر ولذا صار اسما للقول السائر فى العرف العام والموصول كالمعرف باللام قد يكون لتعريف الجنس وحينئذ يجوز ان يجرى على مفرده حكم الافراد والجمع كما هنا فانه أفرد بعض الضمائر الراجعة اليه وجمع بعضها وكما فى قوله تعالى
وخضتم كالذى خاضوا
على ان يكون الفاعل عائدا لموصول ولم يأت بالعاطف هنا مع أنه متفرع على اشتراء الضلالة مثل الجملتين السابقتين وجعله مستأنفا لجواب سؤال مقدر تجديدا لنشاط السامع بتغيير الاسلوب ويحتمل ان يكون حالا { فلمآ أضاءت ما حوله } أضائت متعد مسند الى ضمير النار او لازم مسند الى ما باعتبار كونه بمعنى الاماكن والاشياء التى حوله، او لازم مسند الى ضمير النار وما حوله بدل عنه بدل الاشتمال { ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات } وحد النور وجمع الظلمة للاشارة الى وحدة حقيقة النور وان الوحدة ذاتية للنور ولغيره بعرض النور، وللاشارة الى كثرة الظلمة وان الكثرة ذاتية لها ولغيرها عرضية، وسيأتى تحقيق لهذا فى اول سورة الانعام ان شاء الله والمراد بالظلمات فى الممثل له ظلمات شؤن النفس المتراكمة فان الانسان كلما ازداد بعدا من نور الاسلام ازداد توغلا فى شؤن النفس المظلمة، وتعريف النور بالاضافة وتنكير الظلمات لما سبق من كون النور ذاتيا للانسان والظلمة عرضية { لا يبصرون } حال او صفة بحذف العائد او مستأنف او مفعول ثان لترك اذا جعل بمعنى صير، او مفعول بعد مفعول اذا جعل فى ظلمات مفعولا ثانيا وترك المفعول لترك القصد اليه كان الفعل جعل لازما او لقصد التعميم فى المفعول.
[2.18]
{ صم بكم عمي } قد علمت فيما مضى ان السمع والبصر لكل منهما قوة الى الخارج وقوتان من جهة الباطن الى عالم الملائكة وعالم الجنة وقوتهما الى عالم الملائكة ذاتية وقوتهما الى عالم الجنة عرضية وختمهما عبارة عن سد قوتهما الى عالم الملائكة، والصمم والعمى عبارة عن سد القوتين اللتين هما الى عالم الملائكة بحيث لا يسمع من المسموعات جهتها الحقانية التى تؤدى الى عالم الملائكة ولا يسمع من عالم الملائكة ولا من الملك الزاجر ولا يبصر من المبصرات جهتها الحقانية وبعبارة أخرى مدارك الانسان مسخرة تحت حكم الخيال فان كان الخيال مسخرا تحت حكم العاقلة كان ادراكها من الجهة المطلوبة من ادراكها وان كان مسخرا تحت حكم الشيطان لم يكن ادراكها من الجهة المطلوبة منها وهكذا حكم اللسان { فهم لا يرجعون } عن دار الضلالة الى دار الهدى لعدم سماعهم نداء المنادى لهم الى دار الهدى والى طريق النجاة ولاصداء الغيلان فى دار الضلالة حتى يستوحشوا ولعدم ابصارهم مؤذيات دار الضلالة ولا ملذات دار السعادة ولا طريق الخروج منها الى دار السعادة ولعدم نطق لهم يستغيثون به بغيرهم ويذكرون مالهم من الآلام حتى يرحموا والمقصود من التمثيل الذى كثر فى كلام الله وكلام خلفائه بيان الاحوال الباطنة لاهل الانظار الحسية بالاحوال الظاهرة ولذلك قد يذكر المثل قبل اداة التشبيه وبعدها وقد يذكر نفس الاحوال كما فى قوله تعالى { أو كصيب من السمآء }.
[2.19]
{ أو كصيب من السمآء } اى حال المنافقين فى قرع الكلمات المهددة المندرجة فيها الرحمة المستنيرة بنورها القلوب اسماعهم كصيب اى مطر او سحاب فهو معطوف على قوله كمثل الذى استوقد لا على الذى استوقد كما قيل { فيه ظلمات } ظلمة الليل وظلمة تتابع المطر وظلمة تراكم السحاب.
تحقيق الرعد والبرق والسحاب والمطر
{ ورعد وبرق } اعلم ان السحاب والرعد والبرق من جملة كائنات الجو وسبب تكون السحاب تصاعد البخار من الاراضي الرطبة المتسخنه بالشمس او بكونها كبريتية او مالحة سبخة فاذا تصاعد البخار ووصل قبل تحلله واستحالته الى الهواء الى قريب كرة الزمهرير تراكم وصار سحابا حاجبا لما وراءه، والبخار عبارة عن أجزاء رشية مائية مختلطة بأجزاء هوائية وبعد التراكم يجتمع الاجزاء المائية ويستحيل شيئ من الاجزاء الهوائية الى الماء فان لم تنعقد ببرودة الهواء صارت مطرا، وان انعقدت بعد الاجتماع صارت بردا، وان انعقدت قبل الاجتماع التام صارت ثلجا، وقد يتصاعد من الاراضى السبخة والكبريتية دخان مختلط مع البخار، والدخان مركب من الاجزاء الارضية والاجزاء النارية المختلطة بالاجزاء الهوائية، فاذا وصل ذلك البخار الى كرة الزمهرير وتراكم واحتبس الاجزاء الدخانية بين الاجزاء البخارية والحال ان الاجزاء الارضية مائلة بالطبع الى السفل والاجزاء النارية مائلة بالطبع الى العلو فما دام النارية غالبة يتحرك الاجزاء الدخانية من بين السحاب الى العلو بالشدة وان كانت الاجزاء الارضية غالبة تتحرك الى السفل بالشدة وبحركتها الشديدة تخرق السحاب الذى هو أغلظ من الهواء ويحصل من خرقها الصوت الذى يسمى رعدا، فان كان مادة الدخان لطيفة يشتعل بتسخين الحركة وسخونة الاجزاء النارية وينطفى بسرعة ويسمى برقا، وان كانت غليظة يشتعل ولا ينطفى بسرعة بل يبقى حتى يصل الى الارض ويسمى صاعقة، ولا ينافى ما ذكر ما ورد فى الاخبار من ان الرعد أصوات أسواط الملائكة الموكلة على السحاب { يجعلون أصابعهم في آذانهم } حال او صفة او مستأنف جواب لسؤال مقدر كأنه قيل ما حال الناس والضمير راجع الى الناس المستفاد بالملازمة { من الصواعق } من اجل الصواعق جمع الصاعقة { حذر الموت } من خرق صوت الصاعقة اصمختهم او ضمير يجعلون راجع الى المنافقين كأنه سأل سائل عن حال المنافقين الممثل لهم، ويكون الصواعق حينئذ مجازا عن الكلمات التى تقرع أسماعهم مما فيه تهديد ووعيد شديد وهذا أوفق بقوله { والله محيط بالكافرين } اى بهم فوضع الظاهر موضع المضمر اشعارا بذم آخر لهم، هذا على ان يكون ضمير يجعلون راجعا الى المنافقين والجملة حالا من فاعل يجعلون والمعنى لا ينفعهم الحذر اذ لا يمكن الفرار من حكمه.
[2.20]
{ يكاد البرق يخطف أبصارهم } جواب سؤال آخر كأنه قيل، ما حال الممطرين او المنافقين مع البرق، و الخطف الاذهاب بسرعة، او حال مترادفة او متداخلة { كلما أضآء لهم مشوا فيه وإذآ أظلم عليهم قاموا } استئناف آخر وجواب سؤال ثالث او حال مترادفة او متداخلة، واضاء متعد ولازم وكذلك أظلم وان كان متعدية فى غاية القلة والمعنى كلما اضاء الله او البرق ما حولهم او الطريق مشوا فى الضياء او فى ما حولهم او فى الطريق، واذا أظلم الله ما حولهم او اذا أظلم ما حولهم او الطريق او المعنى كلما اضاء ما حولهم او الطريق، واذا أظلم ما حولهم او الطريق، ولما كان الانسان بالفطرة كادحا الى الله والى الخيرات فكلما وجد معينا من عالم النور سعى اليه لا محالة، واذا لم يجد المعين من عالم الخيرات قد يقف وقد يسعى بفطرته ولذلك أتى بالشرطية الاولى كلية وبالثانية مهملة { ولو شآء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم } مفعول شاء محذوف بقرينة الجواب ومثله كثير فى كلامهم لا يذكر المفعول الا قليلا وقد مضى وجه افراد السمع والمعنى لو شاء الله ان يذهب بسمعهم بالصاعقة وببصرهم بوميض البرق، او لو شاء الله ان يذهب بسمعهم حتى لا يسمعوا صوت الرعد والصاعقة، او المعنى لو شاء الله لذهب بسمعهم وابصارهم حتى لا يسمعوا كلمات التهديد والوعيد، ولا يبصروا آيات الله الدالة على حقيته وحقية نبيه على ان يكون الالتفات الى الممثل له ويكون الضمائر راجعة الى المنافقين والجملة عطف على الشرطية السابقة او حال او مستأنفة على تجويز اتيان الواو للاستئناف { إن الله على كل شيء قدير } استئناف لتعليل السابق والشيء من المفاهيم العامة الشاملة للواجب والممكن ولا اختصاص له بالممكن وعلى هذا فعمومه مخصص بما سوى الواجب تعالى، والقدرة فسرت بصحة الفعل والترك وهذا للمتكلمين، ولا يصح تفسير قدرة الله به لانه يلزم منه ان يكون نسبة الافعال اليه تعالى بالامكان والحال ان واجب الوجود بالذات واجب من جميع الجهات كما حقق فى محله، وفسرت بكون الفاعل فى ذاته ان شاء فعل وان لم يشأ لم يفعل؛ وهذا يعم قدرة الواجب والممكن لعدم اقتضاء الشرطية امكان وضع المقدم بل تصح مع ضرورة وضع المقدم وامكانه، ولما انساق ذكر الكتاب الى فرق الناس من المتقين وما هم عليه وما هو لهم، ومن الكفار وما هم عليه وما هو عليهم، ومن المنافقين وما هم عليه وما هو عليهم عقب ذلك بالامر بالعبادة المستعقبة للتقوى المستعقبة لما ذكر للمتقين كأنه نتيجة له وفرع على ذكر الفرق وما لهم وما عليهم وصدر الكلام بالنداء تهييجا لنشاط السامع بلذة المخاطبة اهتماما بشأن العبادة وعدل عن الغيبة الى الخطاب بطريق الالتفات فى الكلام تجديدا لنشاطه فى العبادة فقال:
{ ياأيها الناس اعبدوا ربكم }.
[2.21]
{ ياأيها الناس اعبدوا ربكم } صيروا عبيدا له بالخروج من رقية أنفسكم وأهويتها او افعلوا له فعل العبيد لمواليهم بان لا يكون حركاتكم الا من امره ونهيه او افعلوا صورة ما جعله الله افعال عبيده من الاعمال المقررة فى الشريعة، والرب قد يطلق ويراد به رب الارباب اى الواجب الوجود بالذات وهو المعبود على الاطلاق، وقد يطلق ويراد به الرب المضاف وهو علوية على (ع) فانه ظهور الرب المطلق وعنوانه وما يخبر به عنه فانه تعالى شأنه من غير هذا الظهور والعنوان لا خبر عنه ولا اسم ولا رسم فلا يعبد، واما بعد ظهوره بهذا العنوان فهو يدرك ويخبر عنه ويعبد، وهذا العنوان لكونه ظهورا للرب المطلق ومضافا الى الخلق يسمى بالرب المضاف وقد ورد فى بيان قوله تعالى وكان الكافر على ربه ظهيرا ان المراد به الرب المضاف وهو على (ع) ولا يبعد ان يراد بالرب هنا الرب المضاف ولا ينافيه التوصيف بالخالقية لانه واسطة خلق الخلق كما ورد خلق الله الاشياء بالمشيئة والمشيئة بنفسها، وعلوية على (ع) هى المشيئة، واذا اريد الرب المضاف فالمراد بالعبادة عبادة الطاعة، وقد يطلق الرب ويراد به ما يسمونه ربا من الله والاصنام والكواكب والسلاطين { الذي خلقكم } التوصيف لتعليل الامر لا لتقييد الرب او لتقييد الرب على المعنى الثالث للرب والتعليل جميعا { والذين من قبلكم لعلكم تتقون } استئناف بيانى لبيان علة الامر بالعبادة او علة العبادة او علة الخلق وفى تفسير الامام (ع) اشارة الى تعدد الوجوه وورد فى كثير من الاخبار عنهم للآيات تفاسير مختلفة ونقل عنهم فى بعض الآيات وجوه عديدة وهذا من سعة وجوه القرآن ومن باب صحة الحمل على الكل بحسب المقام المقتضى لكل، وما نقل ان القرآن ذو وجوه فاحملوه على أحسن وجوهه؛ لا ينافى اختلاف التفاسير، فان المقصود من الحمل على أحسن الوجوه الحمل على ما هو أحسن الوجوه بحسب مقام البيان لا الحمل على أحسن الوجوه مطلقا.
[2.22]
{ الذي جعل لكم الأرض فراشا } صفة ثانية والفراش واحد الفرش وهو ما يفترش على الارض للجلوس والاضطجاع عليه ويلزمه الانتفاع به ومطاوعته للانسان ولما كانت الارض منبسطة يمكن الاستقرار والاضطجاع عليها والانتفاع بها أطلق الفراش عليها، وما نقل عن الرضا (ع) من قوله جعلها ملائمة لطبائعكم موافقة لاجسادكم، لم يجعلها شديدة الحمى والحرارة فتحرقكم، ولا شديدة البرودة فتجمدكم، ولا شديدة طيب الريح فتصدع هاماتكم، ولا شديدة النتن فتعطبكم، ولا شديدة اللين كالماء فتغرقكم، ولا شديدة الصلابة فتمتنع عليكم فى دوركم وابنيتكم وقبور موتاكم، ولكن الله تعالى جعل فيها من المتانة ما تنتفعون به وتتماسكون وتتماسك عليها ابدانكم وبنيانكم، وما تنتفعون به لدوركم وقبوركم وكثير من منافعكم فلذلك جعل الارض فراشا؛ يدل على انه (ع) اعتبر فى وجه الشبه جميع لوازم الفراش { والسماء بنآء } سقفا به يحفظكم ويسهل تعيشكم على الارض بتدبيره تعالى وتنظيمه تعالى اسبابه التى بها يحصل تمام ما تحتاجون اليه، { وأنزل من السمآء } من جهة العلو { مآء } بالمطر والبرد والثلج فيستقى به قمم جبالكم وتلالكم كما يستقى به وهادكم وجعله بحيث ينتفع به اراضيكم واشجاركم وزروعكم ولم يجعله قطعة واحدة يفسد ابنيتكم وزروعكم { فأخرج به من الثمرات } جمع الثمرة وهى الفاكهة او مطلق ما يحصل من الزروع والاشجار { رزقا لكم } لفظة من للابتداء او للتبيين او للتبعيض والجار والمجرور حال من رزقا مقدم عليه ورزقا مفعول به او لفظة من للتبعيض والجار والمجرور قائم مقام المفعول به ورزقا حال من الثمرات او بدل من بعض الثمرات بدل الاشتمال، واذا كان الرب الذى خلقكم منعما عليكم بعد خلقكم بهذه النعم ومربيا لكم بهذه التربية من تسبيب الاسباب السماوية والارضية { فلا تجعلوا لله أندادا } فى الوجوب او الآلهة والتربية او العبادة او الطاعة او الاستعانة او الوجود فانه حقيق ان يوحد فى الكل، ووضع الظاهر موضع المضمر للاشارة الى جميع الاضافات اللازمة للربوبية فان الله اسم للذات من حيث جميع الصفات ومن جملة الاضافات التفرد بالآلهة واستحقاق العبادة والاستعانة به حتى يكون كالعلة للنهى، والوجه العام فى تكرار اسمائه تعالى الالتذاذ بها والنشاط فى ذكرها، واقتضاء تمكنها فى النفس ذكرها على اللسان، وتحصيل تمكنها فى النفس بتكرار ذكرها، وتكرار اسماء الله تعالى فى الكتاب المجيد ادل دليل على ان الآتى به لم يكن فى وجوده سوى تذكر معبوده { وأنتم تعلمون } ذوو العلم والشعور ولا يسوى ذو الشعور من لا يقدر على شيئ بمن يقدر على هذه، هذا على ان يكون مفعول تعلمون منسيا، واما اذا قدر المفعول قدرة الله وعدم قدرة الانداد فالمعنى وانتم تعلمون ان الله يقدر على ذلك وان الانداد لا يقدرون على شىء من ذلك.
[2.23]
{ وإن كنتم } عطف باعتبار المعنى يعنى ان كنتم فى ريب من الله ووجوب وجوده ومبدئيته فهذه أوصافه التى لا تنكرونها وان كنتم { في ريب } من الرسالة { مما نزلنا على عبدنا } حتى تجحدوا رسالته وما قاله هو فى التوحيد وخلع الانداد { فأتوا بسورة } السورة من القرآن طائفة من القرآن محدودة مبدوأة ببسم الله الرحمن الرحيم او غير مبدوأة مأخوذة من سور المدينة او من السور بمعنى الرتبة او من السؤر بالهمزة بمعنى البقية والقطعة من الشئ، وقد مضى فى اول الفاتحة تفصيل لبيان السورة { من مثله } من مثل محمد (ص) او من مثل ما نزلنا وهذا أوفق بالتحدى وأبلغ فى ادعاء اعجاز القرآن لانه يدل على انه معجز مطلقا بخلاف الاول فانه يدل على اعجازه من مثل محمد (ص) الذى لم يقرأ ولم يكتب اصلا واطبق بسائر الآيات المتحدى بها وأنسب بقوله { وادعوا } اى للاستعانة او التصديق { شهدآءكم } جمع الشهيد بمعنى الحاضر والمعنى ادعوا من ينبغى ان يحضر للاعانة او بمعنى الناصر او الامام او بمعنى القائم بالشهادة المؤدى لها { من دون الله } لفظ دون بمعنى المكان الدانى من الشيئ وبمعنى تحت نقيض فوق وبمعنى عند ويستعمل من باب الاتساع فى الرتبة مثل، زيد دون عمرو، يعنى مرتبته تحت مرتبة عمرو، وبمعنى غير وهو المراد هنا والظرف مستقر حال من شهدائكم والمعنى ادعوا ناصريكم او من ينبغى ان يحضر ناديكم لاعانتكم او ائمتكم او من يشهد لكم بالمماثلة لاداء الشهادة حين الاتيان، او للاعانة حين الترتيب حال كونهم بعضا ممن هو غير الله.
تحقيق معنى من دون الله
وقد ذكر فى بيان من دون الله فى بعض تفاسير العامة ما لنا الغناء عن ذكره ولما كان اولياء الله من الانبياء واوصيائهم (ع) مظاهر اسماء الله وصفاته بل لا يظهر الله الا بهم كما ورد: بكم عرف الله؛ جاز ان يراد بقوله من دون الله من دون اولياء الله خصوصا على اجراء الآية الشريفة فى منافقى الامة وقد ذكر ان المراد من دون اولياء الله { إن كنتم صادقين } فى ادعاء الريب، او فى انكار التوحيد، او انكار تنزيل القرآن من السماء او فى انكار الرسالة، وانكار الكتاب المنزل عليه وان محمدا (ص) تقوله من تلقاء نفسه او تعلمه من بشر مثله فان العامة اذا ارتابوا فى شئ أنكروه فى الاغلب لانهم ينكرون ما وراء معلومهم فيجوز ان يراد بقوله { إن كنتم في ريب مما نزلنا } معنى قوله ان انكرتم ما نزلنا على عبدنا.
الاشارة الى وجوه اعجاز القرآن
واعلم ان آيات التحدى وان القرآن لا يمكن الاتيان للبشر بمثله
ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا
[الإسراء: 88] كثيرة وقد ورد وشاع فى الالسن ان القرآن هو المعجزة الباقية بعد محمد (ص) وذكروا فى اعجاز القرآن وجوها كثيرة تبلغ بضعة عشر وجها متحيرين غير قاطعين والترديد فى وجه اعجاز القرآن دليل على عدم ادراك وجه اعجازه، وما ورد فى الاخبار من ان اعجازه بفصاحته وبلاغته لا يدركه الا اهل اللسان البارع فى الفصاحة وقد ورد فى الكتاب الكريم ان فيه تبيان كل شيئ وهذا وجه لا يدركه الا أهله، وكذا ما ورد ان به تسيير الجبال وتقطيع الارض وتكليم الموتى ليس الا لأهله، وما ورد ان فيه شفاء ورحمة للمؤمنين لا يدركه الا الخواص من المؤمنين، واشير فى الاخبار الى استنباط الوقائع الآتية من أعداد حروفه، واشير ايضا الى ترتب الآثار على اعداد حروفه، وهذا ايضا وجه لا يدركه الا اهل العلوم الغريبة، ولهذا أنكر بعض اعجاز القرآن وتردد بعض فيه ، ومن قال به لم يقل عن تحقيق بل محض التقليد للاسلاف او للآيات والاخبار، ومن حقق اعجازه ببعض الوجوه او بكلها قليل جدا وليس له اظهاره كما لم يظهره الاوائل الا بالاشارة، ولما كان التحدى مع اهل لغة العرب وكانوا مباهين بالخطب والاشعار كان التحدى بفصاحته وقد اعترفوا ببراعته كل كلام وخطاب، ولهذا ورد فى اخبار كثيرة ان التحدى كان بوجه فصاحته.
[2.24]
{ فإن لم تفعلوا } اتى بأداة الشك مع انه تعالى عالم بعدم الاتيان مراعاة لحال المخاطبين لانهم فى اول التحدى كانوا شاكين فى امكان المعارضة وعدمه ولذا اتى بجملة معترضة مخبرة عن نفى الاتيان بالنفى التأبيدى حتى لا يتوهم متوهم امكانه فقال { ولن تفعلوا } وأبدل عن الاتيان المقيد بالسورة من مثله ودعاء الشهداء من دون الله بالفعل الذى يكنى به عن الكل ايجازا وحذرا من التكرار والحذف ونظم الكلام مشتملا على بيان المراد ان يقال ان كنتم فى ريب من القرآن وانه منزل من عند الله، او ان انكرتم القرآن وانه منزل من عند الله وقلتم ان محمدا (ص) تقوله من عند نفسه او تعلمه من بشر مثله فان كنتم صادقين فى دعوى الريب من أنفسكم او فى انكار القرآن واقرار تقوله من عند البشر يجز لكم الاتيان بمثله وخصوصا من الخطباء البلغاء مع تعاون الشهداء، فأتوا لمعارضته وابطال حقيته وابطال دعوى رسالة الآتى به بسورة من مثله
وادعوا شهدائكم من دون الله
، فان المراد بتعليق الجزاء فى مثل مقام التحدى والتعجيز تعليق جواز الجزاء وامكانه حتى يرتفع برفع فعليته امكانه وجوازه، فان لم تقدروا على ان تأتوا بسورة مثله مع تعاون الشهداء واهتمامكم وجهدكم فى معارضته وابطاله تعلموا صدقه، والاعتراض بجملة لن تفعلوا دليل ايضا على ان المراد نفى الامكان والقدرة فلا يرد عليه أن عدم الفعل لعله لعدم الاعتناء بالمعارضة لا لعدم القدرة حتى يستلزم صدق القرآن وصدق الآتى به، واذا علمتم صدق القرآن وصدق الآتى به { فاتقوا النار } فهو من اقامة المسبب مقام الجزاء والمعنى فاتقوا مخالفتهما التى هى سبب لدخول النار فهو أيضا من اقامة المسبب مقام السبب، او فاتقوا بسبب متابعتهما النار { التي وقودها } التوصيف للتهويل وتأكيد التحذير، والوقود بالفتح اسم مصدر لما يوقد به النار وبالضم مصدر، وقيل الوقود بالفتح مصدر وبالضم اسم للمصدر وقرء بالضم فان كان مصدرا كان التقدير سبب وقودها { الناس والحجارة } او وقودها احتراق الناس والحجارة والاول ابلغ فى مقام التهويل لانه يدل على أن نار الآخرة فى الشدة بحيث يكون ما توقد به الناس والحجارة الذين لا يتأثران الا بالنار الموقدة الشديدة، والحجارة جمع الحجر كالجمالة جمع الجمل وهو قليل غير مقاس { أعدت للكافرين } حال بتقدير قد او مستأنف لجواب سؤال عن حالها.
[2.25]
{ وبشر } عطف على الجملة السابقة باعتبار المعنى كأنه قيل أنذر الذين أنكروا القرآن بعد وضوح حجيته بالنار وبشر { الذين آمنوا } اى أقروا بالقرآن وأذعنوا به او آمنوا بالله بالايمان العام او بالايمان الخاص المستلزم كل واحد منهما الاقرار بحقية القرآن او عطف على قوله: { اتقوا النار }؛ فان وضوح حقيته كما يستلزم تهديد منكره يستلزم تبشير مقره كأنه قال فان لم تفعلوا فاتقوا النار { وبشر الذين آمنوا } ، والخطاب خاص بمحمد (ص) او عام لكل من يتأتى منه الخطاب { وعملوا الصالحات } ان كان المراد بالايمان الايمان العام فالمقصود من العمل الصالح الايمان الخاص الذى يحصل بالبيعة الخاصة الولوية وقبول الدعوة الباطنة، وان كان المراد بالايمان الايمان الخاص فالمراد بالعمل الصالح الاتيان بما أخذ عليه فى ميثاقه والوفاء بعهده { أن لهم } بأن لهم { جنات } جمع الجنة وهى البستان { تجري من تحتها الأنهار } من تحت أشجارها، او من تحت عماراتها، او من تحت قطعها، والانهار جمع النهر والنهر فوق الجدول ودون البحر { كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا } الجملة صفة بعد صفة او حال عن الضمير المجرور باللام او عن الجنات او مستأنفة لبيان حالهم وحال ما فى الجنات، والرزق اسم مصدر بمعنى المرزوق وهو أعم مما يستكمل به البدن من الرزق النباتى الذى يدخل من طريق الفم الى المعدة، ومنها الى الكبد، ومنه الى الاوردة، ومنها الى الاعضاء، والرزق النباتى الحقيقى هو الذى يدخل فى خلل الاعضاء بدلا عما يتحلل منها وباقى المراتب السابقة قوالب لهذا الرزق كما ان البساتين محال للاثمار، ومن الرزق الحيوانى الذى يدخل من طريق المدارك الحيوانية الى القلب او من طريق المحركة اليه فان اعضاء السبعية والحيوانية مقتضياتها تؤثر فى القلب اعنى الخيال، وكلما يؤثر فى القلب من الملذات والمؤلمات كما يؤثر فى الروح يؤثر فى البدن، ومما يستكمل به الروح من الرزق الحيوانى ومن الرزق الانسانى الذى هو العلم الباعث على العمل، والعمل المورث للعلم، وقوله تعالى: { منها }؛ ظرف لغو متعلق برزقوا، ولفظ من ابتدائية فان فى رزقوا معنى الاخذ وهو يقتضى الوصول الى المفعول بمن، ومن ثمرة بدل منه بدل الاشتمال وهذا اولى مما قاله الزمخشرى والبيضاوى فى اعرابهما من جعلهما حالين متداخلين من رزقا، ولفظ ثمرة لكونه بعد كلما يقتضى العموم البدلى، ورزق الجنة ليس كالرزق النباتى لعدم الحاجة هناك الى بدل ما يتحلل ولعدم اشتماله على الثفل المحتاج الى الدفع { قالوا هذا الذي رزقنا من قبل } اى فى الدنيا.
اعلم ان كل ما فى الدنيا من السماويات والارضيات صور وأظلال لما فى الآخرة، وما فى الآخرة حقائق لما فى الدنيا فالعناصر ومواليدها والافلاك وكواكبها حقائقها فى الجنة وليس فى الجنة شيئ الا وظلها فى هذا العالم، ولما كان شيئية الشيئ وشخصية الشخص بحقيقته لا بصورته وظله فكلما رأى المؤمنون فى الجنة علموا أنه الذى رأوه فى الدنيا لكنه فى الدنيا مشوب بنقائص المواد وأعدامها وظلماتها وفى الآخرة مصفى عن ذلك فكلما رأوه من الاثمار قالوا: هذا الذى رزقنا من قبل فى الدنيا، ويحتمل ان يكون الكلام على الاستفهام الانكارى التعجبى يعنى بعد ما رأوا الرمانة الاخروية مثلا، متفاوتة مع الرمانة الدنيوية تفاوتا عظيما فى الشكل واللون والطعم ورأوا أنها هى الرمانة التى رأوها فى الدنيا تعجبوا واستغربوا ذلك التفاوت العظيم وأظهروا كونها من جنس الرمانة التى كانت فى الدنيا فى معرض الانكار، ويحتمل ان يكون المراد من قبل هذه المرة فى الجنة فان ثمار الجنة متشابهة فى الصفاء عن الكدورات والاثفال وفى غاية اللطافة واللذة وطيب الرائحة وعدم ثقل الجسد بأكلها ومتوافقة غير مختلفة فى كون بعضها نيا وبعضها نضيجا وبعضها متجاوزا حد النضج وبعضها معيبا كما ان ثمار الدنيا كذلك وبهذا التشابه والتوافق يصح حمل: الذى رزقنا من قبل؛ على هذا بحمل هو هو مثل زيد أسد { وأتوا به } بجنس الرزق او بجنس ثمر الجنة { متشابها } بعض افراده مع بعض وقد مضى وجه التشابه { ولهم فيهآ أزواج } جمع الزوج يستوى فيه الذكر والانثى والجمعية بالنسبة الى المجموع او بالنسبة الى كل فرد { مطهرة } من المادة ونقائصها مما يستقذر من النساء من الاخبثين والدماء ومما يذممن عليه من الرذائل { وهم فيها خالدون } ذكر تعالى من النعم أصولها فى الانظار الحسية وهى المساكن والمطاعم والمناكح وكمالها وهو دوامها فان النعمة وان كانت جليلة لكنها مع خوف الزوال منغصة.
[2.26]
{ إن الله لا يستحيى } الحياء قوة رادعة عن اظهار القبيح ومخجلة حين ظهوره وقد يطلق على اثرها الظاهر منها على الاعضاء كسائر السجايا، والاستحياء للمبالغة لا للطلب او للطلب باعتبار ان المستحيى كأنه يطلب الحياء من نفسه، ونسبة الحياء والاستحياء الى الله تعالى ليس بمعنى نسبته الى الخلق كسائر ما يقتضى انفعالا وتغييرا حين نسبتها الى الخلق وطرفا تفريطه وافراطه الخجل عن ظهور الفعل وعدم الاقتدار على الفعل حين اطلاع الخلق عليه مطلقا حسنا كان الفعل او قبيحا وعدم المبالاة بظهور الفعل حسنا كان او قبيحا { أن يضرب مثلا ما } ان يقرع الاسماع بمثل والمثل امر ظاهر يشبهه امر خفى يذكر لبيان حال ذلك الامر الخفى، وضربه عبارة عن اجرائه وذكره، ولفظة { ما } وصفية ابهامية { بعوضة } وقرئ بعوضة بالرفع وعليها فلفظة ما يحتمل كونها موصولة وموصوفة بحذف صدر الصلة وصدر الصفة واستفهامية { فما فوقها } فى الحقارة او فى الجثة والكبر وهذا رد لانكارهم عليه تعالى التمثيل بالذباب والعنكبوت وغير ذلك لان الجهال يستنكفون من التوجه الى امثال تلك الحقار والله لا يستنكف من التمثيل بها فان الحقير من هذه حقير فى أنظار الجهال لا فى أنظار العقلاء فان ذوات النفوس الحيوانية وان كانت اصغر ما يكون خصوصا ما تم له المدارك الحيوانية، فيها من دقائق الحكم ولطائف الصنع ما لا يحصيها الا الله فان البعوضة من أدرك من دقائق الحكم ولطائف الصنع التى اودعها الله فيها عشرا من أعشارها لا يستنكف من التمثيل بها ولا يستغرب تمثيل الفيل بها، وعن الصادق (ع) انما ضرب الله المثل بالبعوضة لانها على صغر حجمها خلق الله فيها جميع ما خلق الله فى الفيل مع كبره وزيادة عضوين آخرين فأراد الله ان ينبه بذلك المؤمنين على لطيف خلقه وعجيب صنعه، واشار (ع) بقوله: وزيادة عضوين آخرين؛ الى جناحيها ورجليها الزائدتين على الفيل فان للفيل اربع أرجل ولها ست أرجل، ولما جعلوا انكارهم التمثيل بالامثال المذكورة فى الكتاب مشعرا بانكار كونها من الله ودليلا عليه قال تعالى:
{ فأما الذين آمنوا } بالايمان العام او الخاص وأقروا برسالة الرسول ونزول الوحى وتنزيل الكتاب { فيعلمون أنه } اى المثل المضروب { الحق } يعنى يعلمون ان المثل حق لا باطل يعنى منزل من الله لا مختلق من النفس ولذا أتى بقوله { من ربهم } للبيان خبرا بعد خبر او حالا او ظرفا لغوا متعلقا بالحق { وأما الذين كفروا فيقولون ماذآ أراد الله } الاستفهام ونسبة الارادة الى الله تعالى للاستهزاء والتهكم وكان المناسب للقرين السابق ان يقول واما الذين كفروا فلا يعلمون انه الحق لكنه عدل الى هذا لافادة هذا المعنى مع شيئ زائد وهو التهكم والاستهزاء { بهذا مثلا } تميز من هذا او حال منه او حال من محذوف اى نذكر هذا حال كونه مثلا والا فالمقصود ماذا اراد بجملة الامثال وجملة القرآن { يضل به كثيرا } جمعا كثيرا او اضلالا كثيرا جواب من الله لاستفهامهم تعليما لنبيه (ص) ان يجيبهم بمثله او مقول قولهم حالا او مستأنفا وحينئذ فقوله تعالى { ويهدي به كثيرا } اما من قولهم او من قول الله كأنهم قالوا: ماذا أراد الله بهذا حال كونه يضل به كثيرا من الناس وان كان يهدى به كثيرا، او قال الله عطفا على قولهم للرد عليهم ويهدى به كثيرا { وما يضل به إلا الفاسقين } يعنى فيه هداية اناسى كثيرين وليس اضلاله الا لمن لا رجاء خير فيه فخيره كثير وضره لا يعبأ به.
[2.27]
{ الذين ينقضون عهد الله } تابع للفاسقين صفة او بدل او عطف بيان او مبتدأ خبره اولئك هم الخاسرون، ونقض الحبل فسخ فتل طاقاته، واستعماله فى العهد لتشبيه العهد بالحبل وكلما ذكر عقد او عهد فى الكتاب مطلقا كان او مقيدا عاما او خاصا فالمراد به اولا وبالذات هو الذى يكون فى البيعة العامة او الخاصة وثانيا وبالتبع كل عهد وعقد والمراد بهم الذين ينقضون عهد الله المأخوذ عليهم بالبيعة مع محمد (ص) { من بعد ميثاقه } وهم الذين نكثوا بعد محمد (ص) ولذا أتى بالفعل مستقبلا او المراد هم الذين نقضوا عهد الله المأخوذ عليهم من بعد ميثاقه والبيعة مع محمد (ص) وخلفائه واوصيائه (ع) والميثاق اما اسم آلة بمعنى ما به الوثوق والاحكام، او مصدر بمعنى الاحكام والحاصل ان المراد بالذين ينقضون منافقوا الامة الذين بايعوا مع محمد (ص) ثم نقضوا عهدهم الذى عاهدوه باطاعته فى جميع اوامره ونواهيه.
بيان قطع ما امر الله به ان يوصل
{ ويقطعون مآ أمر الله به أن يوصل } بدل من ما، او من الضمير المجرور، والقطع اما بمعنى الترك والمهاجرة فان قوله (ع)
" صل من قطعك "
بمعنى من هاجرك وتركك والمعنى يتركون ما أمر الله بوصله واصل ما أمر الله بوصله الولاية التكليفية التى هى ظهور الولاية التكوينية وسائر الاعمال الشرعية القالبية والاعمال القلبية والقرابات الروحانية والجسمانية من شعبها واصل الكل على (ع) او القطع بمعنى قطع الحبل اى فصل كل من طرفيه عن الآخر وجعله حبلين والمعنى يقطعون حبلا بينهم وبين الله او بينهم وبين الاقرباء من امر الله بوصله من الولاية وشعبها ومن القرارات الروحانية والقرارات الجسمانية، ويجوز ان يراد انهم يقطعون الاعمال البدنية عن الارواح التى هى الاذكار القلبية والافكار الصدرية والنيات الالهية وقد امر الله بوصل الاعمال سواء كانت عبادات او مرمات للمعاش الى الاذكار والافكار.
تحقيق الافساد فى الارض
{ ويفسدون في الأرض } من قبيل عطف المسبب على السبب فان الافساد فى الارض عبارة عن افناء مواليدها او افناء كمالاتها او منعها عن البلوغ الى كمالاتها المترقية لها او تحريف كلماتها التكوينية او التدوينية عن مواضعها والقاطع عن الولاية مفن لاستعدادات قواه العلامة والعمالة للسلوك الى الآخرة ومهلك لما تولد بالعناية الالهية من بذر الآخرة وزرعها ونسلها فى ارض عالمه الصغير وكذا فى ارض العالم الكبير اذ الفاسد يفسد ما يجاوره على ان الافساد فى ارض العالم الصغير افساد فى العالم الكبير، وكذا فى أراضى الكتب السماوية والشرائع الالهية لانه كما يحرف كلمات عالمه الصغير وكذا كلمات العالم الكبير عن مواضعها يحرف كلمات الكتب السماوية والشرائع الالهية. { أولئك هم الخاسرون } الذين أهلكوا بضاعتهم التى هى لطيفتهم السيارة الانسانية واستعدادها للعروج الى عالمها، والاتيان باسم الاشارة البعيدة وضمير الفصل وتعريف المسند للاهانة واستحضارهم بالصفات المذكورة والتأكيد والحصر كأنه لا خسران الا فى قطع الولاية.
[2.28]
{ كيف تكفرون بالله } بعد ما ذكر حال المنافقين وأنهم كفروا بنقضهم العهد ثم قطعوا وأفسدوا التفت اليهم فقال على سبيل التعجب والانكار: على أى حال تكفرون يعنى لا ينبغى لكم الكفر بحال من الاحوال فلا ينبغى لكم الكفر اصلا بالله بنقض عهده المأخوذ عليكم من بعد ميثاقه وهذا أوفق بما قبله، ويحتمل ان يكون الخطاب لمطلق الكفار والمؤمنين، ويحتمل ان يكون الخطاب للمؤمنين خاصة { وكنتم أمواتا } حال عن الفاعل او المجرور اما بتقدير قد لتصحيح وقوع الماضى حالا، او لأن الحال فى الحقيقة علمهم بمضمون تلك الجمل المتعاقبة لان انكار الكفر والتعجب منه معلل بعلمهم بذلك كأنه قال وأنتم عالمون بتلك الاحوال، والموت عدم الحياة عما من شأنه ان يكون حيا، وللحياة بالاضافة الى كل شيئ معنى بحسبه؛ فان حياة الأرض باخراج نباته والنبات باخراج اوراقه وحبوبه واثماره، والحيوان بنفخ الروح التى بها الاحساس والحركة، وحياة الانسان بنفخ الروح التى بها انعقاد عيسى القلب فى رحم مريم النفس، وبدون هذا النفخ لا يصدق العلم على الانسان ولا الحياة، وقد نسب الى امير المؤمنين (ع): الناس موتى وأهل العلم أحياء، والمراد بالموت ان كان الخطاب للمؤمنين معنى يشمل الاحوال التى قبل الحياة الانسانية من كون الانسان عنصرا وغذاء ونطفة وعلقة ومضغة وجنينا وانسانا صوريا، وان كان الخطاب للكفار فالمراد بالموت الاحوال التى قبل الحياة الحيوانية وحمل الاموات على المخاطبين مع ان الموت صفة المادة بالذات للاتحاد بين المادة والصورة فانهما اذا أخذتا لا بشرط كانتا جنسا وفصلا محمولين على ان الصورة الانسانية فى مقامها العالى غير المادة، واما فى مقامها الدانى فهى متحدة معها بحيث ظنوا ان الانسان هو البدن وان الروح جسم سار فى البدن كسريان الماء فى الورد، وقد رأيت فى مؤلفات بعض: ان من قال بتجرد النفس الناطقة فهو فاسق.
تحقيق تكرار الاحياء والاماتة للانسان
{ فأحياكم } بالحياة الحيوانية او الانسانية { ثم يميتكم } عن الحياة الحيوانية الدنيوية او الانسانية الدنيوية فان الانسان بنفخة الاماتة يموت عن كل ما له من المدارك والقوى ما لم يقم عليه القيامة الكبرى { ثم يحييكم } بالحياة الأخروية الملكية بنفخة الاحياء فى البرازخ الى الاعراف { ثم إليه ترجعون } على الطريق الذى هو عن يمين الاعراف او على الطريق الذى هو عن يسارها والرجوع اليه تعالى اما الى مظاهره النورية ودار نعيمه واسمه اللطيف، او الى مظاهره الظلمانية ودار جحيمه واسمه القهار.
اعلم ان الانسان من أول خلقة مادته التى هى النطفة التى استقرت فى الرحم الى آخر استكمال بدنه فى خلع ولبس فى مادته، وكذا من اول تعلق نفسه ببدنه فى خلع ولبس فى نفسه الى بلوغه حد الرجال، وكل خلع منه موت وكل لبس حياة، وهذان الاستكمالان مشهودان للكل، وله بعد ذلك استكمال واستعلاء على مدارج السعادة واستكمال واستنزال فى مهابط الشقاوة، وهذان خلع ولبس بحسب نفسه وموت وحياة فى برازخ الآخرة، وهما وان كانا غير مشهودين للكل لكن العالم يعلم بالمقايسة ان حالاته بعد البلوغ مثل حالاته قبل البلوغ كما قال تعالى شأنه:
ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون
[الواقعة: 62]؛ وكل من خلعاته ولبساته موت وحياة وهذا الخلع واللبس مستمر الى الاعراف سواء مات الانسان بالموت الاختيارى او الاضطرارى وبعد الاعراف له ترقيات وتنزلات ايضا لكن ترقياته حياة على الحياة وتنزلاته موت على الموت، وقد قال المولوى قدس سره مستنبطا من الآية الشريفة مشيرا الى امهات أنواع الموت والحياة فان افراده غير متناهية كما حقق فى محله من ان الحركة القطعية قابلة للقسمة الى غير النهاية.
از جمادى مردم و نامى شدم
وز نما مرجم بحيوان سر زدم
مردم از حيوانى و آدم شدم
بس جه ترسم كى زمردن كم شدم
حمله ديكر بميرم از بشر
تا برآ رم از ملايك بال وبر
وزملك هم بايدم جسنن زجو
كل شيئ هالك الا وجهه
بار ديكر از ملك بران شوم
آنجه اندر وهم نايد آن شوم
فقوله تعالى: { وكنتم أمواتا } اشارة الى تمام الحالات التى قبل الحيوانية او قبل الانسانية ولذا عطف عليه قوله { فأحياكم } بالفاء وهو اشارة الى حدوث الحياة الحيوانية او الانسانية ولذا عطف عليه قوله { ثم يميتكم } بثم، وقوله { ثم يميتكم } اشارة الى حدوث الموت الحيوانى او البشرى ولذا عطف عليه قوله { ثم يحييكم } بثم وهو اشارة الى حدوث الحياة البرزخية ولذا عطف عليه قوله { ثم إليه } ترجعون بثم، وهو اشارة الى ما بعد البرزخ والاعراف ولم يقل ثم يميتكم ثم يحييكم لما ذكر انه فى اهل الخير حياة على الحياة.
[2.29]
تحقيق خلق جميع الاشياء حتى السموم وذوات السموم لنفع الانسان
{ هو الذي خلق } الجملة حال عن سابقتها او مستأنفة ولم يأت باداة الوصل للاشعار بكثرة النعم وانها ينبغى ان تعد كالمعدودات الكثيرة فى معرض التعداد { لكم } اى لايجادكم وخلقكم فان كلما فى الارض تقدمة لخلق الانسان بل كل ما سوى الله مقدمة لخلق الانسان فانه كما حقق فى محله آخر الانواع وآخر الفعل أشرف لانه غايته فهو غاية الغايات ونهاية النهايات بل نقول: لما كان الغرض الزائد على ذات الحق تعالى منفيا عن فعله للزوم استكماله وهو محال كما قرر فى موضعه فجعل الانسان غاية وغرضا دليل على انه ينتهى الى ذات الحق وما انتهى الى ذاته فهو أشرف من كل شريف بعده تعالى، او المعنى لانتفاعكم فى بقائكم فان الانسان فى بقائه محتاج الى اصل العناصر ومواليدها، او المعنى لخلقكم وانتفاعكم فى بقائكم جميعا وما يتراءى من عدم توقف خلقة الانسان او بقائه على اكثر المعادن والنباتات والحيوانات بل التضرر ببعضها كالسموم وذوات السموم خطاء من عدم الاطلاع على كفية الارتباط بين المعلولات فان بعضها أصل ومقصود بالذات، وبعضها علة لخلقة ما هو المقصود او لكماله، وبعضها شرط وبعضها لازم كما هو مشهود فى موجودات ارض العالم الصغير فانه لا اختصاص لقوله تعالى شأنه { ما في الأرض جميعا } بارض العالم الكبير بل نقول كلما ذكر ارض وسماء فالنظر اولا الى العالم الصغير وما لم يعرف فى العالم الصغير لا يعرف فى العالم الكبير لانه نسخة موجزة عن الكبير بمطالعته يمكن مطالعة ما فى الكبير وما فى ارض العالم الصغير اما علة او شرط لحدوث الانسان الحقيقى الذى هو آدم أبو البشر او لبقائه، او علة او شرط لكماله وتجمله، او لازم لحدوثه وبقائه او علة بوجه ولازم بوجه فان الاعضاء الرئيسة يتوقف عليها حدوث الانسان وبعض الاعضاء الآخر شرط لحدوث الاعضاء الرئيسة او لحفظها، وبعضها شرط لبقاء الانسان، وبعضها لتجمله، وبعضها لازم لخلقته، وبعضها شرط بوجه، ولازم بوجه، فان الطحال والمرارة كذوات السموم والمرارة كالسموم وفيها منافع ذكرت فى مقامها، والشعر والظفر مع أنهما اخس الاجزاء ولا حياة لهما لازمان لخلقته وبقائه، ويتوقف عليهما تجمله، واذا اريد بالارض والسماء الارض والسماء اللتان فى العالم الصغير لم يبق اشكال فى عطف قوله تعالى { ثم استوى إلى السمآء } بثم فان خلقة سماوات العالم الصغير من حيث اضافتها الى ارضه بعد تمام ارضه وتمام ما فيها واما فى العالم الكبير فان اريد بالسماء الاجرام العلوية فخلقتها مع خلقة ارضه، وان اريد بالسماء الارواح لعلوية فخلقتها قبل ارضه، وكلما ذكر فى الاخبار مما يدل على تأخر خلق السماء عن الارض فهو منزل على العالم الصغير وعلى تنزيل الآية على العالم الكبير فالعطف بثم لتفاوت الاخبارين والخلقتين والاستواء هاهنا القصد اى قصد خلق السماء { فسواهن } اى خلقهن تامة مصونة عن العوج والفطور وجمع الضمير لكون السماء جنسا فى معنى الجمع او لرعاية الخبر { سبع سماوات } تحقيق عدد السماوات والارضين ومراتب العالم سيجيئ من بعد ان شاء الله { وهو بكل شيء عليم } عطف على قوله هو الذى خلق، او حال عن فاعل خلق، او عطف على كنتم امواتا، او حال عن فاعل احدى الجمل السابقة على قوله هو الذى خلق، وعلى اى تقدير فالمقصود التهديد عن الكفر وتعليل انكاره بأنه عالم بكفركم فيؤاخذكم عليه، وعلمه بالاشياء عين وجود الاشياء فهو علم حضورى كعلمنا بالصور الحاضرة فى نفوسنا فان وجودها علم لنا ومعلوم، وهذا علمه الذى هو مع الاشياء واما علمه بالاشياء الذى هو قبلها فله مراتب، مرتبة منها عين ذاته، ومرتبة عين فعله، ومرتبة عين القلم، ومرتبة عين اللوح المحفوظ، ومرتبة عين لوح المحو والاثبات، وتحقيق علمه فى الحكمة النظرية وليس هاهنا محل تحقيقه وتفصيله.
[2.30]
تحقيق مادة الملك واقسام الملائكة
واذكر { وإذ قال ربك } حتى تعلم ان الكل خلق للانسان او ذكرهم بذلك حتى يعلموا فان فى قصة خلقة آدم وسجود الملائكة له دليلا على أن خلقة الكل لاجله { للملائكة } جمع الملك باعتبار اصله فان اصله مألك من الالوكة بمعنى الرسالة فقلب فصار معفل بتقديم العين ثم حذف الهمزة فصار معل، وقيل: اصله مفعل من لاك يلوك بمعنى ارسل فقلب الواو الفا بعد نقل حركته ثم حذف وقيل اصله فعال من ملك يملك فحذف الالف، والملك على أنواع منها ملائكة ارضيون متعلقون بالماديات سواء كانوا متعلقين بالاجرام السماوية او بالاجرام الارضية؛ ولهم ترقيات وتنزلات والملائكة السجد والركع منهم، وما ورد من سقوط ملك عن مقامه وتنزله عن مرتبته وشفاعة شفيع له هو فى هذا النوع لا فى سائر الانواع فان الملائكة الغير المتعلقة بالماديات كل واحد منهم له مقام معلوم.
وليعلم ان العوالم بوجه ثلاثة؛ اولها عالم الجنة والشياطين وفيه الجحيم ونيرانها وهو محل الاشقياء والمعذبين من بنى آدم وهو تحت عالم الماديات وان كان ذلك العالم مجردا عن المادة، وثانيها عالم الماديات من السماوات والسماويات والارض والارضيات وهذا العالم أضعف العوالم، وثالثها عالم المجردات العلوية وهو عالم الملائكة بمراتبها من السجد والركع وذوى الاجنحة مثنى وثلاث ورباع، والمدبرات أمرا، والصافات صفا، والقيام المهيمنين الذين لا ينظرون، ولاهل عالم الجنة من أنواع الجنة والشياطين قدرة باقدار الله على أنواع الخوارق والتصرف فى عالم الماديات مثل اهل عالم الملائكة من دون فرق، والجنة والشياطين على نوعين، نوع منهم فى غاية البعد والخباثة غير قابلين للهداية، ونوع منهم لهم قرب من عالم الماديات، وبسبب هذا القرب كانوا مستعدين للهداية والايمان ولهم ترقيات وتنزلات، وكذلك الملائكة على نوعين؛ نوع منهم فى غاية البعد عن الماديات وهم المجردات عن الماديات وعن التعلق بها والتدبير لها وهم العقول والارواح، ونوع منهم لهم التعلق والتدبير للماديات وهم الملائكة الموكلة على الارضيات من الاجرام العلوية والسفلية والمأمور بسجدة آدم من حيث فعلية آدميته هو هذا النوع كما فى الاخبار أن المأمورين بسجدة آدم هم ملائكة الارض واعتراض الملائكة المستفاد من الآية والأخبار أيضا من هذا النوع ولمجانسة هذا القسم للجنة كان ابليس مشابها لهم ومشتبها عليهم وعابدا فيهم بل نقل انه كان اماما ومعلما وحاكما لهم ولقومه، وكانوا محاربين للابالسة والجنة طاردين لهم عن وجه الارض سارقين للشيطان رافعين له الى سمائهم، والمأمور بسجدة آدم من حيث مقام الآدمية وان كان هذا النوع من الملائكة لكن المأمور بسجدته من حيث سائر مقاماته بل من حيث مقام علويته المكونة جميع أنواع الملائكة بل جميع الموجودات الامكانية لأن جميع الموجودات واقعة تحت تصرف ارباب أنواعها ومسخرة لها، وجميع أرباب الانواع واقعة تحت تصرف رب النوع الانسانى ومسخرة له، وقد أشير فى الاخبار الى ذلك وان آدم صار مسجودا لكون على (ع) والائمة فى صلبه.
تحقيق كيفية قول الله وأمره للملائكة
{ إني جاعل } اى خالق فقوله { في الأرض } ظرف للجعل او هو من جعل بمعنى صير المعدى الى المفعولين فقوله فى الارض مفعول ثان { خليفة } منى يأمر بأمرى وينهى بنهيى ويعدل بعدلى، او خليفة منكم فى الارض لاصلاح الارض بعد رفعكم الى السماء، او خليفة من الشياطين والجنة بعد ان طردتموهم عن وجه الارض وقوله تعالى للملائكة ليس بنداء يسمع ولا بصوت يقرع بل نقول: ان العوالم مترتبة بعضها فوق بعض والعالى محيط بالدانى ومصدر له ومظهر للاعلى، وكلما يريد العالى ايجاده من فعل او وصف او ذات فى العالم الدانى يظهر تلك الارادة وذلك المراد بصورته وتمام اوصافه ولوازمه بل بحقيقته التى هى أحق به من حقيقته التى هو بها هو فى العالم المتوسط بين العالى وذلك الدانى، وذلك الظهور هو قول العالى بالنسبة الى ما ظهر فيه فاذا أراد الله خلق آدم البشرى فى عالم الطبع يظهر لا محالة تلك الارادة وهذا المراد فى عالم الواحدية وهو عالم المشيئة بوجه وعالم الاسماء والصفات بوجه وعالم اللاهوت بوجه وعالم علوية على (ع) بوجه وتلك الصورة بل الحقيقة الظاهرة انسان لاهوتى ثم يظهر فى عالم الملائكة المهيمنين ثم فى عالم الصافات صفا ثم فى عالم المدبرات امرا ثم فى عالم ذوى الاجنحة ثم فى عالم الركع والسجد ثم فى عالم الطبع، ثم فى الملكوت السفلى وهى عالم الجنة والشياطين، وظهور آدم (ع) على مراتب الملائكة بتمام لوازمه واوصافه ومن جملتها خلافته من الله فى الارض قوله تعالى لهم { إني جاعل في الأرض خليفة } ، والمقربون من الملائكة لاحاطتهم وسعة ادراكهم ادركوا من آدم (ع) لوازمه وصفاته الظاهرة والباطنة وماله بالفعل وما فيه بالقوة فعلموا أنه مركب من الاضداد ومحل للرذائل موصوف بالشهوات المستدعية لهيجان الغضب والتباغض مع من منعه عن مشتهاه والغضب يقتضى القتل والاسر والنهب والافساد، وعلموا ايضا انه محل ووعاء للانسانية التى من شأنها تسخير الاضداد واطاعة المتضادات وأنه بكل من اوصافه مناسب لموجود من الموجودات ولا يمكن ان يكون الخليفة بين المتضادات غير آدم الذى هو مجمع الاضداد فلم يستعجبوا من استخلاف آدم ولم يستنكروه، واما ملائكة الارض فلما كان لكل شأن واحد ولشأنه حد محدود لا يتجاوزه نظيرهم القوى والمدارك الانسانية فان لكل شأنا ولشأن كل حدا مثل قوة السمع شأنه مقصور على ادراك الاصوات، وادراكه للاصوات محدود بحد معين من الصوت والمسافة لم يدركوا من آدم سوى ما عليه ظاهره من كونه مجمعا للاضداد مقتضيا للقتل والنهب والفساد، ولم يدركوا باطنه من الانسانية المسخرة للكل واستعجبوا من استخلافه واستنكروه وأطلقوا لسانهم اللائق بحالهم { قالوا } بصورة الانكار { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدمآء } كما كان هذا فعل الشياطين والجن ولا تجعل منا خليفة يعدل فى الارض ويرفع الفساد ويحفظ الدماء وتجعلنا مطيعين لمثل هذا محكومين له.
تحقيق معنى التسبيح والتقديس والفرق بينهما
{ ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } فنحن أحق بالخلافة لعدم الاوصاف المتضادة فينا. والتسبيح والتقديس فى العرف بمعنى واحد وهو التطهير والتنزيه لكنهما اذا أضيفا الى الله تعالى يراد بالتسبيح التطهير من القبائح والنقائص لا بشرط عدم الاوصاف والاضافات بل مع بقاء الاوصاف والاضافات والكثرات وبالتقديس التطهير من النسب والاضافات ورفع الكثرات، او يراد معنى بالتقديس أعم من التنزيه من القبائح والنسب وثبوت الكثرات وبعبارة أخرى ملاحظة حق الاول باسمه الواحد يعنى بجملة صفاته الثبوتية والسلبية وجملة اضافاته تسبيحه وملاحظته باسمه الاحد من غير ملاحظة اسم وصفة وكثرة وتعين واعتبار بل مع ملاحظة عدمها تقديسه، وقد يستعمل كل فى معنى الآخر فهما كالفقراء والمساكين اذا اجتمعا افترقا واذا افترقا اجتمعا ومعنى سبحان الله تنزه الله من النقائص تنزها، ومعنى قدس الله تنزه الله من الاضافات والاعتبارات تنزها، وقول الصادق (ع) وهل هناك شيئ، فى جواب من قال: الله اكبر من اى شيئ، اشارة الى مقام قدسه لا الى مقام تسبيحه فالفرق بين تسبيحه تعالى وتقديسه كالفرق بين المأخوذ لا بشرط والمأخوذ بشرط لا بالنسبة الى الاوصاف والكثرات، او كالفرق بين المأخوذ بشرط شيئ والمأخوذ بشرط لا ولهذا قلما ذكر تسبيح بدون ذكر الحمد الدال على اتصافه بالاوصاف الحميدة، ولابتلاء عامة الخلق بالكثرات لم يذكر التقديس الدال على نفى الكثرات الا قليلا وتقدير قوله تعالى { نسبح بحمدك } نسبحك ونطهرك عن النقائص او نسبح اسمك او نسبح نفوسنا بسبب حمدك او متلبسين بحمدك، { ونقدس لك } ، نقدسك بزيادة اللام او نقدس نفوسنا لك او نقدس اسمك لك { قال } الله فى جواب استغرابهم { إني أعلم } من آدم ومن المكمون فيه من الانسانية السيارة المسخرة لجميع الاضداد المناسبة بسعتها وجامعيتها لجملة ما فى العوالم وجملة الشؤن ومن الكفر المكمون الملتبس عليكم فى بعض وهو ابليس وانه لا يظهر ذلك الا بخلقه آدم { ما لا تعلمون } ولذا تستغربون وتستنكرون استخلافه بملاحظة ما تدركون منه من شؤنه الظاهرة المتضادة المقتضية للافساد. روى عن الباقر (ع) عن آبائه عن أمير المؤمنين (ع) ان الله لما اراد ان يخلق خلقا بيده وذلك بعد ما مضى على الجن والنسناس فى الارض سبعة آلاف سنة فرفع سبحانه حجاب السماوات وأمر الملائكة ان انظروا الى اهل الارض من الجن والنسناس فلما رأوا ما يعملون فيها من المعاصى وسفك الدماء والفساد فى الارض بغير الحق عظم ذلك عليهم وغضبوا لله تعالى وتأسفوا على الارض ولم يملكوا غضبهم وقالوا: ربنا انت العزيز القادر العظيم الشأن وهذا خلقك الذليل الحقير المتقلب فى نعمتك المتمتع بعافيتك المرتهن فى قبضتك وهم يعصونك بمثل هذه الذنوب ويفسدون فى الارض ولا تغضب ولا تنتقم لنفسك وانت تسمع وترى وقد عظم ذلك علينا وأكبرناه لك، فقال تعالى: { إني جاعل في الأرض خليفة } تكون حجة لى فى أرضى على خلقى، قالت الملائكة: { أتجعل فيها من يفسد فيها } كما أفسد هؤلاء ، { ويسفك الدمآء } كما فعل هؤلاء، ويتحاسدون ويتباغضون فاجعل ذلك الخليفة منا فانا لا نتحاسد ولا نتباغض ولا نسفك الدماء، { ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } ، قال تبارك وتعالى: { إني أعلم ما لا تعلمون } ، انى أريد ان أخلق خلقا بيدى وأجعل فى ذريته الانبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين وائمة مهديين وأجعلهم خلفائى على خلقى فى أرضهم يهدونهم الى طاعتى وينهونهم عن معصيتى وأجعلهم حجة لى عليهم عذرا ونذرا، وأبين النسناس عن ارضى وأطهرها منهم وأنقل الجن المردة العصاة عن بريتى وخيرتى من خلقى وأسكنهم فى الهواء وفى قفار الارض فلا يجاورون خلقى، وأجعل بين الجن وبين نسل خلقى حجابا ومن عصانى من نسل خلقى الذين اصطفيتهم اسكنتهم مسكن العصاة وأوردتهم مواردهم، فقالت الملائكة، { سبحانك لا علم لنآ إلا ما علمتنآ } قال فباعدهم الله عز وجل من العرش مسيرة خمسمائة عام فلاذوا بالعرش وأشاروا بالاصابع فنظر الرب جل جلاله اليهم ونزل الرحمة فوضع لهم البيت المعمور فقال: طوفوا به ودعوا العرش فانه لى رضا فطافوا به وهو البيت الذى يدخله كل يوم سبعون الف ملك لا يعودون اليه ابدا، ووضع الله البيت المعمور توبة لاهل السماء، والكعبة توبة لاهل الرض، فقال الله تعالى:
إني خالق بشرا من صلصال
[الحجر: 28] قال وكان ذلك من الله تعالى تقدمة فى آدم (ع) قبل ان يخلقه واحتجاجا منه عليهم قال فاغترف جل جلاله من الماء العذب الفرات غرفة بيمينه وكلتا يديه يمين فصلصلها فجمدت وقال الله جل جلاله:
" منك أخلق النبيين والمرسلين وعبادى الصالحين والائمة المهديين الدعاة الى الجنة واتباعهم الى يوم القيامة ولا أسأل عما أفعل وهم يسألون، ثم اغترف من الماء المالح الاجاج غرفة فصلصلها فجمدت فقال تعالى: ومنك أخلق الفراعنة والجبابرة واخوان الشياطين والعتاة والدعاة الى النار وأشياعهم الى يوم القيامة ولا أسأل عما أفعل وهم يسألون قال وشرط فى ذلك البداء فيهم ولم يشرط فى أصحاب اليمين ثم خلط المائين جميعا فى كفه فصلصلهما ثم كفأهما قدام عرشه وهما سلالة من طين، ثم أمر ملائكة الجهات الشمال والجنوب والصبا والدبوران يجولوا على هذه السلالة من طين فابرؤها وانشاؤها ثم جزؤها وفصلوها وأجروا فيها الطبائع الاربع المرتين والدم والبلغم فجالت الملائكة عليها وأجروا فيها الطبائع الاربع فالدم من ناحية الصبا، والبلغم من ناحية الشمال، والمرة الصفراء من ناحية الجنوب، والمرة السوداء من ناحية الدبور، واستقلت النسمة وكمل البدن "
وقد أسقطنا آخر الحديث؛ وبهذا المضمون أخبار كثيرة. ولما كان قصة آدم (ع) وخلقته وأمر الملائكة بسجدته واباء ابليس عن السجود وهبوطه عن الجنة وبكاؤه فى فراق الجنة وفراق حواء وخلقة حواء من ضلع الجنب الايسر منه وغروره بقول الشيطان وحواء وكثرة نسله وحمل حواء فى كل بطن ذكرا وأنثى وتزويج أنثى كل بطن لذكر البطن الآخر من مرموزات الاوائل؛ وقد كثر ذكره فى كتب السلف خصوصا كتب اليهود وتواريخهم وورد اخبارنا مختلفة فى هذا الباب اختلافا كثيرا مرموزا بها الى ما رمزوه ومن اراد ان يحملها على ظاهرها تحير فيها، ومن رام ان يدرك المقصود بقوته البشرية والمدارك الشيطانية منها طرد عنها ولم يدرك منها الا خلاف مدلولها.
[2.31]
تحقيق معنى الاسم وبيان تعليم آدم الاسماء كلها وبيان اللطائف المندرجة فى الاية الشريفة
{ وعلم آدم الأسمآء كلها } اعلم ان اسم الشيئ ما دل عليه مطلقا او باعتبار بعض صفاته سواء كانت الدلالة وضعية او غير وضعية، وسواء كان الدال لفظا او نقشا او مفهوما ذهنيا او موجودا عينيا، ولما كانت الدلالة مأخوذة فى الاسمية فكلما كانت الدلالة اقوى كانت الاسمية اشد فالدلالة الوضعية التى هى فى الالفاظ والنقوش لما كانت محتاجة الى أمر آخر هو وضع واضع كانت اضعف، فالاسمية فى الدلالة الوضعية اضعف الاسميات، والمفهوم الذهنى لضعفه فى نفسه واختفائه عن المدارك بحيث أنكره بعض وقالوا: ان العلم الحصولى ليس بحصول صورة من المعلوم فى ذهن العالم بل هو بالاضافة بين العالم والمعلوم، وقال بعض المحققين انه بشهود العالم صورة المعلوم فى عالم المثال عن بعد او بشهوده رب نوع المعلوم عن بعد اضعف الاسماء أيضا، فبقى ان يكون الموجود العينى المدرك لكل احد الدال على غيره بالطبع كاملا فى الاسمية؛ ونحن الاسماء الحسنى، ولا اسم اعظم منى، وبأسمائك التى ملأت أركان كل شيء، وغير ذلك من كلماتهم تدل على اعتبار الاسمية للاعيان الموجودة واهل العرف لما كان نظرهم الى المحسوسات غير متجاوز عنها لا يعرفون من اطلاق الاسم سوى اللفظ والنقش لغفلتهم عن حصول مفهوم من المسمى فى الذهن فضلا عن اعتبار الاسمية له، ولاحتجابهم عن دلالة الاعيان على غيرها وعن كونها مرايا للحق الاول تعالى، والاسم من حيث الاسمية وكونه عنوانا ومرآة للمسمى لا حكم له بل الحكم بهذا الاعتبار للمسمى، وقد يعتبر الاسم من حيث نفسه من غير اعتباره مرآة لغيره وله بهذا الاعتبار حكم فى نفسه ويحكم عليه وبه، والاخبار الدالة على ان عابد الاسم كافر وعابد الاسم والمعنى مشرك وعابد المعنى بايقاع الاسماء عليه بصفاته التى وصف بها نفسه موحد ناظرة الى الاسماء العينية او الموهومات الذهنية ومشيرة الى هذين الاعتبارين، وقوله تعالى:
إن هي إلا أسمآء سميتموهآ أنتم وآبآؤكم مآ أنزل الله بها من سلطان
[النجم: 23]؛ اشارة الى هذين ايضا يعنى ما جعلتموها معبودات او مطاعين ليست الا اسماء لا ينبغى ان ينظر اليها ويحكم عليها انتم وآباؤكم جعلتموها مسميات ومنظورا اليها ومحكوما عليها بالمعبودية او المطاعية ما أنزل الله بها من ذلك الاعتبار سلطانا وحجة وتعليم الشيء اعطاء العلم له سواء كان بنحو الاعداد والتسبيب كالتعليم البشرى او بنحو الافاضة كتعليم الله تعالى وعلم الشيئ ظهوره على النفس بنفسه كالعلم الحضورى او بصورته الحاصلة فى النفس، او فى عالم المثال، او فى رب النوع على الاختلاف فيه كالعلم الحصولى سواء كان بالشعور البسيط او بالشعور التركيبى فمعنى { علم آدم الاسماء كلها } أفاض وأودع علم الموجودات وصورة كل منها وانموذجه من حيث هى أسماء ومرايا للحق تعالى شأنه لا من حيث هى مسميات لعدم تحدد آدم بحد حتى يصيروا واقفا فى ذلك الحد ويكون المعلوم فى ذلك الحد مستقلا عنده فى الوجود ومسمى لا اسما لغيره فالتعبير عن الموجودات بالاسماء للاشعار بعدم وقوف آدم (ع) دون الوصول الى الله والتأكيد بلفظ { كلها } للاشارة الى ان الجميع مودعة فى وجود آدم بحيث لا يشذ عن حيطة وجوده شيئ من الاشياء، وما قلنا انه أودع صورة الاشياء وأنموذجها انما هو بحسب أفهام العوام والا فحقيقة كل شيئ عند آدم عليه السلام والاشياء كلها دقائق للحقائق التى أودعها الله تعالى فى آدم (ع)، ولما كان الملائكة متحددين وكان الاشياء بالنسبة اليهم متحددة ومحكوما عليها بوجه جعلها تعالى فى معرض العرض على الملائكة للاشعار بمحدوديتهم فى صورة المسميات المستقلات من غير اعتبار الاسمية لها بارجاع ضمير ذوى العقول اليها تغليبا او باعتبار كون الاشياء بالنسبة اليه تعالى عقلاء فان ارجاع الضمير الى الاسماء واعتبار كونها عقلاء اسقاط لاعتبار الاسمية لها بخلاف ايقاع العلم على الاسماء بعنوان الاسمية فقال { ثم عرضهم } اى عرض الاسماء كما عرفت فلا حاجة الى تكلف ارجاع الضمير الى المسميات المفهومة بالالتزام بل تكلف ارجاع الضمير الى المسميات يذهب باللطائف المودعة فى تعليق الفعل على الاسماء وارجاع ضمير ذوى العقول اليها كما عرفت { على الملائكة } اى ملائكة الارض لانهم المستغربون خلافة آدم (ع) او على الجميع ليظهر على الجميع سعة آدم (ع) واحاطته واستحقاقه الخلافة على جميعهم فان المقربين من الملائكة وان كانوا محيطين عالمين من آدم (ع) ظاهره وباطنه وما فيه بالفعل وما فيه بالقوة لكن حقائق الاسماء الالهية التى هى فى مقام المشيئة مختفية عليهم مع ان آدم (ع) بعلويته عالم بها جامع لها وبتلك الحقائق يستحق الخلافة عليهم وباعتبار ذلك المقام ورد عنهم (ع) على ما نسب اليهم: روح القدس فى جنان الصاقورة ذاق من حدائقنا الباكورة، وورد ان جبريل (ع) قال لمحمد (ص) ليلة المعراج:
" لو دنوت أنملة لاحترقت "
، والمراد بالعرض عليهم اظهار حقائقهم. فى العود الى الله لا فى النزول من الله ولذا كان ذلك العرض بعد تعليم آدم (ع) جميع الاسماء فان للاشياء بواسطة عروج آدم (ع) عروجا بأنفسها فى صراط الانسان مضافا الى عروج أسمائها مع الانسان وعطف العرض بثم على تعليم الاسماء لآدم (ع) مشعر به، وورد الخبر انه عرض أشباحهم وهم أنوار فى الأظلة { فقال أنبئوني بأسمآء هؤلاء } الاسماء هاهنا بمنزلة العلم فى آدم يعنى أنبئونى بأنموذج كل من هؤلاء الحقائق المتكثرة الموجودة المتضادة من وجودكم حتى تستحقوا الخلافة فى المتضادات والحكومة بين المتفاسدات بالسنخية بينكم وبين المتضادات، فان الخليفه لا بد ان يكون له سنخية مع المستخلف عليه وليس فى وجود كل الا انموذج واحد منهم فلا يخبر كل منكم الا باسم واحد منهم فأخبرونى بأسماء الجميع { إن كنتم صادقين } فى انكار خلافة آدم (ع) واستحقاق خلافتكم فرجعوا الى أنفسهم وأيقنوا انهم قاصرون عن المجانسة مع الاضداد وعن المحاكمة بين المتخالفات، وعن العلم بالمتفاسدات، مقصرون فى الاستعجاب والاستخبار على سبيل الانكار مفرطون فى ادعاء التسبيح مع التحميد واستحقاق الخلافة دون آدم فاعترفوا بذلك.
[2.32]
{ قالوا سبحانك } اى تنزهت تنزها عن النقص والعبث وان تسأل عما تفعل واقتصروا على التسبيح لما علموا أنهم لم يدركوا حمده تعالى فان الحمد المضاف كما ادعوه فى قولهم ونحن نسبح بحمدك مستغرق وادراك حمده المستغرق بادراكه فى جميع مظاهره وقد علموا أنهم عاجزون عن ادراك أكثر مظاهره { لا علم لنآ } اى لا اسم فى وجودنا من الاسماء { إلا ما علمتنآ } الا اسما اعطيتناه ولما توهم من قولهم: { اتجعل فيها } الى الآخر؛ وقولهم: { ونحن نسبح } الى الآخر؛ نسبة العلم والحكمة الى أنفسهم وظهر بعد ذلك عجزهم وان علمهم بالنسبة الى علم الله وحكمته كالعدم نفوا العلم عنهم اصالة واثبتوا قدرا قليلا من العلم لأنفسهم عارية وافادوا التزاما ان العلم اصالة منحصر فيه تعالى حصر افراد، وأكدوا ذلك باثبات العلم والحكمة له تعالى بطريق الحصر فقالوا { إنك أنت العليم الحكيم } ولذا لم يأتوا بالعاطف، والعلم ظهور الشيئ عند العقل بصورته على قول من يجعل العلم الحصولى بالصورة الحاصلة من المعلوم عند العالم، او بنفسه كالعلم الحضورى كعلمنا بالصور الحاضرة عندنا، او بحقيقته كعلم الحق تعالى بالاشياء بالعلم الذاتى، والحكمة قد تستعمل فيما للقوة العلامة وقد تستعمل فيما للقوة العمالة، وقد تستعمل فى الاعم منهما، وهو اللطف فى العلم والعمل؛ واللطف فى العلم عبارة عن ادراك دقائق العلوم والغايات المترتبة المتعاقبة واللوازم القريبة والبعيدة، واللطف فى العمل عبارة عن القدرة على صنع ما يدركه من دقائق المصنوع، والحكمة العلمية يعبر عنها فى الفارسية " بخرده بينى " والحكمة العملية يعبر عنها " بخرده كارى " والمراد بها هاهنا اما المعنى الاعم او الحكمة العملية فقط.
[2.33]
{ قال } تعالى بعد ظهور عجزهم وعدم استحقاقهم للخلافة { ياآدم أنبئهم بأسمآئهم } حتى يظهر فضلك عليهم واستحقاقك للخلافة دونهم فيظهر عندهم بطلان ادعائهم؛ انكار استحقاق خلافتك واثبات استحقاق الخلافة لانفسهم، والمراد بالانباء ليس الاخبار باللسان بل اظهار الاسماء من وجوده كما عرفت سابقا { فلمآ أنبأهم بأسمآئهم } ورأوا انه جامع لاسماء الكل بوجوده الجمعى ورأوا انموذج كل فيه بل رأوا ان حقيقة كل الاشياء الامكانية هو آدم (ع) بوجه، وان كل الحقائق منطو فيه بوجه والكل رقائق له، وعرفوا ان آدم (ع) هو الذى يستحق الخلافة فى الارض وعلى جميع الملائكة { قال ألم أقل لكم } عند قولى { إني أعلم ما لا تعلمون } { إني أعلم غيب السماوات والأرض } الغائب عنكم منهما وهو ملكوتهما او الغائب عنهما ومن جملته جامعية الانسان لما له علامة الامكان { وأعلم ما تبدون } من اظهار استعجاب خلافة آدم واستحقاقكم الخلافة دونه وسائر صفاتكم الظاهرة عليكم وعلى غيركم ومقدار علومكم الظاهرة { وما كنتم تكتمون } من النقائص التى لا شعور لكم بها ولا يظهر عليكم الا بعد اختياركم باستعلامكم كما فعلنا وليس المراد ما تكتمون بالشعور والارادة فانه يستلزم نسبة النفاق واعتقاد جواز الجهل على الله الى الملائكة وللاشارة الى ما فسرنا زاد تكتمون لانه يدل على ان الكتمان كان ثابتا دائما لهم، ويجوز ان يراد بما يكتمون ما كتمه الشيطان من الاباء عن السجدة لآدم (ع) لو أمر به او من المخالفة والعناد لآدم (ع) المكون فيه، ونسبته الى الملائكة لكونه فيهم ومشتبها بهم، ويجوز ان يراد اعم منه ومما ذكر اولا، وهذا القول منه تعالى اما تفصيل لما أجمل عند قوله: { إني أعلم ما لا تعلمون } ، او كان هذا القول مذكورا مع قوله { إني أعلم ما لا تعلمون } لكنه تعالى اسقطه حين الحكاية، ويحتمل ان يكون قوله { وأعلم ما تبدون } حالا بتقديرانا او عطفا على { الم اقل } محكيا بالقول الاول، ويجوز ان يكون قوله { إني أعلم غيب السماوات } مستأنفا غير محكى بالقول.
[2.34]
{ وإذ قلنا } عطف على قوله { اذ قال ربك } اى اذكر او ذكر حتى تعلموا ان جميع ما فى الارض خلق لكم { وإذ قلنا للملائكة } اى لملائكة الارض على ما ورد فى أخبارنا فان مرتبة آدمية آدم (ع) مسجودة لملائكة الارض او للملائكة جميعا على ما سبق ان آدم (ع) بعلويته مسجود لجميع الملائكة وقد ورد فى أخبارنا ان الله أمر الملائكة بسجدة آدم (ع) لكون نور محمد (ص) وعلى (ع) وعترتهما (ع) فى صلبه { اسجدوا لآدم } السجدة غاية الخضوع والتذلل والانقياد للمسجود، ولما كان غاية التذلل السقوط على التراب عند المسجود صارت السجدة اسما لسجدة الصلاة فى الشريعة والمراد بالسجدة هاهنا التذلل تحت أمر آدم (ع) والتسخر له بحيث يكون بالنسبة الى كل منهم اذا أراد شيئا ان يقول له كن فيكون، وتسخر الملائكة وسجدتهم لآدم (ع) دون ابليس نظير تسخر القوى لآدم فى العالم الصغير دون الوهم الذى هو الشيطان فى هذا العالم { فسجدوا إلا إبليس } افعيل من أبلس اذا ئيس من رحمة الله او من أبلس اذا تحير واضطرب، او من أبلس اذا ندم لان فعله فعل ينبغى ان يندم عليه، او من أبلس اذا سكت وانقطع حجته، وكأنه لم يستعمل مجردة وقيل: انه اسم أعجمى ولذا لم ينصرف { أبى واستكبر } من قبيل عطف السبب على المسبب { وكان من الكافرين } يعنى ان فطرته كانت فطرة الكفر والاباء وترك الطاعة لا ان الكفر طرأ عليه بعد ان كان مؤمنا؛ اذ قوة الاباء عن الانقياد كانت ذاتية له بحيث لو طرأ الانقياد كما روى
" شيطانى أسلم على يدى "
كان الانقياد كأنه عرضى عرض له.
تحقيق مراتب العالم وكيفية خلق الاجنة والشياطين
اعلم ان الوجود كما مر له مراتب؛ مرتبة منه غيب مطلق لا خبر عنه ولا اسم ولا رسم وهو الوجود الذاتى الذى يخبر عنه بعنوان مقام ظهوره الوجود الذاتى، ومرتبة منه فعل الواجب وظهوره ومعروفيته وفى تلك المرتبة يظهر تمام صفاته واسمائه؛ وتلك المرتبة باعتبار كونها عنوانا له تعالى بأسمائه تسمى بالواحدية، وباعتبار كونها اقتضاء لايجاد العالم تسمى بالمشية، وباعتبار كونها نفس ايجاد العالم تسمى بفعله تعالى، وباعتبار كونها جامعة لتمام الاسماء والصفات بوجود واحد جمعى تسمى بالله، وباعتبار كونها مجمعا لتمام الموجودات بنحو الاحاطة تسمى بعلى (ع)، وبهذين الاعتبارين تسمى بالعرش والكرسي ولها أسماء اخر غير هذه، ومرتبة منه عالم المجردات ذاتا وفعلا وينقسم الى العقول والارواح المعبر عنهما فى لسان الشريعة بالملائكة المهيمنين وبالصافات صفا، ويسميهما الفلاسفة بالعقول الطولية والعقول العرضية، وارباب الانواع وارباب الطلسمات فى اصطلاح حكماء الفرس التى قررها الشرع عبارة عن العقول العرضية، ومرتبة منه عالم المجردات فى الذات لا فى الفعل وتسمى بالمدبرات امرا، وينقسم الى النفوس الكلية والنفوس الجزئية يعنى اللوح المحفوظ ولوح المحو والاثبات، ومرتبة منه عالم المثال النازل المعبر عنه بجابلقا الواقع فى جانب المغرب وفيه صورة كل ما فى عالم الطبع بنحو أعلى واشرف، وظهور المحو والاثبات اللذين فى النفوس الجزئية فى هذا العالم، والبداء الذى ذكر فى الاخبار هو فى هذا العالم، وقوله تعالى:
" ما ترددت فى شيء كترددى فى قبض روح عبدى المؤمن "
؛ انما يظهر فى هذا العالم، والرؤيا الصادقة تكون بالاتصال بهذا العالم وشهود ما سيقع بصورته فيه محتاجة الى التعبير او غير محتاجة، ومرتبة منه عالم الماديات من سماواته وسماوياته وعنصره وعنصرياته، وهذا العالم مجمع الاضداد ومورد المتخالفات ومصدر المتباغضات ومصرع الهلكى ومصعد السعداء، وفيه وقع تعليم آدم الاسماء وخلافته على ما فى الارض والسماء، ومرتبة منه عالم الجنة والشياطين وهو أسفل العوالم وأبعدها عن الله وهو محل الاشقياء من الانسان وفيه الجحيم وعذاب الاشرار وهو فى مقابل المثال العالى، ووجود الجنة والشياطين كوجود الملائكة الذين هم ذووا الاجنحة مجرد عن المادة؛ ولذا يقدرون على التشكل بالاشكال المختلفة والتصرف فى عالم الطبع مثل الملائكة، ويتراءى انهم اقوى وجودا من عالم الطبع لتجردهم عن التقيد بالمادة والمكان والزمان واطلاعهم على ما لا يطلع عليه الانسان من الماضى والآتى ومما لم يكن حاضرا فى مكانهم، لكن العناصر والعنصريات للاستعداد للخروج عن التقيد بالزمان والمكان والمادة والتحاقهم بالملأ الاعلى والمقربين من الله اقوى وجودا واقرب من الله، وينقسم اهل الملكوت السفلى الى من هو فى غاية البعد عن الله وعن استعداد قبول رحمة الله بحيث كأن الحرمان عن الرحمة ذاتى له وهم الشياطين وذريتهم والى من هو ليس فى غاية البعد عن المادة واستعدادها للرحمة وهم الجنة، وهذا العالم تحت عالم الطبع كما ان عالم الملائكة فوقه، وفى الاخبار اشارات الى ما ذكرنا من عالم الجنة وصفاتها وأقسامها وهذا آخر العوالم فى نزول الوجود من الله، واما فى صعود الوجود الى ما منه بدئ فالمبدأ المادة والعناصر وان كان الجنة والشياطين قد يتقربون ويتصاعدون عن مهابطهم البعيدة لكن صعودهم الى حد محدود لا يتجاوزونه بخلاف صعود الماديات فانه لا حد لها ولا وقوف، واولى درجات صعود العناصر امتزاجها وكسر سورة كل بحيث ارتفع التمييز بينها، وثانيتها حصول المزاج والصورة النوعية فيها والوحدة الحقيقية لها ويسمى الحاصل جمادا؛ وهو اما واقف او واقع فى طريق النبات، وثالثتها حصول النفس النباتية فيها وظهور آثار مختلفة وافعال متخالفة عنها ويسمى الحاصل نباتا وهو اما بشرط لا او لا بشرط شيئ فى طريق الحيوان، ورابعتها حصول النفس الحيوانية فيها وظهور الحس والحركة الارادية عنها؛ والحاصل اما موقوف على حد او غير موقوف بل واقع فى طريق الانسان، وخامستها حصول النفس الانسانية وظهور الادراكات الكلية عنها، ولا وقوف للحاصل بحسب التكوين ان كان بحسب الاختيار لأفراده وقوفات عدد وقوفات أنواع الجماد والنبات والحيوان، وعدد وقوفات افراد كل نوع منها، ومقامات صعود نفس الانسان ودرجات عروجها بعد ذلك غير متناهية، واول مقامات صعودها بعد ذلك عروجها الى الملكوت العليا بدرجاتها، او نزولها الى الملكوت السفلى بدركاتها، والملكوت الحاصلة بعد صعود العناصر عن المقام البشرى يسمى بجابلسا وهو مقابل لجابلقا، وجميع ما فى هذا العالم يحصل فى جابلسا ثانيا كما كان حاصلا فى جابلقا قبل هذا العالم، وما يحصل فى جابلسا يكون مدبرا عن هذا العالم كما ان ما حصل فى جابلقا كان مقبلا على هذا العالم، ولهذا لم يكن لما فى جابلسا ظهور فى هذا العالم كما كان ما حصل فى جابلقا لا بد من ظهوره فى هذا العالم، واما البرزخ الذى هو طريق مشترك بين الملكوت العليا ودار السعداء والملكوت السفلى ودار الاشقياء فهو معدود من صقع الملكوت وليس مقام مقر حتى يعد مقاما وعالما بنفسه لان السعيد والشقى لا بد من سلوكهما عليه الى الاعراف، والاعراف آخر البرازخ ومنه طريق الى الملكوت العليا وطريق آخر الى الملكوت السفلى وسمى الاقدمون البرزخ بهورقوليا وهذه المدينة هى التى لها الف الف باب ويدخلها كل يوم ما لا يحصى من خلق الله، ويخرج مثل ذلك، وهورقوليا وجابلقا وجابلسا غير مجردة عن التقدر وفوقها عوامل مجردة عن التقدر ايضا.
واعلم ايضا ان النور العرضى الذى به يستضيئ السطوح معرف بأنه ظاهر بذاته مظهر لغيره وهذا التعريف فى الحقيقة للوجود وهو اولى به من النور العرضى؛ فان النور ظاهر للابصار مظهر لغيره على الابصار لا على سائر المدارك، وظهوره ليس بذاته وبمهيته النورية بل بوجوده فالنور بما هو مهية من الماهيات ليس ظاهرا بنفسه بل هو بما هو وجود ظاهر بنفسه اى بجزئه الذى هو الوجود لا بالجزء الآخر ولا بالمجموع بخلاف الوجود فانه بسيط ظاهر بذاته لا بشيئ آخر مظهر لغيره الذى هو المهية اية مهية كانت ومظهر لنقيضه الذى هو العدم، وظهوره ليس على مدرك واحد بل هو ظاهر ومظهر لكل الاشياء على جميع المدارك فهو اقوى فى النورية من النور العرضى، وكما ان النور العرضى اذا قابله جسم صلب كثيف غير شفاف ينفذ النور فيه على استقامته سواء كان صيقليا كالبلور او غير صيقلى كغيره من الاحجار الصلبة واجتمع النور فيه وتراكم ظهر منه آثار غير النورية مثل النار الحاصلة خلف البلورة اذا قابلت نور الشمس والنار المكمونة فى الاحجار الكبريتية وغيرها كذلك النور الحقيقى اذا قابله ما لم ينفذ فيه على الاستقامة كالمادة القابلة التى لا جهة فعلية فيها سوى القوة، وعالم الاجسام الذى ليس فيه الا جهة القبول لا الفاعلية واجتمع الوجودات الضعيفة والكثرات البعيدة من الوحدة حصل من اجتماع الانوار نار مكمونة فيه او خلفه وتعلو بتلك النار نفس مناسبة لها شريرة اما بعيدة عن الخير ظاهرة النارية نظيرها النار الظاهرة خلف البلورة البعيدة من الجسم المستنير، او قريبة من الخير نظيرها النار المكمونة فى الاحجار، والقسم الاول الشياطين والقسم الثانى الجنة ففى النور نار مكمونة والنار نور مكمون او ظاهر، فعلى هذا لا حاجة الى تأويل الآيات والاخبار الدالة على خلق الشياطين والجنة من النار كما فعلته الفلاسفة، ولا الى تصحيحها بتجويز خلقها فى كرة الدخان المنافى لكثير من قواعدهم ولكثير من آثار الشياطين التى ذكروها فى الشريعة، ولا الى انكار وجودهم الا بالتأويل، ولا الى جعلهم نوعا من الملائكة؛ فان الملائكة خلقوا من النور وهم خلقوا من النار وان كان لهم نورية كنورية النار المختلطة، وكون آدم مخلوقا من الطين باعتبار ان التراب والماء غالبان فى مادته والا فمادته مركبة من العناصر الاربعة.
[2.35]
{ وقلنا } بعد خلق آدم (ع) وخلق حواء لأنسه بها وسجود الملائكة له واباء ابليس من السجود.
{ ياآدم اسكن أنت وزوجك الجنة } التى هى من جنان الدنيا لا من جنان الآخرة التى هى للانسان بعد خلاصه من البنيان العنصرى فانه من دخلها لم يخرج منها وسيأتى الاشارة الى وجه كونها من جنان الدنيا { وكلا منها } رزقكما الخاص بكما من أثمار الجنة وفواكه الاعمال وحبوبها { رغدا } رزقا واسعا او اكلا واسعا { حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة } اطلق لهما الاكل من اى مأكول شاء او فى اى مكان وزمان أرادا ونهاهما عن الاكل من شجرة مخصوصة، وتعليق النهى على القرب من الشجرة للمبالغة فى النهى عن الاكل، او للنهى عن القرب حقيقة فان القرب من الشيئ يورث توقان النفس اليه.
اعلم أن قصة خلق آدم (ع) وحواء (ع) من الطين ومن ضلعه الايسر ومن امر الملائكة بسجود آدم (ع) واباء ابليس عن السجدة واسكان آدم (ع) وحواء (ع) الجنة ونهاهما عن اكل شجرة من اشجارها ووسوسة ابليس لهما واكلهما من الشجرة المنهية وهبوطهما من المرموزات المذكورة فى كتب الامم السالفة وتواريخهم كما ذكرنا سابقا. فالمراد بآدم فى العالم الصغير اللطيفة العاقلة الآدمية الخليفة على الملائكة الارضيين وعلى الجنة والشياطين المطرودين عن وجه ارض النفس والطبع المسجودة للملائكة المخلوقة من الطين الساكنة فى جنة النفس الانسانية وهى أعلى عن مقام النفس الحيوانية المخلوق من ضلع جنبها الايسر الذى يلى النفس الحيوانية زوجتها المسماة بحواء لكدورة لونها بقربها من النفس الحيوانية، والمراد بالشجرة المنهية مرتبة النفس الانسانية التى هى جامعة لمقام الحيوانية والمرتبة الآدمية، والمراد بالحية واختفاء ابليس بين لحييها القوة الواهمة فانها لكونها مظهرا لابليس تسمى بابليس فى العالم الصغير، ووسوسته تزيينها ما لا حقيقة له للجنب الايسر من آدم المعبر عنه بحواء وهبوط آدم (ع) وحواء (ع) عبارة عن تنزلهما الى مقام الحيوانية، وهبوط ابليس والحية وذريتهما عبارة عن تنزلها عن مقام التبعية لآدم؛ فان ابليس لما كان الواهمة احد مظاهره كان رفعتها رفعته، وشرافتها باستخدام آدم لها شرافته، وهبوط الواهمة كان هبوطا له، واذا اريد بالشجرة النفس الانسانية ارتفع الاختلاف من الاخبار فان النفس الانسانية شجرة لها انواع الثمار والحبوب واصناف الاوصاف والخصال لان الحبوب والثمار وان لم تكن بوجوداتها العينية الدانية موجودة فيها لكن الكل بحقائقها موجودة فيها فتعيين تلك الشجرة بشيء من الحبوب والثمار او العلوم والاوصاف بيان لبعض شؤنها . روى فى تفسير الامام (ع) انها شجرة علم محمد (ص) وآل محمد (ع) الذين آثرهم الله تعالى به دون سائر خلقه فقال الله تعالى: { ولا تقربا هذه الشجرة }؛ شجرة العلم فانها لمحمد (ص) وآله (ع) دون غيرهم ولا يتناول منها بأمر الله الاهم، ومنها ما كان يتناوله النبى (ص) وعلى (ع) وفاطمة (ع) والحسن (ع) والحسين (ع) بعد اطعامهم المسكين واليتيم والاسير حتى لم يحسوا بجوع ولا عطش ولا تعب ولا نصب وهى شجرة تميزت من بين سائر الاشجار بان كلا منها انما يحمل نوعا من الثمار وكانت هذه الشجرة وجنسها تحمل البر والعنب والتين والعناب وسائر أنواع الثمار والفواكه والاطعمة، فلذلك اختلف الحاكون فقال بعضهم: برة، وقال آخرون: هى عنبة، وقال آخرون: هى عنابة، وهى الشجرة التى من تناول منها باذن الله ألهم علم الاولين والآخرين من غير تعلم، ومن تناول بغير اذن الله خاب من مراده وعصى ربه.
أقول: آخر الحديث يدل على ما قالته الصوفية من ان السالك ما لم يتم سلوكه ولم ينته الى مقام الفناء ولم يرجع الى الصحو بعد المحو باذن الله لم يجز له الاشتغال بالكثرات ومقتضيات النفس زائدا على قدر الضرورة وشجرة علم محمد (ص) وآل محمد (ع) اشارة الى مقام النفس الجامع لكمالات الكثرة والوحدة { فتكونا من الظالمين } الفاء سببية دالة على سببية الاكل لصيرورتهما من الظالمين اى لحدوث الظلم بعد الاتصاف بالمتضادات يعنى ان الاكل من الشجرة يصير سببا للاتصاف بالمتضادات وهو يقتضى منع الحقوق عن أهلها واعطائها لغير اهلها، او لحدوث الاتصاف بالظلم ابتداء يعنى ان الاكل من الشجرة حين عدم استحقاق الاكل ظلم فاذا أكلتما صرتما متصفين بالظلم، اولاعم من حدوث الظلم بواسطة او بلا واسطة.
[2.36]
{ فأزلهما الشيطان عنها } اصدر عثرتهما عن جهة الشجرة، او أزالهما عن الجنة بالعثرة بوسوسته وخديعته بان اختفى بين لحيى الحية وقرب من مقام آدم (ع) وقال لآم (ع) ما حكاه الله تعالى ورد آدم (ع) عليه وظن ان الحية تخاطبه فلما ايس من قبول آدم (ع) عاد ثانيا الى حواء فخاطبها وخدعها حتى اكلت ثم اغتر آدم (ع) فأكل فلما اكلا حصل لهما الشعور بالشعور فأدركا من سؤاتهما ما لم يكونا يدركانه قبل ذلك { فأخرجهما مما كانا فيه } من الجنة التى كانا فيها، او من مقامهما الذى كانا فيه { وقلنا } لآدم (ع) وحواء { اهبطوا بعضكم لبعض عدو } جمع الضمير لارادة ذريتهما معهما لكونهما اصلين لهم، او قلنا لآدم (ع) وحواء (ع) وابليس والحية { ولكم في الأرض } ارض الطبع والنفس الحيوانية او أرض العالم الكبير { مستقر ومتاع } ما تنتفعون به او تمتع { إلى حين } حين ينقضى آجالكم وقيام قيامتكم الصغرى.
اعلم انه تعالى باقتضاء حكمته الكاملة يخلى بين آدم ومشتهياته المنسوبة الى نفسه الدانية ليهبط من مقامه العالى الى سجن الدنيا ليستكمل فيه ويستكثر نسله وأتباعه كما قال المولوى قدس سره:
سن جو آدم بودم اول حبس كرب
برشد اكنون نسل جانم شرق وغرب
فاذا استكمل فى نفسه وفى نسله وأتباعه تاب الله عليه واخرجه من سجنه اما بالموت الاختيارى او الاضطرارى وبدون ذلك الهبوط لا يحصل كمال لآدم ولا نسل ولا اتباع بل نقول: شأنه تعالى تقليب آدم النوعى من الجنة الى سجن النفس ومن سجن النفس الى الجنة كما قال تعالى شأنه: { ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال }.
كر بجهل آييم آن زندان اوست
ور بعلم آييم آن ايوان اوست
وفى هذا التقليب تكميله واتمام النعمة عليه.
[2.37]
{ فتلقى آدم من ربه كلمات } الكلمات المتلقاة من الرب ليست شبيهة بكلمات الخلق كما يظن بل هى عبارة عن اللطائف الوجودية التى هى التوحيد والنبوة والولاية ومراتب كل منها ومراتب العالم التى لا نهاية لها؛ فان الكلمة كما تطلق على الكلمة اللفظية وعلى الكلمة النفسية التى هى حديث النفس تطاق على العقائد والعلوم وعلى اللطائف الوجودية وعلى مراتب الوجود، وقوله تعالى: { وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات }؛ اريد به مراتب الوجود، واذا قيس قوله (ص):
" اوتيت جوامع الكلم "
، بهذا علم فضل محمد (ص) على ابراهيم (ع ) ولما اريد بالكلمات اللطائف الوجودية وتلك اللطائف يمكن التعبير عنها بتعبيرات مختلفة ورد فى الاخبار كلمات مختلفة فى تفسيرها، وجمع الاخبار بعد الاطلاع على ما ذكرنا فى غاية الوضوح.
تحقيق توبة العبد
{ فتاب عليه } توبة العبد من الشئ ادباره عنه مع الانزجار منه سواء كان ذلك الشئ من المعاصى الظاهرة او الباطنة، او المقامات النازلة التى يقف العبد فيها او المشاهدات التى قد يفتتن السالك بها، او الخطرات التى توبة الاولياء منها، او الالتفات الى غير الله الذى توبة الانبياء منه؛ وهى قسيمة للانابة فان الانابة الاقبال والرجوع.
اعلم ان سلوك السالك لا يتم الا بجانبين؛ البرائة والولاية ويعبر عنهما بالتوبة والانابة؛ وبالزكاة والصلاة، وبالصيام والصلاة، والتبرى والتولى، والنفى والاثبات، والنهى والامر، والخوف والرجاء، والترهيب والترغيب؛ ولذا لم يكن شريعة من لدن آدم (ع) الا وفيها زكوة وصلوة وكان الكلمة الجامعة بين النفى والاثبات اشرف الاذكار، وكان اشرف الكل لا اله الا الله لاعتبارات ليست فى غيرها كما سنذكره ان شاء الله فى بيان قوله:
فاذكرونى أذكركم
فى هذه السورة، واذا عدى التوبة بالى كانت مشعرة بالجمع بين التوبة والانابة، واذا نسبت الى العبد عديت بالى للدلالة على الانتهاء، واذا نسبت الى الله عديت بعلى للدلالة على الاستعلاء والاستيلاء.
تحقيق توبة الرب فى توبة العبد
{ إنه هو التواب } كثير التوبة منحصرة فيه لان توبة العبد كسائر خصاله اظلال صفات الحق فان توبة العبد ظل لتوبة الرب بل هى توبة الرب فى مقام شأنه النازل فلا تائب الا هو، ونسبتها الى العبد محض اعتبار ففى توبة العبد تكرار ظهور لتوبة الرب فانه ما لم يظهر توبة الله فى شؤنه العالية لم تظهر فى مظهره النازل فهو تعالى كثير التوبة باعتبار كثرة ظهورها ولا تواب سواه باعتبار ان توبة العبد توبته { الرحيم } لا رحيم سواه كحصر التوبة وافاضة الرحمة الرحيمية على العبد بعد توبة الرب فى توبة العبد كاللازم الغير المنفك منها ولذا عقبها بها.
[2.38]
{ قلنا اهبطوا منها جميعا } ووجه التأكيد والتكرير التغليظ والتطويل المطلوب فى مقام السخط والتمهيد للوعد والوعيد الآتى وجميعا حال فى معنى التأكيد كأنه قال أجمعين ولا دلالة له على الاجتماع فى زمان الحكم بل له الدلالة على عموم الحكم بجملة افراد المحكوم عليه فقط بخلاف مجتمعين فانه يدل على الاتفاق فى زمان الحكم { فإما يأتينكم مني هدى } اما ان الشرطية وما الزائدة لتأكيد الشرط ولذا يؤتى بعده بنون التأكيد، واتيان الهدى من الله اما على لسان الرسول الظاهرى او الباطنى هذا على ظاهر المفهوم المصدرى من الهدى والا فالهدى حقيقة جوهرية من شؤن النفس الانسانية ولسان الرسول الظاهرى او الباطنى معد للنفس، والمفيض فى الحقيقة هو الله، والمفاض حقيقة من الحقائق، والمفاض عليه هو النفس الانسانية، وعلى هذا فالاتيان باداة الشك فى محله لان تلك الحقيقة لا تحصل لكل فرد من الافراد، وكثيرا ما تحصل لشخص ثم تسلب عنه ولذا أتى بالجواب جملة شرطية او كالشرطية فقال { فمن تبع هداي } لفظة من شرطية او موصولة متضمنة لمعنى الشرط وتكرار الهدى للتمكين فى القلوب وللترغيب فى الاتباع بتصوير مفهومه الصريح؛ ولتعليل الحكم بذلك، ويجوز ان يراد بالهدى الرسول او خليفته فانه لكونه متشئ بالهدى فكأنه لا حقيقة له سوى الهدى، او يراد معنى أعم من الثلاثة اى { فاما يأتينكم منى } سبب هداية او حقيقة هداية أو هاد؛ { فمن تبع هداي } { فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون }.
تحقيق بيان اختلاف الفقرتين من قوله { فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون }.
الخوف حالة حاصلة من الاستشعار بورود مكروه وتوقع وروده ويستلزمها انقباض القلب واجتماع الروح الحيوانية والحرارة الغريزية فى الباطن والقلب واحتراق دم القلب وتصاعد بخار دخانى الى الدماغ واحتراق الدماغ وتولد السوداء والماليخوليا ان طالت مدتها، ولما كان الخوف واردا من الخوف منه على الخائف كأن المخوف منه فاعله والمخالف واقع عليه الخوف أخبر عن الجار والمجرور بعلى مع ان القياس يقتضى ان يخبر عن المصادر بالجار والمجرور باللام او بمن اذا وقع الفاعل عقيب حرف الجر مخبرا به، وايضا الخوف يقتضى الاستيلاء على النفس بحيث لا تتمالك ويناسبه لفظ على، ويحتمل ان يكون المعنى لا خوف لغيرهم عليهم يعنى لا ينبغى ان يخاف عليهم وحينئذ فلا اشكال. والحزن حالة حاصلة من استشعار فوات محبوب فى الحال او فى الاستقبال ويستلزمه ايضا انقباض القلب واجتماع الروح الحيوانية والحرارة الغريزية فى الباطن والقلب وسائر لوازم ذلك وقلما ينفكان وهكذا الغم والهم فكان الحزن ينبعث من باطن الحزين من حيث انه مستشعر لفوات المحبوب وليس لورود امر من خارج وللاشعار بهذه اللطيفة جاء بالقرينتين مختلفتين فان حق العبارة ان يقول فلا خوف عليهم ولا حزن او فلا هم يخافون ولا هم يحزنون، ويستعمل الحزن من باب علم لازما ومن باب قتل متعديا.
والخوف والحزن ضد الرجاء والسرور فى الذات وفى اللوازم والآثار. وجواب الاشكال بان التابع للهدى مؤمن والمؤمن لا يخلو من الخوف والرجاء وهما فيه ككفتى الميزان وكذلك الحزن من لوازم الايمان كما فى الاخبار فكيف ينفى عنه الخوف والحزن يستدعى ذكر مقدمات:
الاولى - ان الخوف يطلق تارة على المعنى الذى ذكر وتارة على معنى اعم مما ذكر ومن الخشية والهيبة والسطوة فان الانسان فى مقام الايمان التقليدى وهو أنزل مقامات النفس المؤمنة له خوف، واذا عرج الى مقام الايمان التحقيقى بوجدان آثار ما من الايمان فى نفسه وهو أعلى مقام النفس المؤمنة ومقام القاء السمع يتبدل خوفه بالخشية، واذا عرج الى مقام القلب وهو مقام الايمان الشهودى يتبدل خشيته بالهيبة، واذا عرج الى مقام الروح وهو مقام الايمان التحققى يتبدل هيبته بالسطوة، ولفظ الخوف قد يطلق على الجميع.
والثانية - ان تعليق الجزاء يقتضى اعتبار حيثية وصف الشرط فى التلازم.
والثالثة - ان المراد بالهدى هو النبى (ص) او وصيه (ع) او شأن من الله يظهر على نفس الانسان بواسطة البيعة مع أحدهما ومتابعته، او المراد بالهدى مثال احدهما يظهر على صدر الانسان بقوة متابعته لهما.
والرابعة ان التابع للنبى (ص) او وصيه (ع) اذا خلص متابعته له عن متابعة غيره يتمثل المتبوع عنده بحيث ينجذب التابع بتمام مداركه وقواه الى الصورة المتمثلة عنده ويأخذ ذلك المثال بمجامع قلبه ولا يدع مدخلا ولا مخرجا لغيره فلا يدع له ادراك الغير حتى يستشعر بالتضرر منه فيخاف او بفواته فيحزن؛ فعلى هذا معنى الآية { فمن تبع هداي } بحيث يتمثل الهادى عنده { فلا خوف } عليه ولا حزن من حيث انه تابع وان كان قد يخرج من تلك الحيثية فيدخله حينئذ خوف وحزن.
وقد عد الخوف والحزن من صفات النفس وهو خارج عن مقام النفس وهذا التمثل هو الذى قالته الصوفية من ان السالك ينبغى ان يجعل شيخه نصب عينيه بحيث لا يشتغل عنه بغيره ومقصودهم ان السالك ينبغى ان يتوغل فى الاتباع حتى يتمثل المتبوع عنده لا ان يتكلف ذلك من غير اتباع، فانه كفر وليس الا فى النار وقد قيل بالفارسية.
جمله دانسته كه اين هستى فخ است
ذكر وفكر اختيارى دوزخ است
فان الفكر فى لسانهم عبارة عن تمثل الشيخ عند السالك والمراد بالاختيارى هو الذى يتكلفه السالك ويتراءى ان الفكر الغير الاختيارى كالاختيارى اشتغال بالاسم وغفلة عن المسمى وهو كفر شبيه بالاشتغال بالصنم لكن هذا من جملة الظنون فان الصورة المتمثلة اذا كان بقوة المتابعة لا تكون الا مرآة لجمال الحق الاول تعالى ولا يكون فيها حيثية سوى كونها مرآة والمشتغل بها عابد للمسمى بايقاع الاسماء عليه لا محالة، لا انه عابد للاسم والمسمى او للاسم فقط فهو موحد حقيقى، وقد قالوا: ان ظهور القائم (ع) فى العالم الصغير عبارة عن التمثل المذكور لان كلما ذكروه فى ظهور القائم (ع) يحصل حينئذ فى العالم الصغير وقد نظم بالفارسية اشارة الى هذا التمثل:
كرد شهنشاه عشق در حرم دل ظهور
قد زميان بر فراشت رايت الله نور
هركه دراين ره شتافت باقدم نيستى
هستى جاويد يافت ازتو ببزم حضور
وانكه جمال توديد جام وصالت جشيد
باده كوثر نخواست ازكف غلمان وحور
او معنى الآية فلا خوف عليهم فى الآخرة، او لا خوف لغيرهم عليهم، ولا هم يحزنون فى الآخرة، ونظير هذه الآية ذكر مكررا فى القرآن ونذكر فى بعض الموارد ما يليق به.
[2.39]
{ والذين كفروا وكذبوا بآياتنآ أولئك أصحاب النار } عطف على جملة { فمن تبع هداي } (الى آخره). وحق العبارة ان يقول: ومن لم يتبع هداى لكنه عدل الى صريح الموصول وترك الفاء فى الخبر هاهنا وجاء به فى الاول للتأكيد والتصريح بالتلازم وعدم التخلف فى جانب الوعد وعدم التأكيد والتلازم فى جانب الوعيد وأتى بقوله { كفروا وكذبوا بآياتنآ } بدل من لم يتبع للاشعار بأن عدم الاتباع كفر ومستلزم للانتهاء الى التكذيب، واصل الآيات وأعظمها الانبياء والاولياء فذكر تكذيب الآيات فى مقام عدم اتباع الهدى يؤيد تفسير الهدى بالانبياء والاولياء (ع) وتكرار المبتدأ باسم الاشارة البعيدة لتأكيد الحكم واحضارهم بأوصافهم الذميمة وتحقيرهم، وللتطويل فى مقام الوعيد المطلوب فيه التشديد والتأكيد والتطويل، ولذا لم يكتف بصحابة النار المشعرة بالتجانس المستلزم للخلود وأكدها بقوله { هم فيها خالدون } اعلم ان اخبار خلق آدم (ع) وحواء وكيفية خلقهما وبقائهما فى الجنة ووسوسة الشيطان لهما وأكلهما من الشجرة وهبوطهما على الصفا والمروة وبكائهما على فراق الجنة وبكاء آدم على فراق حواء وتوبة الله عليهما مذكورة فى التفاسير وكتب الاخبار والتواريخ من أهل الاسلام وغيرهم، ومن راجعها وتأملها تفطن بأنها من مرموزات الاقدمين؛ من أراد فليرجع اليها.
[2.40]
{ يابني إسرائيل } اسرائيل اسم ليعقوب (ع) واسرا بمعنى العبد وايل بمعنى الله، اواسرا بمعنى القوة وايل بمعنى الله، بعد ما ذكر خلق آدم (ع) وحواء (ع) وانعامه عليهما بسجدة الملائكة وطاعتهم لهما واسكانهم الجنة ونقضهما للعهد بترك النهى بالأكل من الشجرة وهبوطهما بارتكاب منهى واحد وتفضله عليهما وعلى ذريتهما بايتاء الهدى ووعد التابع ووعيد التارك التفت تعالى الى ذريتهما تفضلا عليهما وعليهم وناداهم واتى فى مقام آدم (ع) باسرائيل للاشعار بأن من انتسب الى الانبياء فهم بنو آدم (ع) واما غيرهم فليسوا بنى آدم حقيقة فان النسبة الجسمانية اذا لم تكن قرينة للنسبة الروحانية لم تكن منظورا اليها، واختار من بين الانبياء يعقوب (ع) لكثرة أولاده وبقاء النسبة الروحانية اليه فى أكثرهم فانه لم يقطع النبوة فى اولاده ولم يرفع الدين عنهم بخلاف سائر الانبياء { اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم } بخلق أبيكم آدم (ع) وتفضيله على سائر الموجودات، وتسخيره لكل ما فى الارض، وسجود الملائكة له، وهبوطه الى الارض لكثرة نسله وخدمه فانه نعمة لآدم وذريته وان كان بصورة النقمة كما قال المولوى:
ديو كبود كو ز آدم بكذرد
برجنين نطعى ازآن بازى برد
در حقيقت نفع آدم شد همه
لعنت حاسد شده آن دمدمه
بازئى ديدو دوصد بازى نديد
بس ستون خانه خودرا بريد
وببعثة الرسل فيكم واخذهم عهدى العام عليكم بالبيعة معكم البيعة العامة النبوية وبابقاء شرائع الرسل بخلفائهم واخذهم عهدى الخاص عليكم بالبيعة الخاصة الولاية وخصوصا بعثة خاتم الانبياء (ص) وخليفته خاتم الخلفاء { وأوفوا بعهدي } الذى أخذه نبيكم او خليفته عليكم فى البيعة العامة وقبول الدعوة الظاهرة او البيعة الخاصة وقبول الدعوة الباطنة { أوف بعهدكم } الذى على الوفاء به من ادخالكم الجنة بازاء قبول الدعوة في البيعة وفتح البركات السماوية والارضية بازاء اتباعكم شروط العهد واتقائكم عن مخالفتها واقامتكم لأوامر العهد التى هى أوامر الشرع وقد سبق أنه كلما ذكر عهد او عقد فى الكتاب فالمراد به هو الذى فى ضمن البيعة العامة او الخاصة والتفسير بما أخذ عليهم فى الذر صحيح كما فى بعض الاخبار فانه اشارة الى العهد التكوينى والولاية الفطرية لكنه اذا لم يقترن بالعهد التكليفى والبيعة الاختيارية لم يصح الامر بالوفاء به ولا المدح على الوفاء به ولا الذم على تركه ونقضه لنسيان المعاهد العهد الذى كان فى الذر { وإياي فارهبون } الفاء اما زائدة او اصلية وعلى اى تقدير فاياى منصوب بمحذوف يفسره المذكور سواء عد من باب الاشتغال ام لا وهو تأكيد وتخصيص للرهبة به تعالى بصورة التقديم وتنبيه على انه لا ينبغى ان يخاف من احد الا الله تعالى فان الاخلاص لا يتم الا بحصر الطاعة والرغبة والخوف والرهبة فيه وهذه الآية تعريض بأمة محمد (ص) وبالعهد الذى أخذه محمد بالبيعة العامة بقبول احكام النبوة وبالعهد الذى أخذه محمد (ص) فى غدير خم لعلى (ع) بالخلافة بالبيعة العامة على يد على (ع) وما ورد فى الاخبار من التفسير بالعهد الذى أخذه انبياؤهم على اسلافهم بالاقرار بنبوة محمد (ص) وولاية على (ع) تفسير بما كان مقصودا من عهدهم سواء ذكر فى بيعتهم ام لا، ولما كان الامر بالوفاء بالعهد هاهنا مقدمة للامر بالايمان بمحمد (ص) وعلى (ع) فتفسير العهد بما هو المقصود منه من الاقرار بمحمد (ص) وعلى (ع) كما فسر فى الاخبار كان اولى.
[2.41]
{ وآمنوا بمآ أنزلت } الذى هو النتيجة، والمقصود ما أنزل على محمد (ص) من الكتاب والشريعة الناسخة لكل كتاب وشريعة والايمان به مستلزم للايمان بنبوة محمد (ص) وولاية على (ع) او المراد مما أنزل ابتداء نبوة محمد (ص) وولاية على (ع) { مصدقا لما معكم } حال فى محل التعليل للامر بالايمان به فان تصديقه لما معهم مصدق للايمان به والمراد مما معهم التوراة والانجيل والاحكام الفرعية الشرعية والعقائد الاصلية الدينية ومنها نبوة محمد (ص) وخلافة وصيه والمقصود اولا وبالذات مما معهم نبوة محمد (ص) وخلافة على (ع) فانهما ثابتتان فى كتبهم وفى صدورهم بحيث لا تنفكان عن خاطرهم { ولا تكونوا أول كافر به } تنزل فى الكلام على طريقة المناصحين اى يجب عليكم الايمان به لكونه مصدقا لما معكم فان لم تؤمنوا به فاصبروا { ولا تكونوا أول كافر به } فانه اقبح لكم من كل قبيح لانكم عالمون بصدقه من قبل ومحجوجون بأن برهان صدقه وهو تصديق ما عندكم معه والمراد أول كافر به حين ظهور دعوته او بالاضافة الى اصحاب الملل فلا يرد ان هذا الكلام صدر منه مع يهود المدينة وقد كفر قبلهم كثير من مشركى مكة، و { أول كافر } خبر لا تكونوا وحمل المفرد على الجمع بتقدير فريق او صنف، او لا يكن كل واحد منكم اول كافر به، روى ان يهود المدينة جحدوا نبوة محمد (ص) وخانوه وقالوا: نحن نعلم أن محمدا (ص) نبى وان عليا (ع) وصيه ولكن لست انت ذلك ولا هذا هو ولكن يأتيان بعد وقتنا هذا بخمسمائة سنين.
تحقيق وتفصيل لاشتراء الثمن القليل بالآيات
{ ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا } اى لا تستبدلوا فان الاشتراء فى أمثال المقام يستعمل بمعنى مطلق الاستبدال والمراد بالثمن القليل الاعراض الدنيوية لانها وان كانت كثيرة فى أنفسها قليلة فى جنب الآخرة، ونزول الآية فى اشراف يهود مدينة وتحريفهم لآيات التوراة لاستبقاء مأكلة كانت لهم على اليهود، وكراهة بطلانها بسبب الاقرار بالنبى (ص) لا ينافى باعتبار التعريض بأمة محمد (ص) عموم الآية وتعميم الآيات المذكورة فيها؛ فان الآيات وكذا سائر كلمات الكتاب لا اختصاص لها بمرتبة خاصة بل لها فى كل مرتبة ومقام مصداق مناسب لتلك المرتبة؛ فالآيات التدوينية نقوش الكتاب الالهى والالفاظ المدلول بها عليها فانها آيات تدوينية باعتبار ان دوالها تدوينية، وهكذا نقوش الاخبار الصادرة عن المعصومين (ع) والصادقين والالفاظ التى هى مدلولاتها، وآيات الآفاق الموجودات الدالة بغرائب خلقتها على حكمة صانعها سواء كانت مادية ارضية او سماوية او غير مادية من البرزخ والمثال والنفوس والعقول، وآيات الانفس شؤن النفوس ووارداتها ومشاهداتها ومكمون الاشياء فيها، وظهورها بها، وغرائب ذلك فى اطوارها، والاعمال التى تظهر منها على الاعضاء فانها آيات دالة على ضمائر النفوس فان كانت بصورة الاعمال الالهية الدالة على ان ضمائر النفوس اوامر ونواه الهية كانت آيات الله ايضا، واشتراء الثمن القليل بالآيات عبارة عن الاعراض عنها من جهة كونها آيات الله سواء أعرض عنها مطلقا او توجه اليها بجهة اخرى فالمصلى اذا كان الداعى له الى الصلاة الامر الالهى من غير التفات منه الى ان فيها قربا او رضى من الله او نجاة من النار او دخولا فى الجنة ومن غير طلب منه لذلك يعنى من غير التفات الى نفسه وصدور العمل منها كان حافظا لآية الله غير مشتر بها ثمنا قليلا، واذا كان الداعى له طلب القرب من الله او طلب رضاه او النجاة من النار او دخول الجنة يعنى اذا التفت الى عمله وطلب له اجرا كان مستبدلا بآية الله ثمنا قليلا، واذا كان الداعى له حفظ صحته او صحة من عليه اهتمام امره او رفع مرض او حفظ مال او تكثير مال او حفظ عرض او بقاء منصب او الوصول الى منصب او الظهور على عدو او غير ذلك من الاغراض المباحة كان مستبدلا بها ثمنا اقل من الاول، واذا كان الداعى غرضا من الاغراض الغير المباحة مثل الرياء والسمعة والصيت ومدح الناس والتحبب اليهم وحفظ المناصب الغير المباحة مثل القضاء والامامة والحكومات الغير الشرعية وجلب المال الغير المباح وادرار السلاطين والحكام وغير ذلك من الاغراض الغير المباحة كان مستبدلا بها عذابا دائما وهكذا سائر الاعمال الشرعية بل الاعمال المباحة فانها الصادرة عن النفس العاقلة، والعاقل فعله ينبغى ان يكون صادرا من مبدء عقلانى وراجعا الى ذلك فاذا لم يكن فعل العاقل قرين غرض عقلانى كان مستبدلا بآية الله اى آية العقل فان العقل آية الله وآية الآية آية ثمنا قليلا، وما ورد فى الآيات والاخبار من المدح على ابتغاء وجه الله او طلب مرضاته او غير ذلك فالمراد الطلب من غير جعل الطلب غرضا ومن غير استشعار بذلك الطلب وقلما تنفك ارباب العمائم واصحاب المناصب والاتباع السواقط من اكثر هذه الاغراض المباحة، واما من ابتلى منهم بالأغراض الغير المباحة فليتعوذ من شره فانه أضر على دين العباد من ابليس وجنوده، وما تداول بينهم من الاجرة على بعض العبادات كالاذان وصلاة ليلة الدفن وتلاوة القرآن وتعليم القرآن، وما تداول بين ارباب المنابر من أخذ الاجرة على ذكرهم المصائب والمراثى ومجالس وعظهم فقد صرحوا بحرمته، وهذا غير الأغراض الكاسدة التى ابتلاهم الله بها، واما الجعالة على فعل الصلاة والصوم المفروضين الفائتين يقينا او ظنا او احتمالا او الغير الصحيحين يقينا او ظنا او احتمالا بنيابة الاموات فقد اشتهر العمل به ونيابة الحج من حى عاجز او قادر او ميت كثر الاخبار بها وأجمعوا على صحتها وعملوا بها لكن لم يبينوا كيف ينبغى ان يكون القصد فيها حتى لا يكون المأخوذ اجرة على العبادة واشتراء بآيات الله ثمنا قليلا، والقاضى اذا اجازه الامام او نائبه للقضاء عموما او خصوصا وجلس فى مجلس القضاء بأمر الامام الذى هو أمر الله ولم يكن الداعى له الى القضاء سوى الامر كان حافظا لآية الله فان القضاء آية الامر به، والامر آية الآمر، والآمر آية الله، وان كان الداعى له التقرب الى الله او الى الامام او طلب رضا كل او الاصلاح بين الناس او رفع الخصومات او احقاق الحقوق او رفع الظلم وحفظ المظلوم او اجراء احكام الله وحدوده او امثال ذلك من الاغراض الصحيحة كان مستبدلا بآية الله ثمنا قليلا، وان كان الداعى له الترأس على العباد والتبسط فى البلاد او التحبب الى الناس او تخويف الخلق او الشرف والحسب او الخدم والحشم او الاعراض الفانية الدنيوية او غير ذلك من الاغراض الكاسدة فهو مستبدل بآية الله عذابا دائما اليما، هذا اذا كان القاضى منصوبا من الامام لذلك او للاعم من ذلك، وان كان غير مأذون فى ذلك فليتدبر فى قوله (ع): هذا مجلس لا يجلس فيه الا نبى او وصى او شقى، وهكذا حال أصحاب الفتيا فانهم فى فتياهم ان لم يكونوا مأذونين او لم يكن الامر داعيا لهم صدق عليهم قوله تعالى:
يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب
[آل عمران: 78] وقوله تعالى:
فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم
[البقرة: 79] فان المراد بالكتاب كتاب النبوة وأحكامها المستنبطة من الآيات والاخبار فالفتيا وآيات القرآن واخبار المعصومين (ع) هذا الكتاب الذى يلوون ألسنتهم به ويكتبونه بأيديهم فان الانسان ما لم يخرج من أغراضه سواء كانت صحيحة او فاسدة كان ما يجريه على اللسان او يكتبه باليد ملويا بلسانه ومكتوبا بيده لا بلسان مسخر لامر الله ولا بيد آلة لله وان كانت صورته صورة الكتاب وصورة الاحكام الشرعية واخبار المعصومين (ع) لم يكن من الكتاب ولا من الشريعة ولا من المعصومين (ع) فان صورة اللفظ وصورة النقش حرمتها بنية المتكلم والكاتب، الا ترى أن الفقهاء رضوان الله عليهم أفتوا بأن لفظ محمد (ص) ان كتب مرادا به محمد بن عبد الله الرسول الختمى (ص) كان محترما ومسه بدون الطهارة حراما، وان كتب مرادا به غيره لم يكن له حرمة مع ان الصورة فى الكتابتين واحده لا تميز بينهما والفرق ليس الا بنية الكاتب { فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم } ويلوونه بألسنتهم مما كتبت ايديهم ونطقت به السنتهم { وويل لهم مما يكسبون } ، لكن ما كتب من صورة القرآن ينبغى الاهتمام فى احترامه مراعاة لحفظ صورة الكتاب كما ورد التأكيد فى الاهتمام بما جمعه عثمان من صورة الكتاب وأمثال الآيتين المذكورتين فى حق الشجرة الملعونة وهى بنو امية واحزابهم واتباعهم الى يوم القيامة الذين عاندوا الائمة وشيعتهم فضلا عن الاذن منهم فى كتابة الكتاب والفتيا فى الاحكام ولهذا كان اهتمام الشيعة من الصدر الاول بالاذن والاجازة من المعصومين (ع) او ممن نصبوه لذلك بحيث ما لم يجازوا لذلك لم يتكلموا فى الاحكام ولم يكتبوا منها شيئا، والمدرس فى تدريسه والمتعلم فى تعلمه ان كانا مأمورين بذلك ولم يكن الداعى لهما الا الامر كانا حافظين لآيات الله، والا كانا مستبدلين، سواء كان غرضهما من المباحات او من غير المباحات نظير ارباب القضاء والفتيا، وكذلك الحال فى جملة الاعمال والاحوال عبادة كانت او غيرها فما من احد سوى المخلصين (بفتح اللام) الا وهو مشتر بآيات الله ثمنا قليلا بوجه، أعاذنا الله وجميع المؤمنين منه، وأعظم من ذلك الاشتراء كله أن تقلد نبى العصر او ولى الامر ثم تعرض عنه للاشتغال بما عرضته النفس من اهوائها او تطهر بيت قلبك حتى يدخل فيه ويظهر عليك فى عالمك الصغير صاحب الامر عجل الله فرجه ثم تعرض عنه او يعرض عنك فانك حينئذ تكون اشد حسرة وندامة من كل ذى حسرة وندامة { وإياي فاتقون } لما كان الرهبة فى الاغلب من المحتمل الوقوع والتقوى من المتيقن الوقوع والغفلة عن النعمة وترك الوفاء بالعهد من غير الاعراض والاستهزاء بالمعاهد معه محتمل النقمة، واشتراء الثمن القليل بالآيات التى اصلها واعظمها نبى الوقت او خليفته متيقن النقمة لان شراء سائر الآيات وان كان محتمل النقمة لكنه باعتبار ادائه الى شراء الآية الكبرى متيقن النقمة استعمل الرهبة هناك والتقوى هاهنا.
[2.42]
{ ولا تلبسوا } لا تخلطوا { الحق } الذى هو الايمان والعقائد الدينية والفروع الشرعية المأخوذة من طريق الظاهر بالتعلم والتعليم او من طريق الباطن بالالهام والوجدان او الحق الذى هو ولاية على (ع) او الحق الذى هو أعم من الولاية والعقائد الدينية والفروع الشرعية { بالباطل } الذى هو الكفر وضد العقائد الدينية وضد الفروع الشرعية او الباطل الذى هو ولاية غير على (ع) او الباطل الذى هو أعم، او لا تلبسوا الاعمال الالهية بالأغراض النفسانية، او لا تلبسوا الحق الذى هو نبوة محمد وولاية على (ع) الذى هو ثابت فى كتبكم بتحريفاتكم الباطلة، او الحق الذى هو أوصاف محمد (ص) وعلى (ع) بالباطل الذى أحدثتموه فى كتبكم وهذا هو نزول الآية { وتكتموا الحق } ولا تكتموا الحق او مع ان تكتموا الحق على ان يكون مجزوما بالعطف او منصوبا بان المقدر والمراد بالحق الثانى هو الاول على قانون تكرار المعرفة او غيره والمعنى لا تلبسوا الحق بالباطل لقصد كتمانه او لعدم المبالاة به، او لا تلبسوا الحق الظاهر بالباطل ليشتبه على من ظهر الحق عليه ولا تكتموا الحق الغير الظاهر ليختفى على الناس { وأنتم تعلمون } يعنى وانتم العلماء او وانتم تعلمون الحق ولبسه واخفائه.
[2.43]
{ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } قد مضى بيان للصلاة واقامتها وللزكاة وايتائها فى اول السورة { واركعوا مع الراكعين } الركوع فى اللغة وفى العرف العام الانحناء وقد يستعمل فى التذلل مجازا، وفى عرف المتشرعة عبارة عن الانحناء المخصوص الواقع فى الصلاة ويستعمل مجازا فى الصلاة واما فى لسان الشارع فلو سلم ثبوت الحقائق الشرعية لم يعلم نقله الى الانحناء فى الصلاة ولو سلم نقله اليه كثر استعماله فى الخضوع والتذلل ايضا بحيث كان استعماله فى الخضوع غالبا على استعماله فى ركوع الصلاة ولما كانت الصلاة المسنونة فى شريعتنا عبادة جامعة لعبادات سائر الموجودات تكوينا ولعبادات الملائكة ولعبادات مقامات الانسان وشؤنه كان ركوع الصلاة صورة عبادة الملائكة الركع وصورة عبادة الحيوان المنكوس الرأس الى الارض، وصورة عبادة مقامه الذى به اصلاح معاشه وتدبير دنياه بقوله تعالى: { واركعوا مع الراكعين } بعد ذكر الصلاة امر بالجماعات او بالاتفاق مع المسلمين فى عبادتهم وخضوعهم او بموافقة اهل الدنيا فى مرمة المعاش يعنى لا ينبغى لكم ان يكون اقامة الصلاة مانعة عن مرمة معاشكم بل ينبغى ان تكون مقتضية لمرمة المعاش واصلاح الدنيا بحيث تكونوا رجالا لا تلهيكم تجارة ولا بيع عن ذكر الله واقام الصلاة.
[2.44]
وقوله تعالى { أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم } ان كان المراد به الامر بحسن المعاشرة فى مرمة المعاش كان بمنزلة التعليل لقوله: { واركعوا مع الراكعين } على المعنى الاخير وامرا لهم بحسن المعاشرة على أبلغ وجه وأوكده، وان كان المراد الامر بحسن المؤانسة مع الحق وحسن المعاشرة مع الخلق كان بمنزلة التعليل لمجموع قوله { واقيموا الصلاة } (الخ) والاستفهام للانكار التوبيخى والمعنى انكم مفطورون على ان تأمروا الناس بالبر والاحسان فى العبادات وبالاحسان مع الخلق ومكلفون من الله مطابقا للفطرة بذلك ولا يجوز لكم أن تأمروا الناس بذلك وتتركوا أنفسكم بان لا تصلحوا بالإتمار فأصلحوها اولا باقامة الصلاة وايتاء الزكاة والركوع مع الراكعين بأى معنى أريد، ثم مروا الناس بذلك لقبح امر الناس بذلك وعدم الإتمار به فى العقل والعرف { وأنتم تتلون الكتاب } السماوى من التوراة والانجيل وغيرهما من الصحف دونهم، او انتم تتلون كتاب النبوة وأحكام الشريعة دون الناس فانتم عالمون بالمعروف دونهم، فانتم اولى بالإتمار منهم، او المعنى وانتم تتلون الكتاب وفيه قبح الامر بالمعروف والنهى عن المنكر ممن لا يأتمر ولا يتناهى { أفلا تعقلون } قبح ذلك وعقوبة القبيح بعده.
تحقيق الامر بالمعروف وموارده
اعلم ان الامر بالمعروف والنهى عن المنكر واجبان فى الجملة اما عموم وجوبهما لكل فرد بالنسبة الى كل واحد من الناس وبلا شرط فلا؛ فنقول: انهما واجبان على كل بالغ رشيد بالنسبة الى من فى عالمه الصغير فانه اذا تعلق التكليف بالانسان كان عليه ان يأمر نفسه وقواه بما علم انه خيره وينهى عما هو شره بالنسبة الى قوته الانسانية كما كان يأمر بما هو خيره وينهى عما هو شر له بالنسبة الى قواه الحيوانية قبل ذلك، وما لم يعلم انه خير او شر كان عليه اولا تحصيل العلم بذلك ثم الامر والنهى، ومن كان جمع آخر تحت يده مثل امرأته واولاده ومملوكه لا مثل الاجير والمكارى والخادم كان عليه ان يأمرهم بما علم انه خير لهم وينهاهم كذلك، وما لم يعلم انه خير او شر كان عليه تحصيل علمه اولا ثم الامر والنهى وليس عليه ان يطهر نفسه اولا ثم يستأذن الامام ثم يأمر وينهى فان من تحت اليد كالقوى والجنود التى فى عالمه الصغير من جملة اجزائه، والامر والنهى بالنسبة اليهم مطلقان غير مقيدين بطهارة النفس عن جملة الرذائل وحصول القوة القدسية الرادعة عن المعاصى، نعم كان عليه ان يأمر وينهى اولا نفسه ويزجرها عن الرذائل ثم يأمر وينهى من تحت يده والا دخل تحت الامر التارك والناهى الفاعل، واما بالنسبة الى عموم الخلق فليس ذلك واجبا على كل احد بل على من تطهر اولا من المعاصى والرذائل، وحصل القوة القدسية الرادعة عن ارتكاب المعاصى، وحصل العلم بمعروف كل احد من الناس ومنكره فان المعروف والمنكر يختلفان بحسب اختلاف الاشخاص؛
" وحسنات الابرار سيئات المقربين "
يدل عليه، وفى الاولين خلاف بل أفتى اكثر الفقهاء رضوان الله عليهم بوجوب الامر بالمعروف على تاركه والنهى عن المنكر على فاعله، واما الثالث فلا خلاف فى انه شرط لوجوب الامر بالمعروف والنهى عن المنكر بل لا خلاف فى كونه شرطا لجوازهما، وقيل: ان هذا الشرط يقتضى اشتراطهما بالاولين ايضا فان العلم بمعروف كل احد ومنكره يقتضى البصيرة التامة بحاله بحيث يعلم انه فى اى مقام من الايمان والاسلام، ويعلم أن اى مرتبة من الاحكام يقتضيها ذلك المقام، وهذه البصيرة لا تكون الا لمن تطهر عن المعاصى والرذائل وحصل القوة القدسية التى هى شرط فى الافتاء، فان الافتاء كالامر بالمعروف لا يجوز لكل احد بل لمن تطهر وحصل القوة القدسية المذكورة وسيأتى ان شاء الله بيان له، وفيما روى عن الصادق (ع) تصريح بعدم جواز الامر بالمعروف والنهى عن المنكر بالنسبة الى عموم الخلق لكل فرد من الناس وهو قوله (ع): من لم ينسلخ من هواجسه ولم يتخلص من آفات نفسه وشهواتها ولم يهزم الشيطان ولم يدخل فى كنف الله وامان عصمته لا يصلح للامر بالمعروف والنهى عن المنكر لانه اذا لم يكن بهذه الصفة فكل ما أظهر يكون حجة عليه ولا ينتفع الناس به قال الله تعالى: { أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم } ويقال له: يا خائن اتطالب خلقى بما خنت به نفسك وأرخيت عنه عنانك، وهكذا الحال فيما روى عنه (ع) انه سئل عن الامر بالمعروف والنهى عن المنكر أواجب هو على الامة جميعا؟ - فقال: لا، فقيل: ولم؟ - قال: انما هو على القوى المطاع العالم بالمعروف من المنكر لا على الضعفة الذين لا يهتدون سبيلا الى اى من اى يقول من الحق الى الباطل والدليل على ذلك كتاب الله تعالى قوله
ولتكن منكم امة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر
[آل عمران: 104] فهذا خاص غير عام كما قال الله تعالى:
ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون
[الأعراف: 159]، ولم يقل: على أمة موسى، ولا على كل قوم وهم يومئذ امم مختلفة، والامة واحد فصاعدا كما قال الله تعالى:
إن إبراهيم كان أمة قانتا
[النحل: 120] لله يقول: مطيعا لله؛ الى آخر الحديث، والاخبار الدالة على ذم الآمر التارك والناهى الفاعل يشعر بذلك مثل ما نسب الى امير المؤمنين (ع) وهو قوله: وانهوا عن المنكر وتناهوا عنه فانما أمرتم بالنهى بعد التناهى وقوله (ع)
" لعن الله الآمرين بالمعروف والتاركين له، والناهين عن المنكر العاملين به "
، ومثل الاخبار الدالة على ذم من وصف عدلا ثم خالفه الى غيره وانه اشد حسرة يوم القيامة فعلى هذا فالاخبار الدالة على عموم وجوبهما اما مخصصة بالعالم المطهر او بالعالم بالمعروف الذى يأمر به والمنكر الذى ينهى عنه، او نقول التطهير وحصول العلم من مقدماتهما فهما واجبان مطلقا لكن حصولهما مشروط بالعلم والتطهير لا وجوبهما فالأمر بهما يقتضى الأمر بمقدماتهما اولا مع ان المقدمات فى أنفسها مأمور بها، او نقول: وجوبهما على الكل انما هو بعنوان التعاون على البر والتقوى وترك التعاون على الاثم والعدوان، لا بعنوان الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وان كان لفظ الاخبار بعنوان الامر بالمعروف والنهى عن المنكر فان الالفاظ كثيرا يستعمل بعضها فى عنوان البعض الآخر.
[2.45]
{ واستعينوا } فيما ذكر من الوفاء بالعهد الى آخر ما ذكر او فى خصوص تطهير النفس وأمر الغير بالبر او فى جملة الأمور من الانتهاء عن المناهى وامتثال المأمورات وحسن المضى فى المصائب وحسن المعاشرة مع الخلق وتحصيل الراحة فى الدنيا والآخرة { بالصبر } فانه لا يتيسر شيئ من المذكورات الا بالصبر فانه حبس النفس عن الهيجان عند الغضب، وعن الطيش عند الشهوة، وعن الجزع عند ورود المكاره، ومن استعان بالصبر فى اموره لم يخرجه الغضب عن حق ولم يدخله الشهوة فى باطل وهانت عليه المصائب فلم يكن اسيرا للشهوة والغضب ولا جزوعا عند مصيبته فكان فى الدنيا فى راحة عن الاسر والجزع، وفى الآخرة فى اطلاق عن السلاسل وفى نعمة عظيمة فى الجنان، ولم يمنعه الشهوة والغضب ولا البلايا عن تزود معاده ولا عن مرمة معامشه { والصلاة } الصلاة حقيقة من ولى الامر ولايته ومن غيره قبول ولاية ولى الامر كما ان الزكاة هى التبرى من غير ولى الامر ولذا كانت الصلاة والزكاة عمادى الدين، ولم يكن شريعة من لدن آدم (ع) الا كانتا اساسيها، ولما كان القالب مسخرا للقلب وكان اثر الصفات القلبية يظهر على القالب كان للصلاة والزكاة فى كل شريعة صورة على القالب، ولما كانت الشرائع بحسب اختلاف النبوات فى الكمال وبحسب اختلاف الازمان واستعداد اهلها مختلفة اختلفت صورة الصلاة والزكاة فى الشرائع، ولما كانت شريعة محمد (ص) باخبارهم اكمل الشرائع كان صورة الصلاة والزكاة فى شريعته أكمل الصور، وقد فسر الصبر فى الاخبار بالصيام لكون الصيام أكمل افراده وسببا لحصول سائر، انواعه ولا غرو فى تفسيره بالرسالة لكونها مانعة للنفس بانذارها عن امضاء الغضب والشهوة وعن الجزع عند المصيبة، وتفسيره بالرسول لاتحاده مع الرسالة التى هى شأن من شؤنه واتحاد كل ذى شأن مع شأنه كما لا غرو فى تفسير الصلاة بعلى (ع) لكون الولاية شأنا منه واتحاده مع شأنه، وعن الصادق (ع) ما يمنع أحدكم اذا دخل عليه غم من غموم الدنيا ان يتوضأ ثم يدخل مسجده فيركع ركعتين فيدعو الله فيهما اما سمعت الله تعالى يقول: { واستعينوا بالصبر والصلاة }. وعنه (ع) كان على (ع) اذا هاله شيئ فزع الى الصلاة ثم تلا هذه الآية { واستعينوا بالصبر والصلاة } { وإنها } اى الصلاة كما يستنبط من الاخبار وقيل: الاستعانة بهما، وما فى تفسير الامام (ع) من قوله ان هذه الفعلة من الصلوات الخمس والصلاة على محمد (ص) وآله (ع) مع الانقياد لاوامرهم والايمان بسرهم وعلانيتهم وترك معارضتهم بلم وكيف يدل على ان الضمير راجع الى الصلاة وان المراد بالصلاة الولاية الظاهرة بالصلوات الخمس والصلاة على محمد (ص) وآله (ع) والانقياد لاوامرهم وترك مخالفتهم { لكبيرة } على كل احد لان الانسان ما لم يخرج من انانيته ولم يستشعر بعظمة الله لا يتيسر له الصلوة التى هى الانقياد تحت أمر الله والتسخر له او الافعال المسببة عن الانقياد فان الانانية التى هى صفة الشيطان والنفس منافية للانقياد الذى هو صفة الانسان { إلا على الخاشعين } المتذللين تحت عظمة الله الخارجين من انانيتهم وعظمتهم، والخشوع والخضوع والتواضع الفاظ متقاربة المعنى فان الخشوع حالة حاصلة من الاستشعار بعظمة المتخشع له مع محبته والالتذاذ بوصال ما منه ممزوجا بألم الفراق؛ والخضوع تلك الحالة، لكن الاستشعار بالعظمة فى الخضوع اكثر منه فى الخشوع والمحبة أخفى، والتواضع تلك الحالة والعظمة اكثر والمحبة اخفى بالنسبة الى الخضوع .
اعلم ان الانسان كلما ازداد خروجه من انانيته وشيطنته ازداد انقياده لولى امره، وكلما ازداد جهة انقياده ازداد خشوعه اى استشعاره بعظمة ولى امره والتذاذه بوصاله وتألمه بجهة فراقه، وكلما ازداد خشوعه ازداد تلذذه بصلاته حتى تصير صلاته قرة عينه ويجعل راحته فى صلاته كما روى عن النبى (ص) انه قال:
" قرة عينى فى الصلاة "
، وكان يقول:
" روحنا يا ارحنا يا بلال ".
[2.46-47]
الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم } فى الحياة الدنيا قد يفسر الرب بالرب المضاف والملاقاة بملاقاة الرب المضاف من حيث ربوبيته وهى بظهور مثاله على الصدر المعبر عنه فى اصطلاح الصوفية بالفكر وفى لسان الشريعة بالسكينة وهو ظهور صاحب الامر فى العالم الصغير واول مراتب معرفة على بالنورانية وحينئذ فالظن بمعناه فانهم لا يتيقنون ذلك بل يتوقعونه ويرجونه وقد يفسر بملاقاة الرب المضاف فى الآخرة فالظن ايضا بمعناه لانهم لا يعلمون انهم يلاقون ربهم فى الآخرة او يختم لهم بالشر فينكسون فى النار وقد يفسر بملاقاة الحساب والجزاء يعنى بالبعث فالظن بمعنى اليقين، ولما كانت النفس علومها غير معلوماتها بل قد يتخلف المعلومات عنها كثيرا ما يستعمل الظن فيها لمشابهتها بالظنون فى ذلك بخلاف علوم القلب والروح { وأنهم } بعد لقائه فى الحياة الدنيا او بعد بعثتهم ولقاء حسابه فى الآخرة { إليه راجعون } يا بني إسرائيل كرر النداء للتأكيد ولان المراد ببنى اسرائيل هناك كما مضى بنو آدم والمراد بهم هاهنا بنو اسرائيل حقيقة فان المراد اظهار الامتنان بالنعم التى أنعمها عليهم خاصة لكن الغرض التعريض بامة محمد (ص) وسائر الخلق { اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم } ببعثة الانبياء فيكم ودلالتهم لكم الى بعثة محمد (ص) وخلافة وصيه، او المراد من النعمة المضافة جنس النعمة ويكون قوله: { وأني فضلتكم على العالمين } من قبيل عطف التفصيل على الاجمال على الوجه الاخير، ونسبة النعم الى الموجودين مع انها كانت لاسلافهم المعدومين على طريق مخاطبات العرف فانهم ينسبون ما وقع من قبيلة الى بعضهم الذى لم يشاركوهم من جهة المخالفة والموافقة فى الحسب والنسب ، والمراد من العالمين اهل عالمهم الموجودون معهم لا أهل كل عالم حتى يلزم تفضيلهم على أمة محمد (ص).
[2.48]
{ واتقوا يوما } يوم الموت فانه وقت { لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة } فى رفع الموت او تأخيره { ولا يؤخذ منها عدل } فداء يكون بدلا منها بتحمل الموت { ولا هم ينصرون } يعنى ان انجرار الامر الى المدافعة يوم الموت لم يكن لهم ناصر يدفع عنهم روى عن الصادق (ع) هذا يوم الموت فان الشفاعة لا تغنى عنه فاما يوم القيامة فانا واهلنا نجزى عن شيعتنا كل جزاء لنكونن على الاعراف بين الجنة والنار محمد (ص) وعلى (ع) وفاطمة والحسن (ع) والحسين (ع) والطيبون من آلهم فنرى بعض شيعتنا فى تلك العرصات؛ فمن كان منهم مقصرا وفى بعض شدائدها نبعث عليهم خيار شيعتنا كسلمان والمقداد وأبى ذر وعمار ونظرائهم فى العصر الذى يليهم فى كل عصر الى يوم القيامة فينقضون عليهم كالبزاة والصقور ويتناولونهم كما يتناول البزاة والصقور صيدها فيزفونهم الى الجنة زفا وانا لنبعث على آخرين من محبينا خيار شيعتنا كالحمام فيلتقطونهم من العرصات كما يلتقط الطير الحب وينقلونهم الى الجنان بحضرتنا؛ وسيؤتى بالواحد من مقصرى شيعتنا فى أعماله بعد ان قد حاز الولاية التقية وحقوق اخوانه ويوقف بازائه مائة واكثر من ذلك الى مائة الف من النصاب فيقال له هؤلاء فداؤك من النار فيدخل هؤلاء المؤمنون الجنة واولئك النصاب النار، وذلك ما قال الله عز وجل
ربما يود الذين كفروا
[الحجر: 2] يعنى بالولاية
لو كانوا مسلمين
[الحجر: 2] فى الدنيا منقادين للامامة ليجعل مخالفوهم من النار فداءهم.
[2.49]
{ وإذ نجيناكم } اذكروا اذ نجينا اسلافكم { من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب } من سامه الامر كلفه وقلما يستعمل فى غير الشر والمراد بسوء العذاب الاعمال الشاقة الخارجة عن الطاقة كانوا يأمرونهم بنقل الطين واللبن على السلالم مع ان كانوا يقيدونهم بالسلاسل او قوله تعالى { يذبحون أبنآءكم } بيان لسوء العذاب كانوا يقتلون الذكور من اولاد بنى اسرائيل طلبا لقتل من أخبر الكهنة والمنجمون بأن خراب ملك فرعون بيدهم وجعل الله رغم أنفه تربية موسى بيده { ويستحيون نسآءكم } يستبقون بناتكم للاسترقاق بقرينة المقابلة لذبح الابناء او يفتشون حياء نسائكم يعنى فروجهن لتجسس العيب كالاماء او لتجسس الحمل، وروى انه ربما كان يخفف العذاب عنهم ويسلم ابناؤهم من الذبح وينشؤن فى محل غامض ويسلم نساؤهم من الافتراش بما أوحى الله الى موسى (ع) من التوسل بالصلاة على محمد (ص) وآله (ع) الطيبين { وفي ذلكم } الانجاء او سوم العذاب او المذكور من الانجاء وسوم سوء العذاب { بلاء } نعمة او نقمة او امتحان بالنعمة والنقمة كليهما { من ربكم عظيم } والمقصود تذكير بنى اسرائيل بالبلاء العظيم الذى ابتلى به اسلافهم وتخفيفه بالصلاة على محمد (ص) وآله (ع) الطيبين ليتنبهوا ان من كان التوسل بأسمائهم والصلاة عليهم رافعا لعذابهم ومورثا لنجاتهم وبركاتهم فالتوسل بأشخاصهم (ع) كان اولى فى ذلك وتنبيه الامة على شرافة محمد (ص) وآله (ع).
[2.50]
{ وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم } من جنود فرعون ومن الغرق { وأغرقنا آل فرعون } اى فرعون وقومه فان نسبة أمر الى قوم بسبب الانتساب الى رئيسهم تدل على ان المنتسب اليه اولى بذلك الامر { وأنتم تنظرون } اليهم وهم يغرقون وقد ورد فى اخبارنا ان نجاتهم ونعمهم كانت بتوسلهم بمحمد (ص) وآله (ع) والمقصود من ذكر نجاتهم ونعمهم تذكيرهم بتوسلهم بمحمد (ص) وآله الطيبين حين عدم ظهورهم حتى يتذكروا بأن من كان نجاتهم من البلايا ونعمهم بتوسلهم به حين لم يكن موجودا فالتوسل به حين ظهوره اولى وفيه تعريض بالامة وبنجاتهم ونعمتهم بمحمد (ص) وآله (ع) وبان لا ينبغى التخلف عن قوله ومعاندة آله الذين كان السلف بتوسلهم بهم ينجون ويتنعمون، وقصة خروج موسى (ع) مع بنى اسرائيل من مصر، وخروج فرعون وجنوده على اثرهم، وعبور السبطى وغرق القبطى مذكورة فى المفصلات ولعلنا نذكر شطرا منها فيما يأتى.
[2.51]
{ وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة } كان موسى بن عمران يقول لبنى اسرائيل: اذا فرج الله عنكم أتيتكم بكتاب من ربكم مشتمل على ما تحتاجون اليه فى دينكم، فلما فرج الله عنهم امره الله عز وجل ان يأتى للميعاد ويصوم ثلاثين يوما فلما كان فى آخر الايام استاك قبل الفطر فأوحى الله عز وجل اليه
" يا موسى: اما علمت ان خلوف فم الصائم أطيب عندى من ريح المسك، صم عشرا آخر ولا تستك عند الافطار "
؛ ففعل ذلك موسى فكان وعد الله تعالى ان يعطيه الكتاب بعد اربعين ليلة فأعطاه اياه فجاء السامرى فشبه على مستضعفى بنى اسرائيل وقال وعدكم موسى ان يرجع اليكم بعد اربعين ليلة وهذه عشرون ليلة وعشرون يوما تمت اربعون أخطأ موسى ربه وقد اتاكم ربكم ان يريكم انه قادر على ان يدعوكم بنفسه الى نفسه وانه لم يبعث موسى لحاجة منه اليه فأظهر لهم العجل الذى كان عمله، فقالوا له: كيف يكون العجل آلهنا؟ - قال لهم: انما هذا العجل يكلمكم منه ربكم كما كلم موسى من الشجرة فالاله فى العجل كما كان فى الشجرة فضلوا وعبدوه. ونقل انه صنع صورة العجل ووضعه بحيث كان مؤخره الى حائط وحبس خلف الحائط بعض مردته فوضع فاه على دبره وتكلم بما تكلم فتوهموا ان العجل يكلمهم. ونقل ان السامرى كان قد أخذ من تراب اثر قدم فرس جبرئيل يوم غرق فرعون وكان التراب فى صرة عنده وكان يفتخر على بنى اسرائيل بذلك وكان موسى قد وعدهم ان يأتى بالكتاب بعد الثلاثين فلما انقضى الثلاثون ولم يرجع موسى اتى الشيطان بصورة شيخ وقال لهم: ان موسى قد هرب ولا يرجع اليكم فاجمعوا لى حليكم حتى اتخذ لكم آلها فصاغ لهم العجل وقال للسامرى: هات التراب الذى عندك فأتاه به فألقاه فى جوف العجل فتحرك وخار ونبت له الوبر والشعر { ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون } نقل ان اتخاذهم العجل كان بتهاونهم بالصلاة على محمد (ص) وآله (ع) وبترك التوسل بهم.
[2.52]
{ ثم عفونا عنكم } بتوسلكم بمحمد (ص) وآله من بعد ذلك { لعلكم تشكرون } نعمة العفو ونعمة التوسل بمحمد (ص) وآله (ع).
[2.53]
{ وإذ آتينا } واذكروا اذ آتينا { موسى الكتاب والفرقان } ما به يفرق بين الحق والباطل والمحق والمبطل والمراد بالكتاب النبوة والتوراة صورتها وبالفرقان الرسالة او المراد بالكتاب النبوة والرسالة وبالفرقان الولاية فانها الفارقة بين الخير والشر والخير والشرير والتوراة صورتهما ولذا فسر الكتاب بالتوراة او النبوة يعنى التى كانت فى موسى (ع) والفرقان بالاقرار بمحمد (ص) والطيبين من آله (ع) فانه كالولاية فارق، نقل انه لما أكرمهم الله بالكتاب والايمان به أوحى الله الى موسى هذا الكتاب قد أقروا به وقد بقى الفرقان فرق ما بين المؤمنين والكافرين فجدد عليهم العهد به فانى آليت على نفسى قسما حقا لا أتقبل من أحدهم ايمانا ولا عملا الا به، قال موسى (ع): ما هو يا رب؟ - قال الله: يا موسى تأخذ عليهم ان محمدا (ص) خير النبيين وسيد المرسلين، وان أخاه ووصيه عليا خير الوصيين، وأن اولياءه الذين يقيمهم سادة الخلق، وان شيعته المنقادين له ولخلفائه نجوم الفردوس الا على وملوك جنات عدن فأخذ عليهم موسى ذلك؛ فمنهم من اعتقده حقا ومنهم من أعطاه بلسانه دون قلبه، فالفرقان النور المبين الذى كان يلوح على جبين من آمن بمحمد (ص) وعلى (ع) وعترتهما وشيعتهما وفقده من جبين من أعطى ذلك بلسانه دون قلبه اقول: الاقرار بهذه المعانى والمراتب المذكورة ليس الا بقبول الولاية فانه بالولاية يتبين مراتب الوجود وأن بعضها افضل من بعض ومراتب الرسل والاوصياء وان بعضهم أكمل من بعض لا بغيرها { لعلكم تهتدون } الى مقامات الانبياء والرسل ومراتب الوجود ومراحل السلوك وعوالى العوالم.
[2.54]
{ وإذ قال موسى لقومه } عد نعمة أخرى فان توجه موسى اليهم وتذكيرهم بالتوبة وتعليمهم طريق التوبة نعمة عظيمة كما ان قبولهم لقوله (ع) وتوبتهم بقتل أنفسهم كانت نعمة عظيمة { ياقوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل } الها { فتوبوا } عن ظلمكم وضلالكم بما برأتم { إلى بارئكم } التعليق على الوصف للاشعار بعلة التوبة والتنبيه على غاية الغباوة بالانصراف عن البارى الى المبروء { فاقتلوا أنفسكم } التى اقتضت الانصراف عن البارى الى المبروء الذى هو غاية الحماقة؛ فالمراد بالأنفس الأنفس المقابلة للعقول، او فاقتلوا وأفنوا أنانياتكم التى اقتضت الاستقلال بالآراء الكاسدة، او اقتلوا ذواتكم بقتل بعضكم بعضا. وما ورد فى الاخبار من أنهم أمروا ان يقتلوا أنفسهم بالسيوف وأنهم كانوا سبعين ألفا شهروا السيوف على وجوههم يدل على ذلك، مثل ما ورد ان العابدين كانوا ستمائة الف الا انثى عشر الفا وهم الذين لم يعبدوا العجل أمر الله اثنى عشر الفا لم يعبدوا العجل ان يقتلوا الذين عبدوا العجل فشهروا سيوفهم وقالوا: نحن أعظم مصيبته من عبدة العجل نقتل آباءنا وقراباتنا بأيدينا فنزل الوحى على موسى (ع) ان قل لهم: توسلوا بالصلاة على محمد (ص) وآله (ع) حتى يسهل عليكم ذلك فتوسلوا فسهل عليهم ذلك فلما استمر القتل فيهم وهم ستمائة الف الا اثنى عشر الفا واستسلموا لذلك وقف الله الذين عبدوا العجل على مثل ذلك فتوسلوا فتاب الله عليهم فرفع القتل. ونقل انه قتل منهم عشرة آلاف فوقفوا فرفع القتل { ذلكم } القتل { خير لكم عند بارئكم } كرر البارى للتذذ والتمكين واحضار الله بالوصف المخصوص تأكيدا لنسبة الغباوة اليهم بالانصراف عن عبادة البارئ الى عبادة المبروء.
اعلم ان اسم الله وسائر اسمائه تعالى قد تكرر فى الكتاب كثير تكرار، والوجه العام التمكين فى القلوب وتلذذ الموحى اليه بسماعه وذكره ويوجد فى خصوص المقامات دواع خاصة غير ذلك سواء اقتضت الدواعى اسماء خاصة مثل اقتضاء مقام التهديد الاسماء القهرية كالاسماء الدالة على الغضب والانتقام وسرعة الانتقام ومثل اقتضاء مقام الوعد الاسماء اللطفية اولا.
{ فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم }.
[2.55]
{ وإذ قلتم ياموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة } بجرأتكم على نبيكم وعلى ربكم وسوء أدبكم { وأنتم تنظرون } الى الصاعقة تنزل بكم فمتم.
[2.56]
{ ثم بعثناكم من بعد موتكم } اشارة الى ان البعثة كانت عن موت لا عن اغماء، وهذه الآية تدل على جواز الرجعة كما ورد الاخبار بها وصارت كالضرورى فى هذه الامة وقد احتج امير المؤمنين (ع) بها على ابن الكواء فى انكاره الرجعة، وورد انه سئل الرضا (ع) كيف يجوز ان يكون كليم الله موسى بن عمران لا يعلم ان الله لا يجوز عليه الرؤية حتى يسأله هذا السؤال؟ - فقال: ان كليم الله علم أن الله منزه عن ان يرى بالابصار ولكنه لما كلمه وقربه نجيا رجع الى قومه فأخبرهم أن الله كلمه وقربه وناجاه فقالوا: لن نؤمن لك حتى نسمع كلامه كما سمعته؛ وكان القوم سبعمائة الف فاختار منهم سبعين الفا ثم اختار منهم سبعة آلاف ثم اختار منهم سبعمائة ثم اختار منهم سبعين رجلا لميقات ربه؛ فخرج بهم الى طور سيناء فأقامهم فى سفح الجبل وصعد موسى الى الطور وسأل الله ان يكلمه ويسمعهم كلامه وكلمه الله وسمعوا كلامه من فوق وأسفل ويمين وشمال ووراء وامام لان الله أحدثه فى الشجرة ثم جعله منبعثا منها حتى سمعوه من جميع الوجوه فقالوا: لن نؤمن بأن هذا الذى سمعناه كلام الله حتى نرى الله جهرة، فلما قالوا هذا القول العظيم واستكبروا وعتوا بعث الله عليهم صاعقة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم فماتوا، فقال موسى (ع): ما أقول لبنى اسرائيل اذا رجعت اليهم وقالوا انك ذهبت بهم فقتلتهم؛ لانك لم تكن صادقا فيما ادعيت من مناجاة الله اياك؟ فأحياهم وبعثهم فقالوا: انك لو سألت الله ان يريك تنظر اليه لاجابك فتخبرنا كيف هو ونعرفه حق معرفته فقال موسى (ع): يا قوم ان الله لا يرى بالابصار ولا كيفية له وانما يعرف بآياته ويعلم بأعلامه فقالوا: لن نؤمن لك حتى تسأله، فقال موسى (ع): يا رب انك قد سمعت مقالة بنى اسرائيل وأنت أعلم بصلاحهم فأوحى الله اليه يا موسى (ع): سلنى ما سألوك فلم أأخذك بجهلهم فعند ذلك قال موسى: رب أرنى أنظر اليك، قال: لن ترانى ولكن انظر الى الجبل فان استقر مكانه وهو يهوى فسوف ترانى فلما تجلى ربه للجبل بآية من آياته جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال: سبحانك تبت اليك يقول رجعت الى معرفتى بك عن جهل قومى وأنا اول المؤمنين منهم بأنك لا ترى.
وذكر فى الاخبار أن موسى اختار من قومه وهم سبعمائة ألف سبعين رجلا من خيار القوم بزعمه وقد وقع اختياره على الافسد مع ظنه أنهم الاصلحون واذا كان اختيار مثل موسى (ع) رسولا من اولى العزم واقعا على الافسد علمنا ان اختيار الخلق معزول عن تعيين الامام الذى ينبغى ان يكون أصلح الخلق.
وورد ان موسى (ع) لما اراد ان يأخذ عليهم عهد الفرقان فرق ما بين المحقين والمبطلين لمحمد (ص) بنبوته ولعلى (ع) والائمة بامامتهم قالوا لن نؤمن لك ان هذا امر ربك حتى نرى الله عيانا يخبرنا بذلك فأخذتهم الصاعقة معاينة فقال موسى: للباقين الذين لم يصعقوا اتقبلون وتعترفون والا فأنتم بهؤلاء لاحقون فقالوا: لا ندرى ما حل بهم فان كانت انما اصابتهم لردهم عليك فى أمر محمد (ص) وعلى (ع) فاسأل الله ربك بمحمد (ص) وآله (ع) ان يحييهم لنسألهم لماذا أصابهم ما أصابهم، فدعى الله موسى فأحياهم فسألوهم فقالوا: أصابنا ما أصابنا لابائنا اعتقاد امامة على (ع) بعد اعتقاد نبوة محمد (ص) لقد رأينا بعد موتنا هذا ممالك ربنا من سماواته وحجبه وعرشه وكرسيه وجنانه ونيرانه فما رأينا أنفذ أمرا فى جميع الممالك وأعظم سلطانا من محمد (ص) وعلى (ع) وفاطمة (ع) والحسن (ع) والحسين (ع) وانا لما متنا بهذه الصاعقة ذهب بنا الى النيران فناداهم محمد (ص) وعلى (ع) كفوا عن هؤلاء عذابكم فانهم يحيون بمسئلة سائل سأل ربنا عز وجل بنا وبآلنا الطيبين (ع) قال الله لأهل عصر محمد (ص): فاذا كان بالدعاء بمحمد (ص) وآله الطيبين (ع) نشر ظلمة أسلافكم المصعوقين بظلمهم فانما يجب عليكم ان لا تتعرضوا لمثل ما هلكوا به الى ان أحياهم الله { لعلكم تشكرون } قد مضى وجه نسبة فعل الاسلاف الى الاخلاف وأنها بملاحظة السنخية بينهم وملاحظة رضا الاخلاف بفعل الاسلاف، ولما كان الشكر بمعنى ملاحظة المنعم فى النعمة او صرف النعمة فيما خلقت لاجله وكل منهما لا يمكن للمحتجب بالانانية والمقيد بالحياة الدانية عقب البعث الذى هو الحياة الالهية بعد الاماتة عن الحياة الدانية والخروج من الانانية بترقب الشكر.
[2.57]
{ وظللنا عليكم الغمام } حين كونكم تائهين فى التيه ليقيكم من ضر حر الشمس وبرد القمر { وأنزلنا عليكم المن } فسر المن بالترنجبين { والسلوى } بالعسل وبالطائر المشوى وبالسمانى وهو طير يشبه الحمام أطول ساقا وعنقا منه { كلوا } اى قائلين كلوا { من طيبات ما رزقناكم } والامر فى أمثال المقام أعم من الاباحة والوجوب والرجحان بحسب اعداد الاشخاص واحوال الشخص الواحد ومقدار الاكل لشخص واحد فى حال واحدة والمراد بما رزقه الله هاهنا ان كان المن والسلوى فاضافة الطيبات للتبيين لا للتقييد، وان كان المراد مطلق ما رزقه الله العباد فالاضافة للتقييد اى تقييد المضاف اليه بالمضاف، او نقول: ان كان المراد بالمرزوق المن والسلوى فطيبوبته وعد طيبوبته بذكر اسم الله عليه وعدمه والمعنى كلوا مما ذكر اسم الله عليه ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وحينئذ فالاضافة للتقييد وفى تفسير القمى لما عبر موسى (ع) بهم البحر نزلوا فى مفازة فقالوا: يا موسى أهلكتنا وأخرجتنا من العمران الى مفازة لا ظل فيها ولا شجر ولا ماء فكانت تجيئ بالنهار غمامة تظلهم من الشمس وتنزل عليهم بالليل المن فيأكلونه وبالعشى يجيئ طائر مشوى فيقع على موائدهم فاذا أكلوا وشبعوا طار عنهم وكان مع موسى (ع) حجر يضعه فى وسط العسكر ثم يضربه بعصاه فينفجر منه اثنتا عشرة عينا فيذهب الماء الى كل سبط وكانوا اثنى عشر سبطا فلما طال عليهم ملوا وقالوا: يا موسى لن نصبر على طعام واحد { وما ظلمونا } بكفران النعمة واستبدال الادنى بالذى هو خير اوما ظلمونا بالاعتراض على موسى (ع) وعدم مراعاة تعزيزه وتوقيره وهو تعريض بأمة محمد (ص) وكفرانهم النعمة وعدم تعظيم محمد (ص) والائمة (ع). وعن الباقر (ع) انه قال: ان الله أعظم وأعز وأجل وأمنع من ان يظلم ولكنه خلطنا بنفسه فجعل ظلمنا ظلمه وولايتنا ولايته حيث يقول:
إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا
[المائدة:55] يعنى الائمة منا { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } باستبدال الادنى بالذى هو خير، او بازالة النعمة بالكفران، او بظلم الائمة الذين هم أنفس الاخلائق وذواتهم حقيقة، او بظلم الائمة المسبب او السبب لاهلاك أنفسهم.
[2.58]
{ وإذ قلنا } واذكروا يا بنى اسرائيل اذ قلنا لكم حين خرجتم من التيه { ادخلوا هذه القرية } وهى بيت المقدس او اريحا من بلاد الشام { فكلوا منها حيث شئتم رغدا } واسعا بلا تعب { وادخلوا الباب } اى باب القرية او باب القبة التى فى بيت المقدس كانوا يصلون اليها { سجدا } ساجدين لله او خاضعين متواضعين للشكر على خروجكم من التيه ذكر أنه مثل الله تعالى على الباب مثال محمد (ص) وعلى (ع) وأمرهم ان يسجدوا تعظيما لذلك ويجددوا على أنفسهم بيعتهما وذكر موالاتهما ويذكروا العهد والميثاق المأخوذين عليهم { وقولوا } بألسنتكم هذه الفعلة من السجود والتعظيم لمثال محمد (ص) وعلى (ع) { حطة } لذنوبنا او قولوا بألسنة قلوبكم او اعتقدوا ذلك او هو مصدر مبنى للمفعول اى قولوا بألسنة اجسادكم او قلوبكم لنا حطة وسفلية بالنسبة الى المثال المذكور وهى فعله من حطة اذا أنزله وألقاه وقرئ حطة بالنصب مفعولا لفعل محذوف وعلى أى تقدير فهذه الكلمة اما جزء جملة محذوفة المبتدأ او محذوفة الخبر أو قائمة مقام جملة محذوفة وعلى التقادير فهى اما انشائية دعائية او خبرية { نغفر لكم خطاياكم } لمن كان مخطئا منكم { وسنزيد المحسنين } منكم الجملة مستأنفة لبيان حال المحسن مخطئ كان او غير مخطئ.
[2.59]
{ فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم } اى لم يسجدوا كما أمروا ولا قالوا ما أمروا بل دخلوا الباب بأستاههم وقالوا بدل حطة: حنطة حمراء نتقوتها أحب الينا من هذا الفعل وهذا القول، او قالوا حنطة فى شعير. وروى أنه كان خلافهم انهم لما بلغوا الباب رأوا بابا مرتفعا وقالوا: ما بالنا نحتاج ان نركع عند الدخول هيهنا ظننا أنه باب متطأ من لا بد من الركوع فيه وهذا باب مرتفع والى متى يسخر بنا هؤلاء يعنون موسى ثم يوشع بن نون ويسجدوننا فى الاباطيل وجعلوا أستاههم نحو الباب وقالوا بدل قولهم حطة: ما معناه حنطة حمراء فذلك تبديلهم { فأنزلنا على الذين ظلموا } وضع الظاهر موضع المضمر وتكرار الموصول لتمكين قبح الظلم فى قلوب المستمعين والاشعار بسببيته للزجر كما ان تعليق التبديل على الموصول كان للاشعار بسببيته لتبديل قول النبى (ص) الذى هو قول الله والمقصود التعريض بأمة محمد (ص) وظلمهم لاهل البيت (ع) وتبديلهم قول النبى (ص) ونسب الى الباقر (ع) أنه قال: نزل جبرئيل (ع) بهذه الآية فبدل الذين ظلموا آل محمد (ص) حقهم غير الذى قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا آل محمد (ع) وهذا باعتبار المعرض به والمقصود من الآية { رجزا من السمآء } الرجز بالكسر وبالضم بمعنى العذاب او النجاسة او مطلق ما يعاف عنه كالرجس { بما كانوا يفسقون } يخرجون من امر الله وطاعته ذكر ان الرجز الذى أصابهم انه مات منهم فى بعض يوم بالطاعون مائة وعشرون ألفا وهم الذين كانوا فى علم الله أنهم لا يؤمنون ولا يتوبون ولم ينزل على من علم أنه يتوب او يخرج من صلبه ذرية طيبة.
[2.60]
{ و } اذكروا { إذ استسقى موسى لقومه } لم يقل لكم بالخطاب كما أتى بخطاب الحاضرين من بنى اسرائيل فى السابق واللاحق تجديدا للاسلوب واشعارا بأن استسقاء موسى كان لبنى اسرائيل من حيث كونهم قومه وموافقين له متضرعين اليه مستحقين لطلب الرحمة لهم وليس الحاضرون مثالا لهم من هذه الجهة حتى يخاطبوا من هذه الحيثية فانهم لما عطشوا فى التيه التجأوا الى موسى وتضرعوا عليه واستسلموا لأمره فاستسقى لهم { فقلنا اضرب بعصاك الحجر } وكان ذلك الحجر حجرا مخصوصا فضربه بها داعيا بمحمد (ص) وآله الطيبين (ع) نسب الى الباقر (ع) انه قال نزلت ثلاثة احجار من الجنة؛ مقام ابراهيم (ع)، وحجر بنى اسرائيل، والحجر الاسود. وعنه اذا خرج القائم من مكة ينادى مناديه: الا لا يحملن أحد طعاما ولا شرابا وحمل معه حجر موسى بن عمران وهو وقر بعير ولا ينزل منزلا الا انفجرت منه عيون؛ فمن كان جائعا شبع، ومن كان ظمأن روى، ورويت دوابهم حتى ينزلوا النجف من ظهر الكوفة { فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس } من الاسباط الاثنى عشر من اولاد يعقوب { مشربهم } ولا يزاحمون الآخرين فى مشربهم، وكأن مشرب كل كان معلوما مميزا عن مشارب الآخرين قائلين لهم { كلوا } من المن والسلوى، او كانت العيون تنبع بما فيه غذاؤهم وشرابهم كما أشار اليه الخبر السابق { واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين } حال مؤكدة فان العثو بمعنى الافساد.
[2.61]
{ وإذ قلتم } واذكروا اتى بالخطاب لمجانسة الحاضرين للماضين فى الانكار والكفران { ياموسى لن نصبر على طعام واحد } يعنى قال اسلافكم فى التيه لن نصبر على المن والسلوى ولا بد لنا من غذاء آخر معهما { فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها } البقل ما يؤكل من نبات الارض خضرا مثل الكراث والنعناع والكرفس ونحوها ويطلق على مطلق نبات اخضرت به الارض { وقثآئها } بالمد وتشديد الثاء وكسر القاف وقد يضم الخيار، وبعضهم يطلق القثاء على نوع شبه الخيار { وفومها } الحنطة او الخبز او مطلق الحبوب المأكولة وقيل الثوم وقرء بالثاء { وعدسها وبصلها } قال الله تعالى او موسى (ع) { أتستبدلون الذي هو أدنى } وادون مرتبة من المن والسلوى { بالذي هو خير } فانهما ألذ وأقوى وألطف { اهبطوا } من هذه التيه { مصرا } من الامصار او المراد المصر العلمى وصرفه لسكون اوسطه { فإن لكم } فيها { ما سألتم } من البقول والقثاء والفوم وغيرها { وضربت عليهم الذلة } الهوان شبه الذلة المضروبة عليهم بالقبة لاحاطتها بهم من جميع الجوانب او بالطين المضروب الملصق على الجدار ثم استعمل الضرب فيها { والمسكنة } هى اسوء من الفقر وهذا عذابهم فى الحياة الدنيا وذلك انه ما ينفك اليهود عن الحرص والطمع وهما أعظم أسباب الذلة والحاجة وهم فى الظاهر أسوأ حالا من النصارى { وبآءو بغضب من الله } رجعوا عن مقام السؤال متلبسين بغضب عظيم من الله، او صاروا أحقاء بغضب من الله فى الآخرة { ذلك } المذكور من ضرب الذلة والمسكنة والرجوع بالغضب يا أمة محمد (ص) فانه للتعريض بهم { بأنهم كانوا يكفرون } تخلل كانوا للاشارة الى ان الكفر صار سجية لهم وكذا قتل الانبياء { بآيات الله } صغيرها وكبريها فى العالم الصغير والكبير، والآيات الكبرى هم الانبياء (ص) والاولياء (ع) { ويقتلون النبيين } المخبرين من الله سواء كانوا انبياء او خلفاءهم او النبيين المخصوصين الذين هم غير الاوصياء { بغير الحق } لمحض البيان فانه لا يقتل نبى بالحق { ذلك } الكفر بالآيات والقتل { بما عصوا } الله وخلفائه { وكانوا يعتدون } على الخلفاء او يتجاوزون أمر الله، وتخلل كانوا للاشارة الى تمكنهم فى الاعتداء والمقصود ان العصيان صار سببا للاعتداء والتمكن فيه، والتمكن فى الاعتداء صار سببا للكفر والقتل، وهما صارا سببا للذلة والمسكنة والغضب؛ فاحذروا يا امة محمد (ص) من مقارفة صغار الذنوب حتى لا تؤدى الى أكبرها والى العقوبة بالذلة والمسكنة فى الدنيا والغضب فى الآخرة، او بكل منها فيهما ونسب الى النبى (ص) انه قال:
" يا عباد الله فاحذروا الانهماك فى المعاصى والتهاون بها فان المعاصى يستولى بها الخذلان على صاحبها حتى توقعه فيما هو أعظم منها "
؛ فلا يزال يعصى ويتهاون ويخذل ويوقع فيما هو أعظم مما جنى حتى توقعه فى رد ولاية وصى رسول الله (ع) ودفع نبوة نبى الله (ص)، ولا يزال ايضا بذلك حتى توقعه فى دفع توحيد الله والالحاد فى دين الله، وعن الصادق (ع) انه قال: والله ما ضربوهم بأيديهم ولا قتلوهم بأسيافهم ولكن سمعوا أحاديثهم فأذاعوها فأخذوا عليها فقتلوا فصار قتلا باعتداء ومعصية وبهذا المضمون أخبار كثيرة.
[2.62]
{ إن الذين آمنوا } بالايمان العام الذى هو نفس البيعة العامة او الحاصل بالبيعة العامة او الشبيه بالحالة الحاصلة من البيعة العامة كما سبق مفصلا والحاصل أن المراد بالايمان هذا هو معنى الاسلام { والذين هادوا } هاد وتهود وسائر متصرفاتهما من المشتقات الجعلية المأخوذة من اليهود بمعنى دخل فى اليهودية او انتحلها، ويهود اما عربى من هاد اذا تاب؛ سموا به لأنهم تابوا على يد نبيهم، او لأنهم تابوا عن عبادة العجل، واما معرب يهودا أكبر اولاد يعقوب سموا باسمه { والنصارى } والذين تنصروا عدل عن الموصول وصلته لان نصر لم يستعمل مأخوذا من النصرانية ومعناه اللغوى غير مقصود وتنصروا ان كان من المشتقات الجعلية المأخوذة من النصرانية لكن الاغلب استعماله فى انتحال النصرانية لا فى الدخول فيها، والنصارى جمع النصران كالسكارى والسكران وصف مأخوذ من نصر؛ سموا به لأنهم نصروا عيسى (ع)، او مأخوذ جعلى من الناصرة، او من النصرانة اسم قرية نزلتها مريم وعيسى (ع) بعد رجوعهما من مصر، واجتمع النصارى فيها، والياء فى النصرانى للمبالغة او للنسبة على الاخير { والصابئين } عبدة الكواكب سموا به لأنهم صبوا اى مالوا الى دين الله او عن دين الله ان قرء بدون الهمزة او لانهم صبئوا عن دين الله او صبؤا الى دين الله اى خرجوا ان قرأ بالهمزة وعدل عن الموصول لما ذكر فى النصارى { من آمن } منهم { بالله } بالايمان الخاص الحاصل بالبيعة الخاصة الولاية وقبول الدعوة الباطنة ودخول الايمان فى القلب ودخول الانسان فى دار الايمان وقبول الولاية واحكام القلب او المراد بالايمان معناه اللغوى اى من أذعن بالله او بعلى (ع) لانه مظهره، او المراد بالايمان الاسلام اى من آمن بالبيعة العامة وقبول الدعوة الظاهرة بالله، { واليوم الآخر وعمل صالحا } اى عمل الاعمال المأخوذة عليه فى بيعته على المعنى الاول للايمان، او المراد بالعمل الصالح على المعنيين الأخيرين للايمان البيعة الخاصة الولاية فانها اصل الاعمال الصالحة وبدونها لا يكون عمل صالح اصلا { فلهم أجرهم } اى الاجر الذى ينبغى ان يكون لهم ولا يمكن معرفته الا بالاضافة اليهم { عند ربهم } والتقييد بكونه عند ربهم تعظيم آخر للاجر والمقصود ان الاسلام واليهودية والنصرانية والصابئية متساوية فى ثبوت الاجر العظيم اذا انتهى كل منها الى الولاية وقبول الدعوة الباطنة ودخول الايمان فى القلب، واذا لم ينته الى الولاية فالعبارة تدل بمفهوم المخالفة على ان لا اجر عند ربهم لشيئ منها سواء لم يكن أجر او كان ولكن لم يكن عند ربهم، وتفصيل هذا الاجمال كما يستفاد من الآيات والاخبار ان من أنكر الولاية فله عقوبته، ومن لم ينكر ولم يذعن فهو مرجئ لأمر الله؛ اما يعذبه واما يتوب عليه سواء كان المنكر مسلما او غيره، ومن لم ينكر ولم يذعن ولكن كان فى زمان الرسول ووقف على البيعة العامة كان ناجيا ببيعته العامة مع الرسول فان الله لا يلته من أعماله شيئا { ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } قد مضى بيان مفصل لهذه الآية فلا نعيده.
[2.63]
{ وإذ أخذنا ميثاقكم } اى على أيدى أنبيائكم او خلفائهم، والمراد بالميثاق هو العهد المأخوذ فى البيعة العامة او الخاصة، والاضافة للعهد اى الميثاق المأخوذ بنبوة محمد (ص) وولاية على (ع) او الميثاق المأخوذ بالتوحيد والنبوة والاقرار بما جاء به نبيهم ومنه نبوة محمد (ص) وولاية على (ع) وان يؤدوه الى اخلافهم ولذا ورد تفسير الميثاق بهما اما لكونهما مذكورين فى البيعة او لكون الاقرار بنبوة كل نبى وولاية كل ولى اقرارا بنبوة محمد (ص) وولايته على (ع) لكون نبوة الانبياء وولاية الاولياء رقائق لنبوة محمد (ص) وولاية على (ع) والرقيقة جزئية من الحقيقة كما انها كل بالنسبة اليها والاقرار بالجزئى اقرار بالكلى كما ان الاقرار بالكل اقرار بالجزء { ورفعنا فوقكم الطور } اى الجبل امر الله جبرئيل ان يقلع من جبل فلسطين قطعة على قدر معسكر بنى اسرائيل فقلعها ورفعها فوق رؤسهم قائلين على لسان نبينا { خذوا مآ آتيناكم } من الاحكام مطلقة او من الاحكام التى آتيناكم فى الميثاق بحسب القالب او القلب او من التوراة او من نبوة محمد (ص) وولاية على (ع) { بقوة } من قلوبكم وابدانكم. قيل: قال لهم موسى: اما ان تأخذوا بما أمرتم واما ان ألقى عليكم هذا الجبل فألجئوا الى قبوله كارهين الا من عصمه الله ثم لما قبلوا سجدوا وعفروا وكثير منهم عفر خديه لا لارادة الخضوع لله ولكن نظرا الى الجبل هل يقع ام لا { واذكروا ما فيه } اى فى الميثاق من الشروط او من الاحكام القالبية او القلبية او من ثواب الموافق وعقاب المخالف، او اذكروا ما فى رفع الطور ووقوعه، او اذكروا ما فيما آتيناكم من الثواب والعقاب او الاحكام، ونسب الى الصادق (ع) انه قال: واذكروا ما فى تركه من العقوبة { لعلكم تتقون } اى اذكروا ما أمرناكم لعلكم تتقون المخالفة.
[2.64]
{ ثم توليتم من بعد ذلك } عن الذكر او عن الأخذ او عن الميثاق او عن الوفاء بشروط الميثاق { فلولا فضل الله عليكم ورحمته } الفضل هو الرسالة والنبوة بوجه الرسالة والرحمة هى الولاية والنبوة بوجه الولاية، ولذا فسرا فى بعض الآيات بمحمد (ص) وعلى (ع) لاتحادهما معهما ولكون النبى والولى فى الخلق سببا لنزول رحمته وبركته عليهم ودفع العذاب عنهم { لكنتم من الخاسرين } المضيعين بضاعتكم لكن وجودهما فيكم سبب لتدارك خسرانكم وتوفيق توبتكم وانابتكم، والآيات كما مضى تعريض بالامة فكأنها خطاب لهم وتذكير لهم بمخالفتهم وتداركها بوجود محمد (ص) وعلى (ع) فيهم.
[2.65]
{ ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت } فلا تعتدوا ايها اليهود ولا تعتدوا يا امة محمد (ص) فتعاقبوا بمثل عقوبتهم { فقلنا لهم كونوا } بالامر التكوينى { قردة خاسئين } بعيدين من كل خير او صاغرين او بمعنى أعم منهما.
[2.66]
{ فجعلناها } اى المسخة او العقوبة التى أخزيناهم بها او الامة الممسوخة كما فى الخبر { نكالا } زجرة وعبرة مانعة عن الاعتداء والمخالفة { لما بين يديها } للامم الماضية فان الامة الممسوخة الحاضرة بتوجههم الى الآخرة ووجود الامم الماضية فى الآخرة وعالم المثال متوجهون الى الامم الماضية وهم بين أيديهم، وكونها عبرة لهم باعتبار أخبار أنبيائهم عن الامم الآتية واعتدائهم؛ وعلى هذا فقوله تعالى { وما خلفها } عبارة عن الامم الحاضرة فى زمان الممسوخة والامم الآتية فان الممسوخة بتوجههم فطرة الى الآخرة مستدبرون عن الدنيا ومن فيها ومن سيقع فيها وان كانوا متوجهين الى الدنيا اختيارا، او المراد بما بين يديها الامم الحاضرة فى زمان المسخ والامم الآتية فان الحاضرة حاضرة بين أيديهم والآتية باعتبار مرور الممسوخة اعلى الزمان واستقبالهم عليها كأنها حاضرة بين أيديهم فقوله تعالى: وما خلفها؛ عبارة عن الأمم الماضية، او المراد بما بين يديها الحاضرون فى زمان الممسوخة وبما خلفها الآتون؛ او المراد القرى القريبة والبعيدة، او المراد بالنكال العقوبة التى هى معناه حقيقة؛ والمعنى جعلناها عقوبة لمعصيتهم الحاضرة والماضية { وموعظة } تذكيرا وتنبيها على العواقب او عبرة او نصحا او حثا على التقوى والطاعات او تخويفا عن المعاصى والاغترار بالدنيا { للمتقين } فان غيرهم لا يتنبهون ولا يتعظون فلا ينتفعون فلا ينظر اليهم. وتأتي قصة المعتدين فى السبت ومضى فى اول السورة تحقيق معنى التقوى { و } اذكروا يا بنى اسرائيل او يا أمة محمد (ص) او ذكر بنى اسرائيل او أمتك قصة القتيل واحياءه على يد موسى (ع) حتى تعلموا ان ما قاله موسى (ع) حق وان اخباره بنبوة محمد (ص) وولاية على (ع) ليس مما لا يكترث به.
[2.67]
{ وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم } لاحياء المقتول وإخباره بقاتله { أن تذبحوا بقرة } فتضربوا ببعضها هذا المقتول.
وقصته أنه كان فى بنى اسرائيل امراة حسناء ذات شرف وحسب ونسب كثر خطابها وكان لها بنو أعمام ثلاثة فرضيت بأفضلهم فاشتد حسدا بنى عمه الآخرين فعمدا اليه فدعوه وقتلاه وحملاه الى محلة مشتملة على اكثر قبيلة من بنى اسرائيل فألقياه فيها ليلا فلما أصبحوا وجدوا قتيلا وعرفوه فجاء ابنا عمه القاتلان ومزقا على أنفسهما واستعديا عليهم فأحضرهم موسى (ع) وسألهم فأنكروا قتله وقاتله فالزم موسى (ع) اماثل القبيلة ان يحلف خمسون منهم بالله القوى الشديد آله بنى اسرائيل مفضل محمد (ص) وآله الطيبين على البرايا اجمعين انا ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا فان حلفوا غرموا دية المقتول وان نكلوا نصوا على القاتل او اقر القاتل فيقاد منه، فان لم يحلفوا حبسوا فى مجلس ضنك الى ان يحلفوا او يقروا او يشهدوا على القاتل، فقالوا: يا نبى الله اما وقت ايماننا اموالنا ولا اموالنا ايماننا؟ - قال: لا؛ هذا حكم الله، فقالوا: يا نبى الله عزم ثقيل ولا جناية لنا وأيمان غليظة ولا حق فى رقابنا، فادع الله عز وجل ان يبين لنا القاتل وينكشف الامر لذوى الالباب وينزل به ما يستحقه فقال موسى: ان الله قد حكم بذلك وليس لى ان اقترح عليه غير ما حكم به بل علينا ان نسلم حكمه وهم بأن يحكم عليهم بذلك فأوحى الله تعالى اليه ان أجبهم وسلنى ان أبين لهم القاتل فانى اريد ان أوسع بئجابتهم الرزق على رجل من خيار أمتك دينه الصلاة على محمد (ص) وآله الطيبين (ع) ليكون بعض ثوابه عن تعظيمه لمحمد (ص) وآله (ع) ونسب الى الصادق (ع) ان الرجل كان له سلعة وجاء قوم يطلبون سلعته وكان مفتاح بيته فى تلك الحال تحت رأس أبيه وهو نائم فكره ان ينبهه وينغص عليه نومه فانصرف القوم ولم يشتروا سلعته فلما انتبه ابوه قال: يا بنى ما صنعت فى سلعتك؟ - قال: هى قائمة لم أبعها لان المفتاح كان تحت رأسك فكرهت ان أزعجك من رقدتك وانغص عليك نومك قال له ابوه: قد جعلت هذه البقرة لك عوضا عما فاتك من ربح سلعتك وشكر الله تعالى للابن ما فعل بأبيه فأمر الله جل جلاله موسى (ع) ان يأمر بنى اسرائيل بذبح تلك البقرة بعينها ليظهر قاتل ذلك الرجل الصالح فلما اجتمع بنو اسرائيل الى موسى (ع) وسألوه، قال: { ان الله يأمركم ان تذبحوا بقرة } ليحيى ذلك القتيل تعجبوا و { قالوا } يا موسى { أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } فان الاستهزاء من صفات الجاهل ونسبة امر الى الله لم يكن منسوبا اليه ليست من وصف العاقل.
[2.68]
{ قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي } ما وصفها فان ما هى كما هو سؤال عن حقيقة الشيء ومهيته يكون سؤالا عن صفة الشيئ ومميزاته العرضية { قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض } اى لا مسنة ولغلبة الاسمية عليه لم يأت بتاء التأنيث { ولا بكر } لا صغيرة { عوان بين ذلك } المذكور من الفارض والبكر { فافعلوا ما تؤمرون } ولا تكثروا السؤال عنها حتى يشدد عليكم.
[2.69]
{ قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفرآء فاقع لونها } شديد الصفرة مستحسنا بحيث لا يضرب الى السواد ولا الى البياض { تسر الناظرين } لحسنها وبريقها.
[2.70]
{ قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي } زيادة على ما وصفت بحيث لا يبقى لنا التباس فيها { إن البقر تشابه علينا وإنآ إن شآء الله لمهتدون } ببيانك روى أنهم لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الابد.
[2.71]
{ قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض } لا تكون مروضة مذللة لاثارة الارض { ولا تسقي الحرث } ولا تكون مروضة تسقى الحرث بالدلاء { مسلمة } من العيوب { لا شية فيها } لا لون فيها غير الصفرة يخالطها { قالوا الآن جئت بالحق } من أوصاف البقرة وحقيقتها التى بها تمتاز عن غيرها وقد عرفناها هى بقرة فلان واشير فى بعض الاخبار انهم لو ذبحوا أى بقرة عمدوا اليها أجزأهم لكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم. وفى تفسير الامام (ع) فلما سمعوا هذه الصفات قالوا: يا موسى فقد أمرنا ربنا بذبح بقرة هذه صفتها؟ - قال: بلى ولم يقل موسى فى الابتداء ان الله قد أمركم لانه لو قال: ان الله قد أمركم لكانوا اذ { قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هى } وما لونها كان لا يحتاج الى ان يسأله عز وجل ذلك ولكن كان يجيبهم هو بأن يقول امركم ببقرة فاى شيئ وقع عليه اسم البقرة فقد خرجتم من أمره اذا ذبحتموها فلما استقر الامر عليهم طلبوا هذه البقرة فلم يجدوها الا عند شاب من بنى اسرائيل أراه الله فى منامه محمدا (ص) وعليا (ع) وطيبى ذريتهما فقالا انك كنت لنا محبا مفضلا ونحن نريد ان نسوق اليك بعض جزائك فى الدنيا فاذا راموا شراء بقرتك فلا تبعها الا بأمر أمك فان الله يلقنها ما يغنيك به وعقبك، ففرح الغلام وجاء القوم يطلبون بقرته فقالوا: بكم تبيع بقرتك هذه؟ - قال: بدينارين والخيار لامى قالوا: رضينا بدينار فسألها، فقالت: بأربعة، فأخبرهم فقالوا، نعطيك دينارين، فأخبر أمه، فقالت: ثمانية، فما زالوا يطلبون على النصف مما تقول أمه، ويرجع الى أمه فتضعف الثمن حتى بلغ ثمنها ملأ مسك ثور أكبر ما يكون ملأ دنانير، فأوجبت لهم البيع { فذبحوها وما كادوا يفعلون } لغلاء ثمنها وثقله عليهم لان ثمنها بلغ الى ملأ جلدها على بعض ما نقل، او ملأ جلد ثور اكبر ما يكون دينارا وكان ثقيلا عليهم فانه بعد ما قبلوه بلغ مقداره الى خمسة آلاف الف دينار ولجاجهم حملهم على أدائها وافتقر القوم كلهم واستغنى الشاب، ونقل أنه لم يفتقر أحد من أولاده الى سبعين بطنا. وفى تفسير الامام (ع) ان أصحاب البقرة ضجوا الى موسى (ع) وقالوا: افتقرت القبيلة وانسلخنا بلجاجنا عن قليلنا وكثيرنا فأرشدهم موسى (ع) الى التوسل بنبينا فأوحى الله اليه ليذهب رؤساؤهم الى خربة بنى فلان ويكشفوا عن موضع كذا ويستخرجوا ما هناك فانه عشرة آلاف ألف دينار ليردوا على كل من دفع فى ثمن هذه البقرة ما دفع لتعود أحوالهم على ما كانت. ثم ليتقاسموا بعد ذلك ما يفضل وهو خمسة آلاف ألف دينار على قدر ما دفع كل واحد منهم ليتضاعف أموالهم جزاء على توسلهم بمحمد (ص) وآله (ع) واعتقادهم لتفضيلهم.
[2.72]
{ وإذ قتلتم نفسا } خطاب الجمع للحاضرين مع ان القتل كان من واحد او اثنين من الماضين لوجود القتل فيهم ولتعيير الكل بوقوع مثل ذلك الامر الشنيع فيهم ولان القاتل كان منهم ولان الحاضرين كانوا مشابهين للماضين، وكان حق هذا ان يذكر مقدما على قوله واذ قال موسى لقومه الى آخر الآية لكنه فك وقدم ذلك وأخر هذا لان المقام لبيان مساوئهم وبيان المساوى فى ذلك كان أتم ونوعها أكثر فان فيه ذكرا لانكارهم لموسى (ع) واستهزائهم بالامر بقياسهم الفاسد حيث قالوا: كيف يكون ملاقات عضو ميت لميت سبب الحياة؟ والاستقصاء فى السؤال والتوانى فى الامتثال والتدانى من ترك الامتثال { فادارأتم فيها } تخاصمتم فان المخاصمة تستلزم المدافعة او تدافعتم على حقيقته لان كلا دفع قتلها عن نفسه الى صاحبه { والله مخرج ما كنتم تكتمون } من خبر القاتل وارادة تعجيز موسى والاستهزاء به وهى جملة حالية او معطوفة على ادارأتم او معترضة واعمال مخرج لكونه حكاية حال ماضية متصورة بصورة الاستقبال بالنسبة الى جملة { فادارأتم فيها }.
[2.73]
{ فقلنا اضربوه } اى المقتول { ببعضها } ببعض أعضاء البقرة فضربوه بذنبها روى أنهم أخذوا قطعة وهى عجز الذنب الذى منه خلق ابن آدم وعليه يركب اذا أعيد خلقا جديدا فضربوه بها وقالوا: اللهم بجاه محمد (ص) وعلى (ع) وآله الطيبين لما أحييت هذا الميت وأنطقته ليخبر عن قاتله فقام سالما سويا وقال: يا نبى الله قتلنى هذان ابنا عمى حسدانى على بنت عمى فقتلانى وألقيانى فى محلة هؤلاء ليأخذوا ديتى فأخذ موسى (ع) الرجلين فقتلهما. وروى ان المقتول المنشور توسل الى الله سبحانه بمحمد (ص) وآله (ع) ان يبقيه فى الدنيا متمتعا بابنة عمه ويجزى عنه أعداءه ويرزقه رزقا كثيرا طيبا؛ فوهب الله له سبعين سنة بعد ان كان قد مضى عليه ستون سنة قبل قتله صحيحة حواسه فيها قوية شهواته فتمتع بحلال الدنيا وعاش معها لم يفارقها ولم تفارقه وماتا جميعا معا وصارا الى الجنة وكانا فيها زوجين ناعمين { كذلك يحيي الله الموتى } اى قلنا اضربوه ببعضها فضربوه فحى فقلنا كذلك يحى الله الموتى فلا تستغربوا الحيوة بعد المماة او قلنا اضربوه ببعضها قائلين بعد ضربه وحياته { كذلك يحيي الله الموتى } ، او هو مستأنف لبيان كيفية احياء الموتى فى الرجعة او فى المعاد فانهم كانوا مستغربين لاحياء الموتى ورجعتهم الى الدنيا، او اعادتهم فى الاخرى وبعد حياة الميت صار المقام مقام السؤال عن كيفية احياء الموتى كأنهم قالوا: هل يحى الله الموتى مثل احياء هذا الميت؟ - فقال تعالى: { كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته } عطف على يحى الله اى مثل اراءة هذه الآية العجيبة من احياء الميت بالتقاء ميت آخر يريكم سائر آياته النفسانية العجيبة والخارجية الغريبة { لعلكم تعقلون } اى تدركون جواز المعاد والرجعة، او تدركون صحة نبوة موسى (ع) وصحة قوله فى تفضيل محمد (ص) وعلى (ع) وآلهما (ع) او لعلكم تصيرون عقلاء خارجين عن مقام الجهل الى مقام العقل.
[2.74]
{ ثم قست قلوبكم } لا تلين بالرحمة والخير { من بعد ذلك } يعنى ما جعلناه سببا لرقة قلوبكم صار سببا لقسوته فان تعقيب القساوة لاراءة الآيات يشعر بسببيتها لها، وهذا ذم بليغ لهم لأنه يشعر بأن خباثة طينتهم جعلت ما كان سببا لهدايتهم وادراكهم سببا لقساوتهم وبلاهتهم { فهي كالحجارة } اى فصارت كالحجارة لكنه عدل الى الاسمية اشعارا بتمكنهم فى القسوة او فعلهم أنها كالحجارة فيكون عطفا باعتبار لازم الحكم { أو أشد قسوة } بل أشد قسوة وقرء أشد بالفتح عطفا على محل الحجارة { وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار } عطف فى موضع التعليل او حال كذلك { وإن منها لما يشقق فيخرج منه المآء } الذى هو دون النهر مثل العيون القليلة الماء { وإن منها لما يهبط من خشية الله } ينهار فينحدر من أعلى الجبل الى أسفله انقيادا لأمر الله التكوينى او يتناثر فيهبط من أطراف الاحجار الباقية فى الجبل فيهبط انقيادا للامر التكوينى، واستعمال الخشية مجاز او محمول على ان كل الممكنات لها علم وشعور وشوق وخوف وخشية { وما الله بغافل عما تعملون } توعيد لهم ثم صرف الخطاب عنهم بعد ما وبخهم الى المؤمنين فقال { أفتطمعون }.
[2.75]
{ أفتطمعون } بعد ما سمعتم من أحوال أسلافهم الموافقين لهم فى الشؤن { أن يؤمنوا } اى هؤلاء الموجودون المشابهون لهم { لكم وقد كان فريق منهم } اى من اسلافهم { يسمعون كلام الله } فى اصل جبل طور حين ذهابهم مع موسى (ع) لسماع كلام الله والشهادة لبنى اسرائيل بسماع كلام الله تعالى او يسمعون كلام الله من التوراة او الانجيل او من لسان الانبياء والاولياء او المراد افتطمعون ان يؤمن هؤلاء الموجودون لكم وقد كان فريق من هؤلاء يسمعون كلام الله من الكتاب النازل عليكم، او من لسان محمد (ص) او من التوراة فى وصف محمد (ص) وعلى (ع) وطريقهما { ثم يحرفونه } التحريف جعل الشيئ فى طرف من الحرف بمعنى الطرف وتحريف الكلام جعله فى طرف من موضعه الذى وضع فيه وتحريف الكلم من بعد مواضعه بمعنى جعله فى طرف بعد وقوعه فى موضعه ويلزم تحريف الكلم تغييره؛ ولذلك قد يفسر به، وتحريف كلام الله اما بتغيير لفظه باسقاط وزيادة وتقديم وتأخير حتى يظن به غير معناه المقصود، او بتفسيره وتبيينه بغير المعنى المقصود منه حتى يشتبه على من لا خبرة له { من بعد ما عقلوه } ادركوه بعقولهم { وهم يعلمون } انهم يحرفونه اوهم العلماء ومن شأن العالم وخصوصا اذا عقل أمرا ان لا يحرفه فهم أشد عذابا من غيرهم حيث خالفوا مقتضى علمهم وتعقلهم.
[2.76]
{ وإذا لقوا الذين آمنوا } عطف على يسمعون { قالوا آمنا } اظهارا للموافقة للمؤمنين كسلمان ومقداد وغيرهما من غير مواطاة للقلب ولم يؤكدوا كلامهم لعدم اقبال قلوبهم عليه ولاظهار أن ايمانهم لا ينبغى ان يشك فيه فلا ينبغى ان يؤكد { وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا } اى قال بعضهم للآخرين { أتحدثونهم بما فتح الله عليكم } من صفات محمد (ص) وشريعته وموطنه ومهاجره وذلك ان قوما من اليهود الذين لم ينافقوا مع المسلمين كانوا اذا لقوا المسلمين أخبروهم بما فى التوراة من صفة محمد (ص) ودينه وكان ذلك سببا لغضب الآخرين المنافقين فقالوا فى الخلوة للمحدثين: اتحدثونهم بنعت محمد (ص) ووصيه (ع) ودينه { ليحآجوكم به عند ربكم } ليحاج المسلمون بما أخبرتموهم مما فتح الله عليكم عند ربكم فيقولوا عند ربكم انكم علمتم حقية ديننا ونبينا وما آمنتم وعاندتمونا، وقد زعم هؤلاء لحمقهم وسفاهتهم أنهم ان لم يحدثوهم بما عندهم من دلائل نبوة محمد (ص) لم يكن لهم عليهم حجة عند ربهم، واذا لم يكن لهم عليهم حجة عند ربهم لم يؤاخذهم الله، وهذا كما ترى قياس اقترانى فاسد صغراه وكبراه، لا يتفوه بمثله الا السفيه والصبى { أفلا تعقلون } ان فيما تخبرون حجة عليكم وهذا خطاب من منافقى القوم للآخرين.
[2.77]
{ أولا يعلمون } اى هؤلاء الذين قالوا لاخوانهم: اتحدثونهم { أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون } فما أظهروه مما فتح الله عليهم وما أسروه كان حجة عليهم عنده سواء أظهروه او لم يظهروه، وسواء حاجهم المؤمنون او لم يحاجوهم.
[2.78]
{ ومنهم أميون } عطف على قد كان فريق منهم يسمعون كأنه قال: افتطمعون ان يؤمنوا لكم ومنهم علماء يسمعون كلام الله ثم يحرفونه، ومنهم اميون لا يعلمون الحق من الباطل ولا يدركون من الكتاب والشريعة ابتداء الا الامانى التى يحرف الكتاب علماؤهم بعد تعقل المقصود اليها يعنى ان فريقا منهم يعرفون المقصود من الكتاب لكنهم يحرفونه الى ما اقتضته أنفسهم وفريقا منهم لا يعرفون من الكتاب الا ما يوافق أهواءهم، والامى هو المنسوب الى الام بمعنى انه لم يزد على نسبته الى الام شيئا من الكمالات الكسبية من القراءة والكتابة، وخصص فى العرف بمن لا يقرأ ولا يكتب والمراد به هاهنا من لم يزدد على مقام التابعية للام وهو مقام الصباوة واتباع الشهوات والامانى شيئا من الانسانية التى اقتضت التميز بين الحق والباطل واختيار الحق ورفض الباطل ولذا فسره بقوله { لا يعلمون الكتاب إلا أماني } والمراد بالكتاب مطلق أحكام النبوة، او مطلق الكتاب السماوى، او شريعة موسى (ع)، او التوراة، او أحكام شريعة محمد (ص)، او القرآن. والامانى جمع الامنية وهى ما يتمنى الانسان سواء كان ممكنا او محالا والمعنى افتطمعون ان يؤمنوا لكم ومنهم اميون متبعون للأهوية والآمال غير متصفين بالانسانية ومقتضياتها من التميز بين الحق والباطل والادراك للجهة الحقانية من الاشياء والاحكام والكتب، ومنزلون للاحكام والكتب على ما يوافق أهويتهم وأمانيهم؛ مثلا لا يعلمون من الصلوة الا ما يوافق آمالهم من حفظ الصحة ورفع المرض وكثرة المال والجاه وحفظهما وغير ذلك من الامانى الكثيرة؛ فان أمانى النفوس غير واقفة على حد، او مقدرون ان ظهور الاحكام والكتب من الانبياء ظهور آمالهم ووصولهم الى أمانيهم من التبسط فى البلاد والتسلط على العباد والجاه والمال غير مدركين منها ظهور الامر الالهى وبروز عبودية الانبياء ولا يدركون شيئا من الحكم والمصالح المندرجة فيها، فالتقدير على المعنى الاول لا يعلمون الكتاب الا أمانى لهم، وعلى المعنى الثانى لا يعلمون الكتاب الا أمانى للانبياء ويحتمل ان يكون المعنى لا يدركون الكتاب الا أمانى رؤسائهم التى يحرفون الكلم اليها ويبينون بها كما مضى فى بيان الامى، ويمكن ان يراد معنى اعم منها اى لا يعلمون الكتاب الا أمانى للانبياء ولهم ولرؤسائهم، ومن لا يدرك من الحق الا الباطل لا يذعن للحق بما هو حق فلا يؤمن هؤلاء علماؤهم وجهالهم لكم من حيث انتم على الحق فعلم من هذا البيان ان الاستثناء متصل مفرغ وليس منقطعا كما ظنه بعض العامة وقلده على ذلك بعض الخاصة رضوان الله عليهم، ولما توهم من النفى والاثبات ثبوت العلم متعلقا بالامانى لهم حصر تعالى ادراكهم حصر افراد فى الظن فقال تعالى: { وإن هم إلا يظنون } ولا علم لهم اصلا ولعلك تفطنت بوجه حصر ادراكهم فى الظن مما أسلفنا من ان ادراك النفوس لجواز تخلف المدرك عن الادراك شأنه شأن الظن فقط.
نقل انه قال رجل للصادق (ع): فاذا كان هؤلاء العوام من اليهود لا يعرفون الكتاب الا بما يسمعونه من علمائهم لا سبيل لهم الى غيره فكيف ذمهم بتقليدهم والقبول من علمائهم وهل عوام اليهود الاكعوا منا يقلدون علماءهم فان لم يجز لاولئك القبول من علمائهم لم يجز لهؤلاء القبول من علمائهم؟ - فقال (ع): بين عوامنا وعلمائنا وبين عوام اليهود وعلمائهم فرق من جهة وتسوية من جهة، اما من حيث استووا فان الله قد ذم عوامنا بتقليدهم علماءهم كما قد ذم عوامهم، واما من حيث افترقوا فلا، قال: بين لى ذلك يا ابن رسول الله (ص)، قال (ع): ان عوام اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصريح وبأكل الحرام والرشوة، وبتغيير الاحكام عن وجهها بالشفاعات والعنايات والمصانعات، وعرفوهم بالتعصب الشديد الذى يفارقون به أديانهم، وأنهم اذا تعصبوا أزالوا حقوق من تعصبوا عليه وأعطوا ما لا يستحقه من تعصبوا له من أموال غيرهم وظلموهم من أجلهم، وعرفوهم يقارفون المحرمات واضطروا بمعارف قلوبهم الى ان من فعل ما يفعلونه فهو فاسق لا يجوز ان يصدق على الله ولا على الوسائط بين الخلق وبين الله فلذلك ذمهم لما قلدوا من قد عرفوا ومن قد علموا انه لا يجوز قبول خبره ولا تصديقه فى حكايته، ولا العمل بما يؤديه اليهم عمن لم يشاهدوه، ووجب عليهم النظر أنفسهم فى أمر رسول الله (ص) اذ كانت دلائله أوضح من ان تخفى وأشهر من ان لا تظهر لهم، وكذلك عوام أمتنا اذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر والعصبية الشديدة والتكالب على حطام الدنيا وحرامها، واهلاك من يتعصبون عليه وان كان لاصلاح أمره مستحقا، والرفق والبر والاحسان على من تعصبوا له وان كان للاذلال والاهانة مستحقا، فمن قلد من عوامنا مثل هؤلاء الفقهاء فهم مثل اليهود الذين ذمهم الله بالتقليد لفسقة فقهائهم، فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا على هواه مطيعا لامر مولاه فللعوام ان يقلدوه؛ وذلك لا يكون الا فى بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم فان من يركب من القبائح والفواحش مراكب فسقة فقهاء العامة فلا تقبلوا منهم عنا شيئا ولا كرامة لهم.
[2.79]
{ فويل } تفريع على قوله يسمعون كلام الله ثم يحرفونه يعنى ان الذين يسمعون كلام الله ثم يحرفونه يكتبون الكتاب بأيدى أنفسهم اى بأيد منسوبة الى أنفسهم لا الى الله ولا الى أمر الله فويل { للذين يكتبون الكتاب بأيديهم } او تفريع على مجموع سماع كلام الله وتحريفه وعدم ادراك جهة حقانية من الكتاب وانحصار ادراكهم فى الجهة الباطلة يعنى ان الذين لا يعلمون من الكتاب الا الجهة الموافقة لآمالهم لا يكتبون الكتاب على الصحائف الجسمانية الا بأيديهم المسخرة لانفسهم، او لا يكتبون الكتاب على صحائف أذهانهم الا بأيد مسخرة لأنفسهم الامارة بالسوء لا بأيد منسوبة الى الله، او الى أمر الله فويل للذين يكتبون الكتاب بأيدى أنفسهم من دون مدخلية لله ولأمر الله فيه { ثم يقولون } افتراء ظاهرا { هذا } المكتوب بأيدينا المسخرة تحت الانفس المسخرة للشيطان { من عند الله } وليس من عند الله بل هو من عند الشيطان فانه جرى اولا منه على الأنفس المحكومة له ثم منها على الأوهام ثم على الألسن او الأيدى فهو من عند الشيطان وهم يفترون بان يقولوا: هذا من عند الله { ليشتروا به ثمنا قليلا } من الاعراض الدنيوية والاعراض الاعتبارية والاغراض النفسانية من التبسط والجاه والتحبب وغيرها { فويل لهم مما كتبت أيديهم } من الالفاظ والنقوش الملقاة من الشيطان على صدورهم فانها أسباب تمكن الشيطان منهم { وويل لهم مما يكسبون } من الثمن القليل فانه أشد حرمة من كل حرام لانهم توسلوا بآلات الدين الى الاغراض النفسانية وجعلوا آلة الدين شركا للدنيا، وصاروا أضر على ضعفاء العقول والدين من جيش يزيد على أصحاب الحسين (ع).
[2.80]
{ وقالوا } عطف على قد كان فريق { لن تمسنا النار إلا أياما معدودة } يعنى افتطمعون ان يؤمنوا لكم والحال أنهم قائلون بان النار لن تمسنا الا اياما معدودة ليتمكنوا من آمالهم وانتم داعون لهم الى ترك الشهوات ورفض الآمال { قل } يا محمد (ص) لهم: ان هذا القول لا يكون الا عن مشاهدة النار وأصحابها وأنهم ما مستهم النار الا اياما، ولستم أهل المشاهدة، او عن عهد من الله وصل اليكم بلا واسطة، او بواسطة الانبياء، او عن افتراء على الله تعالى فسلهم { أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده } يعنى ان اتخذتم عهدا فلن يخلف الله عهده او المعنى فسلهم الن يخلف الله عهده { أم تقولون على الله ما لا تعلمون } لكن ليس لكم عهد عند الله ولستم مدعيه فبقى انكم تفترون على الله وتستحقون به شدة العذاب فضلا عن دوامه.
[2.81]
{ بلى } جواب عن ادعائهم ان العذاب ليس بدائم { من كسب سيئة } اصله سيوء على وزن فيعل والتاء للنقل مثل تاء الحسنة، وسيئة الانسان ما لا يلائم انسانيته سواء كان ملائما لنفسه وحيوانيته ام لا، وأتى بالكسب المشير الى بقاء السيئة دون الاتيان والفعل والعمل الدالة على حدوثها للاشارة الى ان المستلزم لدخول النار والخلود فيها هو الاثر الحاصل فى النفس من فعل السيئة لا الحركات والافعال الغير القارة زمانين { وأحاطت به خطيئته } ولما كان كسب السيئة والاثر الباقى منها فى النفس غير كاف فى استلزام الخلود ما لم يسد طرق الخروج الى الجنان بتمامها أضاف اليه احاطة الخطيئة والخطيئة الاثم عدل الى الاسم الظهر لاقتضاء مقام الوعيد التطويل وتكرار لفظ القبيح والاتيان بالالفاظ العديدة القبيحة { فأولئك أصحاب النار } مصاحبين مجانسين لها ولم يكتف بالصحابة المشعرة بالسنخية المشيرة الى الخلود وصرح بالخلود مؤكدا للتطويل والتشديد فقال تعالى: { هم فيها خالدون } لما كان المقام هاهنا مقتضيا للاهتمام بالوعيد للرد على المغرورين بانكار الخلود قدم الوعيد وأتى بلفظ من المشتركة بين الشرطية والموصولة وأتى فى الخبر بالفاء المؤكدة للتلازم وأتى فى الوعد بصريح الموصول ولم يأت بالفاء فى الخبر بخلاف ما سبق من قوله تعالى: { فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والذين كفروا وكذبوا بآياتنآ أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }؛ فان المقام هناك يقتضى الاهتمام بالوعد دون الوعيد.
[2.82-83]
{ والذين آمنوا وعملوا الصالحات } قد مضى بيان للايمان والعمل الصالح { أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } اذكروا يا بنى اسرائيل او يا امة محمد (ص) او الخطاب عام لمن يتأتى منه الخطاب او ذكر يا محمد (ص) بنى اسرائيل او أمتك او مطلق الخلق { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل } على أيدى أنبيائهم فى ضمن البيعة العامة او الخاصة، وقد سبق انه كلما ذكر عهد وعقد وميثاق فالمراد هو الذى يكون فى ضمن البيعة { لا تعبدون إلا الله } امثال هذه العبارة تستعمل على ثلاثة أوجه بعد ذكر أخذ الميثاق؛ الاول - ان تكون على صورة الاخبار ايجابا او نفيا. والثانى - ان تكون على صورة الانشاء امرا او نهيا. والثالث - ان يكون الفعل عقيب لفظ ان وقد قرء هاهنا بالوجوه الثلاثة فان كان على صورة الاخبار فاما ان يكون بمعنى الانشاء بتقدير القول اى أخذنا ميثاق بنى اسرائيل قائلين: { لا تعبدوا } ، ويؤيد هذا الوجه عطف قولوا، واقيموا، وآتوا؛ عليه، واما بمعنى الاخبار بتقدير ان المصدرية والمعنى أخذنا ميثاقهم على ان لا يعبدوا، او لان لا يعبدوا؛ او يكون بدلا من الميثاق ولا اشكال على قراءة لا يعبدون بالياء، واما على قراءة لا تعبدون بالتاء فهو على حكاية الحكاية الماضية من غير تغيير او هو بمعنى الاخبار على الحالية والمعنى أخذنا ميثاقهم حال كونهم لا يعبدون او حال كوننا قائلين لهم { لا تعبدون إلا الله } { و } تحسنون { وبالوالدين إحسانا }.
تحقيق الوالدين والنسبة الروحانية
اعلم ان الانسان ذو مراتب كثيرة وكل مرتبة منه ذات اجزاء كثيرة طولية وعرضية، ولكل مرتبة منه سبب ومعد لوجودها غير السبب والمعد لوجود الاخرى؛ فالمعد لوجود مرتبته الجسمانية هو والداه الجسمانيان وكل من انتسب اليهما بتلك النسبة كان مناسبا له ومناسبته تسمى بالاخوة، والسبب لوجود مرتبة صدره المنشرح بالكفر هو الشيطان او من يناسب الانسان من جنود الشيطان الذين هم اهل عالم الظلمة والمنسوبون الى الجان ابى الجان، ومرتبة نفسه القابلة المستعدة لتصرف الشيطان وبتصرف الشيطان وتأثر نفسه يفاض من الرحمن قوة مناسبة لتلك النفس، والشيطان وكل من يناسبه من هذه الجهة فهو اخ له، وسبب وجود مرتبة صدره المنشرح بالاسلام هو الملك ومرتبة نفسه القابلة المستعدة لذلك، وبتصرف الملك وتأثر نفسه يفاض من الله قوة مناسبة لتلك النفس هذا بحسب التكوين واما بحسب التكليف فأبوا مرتبة صدره المنشرح بالكفر هما اللذان يبايعان البيعة العامة معه من غير اذن واجازة لكن الانسان فى تلك المرتبة بتلك النسبة ولد لغاية ومنفى النسبة كما انه بحسب التكوين فى مرتبته الجسمانية ايضا كذلك، وأبوا مرتبة صدره المنشرح بالاسلام هما اللذان يبايعان معه البيعة العامة بالاذن والاجازة من الله او من خلفائه، وكل من يناسبه من جهة تلك النسبة فهو أخ له، وسبب وجود مرتبة قلبه جبرئيل العقل ومريم النفس المنشرحة بالاسلام، وبنفخ جبرئيل العقل فى جيب مريم النفس ينعقد عيسى القلب ويتولد من ساعته ويتكلم فى المهد صبيا؛ هذا بحسب التكوين، وأما بحسب التكليف فأبوا مرتبة قلبه هما اللذان يبايعان معه البيعة الخاصة الولاية والمناسب للانسان من جهة تلك النسبة أخ له، وهكذا المراتب الاخر منه، ونسبة كل نسبة الى ما فوقها كنسبة الجسم الى الروح واللغة الروحانية كاللغة الجسمانية منفية النسبة ومنفية الحكم وقد يعتبر النسبة الفاسدة ويطلق الابوة عليها بحسب اصل النسبة لا صحتها كما اعتبر النسبة فى قوله تعالى:
وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم
[لقمان: 15] وفسر الأبوان المجاهدان فيه بالشيطان والنفس على طريقة الاستخدام فى ضمير جاهداك، ولما كان اطلاق الابوة والبنوة باعتبار تلك النسبة فكلما كانت النسبة اقوى كان اطلاقهما عليها اولى، وتبادر النسبة الجسمانية من اطلاقهما؛ لكونهما مدركة مشاهدة لكل احد بحسب العلائم والمقارنات لا لاولوية اطلاقهما عليها، ولعدم اعتبار النسبة الفاسدة فى الشريعة المطهرة كان اطلاق الوالدين والابوين فى لسان الشارع منصرفا الى من كان نسبته صحيحة لا فاسدة فلا يدخل الوالدان الفاسدان النسبة تحت الامر بالاحسان، والولادة الجسمانية عبارة عن انفصال مادة الولد عن الوالد لا انفصال صورته عن صورته، والولادة الروحانية عبارة عن تنزل صورة الوالد وظهورها بصورة الولد وتقيدها وتعينها بتعينات المرتبة النازلة عن مرتبتها كالشمس المنعكسة فى المرايا العديدة التى لا تخل كثرتها فى وحدة الشمس، فالولد الروحانى هو الوالد والوالد هو الولد لكن فى المرتبة النازلة فلو ارتفع التعينات النازلة لم يبق الا الوالد الواحد ونعم ما قال المولوى قدس سره فى بيان هذه النسبة وذلك الاتحاد:
جان حيوانى ندارد اتحاد
تو مجو اين اتحاد ازجان باد
جان كركان وسكان ازهم جداست
متحد جانهاى شيران خداست
همجو آن يك نور خورشيد سما
صد بود نسبت بصحن خانه ها
ليك يك باشد همه انوارشان
جونكه بر كيرى توديوار ازميان
جون نماند خانه ها را قاعده
مؤمنان مانند نفس واحده
وعلى هذا فالاخوة هاهنا تنتهى الى الاتحاد فى الصورة وان كان المادة متعددة بخلاف الاخوة الجسمانية فانها لا اتحاد فيها لا فى الصورة ولا فى المادة بل الوحدة فيمن ينفصل عنه المادة ومن هاهنا يعلم وجه شدة حرمة غيبة المؤمن بحيث نقل انه اشد من سبعين زنية مع الام تحت الكعبة، وكذا شدة حرمة ذكره بسوء فى حضوره وغيبته، وشدة حرمة الاهانة والاستهزاء به فان الكل راجع الى والده، ويعلم ايضا وجه المبالغة فى الدعاء للاخون بظهر الغيب، والسعى فى حاجاتهم وقضائها، والمواساة معهم، ووجه قوله:
" من زار أخاه المؤمن فى بيته من غير عوض ولا غرض فكأنما زار الله فى عرشه "
؛ فان زيارة المؤمن زيارة الله لكن فى المرتبة النازلة، ووجه قوله:
" اذا تصافح المؤمنان يتحاط الذنوب عنهما كما يتحاط الورق عن الشجر "
، وقوله:
" اذا تصافح المؤمنان كان يد الله بين أيديهما او فوق أيديهما، او ينظر الله اليهما بالرحمة "
، فان تصافحهما سبب لقوة ظهور والدهما فيهما وبقدر ظهور الوالد يكون انمحاء الذنوب من الولد ويظهر من ذلك سر الاهتمام باحسان الوالدين الروحانيين بحيث جعله الله تعالى قرينا بتوحيده حيثما ذكر ففى سورة النساء
واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا
[النساء:36]، وفى سورة الانعام
قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا
[الأنعام:151]، وفى سورة بنى اسرائيل:
وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا
[الإسراء: 23]، والوالدان الجسمانيان بمظهريتهما ومناسبتهما للوالدين الروحانيين وكثرة حقوقهما وشفقتهما على الاولاد وتحملهما للزحمات الشاقة مثل الروحانيين فى التعظيم والاشفاق والاحسان، ويعلم أيضا أن الاحسان الى الوالدين الروحانيين احسان الى نفسه، وان الطاعات كلما كانت أتم وأكثر كان الاحسان الى الوالدين أتم وأكثر؛ فان الطاعات احسان الى ذاته التى هى ظهور والده؛ وكلما كان سببا لشدة ظهور الوالد فى الولد كان احسانا الى الوالد لانه يفيد سعة الوالد بحسب المظاهر.
ويستفاد مما ذكر وجه كون النبى (ص) أولى بالمؤمنين من أنفسهم وكونه (ص) مع على (ع) أبوين لهذه الامة بحسب مرتبة الصدر والقلب، وأما بحسب الجسد فانه ان كان بما هو منفصلا عن الغير غير اولى به وغبراب له فهو بما هو مستنير بنور الصدر والقلب محكوم بحكمهما واولى بالمؤمنين من أنفسهم وأب لهم، ولذلك صارت أزواجه اللاتى هن ازواج مرتبة بدنه أمهاتهم وبتلك الاستنارة والمحكومية سرى بجسده الى عالم الارواح، وكان يبصر من خلفه كما كان يبصر ببصره، ولم يكن له ظل، ولو لم يكن هذه المحكومية والمغلوبية لم يظهر على جسده حكم الروح روى عن رسول الله (ص) انه قال:
" افضل والديكم وأحقهما لشكركم محمد (ص) وعلى (ع) "
، وقال على بن ابي طالب (ع) سمعت رسول الله (ص) يقول:
" انا وعلى أبوا هذه الامة ولحقنا عليهم أعظم من حق أبوى ولادتهم، فانا ننقذهم ان اطاعونا من النار الى دار القرار، ونلحقهم من العبودية بخيار الاحرار "
، والاحسان اليهما والى سائر من أمر الله باحسانهم أما بحسن صحابتهم والتواضع لهم واظهار الرحمة عليهم، او بالخدمة لهم والسعى فى حاجاتهم وقضائها ودفع الاذى عنهم، او بالسؤال عن الله والدعاء لهم، او بحفظهم فى عرضهم وعيالهم واموالهم فى غيابهم.
{ وذي القربى } اى لهما او لكم ويظهر مما مر أنه لا اختلاف بينهما وانه لا اختصاص لذى القربى بالمرتبة الجسمانية بل يعمها وغيرها من المراتب الروحانية؛ قال رسول الله (ص)
" من رعى حق قرابات أبويه أعطى فى الجنة ألف الف درجة "
، ومن رعى حق قربى محمد (ص) وعلى (ع) أوتى من فضائل الدرجات وزيادة المثوبات على قدر زيادة فضل محمد (ص) وعلى (ع) على أبوى نسبه { واليتامى } اليتيم الجسمانى من فقد أباه ما لم يبلغ مبلغ الرجال، واليتيم الروحانى من فقد أباه الروحانى ولم يصل اليه سواء مات او كان حيا لكن لم يصل اليتيم بعد اليه او وصل ثم انقطع عنه بالغيبة عنه وسواء باع معه وصحة الابوة والبنوة بينه وبينه حتى صار من ذوى القربى او لم يبع ولم يصدق النسبة لكن كان يستعد لوقوع النسبة والبيعة وفى الخبر بعد ذكر اليتيم الجسمانى: وأشد من يتم هذا اليتيم من يتم عن امامه لا يقدر على الوصول اليه ولا يدرى كيف حكمه فيما يبتلى به من شرائع دينه، الا فمن كان من شيعتنا عالما بعلومنا فهذا الجاهل بشريعتنا المنقطع عن مشاهدتنا يتيم فى حجره الا فمن هداه وأرشده وعلمه شريعتنا كان معنا فى الرفيق الاعلى { والمساكين } جمع المسكين وزن المفعيل من السكون عن الحركة وهو مبالغة فى السكون بحيث لم يبق له قوة الحركة فهو أسوأ حالا من الفقير لانه المحتاج الذى يمكنه الحركة فى رفع حاجاته او هو أعم من المسكين والمراد مساكين المؤمنين كاليتامى او أعم منهم؛ ومسكنة الفقر معلومة، واما مسكنة الايمان والعلم فهى عبارة عن سكن رجل النفس عن السير فى اراضى الآيات والاخبار وسير الاخيار، وسكون بصرها عن ادراك دقائق الامور، ولسانها عن الاحتجاج على أعدائه، ويدها عن البطش على الاعداء، ونقل أنه من واساهم بحواشى ماله وسع الله عليه جنانه وأناله غفرانه ورضوانه، ثم قال: ان من محبى محمد (ص) مساكين مواساتهم أفضل من مواساة مساكين الفقر؛ وهم الذين سكنت جوارحهم وضعفت عن مقابلة أعداء الله الذين يعيرونهم بدينهم ويسفهون أحلامهم، الا فمن قواهم بفقهه وعلمه حتى أزال مسكنتهم ثم سلطهم على الاعداء الظاهرين من النواصب وعلى الاعداء الباطنين ابليس ومردته حتى يهزموهم عن دين الله ويذودوهم عن اولياء آل رسول الله (ص) حول الله تلك المسكنة الى شياطينهم وأعجزهم عن إضلالهم وقضى الله بذلك قضاء حقا على لسان رسول الله (ص) { وقولوا للناس حسنا } قرئ بالضم وبالتحريك والمعنى واحد فان اظهار حسن القول واظهار القول الحسن واحد والمراد بالناس جملة الاناسى قريبهم وبعيدهم ويتيمهم ومسكينهم فهو أعم مطلقا مما تقدمه، وبين القريب واليتيم مثل المسكين عموم من وجه وحسن القول أمر اضافى يختلف باختلاف الاشخاص والاحوال والمقامات فان الصدق حسن ما لم يكن فيه شين والا كان قبيحا والكذب حسنا؛ فما يخاطب به الاطفال حسنه بوجه ان يناسب مقتضياته وبوجه ان يردعه عما يضره، وما يخاطب به التاجر والزارع وسائر أرباب الحرف حسنه بوجه ان يناسب حرفهم ومذاقهم وبوجه ان يناسب انسانيتهم لكن فى المقام والشأن الذى هم فيه، وما يخاطب به أرباب الصناعات العلمية حسنه ان يناسب صناعاتهم، وهكذا حال ارباب الحكم والمناصب، وحسن القول مع السالك المنجذب الذى يخاف فوت سلوكه ان يخاطب بما يشغله بالسلوك، ومع السالك الواقف ان يخاطب بما يهيجه الى الانجذاب، ولو خوطب الاطفال بخطاب العقلاء، والجهال بخطاب العلماء، والحلاج بخطاب الحداد ، او بالعكس؛ كان قبيحا، روى عن الصادق (ع): قولوا للناس حسنا كلهم مؤمنهم ومخالفهم، اما المؤمنون فيبسط لهم وجهه وبشره، واما المخالفون فيكلمهم بالمداراة لاجتذابهم الى الايمان فان ييأس من ذلك يكف شرورهم عن نفسه واخوانه المؤمنين ثم قال: ان مداراة أعداء الله من أفضل صدقة المرء على نفسه واخوانه، كان رسول الله (ص) فى منزله أذن استأذن عليه عبد الله بن أبى بن أبى سلول فقال رسول الله (ص): بئس أخو العشيرة ائذنوا له فلما دخل أجلسه وبشر فى وجهه فلما خرج قالت عائشة: يا رسول الله (ص) قلت فيه ما قلت وفعلت فيه من البشر ما فعلت؟! فقال رسول الله (ص):
" يا عويش يا حميراء ان شر الناس عند الله يوم القيامة من يكرم اتقاء شره "
{ وأقيموا الصلاة } أخر الامر باقامة الصلاة لشدة الاهتمام بالاحسان مع الخلق ارحاما كانوا او غير ارحام، وقد مضى بيان لاقامة الصلاة وقد فسر فى الخبر اقامة الصلاة باتمام ركوعها وسجودها وحفظ مواقيتها واداء حقوقها التى اذا لم تؤد لم يتقبلها رب الخلائق وقال: اتدرون ما تلك الحقوق؟! هو اتباعها بالصلوة على محمد (ص) وعلى (ع) وآلهما منطويا على الاعتقاد بأنهم افضل خيرة الله والقوام بحقوق الله، والنصار لدين الله تعالى؛ قال (ع): وأقيموا الصلاة على محمد (ص) وآله (ع) عند أحوال غضبكم ورضاكم وشدتكم ورخاكم، وهمومكم المعلقة بقلوبكم { وآتوا الزكاة } قد مضى بيانه { ثم توليتم } لما كان أخذ الميثاق هاهنا مستعقبا للصفات الانسانية قال { أخذنا ميثاق بني إسرائيل } الذين هم بنو آدم حقيقة وأتى بقوله: ثم توليتم المشعر بصفة النقص، وبقوله { وإذ أخذنا ميثاقكم } لمستعقب لقوله { ورفعنا فوقكم الطور } المشعر بعدم الطاعة والقبول منهم وبقوله الآتى: { وإذ أخذنا ميثاقكم } لمستعقب لقوله { لا تسفكون دمآءكم } المشعر ببشاعة سفك الدماء بخطاب الحاضرين اشعارا بذمهم ونقصهم بالنسبة الى بنى اسرائيل { إلا قليلا منكم وأنتم معرضون } اى والحال ان عادتكم الاعراض عن العهد او هو حال مؤكدة.
[2.84]
{ وإذ أخذنا ميثاقكم } اى ميثاق اسلافكم يا بنى اسرائيل على أيدى أنبيائهم وخلفاء أنبيائهم، او ميثاق أنفسكم على أيدى المتشبهين بخلفاء الانبياء فان رسم البيعة لم يكن متروكا بالكلية فيهم، فعلى هذا فهو تعريض بأمة محمد (ص) كما فى الاخبار من تفسيره بهم، او الخطاب لهم ابتداء، والمعنى واذكروا يا أمة محمد (ص) وقت البيعة مع محمد (ص) واخذه ميثاقكم { لا تسفكون دمآءكم } قد مضى بيان محل الجملة الواقعة بعد أخذ الميثاق { ولا تخرجون أنفسكم } بجعل قتل الغير واخراجه قتلا واخراجا لنفس الرجل لاتحاده معه فى المعاشرة او القرابة او الدين او الموطن او لادائه الى القصاص المفنى لنفس الرجل والمكافاة المورثة لاخراج الغير له، او المعنى لا ترتكبوا فعلا يؤدى الى قتل انفسكم واخراجها من ديارها، او المعنى لا ترتكبوا فعلا يؤدى الى قطع الحياة الابدية والاخراج من الديار الحقيقية التى هى الجنة { من دياركم ثم أقررتم } بالميثاق { وأنتم تشهدون } على أنفسكم بذلك الميثاق وهذا الاقرار.
[2.85-86]
{ ثم أنتم } يا { هؤلاء } الحمقى على ان يكون هؤلاء منادى وهذا أدل على ما هو المقصود من اظهار حمقهم وسفاهتهم، او هو منصوب على الاختصاص، او هو منصوب بفعل مضمر أعنى أعنى، او هو تأكيد لانتم او هو خبر انتم { تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم } غضبا عليهم { تظاهرون عليهم } تتعاونون على قتل المقتولين واخراج المخرجين { بالإثم والعدوان } والحال انكم مأمورون بالتظاهر على البر والتقوى ومنهيون عن التظاهر على الاثم والعدوان { وإن يأتوكم } اى المقتولون المخرجون { أسارى } جمع الاسرى جمع الاسير وقيل هو جمع الاسير ابتداء { تفادوهم } يعنى ليس قتلكم واخراجكم لهم من غيرة دينية وأمر الهى بل عن أهوية نفسانية وأغراض فاسدة لأنه ان كان عن أمر الهى كنتم راضين به سواء كان ذلك منكم او من غيركم والحال انه اذا فعل ذلك غيركم وأسروهم تعصبتم لهم وفديتموهم بأموالكم { وهو محرم عليكم إخراجهم } هو ضمير الشأن او مبتدء راجع الى اخراجهم المذكور فى ضمن تخرجون واخراجهم بدل منه او هو مبتدء مبهم مفسر باخراجهم { أفتؤمنون } تذعنون { ببعض الكتاب } ببعض المكتوب عليكم او ببعض التوراة او ببعض القرآن؛ على ان يكون الخطاب لمنافقى الامة، وذلك البعض هو فريضة المفاداة { وتكفرون ببعض } وهو حرمة القتل والاخراج يعنى انكم لا تكترثون بالكتاب وتتبعون أهواءكم فما وافقها منه تتبعونه وما خالفها تتركونه { فما جزآء من يفعل ذلك منكم } يا معاشر اليهود او يا امة محمد (ص) { إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون } قرئ على الخطاب والغيبة باعتبار منكم ومن يفعل { إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة } كأن الآخرة كانت مملوكة لهم وهى كذلك فباعوها وجعلوا مكانها الحياة الدنيا التى كانت عارية لهم والآخرة كانت دائمة والدنيا دائرة، والعاقل لا يبيع الدائم المملوك بالداثر المعار { فلا يخفف عنهم العذاب } لانه لم يبق لهم مقام وموطن فى دار الراحة حتى يستريحوا اليها { ولا هم ينصرون } يعنى لا يخفف عنهم العذاب بنفسه ولا من قبل الموكلين عليه ولا ينصرهم ناصر فيغلب على موكلى العذاب ويدفع العذاب عنهم، نسب الى رسول الله (ص) أنه (ص) قال
" لما نزلت الآية فى اليهود اى الذين نقضوا عهد الله وكذبوا رسل الله وقتلوا أولياء الله: افلا أنبئكم بمن يضاهيهم من يهود هذه الامة؟ - قالوا: بلى يا رسول الله (ص)، قال: قوم من امتى ينتحلون أنهم من اهل ملتى يقتلون أفاضل ذريتى وأطياب أرومتى، ويبدلون شريعتى وسنتى، ويقتلون ولدى الحسن والحسين (ع) كما قتل أسلاف اليهود زكريا ويحيى (ع)، الا وان الله يلعنهم ويبعث على بقايا ذراريهم قبل يوم القيامة هاديا مهديا من ولد الحسين (ع) المظلوم يحرقهم بسيوف أوليائه الى نار جهنم ".
[2.87]
{ ولقد آتينا موسى الكتاب } فلا غرو فى ايتاء محمد (ص) الكتاب والمراد بالكتاب النبوة او الرسالة والتوراة صورتها { وقفينا من بعده بالرسل } بعثنا رسولا على قفاء رسول { وآتينا عيسى ابن مريم البينات } يعنى بعثناه بعد الكل وأعطيناه المعجزات الواضحات كاحياء الموتى وإبراء الاكمه والابرص وحياة الطين بنفخة والاخبار بالمغيبات او الاحكام الواضحات المحكمات او الاحكام القالبية او احكام النبوة فان البينة قد تطلق على المعجزة، وقد تطلق على المحكم مقابل المتشابه، وقد تطلق على احكام القالب مقابل احكام القلب، وقد تطلق على الرسالة وأحكامها والنبوة وأحكامها مقابل الولاية وآثارها، وقد تطلق مقابل الزبر على حروف اسم كل حرف؛ فيقال: بينة العين العين والياء والنون؛ وزبرها الملفوظ من العين، او على غير اول حروف الاسم كالياء والنون { وأيدناه بروح القدس } الروح تطلق على الروح الحيوانية التى تنبعث عن القلب وعلى الروح النفسانية التى تنبعث عن الدماغ الى الاعصاب، وعلى القوة المحركة الحيوانية، وعلى القوة الشهوانية، وعلى القوة الغضبية، وعلى اللطيفة الايمانية، وعلى الروح المجردة عن المادة وعن التعلق بها، وعن التقدر وهى التى تسمى بروح القدس، وهى التى ذكر فى الاخبار أنه أعظم من جبرائيل وميكائيل ولم تكن مع أحد من الانبياء وكانت مع محمد (ص) وكانت مع الائمة (ع) وسماها الفهلويون من أهل الفرس برب النوع الانسانى وقالوا: انه أعظم من جميع الملائكة والكل مسخر له، وتطلق الروح على جملة المجردات وفى الخبر: يا مفضل ان الله تبارك وتعالى جعل فى النبى خمسة أرواح روح الحياة؛ فبه دب ودرج، وروح القوة؛ فبه نهض وجاهد، وروح الشهوة؛ فبه أكل وشرب واتى النساء من الحلال، وروح الايمان فبه آمن وعدل، وروح القدس لا ينام ولا يغفل ولا يلهو ولا يزهو { أفكلما جآءكم } يعنى بعثنا الرسل بعضهم على قفاء بعض فاستكبرتم وكذبتم فريقا وقتلتم فريقا الا ترعوون عما فعلتم سابقا من الشنائع فكلما جاءكم { رسول بما لا تهوى أنفسكم } من فعل الطاعات وترك الشهوات { استكبرتم } عن الانقياد للرسول واتباعه بعد ذلك مثل ما فعلتم سابقا { ففريقا كذبتم } اى تكذبون وأتى بالماضى لفظا للدلالة على تحققه كأنه وقع والا فهو مستقبل معنى { وفريقا تقتلون } اتى هنا بالمضارع لكونه الاصل ولمراعاة رؤس الآى؛ والمقصود توبيخهم على شيمتهم الذميمة وتقريعهم على الماضى وردعهم فى الأتى؛ عن الباقر (ع) أنه قال: ضرب الله مثلا لامة محمد (ص) فقال لهم: فان جاءكم محمد (ص) بما لا تهوى أنفسكم بموالاة على (ع) استكبرتم ففريقا من آل محمد (ص) كذبتم وفريقا تقتلون قال: فذلك تفسيرها فى الباطن.
[2.88-89]
{ وقالوا } التفات من الخطاب الى الغيبة تبعيدا لهم عن ساحة الخطاب وعطف باعتبار المعنى كأنه قيل على ما بين فى الخبر السابق استكبروا عن محمد (ص) وكذبوه وقالوا فى مقام الاستهزاء والاستكبار { قلوبنا غلف } جمع الاغلف اى قلوبنا فى غلاف وحجاب مما تدعونا اليه فهى فى اكنة لا يصل اليها قولك ونصحك، او جمع الغلاف وأصله غلف بالضمتين كما قرئ به فخفف باسكان العين والمعنى قلوبنا أوعية للعلوم فلا حاجة لنا الى ما جئت به او ليس فى علومنا خبر منك ولا اثر وفى تفسير الامام (ع) بعد ذكر قراءة { غلف } بضمتين واذا قرئ { غلف } فانهم قالوا قلوبنا غلف فى غطاء فلا نفهم كلامك وحديثك نحو ما قال الله تعالى:
وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب
[فصلت: 5]، وكلتا القرائتين حق وقد قالوا بهذا وبهذا جميعا فرد الله عليهم وقال: ليس الامر كما يقولون { بل لعنهم الله بكفرهم } بمحمد (ص) ولذا لا يتأثرون ولا يدركون ما يصدق محمدا (ص) { فقليلا ما } لفظ ما زائد او صفة لقليلا لتأكيد القلة وقليلا صفة مصدر محذوف اى ايمانا قليلا اى قليل { يؤمنون ولما جآءهم } اى اليهود وهو عطف على قالوا { قلوبنا غلف } { كتاب } القرآن { من عند الله مصدق لما معهم } من التوراة التى فيها نعت محمد (ص) وعلى (ع) وآلهما ومبعثه ومهاجره { وكانوا } اى هؤلاء اليهود { من قبل } اى قبل ظهور محمد (ص) بالرسالة { يستفتحون } بمحمد (ص) وعلى (ع) وآلهما { على الذين كفروا } بمحمد (ص) او بنبوة الانبياء او بنبوة موسى (ع) ودينه وكانوا يظفرون على اعدائهم الكفرة بالاستفتاح والاستنصار بهم، وقصص استفتاحهم مسطورة فى المطولات مثل الصافى وغيره { فلما جآءهم ما عرفوا } تأكيد للاول وزيادة الفاء فى التأكيد مبالغة وتأكيد فى التأكيد والمراد بما عرفوا اما القرآن او محمد (ص) وعلى (ع) ونعوتهما، ولا ينافى التأكيد هذه المخالفة فان مجيء الكتاب المصدق فى قوة مجيء صاحب الكتاب وقوله تعالى { كفروا به } جواب { لما } الاولى، او جواب { لما } الاولى محذوف بقرينة جواب { لما } الثانية اى لما جاءهم كتاب مصدق لما معهم كذبوه فلما جاءهم ما عرفوا من نعوت محمد (ص) وعلى (ع) وآلهما واصحابهما كفروا به، او { لما } الثانية مع جوابها جواب لما الاولى وهذا على جواز اتيان الفاء فى جواب { لما } وقد منعه البصريون وجوزه الكوفيون { فلعنة الله على الكافرين } تقريع على الكفر بما عرفوا انه حق وأتى بالمظهر موضع المضمر للتطويل والتصريح بوصفهم القبيح الذين يقتضيهما مقام السخط وللاشعار بعلة الحكم؛ ونسب الى على (ع) انه قال بعد ذكر استفتاح اليهود واستنصارهم على أعدائهم: فلما ظهر محمد (ص) حسدوه اذ كان من العرب وكذبوه ثم قال رسول الله (ص) هذه نصرة الله لليهود على المشركين بذكرهم لمحمد (ص) وآله الا فاذكروا يا أمة محمد محمدا (ص) وآله عند نوائبكم وشدائدكم لينصر الله به ملائكتكم على الشياطين الذين يقصدونكم فان كل واحد منكم معه ملك عن يمينه يكتب حسناته وملك عن يساره يكتب سيئاته ومعه شيطانان من عند ابليس يغويانه فاذا وسوسا فى قلبه وذكر الله تعالى وقال: لا حول ولا قوة الا بالله العلى العظيم وصلى الله على محمد (ص) خنس الشيطانان واختفيا.
[2.90]
{ بئسما اشتروا به أنفسهم } لفظ ما نكرة موصوفة تميز عن الفاعل المستتر واشتروا صفته والتقدير بئس هو شيئا اشتروا به أنفسهم، او لفظ ما معرفة ناقصة فاعل بئس واشتروا صلته واما ما يتراءى صحته من كون ما نكرة تامة او معرفة تامة واشتروا مستأنفا فبعيد جدا، او الشرى يستعمل فى البيع والاشتراء والقياس يقتضى استعمال الاشتراء فى كليهما لكن الاغلب استعماله فى مقابل البيع فان كان المراد به هاهنا معنى البيع فلا اشكال لأن بيعهم أنفسهم بالكفر واشتراء الشيطان لها فى مقابل بيعهم أنفسهم بالجنة واشتراء الله لها ولأموالهم بأن لهم الجنه، وان كان المراد به معنى الاشتراء فالمقصود أنهم اشتروا الانانية التى هى بالاصالة حق الشيطان باللطيفة الالهية على ان يكون الباء فى { به } للسببية لا للبدلية وما فى تفسير الامام (ع) يشعر بأنه بمعنى البيع وان المخصوص بالذم محذوف وهو قوله { اشتروا } بالهدايا والفضول التى تصل اليهم وكان الله أمرهم بشرائها من الله بطاعتهم له ليجعل لهم أنفسهم والانتفاع بها دائما الى آخره { أن يكفروا } مخصوص بالذم او تعليل والمخصوص محذوف كما يشعر به تفسير الامام (ع) اى بئس ما اشتروا به أنفسهم هداهم وفضولهم التى تصل اليهم { بمآ أنزل الله } بالذى أنزل الله او بشيء أنزل الله فى كتابهم من أمر محمد (ص) وعلى (ع) وآلهما او بما أنزل الله من القرآن او من قرآن فضل على (ع) { بغيا } لبغيهم وعدم انقيادهم لمحمد (ص) خليفة الله او باغين على محمد (ص) { أن ينزل الله } لان ينزل الله او هو بدل من ما أنزل الله نحو بدل الاشتمال، ويجوز ان يكون ما فى بما أنزل الله مصدرية وان يكون أن ينزل الله تعليلا او بدلا منه { من فضله } بعضا من فضله او كتابا من فضله { على من يشآء من عباده } يعنى محمدا (ص) واتى بالموصول وصلته اشعارا بأن المكروه لهم حيثية مشيئة الله للمبالغة فى تهديدهم وذمهم، ولما كانت الآية تعريضا بمنافقى الامة وكراهتهم لما نزل فى خلافة على (ع) صح تفسيرها كما فى الاخبار بان يقال بما أنزل الله فى على (ع) بغيا على على (ع) ان ينزل الله من فضله على من يشاء يعنى عليا (ع) { فبآءو بغضب على غضب } هذه العبارة تستعمل لمحض التكثير والمعنى باؤا بغضب كثير متعاقب متراكم وقد تستعمل لبيان العدد يعنى باؤا الى الله او باؤا عن حضور محمد (ص) { بغضب } من الله لكفرهم بمحمد (ص) { على عضب } آخر من الله لكفرهم بعيسى (ع)، او { فباؤا بغضب } من الله لكفرهم بما أنزل الله على محمد (ص) { على غضب } لكفرهم بما أنزل الله على موسى (ع) فى نعت محمد (ص)، او { فباؤا بغضب } منهم لما انزل الله على محمد (ص) { على غضب } منهم لما انزل الله على موسى (ع) فى وصف محمد (ص) هذا بحسب التنزيل والتصريح، واما بحسب التأويل والتعريض فباء منافقوا أمة محمد (ص) بغضب من الله او منهم على غضب لكفرهم بمحمد (ص) وعلى (ع) { وللكافرين } وضع الظاهر موضع المضمر للتطويل المطلوب فى مقام الغضب وللتصريح بوصف الذم لهم وللاشعار بعلة الحكم فى الآخرة { عذاب مهين } مذل لا معز كبلاء الانبياء، او المقصود تأكيد العذاب والمبالغة فيه.
[2.91]
{ وإذا قيل لهم } عطف باعتبار المعنى كأنه قيل: انهم كفروا بما أنزل الله عليهم لان ينزل الله على محمد (ص) واذا قيل، او عطف على جملة باؤا بغضب، او حال عن فاعل ان يكفروا، او عن فاعل باؤا، او جملة مستأنفة على جواز مجيء الواو للاستئناف لابداء ذم آخر وتسجيل سفاهتهم باتيان التناقض فى دعواهم، وهذه العبارة كثيرا ما تستعمل فى مقام المدح والذم منسلخة عن خصوص زمان الاستقبال مفيدة للاستمرار فى الماضى والحال والاستقبال كأنه قيل: شيمتهم انه كلما قيل لهم { آمنوا بما أنزل الله } على محمد (ص) من القرآن او على الانبياء من الكتب السماوية والوحى الالهى كذبوا صريحا { قالوا نؤمن بمآ أنزل علينا } يعنى التوراة { ويكفرون بما ورآءه } ولو كانوا يؤمنون بالتوراة لم يكفروا بالقرآن ولا بسائر الكتب لان فى التوراة اثباتا لحقية القرآن وسائر الكتب السماوية { وهو الحق } اى ما وراءه وهو القرآن حق، ناسخ للتوراة ولجميع الكتب الأخر لا حق بعد نسخه للكتب سواه { مصدقا لما معهم } من التوراة { قل } ردا لادعائهم الباطل من الايمان بالتوراة ان كنتم مؤمنين بالتوراة وفيها وجوب تعظيم الانبياء وحرمة قتلهم { فلم تقتلون أنبيآء الله } نسبة فعل الاسلاف الى الحاضرين والاتيان بالمستقبل مع التقييد بالمضى للاشعار بمجانسة الحاضرين للماضين وأن قتل الانبياء كان سجية لهم قدروا عليه ام لم يقدروا { من قبل إن كنتم مؤمنين } بالتوراة ومخالفتها تدل على عدم الايمان بها.
[2.92]
{ و } قل { لقد جآءكم موسى بالبينات } اى بالمعجزات الدالة على صدقه وحقية نبوته فلم تؤمنوا به { ثم اتخذتم العجل } الها { من بعده } اى من بعد مجيء موسى (ع) بالبينات او من بعد ذهابه الى جبل الطور وهو دليل على انكم مفطورون على تكذيب الحق واتباع الباطل { وأنتم ظالمون } واضعون الباطل موضع الحق او ظالمون على انفسكم.
[2.93]
{ وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور } قائلين على لسان موسى (ع) { خذوا مآ آتيناكم بقوة } من قلوبكم وأبدانكم قد مضت الآية فلا نعيد تفسيرها، وكرره لاقتضاء مقام الذم تكرار الذمائم والتطويل بها { واسمعوا } ما يقال لكم من تفضيل محمد (ص) وعلى (ع) على سائر الانبياء والاوصياء او من أحكام التوراة واقبلوه { قالوا } بعد ذلك { سمعنا } ولم نقبل بل { وعصينا } او قالوا حين الخطاب سمعنا وأردنا العصيان او عصينا بقلوبنا { وأشربوا في قلوبهم العجل } ادخلوا باشرابهم الماء الذى فيه برادة العجل فى قلوبهم اللحمانية جرم العجل وفى قلوبهم الروحانية وبال عبادته، وذلك أنه لما نزل توبة العابدين للعجل بالقتل انكر بعض عبادة العجل ووشى بعضهم ببعض فقال الله عز وجل ابرد هذا العجل الذهب بالحديد بردا ثم ذره فى البحر فمن شرب من العابدين ماءه اسود شفتاه وأنفه ان كان ابيض اللون وابيضا ان كان اسود وبان ذنبه، ففعل فبان العابدون وكانوا ستمائة ألف الا اثنى عشر ألفا وهم الذين لم يعبدوا العجل فأمر الله الاثنى عشر الفا ان يخرجوا على الباقين شاهرين سيوفهم وعن الباقر (ع) فى حديث: فعمد موسى (ع) فبرد العجل من انفه الى طرف ذنبه ثم أحرقه بالنار فذره فى اليم فكان أحدهم ليقع فى الماء وما به اليه من حاجة فيتعرض لذلك الرماد فيشربه وهو قول الله تعالى { وأشربوا فى قلوبهم العجل } وعلى الخبر الاول فالمعنى ادخلوا باشراب موسى (ع) لهم الماء المخلوط ببرادة العجل جرم العجل فى قلوبهم الجسمانية ووباله فى قلوبهم الروحانية. وعلى الثانى أدخلوا باشراب حب العجل لهم الماء المخلوط ببرادته جرم العجل فى قلوبهم وقيل: المعنى وأشربوا فى قلوبهم حب العجل { بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم } قتلكم لانبياء الله واتخاذكم العجل الها او كفركم بى { إن كنتم مؤمنين } بموسى (ع) والتوراة، ولما كان زعم اليهود أن دينهم حق وما سوى دينهم باطل وأنهم اولياء الله دون غيرهم وان الدار الآخرة خالصة لهم قال الله { قل } يا محمد (ص) لهم { إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين }.
[2.94]
{ قل } يا محمد (ص) لهم { إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين } فى دعويكم فان من كان وليا لله يطلب ملاقاته ومن كان متيقنا بالآخرة ونعيمها يستعجل الوصول اليها نظيره قوله تعالى:
قل يأيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أوليآء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين
[الجمعة: 6] وفى تفسير الامام (ع) { قل ان كانت لكم الدار الآخرة } الجنة ونعيمها { خالصة من دون الناس } محمد (ص) وعلى (ع) والائمة (ع) وسائر الاصحاب ومؤمنى الامة وانكم بمحمد وذريته ممتحنون وان دعاءكم مستجاب غير مردود { فتمنوا الموت } للكاذب منكم ومن مخالفيكم فان محمدا (ص) وعليا (ع) وذريتهما يقولون: انهم اولياء الله من دون الناس الذين يخالفونهم فى دينهم وهم المجاب دعاءهم { إن كنتم صادقين } انكم انتم المحقون المجاب دعاءكم على مخالفيكم ثم قال لهم رسول الله (ص) بعد ما عرض هذا عليهم لا يقولها أحد منكم الا غص بريقه فمات مكانه فكانت اليهود علماء بأنهم الكاذبون وان محمدا (ص) وعليا (ع) ومصدقيهما هم الصادقون فلم يجسروا ان يدعوا بذلك فقال الله { ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم }.
[2.95]
{ ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم } من الرشا على الاحكام والحكم لغير المستحق بالمصانعات والشفاعات وتحريم المحللات وتحليل المحرمات من الاموال والفروج والدماء، وتحريف الكتاب والكفر بما يعرفونه { والله عليم بالظالمين } وضع الظاهر موضع المضمر اظهارا لوصفهم المذموم واشعارا بأنهم ظالمون فى جميع ما وقع منهم وفى دعوئهم ما ليس لهم وهو تهديد لهم.
[2.96]
{ ولتجدنهم أحرص الناس على حياة } حقيرة دانية لا ينظر اليها حتى تعرف، وهذا دليل على أنهم مقبلون على الدنيا ومدبرون عن الآخرة ونعيمها فلا يريدونها فكيف يتمنونها { ومن الذين أشركوا } عطف على الناس فانه بتقدير من وتخصيص المشركين بعد الناس لانهم احرص من سائر الناس على الحيوة الدنيا { يود أحدهم } كل واحد منهم فان الاضافة تفيد العموم البدلى { لو يعمر } لو مصدرية { ألف سنة } غفلة عن الله وعن الآخرة ونعيمها واطمئنانا بالدنيا ونعيمها وليس هذا شأن أولياء الله ولا أصحاب الآخرة ونعيمها { وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر } هو راجع الى أحدهم وان يعمر فاعل مزحزحه او هو راجع الى التعمير المستفاد من يعمر وفاعل مزحزحه راجع الى مرجع هو ومفعوله راجع الى أحدهم وان يعمر بدل منه؛ او هو ضمير مبهم كضمير الشأن وان يعمر تفسيره { والله بصير بما يعملون } تهديد لهم على مخالفة أفعالهم لاقوالهم.
واعلم أنه كان من أقوال اليهود ان جبرئيل عدو لنا فانه ملك موكل على القتل والشدة والحرب والجدب وأنه أعان على خراب بيت المقدس لانه منع دانيال عن قتل بختنصر وأعان على قتل بنى اسرائيل وخراب بيت المقدس وقالوا لمحمد (ص) على اختلاف فى الروايات: ان كان ميكائيل يأتيك نؤمن بك وان كان جبرئيل يأتيك لا نؤمن بك فانه عدو لنا فقال الله تعالى { قل } يا محمد (ص) لهم { من كان عدوا لجبريل }.
[2.97-98]
{ قل } يا محمد (ص) لهم { من كان عدوا لجبريل } فليعاد الله { فإنه } اى جبرئيل { نزله } اى القرآن والاتيان بضمير الشأن من غير سبق ذكر له صريحا يدل على تفخيمه وأنه غنى عن سبق ذكره لتعرفه بنفسه { على قلبك بإذن الله } ومن يعاد الرسول فقد عادى المرسل او من كان عدوا لجبريل فليختنق؛ فان جبرئيل نزل القرآن المصدق لكتابكم فى اثبات نبوتى ونسخ دينكم على قلبى وأعاننى على ذلك باذن الله، او من كان عدوا لجبرئيل فلا وجه له فان جبرئيل نزل القرآن المصدق لكتابكم والمصحح لدينكم على قلبى فيلزمكم المحبة له لا العداوة فقوله فانه نزله على قلبك من قبيل اقامة السبب مقام المسبب؛ وكان حق العبارة ان يقول: على قلبى لكنه عدل الى حكاية قول الله كأنه قال من كان عدوا لجبريل فان الله يقول انه نزله على قلبك، او الجزاء محذوف وقوله فان الله نزله على قلبك من كلام الله لتعليل الأمر بالقول او لتعليل الجزاء المحذوف وفى جبريل لغات عديدة قرئ بثمان منها جبرئيل كسلسبيل بفتح الجيم وكسرها، وجبريل كقنديل بالفتح والكسر، وجبرئل كجحمرش، وجبرائيل كميكائيل بكسر الجيم وفتحه، وجبرائل بالكسر والفتح، وجبرال بالكسر والفتح وهكذا جبرعيل باللغات المذكورة وقد يبدل اللام بالنون واسماء العجمة اذا عربت تغير تغييرا كثيرا { مصدقا لما بين يديه } من كتب الله ومنها التوراة { وهدى وبشرى } عدل الى المصدر للمبالغة { للمؤمنين من كان عدوا لله } استئناف من الله او من جملة ما أمره الله ان يقوله لهم روى أن المنافقين لما سمعوا ما قال النبى (ص) فى على (ع) من أن جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره واسرافيل من خلفه وملك الموت امامه والله تعالى من فوق عرشه ناظر بالرضوان اليه قال بعض النصاب: انا أبرأ من الله وجبرئيل وميكائيل والملائكة الذين حالهم مع على (ع) ما قاله محمد (ص) فقال الله: من كان عدوا لله { وملائكته ورسله وجبريل وميكال } فليحذر من معاداة الله او فليتهيأ لمعاداة الله { فإن الله عدو للكافرين } وضع الظاهر موضع المضمر ايماء الى أنه كافر واظهارا لوصفه المذموم واشعارا بعلة الحكم.
[2.99]
{ ولقد أنزلنآ إليك آيات } معجزات او احكام بحسب القالب والقلب او آيات من القرآن او آيات من آيات الانفس او آيات الآفاق الظاهرة فى نفسك { بينات } واضحات دالات على صدقك ورسالتك وامامة على (ع) وصيك وفى تفسير الامام (ع): دالات على صدقك فى نبوتك مبينات عن امامة على (ع) اخيك ووصيك وصفيك، موضحات عن كفر من شك فيك او فى أخيك، وذكر الدالات والمبينات والموضحات فى ذيل البينات ليس تفسيرا للبينات بل هى تفسير للآيات فان الآية بما هى آية ما يدل على شيء آخر ويوضحه او هى تفسير للبينات { وما يكفر بهآ إلا الفاسقون } وقوله ولقد أنزلنا اليك الى آخر الآية اشارة الى صغرى قياس من الشكل الاول وقوله: { وما يكفر بهآ } الى آخرها اشارة الى كبرى قياس آخر من الشكل الاول ترتيبها هكذا: انت رسول من الله بالآيات، وكل رسول معه آيات، عدوه كافر به وبآياته من حيث رسالته فأنت عدوك كافر بك وبآياتك وكل كافر بك وبآياتك فاسق، فأنت عدوك فاسق والفسق الخروج عن طاعة العقل وهو الرسول الداخلى وعن طاعة الرسول وهو العقل الخارجى وفى تفسير الامام (ع) قال على بن الحسين عليهما السلام فى تفسير هذه الآية: وذلك أن رسول الله (ص) لما آمن به عبد الله بن سلام بعد مسئلته التى سألها رسول الله (ص) وجوابه (ص) اياه عنها قال: يا محمد بقيت واحدة وهى المسئلة الكبرى والغرض الاقصى من الذى يخلفك بعدك ويقضى ديونك وينجز اعداءك ويؤدى اماناتك ويوضح عن آياتك وبيناتك؟ - فقال رسول الله (ص): اولئك أصحابى قعود، فامض اليهم فيبدو لك النور الساطع فى دائرة غرة ولى عهدى وصفحة خديه وسينطق طومارك بأنه هو الوصى وستشهد جوارحك بذلك فصار عبد الله الى القوم فرأى عليا يسطع من وجهه نور يبهر نور الشمس ونطق طوماره وأعضاء بدنه كله يقول: يا ابن سلام هذا على بن ابى طالب (ع) المالئ جنان الله بمحبيه ونيرانه بمعاداته، الباث دين الله فى أقطار الارض وآفاقها، والنافى للكفر عن نواحيها وارجائها فتمسك بولايته تكن سعيدا، واثبت على التسليم له تكن رشيدا، فقال عبد الله بن سلام: أشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له، وأشهد ان محمدا (ص) عبده ورسوله المصطفى، وأمينه المرتضى، وأميره على جميع الورى، (الى ان قال) وأشهد أنكما اللذان بشر بكما موسى (ع) ومن قبله من الانبياء ودل عليكما المختارون من الاصفياء ثم قال لرسول الله (ص): قد تمت الحجج، وانزاحت العلل، وانقطعت المعاذير، فلا عذر لى ان تأخرت عنك، ولا خير لى ان تركت التعصب لك، ثم قال : يا رسول الله (ص) ان اليهود ان سمعوا باسلامى وقعوا فى فاخبأ بى عندك فاذا جاؤك فاسألهم عنى تسمع قولهم فى قبل ان يعلموا باسلامى وبعده لتعلم أحوالهم فخبأه رسول الله فى بيته ثم دعا قوما من اليهود فحضروه وعرض عليهم أمره فأبوا فقال:
" بمن ترضون حكما بينى وبينكم؟ - قالوا: بعبد الله بن سلام، قال (ص): واى رجل هو؟ - قالوا: رئيسنا وابن رئيسنا، وسيدنا وابن سيدنا، وعالمنا وابن عالمنا، وورعنا وابن ورعنا، وزاهدنا وابن زاهدنا، فقال رسول الله (ص): أرأيتم ان آمن بى اترضون؟ - قالوا: قد أعاذه الله من ذلك، فقال: اخرج عليهم يا عبد الله وأظهر ما قد أظهره الله لك من أمر محمد (ص) فخرج عليهم وهو يقول: أشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له، وأشهد ان محمدا (ص) عبده ورسوله المذكور فى التوراة والانجيل وصحف ابراهيم وسائر كتب الله المدلول فيها عليه وعلى أخيه على بن ابى طالب (ع)، فلما سمعوه يقول ذلك قالوا: يا محمد (ص) سفيهنا وابن سفيهنا، وشرنا وابن شرنا، وفاسقنا وابن فاسقنا، وجاهلنا وابن جاهلنا، كان غائبا عنا فكرهنا ان نغتابه فقال عبد الله: هذا الذى كنت أخافه يا رسول الله (ص) (الى آخر ما روى) ".
[2.100]
{ أوكلما عاهدوا } اى الا يراعوا هؤلاء اليهود الذين أنكروا رسالة محمد (ص) وخلافة على (ع) بعد الآيات الواضحات الدالات على الرسالة والامامة وكلما عاهدوا { عهدا } مع الرسول بمحاكمة واحد منهم مثل عبد الله بن سلام مثلا او هؤلاء النصاب كلما عاهدوا بمبايعة محمد (ص) مثل بيعة الرضوان بالتسليم فى جميع أوامره وترك الرد عليه وترك مخالفته ومثل البيعة مع محمد (ص) بغديرخم بخلافة على (ع) ومع على بخلافته، وكلما عاهدوا بدون البيعة ان لا يخالفوا محمدا (ص) وان يسلموا لعلى (ع) { نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون } اى فى مستقبل أعمارهم لا يرعوون ولا يتوبون مع مشاهدتهم للآيات ومعاينتهم للدلالات، او المعنى بل اكثرهم لا يصدقون ولا يذعنون حين المعاهدة، والاتيان بالشرطية كلية يدل على أن هذه عادتهم قديما وجديدا لا تنفك عنهم، نسب الى رسول الله (ص) انه قال:
" اتقوا عباد الله واثبتوا على ما أمركم به رسول الله (ص) من توحيد الله ومن الايمان بنبوة محمد (ص) رسول الله، ومن الاعتقاد بولاية على (ع) ولى الله، ولا يغرنكم صلاتكم وصيامكم وعباداتكم السالفة أنها تنفعكم ان خالفتم العهد والميثاق فمن وفى وفى له، ومن نكث فانما ينكث على نفسه، والله ولى الانتقام منه، وانما الاعمال بخواتيمها ".
[2.101]
{ ولمآ جآءهم رسول من عند الله } عطف باعتبار لازم قوله { أوكلما عاهدوا } فانه يفيد أن هذه ديدنهم فكأنه تعالى قال: لما كان هذا ديدنهم استمروا عليه { ولمآ جآءهم رسول من عند الله } وضمير جاءهم راجع الى اليهود لكنه تعريض بمنافقى الامة، او هو راجع الى اليهود الذين سبق ذكرهم والى منافقى الامة ابتداء، ولما كان مجيء الرسول (ص) مستلزما للاتيان بالاحكام التى أرسل بها وقد سبق ان تلك كتاب الله سواء كانت مكتوبة فى كتاب او لم تكن ظهر وجه صحة التفسير المنسوب الى الصادق (ع) من قوله: ولما جاءهم جاء اليهود ومن يليهم من النواصب كتاب من عند الله القرآن مشتملا على وصف محمد (ص) وعلى (ع) ووجوب ولايتهما وولاية أوليائهما وعداوة أعدائهما { مصدق لما معهم } مع اليهود مما فى التوراة ومما وصل اليهم من أسلافهم من أوصافهما وأخبارهما، ولما مع منافقى الامة من الدلائل الواضحة الدالة على صدق محمد (ص) وصدق كتابه وفضل على (ع)، ومما فى كتاب محمد (ص) من الآيات المصرحة بفضل على (ع) وخلافته، ومما قاله محمد (ص) فى فضله وخلافته { نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب } وهم اليهود ومنافقو الامة فانهم أوتوا أحكام الرسالة والكتاب التدوينى الذى هو التوراة والقرآن { كتاب الله } اى المنزل فى وصف محمد (ص) وعلى (ع) فى التوراة والقرآن او جملة التوراة والقرآن { ورآء ظهورهم } النبذ الطرح والتقييد بقوله { ورآء ظهورهم } اشارة الى الاعراض عنه وعدم الاعتداد به { كأنهم } اليهود ونواصب الامة { لا يعلمون } ان الكتاب او محمدا (ص) ونبوته او عليا وامامته حق من الله مع أنهم يعلمون ذلك فهم أشد ممن خالف من غير علم او كأنهم ليس لهم علم وادراك حتى يميزوا بعلمهم أنه حق او باطل.
[2.102]
{ واتبعوا } عطف على نبذ فريق يعنى أعرضوا عن الحق واتبعوا { ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان } تلا يتلو تلوا تبعه تبعا وتلا عليه يتلو تلاوة قرأه عليه وتلا عليه يتلو كذب عليه.
حكاية ملك سليمان وكونه فى خاتمه ورمز ذلك الى الصادق (ع)
اعلم أن اكثر قصص سليمان كان من مرموزات الأوائل وأخذها المتأخرون بطريق الأسمار وأخذوا منها ظاهرها الذى لا يليق بشأن الانبياء وورد عن المعصومين (ع) تقرير ما أخذوه أسمارا نظرا الى ما رمزها الاقدمون؛ وامثال هذه ورد عنهم تكذيبها نظرا الى ظاهر ما أخذها العوام، وتصديقها نظرا الى ما رمزوا اليه فقد نسب فى مجمع البحرين انه قال: جعل الله تعالى ملك سليمان فى خاتمه فكان اذا لبسه حضرته الجن والانس والطير والوحش وأطاعوه، ويبعث الله رياحا تحمل الكرسى بجميع ما عليه من الشياطين والطير والانس والدواب والخيل؛ فتمر بها فى الهواء الى موضع يريده سليمان وكان يصلى الغداة بالشام والظهر بفارس، وكان اذا دخل الخلاء دفع خاتمه الى بعض من يخدمه فجاء شيطان فخدع خادمه وأخذ منه الخاتم ولبسه فخرت عليه الشياطين والجن والانس والطير والوحش فلما خاف الشيطان ان يفطنوا به ألقى الخاتم فى البحر فبعث الله سمكة فالتقمه ثم ان سليمان خرج فى طلب الخاتم فلم يجده فهرب ومر على ساحل البحر تائبا الى الله تعالى فمر بصياد يصيد السمك فقال له: اعينك على ان تعطينى من السمك شيئا فقال: نعم فلما اصطاد دفع الى سليمان سمكة فأخذها وشق بطنها فوجد الخاتم فى بطنها، فلبسه فخرت عليه الشياطين والوحش ورجع الى مكانه فطلب ذلك الشيطان وجنوده الذين كانوا معه فقتلهم وحبس بعضهم فى جوف الماء وبعضهم فى جوف الصخرة؛ فهم محبوسون الى يوم القيامة. ونقل أنه كان عسكر سليمان مائة فرسخ؛ خمسة وعشرون من الانس، وخمسة وعشرون من الجن، وخمس وعشرون من الطير، وخمسة وعشرون من الوحش. وروى انه أخرج مع سليمان من بيت المقدس ستمائة الف كرسى عن يمينه وشماله وأمر الطير فأظلتهم وأمر الريح فحملتهم حتى وردت بهم مدائن كسرى ثم رجع فبات فى فارس فقال بعضهم لبعض: هل رأيتم ملكا اعظم من هذا او سمعتم؟ - قالوا: لا؛ فنادى ملك من السماء: تسبيحة فى الله أعظم مما رأيتم ونسب الى الباقر (ع) انه قال: لما هلك سليمان (ع) وضع ابليس السحر ثم كتبه فى كتاب فطواه وكتب على ظهره: هذا ما وضع آصف بن برخيا لملك سليمان (ع) بن داود (ع) من ذخائر كنوز العلم من أراد كذا وكذا فليفعل كذا وكذا، ثم دفنه تحت السرير ثم استبان لهم فقرأه فقال الكافرون: ما كان يغلبنا سليمان (ع) الا بهذا، وقال المؤمنون: بل هو عبد الله ونبيه فعلى ما سبق من سلطنة الشياطين وفرار سليمان كان معنى الآية كما فى تفسير الامام (ع): ان هؤلاء اليهود الملحدين والنواصب المشاركين لهم لما سمعوا من رسول الله (ص) فضائل على بن ابى طالب (ع) وشاهدوا منه (ص) ومن على (ع) المعجزات التى أظهرها الله تعالى لهم عليها نبذوا التوراة والقرآن وأفضى بعض اليهود والنصاب الى بعض وقالوا: ما محمد (ص) الا طالب الدنيا بحيل ومخاريق وسحر ونير نجات تعلمها وعلم عليا بعضها فهو يريد ان يتملك علينا فى حياته ويعقد الملك لعلى (ع) بعده، وليس ما يقول عن الله بشيء انما هو قوله ليعقد علينا وعلى ضعفاء عباد الله بالسحر والنيرنجات التى يستعملها، وكان أوفر الناس حظا من هذا السحر سليمان (ع) بن داود (ع) الذى ملك بسحره الدنيا كلها والجن والانس والشياطين ونحن اذا تعلمنا بعض ما كان يعلمه سليمان تمكنا من اظهار مثل ما يظهره محمد (ص) وعلى (ع) وادعينا لأنفسنا ما يدعيه محمد (ص) ويجعله لعلى (ع) واتبعوا ما تتلوه الشياطين اى تتبعه او تكذبه او تقرأه مستولين على مملكة سليمان (ع) او غالبين على سلطنته من السحر والنيرنجات التى لا يدرك مداركها أحد، او اتبعوا ما تفترى الشياطين على سلطنة سليمان (ع) من أنه بالسحر الذى نحن عالمون به، او اتبعوا ما تقرأه الشياطين من السحر والأوراد التى بها يقع تمزيج القوى الروحانية والطبيعية ويظهر به الخوارق التى يعجز عن مثلها البشر وتنفثه على مملكة سليمان لادامته لهم، وزعم هؤلاء اليهود والنواصب والشياطين ان سليمان كفر { وما كفر سليمان } ولا استعمل السحر كما قال: هؤلاء الكافرون { ولكن الشياطين كفروا } حال كونهم { يعلمون الناس السحر } او كفروا لتعليمهم السحر على ان يكون جوابا لسؤال مقدر.
تحقيق السحر
والسحر اسم لقول او فعل او نقش فى صفحة يؤثر فى عالم الطبع تأثيرا خارجا عن الأسباب والمعتاد وذلك التأثير يكون بسبب مزج القوى الروحانية مع القوى الطبيعية، او بتسخير القوى الروحانية بحيث تتصرف على ارادة المسخر الساحر وهذا أمر واقع فى نفس الأمر ليس محض تخييل كما قيل، وتحقيقه ان يقال: ان عالم الطبع واقع بين الملكوت السفلى والملكوت العليا كما مر، وان لاهل العالمين تصرفا باذن الله فى عالم الطبع بأنفسهم او بأسباب من قبل النفوس البشرية، وان النفوس البشرية اذا تجردت من علائقها وصفت من كدوراتها بالرياضات الشرعية او غير الشرعية وناسبت المجردات العلوية او السفلية تؤثر بالأسباب او بغير الأسباب فى أهل العالمين بتسخيرها اياهم وجذبها لهم الى عالمها وتوجيههم فى مراداتها شرعية كانت او غير شرعية، واذا كان التأثير من أهل العالم السفلى تسمى أسبابه سحرا وقد يسمى ذلك التأثير والأثر الحاصل سحرا، وذا كان من أهل العالم العلوى يسمى ذلك التأثير والاثر الحاصل به معجزة وكرامة، وقد تتقوى فى الجهة السفلية او العلوية فتؤثر بنفسها من دون حاجة الى التأثير فى الارواح ويسمى ذلك التأثير والاثر ايضا سحرا ومعجزة، فالسحر هو السبب المؤثر فى الارواح الخبيثة الذى خفى سببيته او تأثير تلك الارواح وآثارها فى عالم الطبع بحيث خفى مدركها ثم أطلق على كل علم وبيان دقيق قلما يدرك مدركه، ويطلق على العالم بذلك العلم اسم الساحر؛ ومنه
يأيها الساحر ادع لنا ربك
[الزخرف:49] على وجه فيستعمل الساحر على هذا فى المدح والذم.
حكاية هاروت وماروت ورموزها
{ ومآ أنزل } ويعلمون الناس ما أنزل، او هو عطف على ما تتلوا الشياطين، او لفظ ما نافية وهو عطف على ما كفر سليمان، او حال عن السحر اى لم ينزل السحر { على الملكين ببابل هاروت وماروت } هما اسمان أعجميان ولذا لم ينصرفا او عربيان مأخوذان من هرت ومرت كما قيل بمعنى كسر ولا وجه حينئذ لعدم صرفهما، وقيل من هرى بمعنى انضج اللحم، ومن مرى من المرية او من المماراة، ووزنهما فلعوت مقلوب هريوت ومريوت مثل طاغوت، ويجوز ان يكون من مار يمور بمعنى تحرك وتموج، او من مار يمير بمعنى جلب الطعام الى اهله، او من هار الجرف بمعنى انصدع ووزنهما حينئذ فلعوت من غير قلب، ومنع صرفهما لمكان التاء والعلمية. وعن الصادق (ع) أنه قال كان بعد نوح قد كثر السحرة والمموهون فبعث الله ملكين الى نبى ذلك الزمان بذكر ما يسحر به السحرة وذكر ما يبطل به سحرهم ويرد به كيدهم فتلقاه النبى عن الملكين وأداه الى عباد الله بأمر الله عز وجل وأمرهم ان يقفوا به على السحر وان يبطلوه ونهاهم ان يسحروا به الناس وهذا كما يدل على السم ما هو، وعلى ما يدفع به غائلة السم، ثم يقال لمتعلم ذلك: هذا السم؛ من رأيته سم فادفع غائلته بكذا؛ واياك ان تقتل بالسم أحدا، قال: وذلك النبى أمر الملكين ان يظهرا للناس بصورة بشرين ويعلماهم ما علمهما الله من ذلك ويعظاهم ونسب الى أبى جعفر (ع) انه قال: ان الملائكة كانوا ينزلون من السماء الى الارض (الى ان قال) فقالت طائفة من الملائكة: يا ربنا اما تغضب مما يعمل خلقك فى أرضك ومما يصفون فيك الكذب (الى ان قال) فأحب الله ان يرى الملائكة القدرة ونفاذ أمره فى جميع خلقه فأوحى الله الى الملائكة ان انتدبوا منكم ملكين حتى أهبطهما الى الارض ثم أجعل فيهما من طبائع المطعم والمشرب والشهوة والحرص والأمل مثل ما جعلته فى ولد آدم ثم أختبرهما فى الطاعة لى، قال: فندبوا لذلك هاروت وماروت وكانا من أشد الملائكة قولا فى العيب لولد آدم (ع) فأوحى الله اليهما: ان اهبطا الى الارض فقد جعلت لكما مثل ما جعلت لولد آدم ثم أوحى الله اليهما: انظرا الا تشركا بى شيئا ولا تقتلا النفس التى حرم الله ولا تزنيا ولا تشربا الخمر؛ فهبطا ناحية بابل فرفع لهما مشرف فأقبلا نحوه واذا بحضرته امرأة جميلة حسناء متزينة عطرة مسفرة مقبلة نحوهما، قال: فلما نظرا اليها وناطقاها وتأملاها وقعت فى قلوبهما موقعا شديدا فرجعا اليها رجوع فتنة وخذلان وراوداها عن نفسها، واجمال الخبر أنها أمرتهما بسجود الصنم وشرب الخمر ليتوسلا بهما الى الزنا معها، فتوامرا بينهما وقالا: هذه ثلاثة خصال مما نهينا عنه، فغلبت عليهما الشهوة فأجاباها فشربا الخمر وسجدا الصنم فلما تهيأت لهما وتهيئا لها دخل عليهما سائل يسأل فلما ان رآهما ورأياه ذعرا منه فقال لهما: انكما لمريبان ذعران قد خلوتما بهذه المرأة انكما لرجلا سوء وخرج عنهما، فقالت لهما؛ لا والهى ما تصلان الان الى وقد اطلع هذا الرجل على حالكما ويخبر بخبركما ولكن بادرا الى هذا الرجل واقتلاه قبل ان يفضحكما ثم دونكما فاقضيا حاجتكما فقتلا الرجل ثم رجعا اليها فلم يرياها وبدت لهما سوآتهما قال الله: اختارا عذاب الآخرة او عذاب الدنيا، فاختارا عذاب الدنيا وكانا يعلمان الناس السحر فى أرض بابل ثم لما علما الناس السحر رفعا من الارض الى الهواء فهما معذبان منكسان معلقان فى الهواء الى يوم القيامة وقيل: ان هذه القضية وقعت بعد رفع ادريس (ع) الى السماء فقالت الملائكة: ما يصنع هذا الخاطئ فينا فلم يرضه الله تعالى منهم وجعلهم معرضا لامتحانه ثم قال: اختاروا من بينكم من هو أصلح منكم فاختاروا ثلاثة من الملائكة أحدهم عزرائيل فهبطوا الى الارض واختلط بهم طباع أهلها ولبسوا لباسهم ثم استعفى عزرائيل من الحكومة فى الارض فقبل الله منه ورفعه الى السماء وبقى هاروت وماروت فى الارض بناحية بابل يحكمان بين الناس فى النهار واذا جاء الليل خلع منهما طباع البشر ورفعا الى السماء فجاءت ذات يوم امرأة حسناء لمهم لها عندهما فوقعت فى قلوبهما فراوداها الى ان قتلا السائل وعلما الاسم الاعظم لها فلما أرادا الاختلاط بها صعدت الى السماء بواسطة الاسم الاعظم ومسخت كوكبا وهى هذه الزهرة المعروفة؛ والزهرة كانت اسما لها، وبقيا فى الارض بعد التنبه بأنهما عصيا واختارا عذاب الدنيا على عذاب الآخرة بمشورة جبرئيل فعلقا فى بئر فى مغارة جبل من بابل.
وقيل: كانت القضية فى عهد ادريس (ع) واختيار عذاب الدنيا كان بمشورة ادريس (ع) ومسئلته من الله.
وقيل: انهما كانا رجلين صالحين كانا فى الناس يحكمان بينهم وسميا ملكين لصلاحهما، ويؤيده قراءة الملكين بكسر اللام.
اعلم أن أمثال هذه من مرموزات الانبياء والحكماء السلف ولذا اختلف الأخبار وكتب السير فى نقلها ولما كانت من المرموزات وقد حملها العامة على مفاهيمها العرفية التى لا يمكن تصحيحها بالنسبة الى مقام الانبياء والملائكة المعصومين عن الخطاء قررها المعصومون تارة وأنكروها أخرى فانه نسب الى الامام الحسن العسكرى (ع) انه سئل عن هاروت وماروت وما نسب اليهما مما ذكر سابقا فقال الامام (ع): معاذ الله من ذلك ان ملائكة الله معصومون من الخطاء محفوظون من الكفر والقبائح بألطاف الله (الى آخر ما قال فيهم) ووجه صحتها ان المراد بالملكين القوتان العلامة والعمالة اللتان أنزلهما الله من عالم الأرواح وجعل فيهما ما جعل فى البشر من الطبائع المتضادة والشهوات المتخالفة والآراء المتناقضة وابتلاهما بالمرأة المتعطرة المتزينة التى هى النفس الانسانية وقد عبر عنها فى الأخبار بالمرأة ودعت النفس القوتين الى متابعتها وقد افتتنتا بشهواتها ولذاتها ولم يتيسر لهما التمتع بها الا بشرب خمر الغفلة وسجدة وثن الهوى وقتل الملك الزاجر لهما الذى أنزله الله تعالى معهما زاجرا لهما عن متابعة النفس فى أول الامر ثم لما عزمتا على مخالطة النفس واستحكم ذلك فيهما زال عنه قوة الزجر والمنع بغلبتهما عليه فصار سائلا متضرعا، ولما لم يتيسر لهما التمتع بها مع مسئلته قتلتاه بأمرها ثم وضعتا للوصول الى شهواتها الطرائق الخفية التى بها تتصرفان فى الطبيعيات باستمداد من الارواح الخبيثة وبهذا الاعتبار يسمى سحرا ثم تعلمت منهما ما ترتقى به عن عالم الملك وتتصل بروحانيات الكواكب العلوية خصوصا روحانية الزهرة التى هى المربية للنسأ والمزينة والمراد بالمسخ المسخ الملكوتى لا الملكى، ولما اتصلت بروحانية الزهرة قالوا مسخت بها وبقيتا فى عالم الطبع معذبتين بأمره تعالى فى خدمة الجسد ولوازمه فى بئر له سبعمائة درجة باعتبار وفى الهواء باعتبار { وما يعلمان من أحد } من ذلك السحر وابطاله { حتى يقولا إنما نحن فتنة } امتحان للخلق جعلنا الله امتحانا لهم حتى يعلم من يجاهد فى سبيله ولا يتعلم ما يضر بدينه او لا يستعمل ما يتعلمه مما يضر ممن لا يجاهد { فلا تكفر } بترك المجاهدة وتعلم ما يضرك او استعماله وبادعاء الانانية لنفسك ونسبة ما تعلمته اليها مع انه عارية من الله لها { فيتعلمون } بترك نصحهما { منهما } من الملكين او من الصنفين اى السحر وما أنزل على الملكين { ما يفرقون به بين المرء وزوجه } من الاعمال والاقوال والرقى ويتركون نصائح الملكين ويضرون بعباد الله { وما هم بضآرين به من أحد } وما المتعلمون بضارين بما يفرقون به بين المرء وزوجه او بما يتعلمونه { إلا بإذن الله } لما توهم من نبذ الكتاب واتباع ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وتلاوة الشيطان واستيلائه على ملك سليمان بما تلاه وتعليم الشيطان الناس السحر وبالجملة من انتساب الافعال الى المذكورين استقلالهم بها واستبدادهم فيها رفع ذلك التوهم بان هذه ابتلاءات من الله على أيدى هؤلاء وليس يقع بدون اذنه شيء { ويتعلمون } من الملكين او من الصنفين { ما يضرهم } من انواع السحر والنير نجات سوى ما يفرقون به بين المرء وزوجه، او المراد أنهم يتعلمون ما يضرهم أعم من التفريق وغيره من قبيل ذكر العام بعد الخاص للاهتمام بالخاص ولتطويل مقام الذم ولذا أتى بالعاطف، او المراد أنهم يتعلمون من غير الملكين ومن غير الصنفين ما يضرهم من العلوم والحرف، او أنهم يتعلمون من كل ما يتعلمون جهته الدنيوية التى تضرهم فى دينهم وفى دنياهم تبعا لدينهم، ولا يتعلمون الجهة التى تنفعهم فى دينهم فتنفعهم فى دنياهم أيضا { ولا ينفعهم } مع أنهم أمروا بالتعلم لينتفعوا والملكين أنزلا ليتعلموا منهما ما ينفعهم { ولقد علموا لمن اشتراه } اى اشترى ما تتلو الشياطين بكتاب الله كأن كتاب الله بحسب فطرته كان مملوكا له بخلاف ما تتلو الشياطين لان التدوينى من كتاب الله صورة كتابه التكوينى والصورة الانسانية مختصرة من التكوينى وما تتلو الشياطين ليس منسوبا الى الانسانية بل هو ضد ونافر منها فاشتراءه بكتاب الله شراء مبيع خسيس رديء بثمن نفيس مملوك له مملوكية ذات الشيء للشيء ولذا قال بعيد ذلك ولبئس ما شروا به أنفسهم، او المعنى انهم علموا لمن اشترى ما يضره بما ينفعه كأن ما ينفعه مملوك له فجعله ثمنا { ما له في الآخرة من خلاق } نصيب { ولبئس ما شروا به أنفسهم } كتاب الله فانه أنفسهم كما عرفت، او ما ينفعهم فانه أيضا من شؤن أنفسهم وشأن الشيء هو الشيء بوجه، او المقصود أنهم باشتراء ما تتلو الشياطين بكتاب الله عرضوا أنفسهم فى معرض البيع للشيطان فباعوها منه بالأعراض والأغراض الفانية، او المعنى لبئس ما اشتروا به انانيتهم كما سبق فى نظير الآية { لو كانوا يعلمون } لانتهوا عما ارتكبوه او لما اشتروه، او المعنى على التمنى.
تحقيق العلم وصدقه وحقيقته
اعلم ان العلم يطلق على مطلق الادراك الانسانى سواء كان بالمدارك الظاهرة او الباطنة، وسواء كان جزئيا او كليا تصورا او تصديقا، ولا يطلق على ادراك سائر الحيوان لانه ليس مطلق الادراك بل الادراك المأخوذ فى مفهومه الشعور بالشعور فى عرف العام والادراك الموصوف بالاشتداد اى المستعقب لادراك آخر فوق ذلك الادراك فى طريق الانسان فى عرف الشارعين، ويطلق على الادراك الكلى او المركب مقابل المعرفة التى تطلق على الادراك الجزئى او البسيط، وعلى التصديق ظنيا او علميا تقليديا او عاديا او برهانيا، وعلى الفنون العلمية والصناعات والحرف العلمية من دون اعتبار ادراك مدرك لها، وعلى الملكة الحاصلة للانسان من ممارستها ومدارستها علما ومواظبتها عملا التى يقتدر بها على تفصيل مسائلها واتقان عملها، ولما كان العلوم والادراكات متخالفة متضادة والفنون والصناعات مختلفة والعلوم والجهالات متشابهة غير متمايزة الا عند من له بصيرة بدارى العلم والجهل، وان أى الادراكات صدر من دار العلم وأيها من دار الجهل، وأيها يؤدى الى العلم وأيها يؤدى الى العلم وأيها يؤدى الى الجهل، وهذا البصير نادر الوجود ولكن طالب تلك البصيرة كثير ولتشابه العلوم والجهالات يضل كثير من الطلاب عن طريق الحق ويحسب العلم فى الجهل واليقين فى الظن حتى أنه يحسب ان ليس وراء مظنونه علم وادراك كان التعرض لتحقيق العلم وأقسامه وتمييزه عن الجهل وأفنانه من المهمات فنقول: العلم كالوجود وكذا سائر الصفات الحقيقية الالهية حقيقة مشككة ذات مراتب عديدة فمرتبة منه واجب الوجود تعالى شأنه، ومرتبة منه فعله المسمى بالمشيئة والحقيقة المحمدية (ص) وعلوية على (ع) ونفس الرحمن ومقام المعروفية وهو الواسطة بين الخلق والحق ولذا سمى بالحق المخلوق به، ومرتبة منه الاقلام العالية بأنواعها ومراتبها، ومرتبة منه اللواح النورية بمراتبها الكلية والجزئية، ومرتبة منه الالواح العينية بسماواتها وسماوياتها وارضيها وارضياتها والعلم فى المراتب العالية لظهور الوجود فيها وخفاء المهيات وانغمار التعينات وانمحاء الكثرات وظهورها بأنفسها وانكشاف غيرها لها وانكشافها لدى غيرها وادراكها لادراكها يسمى علما وعقلا كما يسمى وجودا ونورا، واما فى مراتب الماديات وخصوصا الأرضيات فلخفاء الوجود وغلبة الاعدام والتعينات وغيبتها عن أنفسها وعن غيرها بحقائقها لا يسمى شعورها الضعيف الخفى علما فان للكل شعورا بقدر وجوده ولكن لا شعور له بشعوره كما فى قوله تعالى:
وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم
[الإسراء:44] يعنى ان للكل تسبيحا وشعورا ولكن لا شعور لهم بتسبيحهم (على قراءة لا يفقهون بالغيبة) وهكذا الحال فى ادراك الحيوان مع ان له احساسا بالمدارك الظاهرة وادراكا بالمدارك الباطنة لعدم شعوره بشعوره، والسر فى ذلك ان المادة الاولى فعلية وجوده عين القوة وعدم الوجود الشأنى فليس لها وجود فى نفسها حتى يكون لها وجود لنفسها، او يكون لغيرها وجود لها فلا يكون لها علم بنفسها ولا بغيرها لان العلم بالشيء عبارة عن وجود ذلك الشيء للعالم به وحضوره عنده، والمادة الثانية التى هى الامتداد الجسمانى والصور المنطبعة فيها من صور العناصر والجمادات والنباتات لها فعلية ما ووجود فى أنفسها ووجود لأنفسها لكن فعليتها مختفية تحت القوة ووجوداتها فى أنفسها عين أعدامها وتكوناتها نفس تصرماتها على ما تقرر عند الصوفية وبعض ما قلدهم من الفلاسفة من الحركات الجوهرية والتجددات الذاتية وان موجودات عالم الطبع بتمامها موادها وصورها وأوصافها وأعراضها من قبل أنفسها فى الفناء والعدم ومن قبل موجدها فى البقاء والوجود، ووجوداتها لانفسها بعينها أعدامها وغيبوبتها عن أنفسها، على ان الامتداد الجسمانى كل جزء من أجزائه الغير المتناهية المفروضة فى الغيبة عما سواه وعن الكل والكل فى الغيبة عن الاجزاء، وما كان كذلك لم يكن له حضور عند غيره ولا لغيره حضور عنده، فلم يكن عالما بنفسه ولا بغيره ولا معلوما لغيره الا لمن كان الامتداد الجسمانى متقوما به ومتبدلا غيبته بالحضور وتجدده بالثبات عنده، وغير الانسان من الحيوان لتجرد نفسه الحيوانية عن المادة تجردا ما كان له وجود فى نفسه ولنفسه فكان عالما ومعلوما لنفسه وكان لغيره أيضا وجود ماله بصورته المجردة عن المادة تجردا مثل تجرد النفس الحيوانية فكان عالما بغيره أيضا لكن لما كان علمه وادراكه مجردا عن الشعور بالشعور وعن الاشتداد لا يسمى علما بل احساسا وادراكا، والانسان من اول انفصال مادته واستقرارها فى مقرها حاله حال الجماد البرزخ بين الجماد والنبات، وبعد ذلك يصير نباتا، وبعد ذلك يصير حيوانا كالخراطين له قوة ضعيفة للحركة الخفيفة وادراك ضعيف باللامسة، فاذا تولد صار حيوانا كاملا بحسب المدارك الظاهرة لكن مداركه الباطنة الحيوانية بعد فى ضعف حتى بلغ الى عامين او ثلاثة فيصير حينئذ حيوانا كاملا فى مداركه الظاهرة والباطنة، ولا فرق بينه وبين الاجناس الثلاثة فى تلك المراتب الا انه واقع فى طريق الانسان غير واقف على شيء من المراتب الثلاث ووجوده لا بشرط شيء بخلافها فانها واقفة فى مقاماتها غير مستعدة للتجاوز عنها لكن شعوره البسيط فى المراتب كشعورها لا يسمى علما وان كان فى الاشتداد؛ لما عرفت ان الجماد والنبات شعورهما كلا شعور ولا يسمى ادراكا وشعورا فكيف يسمى علما، وان الحيوان وان كان شعوره شعورا وادراكا لكن لانفكاك الاشتداد والشعور بالشعور عنه لا يسمى علما فاذا بلغ او ان التميز وادراك المعقولات من البديهيات سمى عالما وادراكه علما لحصول الشعور بالشعور له مع الاشتداد لادراكه فى الطريق الانسانى فعلم من ذلك ان اسم العلم وقع على الادراك بعد ما سلب عنه حين صيرورته قرينا للشعور بالشعور حال كونه مشتدا فى الطريق الانسانى، ودوران اطلاق العلم على الادراك وسلبه عنه على وجود الشعور بالشعور وعدمه دليل على اعتباره فى اطلاق العلم، واعتبار اشتداد الادراك فى صدق العلم يستفاد من اشارات الآيات والاخبار وان الفطرة قاضية بأن العلم يقتضى العمل بمقتضاه لان الانسان العطشان اذا علم ان خلف الجدار ماء وعلم أنه لا يصل اليه الا بالحركة اليه؛ فعلمه يدعوه الى الحركة اليه، على أن فى الاخبار اشارات اليه والعمل يورث العلم بنصوص الاخبار مثل: من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم، وباشارات الكتاب مثل قوله تعالى: { واتقوا الله ويعلمكم الله } حيث جعل التعليم المورث للعلم ميراث التقوى، فالعلم على هذا يقتضى العلم، وما فى سورة التكاثر صريح فى اقتضاء العلم الاشتداد والازدياد من قوله تعالى:
كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين
[التكاثر:5-7] وقد ذكر المولوى قدس سره اقتضاء العلم الاشتداد بقوله.
اين عجب ظنى است درتواى مهين
كه نمى برد ببستان يقين
هركمان تشنه يقين است اى بسر
ميزند اندر تزايد بال و بر
جون رسد درعلم بسن بويا شود
مر يقين را علم او جويا شود
علم جوياى يقين باشد بدان
وين يقين جوياى ديدست وعيان
فاذا سمع الانسان نباح الكلب مثلا وانتقل منه الى تسخره للغضب ومنه الى تسخر الغضب لرب نوعه، ومنه الى تسخره لرب الارباب كان سماعه علما، واذا سمع نبى وقته يقول: يا قوم اتقوا الله وأطيعونى فان فى طاعتى وسماع قولى فلاح الدنيا والآخرة، وأدرك منه لموافقة شاكلته أن فلاح الدنيا بكثرة المال والترأس على العباد والتبسط فى البلاد سواء حمل ذلك القول من النبى على طلبه ذلك او لم يحمل لم يكن ادراكه علما بل كان جهلا، وهكذا الحال فى تعلم الصناعات العلمية فانه اذا تعلم السحر للاطلاع على طرقه الخفية لحفظ دين الله وضعفاء عباد الله وابطال السحر به، او تعلم الشطرنج للتنبه على كيفية السير فى البيوت والغلبة على الخصم منتقلا به الى سير قواه فى مدارج الآخرة والغلبة على الخصم الذى هو الشيطان وجنوده كان ادراكه علما، واذا تعلم الفقه او علم الأخلاق او علم العقائد الدينية ولم يكن المقصود منه العمل وامتثال الاوامر والنواهى وتبديل الأخلاق ولا الترقى من حضيض العلم الى اوج اليقين والشهود بل كان مقصوده التحبب الى الناس او الترأس عليهم او الصيت فى بلادهم او التصرف فى الاوقاف والوصول الى المناصب الشرعية او غير الشرعية او غير ذلك من الأغراض النفسانية كان ادراكه جهلا لا علما فمدار علمية الادراك وجهليته شاكلة الانسان لا صورة المدرك والصناعات فرب متعلم للفقه كان عبدا للشيطان بل ابنا له، ورب متعلم للسحر والشطرنج والموسيقار التى قالوا بحرمة تعلمها كان ادراكه علما؛ وبالجملة كلما أخذ الناقص بدون الاذن والانقياد للكامل صار فى وجوده نقصا وعلة، وما أخذه الكامل او الناقص باذن الكامل وانقياده كان كمالا وفضيلة؛ ونعم ما قال المولوى قدس سره:
دست ناقص دست شيطان است وديو
زانكه اندر دام تكليف است وريو
كاملى كر خاك كيرد زر شود
ناقص ار زر برد خاكستر شود
جهل آيد بيش او دانش شود
جهل شد علمى كه در ناقص رود
هرجه كيرد علتى علت شود
كفر كيرد ملتى ملت شود
والحاصل أن كل ادراك يكون سببا للادبار عن الدنيا والاقبال على الآخرة يسمى عند أهل الله علما، وكل ادراك لم يكن كذلك لم يكن علما، والعالم من كان يعلم ما يحتاج اليه فى معاشه ومعاده مع اقباله على الآخرة، والمتعلم من كان طالبا لادراك ما يحتاج اليه مع اقباله على الآخرة، ومن كان مقبلا على الدنيا لم يكن عالما ولو كان مدركا لجميع المسائل الشرعية والمطالب الخلقية والعقائد الدينية بالبرهان المتقن؛ ونعم ما قيل: ان العلم هو الذى لم يجتمع مع الأغراض الدنيوية والاهواء النفسانية؛ وما اجتمع مع تلك فهو جهل مشابه للعلم وليس بعلم، فقول المعصوم (ع): طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة؛ اشارة الى هذا الادراك سواء كان مع الجلوس فى المدرسة او مع الاكتساب للمعيشة والا كان أكثر الناس محروما من هذه الفضيلة، وكذا قوله (ع): كن عالما او متعلما ولا تكن ثالثا فتهلك، اشارة الى هذا العلم وطلبه والا كان الأمر به أمرا بالمحال لأغلب الناس.
وما ورد فى أخبار كثيرة من أقسام العلم وطلبته وأقسام العالم يدل على ما ذكر مثل ما روى:
" ان رسول الله (ص) دخل المسجد فاذا جماعة قد أطافوا برجل فقال (ص): ما هذا؟ - فقيل: علامة، فقال (ص): وما العلامة؟ - فقالوا: أعلم الناس بأنساب العرب ووقائعها وأيام الجاهلية والاشعار العربية، فقال النبى (ص): ذاك علم لا يضر من جهله ولا ينفع من علمه، ثم قال النبى (ص): انما العلم ثلاثة؛ آية محكمة، او فريضة عادلة، او سنة قائمة، وما خلاهن فهو فضل "
فانه اشارة الى الاقسام الثلاثة للعلم العقلانى والنفسانى والجسمانى بحيث يكون مشتملا على الاقبال على المعلوم والعمل المستلزم للاشتداد فان الآية المحكمة عبارة عن العلوم العقلانية التى يجد العالم شيئا من حقائق المعلومات ويستلذ به والا لم تكن آيات ومرائى، والتى لم يكن للريب والشك والزوال مجال فيها والا لم تكن محكمة، وهذا بخلاف العلوم الخيالية التى حصلها الفلسفى والمتكلم باستخدام الخيال للعاقلة وجعلتها أنفسهم الزائغة وسائل لمآربها النفسانية من الأعراض الدنيوية او الأغراض النفسانية من الراحة عن كلفة الطاعات الشرعية فانها ليست آيات ولا محفوظة عن الريب والشك والزوال لكونها مأخوذة بالتقليد من أمثالهم، والفريضة العادلة عبارة عن العلوم النفسانية المتعلقة بالرذائل والخصائل بحيث يصير العالم بها متخليا عن الرذائل متحليا بالخصائل لان اطلاق الفريضة على هذا العلم انما هو باعتبار تلك التخلية والتحلية وكذا اطلاق العادلة فان معنى العلم العادل ان يكون العالم به عادلا او معلومه متوسطا ولا يكون المعلوم من الاخلاق متوسطا الا اذا صار جزئيا موجودا فى وجود العالم به، وهذا معنى استلزام العلم للعمل المستلزم لعلم آخر اللازم للاقبال على الآخرة، والسنة القائمة عبارة عن العلوم القالبية المأخوذة من النبى (ص) او خليفته العامل صاحبها بها بحيث ينتصب عن اعوجاجه او يعتدل عن الافراط والتفريط، او تكفى مهام صاحبها فى الدنيا والآخرة لان السنة بحسب العرف واللغة لها معان عديدة لكنها فى عرف الشارعين اسم للعلوم المتعلقة بالاعمال الجسمانية بحيث تؤدى صاحبها الى العمل لان تسمية العلوم بالسنة ليست الا باعتبار العمل، والقائمة اما من قام بمعنى انتصب او اعتدل وبكلا المعنيين تكون وصفا بحال المتعلق اى سنة قائم صاحبها، او من قام المرأة وعليها بمعنى مأمنها وكفى أمورها وبهذا المعنى يكون وصفا بحال الموصوف فالعمل والاقبال الى الآخرة مأخوذان فى مفهوم الكلمتين.
ومثل ما روى عن الصادق (ع) فى أقسام طلبة العلم من قوله (ع) طلبة العلم ثلاثة فاعرفهم بأعيانهم وصفاتهم؛ صنف يطلبه للجهل والمراء، وصنف يطلبه للاستطالة والختل، وصنف يطلبه للفقه والعقل، فصاحب الجهل والمراء موذ ممار متعرض للمقال فى أندية الرجال بتذاكر العلم وصفة الحلم قد تسربل بالخشوع وتخلى من الورع فدق الله من هذا خيشومه وقطع منه حيزومه، وصاحب الاستطالة والختل ذو خب وملق يستطيل على مثله من أشباهه ويتواضع للاغنياء من دونه فهو لحلوائهم هاضم ولدينه حاطم، فأعمى الله على هذا خبره وقطع من آثار العلماء اثره، وصاحب الفقه والعقل ذو كأبة وحزن وسهر قد تحنك فى برنسه وقام الليل فى حندسه، يعمل ويخشى وجلا داعيا مشفقا مقبلا على شأنه، عارفا بأهل زمانه، مستوحشا من أوثق اخوانه، فشد الله من هذا أركانه، وأعطاه الله يوم القيامة أمانه. وهذا الحديث يدل على ما ذكرنا من ان اعتبار جهلية الادراك وعلميته انما هو بشأن المدرك ونيته لا بحال المدرك المعلوم وشرافته وخساسته فان المراد بالعلم فى قوله (ع): طلبة العلم؛ مطلق الادراك المطلق عليه العلم بمفهومه العرفى، وقوله (ع) صنف يطلبه للجهل يعنى يطلب العلم اى الادراك او المدرك للجهل يعنى يجعل غاية طلبه للعلم الجهل وهذا بظاهره متناقض وبيانه بحيث لا يتوهم تناقض ان نقول: ان الانسان له قوة داركة ويعبر عنها بالقوة العلامة والقوة النظرية، وقوة عملية ويعبر عنها بالقوة العمالة، والقوة العمالة تنشعب الى الشهوية التى تجذب المنافع والملاذ والغضبية التى تدفع المضار والمولمات وهذه الثلاث اما مسخرة للعاقلة وخادمة لها ولا يكون تسليمها للعاقلة التى هى رسول باطنى الا اذا صارت منقادة لولى أمره الذى هو عقل خارجى او مسخرة للشيطان وخادمة له فان كانت خادمة للعاقلة كان ادراك العلامة علما ومورثا للعمل الاخروى وللعلم الآخر وكان عمل العمالة للآخرة سواء كان شهوانيا او غضبيا، ومورثا لعلم آخر غير العلم الذى صار محركا له على العمل، وان كانت مسخرة للشيطان كان ادراكه مورثا لازدياد جهله فان الجهل الحقيقى هو ملك الشيطان وليس المراد به الجهل الذى هو عدم لملكة العلم بل المراد به ازدياد الادراك الذى يصير سببا لسعة النفس التى سعتها قبل التسليم سعة ملك الشيطان، وكثيرا ما يورث هذا الادراك ادراكا آخر هو جهل آخر.
وقول على عليه السلام فى حديث اقسام الناس: ان الناس آلوا بعد رسول الله (ص) الى ثلاثة؛ آلوا الى عالم على هدى من الله قد أغناه الله بما علم عن علم غيره، وجاهل مدع للعلم لا علم له معجب بما عنده قد فتنته الدنيا وفتن غيره، ومتعلم من عالم على سبيل هدى من الله ونجاة؛ (الى آخر الحديث) اشارة الى ما ذكرنا؛ فان المراد بالجاهل المدعى للعلم المعجب بما عنده المفتن بالدنيا؛ والمفتن غيره ليس الجاهل الساذج بل الذى سماه أشباه الناس عالما واكتنز من قشر العلوم كنوزا وجعلها لمآربه معدة، ولا علم له بالمعنى الذى ذكر مع انه مليء بالادراكات الجهلية المورثة لازدياد ملك الشيطان الذى هو ملك الجهل، وكان عمله بتسخير الشيطان جلبا لما اشتهته نفسه، ودفعا لما لا يلائم نفسه من غير اعتبار للتأدية الى الآخرة وهذا المسخر للشيطان بقوته الداركة وحيلته الشيطانية يريد مداما ارائة مدخراته للخلق فيتعرض للمقال فى أندية الرجال ويؤذى جليسه باعجابه بنفسه وإظهاره مزخرفاته ويمارى من يظنه مثله او فوقه؛ ونعم ما قال المولوى قدس سره:
علم تقليدى وتعليمى است آن
كز نفور مستمع دارد فغان
جون بى دانش نه بهر روشنى است
همجو طالب علم دنياى دنى است
طالب علم است بهر عام وخاص
نى كه تايابد ازاين عالم خلاص
علم وكفتارى كه آن بى جان بود
عاشق روى خريداران بود
كرجه باشدوقت بحث اين علم زفت
جون خريدارش نباشد مردو رفت
وعلامة العلم ان يكون العالم طالبا للخلوة مع معلومه نافرا من هذه الجهة من أوثق اخوانه فكيف بغيرهم، وان كان من جهة الحب فى الله طالبا للسلاك الى الله بل لتمام خلق الله قائلا:
مشترى من خداى است و مرا
ميكشد بالا كه الله اشترى
خونبهاى من جمال ذو الجلال
خونبهاى خود خورم كسب حلال
وبقوته السبعية يريد الاستطالة على من يمكن له الاستطالة عليه فيستطيل على أمثاله الذين لا يظن حصول ملائمات قوته البهيمية منهم ويتملق لمن يظن حصول ملائماتها منه سواء كانوا أدنى منه فى الشرف او أمثاله او أشرف منه، فمعنى الحديث صنف من طلبة العلم يطلبه لازدياد مدركاته الحاصلة باستمداد الشيطنة الموجب لازدياد جهله؛ وصفة هذا الصنف ما ذكره (ع )، وصنف يطلبه لتقوية قوته الغضبية الظاهرة بالاستطالة على الخلق ولتقوية قوته البهيمية الظاهرة بالختل مع الخلق والتملق، وصنف يطلبه للفقه وازدياد العلم الاخروى واشتداده، والعقل يعنى كمال الادراك الذى هو التعقل مقابل نقصان الادراك الذى هو الشيطنة والجهل.
وروى عن امير المؤمنين (ع) فى عباد العامة وجهالهم الذين سماهم أشباه الناس عالمين انه قال: ان من أبغض الخلق الى الله تعالى لرجلين، رجل وكله الله تعالى الى نفسه وهو جائر عن قصد السبيل مشعوف بكلام بدعة قد لهج بالصوم والصلاة فهو فتنة لمن افتتن به، ضال عن هدى من كان قبله، مضل لمن اقتدى به فى حياته وبعد موته، حمال خطايا غيره، رهن بخطيئته، ورجل قمش جهلا فى جهال الناس عان بأغباش الفتنة قد سماه أشباه الناس عالما ولم يغن فيه يوما سالما، بكر فاستكثر ما قل منه خير مما كثر حتى اذا ارتوى من ماء آجن واكتنز من غير طائل جلس بين الناس قاضيا ضامنا لتخليص ما التبس على غيره، وان خالف قاضيا سبقه لم يأمن ان ينقض حكمه من يأتى بعده لفعله بمن كان قبله، وان نزلت به احدى المبهمات المعضلات هيأ لها حشوا من رأيه ثم قطع به فهو من لبس الشبهات فى مثل غزل العنكبوت لا يدرى أصاب ام أخطأ، لا يحسب العلم فى شيء مما أنكر، ولا يرى ان وراء ما بلغ فيه مذهبا، ان قاس شيئا بشيء لم يكذب نظره وان اظلم عليه امر اكتتم به لما يعلم من جهل نفسه لكيلا يقال له: لا يعلم، ثم جسر فقضى فهو مفتاح عشوات ركاب شبهات خباط جهالات، لا يعتذر مما لا يعلم فيسلم، ولا يعض فى العلم بضرس قاطع فيغنم، يذرى الروايات ذرو الريح الهشيم، تبكى منه المواريث وتصرخ منه الدماء، يستحل بقضائه الفرج الحرام، ويحرم بقضائه الفرج الحلال، لا مليء باصدار ما عليه ورد، ولا هو أهل لما منه فرط من ادعائه علم الحق. والاول من الرجلين اشارة الى من لم يدخل فى باب الهدى ولم يأخذ علمه من أهله الذين أمر الله العباد بالأخذ منهم، فصار حريصا على الصوم والصلاة فافتتن الناس بهم من حيث انهم رأوهم متعبدين فظنوا أنهم من خواص أهل الله فاقتدوا بهم، والثانى اشارة الى علمائهم الذين لم يدخلوا فى باب الولاية ولم يأخذوا علمهم من أهله بل جمعوه من الصحف وأخذوه من الرجال فهم جمعوا سواقط خيالات الناس ولذا استعمل فيه القمش الذى هو جمع القماش التى هى ما سقط على وجه الارض، وسمى سواقط خيالات الناس مما سموه مسائل علمية بالجهل فقال: قمش جهلا فى جهال الناس اى جمع ما سموه علما فى بين علماء الناس الذين سماهم أشباه الناس علما، فمعنى الآية على ما عرفت من معنى العلم وإطلاقاته، { ولقد علموا } اى أدركوا ادراكا يسمى فى عرف أهل الله بالجهل { لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون } حقيقتة لامتنعوا.
[2.103]
{ ولو أنهم آمنوا } ولو ان اليهود ومن يليهم من النواصب آمنوا بالايمان العام او بالايمان الخاص او أقروا وأذعنوا بالكتاب الذى نبذوه وراء ظهورهم وهو عطف على لمن اشتراه، او على سائر الجمل السابقة لكن عطفه على قوله { لمن اشتراه } أوفق بحسب أجزاء ما بعده { واتقوا } مخالفة من بايعوا معه او اتباع ما تتلو الشياطين { لمثوبة } لهم { من عند الله خير } ونكر المثوبة للاشعار بان ما يصدق عليه المثوبة أى شيء كان يسيرا او كثيرا خير ولم يأت بالجملة الفعلية للاشعار بأن لزوم المثوبة أمر مفروغ عنه والمحتاج الى البيان لزوم خيرية المثوبة لا نفس المثوبة، ولم يأت بالمفضل عليه لعدم الاعتداد به وليذهب ذهن السامع كل مذهب { لو كانوا يعلمون } لو للتمنى او للشرط.
[2.104-105]
{ ياأيها الذين آمنوا } بالايمان العام والبيعة العامة روى أنه ليس فى القرآن { ياأيها الذين آمنوا } الا وهى فى التوراة يا أيها المساكين { لا تقولوا راعنا } كانوا يقولون للنبى (ص): راعنا اى لاحظنا محسنا الينا، او استمع لمقالنا، وكان تلك الكلمة سبا فى لغة اليهود بمعنى اسمع لا سمعت كما فى الصافى فكان اليهود يتوسلون بتلك الكلمة الى شتم رسول الله (ص) فنهى الله المؤمنين عن تلك الكلمة { و } قال: { قولوا انظرنا } فانها ليست شتما فى لغتهم حتى يتوسلوا بها الى شتم الرسول (ص) { واسمعوا } اذ قال لكم رسول الله (ص) قولا وأطيعوا، او المعنى: واسمعوا نهيه لكم عن هذا القول، وأمرى لكم بهذا القول، { وللكافرين } يعنى اليهود الشاتمين { عذاب أليم ما يود الذين كفروا } ابتداء كلام لبيان مرام آخر ولذا قطعه عما قبله { من أهل الكتاب } اليهود والنصارى { ولا المشركين } ولا من المشركين الذين منهم النواصب والمنافقون بمحمد (ص) وعلى (ع) او منافقوا الامة داخلون فى اهل الكتاب { أن ينزل عليكم من خير من ربكم } من الآيات المزيدات فى شرف محمد (ص) وعلى (ع) وآلهما الطيبين (ع) او من نعمة من نعم الدنيا، او من غلبة وغنيمة من الخصم { والله يختص } يميز { برحمته } اى ولاية على (ع) فانها رحمته تعالى او نبوته او تصديق نبيه او ولايته وامامته { من يشآء } ودوا ذلك او كرهوا { والله ذو الفضل العظيم } على من يختصه برحمته.
[2.106]
بيان النسخ واقسامه
{ ما ننسخ من آية } النسخ لغة الازالة والتغيير والابطال واقامة شيء آخر مقام المبطل والمسخ، ونسخ الكتاب وانتسخه واستنسخه كتبه، وشرعا رفع حكم ثابت فى الشريعة بعد العمل به سواء كان الناسخ والمنسوخ من شريعتين أو من شريعة واحد، وسواء كان بالنسبة الى عامة الخلق او بالنسبة الى أشخاص مخصوصين، او بالنسبة الى شخص واحد بحسب أحواله المختلفة؛ والاول هو النسخ الكلى والثانى والثالث النسخ الجزئى والنسخ فى الكتاب هو النسخ الكلى والنسخ فى الاخبار الولوية نسخ جزئى بحسب الاشخاص، او بحسب أحوال شخص واحد، والنسخ فى الاخبار النبوية يجوز فيه الامران لان الكتاب الالهى مشرع كل الامة وأحكامه المنصوصة مشرع للكل، ومنسوخه منسوخ عن الكل وناسخه ناسخ للكل، وما يجرى فيه النسخ الجزئى من الآيات فهو لا يعد من الناسخ والمنسوخ بل يعد من المتشابهات، واما الاخبار الولوية فالنسخ المذكور فيها لا يجوز ان يكون نسخا بالنسبة الى كل الأمة والا لزم ان يكون الائمة مؤسسين للشريعة لا حافظين لشريعة محمد (ص) والحال أنهم حافظون للشريعة، والنسخ الجزئى عبارة عن رفع حكم عن شخص كان ذلك الحكم ثابتا له بأمر شرعى، او رفع حكم ثابت بالامر الشرعى من الحافظين للشريعة او من الشارع لشخص او لجمع عن شخص آخر او عن جماعة أخرى.
وفى الاخبار اشارات وتصريحات بذلك ونذكر شطرا منها لمزيد الاستبصار؛ فنقول: روى فى الكافى عن سليم بن قيس الهلالى انه قال، قلت لامير المؤمنين (ع): انى سمعت من سلمان والمقداد وأبى ذر رحمهم الله شيئا من تفسير القرآن وأحاديث عن نبى الله (ص) غير ما فى أيدى الناس ثم سمعت منك تصديق ما سمعت منهم ورأيت فى أيدى الناس أشياء كثيرة من تفسير القرآن وأحاديث عن نبى الله (ص) أنتم تخالفونهم فيها وتزعمون أن ذلك كله باطل أفترى الناس يكذبون على رسول الله (ص) متعمدين؟ ويفسرون القرآن بآرائهم؟ - قال: فاقبل على فقال: قد سألت فافهم الجواب؛ ان فى ايدى الناس حقا وباطلا وصدقا وكذبا وناسخا ومنسوخا وعاما وخاصا ومحكما ومتشابها وحفظا ووهما وقد كذب على رسول الله (ص) على عهده حتى قام خطيبا فقال:
" ايها الناس قد كثرت على الكذابة فمن كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار "
ثم كذب عليه من بعده وانما أتاكم الحديث من أربعة ليس لهم خامس؛ رجل منافق يظهر الايمان متصنع بالاسلام لا يتأثم ولا يتحرج ان يكذب على رسول الله (ص) متعمدا فلو علم الناس أنه منافق كذاب لم يقبلوا منه ولم يصدقوه ولكنهم قالوا: هذا قد صحب رسول الله (ص) وراءه وسمع منه؛ وأخذوا عنه وهم لا يعرفون حاله وقد أخبره الله عن المنافقين بما أخبرهم ووصفهم فقال تعالى:
وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم
[المنافقون: 4]، ثم بقوا بعده فتقربوا الى ائمة الضلالة والدعاة الى النار بالزور والكذب والبهتان فولوهم الأعمال وحملوهم على رقاب الناس وأكلوا بهم الدنيا وانما الناس مع الملوك والدنيا الا من عصم الله؛ فهذا أحد الاربعة، ورجل سمع من رسول الله (ص) شيئا لم يحفظه على وجهه ووهم فيه ولم يتعمد كذبا فهو فى يده يقول به ويعمل به ويرويه فيقول: أنا سمعته من رسول الله (ص) فلو علم المسلمون أنه وهم لم يقبلوه؛ ولو علم هو أنه وهم لرفضه، ورجل ثالث سمع من رسول الله (ص) شيئا أمر به ثم نهى عنه وهو لا يعلم؛ او سمعه ينهى عن شيء ثم أمر به وهو لا يعلم فحفظ منسوخه ولم يحفظ الناسخ؛ فلو علم أنه منسوخ لرفضه؛ ولو علم المسلمون اذ سمعوه منه أنه منسوخ لرفضوه، وآخر رابع لم يكذب على رسول الله (ص) مبغض للكذب خوفا من الله وتعظيما لرسول الله (ص) لم ينسه بل حفظ ما سمع على وجهه فجاء به كما سمع لم يزد فيه ولم ينقص منه، وعلم الناسخ من المنسوخ فعمل بالناسخ ورفض المنسوخ فان أمر النبى (ص) مثل القرآن ناسخ ومنسوخ، وخاص وعام، ومحكم ومتشابه، قد كان يكون من رسول الله (ص) الكلام له وجهان وكلام عام وكلام خاص مثل القرآن وقال الله تعالى فى كتابه:
ومآ آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا
[الحشر:7]؛ فيشتبه على من لم يعرف ولم يدر ما عنى الله به ورسوله ليس كل أصحاب رسول الله (ص) كان يسأله عن الشيء فيفهم وكان منهم من يسأله ولا يستفهمه حتى ان كانوا ليحبون ان يجيء الاعرابى والطارئ فيسأل رسول الله (ص) حتى يسمعوا وقد كنت أدخل على رسول الله (ص) كل يوم دخلة وكل ليلة دخلة فيخلينى فيها ادور معه حيث دار وقد علم أصحاب رسول الله (ص) انه لم يصنع ذلك بأحد من الناس غيرى فربما كان فى بيتى يأتينى رسول الله (ص) اكثر ذلك فى بيتى وكنت اذا دخلت عليه بعض منازله اخلانى وأقام عنى نساءه فلا يبقى عنده غيرى واذا اتانى للخلوة معى فى منزلى لم يقم عنى فاطمة (ع) ولا أحدا من بنى، وكنت اذا سألته (ص) أجابنى واذا سكت عنه وفنيت مسائلى ابتدأنى، فما نزلت على رسول الله (ص) آية من القرآن الا أقرأنيها وأملاها على فكتبتها بخطى وعلمنى تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها وخاصها وعامها ودعا الله ان يعطينى فهمها وحفظها فما نسيت آية من كتاب الله تعالى ولا علما أملاه على وكتبته منذ دعا الله لى بما دعا، وما ترك شيئا علمه الله من حلال ولا حرام ولا أمر ولا نهى كان او يكون ولا كتاب منزل على أحد قبله من طاعة او معصية الا علمنيه وحفظته فلم أنس حرفا واحدا ثم وضع (ص) يده (ص) على صدرى ودعا الله لى ان يملأ قلبى علما وفهما وحكما ونورا، فقلت: يا نبى الله بأبى انت وامى منذ دعوت الله لى بما دعوت لم أنس شيئا ولم يفتنى شيء لم اكتبه أفتخوف على النسيان فيما بعد؟ - فقال:
" لا لست أتخوف عليك النسيان والجهل ".
وقد دل هذا الخبر على ان فى أخبار الرسول (ص) مثل القرآن ناسخا ومنسوخا وعاما وخاصا ومحكما ومتشابها وقل من يعرف الناسخ والمنسوخ والعام من الخاص وموارد ورود الخاص والمحكم من المتشابه وتأويل المتشابه، وموارد تعلق الناسخ وموارد ارتفاع المنسوخ، وليس الا من كان له بصيرة بمراتب الرجال واختلاف أحوالهم واقتضاء أحوالهم الاحكام اللائقة بها، وفى الاخبار الدالة على تفويض أمر العباد الى رسول الله (ص) ثم اليهم اشعار بأنهم ينظرون الى أحوال العباد فيأمرونهم بحسب أحوالهم، وفى نسبة ايقاع الخلاف بين أتباعهم الى أنفسهم دلالة على ذلك وقال محمد بن مسلم: قلت لأبى عبد الله (ع): ما بال أقوام يروون عن فلان وفلان عن رسول الله (ص) لا يتهمون بالكذب فيجيئنى منكم خلافه؟ - فقال (ع) ان الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن. وقال منصور بن حازم قلت لأبى عبد الله (ع): ما بالى أسألك عن مسئلة فتجيبنى فيها بالجواب ثم يجيئك غيرى فتجيبه فيها بجواب آخر؟ - فقال: انا نجيب الناس على الزيادة والنقصان، قال قلت: فأخبرنى عن أصحاب رسول الله (ص) صدقوا على محمد (ص) ام كذبوا؟ - قال: بل صدقوا، قلت: فما بالهم اختلفوا؟ - قال: اما تعلم ان الرجل كان يأتى رسول الله (ص) فيسأله عن المسئلة فيجيبه فيها بالجواب ثم يجيئه بعد ذلك ما ينسخ ذلك الجواب فنسخت الأحاديث بعضها بعضا. وعن أبى عبد الله (ع) انه قال: ان الله رفيق يحب الرفق فمن رفقه بعباده تسليله أضغانهم ومضادتهم لهواهم وقلوبهم، ومن رفقه بهم انه يدعهم على الامر يريد ازالتهم عنه رفقا بهم لكى يلقى عليهم عرى الايمان ومثاقلته جملة واحدة فيضعفوا فاذا اراد ذلك نسخ الامر بالآخر فصار منسوخا. وعن زرارة؛ أنه قال سألت أبا جعفر (ع) عن مسئلة فأجابنى ثم جاء رجل فسئله عنها فأجابه بخلاف ما أجابنى ثم جاء آخر فأجابه بخلاف ما أجابنى وأجاب صاحبى، فلما خرج الرجلان قلت: يابن رسول الله (ص) رجلان من اهل العراق من شيعتكم قدما يسألان فأجبت كل واحد بغير ما أجبت به صاحبه؟! فقال: يا زرارة، ان هذا خير لنا ولكم ولو اجتمعتم على أمر واحد لصدقكم الناس علينا وكان اقل لبقائنا وبقائكم.
وعن أبى جعفر (ع) ان المؤمنين على منازل منهم على واحدة، ومنهم على اثنتين؛ وقال هكذا الى سبع، فلو ذهبت تحمل على صاحب الواحدة اثنتين لم يقو؛ وهكذا الى السبع. وفى بعض الأخبار عبر عن المراتب بعشر وعبر فى خبر بتسعة وأربعين جزء كل جزء عشرة أجزاء، وكل هذه يدل على اختلاف الاحكام باختلاف الاشخاص وأنهم يأمرون وينهون على حسب أحوال الناس، او على حسب أحوال شخص واحد لانهم أطباء النفوس والطبيب يراعى أمراض المرضى وأحوالهم، وبحسب أمراضهم وأحوالهم يجيب مسائلهم ويدبر غذاءهم ودواءهم. وقوله تعالى:
قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني
[يوسف:108] يدل على ذلك فان معنى البصيرة الرؤية الباطنة والرؤية الباطنة مرئيها أحوال المدعو والدعوة اللائقة بحاله والمدعو اليه، والطريق الذى يكون السلوك عليه. والآية فعلة بالسكون او بالتحريك او هى مخففة فاعلة بمعنى العلامة جمعها آيات وآى وآياء وزن أفعال، وتطلق على آيات الكتاب التدوينى فانها علاماته تعالى وعلامات رسالة رسوله، وعلى أحكام الرسالة والنبوة فانها ايضا علاماته وعلامات الرسالة والرسول، وعلى آيات الآفاق والانفس فانها أيضا علاماته تعالى وخصوصا الآيات العظمى فانها علاماته التى تحاكى تمام أسمائه وصفاته تعالى ولا اختصاص للنسخ بالآيات التدوينية والاخبار النبوية والولاية فانه كما يجرى فى تلك بمعنى رفع الحكم المستفاد منها يجرى فى آيات الآفاق بمعنى رفعها وازالتها او تغييرها لكن النسخ لا يجرى الا فى الآيات النازلة الى عالم الطبع سواء فيه تدوينياتها وتكوينياتها فانها آيات متشابهات يجرى فيها النسخ لا الآيات العلوية فانها محكمات هن أم الكتاب وقوله تعالى { أو ننسها } من باب الافعال وقرء ننسخ من باب الافعال وننسها بفتح النون والسين والانساء عبارة عن محوها عن القلوب مع بقائها فى الواقع او محو آثارها عن القلوب مع بقائها او بقاء حكمها فى الواقع { نأت بخير منها أو مثلها } لا اشكال فى اتيانه تعالى بخير منها او مثلها فى الآيات التدوينية وأحكام الرسالة والآيات الصغرى الآفاقية وأما الآيات العظمى فان الاتيان بالخير او المثل لا يتصور فى الانبياء بطريق الكلية فانه كان بمضمون تلك الرسل
فضلنا بعضهم على بعض
[البقرة: 253] اكثر الاخلاف أدنى مرتبة من الاسلاف فان كل من يأتى بعد اولى العزم لم يكن فى مرتبتهم لكن نقول خيرية الآيات انما هى بالاضافة الى من تكون آيات لهم ولا شك فى اختلاف الازمان وأهلها وان بعضهم أقوياء يقدرون على قبول الأحكام من نبى اقوى وبعضهم ضعفاء لا يقدرون على قبول الاحكام الا من نبى أضعف فخيرية نبى فى نفسه لا ينافى عدم خيريته بالاضافة الى أمة نبى آخر؛ ونعم ما قال المولوى قدس سره:
بس بهر دورى وليى قائم است
تا قيامت آزمايش دائم است
او جو نوراست و خرد جبريل او
آن ولى كم از او قنديل او
وآنكه زين قنديل كم مشكوة ماست
نور را در مرتبت ترتيبهاست
زانكه هفصد برده دارد نور حق
برده هاى نور دان جندين طبق
از بس هر برده قومى را مقام
صف صفند اين برده هاشان تاامام
اهل صف آخرين از ضعف خويش
جشمشان طاقت ندارد نور بيش
وان صف بيش از ضعيفى بصر
تاب نارد روشنائى بيشتر
وفى تفسير الامام عليه السلام اشارة الى ما ذكرنا { ألم تعلم } يا محمد (ص)، او يا منكر النسخ ومستغربه من الله، او المراد كل من يتأتى منه الخطاب { أن الله على كل شيء قدير } وسبب نزول الآية كما فى الاخبار ان الرسول (ص) كان يتوجه الى بيت المقدس فى صلاته مدة اقامته بمكة ثلاث عشر سنة وبعد هجرته الى المدينة الى سبعة عشر شهرا وجعل قوم من مردة اليهود يعيرونه باستقبال بيت المقدس فاشتد ذلك عليه (ص) وكره قبلتهم فصعد جبرئيل (ع) بعد اخباره اياه بذلك ثم عاد فقال اقرأ: { قد نرى تقلب وجهك في السمآء } (الآيات) فقالت اليهود: { ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها } فأجاب تعالى بقوله: { قل لله المشرق والمغرب } فعيروه بأنه ان كان الاولى حقة فالثانية باطلة، وان كان الثانية حقة فالاولى كانت باطلة، فنزلت هذه الآية يعنى ان الله يقدر على نسخ حكم والاتيان بحكم آخر يكون أصلح لكم وانفع بحالكم.
[2.107]
{ ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض } فيتصرف فيهما على ما اقتضته حكمته { وما لكم من دون الله } بنفسه بحسب نفس الأمر وبتوسط خلفائه بحسب ظاهر الأمر او من دون ذاته بحسب التكوين ومن دون خلفائه بحسب التكليف، او من دون الله فى مظاهره العالية والدانية تكوينا وتكليفا { من ولي ولا نصير }.
تحقيق الولى والنصير
اعلم ان الانسان خلق محتاجا فى بقائه واستكماله فى ذاته وصفاته ومعرضا لما يفنى ذاته وكمالاته الحاصلة ولما يمنعه عن الوصول الى كمالاته المترقبة له فاحتاج الى ما يجذب اليه ما يحتاج اليه فى بقائه واستكماله، والى ما يدفع عنه ما يفنيه ويمنعه عن كماله وكانت سنة الله ان يجرى الاشياء بالاسباب فخلق تعالى فيه قوة شوقية خادمة للشهوية والغضبية الخادمتين للمدركة المنشعبة الى قوى عديدة باعثة على الحركة مستخدمة للقوة المحركة المودعة فى الاعصاب المستخدمة للاعصاب والرباطات وبتوسطها للاعضاء فتجذب بسبب الاعضاء وحكم القوة الشهوية ما يلائمة وتدفع بسبب الاعضاء والقوة الغضبية ما يضره؛ هذا بحسب مقام جسمه، وأما بحسب مقام روحه فله ما ينفعه وما يضره واصل النافعات الملك الزاجر الموكل عليه من الله، واصل الضارات الشيطان المغوى الموكل عليه فجعل الله تعالى له حكمة نظرية يبصر بها ببصيرته تصرف الملك وزجره، وتصرف الشيطان واغوائه، وحكمة عملية تخدم القوتين اللتين بهما الحب فى الله والبغض فى الله بازاء الشهوية والغضبية وهما تخدمان الحكمة النظرية، ولما جعل العالم الصغير نسخة موجزة عن الكبير وحاكية عما فى الكبير والتكليف مطابقا للتكوين كان فى الكبير لا محالة قوة جاذبة لنافع الانسان وقوة رادعة لضاره سواء كانت تلك القوتان فى شخص واحد او فى شخصين، والولى هو الذى يكون مربيا بجذب ما ينفع المولى عليه فى بقاء ذاته وحصول كمالاته، والنصير هو الذى يكون دافعا عنه ما يضره وبوجه آخر الولى من يكون داخلا فى ملكه، والنصير من يكون خارجا حاميا، والقوة الشهوية والقوة المورثة للحب فى الله فى الداخل كالولى فى الخارج، والقوة الغضبية والقوة الموجبة للبغض فى الله كالنصير، وكل رسول بولايته ولى لأمته وبرسالته نصير؛ وهكذا كان حال الاوصياء فانهم كانوا بولايتهم اولياء وبخلافتهم أنصارا وكل رسول فى زمانه كان وليا وخليفته نصيرا فان الرسول (ص) فى زمانه مرب وخليفته حام فمحمد (ص) فى حياته كان اماما ناطقا بشيرا وليا هاديا مربيا رحيما، وعلى (ع) اماما صامتا منذرا نصيرا حاميا قتالا؛ ولذا قال (ص):
" أنا وعلى أبوا هذه الامة، وقوله (ص): أنا المنذر وعلى الهاد "
؛ اشارة الى حيثية رسالته وولاية على (ع)؛ انما انت منذر باعتبار شأن الرسالة، ولكل قوم هاد: باعتبار شأن الولاية، ولاقتضاء تعدد العنوان تعدد المظهر كانت الدعوة فى الاغلب بتظاهر نفسين احداهما مظهر عنوان الولى والاخرى مظهر عنوان النصير.
[2.108]
{ أم تريدون } ام معادلة لهمزة { ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير } ، و { ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض }؛ تأكيد له او بدل عنه بدلا تفصيليا والاتيان بخطاب الجمع فى قوله { وما لكم } و { تريدون } يدل على ان الخطاب فى الم تعلم لمحمد (ص) والمقصود هو وامته اختص بالخطاب لكونه أشرف وأصلا، او الخطاب لغير معين حتى يفيد العموم البدلى ويوافق المعاد لان فى المسند اليه والمعنى الم تعلموا أن الله على كل شيء قدير الم تعلموا ان الله مالك الكل والمالك يتصرف فى ملكه كيف يشاء، ام تعلمون ذلك وتريدون { أن تسألوا رسولكم } وتحاجوه عالمين عامدين { كما سئل موسى من قبل } فأخذت السائلين الصاعقة فأهلكوا وفيه تهديد لهم بمثل العقوبة التى عوقبت بها أصحاب موسى (ع) حيث قالوا:
لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة
[البقرة: 55] { ومن يتبدل الكفر بالإيمان } بعد العلم الذى من شأنه ان يكون صاحبه مقرا مؤمنا او بعد جواب الرسول له ان ما سأله لا يصلح اقتراحه، او بعد ما أظهره الله له ما اقترح، او بعد ما شاهد آيات الرسول والجملة حال او عطف على جملة ما ننسخ من آية { فقد ضل سوآء السبيل } يعنى ان الآخذ للكفر بعد ما ذكر كأنه كان على السبيل المستوى وضل عنه ولذا استعمل التبدل الذى يشعر بأنه كان على الايمان او مشرفا على الايمان فتركه وأخذ الكفر.
[2.109]
{ ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا } بالقاء الشبهات وتحريف الكلمات وتعيير الضعفاء وتثريب المعجزات.
اعلم انه كل من اختار سيرة حقة او باطلة يود أن يكون الناس كلهم على سيرته وهذا أمر مفطور عليه للانسان بل لكل شيء من الملائكة والجنة والشياطين والعناصر والمواليد فان كان الانسان واقفا فى جهنام النفس والحسد من جنودها ولا ينفك عنها كان حسده ايضا باعثا عليه، وان كان من أرباب القلوب كان رحمته باعثة عليه أيضا ولذا أضاف اليه قوله تعالى { حسدا } مفعول له او حال { من عند أنفسهم } يعنى ودوا ذلك من حسدهم ومن اقتضاء فطرتهم على ان يكون الظرف متعلقا بقوله تعالى { ود } ، او المعنى ودوا من حسد حاصل لهم من أنفسهم الخبيثة من دون سبب آخر على ان يكون ظرفا مستقرا صفة لحسدا { من بعد ما تبين لهم الحق } بالدلائل المعلومة لهم من كتبهم وأخبارهم وبالمعجزات المشهودة لهم من محمد (ص) { فاعفوا واصفحوا } الفاء سببية كأنه قال: هذه الفعلة صارت سببا للامر بالعفو والصفح فكأنه جزاء او هو جزاء حقيقة لشرط مقدر تقديره هكذا: ان فعلوا ذلك فاعفوا، والعفو ترك الانتقام من الجانى، والصفح تطهير القلب من حقده، وكأنهما كالفقراء والمساكين؛ اذا افترقا يجوز ان يراد بكل مجموع المعنيين، واذا اجتمعا يراد بكل معناه المذكور، والمقصود الأمر بترك مقابلة حسدهم وتثريبهم بالحسد والتثريب وتطهير القلب من الحقد عليهم، فان مقابلة الجهال بمثل جهلهم يستلزم تنزل الانسان الى مقامهم وصيرورته مثلهم وازدياد جهلهم وعنادهم، واللبييب لا يرضى التماثل معهم ولا ازدياد الجهل والعناد من العباد، والحقد على الكافر والمؤمن يمنع القلب عن التوجه الى امور الآخرة ويذهب براحة القلب ويأكل ما اكتسبه من الخيرات ويمنع عن النصح المطلوب من كل أحد والترحم المأمور به، ويوجب الاضلال المنهى عنه على ان تثريب العباد والحقد عليهم يرجع الى تثريب صنع الله، وتثريب الصنع تثريب للصانع { حتى يأتي الله بأمره } فيهم بالقتل يوم فتح مكة كما فى تفسير الامام، او بالهداية لهم، او بضرب الجزية عليهم، او بالقتل والأسر والاجلاء فيهم { إن الله على كل شيء قدير } فيقدر على ذلك كله.
[2.110]
{ وأقيموا الصلاة } يعنى بعد ما سلم مدارككم وجوارحكم عن المعارضة وقلوبكم عن الحقد يتأتى لكم اقامة الصلاة فأقيموها، او المقصود وأقيموا الصلاة حتى يتأتى لكم العفو والصفح { وآتوا الزكاة } قد مضى فى اول السورة بيان اقامة الصلاة وايتاء الزكاة { وما تقدموا لأنفسكم من خير } عطف باعتبار المعنى كأنه قال: وقدموا لانفسكم اذ المقصود من مثله التعريض بالأمر والايجاب على المخاطب والمراد بالخير اما الاحسان الى المسيئين كأنه قال: فاعفوا واصفحوا وأحسنوا، او المراد منه كل فعل حسن فيكون ذكرا للعام بعد الخاص ويكون، الاحسان المطلوب بعد مقام الصفح مشارا اليه بذكر اقامة الصلاة وايتاء الزكاة فان الاحسان لا يكون الا بكسر سورة انانية النفس والتسليم الخالص لأمر الله وليسا الا الزكاة والصلاة { تجدوه عند الله } مدخرا لكم بنفسه على تجسم الأعمال او بحقيقته او جزائه { إن الله بما تعملون بصير } فلا يشذ عنه شيء لا يدخر عنده.
[2.111]
{ وقالوا } اى اهل الكتاب من اليهود والنصارى وهو عطف على ود { لن يدخل الجنة إلا من كان هودا } اسم جمع بمعنى اليهود ابتداء، او كان فى الاصل جمعا لهائد بمعنى التائب، او بمعنى الراجع الى الحق، او بمعنى الداخل فى اليهودية، على ان يكون من المشتقات الجعلية كالتهويد والتهود كعوذ جمع عائذ من دون تغيير، او كان اصله هوود بواوين ثم خفف فصار هودا { أو نصارى } لفظة او للتفصيل اى كان قولهم هذا وذاك وقد مضى وجه تسمية النصارى { تلك أمانيهم } المشار اليه مجموع ما سبق من عدم ودادهم نزول خير على المؤمنين، وودادهم ارتدادهم عن الايمان، وادعائهم ان الجنة ليست الا لأهل ملتهم، والامانى جمع الامنية مغير الامنوية كالاضحوكة بمعنى التمنى وترقب حصول امر من دون تهيؤ أسبابه وادعائه من دون حجة ولذا قال: يا محمد (ص) { قل } لهم ان لم يكن مدعاكم محض تمنى النفس فاثبتوه بالحجة { هاتوا برهانكم } على دعواكم { إن كنتم صادقين } فى دعواكم.
[2.112]
{ بلى } اثبات لما نفوه بقولهم: لن يدخل الجنة الا من كان هودا او نصارى { من أسلم } اخلص { وجهه } الوجه العضو المخصوص وما يتوجه الشيء به ونفس الشيء والمعنى من أخلص جهة توجهه او ذاته { لله وهو محسن } فى أفعاله او محسن الى خلقه { فله أجره } اللائق به الذى لا يمكن تعيينه الا بالاضافة اليه { عند ربه } كأنه للاهتمام به لم يكل أجره الى غيره { ولا خوف عليهم } جمع الضمير مع الافراد فى الضمائر السابقة باعتبار لفظ من ومعناه { ولا هم يحزنون } قد مضى بيان هذه الآية فى اول السورة.
[2.113]
{ وقالت اليهود } عطف على قالوا، او على ما عطف هو عليه وهو اظهار لدعوى باطلة أخرى لهم من غير حجة تفضيحا لهم بغرورهم وحمقهم وان ما قالوا فى انكار رسالة رسول الله (ص) من هذا القبيل ولا يقولون قولا عن حجة { ليست النصارى على شيء } من الدين { وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب } يعنى قالوا ذلك والحال أنهم علماء تابعون للشرائع او علماء قارؤن الكتب الالهية والعالم لا يبرز دعوى بلا حجة وفى الكتب الالهية تأديبات وتعليمات لكيفية اظهار الدعوى فالعاقل العالم القارئ للكتاب التابع للشرائع لا يظهر دعوى بلا حجة وليس المقصود تكذيبهم فى اصل ادعائهم بل كلا الفريقين مصدقان فى اصل الدعوى بعد نسخ أديانهما بدين محمد (ص)، او المقصود تكذيبهم فى اصل الدعوى وتثريبهم فى طريق اظهاره فان كلا بانكار كون صاحبه على دين حق ينكر كون نبى صاحبه ودينه وشريعته وكتابه على الحق وهذا دعوى باطلة فى نفسها باطلة من حيث عدم الاتيان بالبرهان عليها، ولما كان عامة الناس بل عامة الحيوان ديدنهم ان ينكروا ما وراء معتادهم وما وراء ما رأوه من آبائهم، ويحسبوا ان الحق هو ما اعتادوه من غير حجة عليه سوى قولهم انا وجدنا آباءنا على امة قال تعالى: { كذلك } اى مثل قولهم { قال الذين لا يعلمون } اى لا يكون لهم علم { مثل قولهم } فهو تأكيد لقوله تعالى { كذلك } والمقصود تفضيح آخر لهم بان تشبهوا بالجهال يعنى ان اتباعهم للشرائع وقراءتهم للكتب لم يكن يورثهم علما بل كان ذلك ايضا محض التقليد والاعتياد والا فما قالوا شيئا يشبه قول الجهال وكأن الامة المرحومة أخذوا هذه الشيمة من اليهود والنصارى فأخذ كل فى انكار صاحبه من غير سلطان كبر مقتا عند الله ان يقولوا ما لا يعلمون لكن بما كان كل حزب بما لديهم فرحين لا يتركون انكار ما لا يعلمون { فالله يحكم بينهم } بين الجماعتين او بين المختلفين من اليهود والنصارى والذين يحذو حذوهم فى هذا القول { يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } من غير حجة وعلم. وذكر فى نزول الآية انها نزلت فى طائفتين من اليهود والنصارى جاؤا الى رسول الله (ص) وعرضوا عليه هذين القولين وقالوا يا محمد اقض بيننا.
[2.114-115]
{ ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه } عطف على جملة كذلك قال الذين لا يعلمون فانها تشعر بأنهم يمنعون عباد الله عن الاسلام وعن مساجدهم الصورية وعن مساجدهم الحقيقية الذين هم الرسول وخلفاؤه، { ومن أظلم } استفهام انكارى فى معنى النفى فكأنه قال كذلك يمنع الذين لا يعلمون مساجد الله ولا اظلم ممن منع مساجد الله، ومنع ضد أعطى وهو يتعدى الى المفعولين بنفسه، والى الاول بمن والى الثانى بنفسه، والى الاول بنفسه والى الثانى بعن او بمن، ومساجد الله هاهنا مفعول اول وان يذكر مفعول ثان او مساجد الله مفعول ثان وان يذكر بدل منه بدل الاشتمال والمفعول الاول محذوف والتقدير: من اظلم ممن منع الناس عن مساجد الله عن الذكر فيها.
تحقيق الظلم
والظلم وضع الشيء فى غير ما وضع له ومنعه عما وضع له ولذا فسر باعطاء الحق لغير المستحق ومنع الحق من المستحق وهو ينشأ من ظلمة النفس وعدم استنارتها بنور العقل، ولذا اشتق اسمه منها، لان من أظلم نفسه ولم يستضيى بضياء العقل ولم يكن تابعا لولى الامر لا يتميز الحق والمستحق عنده، ومن لم يميز الحق والمستحق لا يمكنه اعطاء الحق للمستحق ويعطى الحق لغير المستحق ويمنع المستحق عن الحق فى عالمه الصغير فان لكل من قواه ومداركه واعضائه حقا ولكل واحد منها مستحقا هو حق له وينبغى اعطاءه لذلك المستحق وهو العقل المنقاد لولى الامر، واذا صار ظالما فى عالمه الصغير صار ظالما فى العالم الكبير بالنسبة الى من تحت يده والى غيرهم ولا أقل من الظلم الذى هو منع نفسه عن المستحق الذى هو ولى أمره ويتدرج فى هذا الظلم حتى ينتهى امره الى منع المستحق الذى هو غاية الغايات الذى هو ولى الامر نبيا كان ام وصيا عن الحق الذى هو غاية الحقوق ونهاية العبادات وهو ذكر اسم الله تعالى عنده وفيه وله كما قال تعالى:
ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون
[الروم:10] واما التابع لولى الامر فانه اذا كان آخذا من ولى أمره عاملا بأمره تاركا لما نهى عنه كان عادلا بعد له مستنيرا بنوره وان لم يكن مستنيرا بنفسه.
تحقيق المسجد
والمساجد جمع المسجد بكسر الجيم وقد يفتح وهو محل السجود وهو غاية الخضوع فتمام الارض مسجد بهذا المعنى لأن جملة ما فيها ليس لها الا التذلل فجملة وجه الارض محل لتذلل ما فيها وقال النبى (ص): جعلت لى الارض مسجدا وطهورا لشهوده (ص) سجود الكل فى كل الارض وبهذا المعنى صارت الصدور المنشرحة بنور الاسلام والقلوب المستنيرة بنور الايمان مساجد حقيقية لسجود كل ما فيهما وتذللها حقيقة، وامتياز لمساجد الصورية من بين بقاع الارض باسم المسجد واسم بيت الله ليس بهذا المعنى ولا لخصوص البقعة ولا لخصوص اللبنة والطين والجص وسائر آلات البناء، ولا لخصوص البناء والعملة والا لشاركها فى هذا الاسم كلما شاركها فى هذه بل الامتياز بنية الواقف لان الواقف اذا كان نيته صحيحة خالصة لوجه الله غير مشوبة بأغراض النفس صار صدره منشرحا وقلبه مستنيرا وصارا مسجدين لله وبتوجهه الى تلك البقعة تصير البقعة مستنيرة وتمتاز بالمسجدية وبكونها بيت الله، فاذا صار الانسان متمكنا فى ذلك الانشراح والاستنارة صار مسجدا وبيتا لله على الاطلاق، وان لم يكن متمكنا فيهما كان مسجدا وبيتا لله وقت الاتصاف بهما، وكلما ازداد واشتد الاتصاف به ازداد واشتدت المسجدية والبيتية لله، وكلما اشتد مسجديته لله اشتد مسجدية ما بناه لله؛ واليه أشار المولوى قدس سره بقوله:
آن بناى انبيا بى حرص بود
لا جرم بيوسته رونقها فزود
اى بسا مسجد برآورده كرام
ليك نبود مسجد أقصاش نام
كعبه راكه هرزمان عز ميفزود
آن ز اخلاصات ابراهيم بود
فالمساجد حقيقة والبيوت التى أذن الله ان ترفع هى الصدور والقلوب المنشرحة المستنيرة وبعدها صاحب تلك الصدور والقلوب، واما المساجد الصورية فهى مساجد حقيقة باعتبار المعنى الاول الذى به تكون جملة بقاع الارض مساجد لكن امتيازها عن سائر بقاع الارض باسم المسجدية فليس الا بتوجه المساجد الحقيقية التى هم الواقفون لها ولذلك فسروا المساجد والبيوت التى اذن الله ان ترفع فى أخبار كثيرة بأنفسهم، ونعم ما قال المولوى قدس سره مشيرا الى الانبياء والاولياء (ع).
كرنه بيدايند بيش نيك و بد
جيست باايشان خسان رااين حسد
بر دراين خانه كستاخى زجيست
كرهمى دانند كاندرخانه كيست
ابلهان تعظيم مسجد ميكنند
در جفاى اهل دل جد ميكنند
آن مجازاست اين حقيقت اى خران
نيست مسجد جز درون سروران
مسجدى كو اندرون او لياست
سجده كاه جمله است آنجا خداست
وعلى هذا اذا كان الداعى على البناء الاغراض الشيطانية لم يكن البناء مسجدا وان سمى بالمواضعة مسجدا، والبانى الغير المستنير بنفسه والغير المنقاد لولى امره قلما ينفك عن الاغراض فانه اذا بالغ فى الاجتهاد جعل قرب نفسه لله تعالى غاية لبناءه وداعيا عليه وصحة مثله فى غاية الاشكال، واما ما قالوه فى صحة الوقف من التقرب الى الله وعدم الانتفاع به فالمقصود ان يكون قرب البانى واقتضاء قربه الاشتداد فى القرب داعيا لا ان النفس ارادت الاجرة عليه وجعلت القرب أجرته فانه نحو انتفاع للنفس بالوقف، واما الاغراض الأخر كالصيت والمراءاة والتمدح وغيرها من الاغراض فتجعل البناء بيتا للشيطان، واذا كان الانسان له قرب وقربه يقتضى ذلك لكنه لم يمت النفس ويشاركه النفس فى اغراضه كان البناء مسجدا وبيتا لله بمشاركة الشيطان، واذا أراد البانى اختبار نفسه فلينظر هل ترضى باعطاء ثمن البقعة وأجرة بنائها لرجل غير معروف وبان يأمره ان يبنى المسجد من غير اطلاع أحد على ذلك فان ترض وتسر بذلك فالبناء لله والا فللنفس او بمشاركتها { وسعى في خرابهآ } اى خراب سقولها وجدرانها او منع أهلها عن الرجوع اليها وخرابها بتعطيلها عن ذكر الله وإقام الصلاة ونزول الآية فى مشركى مكة ومنع المسلمين بعد هجرة النبى (ص) عن دخول مساجدهم، وتخريب مساجدهم لا ينافى عمومها وعموم المساجد والمانعين والممنوعين وعموم تخريبها { أولئك } المحضرون بالاوصاف المذمومة الاذلون { ما كان } ينبغى { لهم أن يدخلوهآ إلا خآئفين } خاشعين متذللين او خائفين من المؤمنين فضلا عن ان يجترؤا على تخريبها او منع المؤمنين عنها او ما كان فى علم الله ان يدخلوها بعد الا خائفين؛ وحينئذ يكون وعدا للمؤمنين بغلبتهم واخافتهم المشركين كما فعل بهم يوم فتح مكة وسيقع ذلك حين ظهور القائم عجل الله فرجه { لهم في الدنيا خزي } قتل ونهب وأسر واجلاء وجزية { ولهم في الآخرة عذاب عظيم ولله المشرق والمغرب } عطف على قوله { ومن أظلم } باعتبار المعنى فان المقصود افادة ان المشركين او مطلق الكفار منعوا مساجد الله فكأنه قال هم منعوا مساجد الله وما هم بضارين بذلك المؤمنين فان لله المشرق والمغرب اى وجه الارض كلها { فأينما تولوا } ايها المؤمنون اى فى اى بقعة من بقاع الارض تولوا اليه { فثم وجه الله } لا اختصاص له ببقعة دون بقعة والوجه كما مضى ما به ظهور الشيء وما به توجهه واستقباله وذات الشيء.
اعلم ان الحق الأول تعالى بحسب مقام ذاته الغيبية غيب مطلق ومجهول مطلق لا اسم له ولا رسم ولا خبر عنه ولا اثر لكنه بحسب مقام ظهوره وفعله لا خبر عن شيء الا وهو خبر عنه، ولا اسم ولا رسم لشيء الا وهو اسم ورسم له، ولا ظهور لشيء الا وهو ظهوره فهو بفعله محيط بكل الاشياء كما قال تعالى:وهو
بكل شيء محيط
[فصلت: 54] وهو معكم و
هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم
[الحديد: 3] وكما قال (ع): داخل فى الاشياء لا كدخول شيء فى شيء بل كدخول المقوم فى المتقوم فلا اختصاص لبقعة دون بقعة بالعبادة والتوجه الى المعبود فى نفسها لكن قد يعرض لبعض امتياز عن الاخرى بامور خارجة مثل توجه كامل الى بعض دون بعض او موطنه او تولده او تعميره او دفنه ومثل نية صادقة تبرزها وتميزها للعبادة فان بيت المقدس امتاز واختص بالعبادة وبالتوجه اليه فى العبادة بكل هذه الوجوه؛ وهكذا مكة، واختصاص المساجد انما هو بالنية الصادقة { إن الله واسع } لا يخلو منه مكان ومقام شيء وفيء كما عرفت { عليم } فيعلم منكم ما تفعلونه كيف تفعلونه وفى اى مكان تفعلونه فعليكم بتصحيح الأعمال لا تعيين المحل والجهة لها وفى الاخبار انها نزلت فى الصلاة النافلة تصليها حيث توجهت واما الفرائض فنزل فيها قوله تعالى { وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } وسئل الصادق (ع) عن رجل يقوم فى الصلاة ثم ينظر بعد ما فرغ فيرى انه قد انحرف عن القبلة يمينا وشمالا فقال: قد مضت صلاته وما بين المشرق والمغرب قبلة، ونزلت هذه الآية فى قبلة المتحير: { ولله المشرق والمغرب }؛ الآية.
وفى حديث الجاثليق الذى سأل عن وجه الرب انه دعا على (ع) بنار وحطب فأضرمه فلما اشتعلت قال على (ع): اين وجه هذه النار؟ - قال النصرانى: هى وجه من جميع حدودها، قال على (ع): هذه النار مدبرة مصنوعة لا يعرف وجهها وخالقها لا يشبهها، { ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله } لا تخفى على ربنا خافية وعلى هذا الوجه فمعنى الآية الى اى جهة توجهتم فثم وجه الله.
[2.116]
{ وقالوا } اليهود والنصارى والمشركون { اتخذ الله ولدا } حين قالوا: عزير ابن الله، والمسيح ابن الله، والملائكة بنات الله، وهو عطف على أقوالهم السابقة واظهار لحمق آخر لهم { سبحانه } مصدر سبح كمنع بمعنى تنزه يعنى تنزه عن نسبة الولد والنقائص اللازمة منها من الحاجة والتحديد والاثنينية تنزها { بل له } من حيث انه مصدر الكل ومنتهاه ومالكه { ما في السماوات والأرض } اى السماوات والارض وما فيهما فلا يكون شيء فيهما ولدا له وعلى تعميم السماوات لسماوات الارواح والاراضى لجملة عالم الطبع فلا يكون مما سوى الله ولد له فان الولد نسبته الى الوالد ليست نسبة المملوكية { كل له قانتون } القنوت الدعاء والطاعة والتواضع وهذه شأن العبيد لا الاولاد الذين اذا بلغوا كانوا مماثلين مجانسين للوالد.
[2.117]
{ بديع السماوات والأرض } منشئهما من غير مثال سبق ولا مادة ولا زمان ولا آلة ولا أسباب، بدع كمنع وأبدع وابتدع خلق من غير مثال وتهيئة اسباب و { وإذا قضى أمرا } عطف على جملة سبحانه، او له ما فى السماوات او كل له قانتون او بديع السماوات والمعنى بل هو اذا قضى امرا { فإنما يقول له كن فيكون } وليس شأنه شأن الناقصين فى التوالد المحتاجين الى زوج وحركات وانفصال مادة وانقضاء مدة، ولا شأن الناقصين فى الافعال المحتاجين الى مثال ومادة ومدة وآلات واسباب فى فعلهم وهذه العبارة كثيرة الورود فى الكتاب والسنة ووردت بلفظ الارادة والمشيئة والقضاء والمقصود واحد لان كل هذه من مقدمات الفعل فانه لا يكون شيء الا بعلم المشيئة وارادة وقدر وقضاء وامضاء وقد ينحل الامضاء الى الاذن والكتاب والاجل وقد يؤدى بلفظ الامضاء الذى هو اجمال هذه الثلاثة ولما كان العلم الذى قبل المشيئة من صفات ذاته تعالى وعين ذاته ولم يعد الفاعل من مقدمات الفعل بل المقدمات هى التى تحتاج الفعل اليها حين ايجاد الفاعل له لم يعد العلم فى الاخبار من مقدمات الافعال وليست هذه فى الحق الاول تعالى كالاناسى تحدث بعد ما لم تكن وتفنى بعد ما تحدث فان مشيئة تعالى وكذا ارادته وقدره وقضاءه وامضاءه ازلية ابدية وانما الحدوث من قبل الحادثات لان هذه بالنسبة الى الله كالاشعة بالنسبة الى الشمس واذا فرضت الشمس فى وسط السماء ثابتة وفرضت الاشعة ايضا دائمة بدوامها وكانت السطوح متدرجة فى المقابلة للاشعة كان الحدوث لاستضاءة السطوح بالاشعة لا للاشعة فان الله اذا شاء واراد وقدر وقضى شيئا { فإنما يقول } وقوله اذنه: { كن }؛ وكلمة { كن } منه كتابه فيكون المفعول ويوجد، فقوله تعالى { وإذا قضى } اشارة الى القضاء الذى هو بعد القدر وينتزع الايجاب منه و { يقول } اشارة الى الاذن الذى هو جزء من الايجاد الذى ينحل الى الاذن والكتاب والاجل و { كن } اشارة الى الكتاب والاجل، وقوله ليس بنداء يسمع ولا بصوت يقرع.
[2.118]
{ وقال الذين لا يعلمون } من المشركين وكذا من اليهود والنصارى وهو عطف على أقوالهم السابقة واظهار لسفاهة أخرى لهم ومفعول الفعل اما منسى او مقدر اى لا يعلمون ان الخلق لا يطيقون استماع كلام الله تعالى ولو سمعوا لهلكوا ما لم يصف نفوسهم عن رين المادة وان الآية المقترحة لعلهم لا يطيقونها او لا يكون صلاحهم فيها { لولا يكلمنا الله } حتى نسمع كلامه ونؤمن به { أو تأتينآ آية } حتى نشاهدها ونؤمن بها { كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم } كما قال أمة موسى (ع) له
أرنا الله جهرة
[النساء:153] وكما قال امة عيسى (ع)
هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مآئدة من السمآء
[المائدة:112] { تشابهت قلوبهم } فى الجهل والعمى عما ينفعهم والعناد واللجاج { قد بينا الآيات لقوم يوقنون } استئناف بيانى كأنه قيل الم يظهر حقية الحق ورسوله حتى سألوا مثل هذا السؤال فقال تعالى: { قد بينا الآيات } ولم نتركهم بلا بينة لكنهم اهل شك وريبة وليسوا أهل عقل وايقان حتى أيقنوا بما من شأنه ان يوقن به ولو جئناهم بكل آية مقترحة او غير مقترحة لما أيقنوا وما قبلوا.
[2.119]
{ إنا أرسلناك } استئناف بيانى ايضا كأنه قال (ص): فما أصنع مع هؤلاء وليس من شأنهم الايقان وقد أمرتنى بدعوتهم؟ - فقال: { إنا أرسلناك بالحق } برسالة حقة او متلبسا بالحق او مسببا رسالتك عن الحق { بشيرا ونذيرا } يعنى شأنك التبشير والانذار قبلوا او ردوا أيقنوا او شكوا، وليس من شكهم وردهم وبال وعقوبة عليك { ولا تسأل عن أصحاب الجحيم } قرء بالنفى مبنيا للمفعول وبالنهى مبنيا للفاعل وعلى قراءة النهى فالمقصود تهويل عذابهم ونارهم لا ما قاله بعض العامة انه نهى للرسول (ص) عن السؤال عن حال أبويه العياذ بالله و { الجحيم } النار الشديدة التأجج وكل نار بعضها فوق بعض وكل نار عظيمة فى مهواتها، والمكان الشديد الحر وجحم من باب منع بمعنى اوقد، ومن باب كرم وفرح بمعنى اضطرم.
[2.120]
{ ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى } عطف على جملة لا تسأل او جملة انا أرسلناك { حتى تتبع ملتهم } اقناط له (ص) عن رضاهم بأنهم لا يرضون عنه الا بما هو محال عنده وردع للمؤمنين عن طلب رضاهم { قل } للمؤمنين { إن هدى الله هو الهدى } لا استرضاء اليهود والنصارى ورضاهم، او قل لليهود والنصارى: { ن هدى الله هو الهدى } لا ما اعتدتموه من الملة المأخوذة من الآباء المهوية لكم بسبب اعتيادها { ولئن اتبعت أهوآءهم } آراء أنفسهم من غير مداخلة العقل او مهوياتهم { بعد الذي جآءك من العلم } بحقية ملتك وبطلان ملتهم وآرائهم { ما لك من الله من ولي ولا نصير } لم يأت بالفاء لكونه جوابا للقسم لا للشرط وهو على " اياك اعنى واسمعى يا جارة " تعريض بأمته (ص).
[2.121]
{ الذين آتيناهم الكتاب } لا للذين اوتوا الكتاب فأشار الى امتيازهم من أهل الكتاب بتشريف نسبة الايتاء الى نفسه يعنى الذين استعدوا بفطرتهم وبقابليتهم المكتسبة لايتاء الكتاب فآتيناهم أحكام النبوة وصور الكتب السماوية مشتملة على معانيها الواقعية والجملة مستأنفة جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: فلا يؤمن أهل الكتاب بمحمد (ص) ورسالته او بكتابهم او بكتابه (ص) او بجنس الكتاب ولا يتلوه وهو تسلية للرسول والمؤمنين بأن الذين آتاهم الله الكتاب وكل واحد منهم خير من الف الف من الذين آتاهم الشيطان كتابا { يتلونه } خبر او حال او معترضة جواب لسؤال مقدر قبل تمام الكلام كأنه قيل: ما يفعل من شرفته بايتاء الكتاب؟ - فقال تعالى: { يتلونه حق تلاوته } نسب الى الباقر (ع) أنه قال: يتلون آياته ويتفقهون فيه ويعملون بأحكامه ويرجون وعده ويخافون وعيده ويعتبرون بقصصه ويأتمرون بأوامره وينتهون بنواهيه ما هو والله حفظ آياته ودرس حروفه وتلاوة سوره ودرس أعشاره وأخماسه؛ حفظوا حروفه وأضاعوا حدوده، وانما هو تدبر آياته والعمل بأحكامه؛ قال الله تعالى:
كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته
[ص:29] فالذين آتاهم الله الكتاب وشرفهم بذلك يحزنهم ترك الرعاية والقصور والتقصير فى مراعاته والذين آتاهم الشيطان الكتاب او أخذوه من الآباء بحسب ما اعتادوه او تلقفوه من الرجال بحسب ما تدارسوه فانهم يعجبهم حفظ الرواية ولا يبالون بترك الرعاية { أولئك } العظماء { يؤمنون به } بالكتاب او بمحمد (ص) او بالله على ان يكون فى الكلام التفات ومحل الجملة يعلم بالمقايسة الى الجملة السابقة { ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون } لا خاسر سواهم.
[2.122-123]
قد مضى الآيتان الا ان الآية الاخيرة كانت فيما مضى هكذا
ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون
[البقرة: 48] وكرر الآيتين لكمال الاهتمام بالنصح وللاشعار بأن أصل جملة النصائح تذكير النعم والموت والتهديد منه بجعلها مقدمة للنصائح وفذلكة لها.
[2.124]
تحقيق ابتلاء ابراهيم بكلمات { وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات } ابتليته اختبرته وامتحنته او استخبرته فأبلانى اى أخبرنى وكلا المعنيين صحيح هاهنا والمعنى امتحنه بسبب عرض كلمات عليه هل يعلمه او يتحمله ام لا او استخبره كذلك وقرئ ابرهيم ربه برفع ابرهيم ونصب ربه بمعنى سأل { إبراهيم ربه } على ان يكون ابتلى بمعنى استخبر المستلزم للسؤال، والكلمات جمع الكلمة وهى فى عرف الادباء لفظ موضوع لمعنى مفرد، وفى اللغة اللفظة والقصيدة وتستعمل فى كل لفظ موضوع مفردا كان ام مركبا، ناقصا ام تاما، وفى الكلمات النفسية كذلك، وفى عرف الشرع تستعمل فى الكلمات اللفظية والنفسية كاللغة، وفى الكلمات الوجودية التى هى مراتب الوجود طولا وأنحاء الوجودات عرضا، فان خصوصيات المصادق غير معتبرة فى مفاهيمها عندهم فان القلم مثلا اسم لما يكتب به وليس كونه قصبا او حديدا او غير ذلك معتبرا فى مفهومه، والكلمة ما دل على معنى من دون اعتبار خصوصية اللفظ او النقش او الوضع من واضع بشرى فيها، وقد كثر اطلاق الكلمات فى الآيات والاخبار على أنحاء الوجودات والمراد بالكلمات مراتب الوجودات التى هى شؤن انسانية الانسان المستلزمة للكمالات الانسانية النفسية والاضافية من الاخلاق والنبوات والرسالات والامامات، والمراد بالابتلاء بهن عرضهن عليه بايداع انموذج من كل فى وجوده بحيث يستشعر ويلتذ به ويشتاق الى أصله فيجول بشوقه حتى يبلغ الى حقيقته وتمكن وتحقق بها فانه اذا اراد الله بعبد ان يظهر منه خيرا او شرا ابتلاه بشيء من الغيب بمعنى انه ينبهه على ان ما وراء الشهادة شيء فيظن اولا ذلك الشيء ويشتاقه فقد يجول حول ظنه وقد يسكن عن الحركة الى مآرب نفسه حتى يصير ظنه علما فيشتد شوقا فقد يجول حول علمه أكثر من جولانه حول ظنه وقد يسكن عن الحركة الى ما اقتضته نفسه حتى يصير علمه وجدانا بايداع انموذج ذلك الامر فى نفسه شاعرا كان فى تلك المراتب بظنه وعلمه ووجدانه او غير شاعر فيجول حول وجدانه اكثر من جولانه السابق حتى يصير وجدانه شهودا فيجول حول مشهوده اكثر من السابق حتى يتصل فيلازم المتصل به حتى يتحد فيلازم حتى يبقى المتحد به وحده وكل من تلك المراتب له درجات بحسب اشتداده وضعفه وللسالك فى الدرجات حالات بحسب تلوينه وتمكينه، وان سكن المتنبه وحام حول نفسه عن مظنونه ومعلومه كان كمن آتاه الله آياته فانسلخ منها وظهر شره، والمراد باتمام الكلمات اتمامها من حيث الاضافة اليه عليه السلام لا من حيث أنفسها فانها تامات من حيث أنفسها بل فوق التمام وتماميته اضافتها بالتمكن فى التحقق بها وهو آخر المراتب والدرجات، فالمعنى واذكر حتى تكون على بصيرة فى أمرك او فى أمر من تعلمه السلوك الى الآخرة او ذكر حتى يعلم من يريد السلوك الى الله وقتا ابتلى ابراهيم (ع) ربه باذاقة طعم من اللطائف الوجودية الغيبية واشمام رائحة منها فوجد والتذ واشتاق واهتزوا نماث وطاب ووصل واتصل واتحد { فأتمهن } وصار واحدا متحققا متمكنا ولما كان ظهور لطائف الانوار الخمسة محمد (ص) وعلى (ع) وفاطمة (ع) والحسن (ع) والحسين (ع) او الاثنى عشر او الاربعة عشر من لوازم اتمام تلك الكلمات، وهكذا الحال فى الامتحان بذبح الولد فسر الكلمات فى الاخبار بها، ولما كان ابرهيم (ع) بالنسبة الى محمد (ص) ناقصا وان كان بالنسبة الى سائر الانبياء تام الكلمات أتى بالجمع السالم خاليا عن اللام مفيدا للقلة بخلاف محمد (ص) حيث قال
فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته
[الأعراف: 158] فأتى بالكلمات مضافة مفيدة للعموم، ولما أتم الكلمات وأتمت له العبودية والنبوة والرسالة والخلة فانها كانت من لوازم تلك الكلمات وبتمامهن تكون تمامها.
تحقيق مراتب الخلق من النبوة والرسالة والخلة والامامة
{ قال } تشريفا له { إني جاعلك للناس إماما } وهذه الامامة غير امامة امام القوم فى ضلالة كانت ام فى رشد، وغير امامة امام الجماعة والجمعة حقا كان ام باطلا، وغير الامامة الحقة الجزئية التى اتصف بها مشايخ الاجازة فى الرواية او فى الهداية، وغير الامامة الحقة الجزئية التى اتصف بها كل نبى ووصى بل هى فوق كل المراتب الانسانية وهى مقام التفويض الكلى الحاصل بعد الولاية والرسالة الكليتين ولذا ورد عن الصادق (ع): ان الله تبارك وتعالى اتخذ ابراهيم عبدا قبل ان يتخذه نبيا، وان الله اتخذه نبيا قبل ان يتخذه رسولا، وان الله اتخذه رسولا قبل ان يتخذه خليلا، وان الله اتخذه خليلا قبل ان يجعله اماما، فلما جمع له الاشياء قال: { إني جاعلك للناس إماما } فالامامة آخر جميع مراتب كمالات الانسان فان اول كمالاته العبودية من اولى درجاتها، وهى اولى درجات السلوك الى الطريق متدرجا فيه الى الوصول الى الطريق متدرجا فى السلوك على الطريق الى الله الى ان خرج من انانيته ورقية نفسه ودخل فى زمرة عباده واستكمل العبودية وصار عبدا خالصا، فان ادركته العناية وأبقاه الله بعد فنائه وأحياه بحياته لتكميل خلقه فاما ان يوكله باصلاح قلبه الذى هو بيت الله حقيقة وباصلاح اهل مملكة نفسه من غير اذن له فى الرجوع الى خارج مملكته وهو مقام النبوة المفردة عن الرسالة، او يأذن له مع ذلك باصلاح المملكة الخارجة وهو الرسالة المفردة عن الخلة، او يختاره مع ذلك لنفسه ممتازا به عن سائر رسله معيدا له كرة أخرى غير العود الاول فان العود الاول كان بطرح كل ما أخذ وبهذا العود يعود معه جميع ما أعطاه الله وهو جميع ما سواه وهو الخلة، فان استكمل مقام الخلة بان كان مقامه مع الحق هو مقامه مع الخلق مع التمكن فى ذلك اختاره للامامة وتفويض جملة الامور اليه بحيث لا يسقط ورق من شجر الا باذن وكتاب واجل منه، وليس وراء هذه مقام ومرتبة.
وقد علم من هذا ان كل امام خليل، وكل خليل رسول، وكل رسول نبى، وكل نبى عبد؛ وليس بالعكس، وان الامامة بهذا المعنى هو الجمع بين المقام فى الخلق والمقام عند الحق من غير قصور فى شيء منهما مع التمكن فى ذلك ولما نظر ابراهيم (ع) الى مقام الامامة وشرافتها وكان حافظا للخلق مع المقام عند الحق اقتضى مقامه فى الخلق مراعاة أرحامه الجسمانية والروحانية فتبجح بما أعطاه الله وسأل ذلك لاعقابه، ولما علم أن جميع ذراريه لا يمكن ان يكونوا بهذا الشأن { قال ومن ذريتي } بمن التبعيضية عطفا على ضمير الخطاب فى جاعلك، وقد يفعل مثل ذلك المتخاطبان فيعطف أحدهما شيئا من قوله على شيء من قول الآخر مثل ان يقال: سأكرمك فيقول المخاطب: وزيدا، او عطفا على جملة انى { جاعلك للناس إماما } بتقدير واجعل من ذريتى، واعتبار معنى الانشاء: فى انى جاعلك كأنه قال: لاجعلك، للناس اماما، قال: واجعل من ذريتى، ولفظ قال فى المراتب الثلاث جواب لسؤال مقدر ويجوز ان يكون اذ ابتلى ظرفا متعلقا بقال الاول لا مفعولا لمقدر والذرية مثلثة الذال وقرء بالضم والكسر نسل الرجل فعيلة او فعولة من الذر بمعنى التفريق واصله ذريرة او ذرروة قلبت الراء الاخيرة ياء جوازا مثل احسيت فى احسست ثم تصرف فيه بحسب اقضاء الصرف او من الذرأ بمعنى الخلق او بمعنى التكثير واصله ذريئة او ذروئة فتصرف فيه على حسب اقتضاء الصرف { قال لا ينال عهدي الظالمين } اجابة لمسؤله وتعيين للمعطى والمحروم وتنبيه له على أن من ذريته من يكون ظالما، وعلى ان المتصف بالظلم لا يصلح للامامة، وابطال لامامة كل ظالم الى يوم القيامة، وقد اعترف بعض مفسرى العامة بأن الآية تدل على عصمة الانبياء من الكبائر قبل البعث وان الفاسق لا يصلح للامامة، والعهد الوصية والتقدم الى المرء فى شيء والموثق والكتاب الذى يكتب للولاة مشتملا على ما ينبغى ان يعملوا بالنسبة الى الرعية مأخوذ من الوصية والحفاظ ورعاية الحرمة والامان، والمراد بالعهد المذكور الامامة السابقة فان الاضافة للعهد ويناسبها كل من المعانى المذكورة، ومضى بيان للظلم وقد ورد فى الأخبار أن محمدا (ص) والائمة (ع) هم المقصودون بدعوة ابراهيم (ع).
[2.125]
{ وإذ جعلنا البيت } الكعبة فان اللام للعهد الخارجى او القلب فانه المعهود بين المتخاطبين المنظور اليه لهما والمتراجع اليه ومحل الجزاء له (ص) وللخلق حقيقة، والكعبة لما كانت صورته جعلت بالمواضعة متراجعا اليها ومحلا لجزاء الراجع اليها { مثابة } محل ثواب وجزاء ومحل رجوع { للناس وأمنا } لا يصطاد صيدها ولا يعنف الجانى المستجير بها، والبلد الطيب، والحرم بحسب التأويل صورة النفس المطمئنة والصدر المنشرح، ويسرى حكم البيت الى المسجد والحرم بمجاورتهما له، وهكذا حال النفس والصدر وسيأتى تحقيق البيت ومظهريته للقلب والمناسبة بين مناسك الكعبة ومناسك القلب { واتخذوا } عطف على جعلنا بتقدير قلنا او عطف على عامل اذا ومعترضة معطوفة على مقدر كأنه قيل بعد ما قال جعلنا البيت مثابة وأمنا فما نصنع؟ - قال: ارجوا اليه واتخذوا { من مقام إبراهيم } هو الحجر الذى عليه أثر قدم ابراهيم (ع) { مصلى } محلا للدعاء او للصلاة التى هى فريضة الحج، او للصلاة النافلة؛ روى عن الباقر (ع) أنه قال (ع): ما فرية اهل الشام على الله تعالى يزعمون ان الله تبارك وتعالى حيث صعد الى السماء وضع قدمه على صخرة بيت المقدس ولقد وضع عبد من عباد الله قدمه على صخرة فأمرنا الله ان نتخذه مصلى، وروى أنه نزلت ثلاثة احجار من الجنة، مقام ابراهيم (ع)، وحجر بنى اسرائيل، والحجر الاسود { وعهدنآ } اوصينا { إلى إبراهيم } عليه السلام { وإسماعيل } عليه السلام { أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود } ولعلك تفطنت بتعميم البيت والتطهير والطائف والعاكف والراكع والساجد وروى عن الصادق (ع) ان المعنى نحيا عنه المشركين وروى أنه سئل يغتسلن النساء اذا أتين البيت؟ - قال: نعم ان الله يقول : طهرا بيتى؛ الآية، فينبغى للعبد ان لا يدخل الا وهو طاهر قد غسل عنه العرق والأذى وتطهر.
[2.126]
{ وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا } البلد الذى هو مكة او هذا الصدر الذى صار مكة مظهرا له على ما سبق الاشارة اليه { بلدا آمنا } من تغلب المتغلبين بمحض الارادة ومن اقتصاص الجانى الملتجئ اليه ومن اصطياد صيده بالمواضعة التكليفية ومن شر الشياطين من الانس والجن ومن استراق السمع بحافظيتك اذا اريد البلد الذى هو الصدر المنشرح { وارزق أهله من الثمرات } اهل بلد مكة من ثمرات الدنيا كما نقل انه يوجد فيه ثمرات الصيف والشتاء فى وقت واحد. وروى ان ابراهيم لما دعا بهذا الدعاء أمر الله تعالى بقطعة من الاردن فسارت بثمارها حتى طافت بالبيت ثم أمرها ان تنصرف الى هذا الموضع الذى سمى بالطائف ولذلك سمى طائفا. وعن الباقر (ع) ان الثمرات تحمل اليهم من الآفاق وقد استجاب الله له حتى لا توجد فى بلاد المشرق والمغرب ثمرة لا توجد فيها حتى حكى انه يوجد فيها فى يوم واحد فواكه ربيعية وصيفية وخريفية وشتائية وعن الصادق (ع) يعنى من ثمرات القلوب اى حبهم الى الناس ليأتوا اليهم ويعودوا، وهذا بيان لتأويل الثمرات وعلى تأويل البلد فالمعنى وارزق أهله من ثمرات العلوم ومن ثمرات القلوب وثمرات القلوب ان تتولاهم وتقبل ولايتهم { من آمن منهم بالله واليوم الآخر } بدل من أهله نسب الى السجاد (ع) أنه قال: ان المقصود منهم الائمة من آل محمد (ص) وشيعتهم { قال ومن كفر } عطف على من آمن على ان يكون البدل بدل الكل من الكل بدلا تفصيليا يكون تتميمة من الله ويكون قوله تعالى: { فأمتعه } اول كلام من الله، او من كفر ابتداء كمال من الله معطوف على مقدر جواب لمسؤل ابراهيم (ع) كأنه تعالى قال اجابة لمسؤله من آمن أرزقه ومن كفر فانا أمتعه؛ على ان يكون من شرطية ودخول الفاء فى المضارع المثبت مع عدم جوازه بتقدير أنا، ورفعه لكون الشرط ماضيا، او من موصولة ودخول الفاء فى الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط، وترتب التمتيع على الكفر باعتبار التقييد بالقلة وتعقيب الاضطرار الى العذاب { قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير } نسب الى السجاد (ع) انه قال: عنى بذلك من جحد وصيه ولم يتبعه من أمته كذلك والله هذه الأمة.
[2.127]
{ وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل } قائلين { ربنا تقبل منآ } بناء البيت بأمرك طلبا لرضاك { إنك أنت السميع } لدعائنا { العليم } بأعمالنا ونياتنا، عن الصادق (ع) ان اسماعيل (ع) لما بلغ مبلغ الرجال أمر الله ابراهيم (ع) ان يبنى البيت فقال: يا رب فى أى بقعة؟ - قال: فى البقعة التى أنزلت بها على آدم، القبة، فأضاء لها الحرم فلم يدر ابراهيم (ع) فى اى موضع يبنيه فان القبة التى أنزلها الله على آدم كانت قائمة الى ايام الطوفان فلما غرقت الدنيا رفع الله تلك القبة وبقى موضعها لم يغرق ولهذا سمى البيت العتيق لأنه أعتق عن الغرق، فبعث الله جبرئيل (ع) فخط له موضع البيت فأنزل الله عليه القواعد من الجنة وكان الحجر لما أنزله الله على آدم (ع) أشد بياضا من الثلج فلما مسته أيدى الكفار اسود، فبنى ابراهيم (ع) البيت ونقل اسماعيل الحجر من ذى طوى فرفعه فى السماء تسعة أذرع ثم دله على موضع الحجر فاستخرجه ابراهيم (ع) ووضعه فى الموضع الذى هو فيه الآن فلما بنى جعل له بابين، بابا الى المشرق وبابا الى المغرب يسمى المستجار ثم القى عليه الشجر والاذخر وعلقت هاجر على بابه كساء كان معها، وكانوا يكتسون تحته. وفى خبر انه قال (ع): يا بنى قد أمرنا الله ببناء الكعبة وكشفا عنها فاذا هو حجر واحد أحمر فأوحى الله اليه ضع بنائها عليه وأنزل الله اربعة املاك يجمعون اليه الحجارة فكان ابراهيم (ع) واسماعيل (ع) يضعان الحجارة والملائكة تناولهما حتى تمت اثنى عشر ذراعا وهيئا له بابين. وفى حديث فنادى ابو قبيس ابراهيم (ع) ان لك عندى وديعة فأعطاه الحجر فوضعه موضعه. وفى خبر آخر: كان البيت درة بيضاء فرفعه الله الى السماء وبقى أساسه فهو بحيال هذا البيت يدخله كل يوم سبعون الف ملك لا يرجعون اليه أبدا، وفى خبر ان اسماعيل (ع) اول من شق لسانه بالعربية.
[2.128]
{ ربنا واجعلنا مسلمين لك } من أسلم بمعنى انقاد او من أسلم بمعنى اخلص يعنى صار ذا سلامة من آفات النفس وشرورها، واما أسلم بمعنى صار مسلما وداخلا فى ملة الاسلام فانه من المشتقات الجعلية المأخوذة بعد اشتهار ملة الاسلام { ومن ذريتنآ } الجسمانية والروحانية او الجسمانية فقط فانهم أولى بالشفقة ومن للتبعيض وهو مع قوله تعالى { أمة مسلمة لك } عطف على مفعولى اجعل او من للبيان وامة ومسلمة عطف على مفعولى اجعل ومن ذريتنا حال عن الامة او مسلمة صفة أمة ولك فى مقام المفعول الثانى ومن ذريتنا حال عما بعده. وفى بعض الأخبار ان المراد أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وفى رواية أراد بنى هاشم خاصة { وأرنا } أعلمنا { مناسكنا } محال اعمالنا للحج او محال عباداتنا على ان يكون جمع المنسك اسم المكان، او عباداتنا على ان يكون جمع المنسك مصدرا ميميا والنسك بتثليث النون واسكان السين او بضمتين العبادة او اعمال الحج مخصوصا { وتب علينآ إنك أنت التواب الرحيم } قد مضى بيان لتوبة العبد وتوبة الرب عند قوله تعالى:
إنه هو التواب الرحيم
[البقرة: 37].
[2.129]
{ ربنا وابعث فيهم رسولا منهم } هذا يدل على ان المراد من الذرية من بعث فيهم محمد (ص) ولذلك قال (ص) على ما نسب اليه (ص)
" انا دعوة أبى ابراهيم "
{ يتلوا عليهم آياتك } يقرأ عليهم آياتك التدوينية { ويعلمهم الكتاب والحكمة } قد مضى بيان للكتاب والحكمة وان المراد بالكتاب أحكام الرسالة والنبوة من العقائد الدينية وعلم الاخلاق النفسية وعلم الاعمال البدنية، وان الحكمة قد تستعمل فى كمال القوة النظرية، وقد تستعمل فى كمال القوة العملية، والمراد بها هاهنا كمال القوة العمالة والمعنى يعلمهم العلوم التى ينبغى تعلمها والاعمال الدقيقة المتقنة التى لا تتعلم الا بكثرة المواظبة والممارسة عليها { ويزكيهم } بعد تعليم المسائل وتعليم اتقان العمل لسهولة التزكية، وهذا يدل على ان السالك ينبغى ان يكون تحت ارادة الشيخ بلغ ما بلغ فى العلم والعمل؛ وهو كذلك فان الخلاص من الرذائل وآفات النفس والشيطان لا يكون الا بامداد الشيخ واعانته لان الانسان العليل كلما ازال علة من نفسه ازداد علة أخرى فى نفسه، وكلما ظنه مقويا لصحته صار سببا لزيادة مرضه او لحدوثه، وسيأتى عند قوله تعالى { يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم } بيان للتزكية ولتقديم التعليم هاهنا وتأخيره هناك { إنك أنت العزيز } الذى لا يمنعك مانع عما تريد { الحكيم } العالم بدقائق المعلومات القادر على دقائق المصنوعات، وكأنه اقرار بعجزه عن درك مصالح مسؤله وتعليق للسؤال على اقتضاء حكمة كأنه قال: { وابعث فيهم رسولا } كذا ان اقتضته حكمتك؛ وهذا غاية الادب فى السؤال.
[2.130]
{ ومن يرغب عن ملة إبراهيم } استبعاد وانكار { إلا من سفه نفسه } سفه نفسه بالحركات الثلاث فى عين سفه يعنى حملها على السفاهة ونصب نفسه على ضم الفاء وفتحه للتشبيه بالمفعول كما فى الحسن الوجه وعلى الكسر قيل: انه متعد، وقيل: انه كذلك { ولقد اصطفيناه } حال فى موضع التعليل { في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين } فلا ينبغى الرغبة عنه وعن ملته.
[2.131-132]
{ إذ قال له ربه } تعليل لاصطفائه وصلاحه { أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بهآ } اى بالملة او بكلمة الاسلام { إبراهيم بنيه ويعقوب يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } يعنى ينبغى ان يكون اسلامكم ثابتا راسخا حتى لا يزول عند الموت؛ والآية تعريض بانكار التهود والتنصر وان ابراهيم ما أمر باليهودية ولا بالنصرانية بل أمر بالاسلام ووصى هو ويعقوب بنيهما بالاسلام لا بالتهود والتنصر.
[2.133]
{ أم كنتم شهدآء } ام منقطعة متضمنة للهمزة والمقصود اظهار ان بنى يعقوب أقروا بعبادة الله وتوحيده تعريضا باليهود والنصارى فى عبادة العزير والمسيح، وأقروا بالاسلام تعريضا بنفى التهود والتنصر { إذ حضر يعقوب الموت إذ قال } بدل من اذ حضر { لبنيه ما تعبدون من بعدي } سأل (ع) عما يعبدونه تذكيرا بالتوحيد وتقريرا لهم عليه وعلى الاسلام { قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل } عدوه من الاباء لان العم كالأب ويسميه العرب ابا { وإسحاق إلها واحدا } صرح بالتوحيد تعريضا باليهود والنصارى فى القول بأن عزيرا ابن الله والمسيح ابن الله او ثالث ثلاثة { ونحن له مسلمون } لا يهوديون ولا نصرانيون.
[2.134]
{ تلك أمة } جماعة قاصدون لمقصود واحد { قد خلت } والمراد ابراهيم (ع) ويعقوب وبنوهما { لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون } يعنى ان انتسابكم اليهم لا ينفعكم به حسناتهم ولا يضركم به سيئاتهم فانظروا الى اعمال أنفسكم لا الى انسابكم وآبائكم.
[2.135]
{ وقالوا } عطف باعتبار المعنى كأنه قال، قال ابراهيم (ع) ويعقوب (ع) كونوا مسلمين وقالوا { كونوا هودا أو نصارى } اى قالت اليهود: كونوا هودا وقالت النصارى: كونوا نصارى فلفظة او ليست للتخيير والاباحة بل هى للتفصيل { تهتدوا قل } لهم يا محمد { بل } كونوا مسلمين واتبعوا { ملة إبراهيم } وكونوا اهل ملة ابراهيم او على ملة ابراهيم { حنيفا } مستقيما او مائلا عن الاديان المعوجة وهو حال عن الملة او ابراهيم ولم يقل حنيفة لكون الملة بمعنى الدين او لكسبه التذكير من المضاف اليه وروى ان الحنيفية هى الاسلام { وما كان من المشركين } تعريض بالمشركين كما ان قوله تعالى بل ملة ابرهيم كان ردا لاهل الكتاب فان المشركين أكثرهم مقرون برسالة ابراهيم (ع).
[2.136]
{ قولوا آمنا بالله } خطاب للمؤمنين او للائمة خاصة كما ورد عن الباقر (ع) انما عنى بذلك عليا (ع) وفاطمة (ع) والحسن (ع) والحسين (ع) وجرت بعدهم فى الائمة. ثم يرجع القول من الله فى الناس فقال تعالى: { فإن آمنوا } يعنى الناس { بمثل مآ آمنتم به }؛ الآية { ومآ أنزل إلينا } من الاحكام والقرآن { ومآ أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط } وهم اولاد اولاد يعقوب. سئل الباقر (ع): هل كان ولد يعقوب انبياء؟ - قال: لا ولكنهم كانوا اسباطا اولاد الانبياء؛ ولم يكونوا فارقوا الدنيا الا سعداء، تابوا وتذكروا ما صنعوا، وهذا يدل على أن السبط أعم من الولد وولد الولد { ومآ أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون } المذكورون وغير المذكورين يعنى قولوا آمنا بالله وما أنزل الينا من الاحكام والكتاب تفصيل او آمنا بما أنزل على سائر النبيين من الشرائع والكتب اجمالا لعدم اطلاعهم على ما أنزل الى الانبياء تفصيلا { من ربهم لا نفرق بين أحد منهم } اضيف بين الى احد لوقوعه فى سياق النفى وعمومه { ونحن له } لله { مسلمون } روى ان أمير المؤمنين (ع) علم اصحابه ان اذا قرأتم قولوا: { آمنا فقولوا آمنا بالله } ، الآية، وهذا يدل على ان القارئ ينبغى ان يقدر لسانه لسان الله وان يتصوران الامر الجارى على لسانه انما هو جار من الله وفرض نفسه مأمورة وأوقعها موقع الامتثال والإتمار فان كان المأمور به قولا ذكره وكرره، وان كان عملا عمله مثل الأمر بالسجدة فى آيات السجدة.
[2.137]
{ فإن آمنوا } اى الناس غير الائمة او أهل الكتاب غير المسلمين { بمثل مآ آمنتم به } الباء للآلة او للسببية والمعنى فان اتصفوا بالايمان بايمان او بسبب ايمان مثل ايمان آمنتم به او للمصاحبة والمعنى فان آمنوا مصاحبين بايمان مثل ايمان آمنتم به او الباء للآلة والمعنى فان آمنوا بطريق مثل طريق ما آمنتم به، او لفظ الباء زائدة ولفظ المثل مقحم، او الكلام محمول على المبالغة بفرض المثل والمعنى فان آمنوا بمثل ما آمنتم به من الله وما أنزل الله على الانبياء لو فرض له مثل { فقد اهتدوا } فكيف يكون حالهم اذا آمنوا به نفسه { وإن تولوا } فلا تستغربوه { فإنما هم في شقاق } لكم او للايمان وليس لهم بسبب كونهم فى شقاق الا التولى والانكار فهو من اقامة السبب مقام الجزاء او المعنى ان تولوا يقعوا فى شقاق لكم او للاهتداء والتأدية بالجملة الاسمية للاشارة الى التأكيد والثبات، والشقاق المخالفة والعداوة { فسيكفيكهم الله } وعدله (ص) وللمؤمنين بالنصر وكفايته تعالى مؤنة دفعهم وقد وفى { وهو السميع } لما قلتم وقالوا { العليم } بكم وبأعمالكم ونياتكم، وبهم وبأعمالهم ونياتهم.
[2.138]
{ صبغة الله } اى صبغنا الله صبغة فحذف الفعل وأضيف المصدر الى الفاعل بعد تأخيره والجملة حال او مستأنفة جواب عن سؤال مقدر كأنهم بعد ما قالوا: { آمنا بالله } قيل: ما فعل الله بكم؟ - قالوا: صبغنا الله صبغة وفسرت الصبغة بالاسلام وبالايمان لان الصبغ كما يظهر على الثوب وينفذ فيه كذلك الاسلام والايمان يظهر أثرهما على البدن ويؤثر فى القلب، او للتشبيه بما يفعله النصارى بأولادهم من الغمس فى ماء أصفر يسمونه بالمعمودية وبه يتحقق نصرانيتهم { ومن أحسن من الله صبغة } تبجحوا وباهوهم بهذه العبارة { ونحن له عابدون } لسنا مشركين فى عبادته مثلكم.
[2.139]
{ قل أتحآجوننا } اتخاصموننا مع علمكم بأن ديننا حق وان دينكم منسوخ او مع جهلكم بحقية ديننا وبطلانه يعنى هل تكون محاجتكم محض الغلبة علينا من غير اعتبار حقية ما تحاجون به او بطلانه فان المحاجه لا تستعمل الا فى المبالغة فى المخاصمة { في الله } اضاف اليه قوله فى الله ليكون من القضايا التى قياساتها معها بالنسبة الى انكار المحاجة يعنى انتم تخاصمون فى فضل الله وانعامه على عباده، وكل من يخاصم فى فضل الله على عباده مطرود عن الخير؛ فأنتم مطرودون عن الخير ولذا أضاف اليه قوله تعالى { وهو ربنا وربكم } يعنى ينبغى لنا ولكم التوافق والتسليم لأمره لا المحاجة فى أمره { ولنآ أعمالنا ولكم أعمالكم } يعنى ان كنتم تحاجوننا فى الله فهو ربكم كما أنه ربنا، وان كنتم تحاجوننا لانكاركم علينا اعمالنا فلا ضرر من اعمالنا عليكم حتى تخاصموننا بل نفعها لنا وضررها علينا ولا تنقصكم من أعمالكم شيئا حتى تحاجونا لذلك { ونحن له مخلصون } واقتضاء الاخلاص ان لا يتضرر أحد بعملنا وان لا يخاصمنا من انتسب اليه تعالى.
[2.140]
{ أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى } اى تعتقدون ذلك وتثبتون بذلك على دينكم وتنكرون ما وراءه وتحتجون علينا فيه { قل أأنتم أعلم أم الله } وقد أخبرنا الله بان ابراهيم ما كان يهوديا ولا نصرانيا واحتج عليه بما لا مرد له من قوله ما انزلت التوراة والانجيل الا من بعده وبهذين الكتابين ثبتت اليهودية والنصرانية { و } قل تعريضا بهم وبكتمانهم شهادة الله لمحمد (ص) التى ثبتت فى كتبهم وأخبرهم بها اسلافهم { ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله } اى ممن كتم شهادة ثابتة من الله مودعة عنده فقوله { من الله } ليس متعلقا بكتم بل هو صفة لشهادة ولفظة من ابتدائية داخلة على فاعل المصدر مثل زعما منهم { و } قل { وما الله بغافل عما تعملون } لتهديدهم او قوله ومن اظلم ممن كتم ابتداء قول من الله.
[2.141]
كرر العبارة للتأكيد فى الزجر عن الافتخار بالآباء والاتكال على الانساب فانه كان ديدن العامة قديما وجديدا كما كان المحاجة بالآباء والتعصب لدينهم ديدنهم.
[2.142]
{ سيقول السفهآء من الناس } اخبار من الله بما سيقع منهم والمراد بالسفهاء من خفت احلامهم واعتادوا ما رأوا من آبائهم ولم ينظروا بعقولهم ولم ينقادوا الذى نظر من المنافقين والمشركين واهل الكتاب { ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها } يعنى بيت المقدس { قل } بعد ما قالوا ذلك { لله المشرق والمغرب يهدي من يشآء إلى صراط مستقيم } وهو من الله ما اقتضته حكمته ومن الخلق التسليم لأمره روى أنه جاء قوم من اليهود بعد انصرافه (ص) الى الكعبة فقالوا: يا محمد (ص) هذه القبلة بيت المقدس قد صليت اليها اربع عشرة سنة ثم تركتها الان افحقا كان ما كنت عليه فقد تركته الى باطل فان ما يخالف الحق فهو باطل، او كان باطلا فقد كنت عليه طول هذه المدة فما يؤمننا ان تكون الان على باطل؟ - فقال رسول الله (ص) بل ذلك كان حقا وهذا حق يقول الله تعالى: { قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشآء إلى صراط مستقيم }
" اذا عرف صلاحكم يا ايها العباد فى استقبال المشرق أمركم به، واذا عرف صلاحكم فى استقبال المغرب أمركم به "
؛ الى آخر الحديث.
[2.143]
{ وكذلك } اى مثل هداية الله لكم الى الايمان بالله تعالى والمنزل على ابراهيم واسماعيل ومثل الهداية الى الصراط المستقيم المستفاد من السابق، ولذا أتى بأداة العطف كأنه قال: هديناكم الى الايمان بالله وبما أنزل والى الصراط المستقيم وكذلك { جعلناكم } الخطاب للائمة (ع) وآل الرسول بحسب مقام رسالته وهم الائمة (ع) والاتباع الذين صاروا منهم بقوة متابعتهم { أمة } الامة تطلق على من يؤم شخصا آخر واحدا كان او جماعة وتطلق على من يؤتم به واحدا كان ام جماعة، وفى اللغة الامة بالضم الرجل الجامع للخير والامام وجماعة أرسل اليهم رسول والجماعة من كل حى والجنس ومن هو على جين الحق والعالم، ومن الرجل قومه؛ والامة هاهنا اما بمعنى الآئمة او بمعنى الآمين { وسطا } متوسطة بين المفرطين والمفرطين كما ورد: نحن النمرقة الوسطى بنا يلحق التالى والينا يرجع الغالى { لتكونوا شهدآء على الناس } وهذا يدل على ان المراد بالامة الأئمة (ع) ومن يحذو حذوهم من مشايخهم نسب الى الباقر (ع) انما أنزل الله وكذلك جعلناكم ائمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول شهيدا عليكم، قال: ولا يكون شهداء على الناس الا الأئمة الرسل فأما الامة فانه غير جائز ان يستشهدها الله وفيهم من لا تجوز شهادته فى الدنيا على حزمة بقل. ونسب اليه (ع) وأيم الله لقد قضى الامر ان لا يكون بين المؤمنين اختلاف ولذلك جعلهم شهداء على الناس ليشهد محمد (ص) علينا، ولنشهد على شيعتنا، وليشهد شيعتنا على الناس، والشهداء جمع الشهيد وقد يكسر شينه بمعنا الحامل للشهادة او المؤدى لها فيكون فعيل بمعنى الفاعل والشهيد بمعنى القتيل فى سبيل الله فهو فعيل بمعنى المفعول لانه مشهود عليه يعنى حضرته الملائكة او شهد الله عليه وملائكته الجنة { ويكون الرسول عليكم شهيدا } والمراد بالشهادة عليهم اظهار ما هم عليه من الخير والشر فتكون اعم من الشهادة عليهم ولهم وانما عدى العبارة بعلى للاشعار بأن شهادتهم ليست كشهادة الناس بعضهم على بعض بل الشهادة هناك عبارة عن احاطة الشاهد بالمشهود عليه وله واظهاره ما للمشهود عليه وما عليه، لا الأخبار باللسان فقط وان كان لهم هناك اخبار بلسان موافق لذلك العالم وهذا لا يكون الا باستيلاء الشاهد المستفاد من لفظ على { وما جعلنا القبلة التي كنت عليهآ } يعنى بيت المقدس كنت عليها مدة اربع عشرة سنة { إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه } يرتد عن دين محمد (ص) بعد التدين به، شبه المرتد عن الدين بمن يرجع القهقرى، واسناد العلم بنحو الحدوث فى المستقبل او فى الحال الى الله اما باعتبار مظاهره وخلفائه او باعتبار العلم الذى هو مع المعلوم لا العلم الذى هو قبل المعلوم كما نسب الى الامام (ع) انه قال يعنى الا لنعلم ذلك منه وجودا بعد ان علمناه سيوجد واتصاف العلم الذى هو مع المعلوم بالحدوث انما هو باعتبار تعلق معلوم به لا باعتبار انتسابه الى العالم فان الواجب بالذات واجب من جميع الجهات، او المعنى الا ليظهر علمنا او لتميز، وقوله تعالى { ممن ينقلب } دليل هذا المعنى فان لفظة من هاهنا هى التى تستعمل بعد التميز فان كان نزول الآية قبل صرفهم الى الكعبة كان المعنى وما جعلنا القبلة التى كنت عليها فى مكة الا لنعلم من يتبع الرسول ومن يتبع الهوى فان أهل مكة لآلفهم الى مكة كان هواهم فى الكعبه، وان كان بعد صرفهم الى الكعبة يحتمل ان يراد بالقبلة الكعبة وبيت المقدس نسب الى الامام (ع) انه قال: وذلك ان هوى أهل مكة كان فى الكعبة فأراد الله تعالى ان يبين متبع محمد (ص) ممن خالفه باتباع القبلة التى كرهها ومحمد (ص) يأمر بها، ولما كان هوى أهل المدينة فى بيت المقدس امرهم بمخالفتها والتوجه الى الكعبة لتبين ان من يوافق محمدا فيما يكرهه فهو مصدقه وموافقه { وإن كانت } القبلة التى كنت عليها او الصلاة الى تلك القبلة فى ذلك الوقت { لكبيرة إلا على الذين هدى الله } لا على الذين بايعوا محمدا (ص) لأغراض نفسانية من دون هداية من الله، ولفظة ان مخففة من المثقلة { وما كان الله ليضيع إيمانكم } اى صلاتكم سمى الصلاة ايمانا لأنها أعظم آثاره وبدونها لم يكن الايمان ايمانا { إن الله بالناس لرءوف رحيم } تعليل للسابق والرأفة كالرحمة لفظا ومعنى لكنها هنا أشد الرحمة او أرقها او الاثر الظاهر من الرحمة وفى حديث: قال المسلمون للنبى بعد ما انصرف الى الكعبة ارأيت صلواتنا التى كنا نصلى الى بيت المقدس ما حالنا فيها وحال من مضى من أمواتنا وهم يصلون الى بيت المقدس فأنزل وما كان الله ليضيع ايمانكم.
[2.144]
{ قد نرى تقلب وجهك في السمآء } ابتداء كلام منه تعالى لابداء حكم ولذا لم يأت بأداة الوصل كأنه (ص) بعد ما انزجر من اليهود وما قالوه فيه وفى توجهه فى صلاته الى قبلتهم كان يسأل ربه تحويل وجهه فى الصلاة ومن شأن السائل المتضرع ان يقلب وجهه فى جهة المسؤل وكأنه كان يريد الكعبة لأنها كانت قبلة ابراهيم (ع) وبناءه ومولد على (ع) وموطنه وموطن نفسه { فلنولينك قبلة ترضاها } فى صلاتك وهى الكعبة وانما يرضيها للميل الفطرى الذى يكون للانسان بالنسبة الى موطنه ومولده وموطن آبائه وآثار أجداده ولأنها كانت مرجعا للعرب والتوجه اليها يقتضى رغبتهم الى دين الاسلام { فول وجهك شطر المسجد الحرام } اى الحرام هتكه، والحرام اما مشترك بين المصدر والصفة او فى الاصل مصدر يستعمل فى معنى الصفة والمسجد الحرام جزء من الحرم كما ان الكعبة جزء من المسجد، والكعبة قبلة اهل الحرم والحرم قبلة أهل العالم كما روى فالمراد بالمسجد الحرام اما تمام الحرم من باب استعمال الجزء فى الكل او المسجد نفسه، ولم يقل شطر الكعبة لأن المعتبر من القبلة للبعيد هو استقبال الجهة التى يكون البيت فيها لا استقبال عين البيت وهذا المعنى يستفاد من شطر المسجد مع ان فيه تطبيقا للتنزيل على التأويل والمعنى ول وجه بدنك شطر المسجد الحرام الصورى ووجه نفسك شطر المسجد الحرام الذى هو الصدر المنشرح بالاسلام الذى فيه كعبة القلب فى حال الصلاة البدنية وفى حال الصلاة النفسية التى هى كل الاحوال. وفى الخبران النبى (ص) بعد ما اغتم بقول اليهود ان محمدا (ص) تابع لقبلتنا خرج فى بعض الليل يقلب وجهه فى السماء فلما أصبح صلى الغداة فلما صلى من الظهر ركعتين جاء جبرئيل فقال له : قد نرى تقلب وجهك فى السماء فلنولينك قبلة ترضيها فول وجهك شطر المسجد الحرام ثم أخذ بيد النبى (ص) فحول وجهه الى الكعبة وحول من خلفه وجوههم حتى قام الرجال مقام النساء والنساء مقام الرجال فكان أول صلاته الى بيت المقدس وآخرها الى الكعبة فسمى ذلك المسجد مسجد القبلتين { وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } خصه (ص) اولا بالخطاب تعظيما لشأنه (ص) وتنبيها على اجابة مسؤله وعلى مراعاة رغبته وان الحكم له (ص) بالأصالة ولامته بالتابعية ثم عمم الحكم والخطاب للأمة والأمكنة كلها ان كان الرسول (ص) داخلا فى المخاطبين او صرف الخطاب عنه الى أمته وخاطبهم للاشارة الى عموم الحكم وأنه ليس له (ص) خاصة؛ وهذا الوجه هو الانسب، لأنه تعالى كرر هذا الحكم وفى كل من مراتب التكرار ذكر الرسول (ص) وحده ثم ذكر الأمة وعلق الحكم حين ذكر الرسول (ص) على ما يناسب شأنه وحين ذكر الامة على ما يناسب شأنهم كما سنذكره { وإن الذين أوتوا الكتاب } والمراد بالكتاب الشريعة الالهية من اى نبى كانت او كتاب التوراة والانجيل والجملة حال او عطف باعتبار المعنى كأنه قال: فانه حق من ربكم { وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه } اى التحويل او التوجه او شطر المسجد او المسجد من حيث التوجه { الحق من ربهم } لأنهم أهل شرائع الهية وكل من دخل فى شريعة الهية يعلم ان احكام كل شريعة مغايرة لشريعة أخرى، وبعض ما فى شريعة ينسخ بشريعة اخرى على ان اهل الكتاب قرأوا فى كتبهم وسمعوا من أحبارهم بأخبار أنبيائهم أن محمدا (ص) يصلى الى القبلتين { وما الله بغافل عما يعملون } وعد ووعيد للمقر والمنكر، وقرئ يعملون بالغيية.
[2.145]
{ ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية } معجزة مقترحة لهم او غير مقترحة { ما تبعوا قبلتك } لأنهم أصحاب النفس والنفس كالشيطان من فطرتها عدم الانقياد، وطلب الآية ليس الا للفرار من الانقياد ولو اتيت بالآية المقترحة لما انقادت واعتذرت بعذر آخر واقترحت آية أخرى وهذا قطع لأطماع المؤمنين عن اتباع أهل الكتاب لهم { ومآ أنت بتابع قبلتهم } قطع لأطماعهم عن متابعته (ص) قبلتهم فانهم قالوا: لو كنت ثابتا على قبلتنا لكنا نرجو ان تكون صاحبنا الذى ننتظره { وما بعضهم } كالنصارى بتابع { قبلة بعض } كاليهود فان اليهود كما قيل تستقبل الصخرة والنصارى مطلع الشمس { ولئن اتبعت أهواءهم } خطاب له (ص) والمقصود أمته (ص) كسابقتها فان المؤمنين لرغبتهم فى اسلام اهل الكتاب كانوا يودون لو كان رسول الله (ص) بقى على قبلتهم حتى يسلموا { من بعد ما جآءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين } قطع لاطماع المؤمنين عن بقائه (ص) على قبلتهم واتباعه (ص) لأهواءهم.
[2.146]
{ الذين آتيناهم الكتاب } جواب لسؤال مقدر ولذا لم يأت بأداة الوصل كأنه قيل: الا يعرف أحد منهم محمدا (ص) وقبلته؟ - فقال الذين آتيناهم الكتاب يعنى أحبارهم ولذا نسب الفعل الى نفسه تشريفا لهم ونسب الكتمان الى فريق منهم { يعرفونه } اى محمدا (ص) او تحويله الى قبلة اخرى فى صلاته { كما يعرفون أبناءهم } فى منازلهم بحيث لا يمكن الشك والريبة لهم { وإن فريقا منهم } وهم الذين عاندوا الحق عن علم لمحض اللجاج { ليكتمون الحق وهم يعلمون } الحق او ان محمدا (ص) نبى، او المراد أنهم علماء على ان يكون المفعول منسيا.
[2.147-148]
{ الحق من ربك } مبتدأ وخبر جواب لسؤال مقدر كأنه (ص) قال فما أفعل؟ - فقال تعالى: { الحق من ربك } اى اثبت عليه ولا تغتم بكتمانه وقرئ الحق بالنصب؛ على ان يكون مفعول يعلمون { فلا تكونن من الممترين ولكل وجهة هو موليها } الضمير لله او لكل والتولية بمعنى الاقبال والادبار وبمعنى التوجيه وقرئ لكل وجهة بالاضافة وقرئ هو { موليها } بالألف اسم مفعول؛ والآية بتنزيلها رد على من أنكر التوجه الى الكعبة فى الصلاة من أهل الكتاب ومن ضعفاء المسلمين والمعنى لكل أمة قبلة مخصوصة بها تلك الامة، والله موليها اليها، فاستبقوا الخيرات ولا تشتغلوا بالقول فى أمر القبلة، وبتأويلها رد على من أنكر الولاية وتوجه النفوس الى القلب وصاحب القلب كالعامة، وترغيب فى التوجه من الجهات النفسانية الفانية الى الجهة القلبية الاخروية الولاية الباقية والمعنى لكل صنف او فرد وجهة يتوجه اليها ولا ينفك احد منكم عن التوجه الى جهة من الجهات فتوجهوا الى ما ينفعكم ويبقى معكم وهو جهة القلب التى لا يمكن التوجه اليها الا بقبول الولاية فاستبقوا الولاية التى هى اصل جميع الخيرات ولذا فسر الخيرات بالولاية فى الخبر، وسيأتى بيان للخير وأن أصل الخير والحسن والحق والصلاح هى الولاية، وكل ما كان مرتبطا بالولاية كان خيرا وحسنا كائنا ما كان، وكلما لم يرتبط بالولاية لم يكن خيرا كائنا ما كان. { أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا } استئناف فى مقام التعليل يعنى اينما تكونوا من جهات النفس ومقامات الانسان والشيطان والسباع والبهائم يأت بكم الله؛ وهذا يقتضى استباق الخيرات او الأمر بالاستباق حتى تكونوا مرضيين عنده، وورد فى أخبار كثيرة ان المراد أصحاب القائم (ع) وأنهم المفتقدون من فراشهم المصبحون بمكة وهذا وجه من وجوه تأويله { إن الله على كل شيء قدير } فيقدر على جمعكم فى مكان واحد ومقام واحد ومحشر واحد مع اختلافكم فى المكان والمقام.
[2.149]
{ ومن حيث خرجت } للسفر فى البلاد وللحركة فى الشؤن والتقلب فى الاحوال { فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه } اى شطر المسجد او المسجد من حيث التوجه اليه او التوجه الى شطر المسجد { للحق } اى الثابت { من ربك } او الحق الذى هو غير الباطل حال كونه من ربك على ان لا يعتبر فيه معنى الوصفية والجملة حالية، او معطوفة على مقدر، او باعتبار المعنى والتقدير فانه فرضك وانه للحق من ربك وهذا المعنى مستفاد من السابق { وما الله بغافل عما تعملون } قرئ بالياء وبالتاء.
[2.150]
{ ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } ولما كان المقام مقام السخط على أهل الكتاب الكاتمين لوصف محمد (ص) وموطنه ومهاجره وقبلتيه وكان ترك القبلة التى كانوا عليها مدة أربع عشرة سنة وأشهرا مظنة الانكار من ضعفاء المسلمين ومورد الحجة المرضية عند ضعفاء العقول من المعاندين والمسلمين ناسبه التأكيد والتكرار ووضع الظاهر موضع المضمر كما فعل تعالى شأنه بتكرار الامر بالتولية نحو المسجد الحرام وتكرار قوله من { حيث خرجت } ، { وحيث ما كنتم } ، { وما الله بغافل عما تعملون } ، وعلم أهل الكتاب مع كتمانهم وأتى تعالى حين أمر الرسول (ص) بتولية وجهه شطر المسجد بقوله: من حيث خرجت، وحين أمر الأمة بقوله: { وحيث ما كنتم } للاشعار بأن محمدا (ص) لا مقام له فى مقام وشأن بل هو دائم السير والحركة وأن أمته (ص) بالنسبة اليه كأنه لا حركة لهم من مقام الى مقام آخر، ومن هذا يعلم ان الخطاب فى قوله: { وحيث ما كنتم } خاص بأمته من غير مشاركته لهم { لئلا يكون للناس عليكم حجة } تعليل للامر بالتولية او للتولية والمعنى أمرناكم بالتوجه الى الكعبة لئلا يرد عليكم من معانديكم حجة صحيحة وهى ان من علامات النبى المبعوث فى آخر الزمان الصلاة الى الكعبة او الى القبلتين، وحجة كاسدة وهى انه لو كان نبيا لما تبع قبلة الغير وانه لو كان ديننا باطلا كان قبلتنا باطلة { إلا الذين ظلموا منهم } اى وضعوا الشيء فى غير موضعه فانهم يوردون عليك حجة باطلة هى أنه لو كان الصلاة الى بيت المقدس باطلة لكان صلاتهم فى المدة الماضية باطلة، ولو كان صحيحة لكانت صلاتهم الى الكعبة باطلة { فلا تخشوهم } فان حجتهم داحضة ومطاعنهم غير ضارة { واخشوني } فانظروا الى أمرى ونهيي ولا تنظروا الى غيرى { ولأتم نعمتي عليكم } باقبالكم الى الكعبة التى هى ظهور القلب وصورته كما سيأتى ان شاء الله والاقبال الى الكعبة منبه على الاقبال الى القلب، ومؤد اليه وتمام النعمة فى الاقبال الى القلب ولذا قال: { ولعلكم تهتدون } الى القلب الذى هو عرش الرحمن من الاقبال الى الكعبة التى هى صورته.
[2.151]
{ كمآ أرسلنا } يعنى اتم نعمتى اتماما مثل ارسال الرسول، او تهتدون اهتداء مثل الأهتداء بارسال الرسول، او هو متعلق بقوله: { فاذكرونى } ، او { أذكركم } ، والفاء زائدة، او متعلق بمحذوف يفسره المذكور والمعنى اذكرونى ذكرا يوازى نعمة ارسال الرسول المستتبع لجميع الخيرات ، او { أذكركم } مثل ذكركم بارسالنا { فيكم } لا فى غيركم { رسولا منكم } يشابهكم فى الجسد والبشرية لا من غيركم من أصناف الملائكة وغيرهم حتى تستوحشوا منه يستتبع نعما جليلة فانه { يتلوا عليكم آياتنا } التدوينية فينبهكم بها ويعلمكم بها آياتنا الآفاقية والانفسية او يتلو عليكم آياتنا التدوينية والاحكام الشرعية ويتلو عليكم ويذكر لكم آياتنا الآفاقية والانفسية { ويزكيكم } يطهركم من الاخلاق الرذيلة والنقائص البشرية او يحملكم على الطهارة عن النجاسات الشرعية والادناس العرفية بتأسيس آداب النظافة او ينميكم فى ذاتكم وصفاتكم او يحملكم على تأدية زكاة أموالكم وأبدانكم، او يصلحكم ويجعلكم متنعمين او يعطشكم لامور الآخرة { ويعلمكم الكتاب والحكمة } قد سبق بيان الكتاب والحكمة { ويعلمكم } من الامور الغيبية { ما لم تكونوا } بقوتكم البشرية { تعلمون } بالفكر والنظر والتعلم البشرى مما ذكر من اوصاف الجنات الصورية التى أنكرها أكثر الفلاسفة ومن دقائق الحكم المودعة فى الأحكام الشرعية من العبادات والمعاملات ومن كيفية ارتباط الأعمال البدنية بالامور الغيبية والاخلاق النفسية فانه لا طريق للبشر الى ادراك هذه الا بطريق الوحى ولذا أنكر الفلاسفة الذين يعدون أنفسهم من العلماء أكثر العوالم الغيبية وأكثر الاحكام الشرعية وأنكر الدهرية والطبيعية كل الامور الشرعية والعوالم الغيبية. وقدم التزكية على تعليم الكتاب والحكمة هاهنا وفى سورة آل عمران فى قوله تعالى:
لقد من الله على المؤمنين
[آل عمران:164]؛ الآية، وفى سورة الجمعة فى قوله تعالى:
هو الذي بعث في الأميين
[الجمعة:2]؛ الآية بخلاف دعوة ابراهيم (ع) التى سبقت للاشعار باجابة دعاء ابراهيم (ع) والتفضل عليه (ع) بالزيادة على مسؤله فان التعليم الذى هو قبل التزكية ليس الا بالعلم التقليدى الذى يكون عادية للعالم به بخلاف التعليم الذى هو بعد التزكية فانه يكون بالعلم التحقيقى بمراتبه من علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين ولهذا أضاف على دعائه قوله تعالى: { ما لم تكونوا تعلمون }.
[2.152]
تحقيق الذكر ومراتبه وفضائله
{ فاذكروني } باللسان جهرا ودون الجهر وبالجنان سرا وعند الفعال بتذكر الامر والنهى وعند النعم بالشكر { أذكركم } الذكر بالكسر حفظ الشيء فى الخاطر ويستعمل فى اجرائه على اللسان وفى الصيت والشرف وقوله { وانه لذكر لك ولقومك } يحتملهما واطلاقه على المعانى الثلاثة بمناسبة التذكار فى الخاطر، والآيات والاخبار الدالة على فضيلة ذكر الله كثيرة وكفى فى فضله هذه الآية الدالة على ايراث ذكر العبد لله ذكر الله له؛ ولا شرف أشرف منه، وما ورد فى عدة اخبار قدسية من قوله تعالى:
" انا جليس من ذكرنى "
؛ يدل على أنه لا شرف أشرف منه وروى عن الصادق (ع) انه قال: من كان ذاكرا لله على الحقيقة فهو مطيع، ومن كان غافلا عنه فهو عاص، والطاعة علامة الهداية والمعصية علامة الضلالة، وأصلهما من الذكر والغفلة، وهذا الخبر يدل على ان الطاعات بذكر الله طاعات واذا كانت خالية عن ذكر الله بان كان العابد غافلا عن الله حين العبادة كانت معصية، وروى عن الباقر (ع) انه قال: لا يزال المؤمن فى صلاة ما كان فى ذكر الله قائما كان او جالسا او مضطجعا؛ ان الله سبحانه يقول:
الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنآ ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار
[آل عمران:191]، وهذا يدل على ان ذكر الله هو الصلاة او هو حقيقة الصلاة وروحها، والصلاة قالبه ولذا كانت أكبر من الصلاة، والآيات الدالة على النهى عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه والامر بالأكل او اباحة الأكل مما ذكر اسم الله عليه اذا عمم الأكل والآكل والمأكول تدل على ان ذكر الله هو المحلل والمبيح للاشياء والافعال وبدونه لا يحل شيء منهما فذكر الله حقيقة الطاعات وغايتها ومصحح العبادات ومحلل الاشياء ومبيح الافعال، وغاية الذكر ظهور المذكور فى ملك الذاكر وفناء الذاكر بحيث لا يبقى منه ذات وأثر وذكر ويبقى المذكور في ملك الذاكر قائلا:
لمن الملك اليوم
[غافر: 16]؟ - مجيبا: { لله الواحد القهار }.
وللذكر بحسب القرب والبعد من تلك الغاية مراتب وامهاتها اربع ولكل منها مراتب ودرجات:
واولى المراتب الاربع الذكر اللسانى وهو اجراء المذكور باسمائه وأوصافه على اللسان ومراتب هذا الذكر اذا لم يكن غلافا للشيطان بحسب غفلة الذاكر عن المذكور وتذكره له بدرجات التذكر وحضور المذكور فى قلب الذاكر وحضور الذاكر عند المذكور باستيلاء المذكور عليه بحيث يكون المذكور اصلا والذاكر تابعا، وبحسب اتحاده مع المذكور وفنائه التام فيه وبقاء المذكور وحده وبقاء الذاكر بعد الفناء ببقاء المذكور، وكذا بحسب اقترانه بالذكر القلبى كثيرة، ودرجات كل مرتبة منها ايضا كثيرة.
وثانيتها الذكر القلبى الذى هو مصطلح الصوفية ويسمونه بالذكر الخفى ويسمون الذكر اللسانى بالذكر الجلى وله أيضا مراتب ودرجات بحسب اقترانه بالذكر اللسانى وعدمه، وتذكر الذاكر للمذكور وعدمه، وبحسب الحضور والاتحاد والفناء فى المذكور والبقاء بعد الفناء وعدمه.
وثالثتها الذكر النفسى وهو تذكر المذكور فى النفي وهو ايضا له مراتب ودرجات بحسب الاقترانات المذكورة وعدمها.
ورابعتها تذكر المذكور عند كل فعل ونعمة بتذكر أمره ونهيه وشكره وله ايضا مراتب ودرجات.
والذكر اللسانى والقلبى لما كانا من العبادات والعبادات لا بد من أخذها من صاحب الاجازة الشرعية اذا لم يكن العابد مجازا والا لم تكن مقبولة وافقت ام خالفت كما تقرر فى الفقه اذا لم يؤخذا من صاحب الاجازة لم يكن لهما اثر بل نقول: ان الشيطان قد يترصد العابد والذاكر الغير الآخذ من صاحب الاجازة فيخلى الاسماء الالهية الجارية على لسانه من معناها ويجعل نفسه فيها فيصير الذاكر ذاكرا للشيطان وهو يحسب أنه ذاكر لله ويلوى لسانه بألفاظ يظنها اسماء لله وما هى بأسماء لله بل هى أسماء للشيطان فيطرد بالذكر من باب الرحمن وهو يحسب انه يحسن صنعا، فالذى ينبغى للعابد الاهتمام بتصحيح تقليده اولا ثم الاقبال على العبادة به واما الاحتياط فشروط صحة العمل به كثيرة، وسببية ذكر العبد لله لذكر الله للعبد كما يستفاد من الآية ومن الاخبار القدسية وغيرها مع أنه ما لم يذكر الله العبد لا يذكر العبد الله انما هى باعتبار مرتبة من ذكر الله للعبد نظير ما مضى فى توابيته تعالى فان ذكره تعالى للعبد بالتوفيق سبب لذكر العبد لله، وذكر العبد لله سبب لذكر الله له بالجزاء، وذكر الله له بالجزاء سبب لاشتداد ذكره لله، واشتداد ذكره لله سبب لذكر آخر من الله، وهكذا، وذكر العبد لله قائم بذكر الله للعبد فهو ذكر من الله للعبد لكن فى مقام العبد وقد ذكر فى الاخبار وفى كلمات الابرار تفاضل فى الاذكار الخفية والجلية فليعلم ان التفاضل قد يعتبر بحسب اضافة الاذكار الى الاشخاص المختلفة والاحوال المختلفة لشخص واحد، وقد يعتبر بينها بحسب اعتبارها فى أنفسها فقد يكون الذكر الفاضل فى نفسه غير فاضل بالنسبة الى شخص ولما كان بناء الدين وبناء السلوك على التبرى والتولى كان الذكر المشتمل على النفى والاثبات أفضل من غيره فى نفسه، وأفضل الاذكار المشتملة على النفى والايجاب: لا اله الا الله؛ فانه جامع للنفى والاثبات وحافظ لجميع مراتب الوجود مع نفى الاستقلال عنها واثبات للواحد الاحد بجميع صفاته وليس هذا الا شأن النبى الذى هو خاتم الكل كما قال (ص):
" اوتيت جوامع الكلم "
؛ ونقل ان لا اله الا الله خاصة بهذه الامة { واشكروا لي } الشكر ملاحظة انعام المنعم فى النعمة وملاحظة حق المنعم فى الانعام، ولذا فسر بتعظيم المنعم لاجل الانعام ويلزم ملاحظة حق المنعم فى الانعام وفى النعمة صرف النعمة لما أنعمها لاجله، ولهذا قد يفسر بصرف النعمة فيما خلقت لأجله { ولا تكفرون } المراد بالكفر هاهنا كفر النعم وهو ستر الانعام وحق المنعم فى النعمة، وايراث الشكر ازدياد النعم وايجاب الكفر زوالها مما كثرت به الآيات والاخبار والحكايات والامثال فليداوم العاقل الشكر وليحذر الكفران.
[2.153]
{ يآأيها الذين آمنوا } تشريف للمؤمنين بالخطاب لهم بعد اظهار الامتنان عليهم بنعمة الرسول واستتباعه للنعم الجليلة { استعينوا } فى ذكرى وشكرى او فى جملة ما ذكر من ترك القبلة المعتادة والانصراف الى غير المعتادة والثبات على الحق واستباق الخيرات وعدم الخشية من الناس والخشية من الله والاهتداء والذكر والشكر، او فى جملة ما يهمكم من معاشكم ومعادكم وجملة ما يحزنكم ويجزعكم { بالصبر والصلاة } وقد مضى بيان للآية عند قوله:
واستعينوا بالصبر والصلاة
[البقرة : 45]؛ الآية { إن الله مع الصابرين } معية رحيمية خاصة بخواص المؤمنين لا معية رحمانية قيومية حاصلة لكل موجود ولا معية رحيمية عامة لكل مؤمن بايع ولى أمره ولكل مسلم بايع نبى وقته فان الانسان كلما ازداد قربه من الله حصل لله معه معيه أخرى غير معيته الاولى وما قيل فى الفارسية:
بيزارم ازآن كهنه خدائى كه تو دارى
هو روز مرا تازه خداى دكر استى
اشارة الى تجدد معيته وتعددها وليس المراد تجدد الآلهة روى عن الصادق (ع) انه قال فى كلام له: فمن صبر كرها ولم يشك الى الخلق ولم يجزع بهتك ستره فهو من العام؛ ونصيبه ما قال الله تعالى:
وبشر الصابرين
[البقرة: 155] اى بالجنة، ومن استقبل البلايا بالرحب وصبر على سكينة ووقار فهو من الخاص؛ ونصيبه ما قال الله تعالى: { إن الله مع الصابرين }.
[2.154]
{ ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله } كل عمل ينتهى به الانسان الى الله تعالى فهو سبيل الله، وكلما ينتهى به الى الشيطان فهو سبيل الشيطان وسبيل الشيطان سبيل الله بوجه وبحسب التنزيل فالمراد بالظرف ظرفية مجازية او ظرفية حقيقية بتقدير مضاف اى فى زمان سبيل الله او مكانه؛ نقل أن الآية نزلت فى شهداء بدر وكانوا اربعة عشر؛ ستة من المهاجرين وثمانية من الانصار وكانوا يقولون: مات فلان وفلان فأنزل الله الآية وبحسب التأويل فالسبيل الى الله هو الولاية وطريق القلب والمعنى على هذا: ولا تقولوا لمن يقتل عن الحياة الحيوانية حال كونه فى سبيل الله او لا تقولوا لمن يقتل عن الانانية والحياة الشيطانية فى سبيل الله على ان يكون ظرفا لهذا القتل { أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون } لان حياتهم حياة أخروية وشعوركم شعور دنيوى ولا سنخية بين المدارك الدنيوية والمدركات الاخروية.
[2.155]
{ ولنبلونكم } لنختبرنكم او لنصيبنكم { بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين } نسب الى على (ع) انه قال: ان الله يبتلى عباده عند الاعمال السيئة بنقص من الثمرات وحبس البركات واغلاق خزائن الخيرات ليتوب تائب ويقلع مقلع ويتذكر متذكر ويزدجر مزدجر. وعن الصادق (ع) ان هذه علامة قيام القائم (ع) تكون من الله تعالى عز وجل للمؤمنين قال { بشيء من الخوف } من ملوك بنى امية فى آخر سلطانهم { والجوع } بغلاء اسعارهم { ونقص من الأموال } فساد التجارات وقلة الفضل، ونقص من { الأنفس } الموت الذريع ونقص من الثمرات بقلة ريع ما يزرع، وبشر الصابرين عند ذلك بتعجيل خروج القائم (ع) ثم قال: هذا تأويل قال الله تعالى:
وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم
[آل عمران: 7].
[2.156]
{ الذين إذآ أصابتهم مصيبة } بشيء يؤذيه وأقله ان شاكته الشوكة خرجوا من انانيتهم واستسلموا لخالقهم و { قالوا } بلسان أبدانهم وأحوالهم { إنا لله } مبدء وملكا { وإنآ إليه راجعون } فى المنتهى والاخبار فى فضل الصبر على المصيبة والاسترجاع عندها كثيرة جدا، ولما كان المصائب الواردة على الانسان لا مداخله لنفسه واختياره فيها حتى يجعل مآربه النفسانية غاية لها كان انموذج اجرها مشهودا له من كسر انانيته وكبريائه والتضرع الى ربه والالتجاء اليه والقرب منه بخلاف العبادات التى يعملها الانسان باختياره وينظر فيها الى أغراض نفسه فانه لا يجد فيها أجرا وقربا ولذة.
[2.157]
{ أولئك عليهم صلوات من ربهم } جمع الصلاة بمعنى الثناء من الله والتشريف والتعظيم منه يعنى تشريفات وتفضيلات وهذا لظاهره واجر قبوله الرسالة { ورحمة } وهذا لباطنه واجر قبول الولاية { وأولئك هم المهتدون } الى ما ينبغى ان يهتدى اليه او الى تسهيل المصيبة بالتسليم لأمر الله.
[2.158]
{ إن الصفا والمروة } ابتداء كلام منقطع بظاهره عن سابقه لبيان حكم من الأحكام التكليفية ولذا قطعه من سابقه، والصفا والمروة جبلان بمكة يسعى بينهما نحو الهرولة وهو من مناسك الحج، والصفا الحجر الاملس يذكر ويؤنث ويستعمل فى المفرد وفى الجمع، والمرو الحجارة البيض البراقة او أصلب الحجارة، وفى الخبر انما سمى الصفا صفا لأن آدم المصطفى هبط عليه فقطع للجبل اسم من اسم آدم (ع) وهبطت حواء على المروة فسميت مروة لان المرأة هبطت عليها فقطع للجبل اسم من اسم المرأة؛ وهذا يناسب التأويل فان الصفا كما سيجيء فى تفسير:
إن أول بيت وضع للناس
[آل عمران: 96]؛ فى سورة آل عمران الجهة العليا من النفس، والمروة الجهة السفلى منها التى تلى الحيوانية والطبع وهما باعتبار مهبط لآدم (ع) وحواء وباعتبار متحدتان معهما ولهذا الاتحاد اخذ اسم لهما من اسمهما، وباعتبار هذا التأويل يرتبط الآية بسابقها، والسعى فى المسعى كناية عن لزوم تردد الانسان مضطربا بين صفا النفس الانسانية ومروة النفس الحيوانية فانه بالتردد بينهما وقضاء وطر قواهما يبقى الانسان فى هذا البنيان وبذلك البقاء يستكمل فى ذاته وصفاته واتباعه، وبهذا الاستكمال يستحق الحضور عند الرحمن والخلة والامامة فكما ان الصفا والمروة والسعى بينهما من مناسك حج البيت المبنى من الاحجار كذلك الصفا والمروة النفسانيتان والتردد بنحو الاضطراب بينهما لاصلاح حال أهلهما وقضاء وطرهم { من شعآئر الله } الشعائر جمع الشعار بكسر الشين بمعنى العلامة، او جمع الشعار بالكسر والفتح بمعنى الثوب الملاصق بالبدن؛ او جمع شعار الحج بالكسر بمعنى مناسكه، او جمع الشعيرة بمعنى معظم المناسك التى ندب الله اليها { فمن حج البيت أو اعتمر } الحج القصد والكف والقدوم والتردد وقصد مكة للنسك، وفى الشرع اسم للنسك المخصوصة المقررة التى هى فى مقابل العمرة ويناسبه كل من معانيه اللغوية، والعمرة الزيارة وفى الشرع اسم للمناسك المخصوصة التى هى فى مقابل الحج { فلا جناح عليه أن يطوف بهما } قيل كان على الصفا والمروة صنمان لقريش كانوا فى الجاهلية اذا سعوا بينهما مسحوا الصنمين فلما جاء المسلمون وكسر الاصنام تحرج المسلمون ان يطوفوا بهما لذلك فنزلت الآية ولا دلالة للآية على نفى الوجوب فانها تفيد الجواز والجواز أعم من الوجوب ويستفاد الوجوب من الاخبار فالتمسك بالآية على نفى الوجوب كما تمسك بها بعض العامة ليس فى محله، ونسب الى الصادق (ع) انه سئل عن السعى بين الصفا والمروة فريضة ام سنة؟ - فقال (ع): فريضة، قيل: اوليس قال الله عز وجل: فلا جناح عليه ان يطوف بهما؟ - قال كان ذلك فى عمرة القضاء ان رسول الله (ص) شرط عليهم ان يرفعوا الاصنام من الصفا والمروة فتشاغل رجل عن السعى حتى انقضت الايام وأعيدت الاصنام فجاؤا اليه فقالوا: يا رسول الله (ص) ان فلانا لم يسع بين الصفا والمروة وقد أعيدت الاصنام فأنزل الله عز وجل { إن الصفا والمروة } الى قوله: { فلا جناح عليه أن يطوف بهما } اى وعليهما الاصنام ونسب اليه (ع) أيضا ان المسلمين كانوا يظنون ان السعى بين الصفا والمروة شيء صنعه المشركون فأنزل الله هذه الآية ولا يبعد ان يقال: ان السعى بينهما بطريق الهرولة شيء يستقبحه العقول الجزئية ويستنكف منه النفوس الأبية فكان مظنة للتحرج لمن لا يدرك من الاشياء الا ظواهرها فرفع ذلك التحرج { ومن تطوع } تنفل { خيرا } صفة مفعول مطلق محذوف، او المعنى تطوع بخير، او هو مبنى على التجريد اى من عمل خير، او المراد بالخير الطواف والسعى، او مطلق مناسك الحج والعمرة، او مطلق الاعمال الحسنة فرضا كان ام ندبا { فإن الله } يجزيه بالخير لأنه { شاكر } لا يدع العمل الخير من العباد بلا جزاء { عليم } لا يعزب عنه عمل عامل.
[2.159]
{ إن الذين يكتمون مآ أنزلنا من البينات } اعلم أن أمثال هذه الآيات ما مضى منها وما يأتى نازلة فى شأن على (ع) وولايته سواء كان نزولها فى أهل الكتاب او فى غيرهم فان المقصود منها التعريض بولاية على (ع) فالمعنى ان الذين يكتمون ما أنزلنا على محمد (ص) من دلائل ولاية على (ع) التى لم يخف على احد بعد وفاة محمد (ص) { والهدى } المطلق الذى هو ولاية على (ع) فانه حقيقة الهدى، وكلما يدل على الولاية فهو هدى باعتبار انتهائه الى الهدى المطلق { من بعد ما بيناه } اى الهدى الذى هو الولاية { للناس في الكتاب } اى القرآن وأخبار الرسول { أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون } اى الذين يتأتى منهم اللعن من الملائكة والثقلين حتى أنفسهم فانهم يقولون: لعن الله الكافرين كما فى تفسير الامام (ع) او من كل شيء فان الكل باعتبار شعورهم بقدر وجودهم يلعنون الملعونين، وهذا لا ينافى جريانه فى أهل الكتاب الكاتمين لامر محمد (ص) وعلى (ع) وفى سائر العلماء الكاتمين لمطلق الحق وفيمن علم شيئا من الحق فكتمه، ونسب الى ابى محمد (ع) انه قال: قيل لامير المؤمنين (ع): من خير خلق الله بعد ائمة الهدى ومصابيح الدجى؟ - قال: العلماء اذا صلحوا، قيل: فمن شر خلق الله بعد ابليس وفرعون ونمرود وبعد المتسمين بأسمائكم والمتلقبين بألقابكم والآخذين لامكنتكم والمتأمرين فى ممالككم؟ - قال: العلماء اذا فسدوا؛ هم المظهرون للاباطيل الكاتمون للحقائق وفيهم قال الله عز وجل:
أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون
[البقرة: 159]، ونسب الى الباقر (ع) انه قال: ان رجلا اتى سلمان الفارسى رحمه الله فقال: حدثنى فسكت عنه؛ ثم عاد فسكت ثم عاد فسكت فأدبر الرجل وهو يتلو هذه الآية: ان الذين يكتمون (الى آخره) فقال له: أقبل انا لو وجدنا أمينا حدثناه (الحديث).
[2.160-162]
{ إلا الذين تابوا } عن الكتمان { وأصلحوا } ما أفسدوه بالجبران { وبينوا } ما كتموه { فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم إن الذين كفروا } استئناف فى مقام التعليل ولذا قطعه عما قبله والمراد اصالة الكفر بولاية على (ع) { وماتوا وهم كفار } يعنى ان الكفار حين الموت وظهور على (ع) عليهم يعرض عليهم الولاية فيقبل بعضهم ويرد بعضهم فلا يعلم حال الكافر بعد الموت الا المطلع على خفايا الاحوال، فلا يجوز لعن الكافر بعد موته الا لمن يعلم حاله، والا لمن سمع ممن يعلم حاله جواز لعنه، ولما كان هذا الحكم تعليلا للسابق ومن متعلقاته والمتكلم فى مقام السخط كلما ازداد ذمه للمغضوب عليه اشتد غضبه، وكلما اشتد غضبه ازداد فى بسط الكلام وتغليظ الحكم وتأكيده بسط تعالى فى الكلام وأكد فقال تعالى: { أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها } فى اللعنة او فى نار جهنم { لا يخفف عنهم العذاب } بعد دخولهم فى العذاب { ولا هم ينظرون } يمهلون قبل دخول العذاب او لا يمهلون فى العذاب برفع العذاب او تخفيفه ليعتذروا، او لا ينظر اليهم.
[2.163]
{ وإلهكم إله } جملة مستأنفة لابداء حكم آخر على مجيء الواو للاستئناف او حالية والمعنى أنهم مخلدون فى العذاب لا يخفف عنهم ولا يمهلون والحال ان لا اله سوى الاله المعذب يدفع عنهم العذاب ويخلصهم من الاله المعذب، والاله مأخوذ من اله بفتح العين بمعنى عبد فهو فعال بمعنى المفعول وجاء اله كفرح بمعنى تحير، وعليه؛ اشتد جزعه عليه، واليه؛ فزع ولاذ، والهه أجاره وآمنه، ويصح جعله مشتقا من الجميع؛ ومعنى الهكم اله أن ما جعلتموه معبودا مستحق للعبادة لا انه غير مستحق للعبادة { واحد } لا متعدد { لا إله إلا هو } يعنى لا مستحق للعبادة سواه حتى يكون معبودا لغيركم او يدافعكم عن الهكم { الرحمن } المفيض لوجود الاشياء كلها والمبقى لها والمعطى لما تحتاج هى اليه فى بقائها { الرحيم } المفيض للكمالات الاختيارية البشرية فاثبت ألا ألهة للاله المضاف الى المخاطبين ثم التوحيد ثم حصر الآلهة فيه وأثبت له المبدئية والمنتهائية والمالكية وهذه فى امهات صفاته تعالى وأقام البرهان عليه بقوله: { إن في خلق السماوات والأرض }
[2.164]
{ إن في خلق السماوات والأرض } فهو استئناف فى مقام التعليل وجمع السماوات لتعددها حقيقة بخلاف الارض وآيات خلق السماوات الدالة على صانع حكيم عليم قادر ذى عناية بالخلق رحمن رحيم كثيرة خارجة عن احصاء البشر وما أحصوه منها لا يحيط به البيان من وضع أفلاكها الكلية والجزئية المحيطة وغير المحيطة وحركاتها الجزئية والكلية المختلفة بالسرعة والبطوء والاقامة والاستقامة والرجعة والشرقية والغربية المنضبطة فى اختلافها المنوط بها نظام مواليد الارض من توليدها وبقائها واستكمالها فى ذاتها وصفاتها ووضع كواكبها واختلافها بالقرب والبعد من الارض وشدة النور وضعفه وعظم الجرم وصغره والتسخين والتبريد وظهور آثار منها فى الارضيات وغير ذلك مما فصل فى علم الهيئة والنجوم وأحكام النجوم وكذا آيات خلق الارض من تحيزها حول المركز بحيث يمكن تأثير السماويات فيها من جوانبها ودورانها حولها وتحيز الماء حولها وخروج بعض سطوحها عن الماء لامكان توليد المواليد البرية عليها وتوليد الماء فى جوفها ووضع الجبال عليها وانحدار سفوحها لامكان جريان العيون عليها وامكان اجراء القنوات فيها وجعلها غير لينة غامرة وغير صلبة صعبة البناء عليها متماسكة يتماسك البناء عليها وغير ذلك من المنافع الكثيرة التى لا يحصيها الا الله والآيات المستنبطة من كيفية تعانقهما ومحبتهما وتأثير كل وتأثرها من الاخرى كثيرة ايضا. { واختلاف الليل والنهار } اى تعاقبهما ومجيء كل خلف الآخر او اختلاف كل منهما فى ازمان السنة بالزيادة والنقصان او اختلافهما بزيادة أحدهما على الآخر فى أغلب الاوقات وباختلافهما فى الصفات والآثار آيات عديدة دالة على صانع حكيم قادر رحمن رحيم { والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس } يعنى فى جعل الماء مائعة سائلة وجعل مواد الفلك بحيث تطفو على وجه الماء وهدايتكم الى ترتيبها بحيث يجريها الرياح على وجه الماء غير خارجة عن اختياركم وفى الآثار المترتبة على الفلك وسرعة سيرها مع عدم احتياجها الى مؤنة من حمل اثقال كثيرة الى بلاد بعيدة آيات عديدة دالة على صانع حكيم قدير ذى عناية بالخلق { ومآ أنزل الله من السمآء } من جهة الفلك او من جهة العلو { من مآء فأحيا به الأرض بعد موتها } بتهييج قواها وانبات نباتها وتوريق أشجارها { وبث } عطف على أنزل الله اى فيما بث من الحشرات والانعام والسباع وأصناف الانسان، او عطف على أحيا اى فيما أنزل من السماء فأحيا بسببه الارض وبث بسببه { فيها من كل دآبة } ولفظة من على الاول بيانية، وعلى الثانى تبعيضية ووجة سببية المطر لبث الدواب ان توليد المتولدات من الحشرات انما يكون برطوبة الارض والهواء الممتزجة بحرارة الشمس المختلطة بالاجزاء الارضية المتعفنة بسبب الحرارة وبقائها وبقاء المتولدات وتعيشها انما يكون بسبب كثرة نبات الارض الحاصلة من كثرة رطوبة الارض والهواء الحاصلة من كثرة المطر { وتصريف الرياح } الذى به تبديل الهواء حتى لا يركن فيتعفن فيفسد أمزجة الحيوان والنبات وحتى يذهب بالهواء العفن ويبرد ابدان الحيوان والنبات بتبديل الهواء المجاور المتسخن بالمجاورة والركون، وتنتفعون به فى معايشكم باجراء الفلك واقلال السحاب وتمييز الحبوب من الاتبان { والسحاب المسخر بين السمآء والأرض } بحيث يحمل الاجزاء الرشية المائية ويستحيل اليها اجزاء هوائية فيذهب بها الى مواضع أمره الله بالامطار فيها فيمطر بحيث ينتفع الارض به من أنواع المطر لا بحيث يفسد الارض وعماراتها ومواليدها وقد يأتى بالثلج فى وقته او بالبرد فى محل ينتفع به وقد يأتى بالمطر او الثلج او البرد بحيث يكون ضررها اكثر من نفعها اذا أراد الله بقوم ضرا { لآيات } دالة على صانع عليم حكيم قادر لا يشذ عن علمه شيء رحمن رحيم كما اشير اليها { لقوم يعقلون } يدركون بالعقول لا بالمدارك الحيوانية او لقوم صائرين عقلاء، والاتيان بالمضارع للدلالة على حدوث العقل بعد ان لم يكن لا لغير العقلاء ممن كانوا كالانعام او هم أضل فان العاقل يدرك من الاشياء دقائق الحكم المودعة فيها واسبابها ومسبباتها لا غيره.
[2.165-166]
{ ومن الناس من يتخذ } عطف على جملة الهكم اله واحد، او حال { من دون الله أندادا } قد فسر الآية الشريفة فى الاخبار بمنافقى الأمة والانداد برؤسائهم وعلى هذا فمعنى الآية من الناس من يتخذ اندادا لولى الامر حال كون الانداد بعضا من غير الله تعالى فى مظهره او من يتخذ من غير اذن الله اندادا، او من غير اذن الله اندادا لله فى مظهره { يحبونهم كحب الله والذين آمنوا } بالبيعة الخاصة الولاية وقبول الدعوة الباطنة { أشد حبا لله } فى مظهره الذى هو على (ع) من غيرهم ان محبتهم نفسانية عرضية لأن شأن النفس العداوة والبغضاء ومحبة المؤمنين عقلانية ذاتية { ولو يرى الذين ظلموا } انفسهم بمنعها عن حقوقها التى هى التسليم للولاية والقبول والتأثر منها واتباع ولى الامر والاستنارة بنوره، ولفظ لو للشرط وهو الظاهر او للتمنى { إذ يرون العذاب } اذ ظرف او اسم خالص مفعول به ليرى وعلى الاول فقوله تعالى { أن القوة لله جميعا } مفعول به ليرى او بدل من العذاب على ان يكون مفعول يرى محذوفا وعلى الثانى يكون بدلا من اذ يرون او من العذاب ومعنى كون القوة جميعا لله ان قدرة كل ذى قدرة رقيقة من القدرة المطلقة والرقائق متقومة بالمطلق، ونسبتها الى الممكنات اعتبارية لا حقيقة لها وقرئ { ترى } بالخطاب { ويرون } مبنيا للمفعول من ارى و { ان القوة } بكسران وكذا قوله تعالى { وأن الله شديد العذاب إذ تبرأ الذين اتبعوا } اذ ظرف لشديد العذاب، او لقوله لله، او ليرون، او بدل من العذاب، او من اذ الاولى؛ والمعنى لو يرى الذين ظلموا اذ تبرأ الذين اتبعوا المتبوعون، او الاتباع على قرأة المجهول والمعلوم { من الذين اتبعوا } الاتباع او المتبوعين على القراءتين { ورأوا العذاب } حال بتقدير قد او عطف على { تبرأ } او على { اتبعوا } الاول او الثانى { وتقطعت بهم الأسباب } جمع السبب وهو الحبل الذى يشد به الشيء ويجر { والاسباب } استعارة للوصلات التى بينهم من القرابات وصور المبايعات الدينية الناشئة من مقام أنفسهم الشيطانية والتناسبات الدنيوية، ولفظ { بهم } اما صلة تقطعت على ان يكون الباء للتعدية والمعنى شتتهم الاسباب التى كانت بينهم وكانت سببا لاجتماعهم وتؤلفهم فى الدنيا فانها كانت لاغراض فانية وبين نفوس هالكة وكانت مانعة عن الالفة الروحانية الباقية فصارت اسبابا للفرقة فى الآخرة او لفظ بهم حال عن الاسباب تقدم عليه والباء للالصاق.
[2.167]
{ وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة } الى الدنيا لو للتمنى ولذا نصب الفعل بعد الفاء فى جوابه { فنتبرأ منهم } هناك { كما تبرءوا منا } هاهنا { كذلك } اى مثل اراءة اتباعهم للرؤساء المضلين حسرة عليهم { يريهم الله أعمالهم } جميعا { حسرات عليهم } يعنى كما ان أصل اتباعهم لرؤسائهم كان سببا لبعدهم عن الله وقربهم الى دار العذاب فتحسروا عليه جميع أعمالهم التى عملوها كانت سببا لبعدهم وحسرة وندامة عليهم، ونسب الى الصادق (ع) أنه قال فى قوله عز وجل:
يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم
[البقرة: 167]، هو الرجل يدع ما له لا ينفقه فى طاعة الله بخلا ثم يموت فيدعه لمن يعمل فيه بطاعة الله او معصية الله فان عمل به فى طاعة الله رآه فى ميزان غيره فرآه حسرة وقد كان المال له، وان كان عمل به فى معصية الله قواه بذلك المال حتى عمل به فى معصية الله عز وجل، وهذا اشعار بوجه من وجوه التأويل فان الممسك بخلا ليس الا من اتباع الجهل وان كان بحسب الظاهر مؤمنا { وما هم بخارجين من النار } حال عن فاعل قال او فاعل اتبعوا او مفعول يريهم وفيه رد لتمناهم وتشديد عليهم بذكر تأبيد عذابهم.
[2.168]
{ يأيها الناس كلوا مما في الأرض } من انواع المأكول والمشروب ولا بأس بتعميم الاكل والآكل والمأكول فان القوى كلها لها أكل ومأكول خاصان بها، والمراد نفى البأس او ايجاب الاكل او استحبابه بحسب الاشخاص بالنسبة الى الاكل بالفم وسماع الاصوات الحسنة والنظر الى الامور المعجبة وشم الروائح الطيبة ولمس الملموسات الشهية وهو تعريض بمن يتحرج عن اكل الطيبات ولبس الملابس البهية وعن النكاح وغيرها من حظوظ النفس نعم صرف الهم اليها وجعلها غاية للخلقة او ترك اتباع الخلفاء او اتباع من لا يستأهل للاتباع والعداوة مع من يستأهل للاتباع كلها حرام وكلما فعل هذا التارك للاتباع كان حراما، سواء اكل الجريش او الشهى، وسواء لبس الخرق او الجميل، وسمع الصوت المنكر او الحسن وهكذا لكن ليس الحرمة بحسب ظاهر الشريعة، والتابع للامام (ع) اذا وجد ان ارتكاب شيء من ملاذ النفس يقوى دواعيه النفسانية ويضعف داعى العقل كان عليه الاجتناب منه وسنبين وجه اختلاف هذه الآية مع قوله تعالى
يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم
[البقرة: 172] { حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان } فى ترك الأكل والتحرج بالطيبات التى لم يحظرها الشريعة او فى الاكل كما نبينه.
بيان خطوات الشيطان
والخطوة اثر القدم او الفرجة بين القدمين والمراد بخطوات الشيطان الخيالات والخطرات الفاسدة والاهوية الكاسدة الناشئة منها واتباع خطواته فى المأكول تحصيله من غير وجهه وفى الاكل ان يؤكل المأكول حين كون الاكل تابعا لائمة الضلالة او معاندا لائمة الهدى او غافلا عن الاتباع لائمة الهدى وائمة الضلالة او تابعا لائمة الهدى غافلا عن التبعية وعن ذكر الله آكلا لمحض تشهى النفس من غير ملاحظة أمر من الله وقوة للبدن وابقاء لمركب الروح للعبادة وبالجملة الآكل اذا كان مسلما حقيقة او مؤمنا بالايمان الخاص وكان متذكرا لله وآكلا لامره تعالى واباحته تعالى لتقوية ظهره وبقاء بدنه للعبادة وتفريح نفسه بسبب الوصول الى حظوظها وكان المأكول مما أباح الشريعة كان أكله من غير اتباع لخطوات الشيطان، وان كان غير ذلك كان أكله باتباع خطوات الشيطان وكان غذاؤه مقويا للشيطان المغوى ومضعفا للملك الزاجر وقد ذكروا أن الاكل مع تشتت البال يورث التفرقة فى الخاطر ومع جمعيته يورث الاطمئنان وجمعية الخاطر، فاحذروا اخوانى من اتباع خطوات الشيطان فان اتباعه يجعله متمكنا منكم بحيث لا يمكنكم الفرار منه، وقد يؤول خطوات الشيطان بأئمة الضلالة فانهم المتحققون بخطوات الشيطان كأنه ليس فى وجودهم الا اثره { إنه لكم عدو مبين } ظاهر عداوته او مظهر لعداوته على من كان له جهة الهية لا على غيره.
اعلم ان الشيطان من عالم الظلمة وأن الظلمة ضد للنور ومفنية له كما ان النور ضد لها ومفنيها وان الانسان ببدنه ونفسه واقع بين عالمى النور والظلمة وقابل لتصرفها وان كل شيء يقتضى بالفطرة ان يصير مجاورة سنخه وان كل ذا شعور يقتضى بفطرته السعة والاحاطة بما يمكن له الاحاطة به ولهذا كان كل عاقل يطلب الاحاطة العلمية بما لم يعلمه وان اللطيفة السيارة الانسانية طليعة من عالم النور تنزلت منه وأشرقت على النفس الحيوانية والانسانية وهذه الطليعة ما دامت باقية لا يتيسر للشيطان التصرف التام فى الانسان، واذا انطفت صار ملك الانسان ملكا للشيطان من غير معارض، فاذا تحقق ذلك علم ان الشيطان عداوته للانسان ذاتية ظاهرة على من كانت هذه اللطيفة فيه باقية.
[2.169]
{ إنما يأمركم بالسوء } جواب للسؤال عن حاله مع الانسان او عن علة النهى عن اتباع خطواته، والسوء كل ما عده الشرع او العقل او العرف قبيحا لكن المراد منه هاهنا ما لم ينته فى القبح { والفحشآء } وهو ما انتهى من ذلك فى القبح { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } حقيقته او اثره النافع او الضار كان تنسبوا لحرمة او الاباحة فى شيء من الادوية او الاغذية الى الله تعالى من غير ان تعلموا أنه ضار او نافع.
تحقيق القول على الله بما لا يعلمه
وعلى هذا اذا علم الانسان أن هذا الدواء بحسب الاسباب الطبيعية مضر لشخص خاص او لعموم الناس لا مانع له من ان يقول: هذا حرام من الله لهذا الشخص او لعموم الناس، وان كان هذا يرجع الى ما علم حرمته من الشريعة بالضرورة، او { أن تقولوا على الله ما لا تعلمون } انتسابه الى الله من الاحكام الشرعية والاخلاق النفسية والعقائد الدينية وعلم ذلك اما بالوحى او بالاتصال الى عالم الامر او بالتقليد من صاحب الوحى او صاحب الاتصال؛ فصاحب الوحى لا ينطق عن الهوى بل ينطق عن وحى يوحى، وصاحب الاتصال هو الذى علم حقيقة الامر وآثاره فلا ينطق عن الهوى
أفتمارونه على ما يرى
[النجم: 12] وصاحب التقليد شأنه التسليم يقول:
كل من عند ربنا
[آل عمران: 7]، واما غير الثلاثة فلا يجوز له القول فى الضار والنافع من الاشياء ولا القول بالحل والحرمة فيها والظن لا يقوم هاهنا مقام العلم الا ان يدل دليل على خروجه من القضية الكلية القائلة بأن الظن لا يغنى من الحق شيئا والعامة العمياء القائلة بالظن والرأى والقياس والاستحسان قائلون على الله ما لا يعلمون واما الخاصة فليس شأنهم الا التسليم واتباع صاحب الوحى والاتصال وتقليدهم، نعم ان خرجوا من التسليم والتقليد واتبعوا الرأى والقياس واجترؤا على الفتيا من غير اذن واجازة من صاحب الاجازة كانوا مثلهم من غير فرق ولا يستعمل العلم فى الظن حتى يجوز ادعاء الظن من العلم هاهنا وظنية الطريق لا يفيد الا الظن بالحكم، والقطع بجواز العمل بالمظنون غير القطع بالحكم فنسبة المظنون الى الله قول على الله بما لا يعلم والتصويب ليس من مذهب الشيعة وقد صرح بعض العامة بأن فى هذه الآية منعا من اتباع الظن فى المسائل الدينية ولا حاجة لمن تأمل فيها ادنى تأمل الى بيان آخر ولكن لمزيد التوضيح نذكر قليلا مما ورد من المعصومين (ع ) فنقول: نسب الى الصادق (ع) أنه قال: اياك وخصلتين ففيهما هلك من هلك؛ اياك ان تفتى الناس برأيك او تدين بما لا تعلم، وعنه (ع): أنهاك عن خصلتين فيهما هلك الرجال، أنهاك ان تدين الله بالباطل وتفتى الناس بما لا تعلم، وعنه (ع) ان الله خص عباده بآيتين من كتابه ان لا يقولوا حتى يعلموا ولا يردوا ما لم يعلموا، قال الله تعالى:
ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق
[الأعراف: 169] وقال
بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله
[يونس: 39]، وعن الباقر (ع) من أفتى الناس بغير علم ولا هدى لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ولحقه وزر من عمل بفتياه، وعنه (ع) انه سئل ما حق الله على العباد؟ - قال: ان يقولوا ما يعلمون ويقفوا عندما لا يعلمون، وعن الصادق (ع) انه قال: قال رسول الله (ص):
" من عمل بالمقاييس فقد هلك وأهلك "
ومن أفتى الناس بغير علم وهو لا يعلم الناسخ من المنسوخ والمحكم من المتشابه فقد هلك وأهلك، وأمثال هذه الاخبار كثيرة جدا.
[2.170]
{ وإذا قيل لهم } عطف على محذوف جواب لسؤال مقدر كأنه قيل فما يفعل الذين يأمرهم الشيطان؟ - فقال: يتبعونه، { وإذا قيل لهماتبعوا مآ أنزل الله } فى ولاية على (ع) على ما هو المقصود من بيان حال المنافقين مع على (ع) { قالوا بل نتبع مآ ألفينا عليه آبآءنآ } ويجوز ان يكون عطفا على محذوف جوابا للسؤال عن حال السوء والفحشاء والقول على الله على ما سبق من التأويل { أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا } انكار وتوبيخ على تقليد من لا يميزه الانسان ولا يعلم حاله بأنه من أهل التحقيق والعلم الذين أغناهم الله بعلمهم من غيرهم، او من أهل التقليد العاقلين الذين لا يستقبح تقليدهم لاتباعهم للعاقل فان قوله تعالى { ولا يهتدون } نفى للاهتداء الى العاقل، وهذه الآية بيان لحال الناس من أهل كل مذهب الا من شذ وندر فان الكل ينادون بأعلى الاصوات بلسان الحال: انا لا نقدر على ترك اتباع ما وجدنا عليه آباءنا، لاتكالهم على التقليد وعلى ما رأوه من آبائهم واقرانهم وممن سموه عالما من زمان صغرهم من غير اعمال روية وتميز ونعم ما قيل:
خلق را تقليد شان بر باد داد
اى دوصد لعنت براين تقليدباد
[2.171]
{ ومثل الذين كفروا } عطف على جملة اذا قيل (إلى اخرها) ووضع الظاهر موضع المضمر اشعارا بأن من كان هذا جوابه كان كافرا، او حال والمعنى انهم قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا والحال أنهم كالبهائهم او آبائهم كالبهائم فى عدم التفطن { كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعآء وندآء } نعق بغنمه كمنع وضرب نعقا ونعيقا ونعاقا ونعقانا صاح بها وزجرها والمعنى مثل هؤلاء القائلين او آبائهم فى عدم قصد المعنى من كلماتهم كمثل داعى البهائم او رادعهم فى عدم قصد المعنى من ألفاظه سوى الدعاء او النداء والزجر او مثل القائلين او آبائهم فى عدم تفطن المعنى من كلمات الغير كمثل بهائم الذى ينعق بالبهائم التى لا تسمع من الالفاظ الا دعاء وزجرا، والمقصود ان مثل الكافرين بولاية على (ع) فى دعائك لهم الى ولايته كمثل بهائم الداعى التى لا تسمع الا دعاء ونداء، روى عن الباقر (ع) أنه قال: اى مثلهم فى دعائك اياهم الى الايمان كمثل الناعق فى دعائه المنعوق به من البهائم التى لا تفهم وانما تسمع الصوت ولا يلزم فى التشبيهات المركبة ان يصح التشبية بين اجزاء الطرفين فضلا عن التطابق فى الترتيب { صم بكم عمي } قد مضى بيان لهذه فى اول السورة { فهم لا يعقلون } لتنزلهم الى مقام المدارك الحيوانية وسدهم روازنها الى العقل.
[2.172]
{ يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم } نادى المؤمنين خاصة بعد نداء الناس اجمعين تشريفا لهم كأن نداء الناس كان تقدمة لندائهم ولذلك غير اسلوب الامر بالاكل بنسبة الرزق الى نفسه وايقاعه عليهم كأنهم المقصودون بايجاد المأكول وتقديم الطيبات وافادة كون الامر بالاكل للوجوب او الندب هاهنا بافادة الاباحة من رزقناكم بخلاف سائر الناس فانه لا يستفاد من امرهم الا الاباحة وبالترغيب الى الشكر بعد الامر بالأكل كأنهم لا حاجة لهم الى التحذير ولا خطوة للشيطان فيهم، والاتيان بالشرط التهييجى بعد الامر بالشكر وتعيين المحرمات كأنه لا حاجة لهم الى التحذير منها انما الحاجة الى تشخيص ما يحترز منه { واشكروا لله } المراد بالشكر هاهنا صرف النعمة فى وجهها لاستفادة ملاحظة المنعم والانعام فى النعمة من { رزقناكم } ولذا التفت من التكلم الى الغيبة كأنه قال بعد ملاحظة انعامنا فى النعمة ينبغى التوجه الى ما خلقت له بالانصراف من الحضور والتوجه الى ما خلقت لاجله { إن كنتم إياه تعبدون } شرط تهييجى وتنبيه على أن المؤمن ينبغى ان يكون كون عبادته مقصورة على معبوده لا ينظر فى عبادته الى غيره من الرضا والقرب والنعيم والخلاص من الجحيم والاغراض المباحة الفانية والاغراض الفاسدة المحرمة من الرياء والسمعة والمناصب والجاه والتحبب الى الناس وغير ذلك مسلما مفروغا عنه.
[2.173]
{ إنما حرم عليكم الميتة } والحصر هاهنا ضافى يعنى لا ما حرمتموه بأهوائكم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وغير ذلك مما لم يرد به نهى من الله { والدم ولحم الخنزير ومآ أهل به لغير الله } وما رفع الصوت بسببه لغير الله يعنى ما ذكر اسم غير الله عليه وقوله و
لا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه
[الأنعام: 121] اعم مما ذكر اسم الله غير الله عليه فالتخصيص هاهنا بما ذكر اسم غير الله عليه اما للاهتمام بحرمة هذا القسم لشدته او لأن عدم ذكر اسم الله لا ينفك عن ذكر اسم غير الله فان النفس ان لم تكن مؤتمرة بأمر الله كانت مؤتمرة بأمر الشيطان واذا لم تكن متذكرة بذكر الله كانت متذكرة بذكر الشيطان لعدم خلوها من ائتمار ما وذكر ما، والتفسير بذبيحة ذكر اسم غير الله عليها بيان لتنزيل الآية، ولا يخفى على من استبصر اجمالا بطريق التأويل تعميم ما أهل به لكل ما يدخل تحت اليد ولكل فعل من افعال القوى يعنى لا تأخذوا ولا تأكلوا ولا تنكحوا ولا تفعلوا صغيرا ولا كبيرا ذكر اسم غير الله او لم يذكر اسم الله عليه، وفسر بما ذكر اسم الله او اسم غير الله لأجل غير الله يعنى ما ذبح لأجل الاصنام او لأجل ما نصبوه للعبادة سوى الاصنام { فمن اضطر } الى شيء من هذه المحرمات { غير باغ ولا عاد } من البغية بمعنى الطلب او من البغى بمعنى الفجور والزنا، او من البغى بمعنى الاستطالة وفسر فى الخبر بطالب الصيد لهوا وبطالب اللذة وبالباغى المستطيل على الامام والعادى المتجاوز عن الحد سواء كان التجاوز عن الحد فى الامامة بان يقول بامامة امام باطل او بتشريك امام باطل للامام الحق او بالغلو فى الامام الحق بان يقول فيه ما لم يقله هو فى حقه او فى سائر الحقوق الالهية والخلقية، او فى جملة الافعال الصادرة من المدارك والقوى العمالة فان المفرط ولمفرط فيها متجاوز عن الحد وعاد، وقد فسر بكل منها فى الاخبار { فلا إثم عليه } فى الاكل عن هذه { إن الله غفور } يستر عليكم ما هو نقص وشين لكم { رحيم } يرحمكم بالاذن فى المخمصة ان ترتكبوا ما حرمه عليكم فى غيرها، عن الصادق (ع): من اضطر الى الميتة والدم ولحم الخنزير فلم يأكل شيئا من ذلك حتى يموت فهو كافر.
[2.174-175]
{ إن الذين يكتمون مآ أنزل الله من الكتاب } اما المقصود منافقوا الامة واسقاطهم من الكتاب مناقب على (ع) ومثالب أحزابهم ولذا أتى بالمضارع اخبارا بما يقع بعد، او المراد أعم من اهل الكتاب ومنافقى الامة و { من الكتاب } صلة أنزل اى ما أنزل الله من اللوح المحفوظ او من مقام النبوة وهو مقام القلب الى الصدر وعالم الطبع او حال مما أنزل الله، ومن للتبعيض على ان يكون المراد بالكتاب التدوينى او اعم منه ومن احكام النبوة { ويشترون به ثمنا قليلا } قد مضى بيان مبسوط لاشتراء الثمن القليل بالآيات فى اول السورة عند قوله { ولا تشتروا بآياتى ثمنا قليلا } { أولئك ما يأكلون } اى ما يدخلون بالأكل من الاعواض التى يأخذونها بما أنزل { في بطونهم إلا النار } ومثل هذه قد تكرر فى الكتاب والكل مبنى على التضمين { ولا يكلمهم الله يوم القيامة } كناية عن عدم الاعتداد بهم لشدة الغضب { ولا يزكيهم } لا يطهرهم، او لا يثنى عليهم بأنهم ازكياء، او لا ينعم عليهم من زكى الرجل اذا صلح وتنعم { ولهم عذاب أليم أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } اى استبدلوا الضلالة التى هى ملك الشيطان بالهدى الذى كان لهم ملكا فى الدنيا { والعذاب بالمغفرة } فى الآخرة { فمآ أصبرهم على النار } فما أجرأهم على فعل يدخلهم فى النار ويبقيهم فيها فهو تعبير عن الشيء باللازم ولذا اختلف الاخبار فى تفسيرها واختلف المفسرون فى بيانها.
[2.176]
{ ذلك } المذكور من الحكم على كاتمى ما انزل الله بادخال النار وعدم تكليمهم الله وعدم تزكيتهم وثبوت العذاب الاليم لهم واستبدال الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة { بأن الله } بسبب أن الله فهو خبر لذلك لا حاجة له الى تقدير مبتدء او خبر او فعل ناصب { نزل الكتاب بالحق } بسبب الحق المخلوق به وهو المشيئة التى خلق الاشياء بها، او متلبسا بالحق موصوفا به، او مع الحق مقارنا له فالكاتم له كاتم للحق ومستحق لما ذكر، والمراد بالكتاب أحكام النبوة والتوراة والانجيل والقرآن صورتها { وإن الذين اختلفوا } عطف على ان الذين يكتمون واختلف ضد اتفق او بمعنى تردد وعلى الاول فالمعنى ان الذين اختلفوا معك او ان الذين وقع الاختلاف بينهم وعلى الثانى فالمعنى ان الذين ترددوا { في الكتاب } لاستنباط الاحكام الشرعية ولان يقيسوا ما لم يكن فيه بما يجدونه فيه والمراد بالكتاب أحكام النبوة والتوراة والانجيل والقرآن صورتها { لفي شقاق } لفى ظرف منكم او من الله { بعيد } او لفى عناد معكم وعداوة.
اعلم ان من استسلم وانقاد لنبى (ص) او وصى ليس من شأنه ان يخالف امثاله فى حكم من الاحكام لانه ليس له رأى فى شيء من نفسه وانما هو منقاد لغيره بخلاف من لم يكن منقادا لنبى (ص) او وصى فان الشيطان متمكن منه لا محالة الا ان يكون فى حكم المنقاد، ومن تمكن الشيطان منه لا يمكن له التوافق مع احد بل كان شأنه الاضطراب فى الآراء وعدم الثبات على شيء منها والخلاف والعناد مع كل الناس فالمؤمنون ان كان أحكامهم مختلفة كانوا متوافقين مترافقين متحدين، وغير المؤمنين ان كانوا متوافقين فى الاحكام كانوا متخالفين متعاندين غير خارجين من العناد، وما نقل من اختلاف أصحاب الائمة مع بعض لا ينافى مرافقتهم مع كل الناس لأن المخالفة التى ظهرت فيهم لستلزام المخالفة من طرف ظهورها فى طرف آخر.
[2.177]
{ ليس البر } كلام مستأنف لابداء حكم آخر او جواب سؤال ناشئ من السابق كأنه قيل: فما بالنا اختلفنا فى القبلة بالصلوة الى بيت المقدس تارة والى مكة أخرى وأمر القبلة من الكتاب؟ - فقال: ليس الطاعة { أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب } على ان الاختلاف فى العمل من باب التسليم لأمر الآمر الالهى اتفاق فى الاعتقاد والقول بخلاف الاختلاف من آراء مختلفة، و { البر } بكسر الباء مصدر بمعنى الصلة والخير والاتساع فى الاحسان والصدق والطاعة، والاحسان الى الغير ضد العقوق وفعله من باب علم وضرب وهذا رد على من خاض من اهل الكتاب فى أمر القبلة بعد تحول المسلمين الى الكعبة وعلى من خاض من المسلمين فى أمرها بعد صرف وجوههم الى الكعبة، روى عن السجاد (ع) أنه قال: قالت اليهود قد صلينا على قبلتنا هذه الصلوات الكثيرة وفينا من يحيى الليل صلاة اليها وهى قبلة موسى التي أمرنا بها، وقالت النصارى: قد صلينا الى قبلتنا هذه الصلوات الكثيرة وفينا من يحيى الليل صلاة اليها وهى قبلة عيسى التى أمرنا بها، وقال كل واحد من الفريقين: اترى ربنا يبطل اعمالنا هذه الكثيرة وصلواتنا الى قبلتنا لأنا لا نتبع محمدا (ص) على هواه فى نفسه وأخيه فأنزل الله يا محمد (ص) قل: { ليس البر } والطاعة التى تنالون بها الجنان وتستحقون بها الغفران ان تولوا وجوهكم قبل المشرق يا أيها النصارى وقبل المغرب يا أيها اليهود وانتم لامر الله مخالفون وعلى ولى الله مغتاظون { ولكن البر من آمن } حمل الذات على المعنى مثل حمل المغنى على الذات محتاج الى تصرف فهو اما بتقدير مضاف فى الاول او فى الثانى او بجعل البر بمعنى البار او بادعاء الاتحاد بين المعنى والذات للمبالغة فى اتصاف الذات بالمعنى { بالله } يعنى ان البر الايمان والاذعان بالله والتسليم له وهو روح العمل لا صورة العمل واعتبار الجهة فيه { واليوم الآخر } يعنى الاقرار بالمبدء والمعاد { والملائكة والكتاب } الذى هو الشريعة الالهية { والنبيين وآتى المال على حبه } اى مشتملا على حب الله او على حب المال او على حب الايتاء وعلى الثلاثة يجوز ان يكون الضمير المجرور فاعلا راجعا الى من آمن وواحد من هذه الثلاثة مفعولا مقدرا، ويجوز ان يكون راجعا الى واحد من هذه الثلاثة مفعولا والفاعل محذوفا، ويجوز ان يكون راجعا الى الله فاعلا { ذوي القربى } ذوى قرباه او ذوى قربى النبى (ص) يعنى يعطى من ماله ندبا او من الخمس فرضا واما الزكاة الفرض فانها تذكر بعد { واليتامى } عطف على القربى على عدم جواز اعطاء الصدقات المستحبة للأيتام أنفسهم، او على تقدير كون المال من الحقوق الواجبة، او عطف على ذوى القربى وهو جمع اليتمان بمعنى اليتيم ويتم من باب ضرب وعلم بمعنى انفرد لا نظير له وفقد الاب من الإنس والأم فى سائر الحيوان اذا لم يبلغ { والمساكين } المسكين أسوأ حالا من الفقير لكن اذا افترقا اجتمعا { وابن السبيل } اى المسافر الذى انقطع نفقته وكان من قرابات الرسول ان كان المال مال الخمس او مطلقا ان كان غيره والعرب يسمى كل من يباشر أمرا أبا ذلك الامر وابنه { والسآئلين } الذين يتعففون عن السؤال صريحا ويسألون فى ضمن اظهار الحال كناية حتى لا ينافى الحقوق الواجبة على فرض عدم جواز اعطائها السائل بالكف، أو المراد أعم من السؤال بالكف ان اريد الايتاء ندبا { و } مالك الرقاب او العبيد أنفسهم { في الرقاب } فى استخلاصها سواء كانوا مكاتبين او تحت الشدة او لم يكونوا كذلك { وأقام الصلاة وآتى الزكاة } يعنى ان البر الايمان والاذعان بالله وترك ما فيه خيره لخير الغير والتوجه التام الى الله والتسليم والخروج من الانانية ولوازمها التى هى خلاف التسليم من الخلاف والنزاع والرأى من النفس وغير ذلك من دواعى الانانية لا توجيه وجه البدن الى المشرق او المغرب والرأى فيه والتوقف عليه.
وقد مر بيان للصلاة والزكاة فى اول السورة من أراد فليرجع اليه { والموفون بعهدهم } عطف على من آمن وجعله خبر مبتدء محذوف او مبتدء خبر محذوف تقدير من غير حاجة، والعدول الى الاسم للاشعار بان الوفاء بالعهد امر يطلب فيه الاستمرار والثبوت بخلاف الايمان فانه يحدث سواء اريد به الاقرار او البيعة وبقاء الحالة الحاصلة منه ليس ايمانا انما هو بقاء الايمان، وبخلاف الزكاة والصلاة فانهما لا تكونان الا متجددتين، واما الوفاء بالعهد فانه ليس الا البقاء على العهد؛ وهكذا الحال فى الصبر، والمراد بالعهد العهد الحاصل فى ضمن البيعة او مطلق العهد { إذا عاهدوا والصابرين } علم وجه العدول الى الاسم والعدول الى النصب لقصد المدح بتقدير فعل { في البأسآء } البأس العذاب والشدة فى الحرب بؤس ككرم فهو بئيس شجاع، وبئس كسمع اشتدت حاجته، و { البأسآء } الداهية والمناسب هاهنا ان يفسر بشدة الحاجة والداهية فى المال { والضراء } فى الانفس { وحين البأس } شدة القتال { أولئك } العظماء المحصرون بتلك الاوصاف العظام { الذين صدقوا } لا صادق سواهم فى اقوالهم بتصديق أفعالهم لأقوالهم وفى أفعالهم وأحوالهم لتصديق آثار الافعال والاحوال صدقها { وأولئك هم المتقون } لا متقى غيرهم وقد فسر بعلى (ع) لان الجامع بين الاوصاف بحقائقها لا يكون الا محمدا (ص) وعليا (ع) واولاده الطاهرين واما غيرهم من الانبياء والاوصياء فان لهم حظا من هذه وبقدر حظهم تصدق عليهم.
[2.178]
{ يأيها الذين آمنوا } بالايمان العام وقبول الدعوة الظاهرة والبيعة العامة النبوية { كتب عليكم } فى اللوح المحفوظ او فى صدر النبى (ع) والمعنى فرض ولذلك وللاشعار بتضررهم عداه بعلى { القصاص } ان يفعل بالجانى مثل ما فعل بالمجنى عليه، وكونه فرضا على الحكام بعد مطالبة ولى المجنى عليه لا ينافى كون الولى مخيرا بين القصاص والدية والعفو { في القتلى } متعلق بكتب { الحر بالحر } اى يقتل الحر بالحر او الحر مقتول بالحر اى اذا كان القتل عمدا لا خطاء ولا شبها للخطاء والآية مثل سائر الآيات مجملة محتاجة الى البيان فلا يرد ان المسألة بخلاف مفهوم مخالفة القيد فان مفهوم القيد غير معتبر قطعا هاهنا وتفصيل المسألة موكول الى الفقه { والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } نقل انه كان حيان من العرب وكان لاحدهما طول على الآخر وكان بالمواضعة بينهما ان يقتل ذو الطول الحر بالعبد، والذكر بالانثى، والرجلين بالرجل فلما جاء الاسلام تحاكموا الى رسول الله (ص) فنزلت فأمرهم بالتكافؤ { فمن عفي له } اى الجانى الذى عفى له { من } قبل { أخيه } الذى هو ولى الدم او من دم اخيه المقتول وأداه بلفظ الاخوة للاشعار بان العفو يقتضى ويقتضيه التعاطف فالمناسب فى المقام اللفظ الذى يقتضى ويقتضيه التعاطف { شيء } من العفو وهو العفو من القصاص دون الدية او شيء من العفو بان عفى وارث واحد { فاتباع } اى فليكن من العافى اتباع او فحكمه اتباع او فعليه اتباع للعفو فى مطالبة الدية { بالمعروف } بطريق يستحسنه العقلاء ويعرفونه بالحسن يعنى لا يكون فى مطالبة الدية تعنف ولا اضرار ولا زيادة على القدر المقرر وليكن من الجانى { وأدآء } للدية { إليه } الى العافى { بإحسان } متلبسا بنحو من الاحسان وصية للعافى بالمداراة وعدم التعنف وعدم التعدى وللجانى بعدم المماطلة وعدم الخدعة والبخس والاكراه { ذلك } اى الاذن فى العفو مع الانتقال الى الدية او بدونه يعنى التخيير بين الثلاثة فان العفو عن الدية يستفاد بطريق اولى من العفو عن القصاص المستفاد من قوله { فمن عفى له من اخيه } إلى آخرها { تخفيف } فيما فرضنا عليكم من المؤاخذة بالجناية { من ربكم ورحمة } منه عليكم بتجويز العفو المستلزم لبقاء النفوس وعدم تكليف ولى المقتول بالعفو بلا عوض، نقل انه كان لاهل التوراة القصاص او العفو، ولاهل الانجيل العفو او الدية، ولهذه الامة التخيير بين الثلاثة ونسب الى الرواية ان القصاص كان فى شرع موسى (ع) والدية كانت فى شرع عيسى (ع) فجاءت الحنيفية السمحة بتشريع الامرين { فمن اعتدى } تجاوز عما حد له من اولياء الدم ومن الجانى { بعد ذلك } المذكور من القصاص او العفو او الدية { فله عذاب أليم } قد مضى وجه توصيف العذاب بالالم، ولما جاز ان يتوهم من تشريع القصاص ان فيه افناء للنفوس البشرية وافناء النفوس البشرية خلاف الحكمة الالهية كما عليه الملل الباطلة رفع ذلك لتوهم بأن فى القصاص ابقاء للنفوس لا افناء لها؛ لان فى تشريع القصاص ردعا لجملة النفوس عن التجرى على القتل ففيه افناء نفوس قليلة وابقاء نفوس كثيرة بخلاف تركه فقال: { ولكم في القصاص حيوة }.
[2.179]
{ ولكم في القصاص حيوة } وذكروا وجوها من الترجيح لهذا الكلام على مقابله الذى هو قول القائل القتل انفى للقتل { يأولي الألباب } خص اولى الالباب بالنداء تشريفا لهم، ولأنهم يعرفون وجه كون الحياة فى القتل، ولأنهم المخصوصون بتشريع الاحكام والمنظور اليهم فى خلق الاشياء المعتنى بهم للبقاء دون غيرهم { لعلكم } يا اولى الالباب { تتقون } ترجى ناشئ من ذكر القصاص او من ايداع الحياة فى القصاص، او من ذكر الحياة؛ فان كان الاولان فالمعنى شرع الله لكم القصاص او جعل الحياة فى القصاص { لعلكم تتقون } القتل او تتقون المعاصى او تتصفون بالتقوى، وان كان الثالث كان المعنى استبقاءكم لعلكم تتقون المعاصى او تتصفون بالتقوى والترجى من الله ليس على حقيقته لان الترجى لا يكون الا من جاهل مترقب لحصول مرغوب خارج عن اختياره والحق ليس كذلك فهو منه تعالى بمعنى التعليل او لجريه تعالى شأنه على شاكلة الملوك والاكابر من الخلق حيث يعدون مواعيدهم التى ينجزونها بليت ولعل وعسى حتى لا يتكل من يعدونه على الوعد ويكونوا بين الخوف والرجاء، او لملاحظة حال العباد وان شأنهم شأن الرجاء والاطماع فالترجى باعتبار حال المخاطب.
[2.180]
{ كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت } استئناف لاظهار حكم آخر غير مرتبط بسابقه ولذا قطعه عن سابقه، وعامل اذا فعل الشرط كما هو قول المحققين فى جميع موارد اذا لا كتب كما قيل؛ لأنه للماضى واذا للمستقبل، ولا الوصية لعدم جواز تقدم معمول المصدر المعرف باللام وان كان ظرفا عليه، وجوابه محذوف وهو جملة معترضة بين الفعل ومرفوعه اى { إذا حضر أحدكم الموت } فليوص، او جوابه قوله تعالى { إن ترك خيرا } على القول بعدم لزوم الفاء فى جواب اذا، او جوابه قوله تعالى { الوصية للوالدين } على هذا القول، وعلى هذا فجملة { إذا حضر أحدكم الموت } نائب فاعل كتب لان فيه معنى القول وجملة ان ترك خيرا معترضة كما كانت معترضة على تقدير حذف جواب اذا؛ والمراد بالخير اما مطلق المال او المال الكثير كما نسب الى امير المؤمنين (ع) انه دخل على مولى له فى مرضه وله سبعمائة درهم او ستمائة فقال: الا اوصى؟ - قال: لا انما قال الله تعالى ان ترك خيرا وليس لك كثير مال وروى هذا الخبر وغيره بهذا المضمون عن طريق العامة أيضا، والوصية نائب فاعل لكتب وتذكير الفعل لكون الوصية مؤنثا مجازيا، ويجوز ان يكون الوصية مبتدأ وللوالدين خبره والجملة نائب فاعل كتب { والأقربين بالمعروف } بوصية يعرفها العقل والعرف حسنا فان المعروف صار اسما لما استحسنه العرف يعنى بوصية لا يكون فيها حيف واضرار بالوارث مثل ان كان له كثير مال يستغنى وارثه ببعضه ويكون الوالدان والاقربون محتاجين ويوصى لهم بما لا يحوج الوارث { حقا } حق حقا مفعول مطلق مؤكد لنفسه ان جعل مؤكدا لمضمون كتب، ومؤكد لغيره ان جعل مؤكدا لمضمون الوصية للوالدين { على المتقين } بدل من عليكم او متعلق بحقا وعلى اى تقدير فهو تنبيه على ان المنظور فى تشريع الاحكام اولو الالباب وهم المؤمنون المبائعون بالبيعة الخاصة وأما غيرهم فلا نظر اليهم فى شيء من أحكام البشر ومنافعه وايجاد الاشياء لاجله الا تبعا، وما ورد فى الاخبار من نسخ هذه الآية بآية المواريث يدل على أنه كان المقصود من الكتب الفرض وأن المنسوخ هو الوجوب لا الجواز والا ففى آية المواريث ذكر من بعد وصية وهو يؤكد ثبوت الوصية لا أنها تنسخها، ونسب الى امير المؤمنين (ع) انه قال: من لم يوص عند موته لذوى قرابته ممن لا يرث فقد ختم عمله بمعصية، ونسب الى الصادق (ع) انه شيء جعله الله تعالى لصاحب هذا الامر قيل: هل لذلك حد؟ - قال: ادنى ما يكون ثلث الثلث، وعنه (ع) انه حق جعله الله تعالى فى أموال الناس لصاحب هذا الامر قيل: لذلك حد محدود؟ - قال: نعم، قيل: كم؟ - قال: أدناه السدس وأكثره الثلث.
[2.181]
{ فمن بدله } اى كتب الوصية بان لا يعمل به ويترك الايصاء للوالدين والاقربين او من بدل الوصية الثابتة من المحتضر سواء كان المبدل الوصى او الوارث او الشهود او الحاكم، وتذكير الضمير باعتبار الايصاء { بعد ما سمعه } اى فرض الله وحكمه على الاول والايصاء على الثانى والتقييد به اشارة الى انه مثل سائر التكاليف لا مؤاخذة عليه قبل العلم به { فإنما إثمه على الذين يبدلونه } وضع الظاهر موضع المضمر اشعارا بعلة الحكم وزيادة زجر منه بتكريره والحصر هاهنا حصر قلب ادعائى فرضى فانه تعالى جرى على طريقة المخاطبات العرفية واهل العرف اذا ارادوا المبالغة فى المنع عن شيء او الترغيب فى شيء يقولون: لا تفعله فليس وباله الا عليك، او افعله فليس أجره الا لك كأن المتكلم يدعى ان فاعل هذا القبيح يعلم ان على هذا الفعل عقوبة لكن يحسب أن عقوبته على غير الفاعل فيفعله فيقول: ليس كما زعمت ليس وباله الا عليك وهكذا الحال فى الترغيب { إن الله سميع } لما قاله الموصى حين الايصاء او المبدلون حين التبديل { عليم } بأغراضهم فيجازى كلا بحسب قوله وغرضه وهو تهديد للمبدلين.
[2.182]
{ فمن خاف } الفاء للتعقيب باعتبار لازم الحكم اى العلم بالحكم كأنه قال بعد ما علم الاثم على مبدل الوصية فاعلم انه لا اثم على مبدل خاف { من موص جنفا } ميلا عن الحق خطأ كما فسر فى الخبر { أو إثما } ميلا عنه عمدا والمراد الزيادة عن الثلث، او اضرار الوارث بان كان المال قليلا والوارث محتاجا او حرمان بعض الوارث او كلهم { فأصلح بينهم } بين الوارث والموصى له او بين الموصى والورثة بان غير الوصية بعد وفاة الموصى او بان منع الموصى عن الوصية بنحو الاضرار حال حياته ومنع الوارث عن ان يمنعوا الموصى عن الوصية الى الثلث { فلا إثم عليه } فى التبديل او فى المنع المذكور { إن الله غفور } يغفر ما يتوهم من الاثم على التبديل بعد التسجيل بالاثم على المبدل { رحيم } يرحم ويتفضل على المصلح رفع للحرج عن المصلح ووعد له بالرحمة، والاشكال بأن الخوف من المحتمل الوقوع، لا مما وقع وتعلق خاف هاهنا بما وقع من الوصية والجنف فيه مدفوع بأن المعنى: من خاف من موص من حيث انه موص جنفا او اثما حين ارادة الوصية، او المعنى: من علم من موص فان استعمال الخوف فى العلم كثير ولا حاجة الى بعض التكلفات والاخبار تدل على المعنى الاخير، فعن الباقر (ع) أنه سئل عن قول الله تعالى: فمن بدله قال نسختها الآية التى بعدها { فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه } قال (ع) يعنى الموصى اليه ان خاف جنفا من الموصى فيما اوصى به اليه فيما لا يرضى الله تعالى به من خلاف الحق فلا اثم على الموصى اليه ان يرده الى الحق والى ما يرضى الله تعالى به من سبيل الخير ويجوز حمل هذا الخبر على التبديل حال الحياة، وعن الصادق (ع) اذا اوصى الرجل بوصية فلا يحل للوصى ان يغير وصيته بل يمضيها على ما أوصى الا ان يوصى بغير ما أمر الله تعالى فيعصى فى الوصية ويظلم، فالموصى اليه جائز له ان يردها الى الحق مثل رجل يكون له ورثة فيجعل المال كله لبعض ورثته ويحرم بعضها فالوصى جائز ان يردها الى الحق فالجنف الميل الى بعض ورثتك دون بعض، والاثم ان تأمر بعمارة بيوت النيران واتخاذ المسكر فيحل للوصى ان لا يعمل بشيء من ذلك.
[2.183]
{ يأيها الذين آمنوا } لما كان هذا الحكم نوعا آخر من التكليف غير التكليف غير الاول الذى كان فى المعاملات وكان من أشق العبادات صدره بالنداء ليتدارك كلفة التكليف بلذة المخاطبة، وعن الصادق (ع) ان لذة النداء ازال تعب العبادة والعناء وقد سبق مكررا ان المراد بالايمان فى امثال المقام الايمان العام الحاصل بالبيعة العامة وقبول الدعوة الظاهرة وعن الصادق (ع) انه سئل عن هذه الآية وعن قوله سبحانه:
كتب عليكم القتال
[البقرة: 216] فقال (ع): هذه كلها تجمع الضلال والمنافقين وكل من أقر بالدعوة الظاهرة { كتب } اى فى اللوح المحفوظ او فى صدر النبى (ص) او فى الكتاب التدوينى الالهى او فرض { عليكم الصيام } الصوم والصيام مصدرا صام يصوم صوما بمعنى الامساك المطلق لغة وبمعنى الامساك المخصوص شرعا { كما كتب على الذين من قبلكم } يعنى انها عبادة قديمة كانت واجبة من لدن آدم (ع) فانه لم يكن نبى الا كان فى شريعته امساك ما، روى عن امير المؤمنين (ع) ان اولهم آدم فالتشبيه فى اصل الامساك المخصوص المشروع لا فى جميع مخصصاته فانه لم يكن صيامنا موافقا لصيام اليهود والنصارى فى الوقت وعدد الايام والممسك عنه { لعلكم تتقون } تتصفون بالتقوى وتصيرون اتقياء او لعلكم تتقون المعاصى ودواعى النفس لان امساك النفس عن المأكول والمشروب مدة غير معتادة يضعفها وفى ضعفها ضعف دواعيها ومقتضياتها وقوة العقل واقتضائه للتقوى عما هو شر للانسان، نسب الى النبى (ص) انه قال: خصاء امتى الصوم، وفى الخبر: من لم يستطع الباءة فليصم فان الصوم له وجاء. وعن الصادق (ع) انه قال: انما فرض الصيام ليستوى به الغنى والفقير وذلك ان الغنى لم يكن ليجد مس الجوع فيرحم الفقير فأراد الله سبحانه ان يذيق الغنى مس الجوع ليرق على الضعيف ويرحم الجائع.
[2.184]
{ أياما معدودات } قلائل فان العرف تكنى عن القلة بالمعدودات وهو متعلق بتتقون ومتعلق الصيام محذوف بقرينة هذا والمراد بها ايام الدنيا او ايام الصوم واما تعلقه بكتب او الصيام فغير مستقيم لاخلال الاول بالمعنى والثانى باللفظ لوقوع الفصل بين المصدر ومعموله بالاجنبى الذى هو { لعلكم تتقون } وهو غير جائز لضعفه فى العمل { فمن كان منكم مريضا } يعنى فى تلك الايام المقررة للصوم { أو على سفر } وقد بين الفقهاء رضوان الله عليهم حد السفر فيه وشرائطه وشرائط القصر والافطار به وحد المرض والافطار به { فعدة من أيام أخر } فبدلها عدة ايام او فعليه عدة ايام من ايام اخر وقرئ بالنصب بتقدير فليصم عدة من ايام اخر وهذا بظاهره يدل على لزوم الافطار لكليهما والانتقال الى البدل فانه تعالى اتى بالشرطية وجعل لازم الشرط الذى هو المرض او السفر استبدال أيام الصوم بأيام اخر من دون قيد وافاد ان هذا الجزاء لازم لهذا الشرط المطلق. وعن طريق العامة اخبار كثيرة دالة على الافطار فى السفر وتقدير شرط بان يقال فعدة من ايام اخر ان افطر خلاف الظاهر ومع ذلك فنقول: ان لم يكن فيها حجة لنا عليهم كانت من المجملات المحتاجة الى البيان وقد بينوها لنا مثل سائر مجملات القرآن فان اخذ الاحكام من محض الالفاظ خصوصا مجملات القرآن ليس الا محض التفسير بالرأى فان اصاب الحق فقد أخطأ وليتبوء مقعده من النار { وعلى الذين يطيقونه فدية } طاق الشيء طوقا واطاقه وعليه قدر؛ وعلى هذه القراءة قيل: انه كان الناس فى بدو الاسلام لم يتعودوا الصوم فخيرهم الله تعالى بين الصوم والفدية ثم نسخت، او كان المراد على الذين يطيقونه من المرضى والمسافرين ثم جاءت العزيمة بعد، او كان المراد على الذين يطيقون الصيام من المفطر المريض او المسافر عوضا عما أفطر ثم نسخ التخيير وبقى الصوم فقط او الفدية ان لم يصم الى شهر رمضان الذى بعد هذا الشهر الذى أفطره، او المراد على الذين يطيقونه من امثال الشيخ والشيخة والمرضعة وذى العطاش فانهم ان لم يطيقوه أفطروا وجوبا، وان أطاقوه كانو مخيرين بين الصوم والفدية، وأشير فى الاخبار الى اكثر هذه الوجوه، وقرئ (يطوقونه) من التفعيل و(يتطوقونه) من التفعل و(يطوقونه) منه بادغام التاء فى الطاء بعد الابدال و(يطيقونه ويطيقونه) ملحقا بالفعللة والتفعلل اصلهما (يطيوقونه) و(يتطيوقونه ) كل ذلك من الطوق بمعنى القدرة، او بمعنى القلادة مع افادة معنى التكلف والجهد وعلى هذه القراءة فالمعنى على الذين يتكلفون الصوم ويتعبون بسببه مثل المشايخ والمراضع وذوى العطاش ولا اشكال فيه بعد ذلك فالآية مجملة مثل سائر المجملات { طعام مسكين } مد من الطعام او مدان كما قيل { فمن تطوع خيرا } اى عمل خيرا على التجريد او من عمل بطريق الطاعة خيرا فى اداء الفدية بان يزيد فيها او بان يجمع بين الصوم والفدية، او من تطوع خير من جملة الطاعات الدينية { فهو خير له وأن تصوموا } ايها الناس المخيرون بين الصوم والفدية او المرضى والمسافرون او القاضون المخيرون او المعذورون او المتكلفون بسبب الصوم او المؤمنون على ان يكون كلاما مستقلا ترغيبا فى الصوم من غير نظر الى ما تقدمه { خير لكم إن كنتم تعلمون } ان كنتم من اهل العلم او ان كنتم تعلمون أنه أفضل اخترتموه.
[2.185]
تحقيق نزول الكتاب جملة ونجوما
{ شهر رمضان } مبتدأ خبره { الذي أنزل فيه القرآن } او هو صفته وخبره محذوف اى هذه الايام او خبر مبتدء محذوف اى هذه الأيام شهر رمضان، او بدل من الصيام بتقدير مضاف اى صيام شهر رمضان ووجه نزول القرآن فى شهر رمضان مع أنه نزل فى طول ثلاث وعشرين سنة ان القرآن جملة نزل من مقام الجمع ومن عند الحكيم الخبير الى البيت المعمور الذى هو فى السماء الرابعة مجانب للكعبة ومقام قلب النبى (ص) ومنه نزل مفصلا فى تلك المدة على صدر النبى (ص) وينزل فى كل سنة من البيت المعمور على صدر النبى (ص) او وصيه من تأويل القرآن ومتشابهاته ما شاء الله من نسخ منسوخه واثبات مثبته، واطلاق مطلقه وتقييد مقيده، وتعميم عامه وتخصيص خاصه، وعلى ما روى نزل أكثر الصحف السماوية فى شهر رمضان لانه شهر حبس النفس عن التوجه الى القوى والمدارك الظاهرة وعن المشتهيات النفسية وما لم يحبس النفس المعبر عنها بالصدر عن التوجه الى الدار الدنيا لا تستعد للانتقاش بنقوش الغيب ولا للمشاهدة والسماع منه وباعتبار التأويل، { شهر رمضان } عبارة عن مقام ظهور النفس بالامساك عن غير الله والتوجه الى الله ولذا سمى بشهر رمضان فان رمضان اسم لله تعالى.
تحقيق كون القرآن بينات من الهدى
{ هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان } من بيانية، اعلم ان الرسل متفاضلون فى المقامات والدرجات فان مقامات لطائف الرسالة ودرجاتها غير متناهية وأمهاتها قد تحد بمأة الف وقد تحد بمأة وعشرين الفا وقد تحد بمئة أربعة وعشرين الفا، وتلك المقامات والدرجات بعضها فوق بعض وكل عال منها محيط بما دونه بمعنى ان ما دونه يكون من جملة شؤنه، ولكل مقام صاحب من الرسل لان كل مقام يقتضى لطيفة خاصة من لطائف الرسالة وكل لطيفة من تلك اللطائف يظهر فى رسول من الرسل وكل رسول بلغ الى مقام عال يكون محيطا بمن دونه من الرسل وهم يكونون من جملة شؤنه، وكل كتاب وشريعة من الرسول العالى يكون محيطا بالشرائع والكتب التى دونه وانهما ناشئان من آخر مقامات الرسول الاتى بهما وأعلاها نازلان منه الى مقام صدره، وان محمدا (ص) آخر مقاماته المقام الذى هو فوق الامكان وهو مقام الجمع المطلق الذى لا مقام فوقه بخلاف سائر المقامات فان فيها فرقا بوجه ولو بالتقييد بالامكان والامتياز من الوجوب، ولهذا كانت الانبياء (ع) وكتبهم وشرائعهم تحت لوائه وكتابه وشريعته وكان حلاله حلالا الى يوم القيامة وحرامه حراما الى يوم القيامة، ولم يتطرق الاندراس والنسخ الى كتابه وشريعته، وكان اسم القرآن خاصا بكتابه لانه مصدر مأخوذ من قرأ قرآنا بمعنى جمع جمعا، وان كان مأخوذا من قرأ قرآنا بمعنى تلا تلاوة فانه ايضا مأخوذ من قرأ بمعنى جمع والناشى من مقام الجمع المطلق هو كتابه (ص) لا سائر الكتب، فانها نشأت من مقامات الامكان التى لا يخلو شيء منها من الفرق والكتاب الذى نزل من مقام عال الى مقام الصدر، والطبع له وجهان؛ وجه الى عالم المقام العالى ووجه الى عالم المقام الدانى، وباعتبار وجهه الى العالى يكون هاديا لاهل العالم النازل الى ذلك المقام العالى وباعتبار وجهه الى المقام النازل يكون مفصلا بنحو تفصيل ذلك المقام وظاهرا بنحو ظهور ذلك المقام وفارقا بين اسناخ المقام العالى وأشباح العالم الانزل، فيكون بتفاصيله بينات واضحات هى عبارة عن الهدى باعتبار وجهه الى العالى وعن الفرقان باعتبار وجهه الى الدانى { فمن شهد منكم الشهر } تفريع على السابق يعنى اذا كان شهر رمضان شهر نزول القرآن فيلزم عليكم فيه الامساك عن غير الله وعن مشتهيات مقامكم الدانى وهو مقام النفس حتى يفتح عليكم مشتهى الروح وباب الغيب، فمن كان منكم حاضرا لا مسافرا كما فسره الصادق (ع) ردا على من خير فى السفر بين الصوم والافطار حيث قال: ما ابينها.
.! من شهد فليصمه ومن سافر فلا يصمه، فاعتبر (ع) مفهوم المخالفة فان المفاهيم وان لم تكن حجة لكنها معتبرة فى مقام الخطابة { فليصمه } فليصم فيه { ومن كان مريضا } مرضا يضر الصوم بسببه { أو على سفر فعدة من أيام أخر } تصريح بمفهوم المخالفة يعنى من لم يكن حاضرا فى الشهر فلا يصمه وعليه ان يصوم عدد الايام الفائتة من الشهر أياما أخر من غيره، وقد أكد الامر بالافطار فى المرض والسفر بالتصريح اولا والاشارة ثانيا وتأكيد مفهوم المخالفة ثالثا { يريد الله بكم اليسر } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: ما يريد الله من الامر بالصوم تارة، ثم بالافطار والصوم بعد الافطار أخرى؟ - فقال: يريد اليسر حال كونه ملصقا بكم { ولا يريد بكم العسر } وفى الصوم فى المرض والسفر عسر شديد وفى ترخيص الافطار فيهما تيسير لكم { ولتكملوا العدة } عطف باعتبار المعنى كأنه قال لئلا يعسر الصوم عليكم ولتكملوا العدة وانما عدل الى قوله يريد الله للتصريح بارادة الله ذلك تشريفا لهم وتلطفا بهم بالاول علة الترخيص فى الافطار وهذا علة الامر بالصوم فى ايام أخر { ولتكبروا الله على ما هداكم } علة للامر بالصوم مطلقا فان الصوم صورة التبرى وبالتبرى يرتفع موانع القلب عن التوجه الى الله وعظمته، وبالتوجه يظهر عظمة الله وكبرياؤه، وبظهور عظمته وكبريائه يرتفع الغفلة والنسيان فانهما ليسا الا من استتار عظمته كما قال المولوى قدس سره:
لا تؤاخذ ان نسينا شد كواه
كه بود نسيان بوجهى هم كناه
زانكه استكمال تعظيم او نكرد
ورنه نسيان درنيا وردى نبرد
وبعدم الغفلة والنسيان عن المنعم فى النعمة يحصل الشكر ولذلك عقبه بقوله { ولعلكم تشكرون } يعنى تنظرون الى المنعم فى نعمة وهو من أجل مقامات الانسان ولما كان الصوم موجبا لتكبير الله وتعظيمه سن الله تعالى فى آخر الصوم اعنى ليلة الفطر بعد الصلوة الى صلوة العيد التكبير بالكيفية المخصوصة المذكورة فى الكتب الفقهية.
[2.186]
{ وإذا سألك عبادي عني } جملة مستأنفة على مجيء الواو للاستئناف ولكن مجيء الواو للاستئناف المحض من غير ارتباط ما بالسابق بعيد جدا فان شئت فسمه استئنافا شبيها بالعطف او عطفا باعتبار المعنى كأنه قيل؛ اذا سألوا عن طاعتى فقل: كتب عليكم الصيام، واذا سألوا عن نسبتى فان المراد بالسؤال عنه السؤال عن نسبته الى عباده بقرينة الجواب بنسبته الى خلقه.
تحقيق قربه تعالى
{ فإني قريب } يعنى فأجبهم بأنه قريب لأنى قريب فهو من اقامة السبب مقام المسبب وقربه تعالى ليس قربا مكانيا ولا زمانيا ولا شرفيا ولا رتبيا بل قربه لا ماهية له حتى يحد ولا كيف حتى يعرف بالرسم، وانما هو قرب قيومى نظير قرب ما به قوام الاشياء من الاشياء بل نظير قرب ضمت اليها مع أنها غير الوحدة وآثارها وخواصها غير آثار الوحدة وخواصها فالوحدة أقرب الاشياء الى الاعداد مع أنها أبعد الاشياء عنها حتى قيل: انها ضد لها، فما أقربك يا من لك وحدانية العدد وأبعدنا موصوفين بالكثرات ونعم ما قيل:
دوست نزديكتراز من بمن است
وين عجبتر كه من ازوى دورم
وللاشارة الى هذا القرب قال (ع): داخل فى الاشياء لا كدخول شيء فى شيء؛ اشارة الى عدم تكيفه ايضا وهذا القرب نتيجة الرحمة الرحمانية التى يستوى فيها كل الأشياء، وله قرب آخر هو نتيجة الرحمة الرحيمية وبهذا القرب يتفاضل المتفاضلون وفيه تنافس المتنافسين وتسابق المتسابقين، وبه يتجلى الله على عباده كل يوم فى شأن جديد والى هذه القربات أشار بعض المطايبين لقوله:
بيزارم ازآن كهنه خدائى كه تو دارى
هر روز مرا تازه خدائى دكر استى
وهذا القرب لمن اقرض الله من كثراته النفسانية باختياره شيئا وجزاه الله من وحدته شيئا ومن لم يكن له من هذا القرب شيء كان ملعونا مطرودا مبغوضا ومن كان له حظ منه كان مرحوما مدعوا مرضيا، ولذة هذا القرب واقتصاءه الاشتداد سهلت على السلاك الرياضات والمجاهدات وسهر الليالى وظمأ الهواجر ولولا لذة - هذا القرب لما غلب أحد النفس وشهواتها، روى أن اعرابيا سأل رسول الله (ص) أقريب ربنا فنناجيه؟ - ام بعيد فنناديه؟ - فنزلت، وقيل: ان قوما سألوا رسول الله (ص) كيف ندعو الله؟ - فنزلت.
تحقيق اجابته تعالى وعدم اجابته للعباد
{ أجيب دعوة الداع إذا دعان } اجيب خبر بعد خبر بعد خبر او مستأنف جواب لسؤال مقدر، والدعوة بمعناها المصدرى او بمعنى المدعو له، والداع وصل بنية الوقف، واسقاط الياء للاشعار بأن دعاء كل داع قاصر عن البلوغ الى مقام الذات بان يكون المدعو هو الذات من غير عنوان له، واذا دعان شرط محذوف الجزاء بقرينة سابقة، واسقاط ياء المتكلم والاقتصار على نون الوقاية وكسرته للاشعار المذكور، وليس اذا ظرفا للاجابة سواء كان متضمنا لمعنى الشرط بان يقدر اجيب جوابا له او لم يكن بان يكون متعلقا بأجيب المذكور لكثرة الاخبار الدالة على تأخر الاجابة عن وقت الدعاء بل هو منصوب بدعان او نقول: هو ظرف للادابة لكن المراد ان { الداع إذا دعان } لا غيرى سواء كان الغير من أسمائى او من غير أسمائى اجبته بلا مهلة لا محالة، فان الانسان اذا كان مظهرا للشيطان كان داعيا له سواء كان دعاؤه بلفظ الله والرحمن والرحيم او غيرها، واذا لم يكن مظهرا للشيطان وكان متوجها الى الرحمن فان كان واقفا فى مقام ومتحددا بحد فدعاؤه لا يتجاوز عن ذلك الحد بل كان داعيا لله بعنوان ظهوره فى ذلك المقام وكان الاسم الذى ظهر الله به عليه مسمى فى ذلك المقام فكان داعيا للاسم لا المسمى؛ وان لم يكن متحددا بحد واقفا فى مقام لم يكن العنوان الذى يدعو الله به مسمى بل كان اسما وكان الداعى داعيا للمسمى بايقاع الاسماء عليه وحينئذ لا يتأخر اجابة الله عن وقت الدعاء بل نقول: الداعى حينئذ هو الله حقيقة وفى حقه قال المولوى قدس سره:
جون خدا ازخود سؤال وكد كند
بس دعاى خويش راجون رد كند
وشروط استجابة الدعاء المستفادة من الاخبار الكثيرة تدل على هذا المعنى وانه يجيب دعوة الداعى اذا دعا ذاته لا غير ذاته يعنى اذا صار الداعى الهيا لا شيطانيا او واقفا على حد فانه روى عن الصادق (ع): انه قرأ { ام من يجيب المضطر اذا دعاه }؛ فسئل ما لنا ندعو ولا يستجاب لها؟ - فقال: لانكم تدعون من لا يعرفون، وتسألون ما لا تفهمون، فالاضطرار عين الدين، وكثرة الدعاء مع العمى عن الله من علامة الخذلان من لم يشد ذلة نفسه وقلبه وسره تحت قدرة الله حكم على الله بالسؤال وظن ان سؤاله دعاء والحكم على الله من الجرأة على الله، فان قوله: من لا تعرفون؛ اشارة الى الاحتجاب عن الله بالحدود، وقوله: فالاضطرار عين الدين؛ اشارة الى ان المتدين من انقطع وسائله واضطر فى التوسل الى الله وليس ذلك الا اذا خرج من انانيته وحدوده تماما وقوله: وكثرة الدعاء مع العمى عن الله من علامة الخذلان؛ اشارة الى صيرورته مظهرا للشيطان لا مظهرا للرحمن، وقوله: من لم - يشد ذلة نفسه (الى آخر الحديث) استشهد بذلك على ان كثرة الدعاء مع العمى عن الله علامة كونه مظهرا للشيطان فان من لم يظهر سلطان قدرة الله عليه لم يخرج من انانيته، ومن لم يخرج من انانيته كان مظهرا للشيطان ويحكم على الله بحكم الشيطان، فالمعرفة وفهم المسؤل وانقطاع الوسائل الذى هو الدين وغلبة سلطان الله على انانية العبد من شروط الدعاء المستفادة من هذا الخبر والكل يدل على ان العبد اذا لم يخرج من انانيته لم يدع الله بل يحكم على الله او يدعو غير الله، وفى خبر آخر عنه (ع): من أطاع الله عز وجل فيما أمره ثم دعاه من جهة الدعاء اجابه، قيل: وما جهة الدعاء؟ - قال تبدأ فتحمد الله وتذكر نعمه عندك، ثم تشكر ثم تصلى على النبى (ص)، ثم تذكر ذنوبك فتقربها، ثم تستعيذ منها؛ فهذه جهة الدعاء.
وفى خبر آخر عنه (ع) انه قال فى جواب من سأل عن عدم الاستجابة: لأنكم لا توفون بعهده، وفى خبر عنه (ع): من سره ان يستجاب له فليطيب مكسبه، وفى خبر عنه (ع) فلييأس من الناس كلهم ولا يكون له رجاء الا عند الله عز وجل، وكل ذلك يدل على ان شرط الدعاء الخروج من الانانية والتذلل تحت قدرة الله حتى يصير المدعو هو الله او نقول: هو ظرف للاجابة لكن المراد ان الداعى اذا دعان بان يكون المطلوب بدعائى هو ذاتى لا امرا آخر من امور الدنيا او الآخرة، او المراد ان الداعى اذا دعان لا غيرى بان يكون مظهرا للشيطان وداعيا له بصورة دعائى اجبته فى مدعوه مدخرا له او واصلا اليه ان كان فى اجابته صلاحه، وان لم يكن صلاحه فيها أجبته بشيء آخر فيه صلاحه، وفى خبر
" ان العبد ليدعو فيقول الله للملكين قد استجبت له ولكن احبسوه بحاجته "
، وفى خبر آخر
" ما يدعو أحد الا استجاب له "
اما الظالم فدعاؤه مردود الى ان يتوب، واما المحق فاذا دعاه استجاب له وصرف عنه البلاء من حيث لا يعلمه او ادخر له ثوابا جزيلا ليوم حاجته اليه، وان لم يكن الامر الذى سأل العبد خيرا له ان اعطاه أمسك { فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون } ولما ذكر انه تعالى كتب الصيام وليس الصيام الا الامساك عن مشتهيات الحيوان صار المقام مقام ان يسأل عن الجماع والاكل والشرب هى حلال ام حرام بالليل كما أنها حرام بالنهار؟ - فأجاب ذلك بقوله تعالى: { أحل لكم ليلة الصيام }.
[2.187]
{ أحل لكم ليلة الصيام } اى ليلة يوم الصيام { الرفث إلى نسآئكم } الرفث الجماع والفحش وتعديته بالى لتضمين معنى التقرب او التوجه { هن لباس لكم } تعليل لاحلال الجماع والتشبيه باللباس للتلازم بين النساء والرجال وشدة الاحتياج بينهما والمقصود التنبيه على قلة الصبر عنهن وصعوبة اجتنابهن { وأنتم لباس لهن } وكون هذه الجملة جوابا لسؤال مقدر مبين على ظاهر اللفظ واما على ما روى ان المضاجعة كانت حراما فى شهر الصيام فى الليل والنهار وانه كان من نام فى الليل كان الاكل والشرب حراما عليه بعد او كان الحكم ان من كان ينام فى الليل كان الاكل والشرب والمقاربة حراما عليه فالآية مستأنفة لابتداء حكم آخر ناسخ للحرمة وقوله تعالى: { علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم } يؤيد هذا الوجه، وخيانة الله ورسوله فى عدم الوفاء بما شرط عليه فى عهده خيانة لأنفسهم لتقوية عدوها عليها { فتاب عليكم } بالترخيص فيما نهى عنه من الجماع فى ليلة الصيام والاكل والشرب بعد النوم { وعفا عنكم } يعنى عما فعلتموه قبل الترخيص { فالآن باشروهن } فى ليلة الصيام فلفظ الآن ظرف للترخيص المستفاد من هيئة الامر، وليلة الصيام ظرف للمباشرة فانه ليس المراد تقييد المباشرة بالآن الحاضر ولا تبتغوا بالمباشرة قضاء الشهوة فقط { وابتغوا ما كتب الله لكم } من الصيام اى حفظه وامتثاله او ابتغوا ما كتب الله وجعله فى المضاجعة من المؤانسة والسكون اليهن وفراغ القلب باستفراغ الشهوة، او ما كتب الله لكم من الولد فانه فرض تكوينى لان ايداع الشهوة فى الرجال والنساء بحيث لا يطيقون الصبر عنها فى الاغلب وجعل الآتها بحيث يتولد الولد من قضائها أمر بالولد وفرض له وعلى أى تقدير فالمعنى لا تنسوا امر الله فى المضاجعة { وكلوا واشربوا حتى يتبين } يظهر اشد ظهور { لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } الظاهر المتبادران يكون من الفجر تعليلا او يكون من للابتداء ولذلك كانوا فى الصدر الاول ينظرون الى الخيطين فيمسكون عن الاكل والشرب حين تميز الخيطين من الفجر، ويحتمل ان يكون من تبعيضيا او بيانيا والجار والمجرور حال من الخيط الابيض فالآية كسائر الآيات من المجملات وبينوها لنا بأن المراد البياض المعترض المكتنف به سواد الليل وهما فى اول ما يبدوان كالجبلين الممتدين لكنه تعالى شبههما بالخيطين للمبالغة فى الامساك فى اول ظهورهما وقد ذكر عدة اخبار فى وجه نزول الآية فى التفاسير، وحتى يتبين، غاية لباشروهن وكلوا واشربوا جميعا { ثم أتموا الصيام } كأنه قال: فصوموا ثم أتمو الصيام واكتفى عن صوموا بمفهوم الغاية وبين آخر وقت الصيام { إلى الليل } واول الليل اول الغروب كما عليه أكثر الهيويين والمنجمين وأهل العرف او اول المغرب الشرعى كما عليه أهل الشرع من الشيعة { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } بيان حد آخر من حدود المضاجعة وهو المحرمة وقت الاعتكاف الشرعى ليلا ونهارا واقتصر على هذا من بين محرمات المضاجعة لمناسبة الاعتكاف للصوم لكون الصوم شرطا له { تلك } الاحكام المذكورة من اول قوله تعالى: { كتب عليكم الصيام }.
.. حدود الله اى حدود جعلها الله لحماه لئلا يتجاوز عنها المؤمنون فيقعوا فى الهاوية والعذاب، نسب الى النبى (ص) انه قال:
" ان لكل ملك حمى وان حمى الله محارمه فمن رتع حول الحمى يوشك ان يقع فيه "
{ فلا تقربوها } مبالغة فى النهى عنها مثل نهى آدم (ع) عن قرب الشجرة { كذلك } التبيين لآيات الاحكام وحدود الحمى { يبين الله آياته } المطلقة من احكام القالب والقلب وآيات الآفاق والانفس وخصوصا الآيات الكبرى التى هى ذوات الانبياء (ع) والاوصياء (ع) { للناس لعلهم يتقون } يتصفون بالتقوى او يتقون الحدود والمحرمات.
[2.188]
{ ولا تأكلوا أموالكم } عطف على السابق وابداء لحكم آخر حال كونها { بينكم بالباطل } يعنى لا تأكلوا الأموال التى جعلها الله بينكم سواء لا اختصاص بشيء منها بشخص منكم بذاته بل الاختصاص ليس الا بالاعتبار وكل وجه اعتبره الشارع للاختصاص فهو حق وكل وجه لم يعتبره الشارع فهو باطل ضائع لعدم استناده الى اعتبار معتبر حق، فأخذ الاموال وأكلها بوجه لم يعتبره الشارع منهى عنه، اولا تأكلوا الاموال المشتركة بينكم بالوجوه الحقة بداع باطل وباعث غير حق بان تبتغوا التصرف فيها بما لم يأذن به الشارع ويدخل فى الاموال المشتركة المائدة والقصعة والخبز والمياه والفواكه والمجالس المشتركة والوجه الراجح فى التصرف فيها الايثار والمباح المواساة والمرجوح التفاضل مع علم الشريك ورضاه والمنهى الخدعة فى التفاضل وهكذا الحال فى سائر الاموال المشتركة، او لا تأكلوا أموالكم بنية باطلة وداع شيطانى بأن تأكلوا أموال أنفسكم لان تتقووا على اضرار الناس او لمحض تشهى النفس او لا تأكلوا أموال أنفسكم متلبسين بالباطل الذى هو ولاية غير ولى الامر او لا تأكلوها متلبسين بالغفلة عن التذكر أيها المؤمنون، او لا تأكلوها غافلين عن الولاية أيها المسلمون؛ او لا تأكلوها غافلين عن اتباع النبوة ايها الناس { وتدلوا بها إلى الحكام } عطف على المنهى او منصوب بتقدير ان وهذا من قبيل ذكر الخاص بعد العام فان الادلاء بمعنى الالقاء ادلى بماله الى فلان دفعه والقاه اليه؛ والمراد لا تلقوا امر الاموال الى الحكام الالهية او الغير الالهية لتدلسوا على الحكام الالهية وتستظهروا بسبب الرشوة بالحكام الغير الالهية؛ فان الاخذ بالتدليس على الحكام الالهية اشد حرمة من السرقة حيث جعل آلة الدين شركا للدنيا، والاستظهار بالحكام الغير الالهية تحاكم الى الطاغوت ومن تحاكم اليهم فأخذ بحق فقد أخذ سحتا فكيف حال من أخذ بباطل { لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم } الذى هو التدليس والرشوة { وأنتم تعلمون } اى انتم العلماء او تعلمون قبح الباطل والاثم ولا فرق بين كونه قيدا للنهى او المنهى وقد أشير فى الاخبار الى الوجوه التى ذكرت فى الآية.
[2.189-190]
{ يسألونك عن الأهلة } مستأنف مقطوع عن سابقه ولذلك لم يأت بأداة الوصل، والقمر فى اول الشهر الى ليلتين هلال، وقيل: الى ثلاثة، وقيل: الى سبعة، وكانوا يسألون عن الهلال ما باله يبدو فى اول الشهر ضعيفا ثم يتزايد حتى يصير بدرا ثم يتناقص حتى يصير ضعيفا ومختفيا الى ان يظهر فى اول الشهر الآخر هلالا، وكان مقصودهم الاستفسار عن سبب ذلك ولما لم يكونوا اهل نظر ولم يقتدروا على ادراك دقائق اسباب ذلك ولم يكن علم ذلك نافعا لهم فى دنياهم ولا فى آخرتهم أعرض تعالى شأنه عن الجواب المطابق للسؤال وامر نبيه (ص) ان يجيب بالحكم والغايات المترتبة عليه فقال: { قل هي مواقيت } جمع الميقات وهو ما يقدر به الوقت ويعلم يعنى أن الاهلة واختلافها سبب لمعرفة الاوقات ومعرفة ما يعرف بالاوقات من الزراعات والتجارات والديون وعدد النساء والحج والصوم والفطر { للناس } اى لانتفاع الناس { والحج } اى لمناسكه خص هذا بالذكر للاهتمام به لان اكثر مناسكه موقت من الشهر، ويعرف هذه الغايات المترتبة على اختلاف الاهلة بادنى تذكر، وفى معرفتها فوائد كثيرة من معرفة فاعل حكيم مدبر عليم قدير معتن بخلقه ولا سيما بالانسان ومعرفة انعامه واحسانه المستلزم لتعظيمه وشكره والتوجه اليه والتضرع عليه فى الجليل واليسير والقليل والكثير بخلاف ما سألوا عنه.
تحقيق اتيان البيوت من الابواب ومنع الاتيان من الظهور
{ وليس البر } عطف على { هى مواقيت } او على { يسألونك } بطريق الالتفات من الغيبة الى الخطاب ووجه المناسبة بينهما حتى أتى بأداة الوصل ان السؤال عن اختلاف الاهلة من غير اطلاع على هيئة الافلاك ومناطقها ومقادير حركاتها وحقيقة القمر واكتسابه الضوء من الشمس دخول في بيت طلب هذا العلم او فى هذا العلم من ظهره لا من بابه فان باب العلم بما ذكر { بأن تأتوا البيوت } لا اختصاص للبيوت بما يسميه العرف بيوتا كما عرفت { من ظهورها ولكن البر من اتقى } الاتيان من الظهور وقد مضى فى مثل الآية ان حمل الذات على المعنى اما بتصرف فى الاول او فى الثانى او فى النسبة { وأتوا } عطف على محذوف مستفاد من قوله تعالى: { ليس البر } (الى آخرها) اى فلا تأتوها من ظهورها وأتوا { البيوت من أبوابها } كان الظاهر ان يقول: وأتها من ابوابها لكنه عدل الى صيغة الامر ووضع الظاهر موضع المضمر للاشعار بأن اتيان البيوت اى امور المعاش والمعاد مأمور به ومنظور اليه فى نفسه ولو قال: وأتها من ابوابها لتوهم ان المنظور اليه فى النفى والايجاب كليهما هو القيد وان المعنى لو أردتم اتيان البيوت فأتوها من أبوابها لا من ظهورها يعنى ان المقصود النهى عن الدخول من الظهور لا الامر بالدخول فى البيوت، وباب الامور وجهة الاشياء كلها هو الولاية، نسب الى الباقر (ع) انه قال: يعنى ان يأتى الامر من وجهه اى الامور كان، فهو أمر باتيان الامور الدنيوية والاخروية جميعا من وجوهها مثل ان يأتى الحرف والصناعات من وجوهها التى هى اخذ علمها من علمها وتحصيل الاقتدار على عملها بالممارسة والتكرار عند عاملها، ومثل ان يأتى الصناعات العلمية من وجوهها التى هى الاخذ من عالمها والمدارسة عنده، ومثل ان يأتى العلوم والاعمال الالهية من وجوهها التى هى الاخذ من عالم الهى والمدارسة والممارسة عنده وباذنه وتعليمه فالعمدة فى طلب الامور طلب الوجوه المذكورة، والعمدة فى طلب الآخرة والعلوم الالهية طلب عالم الهى منصوب مجاز من الله بلا واسطة او بواسطة او بوسائط وبعد معرفته التسليم والانقياد له لا الاخذ من الاباء والاقران والمشاهدات والعمل بالرسوم والعادات، فقد ورد فى الاخبار والآيات ذم من قال:
إنا وجدنآ آبآءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون
[الزخرف:22] فمن لم يتأمل فى علمه وعمله وفيمن أخذهما منه ولم يميز العالم الالهى بأدنى مرتبة التمييز وهو كون فعله موافقا لقوله كان مذموما مطرودا مبغوضا سواء عد عالما مفتيا مقتدى او جاهلا معدودا من السواقط، نسب الى الباقر (ع) انه قال فى نزول الآية: انهم كانوا اذا أحرموا لم يدخلوا بيوتهم من أبوابها ولكنهم كانوا ينقبون فى ظهور بيوتهم اى فى مؤخرها نقبا يدخلون ويخرجون منه فنهوا عن التدين بها { واتقوا الله } فى الانحراف عن الأبواب والدخول من الظهور { لعلكم تفلحون وقاتلوا في سبيل الله } وسبيل الله هو الولاية، وجميع الاعمال الشرعية من حيث صدورها عن الولاية او ايصالها الى الولاية سبيل الله لأنها سبل سبيل الله، وطريق الكعبة لكونها بالمناسك المشروعة فيها سبيل الله ولكونها مظهرا للقلب الذى هو سبيل الله حقيقة سبيل الله فقوله: { في سبيل الله } ظرف لقاتلوا حقيقة او مجازا او حال عن فاعل قاتلوا ظرفا حقيقيا او مجازيا والمعنى: قاتلوا فى حفظ سبل الله او فى ترويجه واعلائه او فى ارتكابه والاتصاف به او فى طريق الكعبة { الذين يقاتلونكم } هذه الآية منسوخة بحسب مفهوم قيده الذى هو عدم تجاوز المقاتلة عن المقاتلين بقوله:
واقتلوهم حيث ثقفتموهم
[البقرة: 191]، وناسخة بحسب الأمر بالمقاتلة لقوله تعالى:
ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم
[الأحزاب: 48] ولقوه كفوا أيديكم كما روى، وكان النبى (ص) قبل ذلك لا يقاتل احدا، ونقل انه نزل هذه الآية بعد صلح الحديبية وذلك ان رسول الله (ص) لما خرج هو واصحابه فى العام الذى أرادوا فيه العمرة فساروا حتى نزلوا الحديبية صدهم المشركون عن البيت الحرام فنحروا الهدى بالحديبية ثم صالحهم المشركون على ان يرجع فى عامه ويعود فى العام القابل ويخلوا مكة ثلاثة ايام فيطوف بالبيت ويفعل ما يشاء فيرجع الى المدينة من فوره، فلما كان العام المقبل تجهز النبى (ص) واصحابه لعمرة القضاء وخافوا ان لا يفى لهم قريش بذلك وان يقاتلوهم وكره رسول الله (ص) قتالهم فى الشهر الحرام وفى الحرم فأنزل الله تعالى هذه الآية { ولا تعتدوا } بابتداء القتال وبالتجاوز عمن أمرتم بقتاله وبالتعدى عن القتل الى قطع الاطراف والتمثيل { إن الله لا يحب المعتدين } نفى الحب وان كان أعم من البغض لكنه فى أمثال المقام يستعمل فى البغض.
[2.191]
{ واقتلوهم حيث ثقفتموهم } وجدتموهم وعلى ما ذكر من أنه ناسخ للآية الاولى فنزوله كان بعدها بتراخ { وأخرجوهم من حيث أخرجوكم } يعنى من مكة كما كانوا أخرجوكم وقد فعل ذلك بمن لم يسلم { والفتنة أشد من القتل } لما عاب بعض المؤمنين رجلا من الصحابة قتل رجلا من الكفار فى الشهر الحرام وكرهوا القتال فى الحرم والشهر الحرام فى عمرة القضاء قال تعالى { الفتنة } اى الكفر بالله والافساد فى الارض التى ارتكبها المشركون أشد من القتال فارتكاب القتال لدفع محذور أشد ممدوح لا أنه موجب للذم والعقوبة ولكن احفظوا حرمة الحرم وحرمة الشهر الحرام { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم } تصريح بمفهوم الغاية { فاقتلوهم } حتى يكون القتل منكم دفاعا والدفاع فى الحرم حفظ لحرمته لا هتك لها { كذلك } القتل بعد المقاتلة { جزآء الكافرين } بحرمة الحرم او بالله.
[2.192]
{ فإن انتهوا } عن القتال فى الحرم فلا تتعرضوا لهم فيه { فإن الله غفور } يستر ما فرط منهم { رحيم } يرحمهم بترك عقوبتهم على كفرهم فى الحرم.
[2.193]
{ وقاتلوهم } عطف على اقتلوهم يعنى فان قاتلوكم وبدؤكم بالقتال فى الحرم فاقتلوهم وقاتلوهم او عطف على لا تقاتلوهم عند المسجد يعنى لا تقاتلوهم فى الحرم الا ان يبدؤكم بالقتال فيه وقاتلوهم مطلقا فى غيره بقرينة المقابلة { حتى لا تكون فتنة } شرك وافساد { ويكون الدين } اى سيرة الخلق او عبادتهم او طاعتهم او ملتهم { لله فإن انتهوا } عن المقاتلة فى الحرم او عن الشرك مطلقا فانتهوا عن القتال { فلا عدوان } اى لا عقوبة والعدوان مصدر عدا يعدو عدوا بمعنى الظلم والعقوبة من غير استحقاق لكنه جرد هاهنا عن قيد عدم الاستحقاق واستعمل للمشاكلة { إلا على الظالمين } المقاتلين او المشركين.
[2.194]
{ الشهر الحرام بالشهر الحرام } سمى بالشهر الحرام لحرمة القتال فيه حتى لو ان رجلا لقى قاتل ابيه او اخيه فيه لم يتعرض له بسوء، والاشهر الحرم كانت اربعة؛ ثلاثة متوالية؛ ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وواحد فرد وهو رجب، وسمى ذو القعدة بذى القعدة لقعودهم عن القتال فيه ولما كانوا متحرجين بالقتال فى عام عمرة القضاء وكان المشركون تعرضوا لقتالهم فى العام السابق فرفع التحرج عنهم بأن قتال المشركين فى الشهر الحرام بازاء قتالهم اياكم فى الشهر الحرام، او المراد تهنئة المؤمنين وتسليتهم بأن دخول مكة فى ذى القعدة بازاء صد المشركين فى ذى القعدة فى العام السابق فالتقدير قتال الشهر الحرام بقتال الشهر الحرام او دخول مكة فى الشهر الحرام بازاء صدهم عنها فى الشهر الحرام { والحرمات } جمع الحرمة بالضم والسكون وبضمتين وكهمزة ما لا يحل انهتاكه والذمة والمهابة والنصيب { قصاص } قيل: كان المشركون فخروا بردهم رسول الله (ص) فى عام الحديبية فقال تعالى: تهكما بهم: والحرمات فيها قصاص ونسب هذا الى الباقر (ع)، وقيل: انه ايضا رفع لتحرج المسلمين بالقتال فى عام القضاء، يعنى ان الحرمات يجب حفظها ولا يجوز هتكها ولكن يجوز الاقتصاص فيها وجمع الحرمات باعتبار حرمة الشهر وحرمة الاحرام وحرمة الحرم وقوله تعالى { فمن اعتدى عليكم } يؤيد هذا الوجه واعتدى وعدى وتعدى بمعنى ظلم { فاعتدوا عليه } يعنى فى الشهر الحرام وفى الحرم او مطلقا واستعمال الاعتداء مع أنه ليس من المؤمنين اعتداء من باب المشاكلة والتجريد مثل ما مضى فى العدوان { بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله } فى الابتداء بالاعتداء وفى التجاوز الى الزيادة فى الانتصار ولما كان النفوس غير واقفة على قدر ما يفعل بهم فى الاقتصاص بل هى طالبة لان تفعل بالجانى اضعاف ما جنى عليها خوفا من اجتراء الجانى وغيره على التعدى عليها واطفاء لاشتعال غضبها رفع ذلك الخوف واطفأ هذا الاشتعال بقوله { واعلموا أن الله مع المتقين } فلا تخافوا من تعدى عليكم وتسلوا بالله لا بامضاء الغضب.
اعلم ان النفوس فى مراتب التسليم والانقياد مختلفة؛ فنفس لا تقوى على الانقياد اصلا فلا تقبل من الله تعالى امرا ولا نهيا وتعتدى على الغير ابتداء وتقتص من الجانى عليها بما تقدر عليه ولا كتاب معها ولا خطاب وامرها موكول الى وقت المماة، ونفس تقدر على قبول الامر والنهى لكنها لا تقدر على ترك القصاص فرخصها الله تعالى ونهاها عن التجاوز عن قدر الجناية وقال لمثلها على سبيل التلطف: وان تصبروا فهو خير لكم، ونفس تقدر على ترك الاقتصاص لكن لا تقدر على الصفح الذى هو تطهير القلب عن الحقد على الجانى فأمرها تعالى بكظم الغيظ والعفو عن الجانى، ونفس تقدر على الصفح لكن لا تقدر على الاحسان الى الجانى فكلفها تعالى الصفح وآخر المراتب القدرة على الاحسان الى الجانى والله يحب المحسنين، فتكليف الله تعالى على قدر وسع النفوس
لا يكلف الله نفسا إلا وسعها
[البقرة: 286]، وما ورد من المعصومين (ع) صريحا واشارة ان للايمان درجات فلو حمل صاحب الدرجة الاولى على الثانية وصاحب الدرجة الثانية على الثالثة وهكذا هلك؛ اشارة الى هذا المعنى وان لكل نفس تكليفا من الله، وان المفتى ينظر الى احوال الاشخاص ويكلف بحسب احوالهم.
[2.195]
{ وأنفقوا في سبيل الله } قد مضى بيان مفصل للانفاق فى اول السورة وقد مر قبيل هذا بيان سبيل الله والظرف لغوا وحال عن فاعل انفقوا ظرفا مجازيا او حقيقيا والمعنى انفقوا من اموالكم الدنيوية واعراضكم واغراضكم وابدانكم وقواكم وشهواتكم وغضباتكم وانانياتكم وبالجملة من كل ما ينسب الى انانياتكم فى الولاية وكلما ينتسب الى الولاية من الاعمال القالبية والقلبية وسبيل الحج والجهاد { ولا تلقوا بأيديكم } يعنى من غير سبب من الخارج فان قوله { بأيديكم } بمنزلة قولهم فلان فعل بنفسه يعنى من غير واسطة فانه فى الحقيقة لنفى الواسطة لا لاثبات وساطة النفس { إلى التهلكة } يعنى فى الانفاق بان تنفقوا من كلما ذكر ما لا يتحمله النفس فهو فى الحقيقة امر بالاقتصاد فى الانفاق { وأحسنوا } اما تأكيد للاقتصاد المستفاد من الجمع بين الامر بالانفاق والنهى عن اهلاك المال رأسا، او امر باصلاح المال بعد الانتقاص بالانفاق كأنه قال: انفقوا متدرجين فى الانفاق حتى لا يبقى لكم كثير ولا قليل ثم ارجعوا الى ما وراءكم واصلحوا ما ضاع منكم بان تأخذوا مما أنفقتم فى سبيله فيكون اشارة الى مقام البقاء بالله بعد الفناء فى الله { إن الله يحب المحسنين } ولما وقع هذا بعد آية الترخيص فى القصاص جاز ان تخصص الكلمات بالانفاق من القوة المقتضية للاقتصاص والنهى عن ترك القصاص المستلزم للحرج والاحسان الى المقتص منه بتخفيف القصاص والى النفس بامضاء بعض من غضبها.
[2.196]
{ وأتموا الحج والعمرة لله } باتمام مناسكهما وترك المحرمات فيهما، ونسب الى الباقر (ع) انه قال تمام الحج لقاء الامام (ع)، وعن الصادق (ع) اذا حج احدكم فليختم حجه بزيارتنا لان ذلك من تمام الحج، وعلى هذا فيجوز ان يقال: معنى قوله: { وانفقوا فى سبيل الله } أنفقوا مما ينسب الى انانياتكم فى سبيل الحج الصورى والحج المعنوى واقتصدوا فى الانفاق حتى لا تهلكوا انفسكم قبل استكمالها، وأتموا الحج الصورى بلقاء الامام بحسب الصورة والحج المعنوى بلقائه المعنوى فيكون امرا بالفكر الذى هو مصطلح الصوفية وهو عبارة عن المجاهدة فى العبادة والاذكار القلبية واللسانية حتى يصفو النفس من الكدورات فيتمثل الامام على الجاهد { فإن أحصرتم } الحصر والاحصار الحبس والمنع لكنه خصص فى الحج بمن منعه غير العدو عن امضاء حجه والصد بمن منعه العدو واحكامهما موكولة الى الكتب الفقهية { فما استيسر من الهدي } اى فعليكم ما استيسر من الهدى { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا } مرضا يحوجه الى الحلق قبل وصول الهدى محله { أو به أذى من رأسه } يحتاج بسببه الى حلقه { ففدية } اى فعليه حلقه وفدية { من صيام أو صدقة أو نسك } نسب الى الصادق (ع) أنه قال: اذا أحصر الرجل بعث بهديه فان اذاه رأسه قبل ان ينحر هديه فانه يذبح شاة فى المكان الذى أحصر فيه او يصوم او يتصدق والصوم ثلاثة ايام والصدقة على ستة مساكين نصف صاع لكل مسكين { فإذآ أمنتم } اى اذا كنتم آمنين من الحصر والصد { فمن تمتع بالعمرة } تلذذ بالمحللات فى العمرة بان احل من احرامها او بسبب احلال العمرة او بنفس العمرة تلذذا روحانيا فان العبادات ولا سيما مناسك الحج التى هى صور مناسك بيت الله الحقيقى فيها لذة روحانية لا تقاس باللذات الجسمانية { إلى الحج } اى احرام الحج او منصرفا الى الحج او مستمرا تمتعه الى اتمام الحج { فما استيسر من الهدي } فعليه ما تيسر له من دم وأقله شاة يعنى ان من احرم بحج التمتع بان يقدم العمرة على الحج فاحرم من الميقات ودخل مكة وطاف بالبيت وصلى وسعى واحل ثم احرم بالحج من الحرم يجب عليه الهدى وهذا النوع من الحج فرض النائى عن مكة وهو من كان بين منزله وبين مكة اثنا عشر ميلا او ثمانية واربعون ميلا او ثمانية عشر ميلا او ازيد من تلك المقادير على خلاف فى الاخبار والفتاوى { فمن لم يجد } الهدى ولا ثمنه { فصيام ثلاثة أيام في الحج } اى فعليه ان يصوم ثلاثة ايام فى ايام الحج والافضل ان يصوم قبل العاشر بثلاثة ايام والمجوز من اول العشرة فان لم يصم قبل فبعد أيام التشريق { وسبعة إذا رجعتم } الى اهاليكم لا من منى كما قيل { تلك عشرة كاملة } الاتيان بالفذلكة من عادة المحاسبين فجرى تعالى على عادتهم والتوصيف بالكاملة اما للاشارة الى انها كاملة كمال الاضحية لئلا يتوهم متوهم ان الصوم ينقص من الاضحية وهذا مروى عن الصادق (ع) وعلى هذا فالتعديل بالاضحية وجه آخر للاتيان بالفذلكة وقيل: الاتيان بالفذلكة والتأكيد بالكاملة لرفع توهم كون الواو بمعنى او للاباحة او التخيير { ذلك } التمتع بالعمرة الى الحج لا الصيام بدل الاضحية ولا الهدى { لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } قد مضى انه فرض النائى { واتقوا الله } اى سخطه فى تغيير أحكامه ومخالفة أوامره ونواهيه { واعلموا أن الله شديد العقاب } فى موضع النكال والنقمة.
[2.197-198]
{ الحج أشهر } مستأنف لبيان حكم من احكام الحج كأنه قيل: اى وقت وقت الحج؟ - فقال: وقت الحج اشهر { معلومات } وفى حمل الذات على المعنى ما مر من انه بالمجاز فى اللفظ او فى الحذف او فى النسبة والاشهر المعلومات شوال وذو القعدة وذو الحجة الى التاسع او الى العاشر للمختار والمضطر { فمن فرض فيهن الحج } نسب الى الصادق (ع) انه قال: الفرض التبلية والاشعار والتقليد، واستعمال الفرض مع ان الحكم جار فى الندب والفرض للاشعار بأن الندب بعد الاحرام يصير كالفرض فى وجوب الاتمام والقضاء لو اخل بالوطئ قبل المشعر وقيل: من احرم لزمه الاتمام مطلقا واجبا كان او ندبا شرط لنفسه العدول اولا { فلا رفث } لا جماع ولا نظر بشهوة ولا قبلة ولا مواعدة { ولا فسوق } الكذب والسباب او مطلق ما يخرج الانسان من الحق { ولا جدال } لا مخاصمة بحق او باطل وفسرت بالجماع وبالكذب والسباب وبقول: لا والله، وبلى والله، { في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله } ترغيب فى العمل لله والمقصود أنه يجازيكم لأنه عالم وعادل لا يهملكم من غير مجازاة { وتزودوا } كانوا لا يتزودون فى طريق الحج ويلقون كلهم فى الطريق على الغير فنهاهم الله تعالى عن ترك التزود بالطعام وقيمته والتزود بالتوكل والقاء الكل على الغير { فإن خير الزاد التقوى } عن السؤال والقاء الكل على الغير لا التوكل على الله والتذلل على الناس او المراد تزودوا فى مناسك الحج لمعادكم بالتقوى عما نهيتم عنه ظاهرا مما يترك فى الحج وباطنا من النيات والاغراض سوى امر الله { واتقون } اى سخطى وعذابى فى مخالفة أمرى ونهيى { يأولي الألباب } { ليس عليكم جناح } كانوا يتأثمون بالتجارة فى طريق الزيارة كما كانوا لا يتزودون لذلك وكما ان المتزهدين فى زماننا يتحرجون بالتجارات فى طريق الزيارات وهكذا حال السلاك فى طريق بيت الله الحقيقى يتحرجون بالالتفات الى ما وراءهم وبالتجارات الرائجة فى حق حرثهم ونسلهم وقد كفلهم الله القيام بأمر النسل وحفظ الحرث فنفى تعالى الجناح عنهم فى التجارة بل أمرهم بها فان نفى التأثم فى امثال المقام عن شيء يستعمل فى الامر به فقال: ليس عليكم جناح { أن تبتغوا فضلا من ربكم } بالتجارات الظاهرة والباطنة { فإذآ أفضتم } أفاض الماء أفرغه والناس { من عرفات } دفعوا أنفسهم او رجعوا وتفرقوا او أسرعوا او اندفعوا من عرفات اسم لا بعد مناسك الحج من مكة سميت بعرفات لارتفاعها وارتفاع جبالها، او لان ابراهيم (ع) عرفها بما وصفها به جبرئيل، او لان جبرئيل قال لآدم (ع) فى هذا الموضع: اعترف بذنبك واعرف مناسكك، او لان آدم (ع) وحواء التقيا فيها وعرف كل صاحبه، او لان يوم الوقوف بها يوم عرفة وسمى يوم عرفة بعرفة لان ابراهيم (ع) عرف فى هذا اليوم ان رؤياء ذبح الولد كانت رحمانية لا شيطانية والاتيان بالفاء الدالة على التعقيب وباذا الدالة على الوقوع بعد الامر بابتغاء الفضل يومى الى ان الافاضة من عرفات الدالة على الوقوع فيها متحققة مسلمة مفروغ عنها ولا حاجة الى ان يحكم بها وهذا يناسب التأويل فان السالك الى الله والحاج للبيت الحقيقى الذى هو القلب يتحرج بحمل الزاد وبابتغاء الفضل، واذا ابتغى الفضل بسبب أمره تعالى يتنزل الى ابعد مراتب النفس من القلب كما مر سابقا واذا وقع الى انزل مراتبها لا يمكنه القرار فيها بل يفيض منها كأنه يدفعه دافع الى طريقه لكنه لا يصل الى البيت من دون وقوف فى الطريق فيقف فى المزدلفة ثم فى منى ثم يفيض منه الى مكة القلب فكان الوقوع فى عرفات والوقوف لازم لابتغاء الفضل والافاضة منها لازمة للوقوع فيها، وهكذا الوقوف بالمزدلفة والمنى { فاذكروا الله عند المشعر الحرام } بالوقوف فيه ليلة النحر وباداء الصلاة الفريضة والادعية والاذكار المأثورة وغير المأثورة، وفى تفسير الامام (ع) أنه قال: بآلائه ونعمائه والصلاة على سيد انبيائه وعلى سيد اصفيائه { واذكروه كما هداكم } اى مثل الذكر الذى هداكم اليه على لسان نبيه (ص) او من اجازة نبيه (ص)، وهذا يدل على ما قالته العلماء الاعلام وعرفاء الاسلام ان العمل اذا لم يكن بتقليد عالم حى لم يكن مقبولا ولو كان مطابقا.
وقال الصوفية: ان الذكر اللسانى او القلبى اذا لم يكن مأخوذا من عالم مجاز من اهل الاجازة وعلماء اهل البيت لم يكن له أثر ولا ينتفع صاحبه به، ويحتمل ان يكون ما مصدرية او كافة والمعنى اذكروه ذكرا يوازى هدايته لكم وعلى اى تقدير يستنبط التعليل من اعتبار حيثية الهداية ولذلك قيل: ان هذه العبارة للتعليل { وإن كنتم } ان مخففة من المثقلة { من قبله لمن الضآلين } الجملة حالية.
[2.199]
{ ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } يعنى افيضوا من عرفات والافاضة منها مستلزمة للوقوع فيها فكأنه قال: قفوا بعرفات ثم افيضوا منها ولا تقتصروا على الوقوف بالمزدلفة والافاضة منها، فانه انت قريش لا يرون للوقوف بعرفات فضلا وكانوا يقفون بالمشعر الحرام وبه يفتخرون على الناس فنهاهم الله عن ذلك وأمرهم بالوقوت بعرفات والافاضة منها، وعلى هذا فالاتيان بثم للتفاوت بين الامرين يعنى بعد ما علمتم الوقوف بالمزدلفة ينبغى لكم الوقوف بعرفات مثل الناس فلا تستنكفوا منه ولا تفتخروا بالوقوف بالمزدلفة، وقيل: ان الآية على التقديم والتأخير اى ليس عليكم جناح ان تبتغوا فضلا من ربكم ثم افيضوا من حيث افاض الناس فاذا افضتم من عرفات، وروى عن الباقر (ع) أنه قال: كانت قريش وحلفاؤهم من الحمس لا يقفون مع الناس بعرفات ولا يفيضون منها ويقولون: نحن اهل حرم الله فلا نخرج من الحرم فيقفون بالمشعر ويفيضون منه فأمرهم الله ان يقفوا بعرفات ويفيضوا منها، وعن الحسين (ع) انه قال: فى حج النبى (ص) ثم غدا والناس معه وكانت قريش تفيض من المزدلفة وهى جمع ويمنعون الناس ان يفيضوا منها فأقبل رسول الله (ص) وقريش ترجوا ان تكون افاضته (ص) من حيث كانوا يفيضون، فأنزل الله، ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس يعنى ابراهيم (ع) واسماعيل (ع) واسحاق (ع)، ويجوز بحسب اللفظ ان يكون المراد بالافاضة هاهنا الافاضة من المشعر الحرام بل لا تدل الآية بظاهرها الا عليه وفى تفسير الامام (ع) ما يدل عليه فان فيه { ثم افيضوا من حيث افاض الناس } اى ارجعوا من المشعر الحرام من حيث رجع الناس من جمع، قال والناس فى هذا الموضع الحاج غير الحمس فان الحمس كانوا لا يفيضون من جمع، وفيه دلالة على ان جمعا اسم لموضع خاص من المشعر وان المراد من الافاضة من حيث افاض الناس الافاضة من موضع خاص من المشعر الحرام لكنه مخالف لما روته العامة والخاصة من انهم كانوا لا يفيضون من عرفات فأمرهم الله ان يقفوا بعرفات ثم يفيضوا منها { واستغفروا الله } مما فعلتم بآرائكم الزائغة وأهوائكم الباطلة من تغيير المناسك والاستنكاف من الوقوف بعرفات مثل الناس { إن الله غفور } يغفر بعد الاستغفار والاعتراف والدخول تحت طاعة خليفته الذنوب والنقائص اللازمة لكم من انانيتكم { رحيم } يرحمكم بعد مغفرتكم بفتح باب القلب وادخالكم فى دار رحمته.
[2.200]
{ فإذا قضيتم مناسككم } جملة افعال الحج الى الثالث عشر من ذى الحجة { فاذكروا الله } حيثما كنتم او مناسككم بعرفات والمزدلفة فاذكروا الله بمنى ومكة او اذا قضيتم مناسككم فيهما وفى منى بالحلق او التقصير فاذكروا الله بمكة او اذا قضيتم فى هذه المواضع وفى مكة فاذكروا الله فى ايام منى، ويؤيده تفسير الذكر بالتكبيرات فى ايام منى { كذكركم آبآءكم أو أشد ذكرا } نسب الى الباقر (ع) انه قال: كانوا اذا فرغوا من الحج يجتمعون هناك ويعدون مفاخر آبائهم ومآثرهم فأمر الله سبحانه ان يذكروه مكان ذكر آبائهم فى هذا الموضع او اشد ذكرا { فمن الناس } عطف نحو عطف التفصيل على الاجمال باعتبار المعنى كأنه قيل الناس فى ذكر الله أصناف او قائم مقام جزاء شرط محذوف كأنه قال: واذا ذكرتم الله فأخلصوا نياتكم عن طلب الدنيا لأن من الناس { من يقول ربنآ آتنا في الدنيا } ولم يذكر المسؤل للاشعار بأنه من جنس الدنيا فلا حاجة الى ذكره بخلاف المؤمن فانه لا يطلب فى الدنيا الا ما هو مطلوب للآخرة ولذلك ذكر مطلوبه.
اعلم ان الدنيا معبر الكل لا وقوف لاحد فيها قد وكل الله على كل نفس جنودا كثيرة يعنفونه السلوك الى الآخرة لا يدعونه يقف آنا واحدا فى مقام، فالاحمق من يظن المقام فيها ويطلب من القادر الغنى ما يتركه ويذهب هو عنه فالطلب للدنيا من غاية العمى عنها وعن الآخرة، ولما كان الناظر الى الدنيا اعمى عنها وعن ذهابها عنه وكان لا يطلب فيها للآخرة شيئا وما يطلب للدنيا لا يبقى معه فيخرج من الدنيا صفر اليدين من متاع الدنيا والآخرة قال تعالى { وما له في الآخرة من خلاق } نصيب من الخير فانه يستعمل فى الخير.
[2.201]
{ ومنهم من يقول ربنآ آتنا في الدنيا حسنة } قد فسرت الحسنة فى الدنيا بنعيمها، وبسعة الرزق، والمعاش، وبحسن الخلق، وبالعلم، والعبادة، وبالمرأة الصالحة، وباللسان الشاكر والقلب الذاكر والزوجة المؤمنة، بل روى ان من اوتى تلك الثلاثة فقد اوتى حسنة الدنيا والآخرة، والوجه فى ذلك ان المراد بحسنة الدنيا ما يرجع الى القوى النفسانية وحظوظها بحيث لا يعاوقها عن سلوكها الى ربها؛ ونعم ما قال المولوى قدس سره:
آتنا فى دار دنيانا حسن
آتنا فى دار عقبانا حسن
راه را برما جوبستان كن لطيف
مقصد ما باش هم تواى شريف
{ وفي الآخرة حسنة } يعلم حسنة الآخرة بمقايسة ما ذكر فى حسنة الدنيا { وقنا عذاب النار } لما كان كل ما يسوء الانسان من حيث انسانيته من مظاهر الجحيم وآلامها سواء كانت من ملائمات الحيوانية اولا فسر عذاب النار بالمرأة السوء والشهوات والذنوب وبالحمى وسائر الالام.
[2.202]
{ أولئك } العظام { لهم نصيب مما كسبوا } يعنى من جملة ما كسبوا ومنها سؤالهم حسنة الدنيا والآخرة يعنى لا يضاع عمل عامل منهم، والمعنى لهم نصيب ناشئ مما كسبوا او نصيب هو بعض مما كسبوا وهذا المعنى يشعر بصحة تجسم الاعمال كما عليه اهل المذهب وهو حق مثبت بالاخبار الكثيرة ويشعر به الآيات ويحكم به العقل، فان التحقيق؛ ان العلم ليس بصورة عرضية هى كيف للنفس كما عليه المشاؤن، ولا باضافة بين العالم والمعلوم كما قيل، ولا بمحض مشاهدة رب النوع او صورة المعلوم فى عالم المثال، بل هو شأن من النفس به يحصل سعتها والنفس وشؤونها من عالم المتقدرات والاجسام النورية باعتبار مركبها المثالى وكل عمل يعمله الانسان لا بد ان يتصوره فى مقامه المجرد اجمالا ويصدق بالغاية النافعة المترتبة عليه ثم ينزله من مقامه العالى الى مقامه الخيالى فيتصوره بنحو التفصيل والجزئية ويصدق فى ذلك المقام بغايته ثم يحدث له ميل اليه ثم عزم ثم اراده فتهيج الارادة القوة الشوقية وهى تبعث القوة المحركة وهى تحرك الاعصاب ثم الاوتار ثم العضلات ثم الاعضاء ثم يتدرج العمل فى الوجود ثم يعود متدرجا كما يحدث متدرجا من طريق الباصرة او السامعة الى الحس المشترك ثم الى الخيال والواهمة ثم الى العاقلة فيعود الى ما منه بدأ، فكل عمل يحصل صورته فى المقامات العلمية للانسان نزولا وصعودا وقد عرفت ان بعض مقاماته العلمية غير خارج عن التقدر والتجسم فالعمل يتصور فى مقام تجسم النفس فيصح ان يقال ان العمل تجسم ولتجسم الاعمال وجه آخر وهو ان الله تعالى يوجد بعمل العبد من الاجسام الاخروية ما يشاء من الانهار والاشجار والاثمار والحور والقصور، بمعنى ان الاعمال تكون مادة هذه يعنى ان الاعمال تتجسم فى عالمه الصغير وينشأ فى الكبير امثال صورها فى العالم الصغير فان العالم الكبير كالمرآة للعالم الصغير { والله سريع الحساب } عطف فيه دفع توهم فانه قد يتوهم ان اعمال العباد كثيرة متدرجة لا يمكن ضبطها حتى يجزى بها العباد فقال تعالى دفعا لهذا الوهم ان الله يحاسب على الجليل والحقير والقليل والكثير ولا يعزب عنه شيء لانه سريع الحساب ومن سرعة حسابه انه ينظر الى حساب الكل دفعة واحدة وكما ان الكل منظور اليه دفعة واحدة كل الاعمال من صغيرها وكبيرها يقع فى نظره دفعة واحدة فلا يفوته حساب احد ولا يعزب عنه شيء من عمل احد، وانموذج محاسبة الله ومكافأته ومجازاته يكون مع العباد من اول التكليف ولا يشذ من اعمالهم حقير ولا جليل الا يظهر شيء من مجازاته عليهم لو كانوا متنبهين لا غافلين ولمعرفة هذا الامر أمروا العباد بالمحاسبة قبل محاسبة الله فان العبد اذا حاسب نفسه بان يكون مراقبا لها ومحاسبا لاعمالها يظهر عليه ان كل فعل من الخير والشر يستعقب فعلا آخر او عرضا من اعراض النفس او خلقا من اخلاقها، فحاسبوا عباد الله قبل ان تحاسبوا حتى تعلموا ان الله لا يدع شيئا من اعمال العباد الا يجازي به ولا يشغله عمل عامل منكم عن عامل آخر، ولا يشذ عنه حقير لحقارته.
[2.203]
{ واذكروا الله } عطف على قوله { فاذكروا الله كذكركم آبآءكم } { في أيام معدودات } فسرت الآيام المعدودات بايام التشريق وهى ثلاثة ايام بعد النحر والذكر بالمأثور من التكبيرات عقيب الصلوات الخمس عشرة من ظهر يوم النحر الى صبح الثالث عشر لمن كان بمنى ولغيره الى عشر صلوات الى صبح الثانى عشر والتكبيرات المأثورات: الله اكبر، الله اكبر، لا اله الا الله والله اكبر، الله اكبر ولله الحمد، الله اكبر، على ما هدانا، الله اكبر على ما رزقنا من بهيمة الانعام. وقوله تعالى { فمن تعجل في يومين } يدل على هذا التفسير للأيام المعدودات فلا يعبأ بغيره والمراد التعجيل فى النفر فى اليوم الثانى عشر والتأخير الى الثالث عشر سواء قدر من تعجل فى النفر او فى الذكر، والمراد بتعجيل الذكر تعجيل اتمامه فى منى فى الثانى عشر وبتأخيره تأخير اتمامه الى الثالث عشر { فلا إثم عليه } رد على من اثم المتعجل من اهل الجاهلية فان بعضهم كانوا يؤثمون المتعجل { ومن تأخر فلا إثم عليه } رد على جماعة اخرى كانوا يؤثمون المتأخر { لمن اتقى } اى هذا الحكم والتخيير فى النفر بين الثانى عشر والثالث عشر لمن اتقى الصيد فى احرامه فان اصابه لم يكن له ان ينفر فى النفر الاول وهذا مدلول بعض الاخبار، وفى بعض الاخبار لمن اتقى منهم الصيد واتقى الرفث والفسوق والجدال وما حرم الله عليه فى احرامه، وفى بعض الاخبار ليس هو على ان ذلك واسع ان شاء صنع ذا وان شاء صنع ذا؛ لكنه يرجع مغفورا له لا اثم عليه ولا ذنب له يعنى ليس المقصود بيان التخيير فقط بل بيان تطهيره من الذنوب كيوم ولدته امه ان اتقى ان يواقع الموبقات فانه ان واقعها كان عليه اثمها ولم يغفر له تلك الذنوب السالفة بتوبة قد أبطلها بموبقاته بعدها وانما تغفر بتوبة يجددها، وفى بعض الاخبار: من مات قبل ان يمضى الى أهله فلا اثم عليه ومن تأخر فلا اثم عليه لمن اتقى الكبائر او لمن اتقى الكبر وهو ان يجهل الحق ويطعن على أهله، ونسب الى الصادق (ع) انه قال: انما هى لكم والناس سواء وانتم الحاج وفى خبر انتم والله هم ان رسول الله (ص) قال لا يثبت على ولاية على (ع) الا المتقون { واتقوا الله } بعد تلك الايام ان تواقعوا الموبقات حتى لا تحملوا اثقال ذنوبكم السالفة مع ثقل الذنب الذى اتيتموه ولا تحتاجوا الى توبة اخرى او الامر بالتقوى مطلق اى اتقوا سخط الله فى ترك المأمورات وارتكاب المنهيات { واعلموآ أنكم إليه تحشرون } فيجازى كلا على حسب عمله ترغيب وتهديد.
[2.204]
{ ومن الناس من يعجبك قوله } تخلل الاجنبى يمنع من عطفه على قوله { من الناس من يقول ربنا آتنا } (الى آخرها)، وانشائية الجمل السابقة تمنع من عطفه عليها، وكون الواو للاستيناف مما يمنع منه السليقة المستقيمة فبقى ان يكون عطفا على محذوف مستفاد من السابق فكأنه قال: فمن الناس من يذكر الله من غير نفاق لمحض الدنيا، ومنهم من يذكره للدنيا والآخرة، ومنهم منافق لا يذكر الله الا للتدليس وهو بحيث يعجبك قوله { في الحياة الدنيا } حال عن مفعول يعجبك او متعلق بقوله او حال عنه او عن الضمير فى قوله يعنى اذا تنزلت فى مقام الحياة الدنيا ونظرت من ذلك المقام الى مقاله تعجبت منه او هو اذا تكلم فى امر الحياة الدنيا او حفظها تعجبت منه لا اذا كنت فى مقام الحياة الاخرى، او لا اذا تكلم فى الحياة الاخرى { ويشهد الله على ما في قلبه } ادعاء بادعاء ان ما فى قلبه هو الحق الموافق لقوله لا على ما فى قلبه حقيقة فانه يدلس باظهار ما لم يكن فى قلبه والمراد بالاشهاد جعله متحملا للشهادة او مؤديا لها وهذا ديدن الكذاب فانه لما لم يجد من يصدقه ولا ما يحتج به يحلف بالله ويشهد بالله وصار قولهم: الكذاب حلاف مثلا، وقد اشار تعالى بقوله:
ولا تطع كل حلاف مهين
[القلم:10] الى انه كذاب { وهو ألد الخصام } الد افعل مثل احمر وليس للتفضيل مثل افضل بمعنى الخصم الشحيح الذى لا يزيغ الى الحق، والخصام مصدر، او جمع لخصم والآية عامة لجملة المنافقين وان ورد فى نزولها انها فى معاوية ومن وافقه.
[2.205]
{ وإذا تولى } ادبر عنك او تولى امرا من امورك او امور الدنيا او صار واليا على الخلق { سعى } اى اسرع فى السير { في الأرض } ارض العالم الصغير او العالم الكبير، او ارض القرآن، او الاخبار، او السير الماضية من الانبياء (ع) وخلفائهم (ع) { ليفسد } ليوقع الفساد { فيها } والافساد تغيير الشيء عن الكمال الذى هو عليه، او منعه عن الوصول الى كماله، واللام لام الغاية او لام العاقبة فان المنافقين يظنون انهم يصلحون، { وإذا قيل لهم: لا تفسدوا في الأرض قالوا: إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون } { ويهلك } اى يفنى اصلا { الحرث } ما يزرعه الناس من نبات الارض او ما أنبته الله من مطلق نبات الارض { والنسل } الولد الصغير من المتوالدات او من الانسان.
تحقيق الافساد فى الارض واهلاك الحرث والنسل
اعلم ان عالم الطبع بسماواته وسماوياته وارضه وارضياته متجدد ذاتا وصفة وفى كل آن له فناء من قبل نفسه وبقاء من قبل موجده، وحاله بالنسبة الى موجده حال شعاع الشمس بالنسبة الى الشمس فان الشعاع الواقع على السطح لا بقاء له فى آنين بدليل انه اذا وقع الشعاع من روزنة بعيدة على سطح ينعدم عنه بمحض سد الروزنة ولا يبقى بعد سدها آنين والمبقى للاشياء على سبيل الاتصال بحيث يختفى تجددها هو المشيئة بوجه كونها رحمة رحمانية عامة، وان الكائنات لها قوة واستعداد وبحسب تفاوت الاستعدادات تتدرج فى الخروج من القوة الى الفعل سريعا او بطيئا، وتجدد الفعليات عليها ليس الا بالمشيئة بوجه كونها رحمة رحيمية والمتحقق بالمشيئة بوجه كونها رحمة رحمانية محمد (ص) من حيث رسالته والمتحقق بها بوجه كونها رحمة رحيمية هو (ص) من حيث ولايته فبقاء الاشياء بالرسالة واستكمالها بالولاية فكل شيء بلغ الى آخر كمالات نوعه كان قابلا للولاية على ما ينبغى له وما لم يبلغ انتقص من قبوله الولاية بحسبه، وكلما لم يستكمل فى نوعه بشيء من كمالاته لم يكن يقبل شيئا من الولاية كما ورد عنهم (ع) فى الاراضى السبخة والمياه المرة او المالحة والبطيحة انها لم تقبل ولايتنا اهل البيت، هذا بحسب التكوين ولو انقطع هذه الرحمة الرحيمية التكوينية عن الاشياء لم يستكمل شيء منها فى شيء من مراتب كمال نوعه كما انه لو انقطع الرحمة الرحمانية عن الاشياء لما بقي شيء آنين، والى هذا الانقطاع اشاروا (ع) بقولهم: لو ارتفع الحجة من الارض لساخت الارض بأهلها، واما بحسب التكليف فالناس مكلفون بالاقبال والتوجه على الولاية كما ان صاحب الولاية متوجه اليهم وبهذا الاقبال وذلك التوجه يستكمل الحرث والنسل فى العالم الصغير ويزرع ما لم يكن يزرع بدون قبول الولاية والبيعة والمعاهدة ويتولد ما لم يكن يولد بدونها، وكلما ازداد التوجه من الخلق ازداد التوجه من صاحب الامر وبازدياد التوجهين يزداد الحرث والنسل واستكمالهما فى العالم الصغير وبازديادهما وازدياد استكمالهما فى الصغير يزداد وجودهما واستكمالهما فى العالم الكبير فكل من جاهد فى استرضاء صاحبه ازداد بحسب جهاده توجه صاحب الوقت ورضاه عنه، وبحسب ازدياد توجهه ورضاه يزداد البركة فى الحرث والنسل فى العالم الصغير والكبير؛ واليه اشار بقوله تعالى: { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السمآء } فى العالم الصغير والارض فى العالم الكبير؛ او من كليهما فى كليهما، وبقوله تعالى:
ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل ومآ أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم
[المائدة: 66] يعنى فى الصغير وفى الكبير؛ ونعم ما قال المولوى قدس سره:
تا توانى در رضاى قطب كوش
تا قوى كردد كند در صيد جوش
جون برنجد بينوا كردند خلق
كزكف عقل است جندين رزق خلق
او جو عقل وخلق جون اجزاى تن
بستة عقل است تدبير بدن
ضعف قطب ازتن بود از روح نى
ضعف در كشتى بود در نوح نى
يا رئى ده در مرمه كشتيش
كر غلام خاص و بنده كشتيش
يا ريت در تو فزايد نى در او
كفت حق: ان تنصرو الله ينصرو
ومن هذا يعلم ان التوجه التكليفى وازدياده مورث لقوة الولاية التكوينية، وازدياد الحرث والنسل وازدياد استكمالهما فى الصغير والكبير، والاعراض عن الولاية التكليفية مورث لافسادهما واهلاكهما فى الصغير والكبير، وكلما ازداد الاعراض ازداد الافساد والاهلاك واذا انجر الاعراض الى منع الغير ازداد اشد ازدياد واذا انجر الى التكذيب والاستهزاء كان غاية الافساد والاهلاك؛ وقوله تعالى:
ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون
[الروم:10] اشارة الى هذا؛ وعلى هذا يجوز ان يقال: واذا تولى عن الولاية سعى فى الارض ولكن غاية سعيه الافساد فيها واهلاك الحرث والنسل ولا يشعر هو به { والله لا يحب الفساد } ومثله يستعمل فى معنى يبغض الفساد وان كان بحسب مفهومه اعم منه.
[2.206]
{ وإذا قيل له اتق الله } اتق سخط الله فى الافساد والاهلاك استنكف من نصح الناصح لانه لا يظن من نفسه سوى الاصلاح يعنى { أخذته العزة } اى المناعة والاستنكاف { بالإثم } اى بسبب الاثم الذى اكتسبه قبل او اخذته العزة بقيد الاثم الذى ينهى عنه اى حملته العزة على ازدياد الافساد والاهلاك للجاجته { فحسبه جهنم ولبئس المهاد } المهاد ككتاب الفراش والموضع الذى يهيئ للسكون عليه.
[2.207]
{ ومن الناس من يشري } يبيع { نفسه ابتغآء مرضات الله } يعنى لا لنفسه او لنفسه ولكن من غير استشعار بالابتغاء فانه ان كان ابتغاء مرضات الله لنفسه بالاستشعار كان مناقضا لقوله يشرى نفسه، ونزول هذه الآية فى على (ع) وبيتوتته على فراش النبى (ص) ليلة فراره (ص) كما روى بطريق العامة والخاصة وتجرى الآية الاولى فى كل منافق لا يتوسل الى ربه والثانية فى كل من قام عن نفسه وطرح انانيته وفنى فى ربه وبينهما مراتب ودرجات ادرجها تعالى فى صنفين الاول من توسل بالله لتعمير دنياه بمراتبه والثانى من توسل بالله لدنياه وآخرته واشار اليهما بقوله:
فمن الناس من يقول
[البقرة: 200] الى آخر الآية { والله رؤوف بالعباد } فبرأفته يمهل المنافق ويحفظ الفانى ويجزى طالب الدنيا والآخرة والرأفة والرحمة متقاربتان اذا اجتمعتا فان الرحمة امر نفسانى والرأفة ما يشاهد من آثارها على الاعضاء.
[2.208]
{ يأيها الذين آمنوا } بعد ما بين اصناف الناس نادى المؤمنين اى الداعين لله للدنيا او للدنيا والآخرة او لذاته تهييجا لهم بلذة النداء ثم امرهم بالدخول فى مرتبة الصنف الاخير فقال { ادخلوا في السلم } بالكسر والفتح الصلح وقرئ بهما والمراد بالايمان هو الاسلام الحاصل بالبيعة العامة وقبول الدعوة الظاهرة ، والمراد بالسلم الولاية والبيعة الخاصة وقبول الدعوة الباطنة سميت بالسلم لان الداخل فى الايمان الحقيقى بقبول الدعوة الباطنة وقبول الولاية يحصل له تدريجا الصلح الكلى مع كل الموجودات ولا ينازع شيئا منها فى شيء من الامور { كآفة } جميعا حال عن فاعل ادخلوا او عن السلم بمعنى الدخول فى جميع مراتب السلم، ويجوز ان يكون اسم فاعل من كف بمعنى منع وتكون التاء للمبالغة ويكون حالا من السلم اى ادخلوا فى السلم حال كونه مانعا لكم عن الخروج او عن الشين والنقص { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } عن الصادق (ع) السلم ولاية على (ع) والائمة (ع) والاوصياء من بعده، وخطوات الشيطان ولاية اعدائهم. وعن تفسير الامام (ع) يعنى فى السلم والمسالمة الى دين الاسلام كافة جماعة ادخلوا فيه فى جميع الاسلام فاقبلوه واعملوا فيه ولا تكونوا كمن يقبل بعضه ويعمل به ويأبى بعضه ويهجره، قال (ع) ومنه الدخول فى قبول ولاية على (ع) كالدخول فى قبول نبوة محمد (ص) فانه لا يكون مسلما من قال: ان محمد (ص) رسول الله فاعترف به ولم يعترف بان عليا (ع) وصيه وخليفته وخير امته، وقد مضى بيان لخطوات الشيطان واتباعها عند قوله تعالى:
كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين
[البقرة: 168] قد مضى بيانه هنالك.
[2.209]
{ فإن زللتم } عن الدخول فى السلم { من بعد ما جآءتكم البينات } الحجج الواضحات على ما دعيتم اليه { فاعلموا أن الله عزيز } لا يمنعه عن الانتقام مانع { حكيم } فى علمه يدرك دقائق ما صدر منكم، وحكيم فى عمله لا يدع شيئا منها بلا مكافاة، ولا سبب للعفو عنكم حتى يعفو عن بعض أعمالكم، او المراد فان زللتم من بعد دخولكم فى السلم ومن بعد ما جاءتكم البينات اى الواردات الأحوال الالهية المشهودة لكم { فاعلموا أن الله عزيز } لا يمنعه من العفو او لا يمنعه من الانتقام مانع حكيم يجعل السلم بحكمته سببا للعفو، او يكافئ القليل والكثير.
[2.210]
{ هل ينظرون } ثم صرف الكلام الى المنافقين بعد نداء الفرق الثلاث من المسلمين فقال تعالى: هل ينظر هؤلاء المنافقون المتزينون فى ظاهر حالهم { إلا أن يأتيهم الله } اى امر الله او بأسه او يأتيهم الله بحسب مظاهره فان اتيان المظاهر اتيان الله بوجه كما قال
ولكن الله قتلهم
[الأنفال: 17]،
ولكن الله رمى
[الأنفال: 17]، و
يعذبهم الله بأيديكم
[التوبة: 14] وقد قال على (ع): يا حار همدان من يمت يرنى؛ والمراد من وقت اتيان الله وقت نزع الروح { في ظلل } جمع الظلة وهى ما اظلك { من الغمام } على التشبيه فان الاهوال عند الموت ترى كالغمام وسمى الحساب غماما لا يراثه الغم فيناسبه الاهوال { والملائكة } قرئ بالرفع والجر عطفا على الله او الظلل او الغمام. وعن الرضا (ع) { إلا أن يأتيهم الله } بالملائكة { في ظلل من الغمام } قال: وهكذا نزلت { وقضي الأمر } امر اهلاكهم وهو عطف على ان يأتيهم واتى بالماضى تأكيدا فى تحقق وقوعه، ويجوز ان يكون حالا بتقدير قد، ويجوز ان يراد بالآية المحاسبة يوم القيامة او الرجعة، وقد اشير فى الاخبار الى الكل.
تحقيق معنى الرجوع الامور الى الله تعالى
{ وإلى الله ترجع الامور } يعنى بعد انقضاء الحياة وارتفاع الحجب يظهر ان الامور كانت بيد الله ولم يكن لاحد يد عليها وانما كانت أيدى الغير اكماما ليده تعالى، ولضعف الابصار فى الدنيا كانوا لا يشاهدون الا الاكمام، وبعد ارتفاع الحجب عن الابصار وقوتها تشاهد ان الكل كانت اكماما والفاعل كان يده تعالى وان لا امر بيد غيره تعالى، واستعمال الرجوع الذى هو الانتهاء الى الابتداء تدريجا للاشارة الى هذا المعنى يعنى كلما ارتفع حجاب عن ابصارهم شاهدوا فاعلا آخر للامور حتى ارتفع الحجب تماما فيشاهدوا ان لا فاعل سواه وان لا امر من غيره.
[2.211]
{ سل بني إسرائيل } تهديد آخر للامة على طريق التعريض فان الكناية والتعريض ابلغ من التصريح.
خوشتر آن باشد كه سر دلبران
كفته آيد در حديث ديكران
{ كم آتيناهم } على ايدى انبيائهم او مطلقا { من آية بينة } حجة واضحة على صحة نبوة انبيائهم (ع ) كما آتينا امتك آيات بينات دالات على صدق نبوتك وخلافة خليفتك او كم آتيناهم من آية تدوينية فى كتبهم دالة على صحة نبوة انبيائهم وصحة نبوتك وخلافة وصيك كما آتينا امتك آيات دالة على ذلك فكأنه قال: سل بنى اسرائيل كم آتيناهم من آية دالة على ولاية على (ع) فانها النتيجة حتى تذكر امتك بالآيات التكوينية والتدوينية واخبارك الدالة على ولايته، ثم هددهم بان من بدل ولاية على (ع) بالكفران فله العقوبة فلا تبدلوا ولايته كما بدل بنو اسرائيل { ومن يبدل نعمة الله } الآيات الهاديات بتبديل حيثية هدايتها بحيثية اضلالها، ولما كان اصل النعمة وحقيقتها وفرعها ومنبعها ولاية على (ع) جاز ان يقال: ومن يبدل مدلول الآيات الذى هو ولاية على (ع) وهى النعمة بحقيقتها بالكفران { من بعد ما جآءته } فلا يأمن من عذاب الله { فإن الله شديد العقاب } فهو من اقامة السبب مقام الجزاء.
[2.212]
{ زين للذين كفروا } بالولاية بعد وضوح الحجة استئناف جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: لم كفروا وبدلوا مع مجيء الآيات وعقوبة المبدل؟ - فقال: لانه زين للذين كفروا { الحياة الدنيا } وبتزينها صرف انظارهم عن الآخرة وعما يؤدى اليها فاحتجبوا عن الآيات مع كمال وضوحها مثل من توغل فى امر فانه لا يستشعر بمن رآه وما رآه مع كمال ظهور المرئى فيستغرب من زين له الحياة الدنيا الانصراف عنها والتوجه الى غيرها ويعدون من اشتغل بمدلول الآيات وآمن بالولاية مجنونا { ويسخرون من الذين آمنوا } بالبيعة الخاصة وقبول الولاية عطف على جملة زين والاتيان بالمضارع مع ان توافق المتعاطفين اولى من تخالفهما للاشعار بأن التزيين وقع وبقى اثره فى انظارهم واما السخرية فهى أمر متجدد على سبيل الاستمرار { والذين اتقوا } اى المؤمنون بالولاية فان التقوى الحقيقية ليست الا لمن قبل الولاية ودخل فى الطريق الى الله كما حقق فى اول السورة ووضع الظاهر موضع المضمر لذكرهم بوصف آخر والتعريض بالمنافقين والاشعار بعلة الحكم وهى جملة حالية او معطوفة على يسخرون. والتخالف للتأكيد والثبات فى الثانية، او الذين اتقوا عطف على الذين آمنوا عطف المفرد، وقوله تعالى { فوقهم يوم القيامة } حال منه يعنى ان كانوا فى الدنيا تحت حكمهم فى بعض الاوقات فهم فى الآخرة فوق المنافقين حكما وشرفا ومنزلا { والله يرزق من يشآء بغير حساب } اى يرزقهم فان الاتيان به فى هذا المقام اظهار للامتنان على المؤمنين بان الفوقية بالنسبة الى المنافقين ادنى شأن لهم فان الله يرزقهم من موائد الآخرة ما لا يقدر على حسابه المحاسبون، وعلى هذا فوضع الظاهر موضع المضمر للاشعار بتشريفهم بكونهم مرضيين لله، وقيل: فيه اشياء اخر.
[2.213]
{ كان الناس أمة واحدة } جواب لسؤال ناش من السابق كأنه قيل: هل كان الناس متفقين؟ - ومن اين وقع هذا الاختلاف؟ - فقال تعالى: كان الناس أمة واحدة تابعة لمشتهياتهم محكومة لأهويتهم غافلة عن ربهم ومبدئهم ومعادهم كما يشاهد من حال الاطفال فى اتباع الشهوات من غير زاجر عنها، وكما يشاهد من حال اهل العالم الصغير قبل ايجاد آدم (ع) واسكانه جنة النفس فانهم يكونون امة واحدة محكومة بحكم الشياطين { فبعث الله النبيين } فى العالم الكبير والصغير { مبشرين } للمنقادين بجهة ولايتهم { ومنذرين } للكافرين بجهة رسالتهم فاختلفوا بالانكار والاقرار، واختلف المنكرون بحسب مراتب الانكار، والمقرون بحسب مراتب الاقرار { وأنزل معهم الكتاب } يعنى الاحكام الالهية اللازمة للرسالة، او الكتاب التدوينى المشتمل على الاحكام فانه لا يصدق الرسالة الا اذا كان مع الرسول احكام ارسل بها { بالحق } بسبب الحق المخلوق به الذى هو علوية على (ع) وولايته المطلقة، او مع الحق او الباء للآلة وعلى اى تقدير فالجار والمجرور ظرف لغو متعلق بأنزل وجعله حالا محتاجا الى تقدير عامل مستغنى عنه بعيد جدا { ليحكم } الله على لسان النبيين او ليحكم الكتاب على طريق المجاز العقلى وقرئ ليحكم مبنيا للمفعول { بين الناس فيما اختلفوا فيه } يعنى بعد بعث النبيين اختلفوا فأنزل الكتاب لرفع الاختلاف وهو دليل تقدير، فاختلفوا بعد قوله تعالى منذرين فان عدم انفكاك الاحكام عن الرسالة مع كونها لرفع الاختلاف وكون الناس قبل الرسالة امة واحدة دليل حدوث الاختلاف بالرسالة والمراد بما اختلفوا فيه هو الحق الذى انزل الكتاب به وهو
النبإ العظيم الذي هم فيه مختلفون
[النبأ: 2-3] { وما اختلف فيه } فى الحق او الكتاب الذى انزل بالحق { إلا الذين أوتوه } واما غيرهم فحالهم فى الغفلة وكونهم امة واحدة حال الناس قبل البعثة { من بعد ما جآءتهم البينات } الحجج الواضحات لا قبل اتمام الحجة فليس اختلاف المنكر مع المقر الا عن عناد ولجاج لا عن شبهة واحتجاج ولذا قال تعالى { بغيا } ظلما واستطالة واقعة { بينهم } يعنى ان المنكرين لم ينكروا الحق بشبهة سبقت الى قلوبهم ولا لعنادهم للحق بل الانكار انما هو للاستطالة والتعديات التى بينهم فاقرار المقر صار سببا لانكار المنكر { فهدى الله الذين آمنوا } بعد الهداية او كان فيهم قوة الاذعان والموافقة لا الذين كان فيهم قوة الاستطالة والطغيان والمخالفة { لما اختلفوا فيه من الحق } من بيانية والظرف مستقر حال من ما او من ضمير فيه والعامل فيه عامل ذى الحال { بإذنه } بترخيصه واباحته التكوينية ظرف لغو متعلق باختلفوا او بآمنوا او بهدى وتفسيره بالاباحة والترخيص اولى من تفسيره بالعلم كما فسره بعض { والله يهدي من يشآء إلى صراط مستقيم } تأكيد لما سبق ودفع لتوهم الشريك له تعالى فى الهداية فان تقديم المسند اليه يفيد الحصر والتأكيد، وتنبيه على ان مناط هدايته تعالى ليس من قبل العبد بل هو مشيئته تعالى حتى يخرج العباد من مشيئتهم ولا ينظروا الى أعمالهم وتصريح بكون المؤمنين مرضيين كما كانوا مهديين وكون ما اختلفوا فيه هو الصراط المستقيم.
[2.214]
{ أم حسبتم } ام منقطعة متضمنة للاستفهام الانكارى او مجردة عن الاستفهام والاضراب عن انزجارهم بسبب الاختلاف وعن انكارهم جواز الاختلاف بعد بعث الرسل كأنه قيل: لا ينبغى الانزجار من الاختلاف والانزعاج من اذى المختلفين وانكار جواز الاختلاف بسبب بعث الرسل فكأنه قال: هل ضجرتم من الاختلاف وانكرتموه بعد بعث الرسل؟! بل ظننتم { أن تدخلوا الجنة } يعنى لا ينبغى لكم مثل هذا الظن فان الراحة بدون العناء لا تكون الا نادرا فوطنوا أنفسكم على الاختلاف الشديد والاذى الكثير من المخالفين حتى تفوزوا بالجنة { ولما يأتكم } جملة حالية { مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأسآء } مستأنفة جواب لسؤال مقدر او حال بتقدير قد { والضرآء } البأساء الضرر الذى يكون من قبل الخلق على سبيل العداوة نفسيا كان ام ماليا، والضراء ما يكون من قبل الله، او من قبل الخلق لا على سبيل اعلان العداوة، ويستعمل كل فى كل وفى الاعم { وزلزلوا } اضطربوا اضطرابا شديدا فى معاشهم ودنياهم من اذى المخالفين او فى دينهم ايضا من مشاهدة غلبة المخالفين ومغلوبيتهم { حتى يقول الرسول } قرئ بالنصب بتصوير الحال الماضية حاضرة بتصوير الزلزال حاضرا والقول بالنسبة اليه مستقبلا، وبالرفع بتصوير القول حاضرا او ماضيا { والذين آمنوا معه متى نصر الله } استبطاء لنصره تعالى وهذا بالنسبة الى المؤمنين جائز الوقوع فان الاضطراب فى الدين او الدنيا قد يقع منهم لضعفهم وعدم تمكينهم واما بالنسبة الى الرسول فيكون على سبيل المشاكلة، او هذا الكلام منه ومنهم على سبيل المسألة لا الاستبطاء والانزجار { ألا إن نصر الله قريب } كلام من الله جواب لسؤال مقدر تقديره هل يكون النصر بطيئا؟ - فقال: الا ان نصر الله قريب، او التقدير فما قال الله لهم؟ - فأجيب: قال الله: { الا ان نصر الله قريب } ، فحذف قال او كلام منهم كأنه قيل: أفما قالوا غير ذلك؟ - فقيل: قالوا بعد ما تأملوا فيما شاهدوا من فضل الله عليهم: { ألا إن نصر الله قريب } ، او الكلام من قبيل { وقالوا كونوا هودا أو نصارى } بان يكون القول الاول من الامة وهذا من الرسول.
[2.215]
{ يسألونك } مستأنف منقطع عما قبله { ماذا } اى شيء او ما الذى { ينفقون } وعلى الاول فماذا فى موضع نصب مفعول لينفقون { قل مآ أنفقتم من خير } ما يصدق عليه اسم الخير من المال كائنا ما كان قليلا او كثيرا جيدا او غير جيد، ولا يصدق اسم الخير على المال الا اذا كان كسبه بقلب صاف ونية صادقة والتصرف فيه كذلك وما مفعول أنفقتم ولا حاجة الى جعله مبتدأ حتى يحتاج الى تقدير العائد { فللوالدين } كأن سؤالهم عن المنفق فأجاب تعالى بالمصرف تنبيها على ان الاهتمام فى الانفاق بان يقع فى موقعه ويصدر عن قلب صاف ونية صادقة كما اشير اليه بعنوان الخير لا بعين المنفق فانه قد يقع التمرة فى موقعه فيفضل القنطار { والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل } بين المصرف بالترتيب الاولى فالاولى { وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم } ترغيب فى الانفاق بان مطلق فعل الخير معلوم له تعالى ولا يدعه من غير مجازاة؛ وما مفعول { تفعلوا }.
[2.216]
{ كتب عليكم القتال } مستأنف منقطع عما قبله مثل سابقه ولا حاجة الى تكلف الارتباط بينهما فان كلا من هذه بيان لحكم من احكام الرسالة غير الحكم الآخر { وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم } اعلم ان ملائمات النفس كلها مطلوبة محبوبة للانسان فى مرتبته البشرية ومؤلمات النفس كائنة ما كانت مكروهة له فى مرتبته البشرية، وكثيرا ما يكون الانسان جاهلا بان ملائمات النفس ومكروهاتها ملائمة لقوته العاقلة او غير ملائمة، والقتال من حيث احتمال النفس تلفها وتلف اعضائها وتعبها فى الطريق وحين البأس والخوف من العدو وسماع المكروه من المقاتلين وغير ذلك مكروه لها، لكنه من حيث تقوية القلب والاتصاف بالشجاعة والتوكل على الله والتوسل به وتحصيل قوة السخاء وقطع النظر عن الآمال وغير ذلك من المحامد الحاصلة بسببه خير للانسان، وهكذا الحال فى سائر ملائمات النفس ومؤلماتها؛ ولذلك قال تعالى: { والله يعلم } ان فى القتال وفى سائر ما كرهتموه الذى أمركم الله به خيرا لكم ولذلك يأمركم بها { وأنتم لا تعلمون } ولذلك تكرهون.
[2.217]
{ يسألونك عن الشهر الحرام } قد مضى الاشهر الحرم والتوصيف بالحرام لحرمة القتال فيه ولذا ابدل عنه بدل الاشتمال قوله تعالى { قتال فيه قل قتال فيه كبير } ارادة الجنس والتوصيف بالظرف مسوغ للابتداء بقتال { وصد عن سبيل الله } مبتدأ خبره اكبر والجملة عطف على مقول القول او هو عطف على كبير او على قتال عطف المفرد { وكفر به } عطف على صد { والمسجد الحرام } عطف على سبيل الله وليس عطفا على المجرور بالباء لعدم اعادة الجار او عطف عليه على قول من اجازه { وإخراج أهله منه } عطف على صد ان جعل مبتدأ والا فمبتدأ خبره { أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل } وهو رفع لتحرج المسلمين بالقتال فى الاشهر الحرم { ولا يزالون يقاتلونكم } فى الاشهر الحرم وغيرها هو من كلامه تعالى عطف على { يسألونك } او مقول قوله تعالى عطف على جملة { قتال فيه كبير } { حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا } فقاتلوهم ما استطعتم فى الاشهر الحرم وغيرها فانه لا يجوز التوانى فى المقاتلة اذا كانت مدافعة عن النفس والمال والعيال فكيف اذا كانت مدافعة عن الدين فلا يمنع منها شهر حرام ولا مكان محترم { ومن يرتدد منكم عن دينه } من كلامه تعالى وعطف على { لا يزالون } او على { يسألونك } او مقول قول الرسول (ص) او جملة حالية { فيمت } عطف على { يرتدد } { وهو كافر } تقييد الموت بالكفر فى ترتب العقوبة للاشعار بان من مات وكان كافرا قبل الاحتضار لا يحكم عليه بالعقوبة لجواز ان يقبل الولاية حين الاحتضار وظهور على (ع) عليه فان ظهر عليه على (ع) حين الاحتضار وأنكر هو؛ كان موته على الكفر والا فلا، ومن لا يعلم حال المحتضر من القبول والرد لا يجوز له الحكم عليه باسلام ولا كفر، ولا ينبغى التفوه باللعن عليه { فأولئك } تكرار المبتدأ باسم الاشارة البعيدة لاحضارهم ثانيا باوصافهم الذميمة ولتحقيرهم حتى يكون ابلغ فى الزجر والردع { حبطت أعمالهم } قد مضى قبيل هذا ان الاعمال القالبية التى هى عبارة عن الحركات والهيئات والاذكار المتجددة التى لا يجتمع جزء منها مع جزء ولا يبقى جزء منها آنين لا يحكم عليها بالثبات ولا بالتجسم، واما حقائقها الداعية الى تلك الاعمال والمكتسبة منها فهى شؤن النفس الجوهرية وهى ثابتة متصفة بالتقدر والتجسم والحبط، وحبط العمل عبارة عن بطلانه وزواله عن صفحة النفس، ولما كان النفس ذات جهتين جهة دنيوية وهى جهة اضافتها الى الكثرات وجهة أخروية وهى جهة اضافتها الى عالم التوحيد والارواح واذا صدر عنها عمل جسمانى او نفسانى تتكيف النفس بجهتيها؛ وثمرة كيفية جهتها الدنيوية الخلاص من عذاب الاوصاف الرذيلة، وثمرة كيفيتها الاخروية الفراغ من الخلق والتلذذ بمناجاة الله، فمن ارتد حبطت اعمالهم { في الدنيا و } من يمت وهو كافر { حبطت اعمالهم } فى { الآخرة } هذا على ان يكون الظرف ظرفا للحبط، ويجوز ان يكون حالا من اعمالهم والمعنى من يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر حبطت اعمالهم حال كونها ثابتة فى جهاتهم الدنيوية وثابتة فى جهاتهم الاخروية، { ومن يرتدد منكم عن دينه } ويمت على الايمان ثبتت اعماله فيهما { وأولئك } كرر اسم الاشارة البعيدة لما ذكر { أصحاب النار هم فيها خالدون } قيل فى نزول الآية ان المسلمين قتلوا فى اول غزاة غزوها مع المشركين قبل البدر ومن المشركين فى اول رجب فسأل المشركون محمدا (ص) عن الشهر الحرام، وقيل سأل المسلمون عن ذلك.
[2.218]
{ إن الذين آمنوا } كلام مستأنف لتشريف المؤمنين ورفع الجناح عن المسلمين المقاتلين فانه كما قيل: نزل فى السرية التى قاتلوا وقتلوا فى اول رجب، وكثر القول فيه وعاب المشركون والمسلمون ذلك كأنه بعد ما نزلت الآية الاولى سأل سائل: هل يكون اجر لهؤلاء المقاتلين فى رجب؟ - فقال مؤكدا لكون المخاطبين فى الشك من ذلك: { إن الذين آمنوا } اى اسلموا فان المراد بالايمان فى أمثال المقام هو احد معانى الاسلام وقد مر فى اول السورة معانى الاسلام والايمان مفصلة { والذين هاجروا } كرر الموصول اهتماما بشأن الهجرة كأنها اصل برأسه مثل الايمان ولا سيما الهجرة عن مقام النفس الذى هو دار الشرك حقيقة الى مقام القلب الذى هو دار الايمان حقيقة { وجاهدوا } لم يأت بالموصول للاشارة الى التلازم بين الهجرة والجهاد كأنهما شيء واحد فان الانسان بعد الاسلام ما لم يهجر الوطن لم يظهر مغايرته للمشركين وما لم يظهر مغايرته لم يكن قتال ومخالفة { في سبيل الله } قد مضى نظيره وأنه ظرف لغو ظرفية مجازية او حقيقية، او ظرف مستقر كذلك { أولئك } كرر المبتدأ باسم الاشارة البعيدة للاحضار والتفخيم { يرجون } قد مضى ان عادة الملوك تأدية الوعد بأدوات الترجى وان وعد الملوك لا يتخلف ولو كان بلفظ الترجى ووعيدهم كثيرا ما يتخلف ولو كان بنحو الجزم { رحمت الله والله غفور } يغفر { مساوأهم } { رحيم } يغشيهم برحمته بعد الغفران.
[2.219-220]
{ يسألونك عن الخمر والميسر } استئناف لابداء حكم آخر من احكام الرسالة { قل فيهمآ إثم كبير } وقرئ كثير بالثاء المثلثة { ومنافع للناس } لما اتى بالاثم مفردا وبالمنافع جمعا توهم ان نفعهما غالب على اثمهما فرفع ذلك التوهم بقوله تعالى: { وإثمهمآ أكبر من نفعهما }.
تحقيق مراتب كمال الانسان
اعلم ان الانسان قبل هبوط آدم (ع) فى العالم الصغير وبعث الرسول الباطنى كافر محض لا يعرف مبدأ ولا معادا وبعد بعث الرسول الباطنى يظهر له اقرار فطرى بأن له مبدأ مسخرا له لكنه اما لا يستشعر بهذا الاقرار اصلا ويحتاج الى منبه خارجى ينبهه على فطرته، او يستشعر استشعارا ضعيفا مغلوبا فى غفلاته وهذا فى قليل من الناس وقد يستشعر استشعارا قويا يحمله على الطلب ولا يدعه حتى يوصله الى مطلوبه، مثل الكبريتية تكاد تشتعل ولو لم تمسسها نار وهذا فى غاية الندرة؛ والقسمان الاولان اما يبقون فى كفرهم الصراح ولا يتنبهون من المنبهات الخارجية والرسل الالهية وليس لهم هم الا قضاء شهواتهم ومقتضيات نفوسهم، وهؤلاء عامة الناس سواء دعاهم رسول خارجى او نوابهم الى الله اولا وسواء قبلوا الدعوة الظاهرة وبايعوا البيعة العامة اولا؛ غاية الامر ان من قبل الدعوة الظاهرة ودخل فى الاسلام ان مات فى حال حياة الرسول او نائبه الذى بايعه كان ناجيا نجاة ما وكل هؤلاء مرجون لامر الله، لكن البايعين ليسوا مرجين لأمر الله بحسب اول درجات النجاة بل بحسب كمال درجات النجاة او يتنبهون فيطلبون من يدلهم على مبدئهم فاما لا يصلون او يصلون، والواصل الى الدليل اما يعمل بمقتضى دلالة الدليل او لا يعمل، والعامل اما يبقى فى الكفر بحسب الحال او يتجاوز الى الشرك الحالى او الى الشرك الشهودى او يتجاوز الى التوحيد الشهودى والتحققى وفى هذا الحال ان لم يبق له اشارة الى التوحيد ولا توحيد كان عبدا لله وهو آخر مقامات العبودية وتمامية الفقر وحينئذ يحصل له بداية مقامات الربوبية ان ابقاه الله تعالى بعنايته وان بقى على هذه الحالة ولم يبقه الله بعد فنائه لم يكن له عين ولا اثر فلم يكن له اسم ولا رسم ولا حكم؛ وهذا احد مصاديق الحديث القدسى:
" ان اوليائى تحت قبابى لا يعرفهم غيرى "
، واحد مصاديق الولى والامام (ع) كما نبينه.
تحقيق الولى والنبى والرسول والامام
وان ابقاه الله بعنايته بعد فنائه وتفضل عليه بالصحو بعد المحو صار وليا لله وهذه الولاية روح النبوة والرسالة ومقدمة عليهما وهى الامامة التى تكون قبل النبوة والرسالة، فان تفضل عليه وأرجعه الى مملكته وأحيى له اهل مملكته بالحياة الثانية الاخروية وهذه هى الرجعة التى لا بد منها لكل احد اختيارا فى حال الحياة او اضطرارا بعد المماة وهى الرجعة فى العالم الصغير صار نبيا او خليفة للنبى، وللنبوة وخلافتها مراتب ودرجات لا يحصيها الا الله، وتطلق الامامة عليهما او على خلافة النبوة وهى النبوة التى هى روح الرسالة ومقدمة عليها فان وجده الله اهلا لاصلاح مملكته بان لم يكن مفرطا ولا مفرطا فى الحقوق وأرجعه الى الخلق لاصلاحهم صار رسولا او خليفته وتطلق الامامة عليهما او على خلافة الرسالة ومراتب الرسالة وخلافتها ايضا لا تحصى وهذه الاربعة أمهات مراتب الكمال ولكل من هذه حكم واسم غير ما للاخرى.
فان الاولى تسمى بالعبودية لخروج السالك فى تلك المرتبة من انانيته ومالكيته وحريته من اسر نفسه، وبالولاية لظهور ولاية الله وسلطانه هنالك الولاية لله مولاهم الحق ومحبته الخالصة ونصرة الله له وقربه منه، وبالامامة لوقوعه امام السالكين، وبالفقر لظهور افتقاره الذاتى حينئذ وغير ذلك من الاوصاف والثانية تسمى بالامامة لوقوع العبد فيها امام الكل ايضا، ولكونها امام النبوة والرسالة وبمقام التحديث والتكليم لتحديث الملائكة للعبد فيها من غير رؤيتهم نوما ويقظة، وبالولاية لما ذكر فى المقام الاول وغير ذلك من الاسماء كالصحو بعد المحو والبقاء بعد الفناء والبقاء بالله، والثالثة تسمى بالنبوة لكون العبد فيها خبيرا من الله ومخبرا عنه والعبد فى تلك المرتبة يسمع صوت الملك فى النوم واليقظة ويرى فى المنام شخصه ولا يرى فى اليقظة ويسمى فى تلك المرتبة اخبار الملائكة وتلقى العلوم من دون اخبار الملائكة بالوحى والالهام لا بالتحديث والتكليم للفرق بينهما وبين سابقتها، بانه ليس فى السابقة الا التحديث من دون مشاهدة الملك المحدث من الله، والرابعة تسمى بالرسالة لرسالة العبد فيها من الله الى الخلق وفيها يرى العبد ويسمع من الملائكة يقظة ونوما ويسمى ما به رسالته الى الخلق شريعة وسنة ومن هاهنا يعلم وجه ما ورد فى اخبار كثيرة من الفرق بين الرسول والنبى (ص) والمحدث او الامام: بأن الرسول يسمع من الملك ويرى شخصه فى المنام ويعاينه فى اليقظة، والنبى يسمع ويرى فى المنام ولا يعاين، فان المحدث كما علمت هو الذى يبقى بعد فنائه من غير رجوع الى مملكته ومن غير احياء لاهل مملكته بالحياة الملكية الاخروية حتى يصير اهل مملكته اسناخا للملائكة فلم يكن له مدرك ملكى حتى يدرك شيئا منهم لكن السامعة لقوة تجردها وموافقتها لذات الانسان كأنها لا تنفك عنه فاذا استشعر بذاته بعد صحوه استشعر بالسامعة ايضا وحييت بحياته الاخروية، واذا استشعر بالسامعة سمع بقدر استشعاره من الملك والنبى هو الذى رجع بعد حياته الى مملكته واحيى الله تعالى له اهل مملكته بالحياة الثانية الاخروية المناسبة لاهل الآخرة من الملائكة من وجهتهم الاخروية لا من وجهتهم الدنيوية فيرى فى المنام يعنى بالوجهة الاخروية للباصرة ويسمع فى النوم واليقظة لقوة تجرد السامعة ومناسبتها لاهل الآخرة ولا يعاين ولا يلامس، والرسول هو الذى رجع بعد رجوعه الى مملكته الى خارج مملكته لاصلاح اهل العالم الكبير ولا بد ان يكون اهل مملكته مناسبين لاهل الآخرة من الوجهة الاخروية والوجهة الدنيوية حتى يتم له الدعوة بالوجهة الدنيوية فيسمع ويرى ويشم ويذوق ويلامس فى النوم واليقظة، ولا يذهب عليك ان المراد بالرسالة اعم من الرسالة وخلافتها، والمراد بالنبوة أعم من النبوة وخلافتها حتى يشكل عليك ما ورد من الائمة (ع) ان الملائكة يطأون بسطنا، ويلاعبون اطفالنا، ويصافحوننا، ونلتقط زغب الملائكة، وانهم يزورون فى ليلة القدر ولى الامر، بل نقول: ان السالك الناقص قد يطرأ عليه تلك الحالات من الافاقة والرجوع الى مملكته والى مملكة الخارج بل التكميل لا يتم الا بطرو تلك الاحوال، فالنبى والرسول لا بد لهما من حفظ مراتب كل من اهل الملك الصغير او الكبير ومراعاة حقوقهم وابقاء كل بحيث يرجع الى الله والنهى عن تضييع الحقوق وتعطيلها وافناء اهلها ومنعهم عن السير الى الله والامر بما يوجب حفظ الحقوق وما يعين على السير المزبور.
والانسان خلق ذا مراتب عديدة وفى كل مرتبة منها له جنود وكل منها فى بقائه محتاج الى اشياء ففى مرتبته النباتية والحيوانية يحتاج قواه النباتية والحيوانية وبقاء بدنه وبقاء نفسه النباتية والحيوانية والانسانية الى المأكول والمشروب والملبوس والمسكن والمركوب والمنكوح، وفى التوانى فى كل منها تضييع لحق ذى حق او افناء لذى حق، وفى الافراط فيها تعطيل لحقها ولحق المراتب الاخر ايضا فالرسول لا بد ان ينهى عن لطرفين ويأمر بالوسط فيها مثل قوله تعالى: { كلوا } فانه امر بالأكل ونهى عن تركه، { ولا تسرفوا } فانه نهى عن الافراط، وهكذا الحال فى الجميع ولما كان الانسان بالفطرة جاذبا لما يحتاج اليه دافعا لمن منعه عنه فلو لم يكن قانون يرجع الكل اليه فى الجذب والدفع وقع التدافع بينهم بحيث يكون تضييع الحقوق وافناء ذوى الحقوق اكثر من ترك الجذب والدفع فلا بد ان يؤسس الرسول (ص) قانونا يكون ميزانا للجذب والدفع، وان يؤسس لتأديب من خرج من ذلك القانون قانونا وان يمنع عن جذب ما فى يد الغير بلا عوض وبما فيه خديعة الناس فانها من رذائل النفس المانعة عن سيرها الى الله، وبما فيه ذلة النفس مثل التملق والسؤال والسرقة وغير ذلك مما فيه رذيلة من الرذائل، وبما فيه تعطيل الارض عن التعمير وبما فيه افناء المال رأسا، والقمار فيه خديعة { الناس } وتعطيل الارض وافناء المال من احد الطرفين رأسا بلا عوض، وفى مرتبة الانسانية خلق ذا قوة عاقلة مدبرة لامور أهل مملكته مسخرة للواهمة المسخرة للخيال المسخر للمدارك والقوى الشوقية المسخرة للقوى المحركة المسخرة للاعصاب والاوتار والعضلات والاعضاء فهو محتاج الى بقاء العاقلة بهذه الكيفية حتى يحفظ الحقوق فالرسول (ع) لا بد ان يأمر بما يحفظ هذه الكيفية بحيث يؤدى بالانسان الى السلوك الى الله وينهى عما يزيل تلك الكيفية، والمسكرات تماما لما كانت مزيلة لتسخير العاقلة كان شأن الرسول (ع) النهى عنها كما ورد: انه لم يكن شريعة من لدن آدم (ع) الا كانت ناهية عن الخمر، وفى زوال تدبير العاقلة وتسخيرها مفاسد عديدة ولذا سميت الخمر بأم الخبائث ولكن فيها منافع عديدة من تسمين البدن وتحليل الغذاء وجلاء الاعضاء وتفتيح السدد وتشحيذ الذهن وصفاء القلب وتهييج الحب والشوق وتشجيع النفس ومنع الشح عنها وغير ذلك.
بيان حرمة شرب دخان الافيون
واما شرب دخان الافيون الذى شاع فى زماننا فان فيه ازالة التدبير العاقلة وتسخيرها تدريجا بحيث لا يعودان، بخلاف ازالة الخمر فان عاقلة السكران بالخمر بعد الافاقة فى غاية التدبير وسائر القوى فيه فى غاية القوة والسرعة فى امتثال امر العاقلة، وبشرب دخان الافيون ينبو العاقلة عن التدبير ذاتا وينبو الواهمة التى خلقت مدركة للمعانى الجزئية لان تدرك الالام واللذات الاخروية لتحرك الشوقية للتحريك الى الآخرة عن ادراك المعانى، والمتخيلة التى خلقت متصرفة فى المعانى والصور بضم بعضها الى بعض لاستتمام الجذب والدفع فى معاشه ومعاده والخيال الذى خلق حافظا للصور لحسن تدبير المعاش وتحصيل المعاد وحسن المعاملة مع العباد، والشوقية التى هى مركب سيره الى الآخرة ومعينة امره فى الدنيا والمحركة التى هى مركب الشوقية والاعصاب التى هى مركب المحركة وفى نبو كل تعطيل لحقوق كثيرة؛ على ان فيه اضرارا بالبدن واتلافا للمال، واضرار البدن محسوس لكل احد بحيث يعرفون بسيماهم لا يحتاجون الى معرف وسببه ان دخان الافيون بكيفيته ضد للحياة وانه مطفئ للحرارة الغريزية مجفف للرطوبة الغريزية مسدد لمسام الاعضاء التى تنشف الرطوبات الغريبة والرطوبة الغريزية معينة ومبقية للحرارة الغريزية التى هي معينة للحياة ومبقية لها والرطوبة الغريبة مفنية للحرارة الغريزية وان الله تعالى بحكمته جعل جزء الرئة جسما متخلخلا ذا مسام لينشف الرطوبات الحاصلة فى فضاء الصدر من الابخرة المتصاعدة من المعدة والكبد والقلب حتى لا تجتمع تلك الرطوبات فتتعفن فتصير سببا للبرسام والخراج وذات الجنب وذات الصدر وذات الكبد وذات الرئة، ودخان الافيون يجعل الرئة متكاثفة ومسامها ضيقة فلا تنشف الرطوبات كما ينبغى فيحدث الامراض المذكورة، ولقد شاهدنا كثيرا من المبتلين به قد ابتلوا بهذه الامراض وهلكوا، ففى دخان الترياق مفاسد الخمر موجودة وفيه مضار اخر عوض المنافع التى ذكرت فى الخمر فهو أشد حرمة بوجوه عديدة من الخمر فلعنة الله عليه وعلى شاربه.
والاثم قد يطلق على ارتكاب المنهى وهو الاثم الشرعى وقد يطلق على ما فيه منقصة النفس وهو المراد هاهنا لان الآية من مقدمات النهى لا انها نزلت بعد النهى عن الخمر والميسر وقد بينا وجه منقصة النفس الانسانية بارتكابهما، وشأن نزول الآية والاخبار الواردة فيها مذكورة فى المفصلات من أرادها فليرجع اليها.
{ ويسألونك } اتى باداة الوصل لمناسبته مع سابقه بخلاف { يسألونك عن الخمر والميسر } { ماذا ينفقون قل العفو } والعفو ترك تعرض المسيء بالسوء، او الصفح وتطهير القلب من الحقد عليه، وأطيب المال وخياره، وفضله وزيادته عن الحاجة، والمعروف والوسط بين الاقتار والاسراف، والميسور لا المجهود، وما يفضل عن قوت السنة، والكل مناسب يجوز ارادته هاهنا { كذلك } التبيين للمنفق بحيث لا يفسد مال المنفق ولا نفسه { يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة } متعلق بقوله تتفكرون اى فى امر الدنيا وشأنها فان فى مثل هذه الآيات والاحكام الشرعية حفظا للدنيا من وجه وطرحا لها من وجه وتوجها الى الدنيا بوجه والى الآخرة بوجه ولكن يستفاد من كل ما ورد فى امر الدنيا وتحصيلها وحفظها ان المراد منه ليس الا استكمال الآخرة باستبقاء الدنيا فشرع لكم الاحكام القالبية بحيث اعتبر فيها الدنيا تقدمة للآخرة واخذها تقدمة لطرحها والآخرة اصلا ومقصودة لعلكم تتفكرون فى امرهما فلا تتعلقون بالدنيا ولا تغفلون عن الآخرة، او لعلكم تتفكرون فى دنيا الاحكام وآخرتها يعنى فى جهتها الدنيوية وجهتها الاخروية حتى تعلموا ان جهتها الدنيوية ليست منظورا اليها الا مقدمة لجهتها الاخروية، او الظرف متعلق بقوله يبين { لعلكم تتفكرون } جملة معترضة اى يبين الله لكم الآيات والاحكام فى امر الدنيا وفى امر الآخرة.
{ ويسألونك عن اليتامى } اى عن امر اليتامى والقيام بأمرهم وأموالهم ومخالطتهم فانه ليس المقصود السؤال عن ذوات اليتامى فانه كما قيل وروى بعد نزول قوله:
إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما
[النساء:10]، وقوله تعالى:
ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن
[الأنعام:152] اشتد ذلك على من كان عنده يتيم فسألوا رسول الله (ص) عن ذلك فقال الله تعالى له (ص) { قل } يا محمد { إصلاح لهم } بحفظ نفوسهم وتربيتهم وتكميلهم وحفظ أموالهم وتنميتها وتوفيرها { خير } من الاهمال والاعراض حتى يهلك نفوسهم ويتلف اموالهم { وإن تخالطوهم } فى المسكن والمعاشرة او فى المأكول والمشروب او فى الاموال { فإخوانكم } فى الدين اى فهم اخوانكم ومن حق الاخ على الاخ المخالطة وعدم الفرق بينه وبين نفسه بل ترجيحه على نفسه فى حفظ النفس والمال والأكل والشرب، فاحذروا من الخيانة وترجيح أنفسكم عليهم وافسادهم فى أنفسهم وأموالهم فان خنتم او أصلحتم فلكم الجزاء على حسبه { والله يعلم المفسد من المصلح } فلا يعزب شيء عن علمه حتى لم تجزوا بحسبه وقد ورد السؤال كثيرا عن امر الايتام ومخالطتهم والدخول على من عنده ايتام واكل الغذاء معهم وخدمة خادم الايتام لهم وغير ذلك وكانوا يجيبون بما حاصله انه ان كان فيه صلاح الايتام فلا بأس والا فلا، بل الانسان على نفسه بصيرة فيعلم قصده ونيته من المخالطة والدخول والأكل وغير ذلك { ولو شآء الله لأعنتكم } فى امر الايتام بعدم الترخيص فى المخالطة والامر بحفظ اموالهم وأنفسهم مع المداقة فى امرهما { إن الله عزيز } لا يمنعه مانع مما يشاء ومما يحكم { حكيم } لا يفعل الا ما اقتضته الحكمة واستعداد النفوس واستحقاقها والجملة استئناف بيانى تعليل لتلازم الجزاء للشرط ولرفع المقدم كأنه قال: لو شاء الله لاعنتكم لأنه عزيز لا يمنع من مراده ولكنه لم يشأ لانه حكيم لا يفعل ما فيه مشقة الانفس من غير استحقاق.
[2.221]
{ ولا تنكحوا المشركات } عطف باعتبار المعنى فان قوله تعالى: { قل إصلاح لهم خير } وقوله تعالى: { وإن تخالطوهم فإخوانكم } معناه: أصلحوا لهم وخالطوهم نحو مخالطة الاخوة ووجه المناسبة أنهم كانوا يتكفلون اليتيمة ويخالطونها فى بيوتهم للنكاح ان كانت ذات مال، وان لم تكن ذات مال أعرضوا عنها، وربما كانت تجتمع عند الرجل عدة نساء من اليتامى لم يكن يقوم بحقوقهن فقال تعالى بطريق العموم: ولا تنكحوا المشركات من اليتامى وغيرهن { حتى يؤمن } ولا منافاة بين هذه الآية وبين آية احلال الكتابيات حتى يكون احداهما ناسخة للاخرى { ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم } بجمالها او مالها او حسبها او نسبها { ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك } المشركون والمشركات { يدعون إلى النار } اى الى الشرك المؤدى الى النار فحقهم عدم المخالطة والمصاهرة { والله يدعوا إلى الجنة والمغفرة } حق العبارة ان يقول: والمؤمنون والمؤمنات يدعون الى الجنة لكنه عدل عنه اشعارا بان دعاء المؤمنين دعاء الله.
تحقيق تكيف النفوس من مجاورها
اعلم ان نفس الانسان قبل ان تستكمل وتتمكن فى شيء من السعادة والشقاوة قابلة محضة تتأثر من كل ما تجاوره كالمرآة الصافية التى ينطبع فيها كل ما يواجهها والمسلم والمسلمة والمؤمن والمؤمنة بواسطة الاتصال بالنبى (ص) والولى (ع) بالبيعة العامة او الخاصة ينطبع فى نفس كل منهم فعلية ما من النبى (ص) او الولى (ع) وكل من يجاوره يتأثر مما انطبع فيه والمشرك والمشركة سواء كان الشرك بالله او بالرسالة او بالولاية ينطبع من الشيطان فعلية ما فى نفس كل منهما وكل من يجاوره يتأثر مما انطبع فيه وينطبع فيه شيء ما منه، ومنه يعلم وجه خيرية العبد المسلم والامة المسلمة من المشرك والمشركة فانهما مظهران للنبى (ص) وهما مظهران للشيطان، ويعلم ايضا وجه العدول الى قوله تعالى: { الله يدعو الى الجنة } فان فعلية النبى (ص) بما هو نبى فعلية من الله ويظهر وجه نسبة الدعوة الى المشركين بطريق العموم وتأدية الفعل بالمضارع الدال على الاستمرار مع ان اكثر المشركين لا يدعون احدا ومن يدعو لا يدعو مستمرا، وهكذا الحال فى جانب المسلمين لان هذا التأثر والانطباع لا يكون باللسان والاستماع بل قد يكون اللسان والسماع معدين له { بإذنه } اى باباحته وترخيصه وهو متعلق بيدعو وبه وبيدعون على سبيل التنازع والمقصود ان دعاء المشركين والمسلمين ليس بدون اذن الله تعالى وترخيصه لان جعله تعالى النفوس بحيث تنطبع فيها فعلية مجاورها وفعلية الشيء بحيث تؤثر فيما تجاوره انما هو بجعله تعالى وجعله اذنه التكوينى { ويبين آياته } عطف على يدعو يعنى ان هذه الدعوة التكوينية من آيات حكمته وقدرته تعالى وتأثر المجاور وظهور تلك الدعوة فيه بيان للآيات، او المراد انه يبين احكامه الشرعية بلسان أنبيائه (ص) وأوصيائهم (ع) { للناس لعلهم يتذكرون } بدقائق الحكم المودعة فى الآيات بسبب ظهور آية الشرك من المشرك والمشركة وآية الاسلام من المسلم والمسلمة فيهم او بسماع الآيات والاحكام من الانبياء عليهم السلام.
[2.222]
{ ويسألونك عن المحيض } من حيث المجامعة بقرينة الجواب؛ كانوا يجتنبون النساء فى الشرائع السابقة حال الحيض أشد اجتنابا من هذه الشريعة على ما نقل، والانسانية تكره مضاجعتهن فى تلك الحالة فكانوا يسألون بعد بعثته (ص) عن ذلك { قل هو أذى } للانسانية من حيث استقذاره ولنفس الانسان من حيث تأثرها وغلبة الحيوانية عليها حتى تستلذ المضاجعة ولا تكرهها حينئذ، ولبدن الرجال من حيث تأثر الالة من اثر الدم وكيفيته حتى يورث بعض الامراض ولبدن النساء بوجه { فاعتزلوا النسآء في المحيض } كناية عن ترك المجامعة كما ان المجامعة والمضاجعة والمقاربة كلها كنايات عن النكاح { ولا تقربوهن حتى يطهرن } من الدم بالانقطاع وقرئ { يطهرن } بالتشديد من التطهر فيكون المراد التطهر بالاغتسال او الوضوء او غسل الفرج { فإذا تطهرن } ان قرئ الاول بالتخفيف كان حكم حالة الدم وحكم ما بعد الاغتسال او الوضوء او غسل الفرج منصوصا وحكمهن بعد انقطاع الدم وقبل ذلك مجملا، وان قرئ الاول بالتشديد كان حكم ما بعد ذلك اباحة المقاربة وحكم ما قبله الاعتزال وجوبا او استحبابا وكيف كان فالآية مجملة محتاجة الى البيان { فأتوهن من حيث أمركم الله } اى من مكان وثقبة أمركم الله بالاتيان منه ولا تأتوهن من مكان لم يأمركم الله بالاتيان منه، فعلى هذا كانت الآية دالة بمنطوقها على اباحة الاتيان من الفروج وبمفهومها على عدم اباحة الاتيان من غير الفروج، او المعنى فأتوهن من حيثية امره تعالى لا من حيثية محض الشبق او نهيه، او من حيث أمره يعنى غاية امره مثل الاستيلاد واستفراغ البدن وفراغ البال من الخطرات الناشئة من امتلاء الاوعية الإستئناس وسكون النفس والمقصود من هذا القيد ان يكون النظر فى المضاجعة الى نفس أمره او غاية أمره من دون غفلة عنه تعالى فان المضاجعة مع الغفلة لا تكون الا بشركة الشيطان او استقلاله؛ وعلى هذا فالآية تدل بمفهومها على النهى عن اتيان المحرمات بالذات او بالعرض وعن الاتيان من الادبار وعن الاتيان مع الغفلة عن الامر وغاياته، وقوله تعالى { إن الله يحب التوابين } يدل على هذا فان التواب من كان كثير المراجعة الى الله فى الكثرات فكأنه قال: كونوا كثيرى النظر الى الامر وكثيرى الرجوع فى جميع أحوالكم اليه تعالى والى أمره حتى فى أخس أحوالكم الذى هو اتيان النساء لان الله يحب كثيرى الرجوع الى الله والى امره { ويحب المتطهرين } من الاقذار الجسمانية بالماء فان الطهارة الكاملة من الاقذار لا تحصل الا بالماء ومن الادناس النفسانية والفضلات الشيطانية بماء الامر الالهى، نسب الى الصادق (ع) انه قال: كان الناس يستنجون بالكرسف والاحجار ثم احدث الوضوء وهو خلق كريم فأمر به رسول الله (ص) وصنعه فأنزل الله فى كتابه ان الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، وعنه (ع) ان الآية نزلت فى رجل من الانصار اكل الدباء فلان بطنه فتطهر بالماء ولم يكن ديدنهم قبل ذلك التطهير بالماء.
[2.223]
{ نسآؤكم حرث لكم } الحرث له معان لكن المناسب هاهنا معنى الزرع، وحمل المعنى على الذات بأحد الوجوه التى ذكرت فى حمل المعنى على الذات، والمقصود المبالغة فى كونهن محل الزراعة بحيث كأنهن لا شأن لهن الا الزرع { فأتوا حرثكم } من حيث كونهن حرثا لكم وبعدما ذكر عند قوله تعالى: { فأتوهن من حيث أمركم الله } من مفهوم المخالفة واعتبار حيثية وصف العنوان هاهنا لا يبقى شك لاحد فى عدم اباحة الادبار او كون حكمه من المجملات لا ان اباحته مستنبطة من الآية { أنى شئتم } كيف شئتم، او فى اى ساعة شئتم، او فى اى مكان شئتم، واما معنى من اى مكان شئتم وارادة الثقبتين منه فيجوز استعمال انى شئتم فيه لكن ينافيه تعليق الاتيان على عنوان الحرث ولو سلم عدم المنافاة بسبب عدم اعتبار حيثية العنوان فى الحكم كانت الآية بالنسبة الى الادبار مجملة متشابهة فالاستدلال على الاحلال بهذه الآية ليس فى محله، نسب الى الرضا (ع) انه قال: ان اليهود كانت تقول: اذا اتى الرجل المرأة من خلفها خرج ولده احول فأنزل الله تعالى { نسآؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم } من خلف وقدام خلافا لقول اليهود ولم يعن فى ادبارهن، فقوله من خلف وقدام اشارة الى جعله (ع) { أنى شئتم } بمعنى من انى شئتم لكن نفى ارادة الادبار، وقيل أنكرت اليهود الوطئ اذا كانت المرأة قائمة او قاعدة فرد الله عليهم { وقدموا } امر الله على امر الشيطان او على امر النفس او على العمل فى اتيان النساء او فى كل عمل { لأنفسكم } اى لانتفاع أنفسكم التى هى مقابلة عقولكم وطبائعكم والمقصود انكم اذا قدمتم فى اتيان النساء الامر الالهى واتيتموهن من جهة الامر كان انتفاعه للانفس المقتضية لمخالفة الامر والغفلة عنه او لانتفاع ذواتكم فانه اذا كان الفاعل والمفعول واحدا فى غير باب علم يتخلل الانفس بين الفعل ومفعوله او المعنى قدموا أنفسكم بزيادة لام التقوية يعنى قدموا ذواتكم على الشيطان او على النفوس المقتضية لمخالفة الرحمن فى الاعمال ولا سيما الاعمال الموافقة للنفوس كاتيان النساء حتى لا تغلب عليكم فتلهيكم عن أمره او يكون قدموا بمعنى تقدموا اى تقدموا على الشيطان او على الانفس لانتفاع انفسكم او ذواتكم { واتقوا الله } فى تقديم أمر الشيطان او امر النفس او تقدم واحد منها عليكم { واعلموا أنكم ملاقوه } فى الآخرة او فى الحال الحاضر ولذا أتى باسم الفاعل المتبادر منه الزمان الحاضر يعنى اذا علمتم انكم فى حال العمل ملاقو الله او فى حال الجزاء ملاقوه اجتنبتم القبيح وتقديم الشيطان وهوى النفس { وبشر المؤمنين } صرف الخطاب منهم اليه (ص) لانه اهل التبشير او الخطاب عام وهذا الكلام أمر ونهى ووعد ووعيد.
[2.224]
{ ولا تجعلوا الله عرضة } معرضا { لأيمانكم } جمع اليمين بمعنى الحلف يعنى لا تكثروا الحلف بالله صادقا او كاذبا او لغوا تأكيدا للكلام او لا تجعلوا الله حاجزا عن اعمال الخير لاجل ايمانكم على تركها وكلاهما مرويان { أن تبروا } لان لا تبروا او كراهة ان تبروا او ارادة ان تبروا او لان تبروا او على ان تبروا او فى ان تبروا اى فى حق البر، او هو بدل عن الايمان على ان يكون المراد بها الامور المحلوف عليها { وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم } يسمع ما تتفوهون به من الايمان بالله يعلم سرائركم فيؤاخذكم ان كان ايمانكم كاذبة ونياتكم غير صادقة.
[2.225]
{ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } اى بالاتيان بكلام غير معتد به فى الايمان او بالخطاء فى الايمان وعلى اى تقدير فالظرف لغو متعلق باللغو لكونه مصدرا مقتضيا لها الظرف ولا حاجة الى جعله ظرفا مستقرا حالا من اللغو والمراد به الايمان التأكيدية التى ليست مرادفة للنذر والعهد ولا مثبتة لحق او مبطلة لحق، وقيل: المراد باللغو فى الايمان الخطاء فيها بان يحلف صادقا ثم تبين انه اخطأ وكان كاذبا فلا اثم عليه ولا كفارة، وقيل: المراد اليمين التى يحلف بها الغضبان فلم يكن فيها كفارة ان حنث، وقيل كل يمين ليس له الوفاء بها ولا يكون فى حق ولا كفارة فيها فهى لغو { ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } بالذى كسبته او بكسب قلوبكم.
اعلم ان العمل فعلا كان او قولا اذا لم يكن عن نية قلبية واعتقاد جازم بالغاية المترتبة عليه كان لغوا ولا يثبت منه أثر معتد به فى القلب ولا يصدق عليه انه كسب القلب منه شيئا واذا كان من نية قلبية واعتقاد جازم بالغاية منه حصل صورة ذلك العمل فى مقام اجمال النفس اولا ثم فى مقام تفصيلها ثم حرك الشوقية ميلا وعزما وارادة ثم حركت الارادة القوة المحركة ثم حركت المحركة الاعصاب ثم الاوتار والعضلات والاعضاء ثم يحدث الفعل ثم ينتقل ذلك العمل من طريق الباصرة او السامعة الى الحس المشترك ثم الى الخيال والواهمة ثم الى مقام اجمال النفس، فبانتقاش الفعل مرتين فى النفس وآلاته يحصل اثر ثابت فيها فيصدق عليها انها كسبت من العمل شيئا، فمعنى قوله تعالى { ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } يؤاخذ على يمين تورث اثرا فى قلوبكم بسبب العزم عليها من قلوبكم وانتقاشها فيها وفى آلاتها مرتين { والله غفور } يغفر لغو الايمان ولا يؤاخذكم به { حليم } لا يعجل بمؤاخذة ما يؤاخدكم عليه ثم ذكر تعالى قسما واحدا من اقسام الايمان التى يؤاخذ بها فقال { للذين يؤلون }.
[2.226]
{ للذين يؤلون } يبعدون بالحلف { من نسآئهم } بان يحلفوا ان لا يجامعوهن { تربص أربعة أشهر } من النساء وأهلهن ومن حكام الشرع فلا يطالبوهم بشيء من المضاجعة والطلاق { فإن فآءوا } فى تلك المدة بحنث ايمانهم وكفارتها فلا شيء عليهم { فإن الله غفور } يغفر ما فرط منهم بعد الكفارة { رحيم } يرحمهم بترخيص المراجعة بعد الحلف.
[2.227]
{ وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع } لطلاقهم { عليم } بنياتهم واراداتهم من انها افساد او اصلاح.
اعلم انه تعالى كرر هاهنا ذكر الجلالة بأوصاف مختلفة فى اربعة مواضع؛ والوجه العام كما مر اقتضاء محبة المخاطب والتذاذه تكرار ذكر المحبوب واقتضاء محبة المتكلم للمخاطب تطويل الكلام بالبسط والتكرار واختلاف الاوصاف انما هو باقتضاء خصوصية المقام، فان النهى عن جعله تعالى عرضة للايمان يقتضى التهديد بانه تعالى يسمع كلما ينطق به الانسان ومن جملتها كثرة الايمان وابتذال اسم الله يجعله مقدمة لهوى النفس ويعلم ما فى الجنان من الحق والباطل والكذب والصدق ومقام الامتنان بترك المؤاخذة باللغو فى الايمان، والمؤاخذة على ما كسبت القلوب تقتضى ذكر المغفرة بالنسبة الى ترك المؤاخذة والحلم بالنسبة الى المؤاخذة وترك العجلة والفيء بعد النظر الى مساوء المرأة والغضب عليها والحلف على اضرارها لا الاحسان اليها، وغض البصر عن ذنوبها يقتضى ذكر مغفرة الله ورحمته تعالى وعزم الطلاق ببقاء الغضب عليها والنظر الى ذنوبها، والتفوة بصيغة الطلاق يقتضى ذكر السماع والعلم بنية المطلق وغضبه والعلم بمساوئه لعله يتنبه ويغفر طلبا لغفران الله ونسب الى الصادقين (ع) انهما قالا: اذا الآ الرجل ان لا يقرب امرأتة فليس لها قول ولا حق فى الاربعة أشهر ولا اثم عليه فى كفه عنها فى الاربعة أشهر فان مضت الاربعة اشهر قبل ان يمسها فسكنت ورضيت فهو فى حل وسعة وان رفعت امرها قيل له اما ان تفيء فتمسها، واما ان تطلق وعزم الطلاق ان يخلى عنها فاذا حاضت وطهرت طلقها وهو أحق برجعتها ما لم تمض ثلاثة قروء فهذا الايلاء أنزل الله تبارك وتعالى فى كتابه وسنته.
[2.228]
{ والمطلقات } لما انجر الكلام الى ذكر الطلاق ذكر تعالى بعض أحكامه ولفظ المطلقات يشمل جميع اقسام الطلاق وجميع المطلقات المدخول بهن يائسات وغير يائسات حاملات وغير حاملات ذوات اقراء وغير ذوات الاقراء وهن فى سن ذوات الاقراء، والغير المدخول بهن لكن المراد ذوات الاقراء المدخول بهن الغير الحوامل فالآية مثل سائر الآيات من المجملات المحتاجة الى البيان { يتربصن } اخبار فى معنى الامر واشعار بان هذا ديدنهن لا حاجة لهن الى الامر به ولا يمكنهن غيره والمقصود التأكيد فى التربص { بأنفسهن } الباء للتعدية اى يحملن انفسهن على انتظار رجوع الازواج او للسببية مثل ضرب الامير بنفسه يعنى لا بواسطة غلامه فانه ليس للدلالة على وساطة النفس بل على نفى وساطة الغير وكلاهما يدلان على المبالغة وان النساء كان انفسهن لا تطيعهن فى التربص او لفظ الباء مثله فى قولهم ربص بفلان وتربص به خيرا او شرا يعنى انتظر الخير او الشر له فهو للالصاق كأن التربص من المتربص ملصق بالمتربص به والمعنى ان المطلقات يتربصن رجوع ازواجهن { ثلاثة قروء } القرء من الاضداد للطهر والحيض والمشهور من الاخبار والفتوى ان المراد به هاهنا الطهر { ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن } يعنى انهن مصدقات فى كونهن طاهرات وفى انقضاء العدة وفى الحمل وعدمه ولا يحل لهن ان يكتمن ما فى ارحامهن من الدم والحمل لتعجيل العدة او لتعجيل الطلاق او لعدم رد الولد على والده { إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر } شرط تهييج { وبعولتهن أحق بردهن } بارجاعهن الى النكاح من غير عقد كما بين لنا { في ذلك } الزمان واما بعد ذلك الزمان يعنى زمان العدة فالبعولة وغيرهم سواء بحسب الحكم الشرعى وان كانوا بحسب بعض الدواعى اولى بنكاحهن بعقد جديد مثل ان يكون بينهما اولاد صغار لم يكن احد يتكفل تربيتهم وغير ذلك { إن أرادوا إصلاحا } اشارة الى ان من لم يرد اصلاحا لم يكن اولى فى نفس الامر ولم يكن له رجوع فى نفس الامر وان كان الحكم كليا فى ظاهر الشرع وكان له الرجوع ولا يخفى ان هذه الآية مثل سابقتها مطلقة مجملة ولكن المراد المعتدة بالعدة الرجعية لا الباينة { ولهن مثل الذي عليهن } يعنى فى مدة العدة كما هو الظاهر يعنى كما ان للزوج حق الرجوع فى العدة من غير رضى منها فلها عليه النفقة والمسكن فى تلك المدة، او المراد ان للنساء حين بقاء الزوجية وعدم الطلاق مثل الحق الذى عليهن من الرجال فيكون بيانا لحقوق الطرفين فى زمن الزوجية يعنى ان حق الزوج على المرأة ان تطيعه ولا تمنعه من تمتعاته ولا تخرج من بيتها ولا تدخل فى بيتها احدا ولا تتصرف فى ماله ولا تتصدق من بيته ولا تصوم تطوعا ولا تزور حيا او ميتا الا باذنه، وتحفظه فى نفسها وماله كذلك لها عليه ان ينفق عليها ويكسوها ويسكنها ويوفى حق قسامتها كل ذلك بحسب حالها واستطاعته { بالمعروف } بما لم يكن فيه ضرر واضرار يمنعه الشرع { وللرجال عليهن درجة } بما فضلهم الله بزيادة العقل وبما كفلهم الله القيام بامرهن، عن الباقر (ع) انها جاءت امرأة الى رسول الله (ص) فقالت: يا رسول الله ما حق الزوج على المرأة؟ - فقال لها ان
" تطيعه ولا تعصيه ولا تتصدق من بيته بشيء الا باذنه ولا تصوم تطوعا الا باذنه ولا تمنعه نفسها وان كانت على ظهر قتب ولا تخرج من بيتها الا باذنه فان خرجت بغير اذنه لعنتها ملائكة السماء وملائكة الارض وملائكة الغضب وملائكة الرحمة حتى ترجع الى بيتها، فقالت: يا رسول الله من أعظم الناس حقا على الرجل؟ - قال: والداه، قالت: فمن أعظم الناس حقا على المرأة؟ - قال: زوجها قالت: فمالى من الحق عليه مثل ما له على؟ - قال: ولا من كل مائة واحد، فقالت: والذى بعثك بالحق نبيا لا يملك رقبتى رجل ابدا "
{ والله عزيز } يعنى لا ينبغى للرجال ان يؤاخذوا النساء بجهالاتهن وقصورهن فى الافعال بعد ان فضلهم الله على النساء فان الله عزيز لا يمنعه مانع من ارادته ولا يؤاخذكم بقصوركم وتقصيركم { حكيم } لا يجعل فى جبلة الرجال الفضيلة على النساء ولا يأمر بقيامهم بأمرهن ولا فى جبلتهن المحكومية الا لحكم ومصالح فلا تخرج المحكومات عن طريق محكوميتهن ولا يتعد الحاكمون فى حكومتهم.
[2.229]
{ الطلاق مرتان } هذه العبارة من المتشابهات المحتاجة الى البيان فانها بظاهرها تدل على انها لا تحل للزوج بعد الطلقتين او لا يجوز طلاقها بعد الطلقتين بل يجب امساكها او لا يقع الطلاق دفعة الا مرتين ولو قال: زوجتى طالق ثلاثا او كرر الصيغة ثلاثا وليس شيء منها مقصودا والمقصود ان الطلاق الجارى على سنة الطلاق وهى ان يكون للزوج رجعة فى العده مرتين { فإمساك بمعروف } بعدهما بان لا يطلق ويمسك المرأة بشيء من المعروف لا بجهة الاضرار { أو } تطليق { تسريح بإحسان } اى متلبس بشيء من الاحسان وهذا الذى فسر الآية فى الاخبار به { ولا يحل لكم أن تأخذوا ممآ آتيتموهن } من المهر وغيره { شيئا } حق العبارة ان يقول: لا يحل لهم اى لبعولتهن المذكورين سابقا لكن لما كان الغالب ان اخذ المهر او ازيد او اقل من النساء لا يكون الا بمعونة المصلحين او الحكام اتى بخطاب الجمع لئلا يتوهم من ضمير الغائب ان المراد البعولة فقط وان الحرمة خاصة بهم وليجبر كراهة ترك المهر بلذة المخاطبة ونسبة الايتاء الى الجميع مع ان المؤتى الزوج فقط من باب التغليب ولان الايتاء ايضا فى الاغلب يكون بمعونة الغير واصلاحه { إلا أن يخافآ } اى الزوجان وللاشارة الى ان المخاطبين الازواج والحكام والمصلحون لا النساء والبعولة، نسب الخوف الى الزوجين هاهنا بطريق الغيبة ولان الاصل فى ظن عدم اقامة الحدود الزوجان واما الحكام والمصلحون فانهم يظنون ذلك بعد ما ظناه { ألا يقيما حدود الله } بالنشوز من الطرفين وعدم امتثال الزوج الامر بالقيام بحقوقها وقسامتها والزوجة الامر بتحصنها وتمكينه وحفظه فى غيبته فى نفسها وماله { فإن خفتم } خاطب الجماعة دون الزوجين لان المصلحين والحكام يظنون ذلك ايضا ولان خطاب الحرمة كان معهم فخطاب نفى الحرج ينبغى ان يكون معهم { ألا يقيما } نسب عدم الاقامة هاهنا الى الزوجين بطريق الغيبة بعد نسبة الخوف الى الجماعة بطريق الخطاب اشعارا بان الخوف وان كان يشمل الحكام والمصلحين تبعا للازواج لكن اقامة حدود الزوجية ليست الا من الازواج { حدود الله فلا جناح عليهما } حق العبارة بعد نسبة عدم الاحلال الى الجماعة ونسبة الخوف اليهم بطريق الخطاب ان يقول: فلا جناح عليكم حتى ينفى الحرج عمن نسب عدم الاحلال اليهم لكنه نفى الحرج عن الزوجين للاشارة الى ان المتحرج بالاصالة هما الزوجان وحرج غيرهما انما هو تابع لحرجهما { فيما افتدت به تلك } الاحكام المذكورة من احكام القصاص وما بعده او ما قبله وما بعده او من احكام الزوجية فقط { حدود الله } حدود حمى الله { فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون } لا ظلم خارجا من التعدى فان الظلم الذى هو منع الحق عن المستحق واعطاؤه لغير المستحق تجاوز عن حد الله كما ان التجاوز عن كل حد منع عن الحق واعطاء لغير المستحق.
[2.230]
{ فإن طلقها } هذا ايضا من المجملات لكن المراد ان طلقها بعد الثانية { فلا تحل له من بعد } اى بعد الطلاق الثالث { حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها } الزوج الثانى { فلا جناح عليهمآ } اى على الزوج الاول والزوجة { أن يتراجعآ } بالزواج { إن ظنآ أن يقيما حدود الله وتلك } الاحكام المذكورة من الحرمة بعد الطلاق الثالث وحليتها بعد نكاح الغير لها بشرط ظن اقامة الحدود { حدود الله يبينها لقوم يعلمون } اى يعدون من العلماء لا من البهائم وغير العقلاء وتفصيل الطلاق الموجب للحرمة بعد الثالثة وشروطه مذكورة فى الكتب الفقهية.
[2.231]
{ وإذا طلقتم النسآء فبلغن أجلهن } اى آخر عدتهن بحيث ما خرجن من العدة ولذا فسره المفسرون بقرب آخر المدة { فأمسكوهن بمعروف } بشيء ما يعرفه الشرع والعقل حسنا يعنى راجعوهن وامسكوهن بنحو امساك الازواج واداء حقوق الزوجية { أو سرحوهن بمعروف } والتسريح بالمعروف ان يخلى سبيلهن ولا يمنعن عما يفعلن فى انفسهن ويعطين ما يسرون به { ولا تمسكوهن ضرارا } لمضارتهن او امساك ضرار او مضارين او مضارات بان تراجعوهن لان تحسبوهن ان ينكحن ولا تقوموا بحقوقهن { لتعتدوا } عليهن بمنعهن عن نكاح الغير وعن حقوق الزوجية او الجائهن الى الافتداء كما هو ديدن اهل الزمان اذا كرهوا الازواج، عن الصادق (ع) انه سئل عن هذه الآية فقال: الرجل يطلق حتى اذا كادت ان يخلو اجلها راجعها ثم طلقها يفعل ذلك ثلاث مرات فنهى الله عن ذلك { ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه } فان ظلمه للمرأة يضر المرأة فى دنياها والاغلب انه ينفعها فى عقباها لكن هذا الظالم يضر بدنيا نفسه وعقباها ولا ينتفع فى شيء منهما فهو من الاخسرين اعمالا { ولا تتخذوا آيات الله } احكامه الشرعية القالبية وآياته التدوينية وآياته الآفاقية والانفسية وخصوصا الآيات الكبرى { هزوا واذكروا نعمت الله عليكم } النعمة اما مصدر بمعنى الانعام اى انعام الله عليكم فعليكم متعلق بها او اسم مصدر بمعنى ما ينعم به والمعنى واذكروا نعمة الله وارادة عليكم من الله فالظرف حال وعلى اى تقدير فالمعنى لا تنظروا الى الآيات من حيث انفسها حتى تتخذوها هزوا واذكروا انعام الله بها عليكم وكونها آيات الله حتى تشكروا وجودها، او المعنى واذكروا نعم الله عليكم من غير التفات الى النهى السابق ومن غير اختصاص للنعم بالآيات والنعمة ما يوافق الانسان ويريده لا ما لا يوافقه ويكرهه، ولما كان الانسان ذا مراتب وقد يكون ما يوافق مرتبة منه منافرا لمرتبة اخرى منه كان تحقيق النعمة حقيقا بالبيان فنقول:
تحقيق النعمة ومراتبها بحسب مراتب الانسان
ان الانسان بما هو انسان عبارة عن اللطيفة السيارة الانسانية المتحدة فى كل مرتبة مع تلك المرتبة بوجه والمغايرة لها بحسب الذات والآثار بوجه، فان كل مرتبة منه محدودة بحدود خاصة موقوفة على تعين خاص بخلاف تلك اللطيفة فانها غير محدودة وغير واقفة على شأن من الشؤون، بل لها السير الى ما لا نهاية له من الولاية المطلقة فموافقات المراتب ان كانت موافقة لتلك اللطيفة كانت نعما للانسان بما هو انسان ولا كانت نقما له فجعل الشهوة فى الرجل والمرأة وخلق آلات التناسل بالوضع المخصوص وتقاضى الشهوة للابوين وتحريكها لهما وتقاربهما وايصال النطفة الى المقر المخصوص وامتزاج النطفتين وجعل الرحم عاشقا لها حافظا اياها ممسكا لها، وجعل الدم فى الرحم غذاء لها وتوجه نفس الام الى حفظها وتربيتها وايصال الغذاء اليها وجعله سببا لنموها نعم من الله على الانسان؛ وهكذا جميع ما ينفعه ويلزمه الى اوان البلوغ وبعد البلوغ كلما يعينه فى سيره الى الله من القرناء والناصحين والانبياء والزاجرين وبالجملة كلما ينفعه فى سيره الى الله سواء كان نافعا فى مقام بشريته او غير نافع، وسواء عد نعمة او نقمة نعم من الله تعالى عليه فتوفير الاموال وتصحيح الانفس وانذار الانبياء وتبشير الاولياء (ع) نعمة من الله تعالى كما ان الابتلاء فى الاموال والانفس وزجر الاشقياء واذا هم للمؤمنين كان نعمة منه تعالى ولذا قال تعالى:
لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا، وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور
[آل عمران:186] بطريق التأكيد والقسم، فموسى (ع) ودعوته ولطفه كانت نعمة كما ان فرعون وقهره وشدته كانت ايضا نعمة للمؤمنين، ونعم ما قال المولوى قدس سره مشيرا الى ان اللطف والقهر كليهما نعمة للمؤمنين:
جونكه بى رنكى شد
موسيئى با موسيئى در جنك شد
جون ببيرنكى رسى كان داشتى
موسى وفرعون دارند آشتى
يانه جنك است اين براى حكمتست
همجو جنك خر فروشان صنعت است
يا نه اينست ونه آن حيرانى است
كنج بايدكنج در ويرانى است
فكلما اعان الانسان بحسب التكوين او بحسب التكليف على السير الى مقامه الذى هو الولاية المطلقة التى لا حد لها كان نعمة له، واذا وصل الانسان الى ذلك المقام تم النعمة عليه بل صار بنفسه نعمة تامة فان الولاية هى النعمة لا غير الولاية، وما كان متصلا بالولاية بان كان ناشئا منها او راجعا اليها كان نعمة بسبب اتصاله بها، وما لم يكن كذلك لم يكن نعمة كائنا ما كان، والمراد بالنعمة هاهنا اما نعمة الآيات او مطلق ما يعين الانسان فى انسانيته فيكون قوله تعالى: { ومآ أنزل عليكم من الكتاب والحكمة } من قبيل ذكر الخاص بعد العام او خصوص الانبياء والاولياء فيكون قوله: { ومآ أنزل عليكم من الكتاب والحكمة } من قبيل عطف المغاير والمراد بالكتاب النبوة والرسالة واحكامهما والكتاب التدوينى من آثارهما وبالحكمة الولاية وآثارها { يعظكم به } مستأنف جواب لسؤال عن حال ما انزل او عن علة النزول او حال عن ما او عن فاعل انزل { واتقوا الله } اى سخطه فى الغفلة عن حيثية النعمة وفى عدم الاتعاظ { واعلموا أن الله بكل شيء عليم } فيعلم استهزاءكم وغفلتكم واتعاظكم وعدمها وعدو وعيد، ولما كان النفوس ضنينة بتخلية النساء بعد الطلاق وانقضاء العدة وبتزويجهن قدم النهى عن الاستهزاء بالاحكام وعدم الاعتداد بها والامر بتذكر النعم وأحكام الشريعة وحكمها ومصالحها حتى يكون معينا على امتثال الاوامر والنواهى ثم عقبه بالامر بالتقوى والوعد والايعاد بذكر احاطة علمه بالجليل والحقير ثم قال: { وإذا طلقتم النسآء فبلغن أجلهن }.
[2.232]
{ وإذا طلقتم النسآء فبلغن أجلهن } اى وصلن الى آخر العدة من غير انقضاء لها او بلغن اخرها بحيث انقضت العدة { فلا تعضلوهن } اى لا تمنعوهن ايها الازواج { أن ينكحن أزواجهن } الذين خطبوهن وكانوا غيركم او لا تعضلوا ايها الاولياء على ان يكون الخطاب الثانى غير الاول، او على ان يكون الخطاب الاول للاولياء أيضا باعتبار انهم كانوا معينين للطلاق ان ينكحن ازواجهن الذين كانوا ازواجهم قبل الطلاق { إذا تراضوا } اى الخطاب والنساء او الازواج السابقة والنساء { بينهم بالمعروف ذلك } المذكور من الاحكام والآيات السابقة المذكورة جملة او من منع عضل النساء { يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر } فان من لم يذعن بالله حالا ولا باليوم الآخر كانت الآيات فى الوعد والوعيد اسمارا له { ذلكم } اتى بأداة خطاب الجمع هاهنا بخلاف سابقه لكون الحكم متوجها هاهنا الى جميع المخاطبين بخلاف السابق يعنى ان تخلية النساء وعدم منعهن عن الازواج كان خاصا بالازواج او الاولياء او كان الخطاب خاصا بمحمد (ص) { أزكى لكم } من الزكوة بمعنى النمو والتنعم او الصلاح { وأطهر والله يعلم } ما ينفعكم مما يضركم ولذا يأمركم بما تكرهونه وينهاكم عمأ تحبونه لنفع ذلك ومضرة هذا { وأنتم لا تعلمون } ولذا تحبون الضار وتكرهون النافع.
[2.233]
{ والوالدات يرضعن أولادهن } بعد ذكر النكاح وذكر ان النساء حرث للولد وانجراره الى ذكر الطلاق ذكر تعالى الاولاد وكيفية ارضاع الوالدات والجملة خبر فى معنى الأمر او اخبار عن مدة الارضاع واشعار بعدم وجوب الارضاع عليهن فكأنه تعالى قال: والوالدات ان اردن ان يرضعن اولادهن يرضعنهم { حولين كاملين } التأكيد به لان كثيرا ما يتسامح فيقال: حولين لحول كامل وجزء من الحول الثانى، روى انها لا تجبر الحرة على ارضاع الولد وتجبر ام الولد، وروى انه ليس للصبى لبن خير من لبن امه { لمن أراد أن يتم الرضاعة } يعنى هذا الحكم لمن اراد من النساء او الرجال ان يتم الرضاعة والا جاز الاقتصار على اقل من ذلك او يرضعن للآباء الذين ارادوا ان يتموا الرضاعة { وعلى المولود له } اى الاباء والتادية بهذه العبارة للاشارة الى ان الاولاد للآباء ولا شركة للامهات فيهم وللاشارة الى علة الحكم { رزقهن وكسوتهن بالمعروف } بالنسبة الى المعطى بان لا يكون بنحو يضره وبالنسبة الى المنفق عليها بان لا يكون غير موافق لما يقتضيه شأن امثالها، ظاهر الآية وجوب الارضاع على الامهات كن فى بيوت الآباء اولا، ووجوب الانفاق على الآباء كن فى بيوتهم او فى بيوت ازواج غيرهم ولكن الاخبار والفتاوى غير ذلك { لا تكلف نفس إلا وسعها } قد فسر الوسع بالجدة وبالطاقة لكن المراد به فى القرآن كلما استعمل هو ما تسعه النفس سواء كان من الاموال او من الافعال فهو اسم مصدر بمعنى ما تسعه النفس اى مال يسعه مال النفس بمعنى انه لا يظهر بالانفاق النقصان فيه او فعل تسعه النفس بمعنى انه لا يظهر على النفس منه كلفة فوسع النفس دون طاقتها فى الفعال، ودون التضرر به فى الاموال، وهو تعليل للتقييد بالمعروف كما ان قوله تعالى { لا تضآر والدة بولدها } بدل تفصيلى من قوله { لا تكلف نفس إلا وسعها } على قراءة رفع لا تضار واما على قراءة فتحها فهى منقطعة عما قبلها مستأنفة { ولا مولود له بولده } ويجوز جعل لا تضار مبنيا للفاعل ومبنيا للمفعول ولا فرق فيهما بحسب المعنى، والمضارة بالولد اعم من التمانع عن حقوق الزوجية خوفا على الولد، او التقتير فى الانفاق عليها بحسب ماله او بحسب حالها، والاجحاف فى ماله كذلك، او منعها من ارضاع الولد مع ميلها ذلك، او ابائها عنه مع ان لم يوجد بدلها، اولم يألف الولد بغيرها، عن الصادق (ع): اذا طلق الرجل المرأة وهى حبلى أنفق عليها حتى تضع حملها فاذا وضعته اعطاها اجرها ولا يضارها الا ان يجد من هو أرخص اجرا منها فان هى رضيت بذلك الاجر فهى احق بابنها حتى تفطمه { وعلى الوارث مثل ذلك } وهذا من المجملات المحتاجة الى البيان يعنى على وارث المولود له الانفاق والكسوة للمرضعة بعد موت المولود له لكن بقدر اجرة الرضاع من مال الولد ان كان له ارث { فإن أرادا فصالا } اى قبل الحولين والا فبعد الحولين لا حاجة الى التقييد بقوله تعالى { عن تراض منهما } يستفاد من هذا القيد ان رضى الام شرط فى فطام الولد وهو كذلك قبل الحولين لان لها الحضانة فى الحولين وهى تقتضى ان يكون الفطام قبلهما برضاها { وتشاور } منهما طلبا لما هو صلاح الولد، والامر بمشورة الام هاهنا مع كراهة مشورة النساء لكونها ابصر بحال الولد { فلا جناح عليهما } فى الفطام قبلهما وهذا توسعة فى الرضاع بعد تحديده بالحولين والتضييق فيه، ولما قال { والوالدات يرضعن أولادهن } { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن } توهم من ظاهره وجوب ارضاع الوالدات ووجوب انفاق الآباء فأراد رفع ذلك التوهم وان هذا أمر غير واجب الا بعوارض فقال: { وإن أردتم أن تسترضعوا } تطلبوا من يرضع { أولادكم } غير الامهات { فلا جناح عليكم } وهذا ايضا من المجملات فانه بظاهره يدل على جواز الاسترضاع من غير الامهات مع وجودهن وارضاعهن بلا اجرة او باجرة مثل اجرة الغير وكفاية لبنهن لهم وليس كذلك لانه ينافى حضانتهن الواجبة على القول به { إذا سلمتم مآ آتيتم } ما اردتم او ينبغى ايتاؤه المراضع او الامهات على حسب الشرط او على حسب امر الله تعالى يعنى ان للامهات حقا عليكم من النفقة والكسوة اذا كن ازواجكم ومن التسريح باحسان اذا كن مطلقات وللمرضعات غير الامهات حقا عليكم بسبب ارضاع اولادكم فاذا آتيتم كل ذات حق حقها بحيث يكن راضيات منكم فلا جناح عليكم وللاشارة الى استرضائهن اضاف قوله تعالى { بالمعروف } والاخبار فى ان المرضعة كيف ينبغى ان تكون وان اللبن يؤثر فى نفس الرضيع وان لبن الامهات خير الالبان للاولاد كثيرة { واتقوا الله } تحذير للآباء عن التعدى على الامهات او الاولاد بسبب اللجاج او شح النفوس او الخطاب للآباء والامهات جميعا { واعلموا أن الله بما تعملون بصير } فأطيعوه ولا تخالفوا أمره ونهيه ترغيب وتهديد.
[2.234]
{ والذين يتوفون منكم } توفى الشيء اخذه بتمام اجزائه وتوفى الانسان اخذ روحه بتمام فعلياتها، واستعمال التوفى فى قبض الروح للاشعار بأنه لا يبقى بعد الموت فى الدنيا من الانسان الا مادة قابلة لا مدخلية لها فى الانسان لا فى حقيقته ولا فى تشخصه { ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن } قد مضى بيان التربص بالأنفس عند قوله تعالى { والمطلقات يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا } اى عشرة ايام لكنه انث العشر لتقدير الليالى جمع الليلة تميزا.
بيان حكمة عدة النساء
اعلم ان الحكمة فى العدة، عدة اشياء: الاول حفظ حرمة المؤمن، والثانى ترقب حصول الرغبة من الطرفين بمضى مدة لم يتضاجعا وحصول المراجعة والمواصلة بينهما فان الطلاق والفرقة مبغوضان لله، والوصال والالفة محبوبان له، والثالث تبرئة الرحم من الحمل، والرابع مراعاة تعلق قلب المرأة بالزوج وقطعه فانها تسكن حرقة المرأة بعد الطلاق فى ثلاثة اشهر وحرقة المتوفى عنها زوجها لا تسكن الا فى اربعة اشهر وعشرا كما فى الخبر، والخامس مراعاة صبر المرأة عن الجماع وطاقتها فان المرأة تصبر عنه اربعة اشهر ولذلك تقرر ذلك فى القسم والايلاء وهذا ايضا مذكور فى الخبر وقد يتخلف بعض ذلك فى بعض الموارد فان المطلقة الغير المدخولة والمطلقة اليائسة لا عدة لهما، والامة والمتعة تعتد ان فى الطلاق وفى انقضاء المدة اوهبتها نصف الحرة الدائمة وفى الوفاة كالحرة الدائمة على خلاف، وذات الاقراء تعتد بالاقراء، وذات الاشهر بالاشهر بعد التربص قبل الطلاق بثلاثة اشهر، وتعتد من طلاق الغائب من حين الطلاق ومن وفاته من حين وصول الخبر، روى عن الباقر (ع) انه قال: كل النكاح اذا مات الزوج فعلى المرأة حرة كانت او امة وعلى اى وجه كان النكاح منه متعة او تزويجا او ملك يمين فالعدة اربعة اشهر وعشرا وقد اشرنا الى ان فى بعض هذه خلافا { فإذا بلغن أجلهن } اى آخر مدة عدتهن يعنى اذا انقضت العدة { فلا جناح عليكم } ايها الاولياء او الازواج او الاولياء والازواج جميعا { فيما فعلن في أنفسهن } من النكاح واجابة الخطاب والتعرض لهم { بالمعروف والله بما تعملون خبير } فاحذروا ولا تمنعوا النساء بعد انقضاء العدة من التزويج ولما علق تعالى نفى الحرج بسبب الخطبة والنكاح على انقضاء العدة توهم من مفهوم المخالفة انه قبل انقضاء العدة يكون الحرج ثابتا على الرجال المذكورين ولا يكون الا بسبب اثم النساء فى التعرض للخطاب حينئذ واثمهن فى ذلك يلزمه اثم الخطاب فى ذلك فرفع ذلك التوهم بقوله تعالى { ولا جناح عليكم فيما عرضتم }.
[2.235]
{ ولا جناح عليكم فيما عرضتم } ايها الخطاب { به } لا فيما صرحتم به { من خطبة النسآء } واكتفى بنفى الجناح عن الخطاب عن ذكر انتفاعه عن النساء والرجال المذكورين، والتعريض ان يذكر شيئا للمرأة ويشير الى ارادة نكاحها بعد انقضاء عدتها والرغبة فيها حتى لا تجيب غيره وتحبس نفسها له { أو أكننتم في أنفسكم } من غير اظهار بألسنتكم لا تصريحا ولا تلويحا { علم الله أنكم ستذكرونهن } فأباح لكم التعريض بخطبتهن لا التصريح بها فانه خلاف حفظ حرمة المؤمن { ولكن لا تواعدوهن سرا } استدراك عن محذوف مستفاد من قوله { علم الله أنكم ستذكرونهن } اى فاذكروهن ولكن لا تواعدوهن سرا اى فى مكان خال او مواعدة مكان خال، او هو نفسه مفعول مطلق نوعى من غير لفظ الفعل فان الخلوة مع الاجنبية المرغوبة تدعو الى ما لا يرضيه الشرع، او لا تواعدوهن جماعا وفعلا يستتر به فانه كثيرا ما يكنى عن الجماع وما يستقبح بالسر اى لا تواعدوهن المضاجعة والملاعبة، او لا تواعدوهن العقد قبل انقضاء العدة، او كثرة المضاجعة معهن بعد النكاح حتى لا يملن الى غيركم بان تصفوا أنفسكم بكثرة المضاجعة، او لا تواعدوهن خلوة بان تقول قبل انقضاء العدة للمرأة التى تريد نكاحها: موعدك ببيت آل فلان وقد أشير اشارة ما الى الكل فى الاخبار { إلا أن تقولوا } استثناء متصل فى كلام تام بدل من السر او استثناء مفرغ اى لا تواعدوهن سرا بشيء او لشيء او فى حال او مواعدة شيء الا ان تقولوا { قولا معروفا } من التعريض المرخص فيه { ولا تعزموا عقدة النكاح } اى عقده والفرق بينهما كالفرق بين المصدر واسمه، والنهى عن العزم عليها مبالغة فى النهى عنها { حتى يبلغ الكتاب } اى المفروض من العدة { أجله واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم } من العزم على العقد او الرفث او الفسوق { فاحذروه } اى الله، او ما فى أنفسكم من العزم المذكور، او وعد السر { واعلموا أن الله غفور } يغفر ما فى نفوسكم اذا لم تفعلوا { حليم } لا يعاجل عقوبة من يرتكب ما نهى عنه فلا تغتروا بعدم المؤاخذة سريعا.
[2.236]
{ لا جناح عليكم } استئناف جواب لسؤال مقدر كأنه قيل بعد ذكر الطلاق وذكر احكام المطلقات: ما للمطلقة على المطلق؟ - فقال تعالى: لا تبعة عليكم من المهر وغيره { إن طلقتم النسآء ما لم تمسوهن } كناية عن الجماع { أو تفرضوا } الا ان تفرضوا او حتى تفرضوا، او لفظة او بمعنى الواو { لهن فريضة } فعيل بمعنى المفعول والتاء للنقل او مصدر فذكر تعالى حكم المطلقات بالمنطوق والمفهوم تفصيلا واجمالا من حيث المهر فنفى الحرج وغرامة المهر عمن طلق زوجته الغير الممسوسة والغير المفروض لها بمنطوق الآية واثبت غرامة ما لمن طلق الممسوسة او المفروض لها والمفروض لها الغير المدخول بها لها نصف ما فرض لها كما سيأتى، والممسوسة الغير المفروض لها، لها مهر امثالها والممسوسة المفروض لها لها ما فرض لها { ومتعوهن } اى فطلقوهن ومتعوهن استحبابا او وجوبا { على الموسع } اى الذى كان ذا سعة فى ماله فان همزة الافعال فى مثله للصيرورة { قدره } ما يقدر عليه ويطيقه، او ما يقدر على حسب سعته { وعلى المقتر قدره } ويستفاد من الاخبار ان مناط تقدير المتعة ليس حال المطلق فقط بل ينظر الى حال المطلق وشأن المطلقة ويقدر المتعة بحسب حالهما جميعا فان تمتيع التى لها حسب ونسب وشرف ليس كتمتيع من ليس لها ذلك وان كان المطلق واحدا { متاعا } مصدر من غير لفظ الفعل او مفعول به اى تمتيعا { بالمعروف } على الاول، او جنسا متلبسا بالمعروف على الثانى، او يكون الظرف حينئذ متعلقا بقوله { متعوهن } والتقييد بالمعروف يدل على مراعاة حال الطرفين { حقا } صفة متاعا او مصدر مؤكد لغيره { على المحسنين } اى لمريدى الاحسان الى الناس، ومطلقاتهم اولى باحسانهم او على من ديدنهم الاحسان الى الناس، او على المحسنين فى فعالهم واتى بهذا الاسم الظاهر مع ان حق العبارة ان يقول حقا عليكم ترغيبا لهم فى التمتيع، او المقصود انه حق على المحسنين منكم وانه شأنهم فينبغى لكم ان تطلبوا هذا الشأن ولا تحديد فى الاخبار لمتعة المطلقة المذكورة كما فى الآية وفى بعض الاخبار ذكر وجوبها، وقيل: يقدر بقدر نصف مهر امثالها.
[2.237]
{ وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة } فعليكم { فنصف ما فرضتم } وهذا بيان لاحد شقوق مفهوم المخالفة من الآية السابقة وبقى شق طلاقهن بعد المسيس مع الفرض وحكمه ظاهر فانه بالعقد يثبت الفريضة ويفرض والمسقط للنصف هو الطلاق قبل المسيس وقد فرض الطلاق بعد المسيس وشق طلاقهن بعد المسيس مع عدم الفرض { إلا أن يعفون } اى المطلقات عن النصف الذى هو حقهن { أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح } اى الاب او الجد او الوكيل المطلق لهن، او الوكيل فى امر نكاحهن وطلاقهن، او المراد من الذى بيده عقدة النكاح الازواج والمعنى الا ان يعفو الازواج عن النصف الذى كان حق النساء وصار بالطلاق قبل المسيس حقا لهم وقد أشير فى الاخبار الى الكل ويؤيد المعنى الاخير قوله تعالى { وأن تعفوا } خطابا للازواج بظاهره، ويحتمل ان يكون خطابا للمطلقين والمطلقات تغليبا، او لأولياء النكاح، او للجميع { أقرب للتقوى } عن الظلم فان مطالبة الحق الثابت قلما تنفك عن انكسار ما لقلب المطلوب منه { ولا تنسوا الفضل } اى الفضل الذى أنعم الله به على بعضكم فيكون خطابا للازواج فانهم فضلهم الله على النساء، ومعنى عدم نسيان الفضل تذكر الفضل الذى فضلهم به على النساء حتى يكون ذلك التذكر داعيا لهم الى العفو فان ذا الفضل اولى بالعفو والاعطاء، او المعنى لا تنسوا تحصيل الفضل دائرا { بينكم } فان العفو والاعطاء سبب لحصول الفضل وزيادة الدرجات فليكن كل من الازواج والنساء والاولياء متذكرا للفضل طالبا له فالآية ترغيب فى العفو للازواج فقط على المعنى الاول وللجميع على المعنى الثانى، روى عن على (ع) انه قال: سيأتى على الناس زمان عضوض يعض المؤمن على ما فى يده ولم يؤمر بذلك قال الله تعالى: { ولا تنسوا الفضل إن الله بما تعملون بصير } فما يفوتكم بالعفو لا يفوته فيجازيكم بعشرة امثاله الى سبعمائة الف.
[2.238]
{ حافظوا } ابتداء كلام للترغيب فى الصلاة والتوجه الى الله بعد ذكر النساء واحكامهن والطلاق واحكامه كأنه قال: هذه احكام الكثرات لكن لا ينبغى لكم الغفلة عن جهة الوحدة والتوجه الى الله فواظبوا { على الصلوات } بالمحافظة على مواقيتها وحدودها وأركانها وقد مضى فى اول السورة بيان للصلاة ومراتبها وانها ذات مراتب كمراتب الانسان والصلوات القالبية لكون كل فى عرض الاخرى لا فى طولها لا تفاضل بينها وان مراتب الصلاة الطولية كل عالية منا محيطة بالدانية ومقومة لها وحكمها بالنسبة الى دانيتها حكم الروح بالنسبة الى الجسد وهى متوسطة معتدلة كما ان الروح بالنسبة الى الجسد متوسطة معتدلة فقوله تعالى: { والصلاة الوسطى }
بيان الصلاة الوسطى
{ والصلاة الوسطى } اى الفضلى او المتوسطة او المعتدلة اشارة الى المراتب العالية من الصلوات لا الى شيء من الصلوات العرضية، وتفسيرها بصلوة الظهر كما فى الاخبار الواردة من طريق الشيعة لكونها مظهرا للصلاة الوسطى بوجه كما ان ليلة القدر والاسم الاعظم عبارة عن ليلة هى روح بالنسبة الى الليالى العرضية وعن اسم كذلك وقد فسروهما بشيء من الليالى والاسماء العرضية لكونهما مظهرين لهما مظهرية خاصة غير المظهرية العامة المشترك فيها جميع الليالى والاسماء وقد فسروها بصلاة العصر او المغرب او العشاء او الصبح، وقد نقل انها مختفية فى الصلوات الخمس لم يعينها الله وأخفاها فى جملة الخمس ليحافظوا على جميعها كما انه اختفى ليلة القدر فى ليالى شهر رمضان او فى ليالى السنة والاسم الاعظم فى جميع الاسماء، وساعة الاستجابة فى ساعات يوم الجمعة { وقوموا } فى الصلاة { لله قانتين } اى داعين بوضع قنوت الصلاة او خاشعين او طائعين او ساكتين عن هواجس النفس او عن كلام غير ذكر الله او قوموا اى اعتدلوا لله او قوموا بامور الكثرات واكفوا مهمات اهليكم، ولفظ لله اما متعلق بقوموا او بقانتين وكان التقديم للحصر والاهتمام.
[2.239]
{ فإن خفتم } من عدو ولص وسبع { ف } حافظوا عليها { رجالا } جمع راجل او رجيل او رجلان او رجل بكسر الجيم او ضمه يعنى لا يلزم القيام والتوقف فى الصلاة وقت الخوف { أو ركبانا } جمع راكب ولا اختصاص له بركوب الجمل وغيره وعن الصادق (ع) انه قال: اذا خاف من سبع او لص يكبر يومئ ايماء { فإذآ أمنتم فاذكروا الله } فصلوا، او المراد مطلق الذكر، او المراد الذكر القلبى الذى هو صلاة الصدر { كما علمكم } ذكرا يكون مثل تعليمه اياكم يعنى يوازى تعليمه اياكم، او كذكر علمكم بلسان خلفائه، او كالذكر الذى علمكم بلسان خلفائه على ان يكون ما مصدرية او موصوفة او موصولة وعلى الاخيرين فقوله تعالى { ما لم تكونوا تعلمون } يكون بدلا.
[2.240]
{ والذين يتوفون } اى يظنون التوفى بظهور آثاره او يعلمون التوفى فى المستقبل { منكم ويذرون أزواجا وصية } قرء بالنصب بتقدير يوصون خبرا للذين وبالرفع بتقدير عليهم وصية { لأزواجهم متاعا } مصدر لمحذوف جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: ما يفعلون بالوصية فقال: يمتعون ازواجهم متاعا { إلى الحول } او بدل عن وصية نحو بدل الاشتمال، او منصوب بنزع الخافض اى يوصون وصية بمتاع { غير إخراج } بدل نحو بدل البعض من الكل، او حال عن الازواج مؤولا باسم المفعول، او عن فاعل يذرون مؤولا باسم الفاعل، وقيل فى اعراب اجزاء الآية اشياء اخر اجودها ما ذكرنا ، وفى الاخبار: ان الآية منسوخة بآية عدة الوفاة وآية ميراثهن فانه كان الحكم فى اول الاسلام ان ينفق الوارث على المرأة الى الحول ثم تخرج من غير ميراث؛ فنسختها بكلا حكميها آية العدة وآية ميراثهن؛ وان كانت آية العدة متقدمة فى النظم فانها كانت متأخرة فى النزول { فإن خرجن } من منازل الازواج يعنى بعد الحول على ان يكون الحكم بعدم الإخراج فى الحول واجبا او قبل الحول على ان يكون غير واجب { فلا جناح عليكم } ايها الوراث او الخطاب لاولياء النساء او للحكام { في ما فعلن في أنفسهن من معروف } كالتزيين والتعرض للخطاب واجابة خطبتهم والنكاح لهم { والله عزيز } لا يمنع مما يريد فاحذروا انتقامه فى مخالفته واحذروا الظلم على من تحت ايديكم { حكيم } لا يأمر ولا ينهى الا بما فيه صلاحكم.
[2.241-242]
{ وللمطلقات متاع بالمعروف } تعميم بعد تخصيص وبيان حكم ندب بعد الحكم الفرض فان حكم التمتيع فيما سبق كان للمطلقات الغير الممسوسات الغير المفروض لهن، وفى الخبر: متعة النساء واجبة دخل او لم يدخل؛ وتمتع قبل ان تطلق؛ وفى بيان هذه الآية عن الصادق (ع): متاعها بعد ما تنقضى عدتها على الموسع قدره وعلى المقتر قدره، قال: وكيف يمتعها وهى فى عدتها ترجوه ويرجوها ويحدث الله بينهما ما يشاء { حقا } مفعول مطلق مؤكد لغيره او حال { على المتقين كذلك } التبيين لاحكام النساء فى توفى ازواجهن وفى طلاقهن { يبين الله لكم آياته } الثابتة فى حق أنفسكم وفى حق مخالطيكم ومخالطاتكم { لعلكم تعقلون } تصيرون عقلاء او تدركون بعقولكم كونها آيات وأحكام لله وتدركون مصالحها وحكمها.
[2.243]
{ ألم تر } استفهام انكارى وكان حق العبارة ان يقول الم تذكر لكنه اتى بالرؤية الدالة على جواز الرؤية لهم للاشعار بأنهم وان كانوا قد مضوا ولا يراهم المقيدون بالزمان لكنهم بالنسبة اليه (ص) حاضرون فان الازمان بالنسبة اليه (ص) منطوية ولا فرق عنده (ص) بين الماضى والمستقبل والحال لكونه (ص) محيطا بالزمان والزمانيات { إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال } قولا مناسبا لشأنه لا بنداء يسمع ولا بصوت يقرع بل بارادة هى ظهور فعله { لهم الله موتوا ثم أحياهم } روى ان هؤلاء كانوا اهل مدينة من مدائن الشام وكانوا سبعين الف بيت وكان الطاعون يقع فيهم فى كل اوان فكانوا اذا أحسوا به خرج من المدينة الاغنياء لقوتهم وبقى فيها الفقراء لضعفهم فكان الموت يكثر فى الذين اقاموا ويقل فى الذين خرجوا، فيقول الذين خرجوا: لو كنا اقمنا لكثر فينا الموت، ويقول الذين اقاموا: لو كنا خرجنا لقل فينا الموت، قال: فاجتمع رأيهم جميعا انه اذا وقع الطاعون وأحسوا به خرجوا كلهم من المدينة فلما أحسوا بالطاعون خرجوا جميعا وتنحوا عن الطاعون حذر الموت فسافروا فى البلاد ما شاء الله ثم انهم مروا بمدينة خربة قد جلا اهلها عنها وأفناهم الطاعون فنزلوا بها، فلما حطوا رحالهم واطمأنوا قال لهم الله: موتوا جميعا فماتوا من ساعتهم وصاروا رميما يلوح وكانوا على طريق المارة فكنستهم المارة فنحوهم وجمعوهم فى موضع فمر بهم نبى من انبياء بنى اسرائيل يقال له حزقيل فلما رأى تلك العظام بكى واستعبر وقال: يا رب لو شئت لأحييتهم الساعة كما أمتهم فعمروا بلادك وولدوا عبادك وعبدوك مع من يعبدك من خلقك، فأوحى الله اليه افتحب ذلك؟ - قال: نعم يا رب؛ فأحياهم الله، قال: فأوحى الله عز وجل ان قل كذا وكذا؛ فقال الذى أمره الله عز وجل ان يقوله قال: قال ابو عبد الله (ع): وهو الاسم الاعظم؛ فلما قال حزقيل ذلك نظر الى العظام يطير بعضها الى بعض فعادوا احياء ينظر بعضهم الى بعض يسبحون الله عز وجل ويكبرونه ويهللونه، فقال حزقيل عند ذلك: اشهد ان الله على كل شيء قدير، وذكر فى نيروز الفرس ان النبى (ع) أمره الله ان صب الماء عليهم فصب عليهم الماء فى هذا اليوم فصار صب الماء فى يوم النيروز سنة ماضية لا يعرف سببها الا الراسخون فى العلم، وروى ان الله ردهم الى الدنيا حتى سكنوا الدور واكلوا الطعام ونكحوا النساء ومكثوا بذلك ما شاء الله ثم ماتوا بآجالهم { إن الله لذو فضل على الناس } تعليل للاحياء بعد الاماتة او لمجموع الاماتة والاحياء بعدها اى أماتهم ثم أحياهم ليستكملوا بذلك لان الله ذو فضل على الناس او ليعتبر غيرهم بهم لان الله ذو فضل على الناس فيجعل بعضهم عبرة للآخرين { ولكن أكثر الناس لا يشكرون } فضله عليهم فلا ينظرون الى انعامه ولا يصرفون نعمته فيما خلقت لاجله.
[2.244]
{ وقاتلوا } عطف على مقدر مستفاد مما سبق كأنه قال: فلا تحذروا الموت وكلوا أمركم الى القدر فانه لا ينجى الحذر من القدر وقاتلوا { في سبيل الله } قد مضى بيان سبيل الله وان الظرف لغو او مستقر والظرفية حقيقية او مجازية وان المعنى قاتلوا حال كونكم فى سبيل الله او فى حفظ سبيل الله واعلانه وان سبيل الله الحقيقى هو الولاية وطريق القلب وكل عمل يكون معينا على ذلك او صادرا منه فهو سبيل الله { واعلموا أن الله سميع } لما يقوله المجاهدون والقاعدون والمثبطون والمرغبون { عليم } بالمتخلف ونيته والمجاهد ومراده؛ ترغيب وتهديد ووعد ووعيد.
[2.245]
بيان قرض الله وتحقيقه
{ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا } القرض ما تعطيه لتقاضاه، وأقرضه أعطاه قرضا، والاقراض لا يكون الا مما كان مملوكا للمقرض فلو كان شيء عارية ووديعة عند الشخص فان رده الى صاحبه لم يكن ذلك الرد قرضا وان اعطاه غير صاحبه كان حراما وتصرفا غصبيا لا اقراضا، وما للانسان من الاموال العرضية الدنيوية والقوى النباتية والحيوانية والآلات والاعضاء الجسمانية والمدارك والشؤن الانسانية كلها مما أعارها الله اياه فان رد شيئا منها الى الله كان ذلك رد العارية الى صاحبها لا اقراضا وان أعطى شيئا منها غير صاحبها كان حراما وتصرفا فى مال الغير من دون اذن صاحبه، والله تعالى من كمال تلطفه بعباده ورحمته عليهم يستقرض منهم ما أعاره اياهم ليشير بمادة القرض الى اعطاء العوض ولا اختصاص لما استقرضه الله بالمال الدنيوى بل يجرى فى جميع ما للانسان بحسب نشأته الدنيوية والاخروية من الاموال والقوى والاعضاء؛ وتعم ما قال المولوى قدس سره فى بيان عموم ما استقرضه الله تعالى:
تن جو بابرك است روزوشب ازآن
شاخ جان در برك ريز است وخزان
برك تن بى بركى جانست زود
زين ببايد كاستن وانرا فزود
أقرضوا الله قرض ده زين برك تن
تا برويد در عوض در دل جمن
قرض ده كم كن ازين لقمه تنت
تا نمايد وجه لا عين رأت
تن زسر كين خويش جون خالى كند
بر ز كوهر هاى اجلالى كند
قرض ده زين دولتت در اقرضوا
تا كه صد دولت ببينى بيش رو
وحسن الاقراض ان لا يطلب به عوضا ولو كان قربه تعالى { فيضاعفه له أضعافا كثيرة } الاضعاف جمع الضعف بكسر الضاد واقل معناه مثلى ما يضاف اليه وأكثره لا حد له، وهو مفعول ثان ليضاعفه او حال او مصدر عددى على ان يكون الضعف اسم مصدر، ويصدق الاضعاف الكثيرة على عشرة امثاله الى ما لا يعلمه الا الله، وعن الصادق (ع) انه قال: لما نزلت هذه الآية من جاء بالحسنة فله خير منها قال رسول الله (ص)
" رب زدنى فأنزل الله سبحانه { من جاء بالحسنة فله عشر امثالها } ، فقال رسول الله (ص): رب زدنى فأنزل الله سبحانه: { من ذا الذى يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له اضعافا كثيرة } "
فعلم رسول الله (ص) ان الكثير من الله لا يحصى وليس له المنتهى، ومنه يستفاد ان كل طاعة لله اقراض لله سواء كانت فعلا او تركا وهو كذلك فان الطاعة ليست الا بتحريك القوى المحركة وامساك القوى الشهوية والغضبية وكسر سورتهما فطاعة الله اقراض من القوى { والله يقبض ويبسط } جملة حالية وترغيب فى الاقراض لان المعنى من ذا الذى يقرض الله فيضاعفه له فأقرضوا ولا تمسكوا خوف الفقر والافناء لان الله لا غيره يقبض الرزق من اقوام ويبسط على اقوام، او يقبض فى حال ويبسط فى حال ولا يكون الامساك سببا للبسط ولا الانفاق سببا للقبض، او المراد فيضاعفه له فأقرضوا ولا تمسكوا لان الامساك حينئذ اما لخوف عدم اطلاع الله او لخوف عدم الوصول الى الله والحال ان الله تعالى هو يقبض القرض لا غير الله ويبسط الجزاء { وإليه } لا الى غيره { ترجعون } فتستحقون رضاه عنكم وقربكم له زيادة على مضاعفة العوض.
وقيل: المعنى ان الله يقبض بعضا بالموت ويبسط من ارثه على وارثه؛ وهو بعيد جدا، وروى ان الآية نزلت فى صلة الامام، وروى: ما من شيء احب الى الله من اخراج الدراهم الى الامام وان الله ليجعل له الدرهم فى الجنة مثل جبل احد؛ وعلى هذا فقوله تعالى { والله يقبض ويبسط } بطريق الحصر يكون مثل قوله
أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات
[التوبة: 104] فان معناه هو يقبل التوبة فى مظاهر خلفائه فيكون معنى { والله يقبض ويبسط } ان الله لا غيره فى مظاهر خلفائه يقبض القرض ويبسط الجزاء.
[2.246]
{ ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل } اى اشرافهم ومتكلميهم قد مضى قبيل هذا وجه الاتيان بالرؤية مع ان حق العبارة ان يقال الم تذكر { من بعد موسى إذ قالوا } اذ اسم خالص بدل من الملأ بدل الاشتمال او ظرف للرؤية { لنبي لهم } اسمه شمعون بن صفية من ولد لاوى، او اسمه يوشع بن نون من ولد يوسف (ع)، او اسمه اشموئيل وهو بالعربية اسماعيل وهو المروى عن الصادق (ع) وعليه اكثر المفسرين { ابعث } ارسل واجعل { لنا ملكا } اميرا { نقاتل في سبيل الله } روى انه كان الملك فى ذلك الزمان هو الذى يسير بالجنود والنبى يقيم له امره وينبئه بالخبر من عند ربه { قال } النبى { هل عسيتم } هل ترقبتم عسى يستعمل فى ترقب المرغوب واستعماله هاهنا مع طلبهم للقتال ورغبتهم فيه اشارة الى انهم كانوا اصحاب نفوس كارهة للقتال راغبة فى ترك الجهاد ولم يكن لهم عقول راغبة فى الجهاد ومقصوده من الاستفهام تذكيرهم بكراهة القتال وتثبيتهم عليه بتعاهدهم على القتال { إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنآ ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنآئنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين } وضع الظاهر موضع المضمر للاشارة الى انهم فى ذلك التولى ظالمون.
[2.247]
{ وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه } كانت النبوة فى ولد لاوى والملك فى ولد يوسف ولم يجتمع النبوة والملك فى بيت واحد وطالوت كان من ولد بن يامين وسمى طالوت لطول قامته بحيث اذا قام الرجل وبسط يده رافعا لها نال رأسه قيل: كان سقاء، وقيل: كان دباغا، وكان سبب سؤالهم ان يبعث الله لهم ملكا ان بنى اسرائيل بعد موسى عملوا بالمعاصى وغيروا دين الله وعتوا عن امر ربهم وكان فيهم نبى يأمرهم وينهاهم فلم يطيعوه، وروى انه كان ارميا النبى (ع) فسلط الله عليهم جالوت وهو من القبط فآذاهم وقتل رجالهم وأخرجهم من ديارهم واخذ اموالهم واستعبد نساءهم ففزعوا الى نبيهم وقالوا: اسئل الله ان يبعث لنا ملكا، فلما قال ان الله بعث لكم طالوت ملكا انكروا وقالوا: هو من ولد بنيامين وليس من بيت النبوة ولا من بيت الملك، فلا يجوز ان يكون له السلطنة علينا لانا من بيت النبوة والملك، { ولم يؤت سعة من المال } وشرط السلطنة السعة فى المال حتى يتيسر له القيام بلوازم السلطنة، تعريض بوجه آخر لاستحقاقهم الملك دونه وهو كثرة مالهم { قال إن الله اصطفاه عليكم } جواب اجمالى يعنى ليس الملك بقياسكم وتدبيركم بل هو فضل من الله يؤتيه من يشاء واما الجواب التفصيلى فان السلطان ينبغى ان يكون عظيم الجثة يهابه الناس، وكثير العلم ينظر عاقبة الامور؛ وتفضل الله بهما عليه { وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشآء } وليس الايتاء موقوفا على بيت دون بيت كما زعمتم فالمقتضى لاعطاء الملك موجود من قبل طالوت وهو اصطفاؤه بالبسط فى العلم والجسم والمانع للمعطى مفقود فانه اما خارجى او كون طالوت من غير بيت الملك او كونه غير ذى سعة فى المال او جهله تعالى بأهليته للملك وليس كذلك فانه يؤتى ملكه من يشاء من غير مانع لا من الخارج ولا من قبل المعطى له { والله واسع } يجبر قلة سعة طالوت بسعته { عليم } يعلم من يستأهل للملك ليس جاهلا يكون فعله وحكمه عن قياس ظنى وحجة تخمينية فقوله: { والله يؤتي ملكه من يشآء } اما عطف على معمولى ان، او على مجموع ان الله اصطفاه، او حال.
[2.248]
بيان التابوت والسكينة
{ وقال لهم نبيهم } لالزامهم بعد ما رأى انكارهم بقياسهم الفاسد { إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت } اما فعلوت من تاب اذا رجع فانه كان سببا لكثرة مراجعة صاحبه الى الله ولكثرة مراجعة الله عليه، او فلعوت مثل طاغوت من تبى يتبوا ذا غزا او غنم فانه كان سبب الغلبة والغنيمة فى الغزاء، ويجوز ان يكون وزنه فاعولا وان كان نحو سلس وقلق قليلا فان بتوتا مثل تنور بمعنى التابوت يدل على انه فاعول وكان ذلك التابوت هو الصندوق الذى انزله الله على ام موسى فوضعته فيه وألقته فى اليم وكان فى بنى اسرائيل يتبركون به فلما حضر موسى (ع) الوفاة وضع فيه الالواح ودرعه وما كان عنده من آيات النبوة وأودعه يوشع وصيه فلم يزل التابوت بينهم حتى استخفوا به وكان الصبيان يلعبون به فى الطرقات فلم يزل بنو اسرائيل فى عز وشرف ما دام التابوت بينهم فلما عملوا بالمعاصى واستخفوا بالتابوت رفعه الله تعالى عنهم فلما سألوا النبى وبعث الله تعالى طالوت اليهم ملكا يقاتل رد الله عليهم التابوت كما قال الله تعالى { إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم } قد اختلفت الاخبار فى بيان السكينة وفى خبر انها ريح من الجنة لها وجه كوجه الانسان وكان اذا وضع التابوت بين ايدى المسلمين والكفار فان تقدم التابوت رجل لا يرجع حتى يقتل او يغلب، ومن رجع عن التابوت كفر وقتله الامام، وفى خبر، السكينة روح الله يتكلم كانوا اذا اختلفوا فى شيء كلمهم واخبرهم ببيان ما يريدون، وفى خبر ان السكينة التى كانت فيه كانت ريحا هفافة من الجنة لها وجه كوجه الانسان، وفى خبر انها ريح تخرج من الجنة لها صورة كصورة الانسان ورائحة طيبة وهى التى نزلت على ابراهيم (ع) فأقبلت تدور حول أركان البيت وهو يضع الاساطين، وفى خبر ان السكينة لها جناحان ورأس كرأس الهرة من الزبرجد { وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون } يعنى موسى (ع) وهارون (ع) وآلهما فانه يراد كثيرا باضافة شيء الى امر ذلك الامر والمضاف جميعا خصوصا اذا كان حيثية الاضافة منظورا اليها، واختلف الاخبار فى تفسير تلك البقية ففى بعض الاخبار انها ذرية الانبياء، وفى بعض ذرية الانبياء ورضراض الالواح فيها العلم والحكمة، وفى بعض الاقوال العلم جاء من السماء فكتب فى الالواح وجعل فى التابوت، وفى بعض: فيه الواح موسى التى تكسرت والطست التى يغسل فيها قلوب الانبياء، وفى بعض كان فيه عصا موسى (ع)، وفى بعض الاقوال كان التابوت هو الذى أنزل الله على آدم (ع) فيه صور الانبياء فتوارثه اولاد آدم (ع) { تحمله الملائكة } قيل: ان الملائكة كانوا يحملونه بين السماء والارض، وفى الخبر كان التابوت فى ايدى اعداء بنى اسرائيل من العمالقة غلبوهم لما برح امر بنى اسرائيل وحدث فيهم الاحداث ثم انتزعه الله من ايديهم ورده على بنى اسرائيل، وقيل: لما غلب الاعداء على التابوت ادخلوه بيت الاصنام فأصبحت اصنامهم منكبة فاخرجوه ووضعوه ناحية من المدينة فأخذهم وجع فى أعناقهم وكل موضع وضعوه فيه ظهر فيه بلاء وموت ووباء؛ فتشأموا به فوضعوه على ثورين فساقتهما الملائكة الى طالوت، وفى خبر سئل (ع): كم كان سعته؟ - قال: ثلاثة اذرع فى ذراعين.
ويستفاد من جملة الاخبار وبيان السكينة والبقية انه كان المراد بالتابوت الصدر المستنير بنور الامام (ع) الظاهر فيه صورة غيبية من الجنة والصدر الظاهر فيه صورة غيبية مصاحب للنصرة والظفر وتحمله الملائكة وفيه الطست التى يغسل فيها قلوب الانبياء وفيه ذرارى الانبياء وصورهم وبقية آل موسى (ع) وهارون (ع)، وفيه العلوم والحكمة وهذه الصورة كانت مع ابراهيم (ع) وتدور حول اركان البيت، وظهور هذه الصورة بشارة من الله بالنبوة والولاية لو تمكنت فى الانسان فانها ريح تفوح من الجنة وتبشر بالعناية من الله وهذه سبب استجابة الدعاء ونزول النصرة والتأييد من الله ولذلك ذكرت السكينة فى القرآن قرينة للنصر والتأييد بجنود لم تروها وقد اصطلح الصوفية على تسمية هذه الصورة بالسكينة فانها سبب سكون النفس واطمئنانها، وبها يرتفع كلفة التكليف ويتبدل الكلفة باللذة، ويحصل الاحسان الذى هو العبادة؛ بحيث كان العابد يرى الله فان رؤيتها كرؤية الله، وقول الصادق (ع): الست تراه فى مجلسك؟ اشارة الى هذه الرؤية، وقوله تعالى كونوا مع الصادقين، وابتغوا اليه الوسيلة، وجاهدوا فى سبيله، واهدنا الصراط المستقيم وقوله (ع): انا الصراط المستقيم، وقول المولوى (قده):
جونكه با شيخى تو دور از زشتيئى
روزو شب سيارى و در كشتيئى
وقوله:
هيج نكشد نفس را جز ظل بير
دامن آن نفس كش را سخت كير
وامثال ذلك كلها اشارة الى هذا الظهور وتلك المعية ولما كان المعانى تقتضى الظهور فى المظاهر الدانية جاز ان يكون التابوت فى الظاهر صندوقا من خشب الشمشاد مموها بالذهب محسوسا للكل دار معه الملك او النبوة كلما دارو كأنه كان كثير من بنى اسرائيل يظهر التابوت والسكينة وبقية آل موسى (ع) وهارون (ع) بحسب المعنى والتأويل على صدورهم لتأثير قوة نفوس آبائهم فيهم وتفضل الله عليهم بسبب آبائهم ولذلك كان فيهم انبياء كثيرون بحيث قتلوا منهم فى يوم واحد الى الضحى جماعة كثيرة ولم يتغير حالهم كأنهم لم يفعلوا شيئا، ولما عملوا بالمعاصى ارتفع ذلك الفضل عنهم وحرموا التشرف بالتابوت والسكينة وبعد ما اضطروا والتجاؤا الى نبيهم تفضل الله عليهم به وجعله الله آية ملك طالوت وقال { إن في ذلك لآية لكم } ويجوز ان يكون هذا من تتمة كلام نبيهم { إن كنتم مؤمنين } شرط تهييجى وبعد ظهور التابوت والاقرار بطالوت جمعوا له الجنود وخرجوا الى قتال جالوت.
[2.249]
{ فلما فصل طالوت بالجنود } يعنى لما أخرجهم من مواطنهم قيل كان الجنود ثمانين الفا وقيل سبعين وذلك أنهم لما رأوا التابوت وآثار النصر تبادروا الى الجهاد { قال إن الله مبتليكم بنهر } كما هو عادته فى حق المؤمنين وابتلاؤهم لتثبيتهم على الايمان { فمن شرب منه فليس مني } اى من أتباعى { ومن لم يطعمه } الطعم عام فى المشروب والمأكول { فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده } وقرئ غرفة بفتح الغين والفرق بينهما ان مضموم الفاء اسم للمصدر ومفتوحها مصدر عددى وهو استثناء من شرب منه وتقديم الجملة المعطوفة عليه للاهتمام بها { فشربوا منه إلا قليلا منهم } الا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا من جملة الثمانين الفا منهم من اغترف ومنهم من لم يطعمه ومن لم يطعمه استغنى عنه ومن اقتصر على الغرفة كفته لشربه واداوته ومن لم يقتصر غلب عطشه واسودت شفته ولم يقدر ان يمضى، وملكهم كان علم ذلك الابتلاء بالوحى والالهام او باخبار نبيهم، وكان ذلك صورة الدنيا تمثلت لهم لتنبههم ان الدنيا هكذا كان حالها لمن اجتنبها ولمن ارادها { فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه } يعنى الذين لم يشربوا او اغترفوا غرفة ورأوا كثرة جنود جالوت وقلة عددهم { قالوا } اى الذين اغترفوا { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون } اى يعلمون وقد مر ان العلوم الحصولية لمغايرة معلومها لها حكمها حكم الظنون وكثيرا ما يطلق عليها الظنون وان علوم النفوس لتغيرها وعدم ثباتها كالظنون { أنهم ملاقوا الله } وهم الذين لم يغترفوا { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله } اى بترخيصه وامداده فان الاذن فى امثال المقام ليس معناه الترخيص فقط { والله مع الصابرين } قد مضى ان هذه المعية ليست مثل المعية فى قوله تعالى: { وهو معكم أين ما كنتم } [الحديد: 4]، ومثلها فى قوله (ع) مع كل شيء لا بالممازجة فان هذه معية رحيمية وتلك معية رحمانية وعن الرضا (ع): أوحى الله تعالى الى نبيهم ان جالوت يقتله من يسوى عليه درع موسى (ع) وهو رجل من ولد لاوى بن يعقوب (ع) اسمه داود بن آسى وكان آسى راعيا وكان له عشرة بنين أصغرهم داود فلما بعث طالوت الى بنى اسرائيل وجمعهم لحرب جالوت بعث الى آسى ان احضر واحضر ولدك فلما حضروا دعا واحدا واحدا من ولده فألبسه الدرع درع موسى (ع) فمنهم من طالت عليه ومنهم من قصرت عنه فقال لآسى هل خلفت من ولدك احدا؟ - قال: نعم أصغرهم تركته فى الغنم راعيا فبعث اليه فجاء به فلما دعى أقبل ومعه مقلاع قال: فناداه ثلاث صخرات فى طريقه فقالت: يا داود خذنا فأخذها فى مخلاته وكان شديد البطش قويا فى بدنه شجاعا فلما جاء الى طالوت البسه درع موسى (ع) فاستوت عليه ففصل طالوت بالجنود وقال لهم نبيهم: يا بنى اسرائيل { إن الله مبتليكم بنهر } فى هذه المفازة { فمن شرب منه } فليس من حزب الله ومن لم يشرب فهو من حزب الله { إلا من اغترف غرفة بيده } فلما وردوا النهر اطلق الله لهم ان يغترف كل واحد منهم غرفة { فشربوا منه إلا قليلا منهم } فالذين شربوا منه كانوا ستين الفا وكان هذا امتحانا امتحنوا به كما قال الله عز وجل.
[2.250-251]
{ ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا } ملتجئين الى الله مستنصرين به كما هو ديدن كل من وقع فى شدة واضطرار { ربنآ أفرغ علينا صبرا } افرغ الماء صبه وكأنهم طلبوا كثرة الصبر لشدة خوفهم وتوحشهم ولذلك استعملوا الافراغ { وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت } فى خبر عن الصادق (ع): ان داود جاء فوقف بحذاء جالوت وكان جالوت على الفيل وعلى رأسه التاج وفى جبهته ياقوتة يلمع نورها وجنوده بين يديه فأخذ داود من تلك الاحجار حجرا فرمى به ميمنة جالوت فمر فى الهواء ووقع عليهم فانهزموا، وأخذ حجرا آخر فرمى به ميسرة جالوت فانهزموا، ورمى جالوت بحجر فصك الياقوتة فى جبهته ووصلت الى دماغه ووقع على الارض ميتا { وآتاه الله الملك } اى السلطنة الصورية او الرسالة { والحكمة } النظرية والعملية فتكون اعم من الرسالة واحكامها والنبوة والولاية وآثارهما، او المراد بالحكمة الولاية وآثارها ان كان المراد بالملك الرسالة ويكون المراد بتعليم ما يشاء تعميم حكمته، او المراد بالحكمة الحكمة العملية وقوله تعالى { وعلمه مما يشآء } كان اشارة الى الحكمة النظرية او بالعكس { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض } بعضهم بدل من الناس بدل البعض والمعنى لولا دفع الله البلاء عن الناس عن البعض ببعض آخر يعنى عن الكفار بالمؤمنين، او عن بعض المؤمنين القاصرين بالبعض الكاملين فى الاعمال، او لولا دفع الله الناس أنفسهم بعضهم الكفار بالبعض الآخر من الكفار او بالمسلمين، او لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض آخر كالحكام والسلاطين فان اصلاح الناس ودفع الاشرار عن العباد بالسلطان اكثر من الاصلاح بالرسل، والى الكل اشير فى الاخبار { لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين } حيث جعل صلاح الصالح سببا لعدم هلاك الفاسد بل مصلحا لفساده او دفع شر الاشرار بالاخيار او بالاشرار.
[2.252]
{ تلك } التى ذكرت من اماتة الالوف ووقوعهم على ما فروا منه واحياءهم بعد اماتتهم واستقراضه ممن اعاده ما اعاده اياهم ومضاعفة العوض لهم وتسليط طالوت الفقير على الاغنياء والاشراف وابتلاء بنى اسرائيل بالنهر وشرب الكثير وعدم شرب القليل وغلبتهم مع قلتهم على جنود جالوت الكثيرة وقتل داود (ع) جالوت وايتائه الملك مع كونه راعيا والحكمة والعلم، وجعل دفع الناس بعضهم ببعض الذى هو سبب فساد الارض سببا لصلاحها { آيات الله } التكوينية الدالة على كمال قدرته وحكمته وانه لا ينظر فى عطائه الى شرف وحسب ونسب المبنية بآياته التدوينية { نتلوها } من التلاوة { عليك } خبر بعد خبر او خبر ابتداء وآيات الله بدل من تلك او حال او مستأنف جواب لسؤال مقدر { بالحق } ظرف مستقر حال عن الفاعل او المفعول اى حال كوننا ظاهرين بالحق او حال كوننا متلبسين بالحق اى الصدق او ظرف لغو متعلق بنتلوا اى نتلوها بسبب الحق المخلوق به فان افعال الله تعالى لا تصدر الا بتوسط الحق الذى هو المشيئة { وإنك لمن المرسلين } عطف على قوله تلك آيات الله او حال عن الآيات او عن مفعول نتلوها او عن الضمير المجرور والمقصود انا نتلو الآيات عليك والحال انك من المرسلين فبلغها حتى يعلموا انك صادق فى دعواك حيث تخبر بالمسطورات فى كتبهم من غير تعلم وتعرف.
[2.253]
{ تلك الرسل } جواب لسؤال مقدر عن حال الرسل وتساويهم وتفاضلهم وتمهيد لبيان تفضيله (ص) على الآخرين { فضلنا بعضهم على بعض } فى منقبة دون منقبة كأكثر الانبياء الذين لم يكونوا اولى العزم او فى اكثر المناقب كاولى العزم وغيرهم من ذوى الدرجات منهم او فى الكل كخاتم الانبياء (ص) { منهم من كلم الله } خبر بعد خبر ان جعل تلك الرسل مبتدأ، او تلك مبتدأ والرسل خبره، او هو خبر ابتداء ان جعل فضلنا حالا او معترضا، او هو مستأنف جواب لسؤال مقدر او بيان لفضلنا بعضهم على بعض نظير عطف البيان فى المفردات وهذا بيان للتفضيل بمنقبة خاصة { ورفع بعضهم درجات } بيان للتفضيل فى مناقب عديده، ودرجات تميز محول عن المفعول وليس حالا ولا قائما مقام المصدر كما قيل للاحتياج الى كلفة التأويل حينئذ، عن النبى (ص) انه قال
" ما خلق الله خلقا افضل منى ولا اكرم عليه منى، قال على (ع) فقلت: يا رسول الله افأنت افضل ام جبرئيل؟- فقال: ان الله فضل انبياءه المرسلين على ملائكته المقربين وفضلنى على جميع النبيين والمرسلين، والفضل بعدى لك يا على وللائمة من بعدك وان الملائكة لخدامنا وخدام محبينا "
{ وآتينا عيسى ابن مريم البينات } المعجزات الظاهرة المذكورة فى الكتاب { وأيدناه بروح القدس } تأييدا خاصا غير التأييد الذى كان لسائر الانبياء وقد التفت فى الكلام من الغيبة الى التكلم ثم منه الى الغيبة ثم منها الى التكلم ثم منه الى الغيبة فيما يأتى، والوجه العام فى الالتفات ايقاظ المخاطب للتوجه الى الكلام توجها اتم من التوجه السابق وتجديد نشاطه، ويوجد فى خصوص الموارد بعض الدواعى الخاصة { ولو شآء الله } عدم الاقتتال عطف على محذوف جواب لسؤال مقدر كأنه قيل فما فعل الناس بعد مجيء الرسل؟ - فقال: اختلفوا واقتتلوا، ولو شاء الله { ما اقتتل الذين من بعدهم } اى الذين كانوا موجودين من بعد مجيئهم او من بعد وفاتهم فيكون تعريضا بالاختلاف والقتال الواقع فى زمان محمد (ص) او بعد وفاته (ص) وتسلية له (ص): ولأوصيائه { من بعد ما جآءتهم البينات } اى المعجزات او الدلائل الواضحات او الموضحات { ولكن اختلفوا } قياس استثنائى مشير الى رفع التالى المستلزم لرفع المقدم اعنى مشيئة عدم الاقتتال وهو بمفهومه اعم من مشيئة الاقتتال لكنه بحسب الواقع مستلزم له { فمنهم من آمن } الفاء سببية او عاطفة للتفصيل على الاجمال والمراد الايمان العام الحاصل بالبيعة العامة { ومنهم من كفر ولو شآء الله ما اقتتلوا } لما نسب الاختلاف اليهم وكذا الايمان والكفر توهم منها انهم هم الفاعلون لافعالهم من دون فاعلية الله تعالى وسببية مشيئته فكرر الشرطية السابقة دفعا لهذا التوهم وتأكيدا لنسبة الافعال الى المشيئة بل حصرا لنسبة الافعال اليه تعالى من دون استقلال الغير بها او مشاركته ولذلك أتى باستثناء التالى بحيث يفيد نسبة الافعال اليه تعالى بطريق الحصر فقال:
تحقيق الجبر والقدر والامر بين الامرين وتحقيق بعض المطالب
{ ولكن الله } لا غيره { يفعل ما يريد } وهذا فى موضع لكن اختلفوا فكأنه قال ولكن اختلفوا وليس الاختلاف منهم ولا بمشاركتهم بل الله فعل الاختلاف فى مظاهرهم وقد اشار تعالى الى كبرى قياس من الشكل الاول مستنبط صغراه من المقدمات المسلمة المشهورة وهى كل شيء من افعال العباد وصفاتهم وغيرها مما له سمة الامكان فهو مراده تعالى لتسليم كل من اقر بالمبدء الاول ان لا شيء فى عالم الامكان الا بعلمه ومشيئته وارادته، وكل مراده فهو مفعول له لا لغيره لا بالاستقلال ولا بالشراكة فكل شيء من الذوات والاعراض وافعال العباد مفعول له تعالى لا لغيره فعلى هذا يكون افعال العباد فعل الله لكن فى مظاهر العباد.
وتحقيق افعال العباد بحيث لا يلزم من نسبتها الى الله جبر للعباد ولا من نسبتها الى العباد تفويض اليهم ولا تعدد فى النسبة يستدعى ذكر مقدمات:
الاولى - ان الوجود كما تكرر سابقا حقيقة واحدة ذات مراتب كثيرة متفاوتة بالشدة والضعف والتقدم والتاخر بحيث لا ينثلم بكثرتها وحدة تلك الحقيقة كالنور العرضى فانه حقيقة واحدة متكثرة بحسب المراتب القريبة والبعيدة من منبعه وبحسب السطوح المستنيرة به، فان النور يتكثر بكثرة السطوح بالعرض فاذا ارتفع السطوح وحدود المراتب واعتبارها لم يبق الا حقيقة واحدة من دون اعتبار كثرة فيها.
والثانية - أن تلك الحقيقة بذاتها تقتضى الوجوب لضرورة اتصاف الشيء بذاته وامتناع سلبه عن ذاته.
والثالثة - ان الوجوب بالذات يقتضى الاحاطة بجميع انحاء الوجودات ومراتبها بحيث لو كان شيء منها مغايرا للواجب وخارجا منه تلك الحقيقة لزم تحدد الحقيقة الواجبة بذلك الشيء ولزم من التحدد الامكان فلم يكن حقيقة الوجود حقيقة الوجود بل نحوا من انحائها، ولا الواجب واجبا بل كان ممكنا.
والرابعة - أن تلك الحقيقة كما تقتضى الوجوب بذاتها تقتضى الاصالة فى التحقق وفى منشأية الآثار لاقتضاء الوجوب الاصالة، واقتضاء الاصالة منشأية الآثار وكون غيرها من التعينات اعتباريا.
والخامسة - ان مراتب الوجود وانحاءه بحكم المقدمة الثالثة عبارة عن تلك الحقيقة متحددة بحدود وتعينات وبتلك الحدود وقع التميز بينها وليست تلك الحقيقة جنسا لها ولا نوعا.
والسادسة - أن الآثار الصادرة من انحاء تلك الحقيقة صادرة من تلك الحقيقة مقيدة بحدود تلك الانحاء بحيث يكون التقييد داخلا والقيود خارجة وليست صادرة من تلك الحقيقة مطلقة؛ والا لاتحدت ولا من الحدود لأنها اعدام والعدم لا حكم له الا بتبعية الوجود فلا منشأية له لا للوجودى ولا للعدمى ولا من المجموع المركب من تلك الحقيقة والحدود، لان الحدود كما لا تكون منشأ للآثار منفردة لا تكون منشأ منضمة لان اعتبار الانضمام لا يفيدها شيئا لم يكن لها قبل ذلك وما يقال: ان عدم العلة علة لعدم المعلول كلام على سبيل المشاكلة والا فالعدم ليس معلولا ومجعولا حتى يحتاج الى علة وما يتراءى من ان حدود الآثار واعدامها المنتزعة منها ناشئة من حدود المؤثرات واعدامها المنتزعة منها وقد تفوه به بعض الفلاسفة خال عن التحصيل لان حدود الآثار من جملة لوازم وجوداتها وليست من حيث هى مجعولة ومن حيث الجهات المنتزعة هى منها فهى مجعولة بمجعولية وجود الآثار وبتبعيتها لا بجعل آخر حتى تستدعى علة اخرى، واذا عرفت ذلك فاعلم ان افعال العباد الاختيارية صادرة عنهم بعد تصورها والتصديق بغاياتها النافعة لهم، وبعد الميل والعزم والارادة والقدرة منهم وهذا معنى كون الفعل اختياريا واما كون الاختيار بالاختيار والارادة بالارادة فليس معتبرا فى كون الفعل اختياريا والفاعل مختارا، لكن نقول على ما سبق من المقدمات افعال العباد آثار حقيقة الوجود المحدودة بحدود العباد من غير اعتبار الحدود فيها، والعباد عبارة عن تلك الحقيقة معتبرا معها تلك الحدود فهى منسوبة الى حقيقة الوجود اولا وبالذات والى العباد ثانيا وبالعرض من غير تعدد فى النسبة بالذات انما التعدد والتغاير الاعتبارى فى المنسوب اليه وليست الافعال مفوضة الى العباد كما قالته المعتزلة المدعوة بمجوس هذه الأمة لان التفويض يستدعى استقلالا بالفاعلية فى المفوض اليه وقد علمت ان اسم العبد يطلق على حقيقة الوجود باعتبار انضمام حد عدمى اليها غير موجود فضلا عن استقلاله بالوجود والفاعلية لكن عامة الناس وان لم يكونوا مقرين بالتفويض لسانا قائلون به حالا مشاركون للمعتزلة فعلا فان المحجوبين عن الوحدة المبتلين بالكثرة المشاهدين للكثرات المتباينة المتضادة لا يمكنهم تصور مبدء واحد لافعال العباد وآثار غيرهم فلا يدركون الا استقلال العباد بافعالهم بل لا يتصورون تفويضا ومفوضا فى الافعال وهذا من عمدة اغلاط الحواس والخيال ولكون الخيال مخطئا فى ادراكه كان الاولياء العظام يأمرون العباد بالذكر اللسانى او القلبى المؤدى الى الفكر المخصوص المخرج عن دار الكثرة والغيبة والخطاء الى دار الوحدة والشهود والصواب، وليس العباد مجبورين فى الفعال لان الجبر يقتضى جابرا مغايرا للمجبور ومجبورا مستقلا فى الوجود مريدا مختارا مسلوبا عنه الاختيار متحركا على حسب ارادة الجابر المخالفة لارادة المجبور وليس هناك جابر مغاير للمجبور ولا مجبور مستقل فى الوجود ولا فى الفعال ولا سلب الارادة المجبور ولا ارادة مستقلة مغايرة لارادة الجابر فالجبر يقتضى مفاسد التفويض مع شيء آخر من المفاسد ولذا قيل (مولوى):
در خرد جبر ازقدر رسوا تراست
زانكه جبرى حس خود را منكراست
علاوة على نسبة الاستقلال الى العباد وليس الافعال بتسخير الله ايضا لما ذكر فانه لا فرق بين التسخير والجبر الا بسلب الارادة وعدمه فان المسخر ارادته باقية تابعة لارادة المسخر بخلاف المجبور فان ارادته تكون مسلوبة وحركته تكون بارادة الجابر المخالفة لارادة المجبور بل الامر أدق وألطف من الجبر والتسخير ومعنى الامر بين الامرين أن نسبة الافعال الى العباد امر اجل واعظم من ان يكون بطريق التفويض، وادق واخفى من ان يكون بطريق الجبر والتسخير، واعلى واسنى من ان يكون بطريق التشريك فى الفاعل كما يظن، واشرف من ان يكون بطريق توسط العباد بين الفعل والفاعل كتوسط الآلات بين الافعال والفاعلين كما يترائى بل الفاعل حقيقة الوجود الظاهرة بحدود العباد وتوجه اللوم والتعزير والحد والامر والنهى ان كان ذلك مما يعاتب به العوام فلتخليص الانسانية اى تلك الحقيقة عن الحدود المخالفة لحدود الانسانية، وان كان مما يخاطب به الانبياء (ع) والاولياء (ع) فلتخليص الانسانية عن الحدود جملة وايصالها الى الظهور من غير حد، ومن هذا يعلم ان اللوم واجراء الحدود والامر والنهى لا يجوز الا ممن له شأنية التخليص بان يكون ممن خلص نفسه اولا من حد يريد تخليص الغير منه وأبصر ذلك الحد وقوى على التخليص ولوفاته شيء من هذه لم يجز منه ذلك، ولما لم يكن الانسان يدرك بنفسه ان له هذا المقام احتاج الى اجازة البصير المحيط به على ان الاجازة بها ينعقد قلب المأمور على أمر الآمر ولولا الاجازة لا ينعقد، ولما كان الافعال منسوبة الى الله تعالى اولا وبالذات والى انحاء الوجودات ثانيا وبالعرض صح سلب أفعال العباد عنهم واسنادها الى الله مثل قوله تعالى:
فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم
[الأنفال: 17]، حيث نفى القتل الصادر منهم عنهم وأثبته لله بطريق حصر القلب او الافراد، وهكذا قوله تعالى:
وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى
[الأنفال:17]، ولما كان اقرار اللسان من دون موافقة الجنان كذبا ومذموما انكر تعالى على من تفوه بمثل هذا من غير تحصيل بقوله
سيقول الذين أشركوا لو شآء الله مآ أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنآ إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون
[الأنعام:148] على أنهم ارادوا بذلك دفع اللوم عن أنفسهم بتعليق الاشراك والتحريم على المشيئة وقد علم مما سبق ان التعليق على المشيئة لا يوجب الجبر ولا يدفع اللوم عن الفاعل ان كان الفعل مما يلام عليه ولذا اثبت تعالى بعد الانكار عليهم ما قالوه فقال:
قل فلله الحجة البالغة فلو شآء لهداكم أجمعين
[الأنعام:149].
واعلم ان للآثار ثلاثة اعتبارات: اعتبار الاطلاق؛ وبهذا الاعتبار اسنادها الى الحقيقة المطلقة اولى، واعتبار التقييد بالحدود من دون اعتبار الحدود معها؛ وبهذا الاعتبار اسنادها الى الحقيقة المقيدة اولى، واعتبار التقييد بالحدود واعتبار الحدود معها؛ وبهذا الاعتبار اسنادها الى الحقيقة المقيدة المعتبر معها التعينات والحدود التى هى الموجودات اولى، ولما كان الانسان فى طاعاته منسلخا من انانيته وحدودها متوجها الى مولاه وامره كان اسناد طاعاته الى الله اولى، ولما كان فى معصيته متحددا بحدود انانيته كان نسبة معاصيه الى نفسه اولى كما اشير اليه فى الحديث القدسى، ومن هذا يعلم ان العابد لو كان غرضه من العبادة انتفاع نفسه ولو بالقرب من الله لم يكن طاعته طاعة حقيقة لان قصد انتفاع النفس ليس الا باقتضاء الانانية.
[2.254]
{ يأيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم } بعد حصر الافعال فى الله تعالى كأنه قيل: فما لنا لا نرى الافعال الا من العباد؟ ومن اين يعلم ان الفاعل هو الله؟ فناداهم وقال: ان اردتم ان تعلموا ان الافعال منحصرة فى الله فأنفقوا مما رزقناكم من الاموال والقوى والاعراض وبالجملة كلما يزيد فى انانياتكم وحدودها التى تحجبكم عن مشاهدة الموجودات كما هى، ولما كان الانفاق من اصعب العبادات جبر كلفته بلذة النداء { من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه } يعنى لا مال فيه يفتدى به من العذاب { ولا خلة } نافعة فان يوم الموت وهو المراد هاهنا لا ينفع فيه خليل خليلا، ويوم القيامة يكون الاخلاء فيه بعضهم لبعض عدو الا الخليل فى الله، ولا يكون الا بعد انفاق الحدود والحجب { ولا شفاعة } وهذا يدل على ان المراد به يوم الموت والا فيوم القيامة تنفع فيه شفاعة الشافعين { والكافرون هم الظالمون } اما عطف على لا بيع فيه بتقدير العائد اى من قبل ان يأتى يوم يظهر فيه ان الظلم منحصر بالكافرين المحجوبين عن مشاهدة نسبة الافعال الى الله، او حال بهذا المعنى.
[2.255]
{ الله لا إله إلا هو } ابتداء كلام منقطع عما قبله لابداء توحيده فى معبوديته او فى مرجعيته ان اخذ الاله من اله بمعنى عبد او التجأ او فى خالقيته ان اخذ من لاه يلوه بمعنى خلق ولاثبات بعض صفاته الاخر الثبوتية والسلبية والحقيقية والاضافية، او جواب لسؤال ناشئ عن قوله { ولكن الله يفعل ما يريد } كأنه قيل اذا لم يكن فاعل سواه فما حاله؟ او قيل: لم لم يكن سواه فاعل؟ وما ورد فى فضل قراءة آية الكرسى يشعر بكونه مقطوعا عما قبله وفى فضل آية الكرسى وقراءتها دبر الصلوات الفريضة اخبار كثيرة فعن رسول الله (ص) انه قال:
" اى آية فى كتاب الله أعظم؟ - قال الراوى: فقلت: الله لا اله الا هو الحى القيوم قال: فضرب (ص) فى صدرى ثم قال: لهناك العلم؛ والذى نفس محمد (ص) بيده ان لهذه الآية لسانا وشفتين يقدس الملك عند ساق العرش "
وفى المجمع باسناده قال النبى (ص):
" من قرأ آية الكرسى فى دبر كل صلاة مكتوبة كان الذى يتولى قبض نفسه ذا الجلال والاكرام، وكان كمن قاتل مع انبيائه حتى استشهد "
، وعن على (ع) انه قال: سمعت نبيكم على اعواد المنبر وهو يقول:
" من قرأ آية الكرسى فى دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة الا الموت، ولا يواظب عليها الا صديق او عابد، ومن قرأها اذا اخذ مضجعه آمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره "
، وعنه (ع) انه قال: سمعت رسول الله (ص)
" يا على سيد البشر آدم (ع) الى ان قال: وسيد الكلام القرآن وسيد القرآن البقرة، وسيد البقرة آية الكرسى، يا على ان فيها لخمسين كلمة وفى كل كلمة خمسون بركة "
، وعن ابى جعفر (ع): من قرأ آية الكرسى مرة صرف الله عنه الف مكروه من مكاره الدنيا، والف مكروه من مكاره الآخرة؛ أيسر مكروه الدنيا الفقر، وأيسر مكروه الآخرة عذاب القبر، وعن ابى عبد الله (ع): ان لكل شيء ذروة وذروة القرآن آية الكرسى، والسر فى ذلك ان فيها اصول الصفات الالهية وامهات الاضافات الربوبية { الحي } خبر بعد خبر او خبر مبتدء محذوف او مبتدء خبره القيوم، او ما بعد القيوم او خبر ابتداء، و(لا اله) جملة حالية او معترضة مدحية كالجمل الدعائية المعترضة، والحياة صفة مستلزمة للادراك والمشيئة والارادة والقدرة والاختيار والفاعلية الارادية فهى مشيرة الى كثير من الصفات الالهية { القيوم } صفة او خبر او خبر بعد خبر وهو من قام المرأة وعليها مأنها وكفى أمورها، وهو من أسمائه الخاصة به تعالى ومعنى قيوميته تعالى للاشياء ايجاده لها وكفايتها فى جميع مالها الحاجة اليه من جميع ما به اضافاته اليها واضافاتها اليه فهى جامعة لجميع صفاته الاضافية، ولما كان القائم بأمر غيره كثيرا ما يختل امره بالغفلة عن أمره وكان عمدة اسباب الغفلة السنة والنوم نفى هذين عنه تعالى فقال { لا تأخذه سنة } السنة كعدة والوسن محركة والوسنة ثقل النوم او اوله او النعاس والجملة جواب لسؤال مقدر او خبر او خبر بعد خبر او حال او معترضة مدحية { ولا نوم } وهو رد على اليهود وغيرهم الذين قالوا: ان الرب فرغ من الامر واستراح او استلقى على ظهره كما اشير اليه فى الاخبار { له ما في السماوات وما في الأرض } وهذه كسابقتها فى وجوه الاعراب واللام فى مثل المقام يستعمل فى المبدئية والمرجعية والمالكية والمراد منه معنى عام للثلاثة فهو تصريح بما استفيد اجمالا من القيوم وكثيرا ما يقال لزيد ما فى الصندوق ويراد به الصندوق وما فيه خصوصا اذا كان ما فى الصندوق غاليا { من ذا الذي يشفع عنده } تأكيد لقيوميته تعالى ولها الوجوه السابقة مقطوعة ومرتبطة ويجوز تقدير القول بالوجود السابقة { إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم } هذه ايضا كسوابقها فى الوجوه المذكورة وهو ايضا تأكيد لما استفيد التزاما من القيوم، والمراد بما بين ايديهم طولا الدنيا والآخرة، وعرضا ما يأتى او ما مضى كما مضى الاشارة اليه عند قوله
فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين
[البقرة: 66] { وما خلفهم } يعلم بالقياس { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شآء }.
بيان الاحاطة بما شاء الله من علمه
اعلم ان العلم بمعنى ظهور الشيء عند شيء آخر له معنى مصدرى هو من المفاهيم العامة ومعنى ينتزع ذلك الظهور منه وهو صورة المعلوم التى حصلت عند العالم هذا فى العلوم الحصولية واما العلم الحضورى فليس هناك ما به الظهور غير الظاهر، بل المعلوم بذاته حاضر عند العالم لا بصورة ينتزع منها المعنى المصدرى للعلم فالعلم والمعلوم فيه متحدان واذا كان المعلوم بالعلم الحضورى ذات العالم كان العلم والمعلوم والعالم متحدة وعلى ما قيل وهو الحق؛ ان العلوم الصورية شؤن للعالمين وليست كيفيات نفسانية ولا اضافات كما قيل كان العلم والعالم فيها متحدين، واذا كان العلوم الحضورية شؤن العالمين كما قيل وهو الحق كان العلم الحضورى والعالم والمعلوم متحدة مطلقا، ولما كان علم الله بالاشياء عالياتها ودانياتها بحضور وجوداتها عنده لا بحصول صورها فيه او فى لوح حاضر عنده كما قيل كان جملة ما سوى الله علومه تعالى كما انها معلومات له لاتحاد العلم والمعلوم كما علمت والصور الحاصلة فى النفوس والحاضرة عندها من جملة معلوماته تعالى وعلومه تعالى، وعلى ما ذكر ان العلم شأن من النفس الانسانية كان الانسان محيطا بعلمه حضوريا كان ام حصوليا ولما كان العلوم حادثة وكل حادث مسبوق بمشيئته تعالى لم يكن يحدث علم الا بمشيئته تعالى فتبين معنى قوله تعالى { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شآء } وان المعنى لا يحدث لاحد شيء من علم الله الا بمشيئته تعالى { وسع } هذه كالجمل السابقة فى الوجوه المحتملة { كرسيه السماوات والأرض } المشيئة بوجهها الى الله عرش وبوجهها الى الخلق كرسى، ويسمى الفلك الثامن لكونه مظهرا للكرسى بالكرسى كما يسمى الفلك المحيط بالعرش، ولما كانت المشيئة فعله تعالى وهو لا بشرط شيء ويجتمع مع كل شرط وفيها جميع صفاته واسمائه بوجود واحد جمعى جاز تفسير الكرسى بالعلم وتفسير العرش بجملة الخلق وصح ورود الاخبار بالاختلاف فى تفسيرهما؛ فعن النبى (ص):
" ما السماوات السبع والارضون السبع مع الكرسى الا كحلقة ملقاة فى فلاة، وفضل العرش على الكرسى كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة "
، وعن الصادق (ع) انه قال: حين سئل عن العرش والكرسى ما هما؟ - العرش فى وجه هو جملة الخلق والكرسى وعاؤه، وفى وجه آخر: العرش هو العلم الذى اطلع الله عليه الانبياء (ع) ورسله (ع) وحججه (ع) والكرسى هو العلم الذى لم يطلع عليه احدا من انبيائه (ع) ورسله (ع) وحججه (ع) { ولا يؤوده حفظهما } لا يثقله حفظه لهما { وهو العلي العظيم } حال بمنزلة التعليل.
[2.256]
{ لا إكراه في الدين } استئناف منقطع عن سابقه والدين الجزاء والاسلام والعادة والعبادة والطاعة والغلبة والسلطان والملك والحكم والسيرة والتوحيد واسم لجميع ما يتعبد الله به والملة والعزة والذلة والمراد به هاهنا الاسلام الحقيقى الذى هو الطريق الى الايمان الذى هو طريق الآخرة، او المراد الايمان الحقيقى الذى هو البيعة الخاصة الولاية التى يعبر عنها بالولاية، او المراد السلوك الى الآخرة بالايمان، ولذلك نفى الاكراه عنه والا فالدين بمعنى مطلق الاسلام او العبادة او الطاعة او السيرة او الملة كثيرا ما كان يحصل بالسيف كما قال (ص):
" انا نبى السيف "
، واما الاسلام الحقيقى والايمان الحقيقى والسلوك الى الآخرة فلا يمكن الاكراه فيها لأنها امر معنوى لا يتصور الاكراه الجسمانى فيها، او نقول: ليس الدين الا الولاية التى هى البيعة الخاصة الولاية وقبول الدعوة الباطنة، وما سواها يسمى بالدين لكونه مقدمة لها، او مسببا عنها، او مشاكلا لها، ولا اكراه فى الولاية، او المعنى لا اكراه فى الدين بعد تمامية الحجة بقبول الرسالة وتنصيص الرسول (ص) على صاحب الدين { قد تبين } اى تميز { الرشد من الغي } استئناف فى مقام التعليل او حال والمعنى لا يكره أحد فى الدين بالنفى او لا يكره بالنهى على ان يكون الاخبار فى معنى النهى لتميز الرشد او حالة تميز الرشد من الغى وفى الاخبار اشارات الى ان المراد لا اكراه فى ولاية على (ع) { فمن يكفر } عطف على سابقه والفاء للترتيب فى الاخبار اى فنقول: من يكفر او جزاء لشرط مقدر والتقدير اذا تبين الرشد فمن يكفر { بالطاغوت } فقد توسل بالرشد المعلوم له فلا يزول ولا ينفصم توسله لعلمه التحقيقى الذى لا زوال له، والطاغوت فى الاصل طغيوت من الطغيان فقلب فصار فلعوت والتاء زائدة لغير التأنيث فيه وفى نظائره ولذا تكتب بالتاء وتثبت فى الجمع فيقال طواغيت وطواغت وقد تكتب بالهاء مثل جبروة وطاغوة وتسقط من الجمع مثل طواغ وحينئذ تكون للتأنيث ويجرى على الفاظها احكام التأنيث وهذه الهيئة للمبالغة فى معنى المصدر سواء جعلت مصدرا مثل رحموت ورهبوت ورغبوت وجبروت او اسم مصدر، وسواء استعملت فى معنى الحدث او فى معنى الوصف مثل الطاغوت، وفسر الطاغوت بالشيطان والكاهن والساحر والمارد من الجن والانس والصنم وكل ما عبد من دون الله تعالى والحق ان الطاغوت يشمل النفس الامارة الانسانية وكلما يتبعه تلك النفس من الشيطان والاصنام والجنة والكهنة والسحرة ورؤساء الضلالة جميعا والآية فى شأن ولاية على (ع) والمقصود من قوله تعالى { ويؤمن بالله } الايمان الخاص الذى لا يحصل الا بالبيعة على يد على (ع) فان الايمان العام الذى يحصل بالبيعة العامة النبوية لا يدخل به شيء فى القلب فلا يتوسل بشيء حتى يصح ان يترتب عليه قوله تعالى { فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها } جملة حالية او جواب لسؤال مقدر.
تحقيق الاستمساك بالعروة الوثقى وبيان العروة الوثقى
اعلم ان امر الولاية التى هى عبارة عن البيعة الخاصة الولاية والاتصال بولى الامر بعقد اليمين اجل وارفع من ان يوصف لان صورتها وان كانت من الاعمال الجسمانية المحسوسة لكن الاتصال الروحانى الحاصل بها امر غيبى لا يدرك بالابصار ولا يتوهم بالامثال ولا يتعقل بالعقول لأنه لا حد له ولا رسم ولا كيف له ولا كم بل هو كما قال المولوى قدس سره:
اتصالى بى تكيف بى قياس
هست رب الناس رابا جان ناس
وللاشارة الى ان هذا الاتصال ليس الا لمن قبل الولاية بالبيعة الخاصة الولوية قال المولوى:
ليك كفتم ناس من نسناس نى
ناس غير جان جان اشناس نى
فلا بد من التمثيل والتشبيه اذا اريد التنبيه عليه فنقول: ان الانسان يزداد فى جوهر ذاته من اول تولده وليس استكماله بمحض الازدياد فى كيفياته كما قيل وكلما ازداد فى ذاته وحصل له فعلية من فعليات طريقه المؤدى الى فعليات انسانيته صار اسم الانسانية واسم شخصه اسما لتلك الفعلية وصارت الفعليات السابقة فانية ومغلوبة لتلك الفعلية فاذا بلغ الى مقام عقله الذى هو مناط التكليف والتدبير صار قابلا لتصرف الشيطان وتصرف الملك والرحمن ولا ينعقد قلبه على شيء منهما بمعنى انه لا يتمكن الشيطان من التصرف فيه ولا الملك ما لم يرد الولاية فتنعقد فعلياته بتصرف الشيطان او لم يقبلها فتنعقد فعلياته بولى امره فهو حينئذ كالنخلة التى لا تثمر الا بالتأبير وكشجرة الفستق الذى لا يصير فستقه ذا لب الا بالتلقيح، او كاللبن الذى لا ينعقد الا بالانفحة فاذا انعقد قلبه على الولاية صار كل فعل وفعلية له منعقدا بالولاية وجميع فعلياته مغلوبا ومحكوما بحكم فعلية الولاية وصار اسم الانسانية واسم شخصه اسما لفعلية الولاية وفعلية الولاية كما سبق تحقيقها عند قوله:
وبالوالدين إحسانا
[الإسراء: 23]؛ نازلة ولى الامر، وبتلك النازلة يتحقق نسبة الابوة والبنوة بين التابع والمتبوع، ونسبة الاخوة بين الاتباع، وبهذه النسبة قال عيسى (ع): انا ابن الله، وقال: كل من حصل له تعميد التوبة على يدى او ايدى خلفائى فهو ابن الله، ولذلك قالت النصارى: نحن ابناء الله ولولا تنزل ولى الامر فى وجود المولى عليه لم يتحقق شيء لتصحيح تلك النسبة وقد اشار المولوى الى حصول تلك وتصحيحها بقوله:
هست اشارات محمد المراد
كل كشاد اندر كضشاد اندر كشاد
صد هزاران آفرين برجان او
بر قدوم و دور فرزندان او
آن خليفه زاد كان مقبلش
زاده اند از عنصر جان ودلش
كرز بغداد وهرى يا از ريند
بى مزاج آب وكل نسل ويند
عيب جويان را ازاين دم كوردار
هم بستارى خود اى كرد كار
ولكون الفعليات والافعال بدون الولاية قشورا خالية من الالباب ورد لو ان عبدا عبد الله تحت الميزاب سبعين خريفا قائما ليله صائما نهاره ولم يكن له ولاية ولى امره او ولاية على بن ابى طالب (ع) لأكبه الله على منخريه فى النار وغير ذلك من الاخبار المفيدة لهذا المضمون، ولكون تلك الولاية عبارة عن الاعمال البدنية جعلت قرين الصلاة والزكاة والحج والصوم فى الاخبار الدالة على ان الاسلام بنى على خمس، ولكونها اصل الكل واصل جميع الخيرات كما عرفت ورد فى بعض الاخبار انها افضل وانها مفتاحهن والوالى هو الدليل عليهن، وفى بعضها: لم يناد بشيء ما نودى بالولاية؛ فاخذ الناس بأربع وتركوا هذه يعنى الولاية، وفى بعضها:
" من مات ولم يعرف امام زمانه مات ميتة الجاهلية "
، وأحوج ما يكون الى معرفته اذا بلغت نفسه هاهنا؛ وأهوى بيده الى صدره، وفى بعضها: ان الله فرض على خلقه خمسا فرخص فى اربع ولم يرخص فى واحدة، وفى بعضها: حب على حسنة لا يضر معها سيئة، وفى بعضها: اذا عرفت فاعمل ما شئت من قليل الخير وكثيره، وغير ذلك من الاخبار الدالة على فضائل الولاية، ونقل عن ابن أبى يعفور فى بيان آخر الآية انه قال: قلت لأبى - عبد الله (ع) انى اخالط الناس فيكثر عجبى من اقوام لا يتولونكم ويتولون فلانا وفلانا لهم امانة وصدق ووفاء، واقوام يتولونكم ليست لهم تلك الامانة ولا الوفاء ولا الصدق قال: فاستوى ابو عبد الله جالسا فأقبل على كالغضبان ثم قال: لا دين لمن دان الله بولاية امام جائر ليس من الله، ولا عتب على من دان الله بولاية امام عادل من الله، قلت: لا دين لاولئك ولا عتب على هؤلاء؟ - قال: نعم، ثم قال (ع): الا تسمع لقول الله: عز وجل { الله ولي الذين آمنوايخرجهم من الظلمات إلى النور } يعنى من ظلمات الذنوب الى نور التوبة والمغفرة لولايتهم كل امام عادل من الله عز وجل وقال
والذين كفروا أوليآؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات
[البقرة: 257] انما عنى بهذا انهم كانوا على نور الاسلام فلما ان تولوا كل امام جائر ليس من الله خرجوا بولايتهم من نور الاسلام الى ظلمات الكفر فأوجب لهم النار مع الكفار وفى خبر: فأعداء على (ع) امير المؤمنين هم الخالدون فى النار وان كانوا فى اديانهم على غاية الورع والزهد والعبادة، والحاصل ان ولى على لا يأكل الا الحلال وعدو على (ع) لا يأكل الا الحرام، ومن لم يكن ذا ولاية وعداوة لا يحكم عليه بحلية ولا حرمة؛ وكان مرجى لأمر الله، وقوله تعالى:
أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام
[المائدة:1] بتعليق احلال البهيمة على الوفاء بالعقود اشارة الى البيعة مع على بالخلافة فى غدير خم وجمع العقود لانهم عقدوا البيعة فى ذلك اليوم فى ثلاثة مواطن وورد فى عشرة مواطن للتأكيد المطلوب فى هذا الامر وقوله تعالى:
اليوم يئس الذين كفروا من دينكم
[المائدة:3]،
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الأسلام دينا
[المائدة:3]،
اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم
[المائدة:5] بتعليق يأس الكفار واكمال الدين واتمام النعمة والرضا بالاسلام دينا واحلال الطيبات والمحصنات من النساء على يوم البيعة مع على (ع) فى غدير خم يدل على ان لا حلية لشيء بدون الولاية ، وقد مر مرارا انه كلما ذكر عهد وعقد وميثاق ويمين فالنظر اولا الى عقد البيعة وخصوصا البيعة الخاصة الولاية، وكلما ذكر نقض عقد وعهد وميثاق فالمقصود عقد البيعة ولا سيما الولاية؛ والحاصل ان الانسان بمنزلة المادة للولاية، والولاية صورته وفعليته فما لم ينعقد بالولاية لم يكن له فعلية الانسانية، واذا انعقد بالولاية حصل له الانسانية وتم له الفعلية فكأنه قبل الولاية لم ينفخ فيه روح الحياة وكان ميتا (افمن كان ميتا فأحييناه) يعنى بالولاية اشارة الى ما ذكر، وقوله (ع): الناس موتى واهل العلم أحياء؛ اشارة اليه فان اهلية العلم منحصرة بهم وبشيعتهم كما قالوا: شيعتنا العلماء بطريق الحصر فكل نعمة وخير وصلاح نعمة وخير وصلاح بالولاية، والا كان نقمة وشرا وفسادا كائنا ما كان، وبالولاية احياء النسل والحرث واصلاح الارض وعمارتها، وبردها اهلاك النسل والحرث وافساد الارض وخرابها، وهى ذروة الامر وسنامه ومفتاح الاشياء وباب الابواب ورضى الرحمن وجنة الرضوان واصل الخيرات واساس الحسنات، وهى الحكمة التى من اوتيها فقد اوتى خيرا كثيرا، وهى رحمة الله وبها يكون فضل الله وقوام النبوة والرسالة، ومن عرف من امة محمد (ص) واجب حق ولايته وجد طعم حلاوة ايمانه وعلم فضل طلاوة اسلامه، بها دين العباد وبنورها استهلال البلاد، وببركتها نمو التلاد، وهى حياة الانام، ومصباح الظلام، ومفتاح الكلام، ودعامة الاسلام، وبالجملة الانسان غاية خلق العالم والولاية غاية خلق الانسان { والله سميع } جملة حالية للترغيب فى الايمان بالله كأنه قال: فقد استمسك بالعروة الوثقى مع ان الله الذى آمن به سميع لاقواله { عليم } بافعاله فيجزيه بها.
[2.257]
{ الله ولي الذين آمنوا } جملة حالية مكتفية عن الرابط بتكرار ذى الحال او مستأنفة جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: ما شأن الله مع من آمن به وما يفعل بهم؟ - فقال تعالى: هو وليهم وقدم الله هاهنا بخلاف القرين الاتى حيث اخر الطاغوت لشرافته والالتذاذ والتبجح بذكره والدلالة على انه ليس فى قلبه (ص) سواه { يخرجهم } خبر بعد خبر، او حال عن المستتر فى الخبر، او عن الموصول او عنهما، او مستأنف جواب لسؤال عن حاله معهم، او عن علة اثبات ولايته، وأتى بالخبر الاول وصفا لعدم التجدد والحدوث فى الولاية بعد ثبوته بالبيعة الولاية بخلاف اخراجه تعالى للمؤمنين من الظلمات فانه امر يتطرق التجدد والحدوث فيه آنا فانا { من الظلمات إلى النور }.
اعلم ان اللطيفة السيارة الانسانية المعبر عنها بالانسان ليست فى بدو حصول مادتها واستقرارها فى الرحم الا قوة محضة وعدما شأنيا ثم تتدرج فى الخروج من القوة والعدم الى الفعلية والوجود الى زمان بلوغها مبلغ الرجال فيصير الانسان انسانا بالفعل واقعا بين دار النور ودار الظلمة مختلطا فيه نور الانسانية بظلمة الحيوانية والطبع والمادة والشيطنة، وظلمة الحيوانية تنشعب الى شعب كثيرة فان ادركته العناية الالهية وبلغ الى من دعاه الى الاسلام وأسلم بالتسليم والانقياد للنبى (ص) ونوابه وبايع البيعة الاسلامية وحصل له الحالة الحاصلة بالبيعة ازداد نوريته واشتدت بواسطة نور الاسلام واخرجه الله قليلا من الظلمات المذكورة الى النور، فان ادركته العناية مرة أخرى ودخل فى الايمان بقبول الولاية والبيعة الخاصة الولاية وحصل له الحالة الحاصلة بالبيعة الخاصة أخرجه الله من قواه واعدامه متدرجا الى نور الايمان، ثم يتفضل الله عليه بدوام الاخراج التجددى ويتدرج هو فى الخروج الى ان يخرج من تمام القوى والاعدام والحدود الى تمام الفعلية والنور، ولما كان النور حقيقة واحدة ليس اختلافها الا بالشدة والضعف الذى يؤكد الوحدة وسعتها او باختلاف الحدود والمنهيات ولا يؤثر اختلاف الحدود فى ذاته وكانت الظلمات اى القوى والحدود والاعدام الشأنية متكثرة مختلفة بذواتها ومورثة للكثرة فى النورانى بالنور مفردا وبالظلمات جمعا { والذين كفروا أوليآؤهم الطاغوت } قد مضى بيان الطاغوت قبيل هذا، وتأخير الطاغوت عن الاولياء مع انه مبتدء بقرينة حمل الولى على الله فى قرينه لعدم الاعتداد به، وجمع الاولياء مع افراد الطاغوت اما لارادة الجنس من الطاغوت والاشعار بتعدد الطواغيت كالظلمات، او للاشارة الى تعدد جهات ولاية كل طاغوت كأنه مع وحدته اولياء للكافر { يخرجونهم من النور إلى الظلمات } فسر فى اخبارنا النور فى الفقرتين بنور الاسلام والظلمات بظلمات الكفر وبآل محمد (ص) وأعدائهم وبنور التوبة وظلمات الذنوب { أولئك } الكافرون او الطواغيت او المجموع { أصحاب النار هم فيها خالدون } الاتيان باسم الاشارة واسمية الجملة وتأكيد الخلود المستفاد من صحابة النار بالتصريح به للتغليظ والتطويل والتأكيد المطلوب فى مقام الذم.
[2.258]
{ ألم تر } الم ينته رؤيتك { إلى الذي حآج إبراهيم في ربه } التعدية بالى للتضمين المذكور المشعر ببعد المفعول عن الرؤية والادراك والجملة جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: ما الشاهد على الاخراجين؟ - فقال تعالى اخراج نمرود حين المحاجة فى الله من نور التسليم لربوبية الله الى ظلمات انكار الرب والمغالطة فى المحاجة والتحير حين المغلوبية واخراج النبى الذى مر على القرية من ظلمة الشك والحيرة وحجاب العلم الى نور الشهود والعيان لكنه أخرجه فى صورة الاستفهام التعجيبى تفضلا فى الجواب بالمبالغة فى استغراب القضيتين، ونمرود حاج ابراهيم (ع) قبل القائه فى النار كما قيل او بعد القائه وخروجه سالما من النار كما نسب الى الصادق (ع) { أن آتاه } اى ابراهيم { الله الملك } ملك النبوة والطاعة او نمرود الملك الصورى وهو بتقدير لام التعليل { إذ قال إبراهيم } بدل من الذى حاج نحو بدل الاشتمال، او ظرف لحاج والمقصود اذ قال ابراهيم بعد ما قال نمرود له من ربك يا ابراهيم؟ - { ربي الذي يحيي ويميت } اتى بوصف الاحياء الذى يعجز عنه غير الله وذكر الاماتة ليس للتعجيز بل لمناسبة التضاد او هى ايضا للتعجيز فان الاماتة ازهاق الروح من دون فعل من المميت بالنسبة الى بدن الميت او روحه، وهذا خاص بالله فان كان الازهاق بسبب فعل فاعل كان قتلا لا اماتة { قال } مثل هذا يكون جوابا لسؤال مقدر { أنا أحيي } بان لا اقتل من وجب القتل عليه وانجيه من الحبس { وأميت } بقتل من اردت قتله، وهذا مغلطة منه فى الجواب تمويها على العوام لان ابقاء الحياة الحاصلة من الله ليس احياء على انه ليس ابقاء للحياة بل هو ترك لفعل يؤدى الى ازهاق الروح؛ وهكذا الحال فى الاماتة، ولما كان الزامه ببيان مغلطته فى الجواب لم يكن يظهر على العوام عدل عن الالزام ببيان المغلطة الى التعجيز بوصف آخر، روى عن الصادق (ع): ان ابراهيم (ع) قال له فأحى من قتلته ان كنت صادقا و { قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق } لما ادعى الربوبية لنفسه بالاشارة الى قياس مستفاد من ادعاء حصر الاحياء والاماتة فى نفسه بتقديم المسند اليه فى قوله { أنا أحيي وأميت } تصويره هكذا ربك الذى يحيى ويميت وكل محيى ومميت انا فانا ربك، وموه ذلك على العوام عدل عن اسم الرب وقال: { فإن الله يأتي }؛ باسم الجلالة حتى لا يتأتى له التمويه بوصف المسند اليه ولا بوصف المسند { فأت بها من المغرب فبهت } البهت كالنصر الانقطاع والتحير وفعلهما كعلم ونصر وكرم وعنى والوصف مبهوت لا باهت وقرء مبنيا للفاعل ومبنيا للمفعول والمعنى فانقطع حجته او تحير { الذي كفر } اى نمرود { والله لا يهدي } جملة حالية والمعنى فانقطع حجته والحال انه لم يكن له معين يعينه فان المعين ليس الا الله والله لا يهدى { القوم الظالمين } على أنفسهم ثم على الخلق ثم على خلفاء الله.
[2.259]
{ أو كالذي } عطف على صلة الموصول اى الم تر الى الذى كالذى { مر على قرية } وقيل فى اعرابه وجوه اخر والمار كان عزير النبى (ع) او ارمياء (ع) وهما مذكوران فى الاخبار، وقيل: كان الخضر والقرية بيت المقدس حين خرابه بجنود بختنصر، وقيل: الارض المقدسة اى الشام، وقيل: القرية التى خرج منها الالوف فقال لهم الله: موتوا { وهي خاوية } خالية او خربة وعليهما فقوله تعالى: { على عروشها } حال او ساقطة على سقوفها بمعنى ان سقوفها سقطت ثم سقطت جدرانها على سقوفها، { قال أنى يحيي هذه } اى اهل هذه القرية او انى يعمر هذه القرية { الله بعد موتها } اى موت اهلها او خرابها وانما قال ذلك استعظاما لأمرها لا انكارا لقدرة الله عليها { فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك } يعنى انظر الى قدرة الله وعجيب صنعه فى ان طعامك وشرابك { لم يتسنه } فى طول هذه المدة، والهاء للسكت والمعنى لم يتغير { وانظر إلى حمارك } كيف صار رميما وتفرقت عظامه مع بقاء طعامك وشرابك { و } فعلنا ذلك بك { لنجعلك } او فعلنا ذلك بك لتصير موقنا مشاهدا ولنجعلك { آية للناس وانظر إلى العظام } عظام بدنك وعظام حمارك { كيف ننشزها } نرفعها ونركب بعضها على بعض وقرء بالراء المهملة من باب الافعال ومن الثلاثى المجرد { ثم نكسوها لحما فلما تبين له } وشاهد ما علمه سابقا بعد اماتته مائة عام { قال } النبى { أعلم } على قرائة المضارع او قال الله (اعلم) على قراءة الامر وقد ذكر فى الاخبار وجوه لاماتة هذا النبى (ع) وتفاصيل لكيفيتها من أراد فليرجع الى المفصلات { أن الله على كل شيء قدير } ومنه الاحياء بعد الاماتة.
[2.260]
{ وإذ قال إبراهيم } عطف على مجموع الى الذى حاج ابراهيم او على الموصول المجرور بالى واشارة الى وجه آخر لاخراج المؤمن من ظلمات حجاب العلم الى نور العيان، او عطف على قوله اذ قال ابراهيم على ما نقل انه قال بعد قول نمرود انا أحيى وأميت ان احياء الله برد الروح الى بدن الميت فقال نمرود: وهل عاينته؟ - فلم يقدر ان يقول: نعم، فسأل الله بعد ذلك فى الخلوة وقال { رب أرني كيف تحيي الموتى } حتى أجيب به نمرود { قال } الله { أولم تؤمن } اولم تذعن بانى اقدر على ذلك وافعل ذلك فى الآخرة؟ - { قال بلى } اذعنت بذلك وايقنته { ولكن } اسأل ذلك { ليطمئن قلبي } بالعيان بعد البيان، اعلم ان الظن كما سبق يطلب العلم بالمظنون والعلم يطلب الشهود والعيان، والعيان يجذب التحقق ويحرك كل صاحبه ولا يدعه يسكن عن الطلب حتى يوصله الى ما فوقه، فقال: ابراهيم (ع) بعد العلم بذلك: ان علمى يهيجنى ويجعل قلبى مضطربا فى طلب العيان فأطلب العيان ليطمئن قلبى { قال فخذ } الفاء جزائية لشرط مقدر يعنى ان اردت ذلك فخذ { أربعة من الطير } جمع الطائر او اسم جمع له كصحب وصاحب { فصرهن إليك } حتى لا يلتبس عليك قرئ بضم الصاد وكسرها من صار يصور وصار يصير بمعنى أمال وبضم الصاد وكسرها وشد الراء من صر مشدد الراء من باب نصر وضرب، وبفتح الصاد وشد الراء وكسرها من التصرية والجميع بمعنى الجمع فاقتلهن وقطعهن ومزجهن وجزئهن { ثم اجعل على كل جبل } من الجبال العشرة، وقيل: كانت الجبال اربعة وقيل كانت سبعة { منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا } اتيان سعى او هو مفعول مطلق من غير لفظ الفعل او هو حال بمعنى ساعيات.
اعلم انه قد اختلف الاخبار فى سبب سؤال ابراهيم (ع) ذلك؛ ففى بعضها انه لما رأى ملكوت السماوات والارض رأى جيفة على ساحل البحر نصفها فى البحر ونصفها فى البر تأكلها سباع البحر وسباع البر ثم يحمل بعض السباع على بعض فيأكل بعضها بعضا فتعجب ابراهيم (ع) وسأل ذلك، وفى بعض ان الله أوحى الى ابراهيم (ع) انى متخذ من عبادى خليلا ان سألنى احياء الموتى أجبته فوقع فى نفسه أنه ذلك الخليل فسأل ذلك ليطمئن انه ذلك الخليل، وقد مضى وجه آخر ان نمرود قال: هل رأيت احياء الميت برد الروح الى بدنه؟ - فسأل ذلك من الله، واختلفت الاخبار فى تعيين الطيور؛ ففى بعضها أخذ ابراهيم نسرا وبطا وطاووسا وديكا، وفى بعض انه اخذ الهدهد والصرد والطاووس والغراب، وفى بعضها الديك والحمامة والطاووس والغراب، وفى بعضها: الديك والطاووس والوزة والنعامة، وقد اختلف الاخبار ايضا فى كيفية مزجها وتجزيئها؛ وفى بعض الاخبار: هذا تفسيره فى الظاهر وتفسيره فى الباطن: خذ اربعة ممن يحتمل الكلام فاستودعهن علمك ثم ابعثهن فى اطراف الارضين حججا على الناس، واذا اردت ان يأتوك دعوتهم بالاسم الاكبر يأتونك سعيا باذن الله، واختلاف الاخبار فى تعيين الطيور وكيفية قتلها ومزجها وتجزيتها ودعوتها واحيائها، واختلافها فى عدد الجبال واشارتها الى بعض وجوه التأويل يدل على ان ليس المراد من هذه الحكاية ظاهر القصة فقط بل كان ظاهرها مرادا للتنبيه على باطنها وان المقصود من الطيور الاربعة الشيطنة والشهوة؛ والغضب والحرص المتولد منهما، او طول الامل المتولد منها فانهما متلازمان فانها امهات جنود النفس والجهل، والمراد بقتلها اماتتها عن الحياة النفسانية وباحيائها احيائها بالحياة العقلانية حتى تصير من جنود العقل فان الطاووس مظهر للشيطنة المقتضية للانانية الباعثة للتجلى كل آن بلون على نفسه وعلى غيره والداعية لتعجيب نفسه وغيره، والديك للغضب، والحمام للشهوة، والبط للحرص، ولما كانت هذه الصفات تظهر من طيور اخر ايضا اختلف الاخبار فى تعيين الطيور وقد ذكر فى تعيين الصفات وتأويل الطيور نظما ونثرا وجوه غير هذا، والتعبير بالطيور مع ان فى الدواب ما هو مظاهر الصفات بل هى اشد ظهورا فى بعض الدواب من الطيور لان النفس وجنودها لكونها كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الارض مالها من قرار لا ثبات لها على شيء بل هى كالطير كل آن على غصن فبالشيطنة تعرض نفسها على نفسها وعلى غيرها كل ساعة بلون وصفة، وبالشهوة تتمنى كل آن مشتهى، وبالغضب يعض كل حين على سليم، وبالحرص والامل يتبع كل آن مأمولا، وبعد القتل يتبدل الاوصاف وتصير من جنود العقل منقادة مطيعة كلما دعاها العقل يسرعن فى الاجابة.
{ واعلم } من قبيل عطف المسبب على السبب كأنه قال حتى تعلم بعد احياء الموتى { أن الله عزيز } لا يمنعه شيء من مراده { حكيم } لا يفعل شيئا من الاماتة والاحياء الا لحكم ومصالح ولا يعطى شيئا من القوى والاعضاء جندا للجهل او للعقل الا لمصالح عديدة، او المعنى واعلم ان الله عزيز حكيم حتى لا تقول: لم امر بقتل الحيوان وايذائه؟!
[2.261]
{ مثل الذين ينفقون } جواب لسؤال ناشئ من السابق كأنه قيل: ما لمن قتل الطير التى هى من جنود الجهل سوى احيائها بحياة العقل؟ - فقال: مثل الذين يقتلون جنود الجهل فى ابتغاء العقل وينفقون { أموالهم } الحقيقية التى هى قواهم { في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشآء } اى ما لا حد له والتفاضل فى عوض الانفاق واجره انما هو بالتفاوت فى حال المنفق ونيته وشأنه والمال المنفق وحال المنفق عليه، وفى الخبر اذا احسن العبد المؤمن عمله ضاعف الله له عمله بكل حسنة سبعمائة ضعف، وذلك قول الله تعالى { والله يضاعف لمن يشاء } ، وفى هذا الخبر دلالة على ان المراد بالاموال فى الآية اعم من الاعراض الدنيوية والقوى والاعضاء البدنية حيث اشهد بها على تضعيف اجر الاعمال من الله وليست الاعمال الا انفاق القوى البدنية والحركات العضوية والاعضاء البدنية وان المراد بقوله: { والله يضاعف لمن يشآء } ، حصر تضعيف الاجر الى سبعمائة فى الله لا تكثير الضعف فوق السبعمائة ولا تقييد التضعيف بمن يشاء وهو وجه من وجوه الآية { والله واسع } عطف فى معنى التعليل ان كان المراد بقوله والله يضاعف لمن يشاء تكثير التضعيف فوق السبعمائة، او المراد به تكثير التضعيف فوق السبعمائة ان كان المراد بذلك حصر التضعيف فى الله او تقييده بمن يشاء { عليم } بانفاقكم وقدر المنفق ونية المنفق وحال المنفق عليه فيضاعف بقدر استعدادكم واستحقاقكم ليس فعله وارادته جزافا من دون نظر الى استحقاقكم فرب منفق يبطل انفاقه او يعذبه الله عليه، ورب منفق يجازيه بالاحسن الى العشرة، الى السبعين، الى السبعمائة، الى السبعة الآلاف، الى السبعين الفا، الى ما شاء الله، الى ما لا نهاية له.
[2.262]
{ الذين ينفقون } جواب سؤال مقدر كأنه قيل: هذا لكل من أنفق او لبعض دون بعض؟ - فقال تعالى تفصيلا للمنفقين: الذين ينفقون { أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون مآ أنفقوا منا } العطف بثم للتفاوت بين الاخبارين، والمن ان تنظر الى المنفق عليه معتدا بانفاقك { ولا أذى } وهو ان تتطاول عليه وتستحقره وتستقدمه وتستقبله بكلام خشن وتعد احسانك عليه، ومن اقبح الخصال الاعتداد باحسانك الى الغير وباساءة الغير اليك ونسيان احسان الغير اليك ونسيان اساءتك الى الغير، ومن اجمل الخصال كمال الاعتداد باحسان الغير اليك والتندم على اساءتك اليه ونسيان احسانك الى الغير ونسيان اساءته اليك، والاعتداد بالاحسان يورث الانانية المخالفة للانفاق والوبال للنفس مع ابطال الاحسان، وفى الاخبار: ان المراد المن والاذى لمحمد (ص) وآله (ع) { لهم أجرهم } لم يأت بالفاء هاهنا وأتى به فى قوله: { الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم }؛ الآية لان المقصود هاهنا بيان بطلان الصدقة بالمن والاذى ولذلك بسط بعدا فى الانفاقات الباطلة ولم يكن المقصود ترتب الاجر على الانفاق حتى يأتى بالفاء المؤكد للترتب بخلاف ما يأتى فان المقصود هناك بيان ترتب الاجر وناسبه الاتيان بمؤكدات التلازم واضافة الاجر اليهم لتفخيم الاجر وللاشارة الى اختلاف الاجر بحسب اختلاف المنفقين بحيث لا يمكن تحديد حد له الا بالاضافة الى المنفقين { عند ربهم } تشريف آخر لهم بان امر اجرهم غير موكول الى غيرهم { ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } قد مضى وجه اختلاف القرينتين فى اول السورة.
[2.263]
{ قول معروف } جواب سؤال مقدر كأنه قيل: ما يفعل من لا يقدر على ترك المن والاذى فى انفاقه؟ - فقال: قول معروف يعنى ما لا ينكره العرف والعقل مع عدم اجابة السائل وعدم الاحسان اليه { ومغفرة } يعنى اغماض المسؤل عن قبائح السائل وقبائح الحاجة او ستر على السائل وسؤاله، او ادراك مغفرة الله بازاء القول المعروف { خير من صدقة يتبعهآ أذى } اكتفى عن المن بذكر الاذى فانه نحو اذى، وأتى باداة التفضيل بناء على مخاطبات العرف والا فلا فضيلة للصدقة التى يتبعها اذى بل لها وبال كما مضى { والله غني } عن صدقاتكم ليس امره بها لاجل حاجة له الى انفاقكم على عياله وانما افقر بعض عباده لابتلاء بعض آخر لا لعدم قدرته على اغنائه { حليم } لا يعجل بعقوبة من يمن ويؤذى فى انفاقه وهو يدل على وبال المان بالانفاق.
[2.264]
{ يأيها الذين آمنوا } اى اسلموا بالبيعة العامة وقبول الدعوة الظاهرة بعد ما مدح الانفاق وذم المن والاذى عليه نادى المؤمنين خاصة تلطفا بهم واعتناء بشأنهم ثم نهاهم عن الانفاق المذموم كأن غيرهم ليسوا مكلفين حتى يتوجه النهى اليهم فقال: { لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى } اعلم ان الانفاق اذا كان الداعى اليه صدق المنفق فى امتثال الامر الالهى من دون شراكة أغراض النفس كان صدقة، وابطالها من حيث انها صدقة بان لم يكن هذا الصدق فى الانفاق او كان لكن يذهب به بعده فقوله: { لا تبطلوا صدقاتكم } معناه: لا تذهبوا بصدقكم فى انفاقكم، والاتيان بعنوان الصدقات مقام الانفاق للتنبيه على ان المؤمن ينبغى ان يكون انفاقه قرينا للصدق لكن قد يطرؤ عليه ما يذهب بصدقه { كالذي ينفق ماله رئآء الناس } مفعول له او حال. اعلم ان العبادات اذا كان الداعى اليها قرب العابد من الله بمعنى ان القرب المستلزم لشدة الحب المستلزم لخدمة المحبوب صار سببا للعبادة والقيام بخدمة المعبود وامتثال أمر المحبوب كانت عبادة، واذا كان الداعى انتفاع النفس من الله ولو بقرب الله لم تكن عبادة حقيقة، واذا كان الداعى انتفاع النفس من الغير لم تكن عبادة لا حقيقة ولا صورة بل كانت محرمة ووبالا ولذلك قالوا: ان المراءاة فى الصلاة مبطلة لها بل المرائى اشر من تارك الصلاة بمراتب فانه مستهزء بالله ومنافق ومشرك او كافر ويحسب انه محسن ويعجب بنفسه بخلاف التارك فانه متوان فى أمره تعالى ويعلم انه تارك؛ وكثيرا ما يتنبه ويلوم نفسه { ولا يؤمن } لا يذعن { بالله واليوم الآخر } حين المراءاة او مطلقا { فمثله كمثل صفوان } اعلم ان التشبيهات التمثيلية المركبة لا يلزم ان يكون جميع اجزاء المشبه والمشبه به مذكورة ولا يلزم الترتيب بين اجازئهما فى الذكر ولا ذكر تمام اجزائهما فقوله فمثله يحتمل ان يكون المراد به مثل المنفق المرائى فى صلابة قلبه وقساوته وعدم انبات النبات فيه واستتار قلبه تحت صورة الانفاق الذى هو من وجوه الخير الذى يدل على صلاح قلبه وصلاحيته لبذر الآخرة وانباته ونموه كمثل صفوان { عليه تراب } صالح للزرع ونموه وابطال المرائاة الصلاحية المتراياة من ظاهر الانفاق كابطال المطر العظيم القطر الصلاحية المتراياة من ظاهر تراب الصفوان وان يكون المراد به مثل المال المنفق فى ذهابه عن المنفق وعدم الانتفاع به بشيء من وجوه الانتفاع لابطال الرياء له مع انه بحسب صورة الانفاق يترائى ان المنفق ينتفع به كمثل بذر وقع على صفوان عليه تراب { فأصابه وابل فتركه صلدا } عن التراب والبذر جميعا { لا يقدرون } حال عن فاعل ينفق او عن الضمير المضاف اليه للمثل فان المثل يصح حذفه وجمع الضمير مع افراد الضمير الذى هو ذو الحال باعتبار لفظ، الذى، ومعناه فان معناه الجنس العام الشامل لكل فرد، او جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: ما حال المنفق المرائى فى انفاقه؟ - او لم قلت كمثل صفوان؟ - او كأنه قيل: ما حال المبطل انفاقه بالمن والمرائى فى انفاقه؟ - فقال: لا يقدرون { على شيء مما كسبوا } فلا اشكال حينئذ فى جمع الضمير وهذا يدل على ان المراد بالانفاق مطلق الاعمال فان الكسب اعم مما يكسب بالانفاق { والله لا يهدي القوم الكافرين } عطف على لا يقدرون والاهتمام بالله منع من مراعاة التناسب بين المتعاطفين او حال والمعنى انهم بأنفسهم لا يقدرون ولا معين لهم سوى الله والله لا يهديهم ووضع الظاهر موضع المضمر للتصريح بانهم كافرون ولتعليل الحكم.
[2.265]
بيان ابتغاء مرضات الله بحيث لا يخل باخلاص العمل
{ ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغآء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم } لفظة من لابتداء الغاية داخلة على الفاعل مثل زعما منهم وعدم توافق المفعول له والعامل فى المسند اليه مغتفر هاهنا لانه تابع ويغتفر فى الثوانى ما لا يغتفر فى الاوائل، او داخلة على المفعول بتضمين التثبيت معنى الطلب اى طلبا للثبات من أنفسهم، او من للتبعيض قائمة مقام المفعول به اى تثبيتا لبعض أنفسهم كأن أنفسهم موزعة على المال والروح ومن يجاهد بالمال يثبت بعض نفسه على الطاعة او على الانفاق، ومن يجاهد بنفسه يثبت البعض الآخر. اعلم ان الانفاق مثل سائر الطاعات اذا كان الداعى عليه امرا زائدا على شاكلة الانسان مقصودا انتفاعه به سواء كان قربا من الله او رضاه او نعيمه او الخلاص من جحيمه او غير ذلك من الدواعى الراجحة والمباحة المأذون فيها والغير المأذون فيها لم يكن طاعة بل معاوضة وايتجارا، واذا كان شاكلة الانسان غير الهية كان اعماله غير الهية سواء قصد منها أمرا اخرويا او غير اخروى؛ او لم يقصد أمرا سوى شاكلته وكان الداعى نفس شاكلته، واذا كان شاكلته أمرا الهيا قربا من الله او ابتغاء مرضاته او التذاذا بأمره وامتثاله او التشأن بحبه وابتغاء خدمته او غير ذلك من الشؤن الالهية وكان تلك الشاكلة داعية على العمل من غير قصد لامر زائد وكانت الغاية اشتداد الداعى فان كل هذه بذاتها تقتضى الاشتداد وتقتضى القيام بأمره تعالى كان العمل طاعة وعبادة وخالصا لوده الله، فعلى هذا يكون معنى الآية مثل الذين ينفقون أموالهم لحصول ابتغاء مرضاة الله الذى هو شاكلتهم ولحصول تثبيت أنفسهم الذى هو شاكلتهم وتمكينها فى شاكلتها يعنى لاقتضاء ابتغاء المرضاة الحاصل لهم او لتحصيل الابتغاء الذى هو اشتداد شاكلتهم لكن من غير قصد زائد على اقتضاء الابتغاء الاشتداد، بل بقصد بسيط حاصل فى نفس الاقتضاء الاشتداد فانه اذا كان الانفاق لتحصيل اشتداد الابتغاء بقصد مركب عن شعور تركيبى وقصد زائد لحصول امر للنفس نافع لها لم يكن حاصلا كان المقصود به انتفاع النفس الذى يفسد العبادة { كمثل جنة } اى كمثل غارس جنة وقد مضى ان التشبيهات المركبة لا يلزمها ان يكون ترتيب اجزاء المشبه به مثل اجزاء المشبه ولا ان يكون التالى للمثل او لاداة التشبيه نفس المشبه به، ولا ان يصح التشبيه بين اجزاء الطرفين { بربوة } الربوة بتثليث الراء، المكان المرتفع؛ وقرئ بالتثليث، شبه المنفق فى زرع القلب بزراعة الآخرة بغارس جنة واقعة فى مكان مرتفع فى انها محفوظة عن الاغبرة الكثيرة الواردة على الامكنة المنخفضة وعن صدمة السيل وعن ضياع ثمرها باحتباس الهواء، وفى نضارتها وطراوتها بمجاورة الهواء الصافى ورطوبة الهواء المرتفع، وفى تضعيف ثمرها بذلك { أصابها وابل } لا السيل { فآتت أكلها } اى ثمرها { ضعفين } بما ذكر من اسباب حسنها { فإن لم يصبها وابل فطل } بواسطة مجاورة الهواء المرتفع الرطب، والطل ما يقع فى الليل على النبات شبه الثلج { والله بما تعملون بصير } تحذير عن ابطال الانفاق بالمن والرياء وترغيب فى اخلاص الانفاق لله.
[2.266]
{ أيود أحدكم } تمثيل آخر لمن انفق ثم ابطل انفاقه بالمن والاذى بعده كما ان المثال السابق كان لمن كان ابطاله مع الانفاق فانه شبه الانفاق الذى هو غرس فى جنة القلب للآخرة بجنة كذا وصاحبه بصاحب الجنة فى حال شدة الاحتياج من اصابة الكبر وكونه معيلا وعياله ذرية ضعفاء ومنه واذاه بنار أتت فاحترقت جنته حال كونها لا يرجو غيرها لكنه اداه بالاستفهام الانكارى تجديدا للاسلوب لتنشيط السامع وتهييجه للاستماع وتأكيدا فى التحذير عن المن والاذى { أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات } يعنى تكون الجنة منهما لكن كان فى خلالهما سائر انواع الاشجار، ويجوز ان يراد بالثمرات مطلق المنافع من الثمرات والحبوب وغيرها { وأصابه الكبر } حتى يضعف عن القيام بأمر ذريته ويكون كفاية ذريته من تلك الجنة { وله ذرية ضعفآء } عجزة عن الاكتساب { فأصابهآ إعصار } الاعصار الريح المثيرة للسحاب، او التى فيها نار، او التى تهب من الارض كالعمود نحو السماء مستديرة، او التى فيها العصا اى الغبار الشديد { فيه نار فاحترقت كذلك } اى مثل بيان هذه الامثال للانفاق الخالص ولابطاله { يبين الله لكم الآيات } الانفسية وغيرها { لعلكم تتفكرون } وتنتقلون من ظاهر الامثال التى هى الآيات الآفاقية الى الممثل لها التى هى الآيات الانفسية.
[2.267]
{ يأيها الذين آمنوا } اراد ان يذكر حال المنفق بعد ما ذكر الاخلاص فى الانفاق وان المنفق ينبغى ان يكون جيدا محبوبا للنفس لا خبيثا مكروها لها، فنادى المؤمنين تهييجا لهم بلذة المخاطبة والنداء وقال: { أنفقوا من طيبات ما كسبتم } حلاله وجيده { وممآ أخرجنا لكم من الأرض } اى من طيبات حبوبكم واثماركم والمستخرجات من معادنكم، عن الصادق (ع) كان القوم قد كسبوا مكاسب سوء فى الجاهلية فلما اسلموا ارادوا ان يخرجوها من اموالهم ليتصدقوا بها فأبى الله تبارك وتعالى الا ان يخرجوا من طيبات ما كسبوا { ولا تيمموا الخبيث } تيممه قصده وكأنه مبدل الياء من الهمزة وقرء (تؤمموا) (وتيمموا) من باب التفعيل والخبيث الردى { منه } مما كسبتم او { مما اخرجنا لكم } او من كل واحد على ان يكون متعلقا بتيمموا او من الخبيث على ان يكون متعلقا بقوله تعالى { تنفقون } والجملة حال او مستأنفة { ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه } نزلت فى اقوام لهم اموال من ربوا الجاهلية وكانوا يتصدقون منها، وفى خبر آخر انها نزلت فى اقوام كانوا يجيئون بالحشف فيدخلونه فى تمر الصدقة، وفى خبر آخر اذا امر رسول الله (ص) بالنخل ان يزكى يجيئ قوم بألوان من التمر هو من اردى التمر يؤدونه من زكاتهم تمرة، يقال له الجعرور والمعافارة قليلة اللحا عظيمة النوى وكان بعضهم يجيء بها عن التمر الجيد فقال رسول الله (ص) لا تخرصوا هاتين التمرتين ولا تجيئوا منهما بشيء وفى خبر آخر انها نزلت فى صدقة الفطر كانوا يأتون بها الى مسجد رسول الله (ص) وفيها أردى التمر ويستفاد من مجموع الاخبار انه لا اختصاص للطيب بالحلال ولا للخبيث بالحرام ولا للصدقة بالواجبة ولا للواجبة بزكوة المال { واعلموا أن الله غني } يعنى ان المحتاج قد يقبل الرديء لحاجته والله غنى لا يقبل الرديء اصلا { حميد } يعنى الغنى الذميم قد يقبل الردى بخلاف الحميد فهما كناية عن عدم قبول الردى اصلا.
[2.268]
{ الشيطان يعدكم } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: ما بالنا لا نقدر على انفاق الطيب وترك تيمم الخبيث فى الانفاق؟ - فقال: لان الشيطان يعدكم { الفقر } اى يوعدكم ويخوفكم { ويأمركم بالفحشآء } اى البخل بالطيب فان البخيل يسمى بالفاحش فى لغة العرب وحينئذ لم يكن ما بعده جزءا من الجواب او التقدير لم أمرنا الله بالانفاق من الطيب ونهانا عن تيمم الخبيث؟ - فقال: لان الانفاق من الطيب ليس الا بالخروج من انانية النفس وحكومته والدخول فى حكومة الله وامره، والانفاق من الخبيث بدل الطيب ليس الا من حكومة الشيطان والدخول تحت امره والشيطان يخوفكم بالفقر ثم يأمركم بالفحشاء { والله يعدكم مغفرة منه وفضلا } كان مقتضى المطابقة بين الفقرتين ان يقول والله يعدكم الغنى ويأمركم بالمعروف لكنه عدل الى ما ذكر لاستنباط الامر بالمعروف من الامر بانفاق الطيب، وللإشارة الى ان وعد الله يعم الدنيا والآخرة بخلاف ايعاد الشيطان فانه لا يتجاوز عن الدنيا، وقدم المغفرة لانها وعد اخروى بخلاف الفضل، ونكرهما للتفخيم، واتى بالفضل مقام الغنى للاشعار بان الغنى الموعود ليس كالغنى الموهوم الذى ليس الا الفقر والحاجة والعناء بل هو من فضل الله الذى لا فقر فيه ولا نصب ولا نفاد، وقدم ايعاد الشيطان لكون المقام لذم الذين تيمموا الخبيث فاقتضى المقام الاهتمام بايعاد الشيطان ولان يختم الآية بالخير كما بدئت به ولارادة انجرار وعد الله الى ايتاء الحكمة والخروج عن مقام ذكر الوعد والايعاد { والله واسع } لا يخاف الضيق والفقر فلا خلف فى وعده { عليم } بمصالحكم فلا يأمركم الا بما فيه صلاحكم، ولا ينهاكم الا عما فيه فسادكم.
[2.269]
بيان الحكمة ومراتبها
{ يؤتي الحكمة } جواب لسؤال مقدر كأن الرسول (ص) بعد ما أيقن وشاهد المفاسد المترتبة على طاعة الشيطان والمصالح اللازمة لطاعة الله قال: ما للناس لا يتأملون ولا ينظرون الى تلك المفاسد والمصالح؟! ولا يرتدعون عن تلك ولا يرغبون فى هذه؟ - فقال: لان النظر فى دقائق هذه والعمل بمقتضاها من شعبتى الحكمة النظرية والعملية ولا يؤتى الله الحكمة لكل احد بل يؤتيها { من يشآء } ويجوز ان تكون الجملة حالية او خبرا بعد خبر مفيدة لهذا المعنى، والحكمة كما مر عبارة عن ادراك دقائق المصنوع الالهى وغاياته المترتبة عليه؛ وهى الحكمة النظرية، وعن القدرة على صنع مصنوع مشتمل على دقائق الصنع والغايات المترتبة الى غاية هى اشرف الغايات بالنسبة الى مقام الصانع؛ وهى الحكمة العملية، وتطلق الحكمة على كل واحد منهما وعلى المجموع، ولما كان ادراك الدقائق المودعة فى المصنوعات واعمال الدقائق المتصورة لها خاصين بالله فالحكيم على الاطلاق هو الله تعالى وسائر الناس حكماء بقدر ادراكهم وقدرتهم على الصنع، وتلك الحكمة اى ادراك دقائق المصنوع الالهى والغايات المترتبة عليه والقدرة على صنع مصنوع مشتمل على غايات منتهية الى غاية هى اشرف الغايات لا يمكن حصولها الا بعد فتح باب القلب بالولاية لانه ما لم يفتح باب القلب لم يفتح عين القلب، وما لم يفتح عين القلب لم يمكن الادراك الا بعين الخيال، والخيال مخطئ فى ادراكه وغير متجاوز عن الغايات الدنيوية، واذا فتح باب القلب بالولاية يدرك الانسان اولا دقائق الصنع المودعة فى نفسه وعالمه الصغير، ويدرك حيل الشيطان فى اغوائه، ولطائف الملك فى تصرفه، ويقدر على دفع حيل الشيطان وتقوية تصرف الملك، فاذا استقام فى ذلك وخلص من تصرف الشيطان تمكن من ادراك دقائق الصنع فى العالم الكبير والغايات المترتبة على مصنوعاته تعالى، ويقدر على التصرف فيها بقدر قوته قليلا او كثيرا، وادراك الدقائق فى عالمه الصغير والقدرة فيه عبارة عن النبوة وخلافتها، وذلك الادراك والقدرة فى العالم الكبير عبارة عن الرسالة وخلافتها واساس ذلك هى الولاية كما عرفت فيجوز تفسير الحكمة بكل من الولاية والنبوة والرسالة وبمعرفة الامام وطاعته وبمعرفة الامام واجتناب الكبائر وبالكتاب وبالثبات عند اوائل الامور والوقوف عند عواقبها وبهداية الخلق الى الله وبمعرفة الامام والفقه فى الدين، والحكمة سبب عمارة البيوت فما من بيت ليس فيه شيء من الحكمة الا كان خرابا، وقد فسرت بالتشبه بالاله علما وعملا وهى غاية خلق الانسان بل غاية عالم الامكان ولذلك قال تعالى: { ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر } بالحكمة او باستلزامها للخير الكثير { إلا أولوا الألباب } اعلم ان الانسان بتمام عباداته وعظيم طاعاته ما لم ينعقد قلبه بالولاية كان كشجرة اللوز والفستق التى كانت كثيرة اللوز والفستق اللذين لم يكن لهما لب وينبغى ان يوقد فى النار ولا يبصر شيئا من دقائق المصنوع ولا من دقائق حيل الشيطان فلا يقدر على دفع شيء من حيله، واذا انعقد قلبه بالولاية صار اثمار أعماله ذوات ألباب وأبصر من الدقائق والحيل بقدره فما لم ينعقد قلبه بالولاية لا يتذكر ذلك واذا انعقد تذكر.
[2.270]
{ ومآ أنفقتم من نفقة } مما يطلق عليه اسم النفقة قليلا كان ام كثيرا فى حق ام باطل صحيحا او فاسدا مبطلا او مبقى سرا او علانية { أو نذرتم من نذر } كذلك تجزوا به { فإن الله يعلمه } ويقدر على المجازاة ولا مانع من مجازاته { وما للظالمين } اى مانعى الحقوق من اهاليها ومعطيها لغير اهاليها فى الانفاق والنذر او فى مطلق الموارد ومنها الانفاق والنذر { من أنصار } يدفعون عقوبة الله عنهم.
[2.271]
{ إن تبدوا الصدقات } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: ابداء الانفاق خير او اسراره؟ - فقال: ان تبدوها { فنعما هي } اى فنعم شيئا او نعم الشيء الصدقات المبدءات وجعل المخصوص هاهنا الصدقات للاشعار بأن مدح الابداء انما هو لمدح الصدقات بخلاف اخفائها فانه ممدوح فى نفسه وممدوح لمدح الصدقات ايضا { وإن تخفوها وتؤتوها الفقرآء فهو } اى الاخفاء { خير لكم } كما ان نفس الصدقة خير لكم، وجعل المخصوص بالمدح فى الفقرة الاولى ابداء الصدقات كما قدروا يذهب باللطف المندرج فى العبارة. فى الخبر: ان كلما فرض الله عليك فاعلانه أفضل من اسراره، وما كان تطوعا فاسراره أفضل من اعلانه، ولو ان رجلا حمل زكاة ماله على عاتقه فقسمها علانية كان ذلك حسنا جميلا، وفى خبر، انهم يعنى اصحاب الرسول (ص) كانوا يستحبون اظهار الفرائض وكتمان النوافل، والوجه فى ذلك ان الفرائض بعيدة عن المراءاة فيها والعجب والانانية بخلاف النوافل، لكن نقول: هذا كسائر الاحكام يختلف باختلاف الاشخاص والاحوال فرب صدقة نفل يكون اعلانها افضل بمراتب من اعلان الزكاة الفرض، ورب زكاة فرض يكون اسرارها افضل من اسرار النفل { ويكفر } اى الله والاخفاء قرئ بالرفع عطفا على مجموع جملة الشرط والجزاء، او على الجزاء ولم يجزم لكون المعطوف عليه جملة اسمية غير ظاهر فيها الجزم، او لتقدير مبتدء حتى يصير المعطوف على الجزاء جملة اسمية، وقرئ بالنون وبالتاء المثناة من فوق على ان يكون الفعل للصدقات مرفوعا ومجزوما { عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير } ترغيب فى الاسرار بعد التنبيه على انه افضل بجعله محكوما عليه بالخير دون الابداء.
[2.272]
{ ليس عليك هداهم } كان النبى (ص) بعد ما اظهر الله تعالى ابطال الصدقة بالمن والاذى وابطالها بالرياء وان لا ناصر لمن ظلم فى الانفاق والنذر تحرج (ص) من عدم اهتداء امته وقومه الى وجوه الخير فى الانفاق والى ما فى البخل وابطال الانفاق من الوبال والحرمان حتى لم يهتدوا بسببه الى الاسلام والايمان وقال: فما أصنع حتى يهتدوا الى ذلك؟ - فقال تعالى: { ليس عليك هداهم } حتى تتحرج من عدم هداهم { ولكن الله يهدي من يشآء وما تنفقوا من خير } { ف } هو نافع { لأنفسكم } فما بالكم تمنون به على غيركم او تؤذون به من تنفقون عليه او غيره { وما تنفقون } اى لا ينبغى لكم ان تنفقوا { إلا ابتغآء وجه الله } لكنه اداه بصورة الاخبار عن الانفاق لوجه الله تهييجا لهم على ذلك { وما تنفقوا من خير } اى من مال حلال مكتسب من جهة حليته التى هى الولاية فانها جهة حلية المحللات كما سبق وكما يأتى عند قوله تعالى:
اليوم أكملت لكم دينكم
[المائدة:3] فان خيرية المال ان يكون مكتسبا من الحلال، وخيرية النفقة ان تكون خالصة لوجه الله كما اشير اليه بقوله تعالى: { وما تنفقون إلا ابتغآء وجه الله } يعنى نفقة غير مشوبة بالمن والاذى والرياء وغير مدنسة بالاغراض النفسانية وان تكون سرا كما اطلق الخير فى السابق عليه { يوف إليكم } التوفية تكون باداء تمام ما ينبغى ان يؤدى { وأنتم لا تظلمون } بنقص فيما يؤدى اليكم جزاء انفاقكم.
[2.273]
{ للفقرآء } جواب لسؤال تقديره قد علم فضل الانفاق وكيفيته فلمن الانفاق؟ - فقال: الانفاق للفقراء { الذين أحصروا في سبيل الله } اى حبسهم الله فى السبيل بحيث لا يمكنهم السير والترقى او احصرهم الله بالامراض البدنية والشؤن النفسانية عن المكاسب، او أحصرهم الرسول (ص) او أنفسهم عن المكاسب، او المعنى احصروا حال كونهم فى سبيل الله بالتعلم والعبادة والتهيوء للجهاد، فى الخبر: انها نزلت فى اصحاب الصفة وقيل: ان اصحاب الصفة كانوا نحوا من اربعمائة كانوا فى صفة المسجد لم يكن لهم فى المدينة مأوى ولا عشائر، اشتغلوا بالتعلم والعبادة وكانوا يخرجون فى كل سرية يبعثها رسول الله (ص) فحث الله الناس على الانفاق عليهم وللاهتمام بهم والحث عليهم اقتصر فى بيان مصارف الصدقة عليهم { لا يستطيعون ضربا في الأرض } للسلوك الى الآخرة او للمكاسب { يحسبهم الجاهل } بحالهم او مطلقا { أغنيآء من } اجل { التعفف } عن السؤال { تعرفهم } الخطاب للرسول (ص) او عام لكل من يتأتى منه الخطاب { بسيماهم } السومة بالضم والسيمة والسيما بالقصر والسيماء بالمد والسيمياء بزيادة الياء والمد، وبالكسر فى الاربعة بمعنى العلامة يعنى ان علامة الفقر عليهم ظاهرة من رثاثة الحال وصفرة الوجه واغبرار اللون { لا يسألون الناس إلحافا } سؤال الحاح او مفعول مطلق من غير لفظ الفعل او حال { وما تنفقوا من خير } كرره لتأكيد الشرطية السابقة فان توفية تمام المنفق تقتضى العلم بتمامه وللاهتمام والتأكيد فى حق هؤلاء الفقراء كأنه قال: وما تنفقوا من خير عليهم { فإن الله به عليم } فيجازيكم عليه.
[2.274]
{ الذين ينفقون } جواب لسؤال ناشئ من قوله: ان تبدو الصدقات؛ تقديره: ما حال من جمع بين السر والعلانية فى الانفاق؟ - فقال: الذين ينفقون { أموالهم بالليل والنهار } وهذا من قبيل الفضل فى الجواب او على امكان منشأية السابق للسؤال عن الجمع بين السر والعلانية فى الانفاق وعن استغراق الانفاق لجميع الاوقات { سرا وعلانية } لم يعطفه للاشارة الى عدم مغايرة السر والعلانية لما فى الليل والنهار { فلهم أجرهم } اشار الى تفخيم الاجر باضافته اليهم كما مضى { عند ربهم } اشارة اخرى الى تفخيم الاجر { ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } فى المجمع ان الآية نزلت فى على (ع) كانت معه اربعة دراهم فتصدق بدرهم ليلا، وبدرهم نهارا، وبدرهم سرا، وبدرهم علانية. وليس المراد من مثل هذا الخبر تعيين درهم واحد لليل، ودرهم واحد للنهار حتى يغاير درهم السر درهم العلانية بل المراد انه (ع) تصدق بشيء فى الليل وبشيء فى النهار وبشيء فى السر ليلا او نهارا وبشيء فى العلانية ليلا او نهارا، وقيل: ان الآية اذا نزلت فى شيء فهى منزلة فى كل ما تجرى فيه، والاعتقاد فى تفسيرها انها نزلت فى أمير المؤمنين (ع) وجرت فى النفقة على الخيل وأشباه ذلك، وفى خبر: انها ليست من الزكاة.
[2.275]
{ الذين يأكلون الربا } منقطعة عن السابق لابداء حكم آخر او جواب سؤال ناشئ عن سابقه كأنه قيل: قد علم حال المنفق فما حال آخذ مال الغير؟ - او فما حال آخذ الربوا؟ - فقال: الذين يأكلون الربوا والأكل هاهنا وفى كثير من الآيات بمعنى الاخذ والتصرف سواء كان التصرف بالأكل اللغوى ام لا، وذكر الأكل لأنه عمدة منافع المال وعمدة مقاصدهم منه، والربا بالكسر الزيادة على رأس المال ورسم ان يكتب بالواو والالف اشعارا بمادته وتشبيها لواوه بواو الجمع وسيجيء بيانه ووجه حرمته { لا يقومون } عن قبورهم او عن قعود او بامور معاشهم { إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان } تخبط الشيطان فلانا مسه بأذى او أفسده او أفسد عقله { من المس } من اجل مسيسه اياه وقد يكون المس بمعنى الجنون لكن المناسب هنا ما ذكرنا.
بيان الخبط من مس الشيطان
اعلم ان الانسان واقع بين عالم الجنة والشياطين وعالم الملائكة وقابل لتصرف الارواح الخبيثة والارواح الطيبة فيه، وقوله (ع): لكل انسان شيطان يغويه وملك يزجره؛ يشير اليه فاذا بلغ مبلغ الرجال وحصل له العقل الذى هو مناط التكليف والتدبير وقع فى تصرف الملك والشيطان، واسباب غلبة كل منهما داخلة وخارجة كثيرة مثل اختلاف الاستعدادات بالذات وتخيل المتخيلات الممدة لكل ومدد مركب النفس بالاغذية المباحة او المشتبهة والاغذية المأكولة على تذكر وجمعية البال، او على غفلة وتفرقة، ومثل ادراك مدرك موافق لكل بالمدارك الظاهرة، والمجالسة مع الاخيار والاشرار والاشتغال بأعمال الابرار والفجار وغير ذلك وتصرف الشيطان فى اغلب الناس بالغلبة عليهم بحيث يصدر افعالهم من الشيطان او بمشاركته من غير استشعار لهم بذلك مع بقاء العقل الذى هو مناط تدبيرهم وكونه خادما للشيطان، وقد يغلب على بعض بحيث يذهب العقل منه فان كان فى قلبه ومداركه قويا يبقى الشعور له والا يغشى عليه، وقد يظهر صورة الجن عليه فى حال ذهاب العقل شاعرا او مغشيا عليه وقد لا يظهر او لا يستشعر، وقد يخبر بالامور الغائبة ابتداء وقد يستنطق عن المغيبات ويستخبر فى خبر شاعرا او غير شاعر، وقد يقع المناسبة بينه وبين الارواح الخبيثة بحيث يشاهد عالمها ويشاهد صور عالم الطبع فيه من دون زوال عقله فيخبر بالمغيبات والآتيات، او يظهر عليه بعض من الشياطين والجنة فيخبره بخبر السماء والارض فيغتر بأنه من عالم الارواح الطيبة وقد زعم المغترون بهذا العالم وأهله ان عالم الارواح واحد وان طريق الوصول اليه متعدد وان اقرب الطرق للوصول اليه طريق الرياضات الغير الشرعية وارتكاب منافيات الشرائع الالهية من سفك الدماء المحرمة وخصوصا دم الانسان وشربها والزنا لا سيما مع المحارم وانهتاك حرمة الكتب السماوية، وما اشتهر منهم من تعليق القرآن وسائر الكتب السماوية فى المزابل صحيح، وقد يظهر أنواع الخوارق والاخبار بالمغيبات والآتيات منهم، وعن الباقر (ع) فى بيان ما ذكر انه ليس من يوم ولا ليلة الا وجميع الجن والشياطين تزور ائمة الضلالة ويزور امام الهدى عددهم من الملائكة حتى اذا اتت ليلة القدر فيهبط فيها من الملائكة الى ولى الامر خلق الله او قال قيض الله عز وجل من الشياطين بعددهم ثم زاروا ولى الضلالة فأتوه بالافك والكذب حتى يصبح فيقول: رأيت كذا وكذا فلو سأل ولى الامر عن ذلك لقال رأيت شيطانا اخبرك بكذا وكذا حتى يفسر له تفسيرا ويعلمه الضلالة التى هو عليها، وهؤلاء لا يدخلون فى طريقهم من ارادوا ادخاله الا بعد أخذ الميثاق عنه بما هو مقرر عندهم، وهكذا الحال فى انواع تصرف الملائكة وغلبتهم، وقد قال المولوى قدس سره فى بيان غلبة الشياطين والملائكة:
عقل خود شحنه است جون سلطان رسيد
شحنه بيجاره در كنجى خزيد
جون برى غالب شود بر مردمى
كم شود از مرد وصف مردمى
هر جه كويد او برى كفته بود
زين سرى نه زان سرى كفته بود
جون برى را اين دم و قانون بود
كرد كار آن برى خود جون بود
وانكار الفلاسفة لذوات الجنة والشياطين وتأويلهم لها غير مسموع فى مقابل المشهود، وعن الصادق (ع) ان رسول الله (ص) قال
" لما اسرى بى الى السماء رأيت قوما يريد احدهم ان يقوم فلا يقدر ان يقوم من عظم بطنه فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ - قال: هؤلاء الذين يأكلون الربوا لا يقومون الا كما يقوم الذى يتخبطه الشيطان من المس واذا هم بسبيل آل فرعون يعرضون على النار غدوا وعشيا يقولون ربنا متى تقوم الساعة "
، وفى خبر: آكل الربوا لا يخرج من الدنيا حتى يتخبطه الشيطان، او المقصود ان آكل الربوا لا يكون فى الدنيا الا كالمجنون فان المجنون أفعاله وأقواله خارجة عن ميزان عقل المعاش وهو خارج عن ميزان عقل المعاد، فلا فرق بينهما الا بشيء غير معتد به { ذلك } الأكل منهم بواسطة مغلطة وقعت منهم او ذلك العقاب لهم { بأنهم } قاسوا الربا بالبيع حيث رأوا جواز البيع بضعفى القيمة السوقية للسلعة فقاسوا هذا البيع فى زيادة الثمن عن قيمة السلعة بالبيع الربوى فى زيادة العوض عن اصل المال و { قالوا إنما البيع } بزيادة الثمن { مثل الربا } فى الزيادة فيصح الربا كما يصح هذا البيع فالتشبيه انما وقع فى زيادة العوض والاصل فى ذلك هو الربا لا فى الصحة حتى يرد ان الاصل فى الصحة هو البيع فينبغى ان يقول انما الربا مثل البيع وانما شبه البيع بالزيادة عن القيمة بالربوا كناية عن تشبيه الربا بالبيع فى الصحة ليكون ابلغ فأبطل تعالى قياسهم بقوله تعالى { وأحل الله البيع } حال بتقدير قد او عطف { وحرم الربا } يعنى ان الصحة والفساد ليسا بالتماثل فى الصورة انما هما بأمر الله ونهيه، قيل: كان الرجل منهم اذا حل دينه على غريمه فطالبه به قال المطلوب منه: زدنى فى الاجل وازيدك فى المال فيتراضيان عليه ويعملان به، فاذا قيل لهم: هذا ربا قالوا: هما سواء يعنون بذلك ان الزيادة فى الثمن حال البيع والزيادة فيه بسبب الاجل عند محل الدين سواء.
اعلم انهم كانوا فى الجاهلية يتجرون ويستربحون بان يدينوا مالا الى اجل بربح معلوم كما هو ديدن اهل زماننا وكانوا يقولون: هذا الربح عوض تعطيل مالنا عن التجارة، او يدينوا جنسا من مثل الحنطة والشعير الى اوان بلوغه بازيد من ذلك الجنس وكانوا يقولون ان كان قيمته عشرة معجلا صح ان نبيعه بخمسة عشر مؤجلا فصح ان نقرضه عشرة بخمسة عشر مؤجلا، ولما كان فى ذلك الاتكال على الربح وترك التوكل على الله وتعطيل الاعضاء والقوى عن الحركة فى طلب المعاش التى هى اعظم اقسام العبادات وتعطيل النفس عن التضرع والالتجاء الى الله المسالة منه واضرار المدين بأخذ ماله بلا عوض وترك اصطناع المعروف بالقرض الحسن وكل ذلك كان مخالفا لما اراده تعالى من عباده نهى الله تعالى عنه وشدد على فاعله، وفى الخبر
" درهم ربا اشد عند الله من سبعين زنية كلها بذات محرم "
، وفى خبر زيد:
" فى بيت الله الحرام "
، وعن امير المؤمنين (ع):
" لعن رسول الله (ص) الربوا وآكله وبائعه ومشتريه وكاتبه وشاهديه "
، وقد ذكر فى الاخبار طريق الفرار من الربا وما تداولوه من المبايعة على شيء وجعل الربح اجرة ذلك الشيء او نقله بصلح ونحوه نحو فرار صحيح، وما قالوا: ان العقود تابعة للقصود وليس المقصود من ذلك الا تصحيح الربا فليست المبايعة صحيحة غير صحيح لان قصد الفرار من الربا بالعقد قصد صحيح للعقد مأذون فى الشريعة نعم اذا كانت المرابحة خارجة عن قانون الانصاف كانت من هذه الجهة مذمومة وممحوقة وما يشاهد من محق اموال المرابحين انما هو لعدم مبالاتهم بالمبايعة وقولهم: { إنما البيع مثل الربا } ، او لخروجهم عن قانون الانصاف { فمن جآءه موعظة } الموعظة التذكير بما يلين القلب والزجر عما يقسى القلب { من ربه فانتهى } عما نهى عنه { فله ما سلف } مما أخذ من الربوا يعنى ان الانتهاء عند بلوغ نهى الله اليه محلل لما أخذه قبل ذلك، ولا يسترد منه شيء وهذا يدل على ان من لم يعلم التحريم وأخذ فاذا علم كان المأخوذ حلالا وفى الخبر عنهما (ع): ان الموعظة التوبة لكن المراد بها التوبة عما فعل بجهالة لا التوبة عما فعل عن علم، فانه لا يكون التوبة محللا لما أكله من مال الغير محرما { وأمره إلى الله } لا الى الحكام حتى يحكموا عليه برد ما اخذه قبل الموعظة { ومن عاد } الى الربا بعد ما جاءه الموعظة { فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } وفى الخبر: الربا كبيرة بعد البيان، والاستخفاف بذلك دخول فى الكفر.
قيل: آكل الربا اسوء حالا من جميع مرتكبى الكبائر لانه معتمد فى رزقه على نفسه وتعيينه، محجوب عن ربه، غير متوكل عليه، ومع ذلك يرى انه محسن فى فعله مع انه مخالف لربه ويوكله الله فى الدنيا الى نفسه وتعيينه، ولذا ترى اموالهم ممحوقة فى حياتهم او بعد مماتهم.
[2.276]
{ يمحق الله الربا } يمحوه يعنى المال الحاصل من نفس الربا، او المال الذى فيه الربا، وافناء المال الربوى مشهود وان خذل الله واحدا من الناس ولم يمحق ماله والربوى يمحق دينه ثم يمحق بعده ماله، ونسب الى الصادق (ع) انه قيل له: قد رأى من يأكل الربا يربو ماله فقال: فأى محق امحق من درهم ربا يمحق الدين وان تاب منه ذهب ماله وافتقر { ويربي الصدقات } يعنى فى الآخرة او يربى عوضها فيما اخرجت منه، وفى الاخبار اشارة اليهما ففى خبر
" ان الله يأخذه يعنى مال الصدقة بيده ويربيه كما يربى احدكم ولده حتى تلقاه يوم القيامة وهى مثل احد "
، وفى خبر آخر:
" ما نقص مال من صدقة "
{ والله لا يحب كل كفار } بأمر الله ونهيه والقيد الواقع فى سياق النفى قد يعتبر قيدا للنفى وقد يعتبر قيدا للمنفى واردا عليه النفى والتقييد بالكل هاهنا من قبيل الاول { أثيم } منهمك فى ارتكاب نواهيه.
[2.277]
{ إن الذين آمنوا } بالبيعة العامة فيكون قوله تعالى { وعملوا الصالحات } اشارة الى الايمان الخاص الحاصل بالبيعة الخاصة الولاية فان الولاية التى هى البيعة الخاصة اصل جميع الصالحات ولا صالح الا بها ولا فاسد معها، ومنها الإتمار بالاوامر والانتهاء عن المنهيات { وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } قد مضى الآية بتمام اجزائها فى اول السورة.
[2.278]
{ يأيها الذين آمنوا } بعد ما ذم الربوا واهله ومدح الإتمار بالاوامر والانتهاء عن المناهى نادى المؤمنين تلطفا بهم حتى يجبر كلفة النهى بلذة المخاطبة { اتقوا الله } اى سخطه فى مخالفة جميع اوامره ونواهيه خصوصا فى الربوا { وذروا ما بقي من الربا } يعنى لا تردوا ما أخذتم منه ولكن ما بقى منه على المدينتين فلا تطالبوه { إن كنتم مؤمنين } شرط تهييجى، فى الخبر: ان الوليد بن المغيرة كان يربى فى الجاهلية وقد بقى له بقايا على ثقيف فاراد خالد بن الوليد المطالبة بعد ان أسلم فنزلت { فإن لم تفعلوا }.
[2.279]
{ فإن لم تفعلوا } ترك ما بقى من الربوا { فأذنوا } اى اعلموا { بحرب } عظيمة { من الله ورسوله } وهذا غاية التهديد قلما يهدد بمثله { وإن تبتم } بعد ما علمتم بالحرب من مطالبة ما بقى من الربا واعتقاد حله { فلكم رؤوس أموالكم } ليس للمدينين ان يحاسبوا رؤس الاموال فيما أخذتموه من الربا قبل البينة { لا تظلمون } بأخذ الزيادة على رأس المال { ولا تظلمون } بنقصان رأس المال.
[2.280]
{ وإن كان } اى وجد { ذو عسرة } فى غرمائكم { فنظرة } فله امهال { إلى ميسرة } قرئ بكسر السين وضمها وبتاء التأنيث وقرئ بضم السين واضافتها الى الهاء { وأن تصدقوا } على الغريم مليا كان او ذا عسرة او على ذى العسرة بابرائه من الدين { خير لكم إن كنتم تعلمون } شرط تهييجى او تقييد لخيرية التصدق فان الجاهل مطالبته وتصدقه كلاهما وبال عليه، او المعنى ان كنتم تعلمون ان التصدق خير لكم تصدقتم، والاخبار فى فضل انظار المعسر وفضل التصدق عليه كثيرة.
[2.281]
{ واتقوا } عطف على نظرة فانها بمعنى أنظروه، والمقصود التقوى عن المداقة فى المحاسبة والتعنيف فى المطالبة خوفا من مداقة الله فى المحاسبة يوم يكون الناس اشد اعسارا من كل معسر كأنه قال: تساهلوا فى المحاسبة مع المعسر واتقوا بذلك دقة الله معكم { يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون } بنقص الجزاء او تضعيف العقاب، نقل انها آخر آية نزل بها جبرئيل.
[2.282]
{ يأيها الذين آمنوا } بالايمان العام والبيعة النبوية وقبول الدعوة الظاهرة فان الاحكام الشرعية القالبية كلها متوجهة الى المسلمين بالبيعة العامة { إذا تداينتم بدين } تداين القوم دان بعض واستدان آخر، او دان كل من الآخر، او تعاملوا بنسيئة يعنى اذا دان بعض منكم واستدان آخر، او اذا وقع منكم معاملة بنسيئة وعلى هذا فالامر بالكتابة عام للدائن والمدين ولغيرهم، اما للداين والمدين فلرفع التخالف والاشتباه، واما لغيرهم فللاعانة على البر والتقوى، وذكر الدين اما للامتياز عن التداين بمعنى المجازاة، او لكون التداين بمعنى مطلق المعاملة، او لبناء الكلام على التجريد والدين خاص بالقرض المؤجل او هو بمعنى مطلق القرض فقوله تعالى { إلى أجل } اما للتأكيد، او مبنى على التجريد، او على اعتبار كون الدين بمعنى مطلق القرض { مسمى } معين { فاكتبوه } ليكون ابعد من الاشتباه والاختلاف واضبط لقدر الدين ومدته { وليكتب بينكم كاتب بالعدل } الباء للآلة والعدل صفة للقلم المقدر اى بالقلم العدل فانه ينسب الاعوجاج والاستقامة الى القلم والظرف متعلق بكاتب او بليكتب، او الباء للآلة، والعدل بمعنى استواء الميل الى الطرفين او بمعنى حفظ الحقوق، او الباء للملابسة، والظرف مستقر صفة لكاتب { ولا يأب كاتب } احد من الكاتبين { أن يكتب كما علمه الله } اى كتابة مثل كتابة علمها الله وهى الكتابة بالعدل او كتابة تماثل تعليم الله الكتابة له، او مطلق تعليم الله له يعنى يكون تعليم الله نصب العين فى الكتابة حتى يكون الكتابة شكرا لتعليمه وهذا المعنى يفيد التعليل فيكون المعنى: ولا يأب كاتب ان يكتب لاجل تعليم الله { فليكتب } وللاهتمام بالكتابة أكدها بالامر بها اربع مرات { وليملل الذي عليه الحق } لانه المقر المشهود عليه { وليتق الله ربه } فى تلقين ما يضر بصاحب الحق { ولا يبخس منه } لا ينقص من الحق او مما املى { شيئا فإن كان الذي عليه الحق سفيها } محجورا عليه { أو ضعيفا } غير محجور عليه لكن لا يميز بين الالفاظ التى هى عليه وله كما ينبغى { أو لا يستطيع أن يمل هو } تأكيد للمستتر وفائدته نفى الاستطاعة عنه نفسه لا عمن يقوم مقامه { فليملل وليه } اى ولى الذى عليه الحق او ولى الحق { بالعدل واستشهدوا } ادب آخر للمعاشرة والمعاملة فانه اذا كانت المعاملة والمداينة بالاستشهاد، لم يقع اشتباه واختلاف بين المعاملين { شهيدين من رجالكم } بالغين مسلمين حرين، اما البلوغ فيستفاد من مفهوم الرجل، واما الاسلام فيستفاد من اضافة الرجل، وكذا الحرية هكذا فسر الآية، ونسب الى تفسير الامام (ع): لكن اذا تحمل العبد الشهادة فشهادته مسموعة اذا كان مسلما { فإن لم يكونا } اى الشاهدان { رجلين فرجل } اى فليكن رجل { وامرأتان } شهداء او فليشهد رجل او فالشاهد رجل وامرأتان { ممن ترضون من الشهدآء } يعنى ممن ترضون دينه بان يكون على دينكم، وصلاحه بان يكون عادلا مأمونا، وبصيرته بالامور بان لا يكون ممن يخدع { أن تضل إحداهما } علة لاعتبار امرأتين مقام رجل واحد { فتذكر إحداهما الأخرى } وكيفية شهادات الرجال والنساء بالانفراد او بالانضمام ومحلها ومقبولها ومردودها واعتبار عدد الشهود مذكورة فى الكتب الفقهية { ولا يأب الشهدآء } اى من كان اهلا ليحمل الشهادة { إذا ما دعوا } لتحملها او من كان متحملا اذا دعوا لادائها، او المراد بالشهداء معنى اعم منهما، وقد اشير فى الاخبار الى كل منهما، وفى بعضها ان المراد اذا دعوا للتحمل، واما حرمة الاباء عن الاداء فتستفاد من قوله: { ومن يكتمها فانه آثم قلبه } { ولا تسأموا } ايها المتداينون والشهداء والكتاب { أن تكتبوه } اى الدين او الحق او الكتاب نهى المتداينين عن السأمة لان الكتابة حقهم، ونهى الشهداء والكتاب لان الكتابة من المعاونة على البر والتقوى { صغيرا } كان { أو كبيرا إلى أجله } متعلق بمحذوف حال عن الحق اى موقتا الى اجله فيكون اشارة الى تعيين الحق ومدته فى الكتابة، او متعلق بقوله تكتبوه اى لا تسأموا ان تكتبوه من جميع علاماته ومعيناته الى اجله او متعلق بلا تسأموا اى لا تسأموا من اول وقوعه الى اجله من الكتابة { ذلكم أقسط عند الله } اى ابعد من الافراط بأخذ الوثيقة باضعاف الحق مع الكتاب ومن التفريط باهمال الكتابة والاشهاد { وأقوم } من قام المرأة بمعنى كفى امورها اى اكفى { للشهادة } من تذكر دقائقها وقدر الحق ومدته وغير ذلك { وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة } استثناء مفرغ من قوله تعالى: { فاكتبوه } اى فاكتبوا الدين فى كل حال الا ان تكون التجارة تجارة { حاضرة } على قراءة نصب { تجارة } وتقدير اسم تكون ضميرا راجعا الى التجارة المذكورة بالتضمن، او الا ان تكون تجارة حاضرة { تديرونها } على قراءة الرفع وتقدير تجارة فاعل تكون تاما او اسمه ناقصا وكون تديرونها خبره، ويجوز ان يكون عامل المستثنى محذوفا جوابا لسؤال تقديره كل تجارة تكتب الا ان تكون التجارة تجارة حاضرة تديرونها { بينكم } وتوصيف التجارة بالحضور وبالادارة من قبيل الوصف بحال المتعلق اى حاضرا ما به التجارة وتديرون ما به التجارة، او المراد بالتجارة ما به التجارة ومعنى الادارة ان يأخذ البائع الثمن من المشترى والمشترى المبيع من البائع { فليس عليكم جناح ألا تكتبوها } وهذا يدل على ان الاوامر السابقة كانت للوجوب { وأشهدوا إذا تبايعتم } فانه ادفع للنزاع وامنع لمكر الماكرين { ولا يضآر كاتب ولا شهيد } نهى محتمل لبناء الفاعل ولبناء المفعول والمعنى لا يضر الكاتب ولا الشهيد بالدائن ولا بالمديون اولا يضر الدائن ولا المديون بالكاتب والشهيد حين الدعاء للكتابة او تحمل الشهادة او ادائها بتعطيل وقت الكتاب والشهود عن معيشتهم من غير جعل وعلى هذا لم يكن الجعالة على الكتابة والشهادة اذا كانتا مما يستحقا عليهما جعالة حراما، او بتعطيل ايديهم عن اشغالهم التى يتضررون بتركها { وإن تفعلوا } المضارة عوقبتم { فإنه فسوق بكم واتقوا الله } فى المضارة او فى جملة أوامره ونواهيه { ويعلمكم الله } امثال هذه الواو مما لا يمكن جعلها واو العطف لعدم ما تعطف عليه فى الكلام؛ او لعدم ارادة معنى العطف منها، ولا جعلها بمعنى مع لعدم انتصاب المضارع بعدها جعلوها واو الاستئناف مثل لنبين لكم ونقر فى الارحام، ومثل لا تأكل السمك وتشرب اللبن، على رفع تشرب والمقصود من جعلها للاستئناف انها ليست من حيث اللفظ مرتبطة بسابقتها لا انها من حيث المعنى منقطعة عما قبلها فان المعنى فى مثل لا تأكل السمك وتشرب اللبن على النهى عن الجمع بين أكل السمك وشرب اللبن سواء كان تشرب بالرفع او بالنصب وهذا المعنى لا يستفاد الا اذا كانت الواو بمعنى مع لكن لم يقدر بعدها ان اذا كان ما بعدها مرفوعا كما يقدر فى صورة النصب ومثلها الواو هاهنا فان هذه العبارة تفيد ترتب العلم على التقوى سواء قيل اتقوا الله يعلمكم الله ام ويعلمكم الله بالنصب او بالرفع فالواو تفيد هاهنا معنى المعية التى هى نحو معية الغاية للمغيا، ولما لم يكن ما بعدها منصوبا على نحو الواو التى بمعنى مع قالوا انها للاستئناف مثل حتى الداخلة على المضارع المرفوع فانه يقال انها للاستئناف مع انها مربوطة بما قبلها، ولما كان التقوى بجميع مراتبها ادبارا عن النفس التى هى معدن الجهل واقبالا على العقل الذى هو باب العلم كانت مستلزمة للعلم وازدياده كما فى قوله تعالى:
إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا
[ الأنفال: 29] وقوله:
ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب
{ والله بكل شيء عليم } فيعلم منكم المضارة والتقوى؛ ترهيب وترغيب، قيل فى سورة البقرة خمسمائة حكم، وفى هذه الآية خاصة خمسة عشر حكما.
[2.283]
{ وإن كنتم على سفر } يعنى حين التداين { ولم تجدوا كاتبا } يكتب لكم وثيقة { فرهان } فالوثيقة رهان او يقدر ما يناسب المقام مثل المأخوذ ومثله وقرئ (رهن) بضمتين (ورهن) بضم الراء واسكان العين والجميع جمع الرهن { مقبوضة } وقد اتفق الاماميون على ان شرط اللزوم فى الرهن القبض { فإن أمن بعضكم بعضا } فى السفر او مطلقا فى التداين بترك الكتابة وترك الرهان او فى اعطاء الرهان او فى مطلق الامانات { فليؤد الذي اؤتمن } اى المدين او مطلق الامين { أمانته } دينه سماه امانة لائتمان الدائن المديون عليه او مطلق الامانة { وليتق الله ربه } فى الخيانة والخديعة { ولا تكتموا الشهادة } خاطب الشهود { ومن يكتمها } من غير داع شرعى مبيح لكتمانها { فإنه آثم قلبه } وفى نسبة الاثم الى القلب مبالغة فى الاثم فان الاثم من النفس يظهر على الاعضاء واما القلب المقابل للنفس فانه بريء من الاثم، والقلب بمعنى النفس وان كان منشأ للاثم لكن لا ينسب الاثم اليه بل الى الشخص او الى اعضائه، وفى نسبته الى القلب ايهام ان الاثم سرى من اعضائه الى نفسه، ومنها الى قلبه البريء من الاثم، وعن النبى (ص) انه نهى عن كتمان الشهادة وقال:
" من كتمها اطعمه الله لحمه على رؤس الخلائق "
وهو قول الله عز وجل: { ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فانه آثم قلبه } { والله بما تعملون } من اداء الامانة والخيانة فيها واداء الشهادة وكتمانها { عليم } وعد ووعيد.
[2.284-285]
{ لله ما في السماوات وما في الأرض } مستأنف فى مقام التعليل لاحاطة علمه { وإن تبدوا ما في أنفسكم } ومنه ابداء الشهادة ولكن لا اختصاص له بها بل يجرى فى كل ما فى النفوس من العقائد والنيات والارادات بل يجرى بوجه فى مكمونات النفوس التى لا شعور لصاحبها بها وابداء تلك المكمونات بظهورها على صاحبها وشعورهم بها { أو تخفوه } ومنه كتمان الشهادة ويجرى فى كل خطرة وخيال ونية وارادة وشأن بل فى المكمونات التى لا شعور لصاحبيها بها مما بقى فى النفوس قواها واستعداداتها ولم تصر بالفعل بعد حتى يستشعر بها صاحبوها فانها بمضمون اخرجت الارض اثقالها ويومئذ تحدث اخبارها يوم القيامة يظهر جميع المكمونات ولا يعزب عنه تعالى شيء منها { يحاسبكم به الله } وما ورد فى الاخبار من عدم المؤاخذة على عزم المعاصى او على الخطرات او على الوسوسة انما هو بحسب المؤاخذة الدنيوية والعقوبات الاخروية ولا ينافى ذلك المحاسبة وعدم ارتفاع الدرجة، وما ورد فى جواب من ذكر الخطرات من عدم استواء ريح الطيب وريح المنتن يدل على ان فيها محاسبة ما، وعن رسول الله (ص):
" وضع عن أمتى تسع خصال: الخطاء، والنسيان، وما لا يعلمون، وما يطيقون، وما اضطروا اليه، وما استكرهوا عليه، والطيرة، والوسوسة فى التفكر فى الخلق، والحسد ما لم يظهر بلسان او يد "
{ فيغفر لمن يشآء ويعذب من يشآء } قرئ بالرفع وبالجزم مع الفاء وبدونه { والله على كل شيء قدير آمن الرسول } ابتداء كلام بل ابتداء آية منقطعة عما قبلها كما سيجيء { بمآ أنزل إليه من ربه } وهذا تبجيل وتنصيص من الله على محمد (ص) بايمانه { والمؤمنون } عطف على الرسول او ابتداء كلام كما سيجيء { كل آمن بالله وملائكته } من المقربين والصافات صفا والمدبرات امرا واولى الاجنحة والركع والسجد ارضيين كانوا ام سماويين { وكتبه } من الكتاب المبين والكتاب المحفوظ وكتاب المحو والاثبات العلمى والعينى { ورسله } من الملائكة ومن البشر فى الكبير والصغير { لا نفرق } اى قائلين وقرئ (لا يفرق) بالياء حملا على لفظ كل ولا يفرقون حملا على معناه { بين أحد } اضافة بين الى احد اما لعمومه لوقوعه فى سياق النفى او لتقدير غيره معه اى بين احد وغيره { من رسله } والمقصود عدم التفريق فى التصديق لا فى التفصيل { وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك } اغفر او نطلب غفرانك { ربنا وإليك المصير } اظهار لاقرارهم بالمعاد بعد اظهار اقرارهم بالمبدأ.
[2.286]
{ لا يكلف الله نفسا } بشيء من تكاليف المعاد والمعاش والجملة جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: هل يخرجون من عهدة التكليف بعد ما قالوا سمعنا وأطعنا؟ - فقال: لا يكلف الله نفسا { إلا وسعها } حتى لا يخرجوا من عهدته ويجوز ان تكون الجملة حالا مفيدة لهذا المعنى والمراد بالوسع ما يسعه قدرتهم وتفضل هى عنه { لها ما كسبت } حال او جواب لسؤال مقدر { وعليها ما اكتسبت } يعنى ان نفع حسناتها عائدة اليها لا الى غيرها وكذا ضر سيئاتها، وكسب المال بمعنى اصابه من غير اعتبار تعمل فى تحصيله بخلاف اكتسب فان المعتبر فيه التعمل والاجتهاد واستعمال الكسب فى الطاعات والمعاصى للاشارة الى ان الحركات الصادرة من الانسان بوفاق الامر الالهى وبخلافه مورثة لحصول شؤن نورانية او ظلمانية للنفس هى كالاموال الحاصلة بالحركات المعاشية واستعمال الكسب فى جانب الخير للاشعار بان الانسان لما كانت فطرته فطرة الخير كان كلما يحصل له من طريق الخير يبقى للنفس والنفس اذا خليت وطبعها لا تتعمل فى كسب الخير بخلاف الشر فانه اذا لم يتعمل الانسان فى تحصيله لم يبق اثره لنفسه وان النفس اذا خليت وطبعها لا تحصل الشر الا بالتعمل { ربنا لا تؤاخذنا } جزء مقول المؤمنين وقوله تعالى: { لا يكلف الله }؛ كانت معترضة { إن نسينآ } شيئا من المأمور بها { أو أخطأنا } فى شيء من المنهيات، والخطاء كالنسيان يكون فى الفعل الذى لم يكن الفاعل على عزيمة فيه { ربنا ولا تحمل علينآ إصرا } الاصر بالكسر العهد والذنب والثقل وقد يضم ويفتح فى الكل والمراد به هنا الثقل او الحمل الثقيل وحمل الاصر من الله عبارة عن التكاليف الشاقة التى كانت فى الامم السالفة كما سيأتى وعن الواردات الى كان تحملها شاقا مثل الواردات التى كانت فى بنى اسرائيل على ما روى ان القبط كانوا يقيدونهم بالاغلال ثم يكلفونهم نقل الطين واللبن على السلالم، وعن الواردات النفسانية التى كان تحملها شاقا قبل الاسلام والايمان من مهيجات الغضب والشهوة ومن المصائب الواردة { كما حملته على الذين من قبلنا } من الامم السالفة والجنود النفسانية { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } من التكاليف والبلايا التى هى فوق الطاقة، ووجه استعمال التحميل الدال على المبالغة هاهنا والحمل الدال على مطلق الحمل هناك يستفاد من مفعولهما { واعف عنا } عفى عنه ذنبه ترك العقوبة عليه او طهر القلب من الحقد عليه، وقد يستعمل العفو فى المحو والامحاء { واغفر لنا } واستر ذنوبنا عن خلقك او عن انفسنا لانتفاعنا { وارحمنآ أنت مولانا } تعليل واستعطاف { فانصرنا على القوم الكافرين } من الشياطين الانسية والجنية فى خارج وجودنا او داخله فانه حقيق على المولى ان ينصر مواليه على اعدائه.
وفى الاخبار ان هذه الآية مشافهة الله لنبيه (ص) حين أسرى به الى السماء فأوحى الى عبده ما اوحى فكان فيما اوحى اليه هذه الآية { لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشآء ويعذب من يشآء والله على كل شيء قدير } وكانت الآية قد عرضت على الانبياء من لدن آدم (ع) الى ان بعث الله تبارك اسمه محمدا (ص) وعرضت على الامم فأبوا ان يقبلوها من ثقلها وقبلها رسول الله (ص) وعرضها على امته فقبلوها فلما رأى الله عز وجل منهم القبول على انهم لا يطيقونها فلما ان سار الى ساق العرش كرر عليه الكلام ليفهمه فقال
آمن الرسول بمآ أنزل إليه
[البقرة: 285] فأجاب مجيبا عنه وعن امته فقال:
والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله
[البقرة: 285]، فقال جل ذكره لهم الجنة والمغفرة على ان فعلوا ذلك، فقال النبى (ص) اما اذا فعلت ذلك بنا فغفرانك ربنا واليك المصير يعنى المرجع فى الآخرة، قال فأجابه الله عز وجل وقد فعلت ذلك بك وبامتك، ثم قال عز وجل اما اذا قبلت الآية بتشديدها وعظم ما فيها وقد عرضتها على الامم فأبوا ان يقبلوها وقبلتها امتك فحق على ان ارفعها عن امتك، وقال: { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت } من خير { وعليها ما اكتسبت } من شر فقال النبى (ص) لما سمع ذلك اما اذا فعلت ذلك بى وبأمتى فزدنى، قال: سل، قال: { ربنا لا تؤاخذنا ان نسينا او أخطأنا }. قال الله تعالى: لست اؤاخذ امتك بالنسيان والخطاء لكرامة منك على، وكانت الامم السالفة اذا نسوا ما ذكروا به فتحت عليهم ابواب العذاب وقد رفعت ذلك عن امتك، وكانت الامم السالفة اذا أخطأوا اخذوا بالخطاء وعوقبوا عليه؛ وقد رفعت ذلك عن امتك لكرامتك على فقال النبى (ص): اللهم اذا اعطيتنى ذلك فزدنى فقال الله تعالى له سل، قال: { ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على الذين من قبلنا } يعنى بالاصر الشدائد التى كانت على من كان قبلنا فأجابه الله تعالى الى ذلك فقال تبارك اسمه: قد رفعت عن امتك الآصار التى كانت على الامم السالفة كنت لا اقبل صلاتهم الا فى بقاع من الارض معلومة اخترتها لهم وان بعدت وقد جعلت الارض كلها لامتك مسجدا وطهورا؛ فهذه من الآصار التى كانت على الامم قبلك فرفعتها عن امتك، وكانت الامم السالفة اذا اصابهم اذى من نجاسة قرضوها من اجسادهم وقد جعلت الماء طهورا لامتك؛ فهذه من الآصار التى كانت عليهم فرفعتها عن امتك، وكانت الامم السالفة تحمل قرابينها على أعناقها الى بيت المقدس فمن قبلت ذلك منه ارسلت اليه نارا فأكلته فرجع مسرورا، ومن لم اقبل ذلك منه رجع مثبورا وقد جعلت قربان امتك فى بطون فقرائها ومساكينها فمن قبلت ذلك منه اضعفت ذلك له اضعافا مضاعفة، ومن لم اقبل ذلك منه رفعت عنه عقوبات الدنيا وقد رفعت ذلك عن امتك؛ وهى من الآصار التى كانت على الامم قبلك، وكانت الامم السالفة صلاتها مفروضة عليها فى ظلم الليل وأنصاف النهار وهى من الشدائد التى كانت عليهم فرفعتها عن امتك، وفرضت عليهم صلاتهم فى أطراف الليل والنهار وفى اوقات نشاطهم (الى ان قال) وكانت الامم السالفة حسنتهم بحسنة وسيئتهم بسيئة وهى من الآصار التى كانت عليهم فرفعتها عن امتك وجعلت الحسنة بعشر والسيئة بواحدة، وكانت الامم السالفة اذا نوى احدهم حسنة ثم لم يعملها لم تكتب له وان عملها كتبت له حسنة وان امتك اذا هم احدهم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة وان عملها كتبت له عشر (الى ان قال) وكانت الامم السالفة اذا هم احدهم بسيئة ثم لم يعملها لم تكتب عليه وان عملها كتبت عليه سيئة، وان امتك اذا هم احدهم بسيئة ثم لم يعملها كتبت له حسنة (الى ان قال) وكانت الامم السالفة اذا اذنبوا كتبت ذنوبهم على ابوابهم وجعلت توبتهم من الذنوب ان حرمت عليهم بعد التوبة احب الطعام اليهم وقد رفعت ذلك عن امتك وجعلت ذنوبهم فيما بينى وبينهم وجعلت عليهم ستورا كثيفة وقبلت توبتهم بلا عقوبة، ولا اعاقبهم بان احرم عليهم احب الطعام اليهم، وكانت الامم السالفة يتوب احدهم من الذنب الواحد مائة سنة او ثمانين سنة او خمسين سنة ثم لا اقبل توبته دون ان اعاقبه فى الدنيا بعقوبة (الى ان قال) وان الرجل من امتك ليذنب عشرين سنة او ثلاثين سنة او اربعين او مائة سنة ثم يتوب ويندم طرفة عين فأغفر ذلك كله، فقال النبى (ص): اللهم اذا اعطيتنى ذلك كله فزدنى، قال: سل، قال: { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } قال تبارك اسمه: قد فعلت ذلك بك وبامتك وقد رفعت عنهم عظيم بلايا الامم وذلك حكمى فى جميع الامم ان لا اكلف خلقا فوق طاقتهم، قال: { واعف عنا واغفر لنا وارحمنآ أنت مولانا } ، قال الله عز وجل: قد فعلت ذلك بتائبى امتك، قال: { فانصرنا على القوم الكافرين } قال الله جل اسمه ان امتك فى الارض كالشامة البيضاء فى الثور الاسود، هم القادرون وهم القاهرون ويستخدمون ولا يستخدمون لكرامتك على وحق على ان اظهر دينك على الاديان حتى لا يبقى فى شرق الارض وغربها دين الا دينك او يؤدون الى اهل دينك الجزية.
والاخبار فى فضل هذه الآية والتى قبلها وانهما من كنوز العرش كثيرة، وروى انزل الله آيتين من كنوز الجنة كتبهما الرحمن بيده قبل ان يخلق الخلق بألفى سنة من قرأهما بعد عشاء الآخرة اجزئتاه عن قيام الليل، وفى رواية: من قرء الآيتين من آخر سورة البقرة كفتاه.
[3 - سورة آل عمران]
[3.1-2]
{ الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم } قد مضى اوله فى اول سورة البقرة مفصلا وما بعده فى آية الكرسى.
[3.3]
نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه } من الكتب والشرائع { وأنزل التوراة } هو اسم لكتاب موسى (ع) اعجمى ودخول اللام عليه لتعريبه، او هو عربى من روى الزند اذا ظهرت ناره، او من واراه اذا ستره؛ واصله وورية مثل دحرجة مصدر الفعل الملحق بدحرج فأبدلت الواو تاء والياء الفا { والإنجيل } بكسر الهمزة وفتحها وهو ايضا عجمى ودخول اللام لتعريبه او عربى مأخوذ من النجل بمعنى الولد او الوالد او الرمى بالشيء، او العمل، او الجمع الكثير، او السير الشديد، او المحجة او محو الصبى لوحه او من النجل بالتحريك بمعنى سعة العين.
[3.4]
{ من قبل } اى قبل القرآن او هذا الزمان { هدى للناس وأنزل الفرقان } أى القرآن، ويعلم من هذا ان المراد بالكتاب فى اول الآية جملة الكتاب التى نزلت على قلبه (ص) فى ليلة القدر، او جملة احكام الرسالة، او آثار الولاية التى فصلت بالتنزيل على مقام صدره وبالتعبير بالعبارات النفسية واللفظية بالفاظ الكتاب الالهى والاخبار القدسية والنبوية فعلى هذا يكون الفرقان مصدرا بمعنى المفروق المفصل او بمعنى الفارق المفصل وقد فسر فى اخبار كثيرة القرآن بجملة الكتاب، والفرقان بالمحكم الواجب العمل به؛ وهو يشعر بما ذكرنا وقد مضى بيان للقرآن والفرقان ويستنبط مما ذكر وجه التعبير بالتنزيل فى تنزيل الكتاب وبالانزال فى انزال التوراة والانجيل والفرقان؛ فان نزول الكتاب كان من مقام الاطلاق الى مقام التقييد وكان محتاجا الى كثير تعمل من جانب القابل المستعد لنزوله بخلاف نزول التوراة والانجيل والفرقان فانها نزلت من مقام التقييد الاجمالى الى مقام التقييد التفصيلى فلم تكن محتاجة الى كثير تعمل ولذلك لم يأت فيها بالتنزيل الدال على المبالغة ولما صار المقام مقام السؤال عن حال من كفر بالكتب اجاب تعالى بقوله { إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد } مؤكدا بالتأكيدات، والآيات اعم من الآيات الانفسية والآفاقية والتدوينية فان شؤنات النفوس ووارداتها الجسمانية والنفسانية وموجودات العالم الكبير كلها آيات جماله وجلاله تعالى، والمراد بالكفر بالآيات الكفر بها من حيث كونها آيات لا من حيث ذواتها فى انفسها فان كثيرا من الكافرين بالآيات مشاهدون لذواتها غير ساترين لها مع انهم كافرون بها من حيث انها آيات { والله عزيز } جملة حالية او معطوفة فى مقام التعليل والتأكيد ومعنى عزته تعالى انه لا يمنعه مانع من مراده { ذو انتقام } من شأنه الانتقام ممن خالفه وعصاه.
[3.5]
إن الله لا يخفى } استئناف فى مقام التعليل او جواب للسؤال عن علمه تعالى بهم وبكفرهم كانه قيل: هل يعلم كفرهم؟ - فقال انه لا يخفى { عليه شيء في الأرض ولا في السمآء } اى فى جملة ما سوى الله لان الارض تعم العوالم الثلاثة: عالم الاقدار النورانية والاقدار الظلمانية والاجساد الطبيعية، والسماء تعم الارواح المدبرة والارواح المجردة.
[3.6]
{ هو الذي يصوركم } حال او مستأنف جواب لسؤال تقديره؛ هل يعلم بواطن الاشياء فيهما؟ - او جواب لسؤال عن علة اثبات الحكم يعنى انه يعلم ظواهر ما فى العالم لانه هو الذى يصوركم { في الأرحام كيف يشآء } فهو يعلم بواطن الاشياء وما لم يوجد بعد فكيف لا يعلم ظواهرها التى وجدت فى العالم، ولا اختصاص للارحام بأرحام الامهات الجسمانية فان النفوس الحيوانية والبشريه ارحام للطيفة السيارة الانسانية التى يكون خطاب الله متوجها اليها بل المواد البعيدة من الحبوب واللحوم والبقول والفواكه التى تصير اغذية الاناسى والكيلوس والكيموس والدماء الجارية فى العروق والاعضاء والدماء المتشبهة بالاعضاء ارحام للنطف التى هى فى المراتب الجنينية ارحام للنفوس الحيوانية والبشرية واللطيفة الانسانية والمراتب العالية للنفس الانسانية كل بوجه رحم للاعلى منها ولذلك فسر البطن فيما ورد من، ان السعيد سعيد فى بطن امه؛ بالولاية، فان الانسان ما لم يدخل تحت الولاية التكليفية بالبيعة الخاصة الولوية وقبول الدعوة الباطنة حاله حال النطفة فى صلب الرجل وبعد الدخول فى الولاية بالبيعة الخاصة حاله حال النطفة المستقرة فى الرحم ولا يظهر السعادة والشقاوة الا بعد الدخول فى الولاية، ولذلك كان على (ع) قسيم الجنة والنار، ومن لم يدخل فى الولاية لا يخرج من الدنيا الا بعد عرض الولاية عليه وظهور على (ع) لديه حتى ينكر او يقبل؛ فيشقى او يسعد، روى عن الصادق(ع): ان الله اذا اراد ان يخلق خلقا جمع كل صورة بينه وبين آدم (ع) ثم خلقه على صورة احداهن فلا يقولن احد هذا لا يشبهنى ولا يشبه شيئا من آبائى، وفى حديث خلق الانسان وتصويره فى الرحم؛ ثم يبعث الله ملكين خلاقين يخلقان فى الارحام ما يشاء الله يقتحمان فى بطن المرأة من فم المرأة فيصلان الى الرحم وفيها يعنى فى النطفة الروح القديمة المنقولة فى اصلاب الرجال وارحام النساء فينفخان فيها روح الحياة والبقاء ويشقان له السمع والبصر وجميع الجوارح وجميع ما فى البطن باذن الله تعالى ثم يوحى الله الى الملكين: اكتبا عليه قضائى وقدرى ونافذا أمرى واشترطا لى البداء فيما تكتبان، فيقولان: يا رب ما نكتب؟ - قال: فيوحى الله عز وجل اليهما: ان ارفعا رؤسكما الى رأس أمه فيرفعان رؤسهما فاذا اللوح يقرع جبهة امه فينظران فيه فيجدان فى اللوح صورته وزينته واجله وميثاقه شقيا او سعيدا وجميع شأنه، قال: فيملى احدهما على صاحبه فيكتبان جميع ما فى اللوح ويشترطان فيه البداء فيما يكتبان ثم يختمان الكتاب ويجعلانه بين عينيه ثم يقيمانه قائما فى بطن امه قال: فربما عتا فانقلب ولا يكون ذلك الا فى كل عات او مارد، واذا بلغ او ان خروج الولد (الى ان قال) فيزجره الملك زجرة فيفزع منها الولد فينقلب فيصير رجلاه فوق رأسه ورأسه فى اسفل البطن ليسهل الله على المرأة وعلى الولد الخروج؛ الى آخر الحديث.
واقتحام الملكين من فم المرأة كناية عن دخولهما عن الجهة التى بها بقاء الام وهى الجهة الغيبية والا فلا جهة لدخول الملك وخروجه فى عالم الطبع لانه خارج عن الجهات فلا يتحدد بالجهات، وكتابة القضاء والقدر من اللوح القارع جبهة الام كناية عن استنباط احوال ما بالقوة عن المحل الذى تلك القوة فيه وتأثر ما بالقوة عن المحل بآثاره، واشتراط البداء لكون ما بالقوة قد يتأثر من الاسباب الخارجة عن المحل { لا إله إلا هو } حال او مستأنف فى موضع التعليل { العزيز } الذى لا يمنعه مانع عن تصوير ما يشاء فى الرحم { الحكيم } الذى لا يصوره الا بصورة اقتضاها استعداده وتستعقب مصالح عائدة اليها او الى العالم.
[3.7]
{ هو الذي أنزل عليك الكتاب } حال او مستأنف وبيان لحكمته، والكتاب هاهنا عبارة عن جملة ما سوى الله فان ما سواه كتابه كما مضى فى اول الكتاب، ونزوله عبارة عن ظهوره على مقام محمد (ص) مقامه النازل بصور مناسبة له فى ذلك المقام، او ظهوره على مقام رسالته (ص) بما أرسل به من الاحكام، او ظهوره بالالفاظ والعبارات والنقوش والكتابات التى هى كتابه التدوينى منه.
بيان المحكم والمتشابه
{ منه آيات محكمات } احكم الامر والبناء اتقنه بحيث لا يتطرق الانثلام والزوال اليه، واحكم الحكم اتقنه بحيث لا يتطرق المحو والنسخ اليه، واحكم اللفظ اتقنه بحيث لا يتطرق الاحتمال اليه، والمتشابه فى كل من هذه مقابل المحكم وكلما ورد من المعصومين (ع) ونقل من غيرهم فى بيان المحكم والمتشابه راجع الى هذه المعانى، والكتاب التكوينى الكبير آياته العقلانية والنفسانية من حيث وجوهها العقلانية محكماتها واصول متشابهاتها وآياته العينية الطبيعية والعلمية الملكوتية العالية والسافلة من حيث تطرق المحو والزوال اليها متشابهاتها، والكتاب التكوينى الانسانى المختصر من الكتاب الكبير؛ آياته الروحية والعقلية محكماته، وآياته النفسية والطبيعية متشابهاته، ومن حيث نشأته العلمية علومه العقلانية محكماته لعدم تطرق الزوال اليها وعدم تخلف معلوماتها عنها؛ لان معلوماتها من حيث انموذجاتها نفس تلك العلوم وعلومه النفسانية كلياتها وجزئياتها تصديقاتها وتصوراتها يقينياتها وظنياتها متشابهاته لانمحائها عن النفس ومغايرتها لمعلوماتها وجواز تخلف معلوماتها عنها ولذلك سميت بالظنون، ومن حيث افعاله الارادية جميع افعاله واقواله وخطراته ولماته متشابهاته لزوالها وعدم بقائها، ومن جهة اخرى ما كان صدورها عن الله تعالى ورجوعها اليه تعالى معلوما محكماته، وما كان صدورها من الله غير معلوم او صدورها من الشيطان معلوما متشابهاته، وهكذا حال ما كان رجوعه الى الله معلوما؛ وحال ما لم يكن رجوعه الى الله معلوما، ومن الاحكام التكليفية ما لم يتطرق النسخ اليه كان محكما، وما كان منسوخا او يتطرق النسخ اليه كان متشابها، وما كان عاما جاريا على كل مكلف كان محكما، وما كان خاصا غير جار على كل مكلف كان متشابها، ومن الكتاب التدوينى ما كان واضح الدلالة غير محتمل غير مدلوله او ما كان ناسخا او ما كان حكمه عاما او ما كان ثابتا غير منسوخ او ما كان متعين التأويل بعد تعين تنزيله كان محكما، وما كان خلاف ذلك كان متشابها، ولما كان على (ع) بجميع اجزائه محكوما بحكم الروح وراجعا الى الله ومتحققا بالارواح العالية ومخالفوه بعكس ذلك صح تفسير المحكمات بعلى (ع) والائمة (ع)، وتفسير المتشابهات بمخالفيهم كما ورد عن ابى عبد الله (ع) فى قوله تعالى: { منه آيات محكمات } ، ولما كان المحكمات اصلا وعمادا للكتاب قال: { هن أم الكتاب } ولم يقل امهات الكتاب مع ان قياس الحمل على الآيات يقتضى الجمع لانه تعالى فرض المجموع المسمى بالكتاب امرا وحدانيا وهذا الفرض يقتضى الوحدة فيما ينسب اليه لا الجمعية، ولان مجموع المحكمات من حيث الاجتماع يكون اصلا واحدا للكتاب وليس كل واحد منها اصلا برأسه { وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ } ميل عن الحق وانحراف عن جهة القلب والآخرة { فيتبعون } من العالم الكبير متشابهاته التى هى موجودات دار الدنيا وزينتها الزائلة الفانية بسرعة، والتى هى موجودات الملكوت السفلى وتمويهاتها، ومن العالم الصغير متشابهاته التى هى الشهوات الفانية الممزوجة بالآلام والادراكات الشيطانية والافعال والاقوال الزائغة او المشتبهة بالزائغة، ومن الاحكام مشتبهاتها الموافقة لآرائهم الكاسدة، او السائغة التأويل اليها، ومن القرآن المتشابهات الموافقة لاوهامهم او الجائزة التأويل اليها فهم يدعون المحكمات من الكتاب ويتبعون { ما تشابه منه ابتغاء الفتنة } شاعرين بالابتغاء او غير شاعرين؛ فان ابتغاء الفتنة كابتغاء مرضاة الله قد يكون من قصد اليه وقد يكون من غير قصد لان الواقعين فى دار النفس وجهنام الطبع لا يكون منهم الا افساد ارض العالم الصغير او الكبير واهلاك حرثها ونسلها وبكل فعل او قول منهم يشتد ذلك الافساد، وذلك الاشتداد هو الابتغاء للافساد سواء لم يكونوا شاعرين باصلاح وافساد او كانوا عالمين بانه افساد قاصدين له، او كانوا ظانين انهم مصلحون غير مفسدين كما تفوهوا وقال: { إنما نحن مصلحون } { وابتغاء تأويله } الى ما يوافق آرائهم { وما يعلم تأويله } جملة حالية على جواز دخول الواو على المضارع المنفى بما، او معطوفة والتأويل اما بمعنى المأول اليه او بمعناه المصدرى يعنى لا يعلم ما هو تأويله فى نفس الامر { إلا الله } اعلم ان تأويل الشيء بمعنى ارجاعه لا يصدق الا اذا اعيد الى ما منه بدئ، ولما كان مبدأ الكلمات الالهية التكوينية والتدوينية مقام ظهوره تعالى الذى هو مقام المشيئة لم يكن يعلم تأويلها بنحو الاطلاق الا الله { والراسخون في العلم } رسوخا تاما وهم الذين بلغوا الى مقام المشيئة وارتقوا عن مقام الامكان وهم محمد (ص) واوصياؤه الاثنا عشر لا غيرهم كما بلغ الينا، واما غيرهم من الانبياء والاولياء فلما لم يرتقوا عن مقام الامكان لم يعلموا تأويلها التام بل بقدر مقامهم وشأنهم، ولما كانت الكلمات بوجه ناشئة عن مقام الغيب صح ان يقال: لا يعلم تأويلها التام الا الله، واما الراسخون فى العلم فلا يعلمونه و { يقولون } من باب التسليم { آمنا به } وعلى هذا فالوقف على الا الله وقوله الراسخون فى العلم ابتداء جملة اخرى فصح ان يقال: لا يعلم تأويل القرآن الا الله، او يقال: علم تأويل القرآن منحصر فى النبى (ص) والائمة (ع) ولا يعلمه غيرهم، او يقال: علمه منحصر فيهم وفى خواص شيعتهم، وقد اشير الى كل من هذه فى الاخبار { كل } من المحكم والمتشابه { من عند ربنا } فى خبر نحن الراسخون فى العلم، وفى رواية: فرسول الله (ص) افضل الراسخين، وفى خبر: ان الراسخين فى العلم من لا يختلف فى علمه، وفى خبر، ثم ان الله جل ذكره بسعة رحمته ورأفته بخلقه وعلمه بما يحدثه المبدلون من تغيير كلامه قسم كلامه ثلاثة اقسام: فجعل قسما منه يعرف العالم والجاهل، وقسما لا يعرفه الا من صفا ذهنه ولطف حسه وصح تميزه ممن شرح الله صدره للاسلام، وقسما لا يعرفه الا الله وانبياؤه والراسخون فى العلم، وانما فعل ذلك لئلا يدعى اهل الباطل من المستولين على ميراث رسول الله (ص) من علم الكتاب ما لم يجعله لهم، وليقودهم الاضطرار الى الايتمار عن ولاة امرهم فاستكبروا عن طاعته تعززا وافتراء على الله عز وجل واغترارا بكثرة من ظاهرهم وعاونهم وعاند الله جل اسمه ورسوله { وما يذكر } ان فى الكتاب محكما ومتشابها، وان المتشابه لا يعلمه الا الله او من كان خليفة لله، وان الكتاب لا يتصور ايجاده وانزاله الا بالاشتمال على المتشابه.
بيان صيرورة الانسان ذالب
{ إلا أولوا الألباب } الذين صارت اعمالهم وعلومهم ذوات الباب بتعقيد قلوبهم على الولاية على ايدى اولياء الامر كما مضى وهو معطوف من الله الحاكى على المحكى من قولهم، او هو من المؤمنين القائلين، والاشكال بأن الإتيان بالكلام المتشابه المحتمل الوجوه غير ظاهر المرام ليس من دأب الحكيم ليس فى محله: لان المعنى ان كان من جنس المحسوسات ومما يدركه العوام يمكن الاتيان بالكلام نصا فى المرام وما يمكن الاتيان به غير محتمل لغيره قد يؤتى به لاغراض صحيحة عقلانية محتمل الوجوه العديدة وقد عدوا الاتيان بالكلام محتمل الوجهين او الوجوه من محسنات الكلام وان كان من الامور الغيبية التى لا شبيه لها فى هذا العالم فانها بمقدراتها ومجرداتها نورانية وما فى هذا العالم بجملتها ظلمانية ولا مناسبة بوجه من الوجوه بين النورانى والظلمانى بل النورانى اذا ظهر افنى الظلمانى ولذلك قال تعالى: و
لو أنزلنا ملكا لقضي الأمر
[الأنعام: 8] ي لان الموجودات النورانية اذا ظهرت فى هذا العالم بوجوداتها افنت ما فيها لا يمكن التعبير عنها الا بالامثال، والتصوير بالامثال لا يمكن الا بالعبارات المتشابهة المحتاجة الى التأويل كالرؤيا المحتاجة الى التعبير فانها تصوير ما فى ذلك العالم عند المدارك الاخروية بالامثال وليست الا محتاجة الى التعبير ولا يجوز ذلك التأويل وهذا التعبير الا من بصير ناقد بوجوه المناسبة بين الامثال والممثل لها نسب الى امير المؤمنين (ع) انه قال: اعلم ان الراسخين فى العلم هم الذين اغناهم الله عن الاقتحام فى السدد المضروبة دون الغيوب فلزموا الاقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب فقالوا: { آمنا به كل من عند ربنا }؛ فمدح الله عز وجل اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما وسمى تركهم التعمق فيما لم يكلفهم البحث عنه منهم رسوخا فاقتصر على ذلك ولا تقدر عظمة الله على قدر عقلك فتكون من الهالكين.
[3.8]
{ ربنا لا تزغ قلوبنا } عن الاستقامة على طريق الاعتراف بالعجز فيما لا نعلم وترك التصرف فى المتشابه الذى لا نعلم تأويله والاقرار بأنه من عند الله الى التصرف فيما لا نعلم والتفوه بالآراء وتأويل المتشابه من عند انفسنا واتباع ما يوافق منه اهواءنا { بعد إذ هديتنا } الى التسليم وترك الاستبداد بالاراء بقبول الولاية والبيعة الخاصة { وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب } سألوا الابقاء على التبرى وازدياد التولى، والهبة الاعطاء من غير عوض وهذا المعنى على التحقيق خاص بالله او من تخلق باخلاقه، عن الكاظم (ع) ان الله قد حكى عن قوم صالحين انهم قالوا { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب } ، حين علموا ان القلوب تزيغ وتعود الى عماها ورداها انه لم يخف الله من لم يعقل عن الله، ومن لم يعقل عن الله لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة يبصرها ويجد حقيقتها فى قلبه، ولا يكون احد كذلك الا من كان قوله لفعله مصدقا وسره لعلانيته موافقا لان الله لم يدل على الباطن الخفى من العقل الا بظاهر منه وناطق عنه.
[3.9]
{ ربنآ إنك جامع الناس ليوم } اى فى يوم او لحساب يوم { لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد } تعليل لقوله تعالى: { لا ريب فيه } او لقوله تعالى { إنك جامع الناس } ، والميعاد وقت الوعد او محله.
[3.10]
{ إن الذين كفروا } ابتداء كلام من الله منقطع عن سابقه، ويجوز ان يكون من جملة مقول المؤمنين تعليلا للسابق والمراد بالكفر الكفر بالولاية فان الآية تعريض بالامة ويدل عليه قوله تعالى كذبوا بآياتنا { لن تغني عنهم } اغنى زيدا عن عمر وجعله غنيا عن الاحتياج الى عمرو، واغنى العذاب عن زيد جعل العذاب غنيا عن الاحتياج الى زيد كأن العذاب محتاج اليه فى وروده فجعله غنيا عنه كناية عن دفعه عنه فالمعنى لن تدفع عنهم { أموالهم ولا أولادهم من الله } حال عن قوله تعالى { شيئا } اى لن تدفع شيئا حال كونه نازلا من الله { وأولئك هم وقود النار } فى الجحيم كما انهم فى الدنيا وقود نار الغضب والحرص والحسد وغيرها.
[3.11-12]
{ كدأب آل فرعون } اى شأنهم وديدنهم وهو متعلق بلن تغنى، او بوقود النار، او خبر لمحذوف { والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا } بالرسل واوصيائهم وسائر الآيات { فأخذهم الله } التفات من التكلم الى الغيبة لان المؤاخذة لا تكون الا فى المظاهر الدانية لله بخلاف الآيات فانها منسوبة اليه تعالى باعتبار المقام العالى { بذنوبهم والله شديد العقاب قل } يا محمد (ص) { للذين كفروا ستغلبون } فى الدنيا وحال الموت وفى البرازخ وفى المحشر { وتحشرون } بعد الانتهاء الى المحشر { إلى جهنم وبئس المهاد } نسب الى الرواية انه لما اصاب رسول الله (ص) قريشا ببدر وقدم المدينة جمع اليهود فى سوق قينقاع فقال:
" يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش يوم بدر وأسلموا قبل ان ينزل بكم ما نزل بهم فقد عرفتم انى نبى مرسل تجدون ذلك فى كتابكم فقالوا: يا محمد (ص) لا يغرنك انك لقيت قوما اغمارا لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة اما والله لو قاتلتنا لعرفت انا نحن الناس "
فأنزل الله هذه الآية وقد فعل الله ذلك بهم وصدق وعده بقتل بنى قريظة واجلاء بنى النضير وفتح خيبر ووضع الجزية على من بقى منهم وغلب المشركين وهو من دلائل النبوة.
[3.13]
{ قد كان لكم } ايها اليهود او مطلق الكفار او مطلق الناس من المسلمين والكفار { آية } علامة دالة على صدق محمد (ص) فى رسالته { في فئتين التقتا } ببدر { فئة } قليلة عددهم ثلاثمائة وثلاثة عشر { تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة } كثيرة عددهم قريب من الالف وهم مشركوا مكة { يرونهم } الفاعل راجع الى الفئة المسلمة او الكافرة والمفعول اما راجع الى مرجع الفاعل او الى مقابله وهكذا ضمير قوله تعالى { مثليهم } راجع الى مرجع الفاعل او مقابله والكل صحيح بحسب المعنى وبحسب اللفظ فان المسلمين رأوا المشركين قليلين ليجترؤا عليهم ولعلهم رأوهم قبل الغزو كثيرين ليلتجئوا الى الله ولا يتكلوا على عددهم وقوتهم، والمشركين رأوا المسلمين قليلين قبل الغزو ليقدموا على المقاتلة ثم رأوهم كثيرين حين الغزو ليجنبوا ويهزموا { رأي العين } لا رأى الخيال { والله يؤيد بنصره من يشآء إن في ذلك } التقليل والتكثير والغلبة من القليل على الكثير { لعبرة لأولي الأبصار } المدركة من الاشياء ما يعتبرون به ولما صار المقام مقام ان يسأل ما كان سبب توقف الناس عن القبول بعد وضوح الآيات اجاب بانه { زين للناس }.
[3.14]
{ زين للناس } اى ذوى النسيان لا الانسان { حب الشهوات } الشهوة هى المحبة النفسانية والحب اعم منها، وتزيين الشيء اراءته بحيث يكون مرغوبا فيه للرائى وتعليق التزيين على الحب للاشارة الى ان تزين الشيء وتزيينه ليس الا من حيث نفس الحب لا من حيث شيء آخر ولا من حيث خصوصيات المحبة من كونها شهوة او حبا الهيا او عشقا او شوقا، واضافة الحق الى الشهوات للاشارة الى ان المانع من الاعتبار هو الحب الحاصل فى ضمن الشهوة وعلى هذا فالحب والشهوة على معانيهما المصدرية وقوله تعالى { من النساء } حال من الشهوات ولفظة من ابتدائية وتقديم النساء لكونهن اتم فى الاشتهاء من سائر المشتهيات { والبنين } بل مطلق الاولاد لكن لكراهة بعض النفوس للبنات على الاطلاق وكراهة بعضها لهن قبل وجودهن ونموهن لم يذكرهن فى المشتهيات { والقناطير } جمع القنطار وهو اربعون وقية من الذهب، او الف ومائتا دينار، او ثمانون الف درهم، او مئة رطل من ذهب، او فضة، او الف ومائتا اقية او سبعون الف دينار او ملء مسك ثور ذهبا او فضة { المقنطرة } التامة المكملة { من الذهب والفضة والخيل المسومة } المرعاة او المعلمة او الحسنة من السيماء { والأنعام } الثلاثة البقر والغنم والابل { والحرث } الكسب او جمع المال او الزرع { ذلك متاع الحياة الدنيا } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: ما حالها؟ - ومتى يكون التمتع بها؟ - وما لمن تركها؟ - { والله عنده حسن المآب } لمن تركها.
[3.15]
{ قل } يا محمد (ص) للترغيب عنها والتحريص فيما عند الله { أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم } للذين اتقوا خبر مقدم والجملة بيان للخير مع الزيادة ولذا لم يأت باداة الوصل او هو مثل سابقه معلق بخير و { جنات } مرتفع خبرا لمبتدء محذوف { تجري من تحتها الأنهار } اى من تحت عماراتها او من تحت اشجارها او من تحت طبقاتها فان الجنة اذا كانت ذات طبقات ويجرى تحت كل طبقة نهر كانت احسن منظرا { خالدين فيها } فان تمام النعمة بان لا تزول { وأزواج مطهرة } مما يستقذر من النساء من الاحداث والاخباث وكثافات الاخلاط ومما يستكره من رذائل الاخلاق { ورضوان من الله } الرضوان بالكسر والضم مصدر ورضوان الله أخر مقامات النعم لا نعمة فوقه وهو يستلزم رضى العبد عن الله، وفى تقدم رضا الله عن العبد على رضا العبد عن الله او تأخره مثل سائر صفات الله الظاهرة فى العباد اشكال وقد تقدم فى اول سورة البقرة فى بيان توابيته تعالى بيان لذلك وقد اشار تعالى الى مراتب النعم؛ اوليها اصناف متاع الحيوة الدنيا، وثانيتها الجنات الصورية، وثالثتها الازواج المطهرة، ورابعتها رضوان الله وليس فوقه مقام { والله بصير بالعباد } فيبصر مقام كل ودرجات شقاوته او سعادته فيجزى كلا بحسبها.
[3.16]
{ الذين يقولون } بلسان حالهم او لسان قالهم فان المتقى لتعلقه بالله بسبب قبوله الولاية يضطر الى قول ربنا حالا وقالا ولذلك جعله بيانا للذين اتقوا، ويجوز ان يكون مقطوعا بالرفع او النصب للمدح فعلى هذا كان شأن الذين اتقوا ان يقولوا { ربنآ إننآ آمنا } كأن مقصودهم من اظهار الايمان عرض حالهم عليه تعالى لا المنة بايمانهم فان عرض الحال من العباد مرغوب كما ان المنة بالاعمال مكروهة وتمهيد لسؤال المغفرة والحفظ من النار { فاغفر لنا ذنوبنا } فان ظهور الذنوب علينا شين لنا وشين لصاحبنا { وقنا عذاب النار } لان ايلامنا ايلام صاحبنا.
[3.17]
{ الصابرين } وصف آخر للمتقين { والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار } توسيط العاطف بين الاوصاف لتعدد مباديها، وللاشارة الى استقلال كل وانفراده بالمدح او الذم او غير ذلك من الاغراض، والصبر أقدم صفات الايمان ولذا ورد انه من الايمان كالرأس من الجسد، وبه يحصل الصدق الذى هو الاستقامة فى الاقوال والافعال والاحوال، وبالاستقامة المذكورة يتم الطاعة التى هى القنوت وبتمام الطاعة يسهل الانفاق الذى هو بذل فعليات النفس، وبه يحصل القرب من يوم الدين والدخول فى سحر يوم الدين وستر مساوى ليل الطبع، ولما كان التكليف مطابقا للتكوين والظاهر عنوانا للباطن كلف الله العباد بالاستغفار اللسانى فى اسحار ليالى الطبع منفردا او فى مطلق الصلاة او فى صلاة الوتر.
[3.18]
كيفية شهادة الله بانه لا اله الا هو
{ شهد الله } كلام منقطع عما قبله والشهادة حفظ القضية المشهودة او ما فى حكمها او الاخبار بها واخبار الله بالتوحيد لجملة الاشياء عبارة عن خلقها مفطورة على التوحد واقتضاء التوحد مع ما يجاورها وهذا اخبار من الله لها عن توحد صانعها ووحدته واحديته واخباره تعالى بالتوحيد لذوى العقول فى مقام العلم بخلق الآيات الآفاقية وجعلها بحيث يدركها العقول الصافية دالة على وحدة خالقها وخصوصا الآيات الكبرى الدالة بالسنة اقوالهم واحوالهم على التوحيد المشار اليه بقوله تعالى:
سنريهم آياتنا في الآفاق
[فصلت:53] وبانشاء الآيات الانفسية وجعلها دالة على وجود الحق وصفاته المشار اليه بقوله تعالى:
وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق
[فصلت:53] وفى مقام المشاهدة بظهوره تعالى فى كل شيء وفيء المشار اليه بقوله تعالى
أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد
[فصلت:53] { أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم } بذواتهم والسنة احوالهم، واقوالهم ويجوز ان يكون عطفا على المستثنى بحيث لا يكون منافيا للتوحيد ولا مستلزما لتعدد الآلهة، وقوله تعالى: { قآئما بالقسط } قائم بالمجموع او بالله معنى وهو بحسب الاعراب صفة لاسم لا او حال عن المستثنى او المستثنى منه والمعنى شهد الله كافيا للخلق بسبب القسط او مقيما للقسط وقول الباقر (ع) ان اولى العلم الانبياء (ع) والاوصياء (ع) وهم قيام بالقسط يؤيد قيامه بالمجموع، ولرفع توهم تعدد الآلهة على احتمال عطف الملائكة على المستثنى اكد التوحيد بقوله تعالى { لا إله إلا هو } من دون عطف كأنه قيل: يلزم من ذلك تعدد الآلهة المنافى للتوحيد فقال: لا اله الا هو لان آلهة الملائكة واولى العلم ليست الا ظهور آلهة الله وليست آلهتهم مغايرة حتى يلزم تعدد الآلهة { العزيز } الغالب الذى لا مجال لالهة غيره معه { الحكيم } الذى لا يجعل احدا مظهرا لالهيته الا بحكم ومصالح.
[3.19]
{ إن الدين } له معان والمراد به هاهنا الطريق الى الآخرة والى الله { عند الله الإسلام } يعنى بعد ظهور الاسلام انحصر الطريق الى الله فى الاسلام وانقطع ما كان حقا من سائر الاديان وقد مضى بيان للاسلام والايمان فى اول سورة البقرة { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب } من اليهود والنصارى فى حقيته او فى انحصار الدين فيه { إلا من بعد ما جآءهم العلم } بظهوره وبعثة محمد (ص) الاتى به يعنى كانوا متفقين على حقية محمد (ص) ودينه وانحصار الدين فى دينه قبل مبعثه الى ان بعث وايقنوا انه النبى الموعود فاختلفوا فى حقيته بان اقر بعض وانكر بعض بعد يقينهم ببعثته { بغيا بينهم } استطالة وطلبا للرئاسة فى اهل ملتهم او طلبا للمآكل المقررة لهم فى اهل ملتهم { ومن يكفر } حال او عطف { بآيات الله } التدوينية والتكوينية كآيات التوراة والانجيل الناطقة بحقية دين الاسلام وصدق محمد (ص) وآيات القرآن الدالة على حقيته وحقية وصيه وكمحمد (ص) وعلى (ع) واولادهما (ع) فان الله يعذبه على كفره لانه لا يدع عملا بلا جزاء ولا يفوته كفر الكافر { فإن الله سريع الحساب } وعيد لمن كفر منهم ومن يكفر بعلى (ع) بعد محمد (ص) من امته.
[3.20]
{ فإن حآجوك } فى حقية الاسلام او فى انحصار الدين فيه { فقل } الاسلام اخلاص الوجه لله و { أسلمت } اى اخلصت عن الشرك والخديعة او سلمت { وجهي لله } بسبب الاسلام وهذا وصف لا ينكره احد فلا وجه لمحاجتكم لى فى دين الاسلام والمراد بالوجه الذات فان شيئية الشيء بصورته لا بمادته وصورة كل شيء فعليته الاخيرة، وفعليته الاخيرة ما به توجهه كما ان وجه البدن ما به توجهه { ومن اتبعن } عطف على الضمير المرفوع ولم يؤكد بالضمير المنفصل للفصل بينه وبين المعطوف عليه او عطف على الله اى أخلصت وجهى لله ولمن اتبعن، او سلمت وجهى الى الله والى من اتبعن، فان المسلم والمؤمن له وجهان وجه الى الله ووجه الى الخلق، والاسلام كما يقتضى اخلاص الوجه لله وتسليمه اليه يقتضى اخلاص الوجه لخلق الله وتسليمه اليهم { وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين } الذين لا كتاب لهم ولا نبى يعنى الذين ما حصل لهم من الكمالات الانسانية شيء سوى الانتساب الى الام { أأسلمتم } يعنى بعد ما ذكرت لهم ان الاسلام يقتضى اخلاص الوجه لله وهو وصف مطلوب لكل عاقل صار المقام مقام السؤال عن اتصافهم بالاسلام والمعنى اصرتم مسلمين او مخلصين وجوهكم لله { فإن أسلموا } صاروا مسلمين او مخلصين وهو تهييج لهم على الاسلام { فقد اهتدوا } لان الاسلام اهتداء ووصول الى طريق الايمان، واخلاص الوجه لله اهتداء الى الكمالات الانسانية { وإن تولوا } عن الاسلام او اخلاص الوجه فليس عليك وباله { فإنما عليك البلاغ } اى التبليغ وقد بلغت وليس عليك قبولهم حتى يكون وبال عدم قبولهم عليك، والبلاغ اسم مصدر من الابلاغ او التبليغ { والله بصير بالعباد } فيجازى كلا بعمله؛ وعد ووعيد.
[3.21]
{ إن الذين يكفرون بآيات الله } استئناف بيانى جواب لسؤال مقدر { ويقتلون النبيين بغير حق } للتبيين لا للتقييد { ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس } اى اتباع الانبياء والمبتاعين بالبيعة الخاصة فان البائع بالبيعة الخاصة يأمر بالقسط البته ولو فى مملكة وجوده { فبشرهم بعذاب أليم } نزلت فى بنى اسرائيل الذين قتلوا ثلاثة واربعين نبيا من اول النهار فى ساعة واحدة فقام مائة رجل واثنا عشر رجلا من عباد بنى اسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا فى آخر النهار فى ذلك اليوم، هكذا روى عن رسول الله (ص) لكن الآية جارية فى كل من كان مثلهم وسنخهم وكل من قتل نبيه الباطنى واتباعه وان لم يقتل نبيا فى الخارج ولا تابعا لنبى، وتعريض بمن تعرض لقتل الائمة واتباعهم بعد وفاة الرسول (ص).
[3.22]
{ أولئك الذين حبطت } بطلت وذهبت { أعمالهم }.
اعلم ان العمل مقابل العلم عبارة عما يظهر على الاعضاء مسبوقا بقصد من العامل قولا كان او فعلا او ما يصدر من النفس فى الباطن من المجاهدات الباطنية، وكل منهما لا يبقى بنفسه لكن النفس تتجوهر بكيفية تكون مصدرا لهما ثم تتزايد تلك الكيفية منهما وتكون تلك الكيفية باقية معها فى الدنيا والآخرة وثمرتها فى الدنيا الخلاص من عذاب الاوصاف الرذيلة وفى الآخرة التلذذ بالامور الاخروية وبمناجاة الله، وبعبارة اخرى النفس تتكيف منهما بجهتيها، جهتها الدنيوية التى يحصل بها للانسان الاضافة الى الخلق وجهتها الاخروية التى بها يحصل الاضافة الى عالم الارواح، وثمرة كيفية جهتها الدنيوية الفراغ من رذائل تلك الاضافة ومتاعبها، وثمرة كيفية جهتها الاخروية التلذذ بالامور الاخروية وبمناجاة الله؛ وعلى هذا فقوله تعالى: { في الدنيا والآخرة } حال من اعمالهم او ظرف للحبط { وما لهم من ناصرين } يدفعون عنهم العذاب الذى تبشرهم به.
[3.23]
{ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب } الم تر الى كذا كلمة تعجب وتعجيب، والرؤية اعم من رؤية البصر ورؤية القلب، ونزول الآية ان كان فى احبار اليهود فهى جارية فى كل من أقر بشريعة وكتاب ثم اعرض عن شريعته وكتابه فان الكتاب عبارة عن احكام الرسالة والنبوة، والكتب التدوينية السماوية صورة تلك الاحكام وظهورها، والمنظور منافقوا الامة حيث أقروا بمحمد (ص) وشريعته وكتابه واعرضوا عن كتابه بعد وفاته { يدعون إلى كتاب الله } حال او جواب لسؤال مقدر، وان كان المراد به التوراة فالتعريض بالامة والقرآن { ليحكم بينهم } قرئ بفتح الياء وضمها وفتح الكاف { ثم يتولى فريق منهم } عن كتاب الله عطف على يدعون والاتيان باداة التراخى اشارة الى ان التولى وقع منهم بعد الدعاء الى الكتاب بمهلة فانه (ص) على ما قيل دخل مدرسهم ودعاهم الى الاسلام فقالوا: على اى دين انت؟ - قال: على ملة ابراهيم (ع) فقالوا: ان ابراهيم كان يهوديا، فقال: ان بيننا وبينكم التوراة فأبوا من الرجوع اليها بعد محاجات وقعت بينهم، ونسب فى مجمع البيان الى ابن عباس انه قال: ان رجلا وامرأة من اهل خيبر زنيا وكانا ذوى شرف فيهم وكان فى كتابهم الرجم فكرهوا رجمهما لشرفهما ورجوا ان يكون عند رسول الله (ص) رخصة فى امرهما، فرفعوا أمرهما الى رسول الله (ص) فحكم عليهما بالرجم فقالوا جرت يا محمد ليس عليهما الرجم فقال (ص): بينى وبينكم التوراة، قالوا قد أنصفتنا قال: فمن أعلمكم بالتوراة؟ - قالوا: ابن صوريا ساكن فدك فارسلوا اليه فقدم المدينة وكان جبرئيل قد وصفه لرسول الله (ص) الى ان قال فدعا رسول الله (ص) بشيء من التوراة فيها الرجم مكتوب فقال له: اقرء فلما اتى على آية الرجم وضع كفه عليها وقرأ ما بعدها فقال ابن سلام يا رسول الله قد جاوزها وقام الى ابن صوريا ورفع كفه عنها ثم قرأ على رسول الله (ص) وعلى اليهود بان المحصن والمحصنة اذا زنيا وقامت عليهما البينة رجما، فأمر رسول الله (ص) باليهوديين فرجما، فغضب اليهود وأنكروا على ابن صوريا فأنزل الله هذه الآية { وهم معرضون } والحال ان سجيتهم الاعراض عن الحق مطلقا.
[3.24]
{ ذلك } التولى والاعراض { بأنهم } سهلوا على أنفسهم عقوبة الآخرة و { قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات } قيل يعنى عدد ايام عبادة اسلافهم العجل اربعين يوما او سبعة ايام وقيل اياما منقطعة { وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون } من انقطاع العذاب او قولهم:
نحن أبناء الله وأحباؤه
[المائدة: 18] ، او ان ابائهم الانبياء يشفعون لهم، او ان الله وعد يعقوب ان لا يعذب اولاده.
[3.25]
{ فكيف } حالهم تهويل لهم وتفخيم لعذابهم { إذا جمعناهم ليوم } فى يوم او لمجازاة يوم { لا ريب فيه } لا ينبغى الريب فيه روى ان اول راية ترفع يوم القيامة من رايات الكفار راية اليهود فيفضحهم الله على رؤس الاشهاد ثم يأمر بهم الى النار { ووفيت كل نفس ما كسبت } اديت اليها تمام ما كسبت على تجسم الاعمال او تمام جزاء ما كسبت { وهم لا يظلمون } بنقص ثواب او زيادة عقاب.
اعلم ان النفوس البشرية تكسب فعلية من الاعمال البدنية والرياضات النفسية وتلك الفعلية ليست كيفية عرضية كما يظن بل هى شأن جوهرى من شؤن النفس على ما حقق فى الفلسفة من الحركات الجوهرية وذلك الشأن ان يبق للنفس بعد رفع حجب الطبع بالموت الاختيارى او الاضطرارى يتمثل بصورة موافقة له مملوكة للنفس وهذا معنى تجسم الاعمال ويتفضل الله على صاحبها بمثل تلك الصورة او يضعف عذابها بمثلها على اختلاف الكسب وهذا احد وجوه الجنتين فى قوله تعالى:
ولمن خاف مقام ربه جنتان
[الرحمن: 46] واحد وجوه قوله لكل ضعف { ولكن لا تعلمون } والتوفية تأدية تمام ما ينبغى ان يؤدى وعلى هذا جاز ان يقال أعطاه الله نفس ما كسبت وان يقال أعطاه الله جزاء ما كسبت وحبط الاعمال ومحو السيئات عبارة عن بطلان تلك الفعلية وانمحاؤها عن صفحة النفس، وتبديل السيئات حسنات عبارة عن تسخير تلك الفعلية للعاقلة بعد ان كانت مسخرة للشيطان والعفو عن السيئات وغفرانها عبارة عن بقاء تلك الفعلية مع سترها عن الانظار وعدم تمثلها وعدم ظهورها بصورة مناسبة لها.
[3.26]
{ قل اللهم } اصله يا الله حذف اداة النداء واتى بالميم المشددة فى الآخر عوضا عنها تعظيما لاسمه الشريف ان يؤتى بصورة النداء وتفخيما للفظه واشعارا باشتداد المحبة فان شدة الحب كشدة الغضب تقتضى التشديد فى اللفظ وقيل اصله يا الله ام بخير فخفف بحذف حرف النداء وهمز القطع وعدم التفوه بهذا الاصل وعدم اجتماع الميم مع حرف النداء دليل الاول { مالك الملك } صفة اللهم او منادى بحذف حرف النداء والاتيان به قبل الحكم للبراعة، وليكون مشعرا بعلة الحكم، والمراد بالملك عالم الملك المقابل للملكوت ويقال لعالم الطبع عالم الملك لانه ليس فيه الا حيثية المملوكية بخلاف الملكوت والجبروت لان فيهما حيثية المالكية اظهر من حيثية المملوكية والملك بتثليث الميم وبالفتحتين وبالضمتين ما تملكه وتستبد بالتصرف فيه، او المراد به مطلق عالم الامكان من الملك والملكوت والجبروت، او مطلق مراتب العالم الصغير والكبير حتى يشمل ملك القلوب ودولة الرسالة والنبوة وخلافتهما { تؤتي الملك } حال او مستأنف جواب لسؤال مقدر او مستأنف للمدح والمراد بالملك الثانى اما عين الاول كما هو المتبادر من تكرار المعرفة، او المراد به بعض معانى الاول { من تشآء } ان تؤتيه من غير مانع وعجز { وتنزع الملك ممن تشآء وتعز من تشآء } اعزازه والعزة هاهنا مقابل الذلة والمراد به اما عز الملك فيكون تأكيدا لمفهوم الاول، او غير العزة اللازمة للملك فيكون تأسيسا { وتذل من تشآء بيدك } لا بيد غيرك جنس { الخير } او جميع انواعه وافراده وهذه الجملة حال او مستأنف جوابا لسؤال مقدر او لمدح وتخصيص الخير بالذكر اما لكون المقام للترغيب فيما عنده والمناسب له ذكر الخير، او لان الشر عدمى راجع الى العدم والعدم لا شيء محض لا يجرى عليه حكم الشيء { إنك على كل شيء قدير } تعميم بعد تخصيص والجملة كالجمل السابقة فى الاعراب.
[3.27]
{ تولج الليل في النهار } وهذه كالجمل السابقة فى الاعراب والمراد بايلاج الليل فى النهار ايلاج بعضه بنقصان الليل والزيادة فى النهار، او المراد تعقيبه للنهار فيكون المراد ايلاج الليل مكان النهار ولا اختصاص لليل بليل الزمان بل يشمله ويشمل عالم الارواح الخبيثة وعالم الطبع ومادة الانسان وطبيعته ومرضه وغمه وألمه ورذائله وكفره وجهله، وذكر هذه بعد تعميم القدرة للاشارة الى صعوبتها كأنها معدودة من الممتنعات الغير المقدور عليها فانها جمع بين الاضداد { وتولج النهار في الليل } هذه تعلم بالمقايسة { وتخرج الحي من الميت } الحيوان من الجماد، او المؤمن من الكافر، او العالم من الجاهل، او النفس الانسانية من النفس الحيوانية، او النفس الحية من الطبع الميت، او الباقى من الفانى، فان فناء الانسان موت حقيقى له وبقاءه بعد الفناء حياة حقيقية بحياة الله تعالى، او المراد تميز الحى من الميت بالمعانى السابقة { وتخرج الميت من الحي } تعلم هذه بالمقايسة { وترزق من تشآء بغير حساب } ذكر هذه بعد تعميم القدرة لاقتضاء مقام الترغيب فيما عنده التكرير والتأكيد بامثاله.
[3.28]
{ لا يتخذ المؤمنون الكافرين أوليآء } اى اولياء المودة او اولياء التصرف { من دون المؤمنين } قد مضى بيان معنى من دون فى اول البقرة عند قوله
وادعوا شهدآءكم
[البقرة: 23] وان دون بمعنى الغير ولفظة من للتبعيض والظرف مستقر حال والمعنى حال كون الكافرين بعضا من غير المؤمنين والتقييد به للاشعار بعلة الحكم ولتحريك الغيرة فى المؤمنين، وقيل فى مثله اشياء اخر { ومن يفعل ذلك } اى اتخاذ الكافرين اولياء { فليس من الله في شيء } اى ليس فى شيء من النسب والولايات حال كونها ناشئة من الله او ليس فى شيء من المراتب والمعارج حال كونها بعضا من الله لان الله ذو المعارج { إلا أن تتقوا } استثناء مفرغ من قوله: { لا يتخذ المؤمنون } ، او من قوله: { ومن يفعل ذلك } اى الا لان تتقوا، او فى ان تتقوا، وفى الكلام التفات من الغيبة الى الخطاب { منهم } اى من شرهم واضرارهم { تقاة } قرئ بكسر القاف والياء المشددة وبفتح القاف والالف وهو مفعول مطلق او مفعول به فى معنى اسم المفعول يعنى ان خاف احد من الكافرين على نفسه او ماله او عياله او عرضه او اخوانه المؤمنين جاز له اظهار الموالاة مع الكافرين مخالفة لما فى قلبه لا انه يجوز مولاتهم حقيقة فان التقية المشروعة المأمور بها ان تكون على خوف من معاشرك ان اطلع على ما فى قلبك فتظهر الموافقة له بما هو خلاف ما فى قلبك ولا اختصاص لها بالكافر فانه ذكر فى حديث انه ذكر التقية عند على بن الحسين (ع) فقال: لو علم ابو ذر ما فى قلب سلمان لكفره { ويحذركم الله نفسه } فلا تتجاوزوا فى موالاتهم عن موضع الرخصة { وإلى الله } لا الى غيره { المصير } فلا ينبغى الموالاة لغيره ولا الحذر من غيره الا باذنه.
[3.29]
{ قل إن تخفوا ما في صدوركم } من المودة للكافرين وغيرها { أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض } تعميم بعد تخصيص { والله على كل شيء قدير } فيقدر على اعزازكم من دون موالاة الكافرين واذلالكم بموالاتهم فلا تتعرضوا لما نهاكم عنه ظنا منكم ان عزتكم تحصل منه.
[3.30]
{ يوم تجد } ظرف لتود او لقدير على معنى ظهور قدرته فى ذلك اليوم، او ليعلم ما فى السماوات، او ليعلمه الله على هذا المعنى، او لاذكر مقدرا { كل نفس } خيره وشريره { ما عملت } صورة ما عملت على تجسم الاعمال كما سبق تحقيقه او جزاء ما عملت او صحيفة ما عملت { من خير محضرا وما عملت من سوء } عطف على ما عملت من خير او لفظة ما شرطية وجملة { تود } جزاؤها وارتفاعه لكون الشرط ماضيا غير ظاهر فيه الجزم، او لفظة ما موصولة متضمنة لمعنى الشرط مبتدأ خبره جملة تود { لو أن بينها وبينه أمدا } غاية { بعيدا } ولفظة لو هذه مصدرية محذوفة الفعل او شرطية محذوفة الفعل والجواب اى لو ثبت ان بينها وبينه امدا بعيدا تود ذلك { ويحذركم الله نفسه } كرره للتوكيد والتذكير والتطويل فى مقام التهديد { والله رؤوف بالعباد } ولذا لا يعجل العقوبة للمسيئين ويحذرهم رأفة بهم جمع بين صفتى اللطف والقهر للترهيب والترغيب.
[3.31]
{ قل } ابتداء خطاب للهداية الى حق وصواب { إن كنتم تحبون الله } جملة شرطية وفعل الشرط محبة العباد مقيدة بالانتساب الى الله والتمكين فيها المستفاد من تخلل قوله (كنتم) فان الاتيان بلفظ كان فى امثال المقام للاشارة الى الاستمرار وكون الفعل كالسجية ومفهوم مخالفته انتفاء المحبة المتعلقة بالله الصائرة كالسجية وانتفاؤها اما بانتفاء المقيد او بانتفاء كل من القيدين { فاتبعوني } جزاء للشرط المذكور { يحببكم الله } جزاء للشرط المقدر المستنبط من الاتباع اللازم للمحبة المقيدة المذكورة والمقصود ان محبوبيتكم لله لازمة لاتباع الرسول (ص) بعد المحبة الثابتة الراسخة لله فمن لم يكن له محبة كأكثر اهل الجبال والرساتيق والاكراد والأعراب وغيرهم ممن لا يعرفون من المحبة الا حب المأكول والمشروب والوقاع، او كان له محبة ما؛ لكن كان محبته للارواح الخبيثة فقط او للارواح الخبيثة والطيبة شاعرا بان محبته للارواح الخبيثة كالابليسية والكهنة والثنوية يعنى المحققين المكاشفين منهم او غير شاعر كالهنود المرتاضين بالمخالفات الشرعية الظانين ان عالم الارواح واحد وقالوا: ان طريق الوصول اليه اما طريق التأسيسات الشرعية وهذا أبعد الطريقين، او طريق مخالفة النواميس الشرعية وهذا اقرب الطريقين، وكالمبايعين بالبيعة الخاصة مع من لم يكن اهلا للبيعة مثل اهل السلاسل الباطلة الباقية آثارهم الحقة فى ايدى المبطلين المتشبهين بالمحقين فان المبايعين لهؤلاء المبطلين كانت لهم محبة صادقة وبعد انحرافهم الى المبطلين صارت محبتهم محبة شيطانية وكل هؤلاء الفرق محبتهم للارواح الخبيثة ولمظاهرها الانسية شديدة وليست محبة الإلهية وهؤلاء ومن لم يكن لهم محبة اصلا لا يصيرون محبوبين لله سواء اتبعوا الرسول (ص) ظاهرا او لم يتبعوا، ومن كان له محبة الإلهية لكن لم يكن محبته راسخة كأكثر افراد الانسان الذين لم يستهلك فطرتهم تحت البهيمية والسبعية والشيطنة فانهم قد يتشأنون بشأن المحبة الالهية ويتألمون من بعدهم عن الحضرة الالهية ويتحسرون على تضييع أعمارهم فى غير الطلب لتلك الحضرة لم يفوزوا بالمحبوبية ما لم - يتمكنوا فى تلك المحبة باتباع رسول حق من الله، نعم ان تمكنوا فيها بسبب اتباع رسول حق فازوا بالمحبوبية لله تعالى ومن كان متمكنا فى المحبة الالهية كالمجذوبين والمبتاعين بالبيعة الخاصة مع من كان اهلا للبيعة لكن لم يكونوا ذوى عناية بالشريعة واتباع من كان اهلا لبيان احكام الكثرة لم يكن محبوبا لله تعالى وان لم يكن مبغوضا له ايضا، ومن كان متمكنا فى المحبة الالهية ثابتا فى اتباع الشريعة كان محبوبا لله تعالى مغبوطا لجملة المقربين وهذا تأديب من الله تعالى لاكثر السلاك البائعين بالبيعة الخاصة مع من كان اهلا للبيعة المغترين بالآيات والاخبار المثيرة للغرور مثل آية
ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا
[فاطر: 32] (الى آخر الآية) ومثل آية:
الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور
[البقرة:257] ومثل: حب على حسنة لا يضر معها سيئة، ومثل ولى على (ع) لا يأكل الا الحلال، ومثل: اذا عرفت فاعمل ما شئت من قليل الخير وكثيره، ومثل: لا دين لمن دان الله بولاية امام جائر ليس من الله، ولا عتب على من دان الله بولاية امام عادل، ومثل قوله (ع): قال الله تعالى: لأعذبن كل رعية فى الاسلام دانت بولاية كل امام جائر ليس من الله وان كانت الرعية فى اعمالها برة تقية ولاعفون عن كل رعية فى الاسلام دانت بولاية كل امام عادل من الله وان كانت الرعية فى انفسها ظالمة مسيئة وغير ذلك من امثال ما فيه شبهة غرور فان هؤلاء وان فرض انهم لم يكونوا مبغوضين لكن اين هؤلاء من المحبوبين فالسالك ينبغى له ان يكون تمام اهتمامه باتباع الشريعة المطهرة بحيث لا يشذ عنه ادب من آدابه المستحبة ولا يقنع بعدم المبغوضية حتى فاز بدرجات المحبوبية { ويغفر لكم ذنوبكم }.
اعلم ان اقتضاء المحبوبية ان لا يبقى فى نظر المحب نقص وشين من المحبوب بل كل ما فعل الحبيب كان حبيبا عنده ولذلك كان تعالى يجزيهم بأحسن ما كانوا يعملون لان تمام افعال الحبيب وجميع اوصافه واخلاقه تظهر فى نظر المحب مثل احسن افعاله واوصافه وهذا احد وجوه تبديل السيئات حسنات، وهذا احد معانى غفران الذنوب فمن اراد ان يكون بجميع اعماله واوصافه محبوبا لله فليتبع الرسول بشرائط المتابعة ومواثيق المبايعة بعد ما نكت فى قلبه نقطة المحبة وليحذر من مخالفة دقيقة من دقائق الشريعة { والله غفور رحيم } جملة حالية مؤكدة مشعرة بعلة غفرانه لمحبوبه والمعنى انه من شيمته المغفرة والرحمة بالنسبة الى كل احد فكيف يكون مغفرته لمن يكون محبوبه.
[3.32]
{ قل أطيعوا الله } يعنى بعد ما قلت لهم ان محبوبية الله فى متابعتك بعد محبة الله قل لهم { أطيعوا الله والرسول } لم يكرر اطيعوا اشعارا بان اطاعة الله تكليفا ليس الا طاعة الرسول لا ان طاعة كل مستقلة مغايرة لطاعة الآخر { فإن تولوا } لفظ تولوا هذا مشترك بين المضى والمضارعة { فإن الله لا يحب الكافرين } بطاعة الله وطاعة الرسول (ص) لان المراد به الكفر بالطاعة هاهنا والمعنى انه يبغضهم وان كان نفى الحب اعم من البغض فانه يستعمل فى امثال المقام فى احد فرديه ووضع الظاهر موضع المضمر للاشارة الى علة الحكم والى ان التولى عن الطاعة كفر.
[3.33]
{ إن الله اصطفى } فى موضع تعليل للامر بطاعة الرسول وسببية اتباعه (ص) للمحبوبية كأنه قال (ص): فاتبعونى واطيعونى لانى نبى من ذرية ابراهيم ومن آله وان الله اصطفى { آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران } لنبوتهم { على العالمين } وقد ورد فى اخبار كثيرة انهم قرؤا آل ابراهيم وآل عمران وآل محمد على العالمين، وفى بعض آل ابراهيم وآل محمد (ص) بدل آل عمران وقال (ع) فوضعوا اسما مكان اسم والمراد بآل عمران موسى (ع) وهارون (ع) واولادهما، او عيسى (ع) ومريم ابنة عمران، ولعل هذا هو المراد كما سيجيء او المجموع لصدق آل عمران على المجموع، وقيل بين العمرانين كان الف وثمانمائة سنة والمراد بآل ابراهيم، ابراهيم وآله كما سبق الاشارة اليه، والعدول من ابراهيم الى آل ابراهيم ليعم الانبياء (ع) والاوصياء (ع) بعده بلفظ واحد فان الكل منسوبون اليه بالنسب الجسمانية كما انهم منسوبون اليه بالنسب الروحانية وذكر آل عمران وآل محمد (ص) بعده من قبيل ذكر الخاص بعد العام للاهتمام بالخاص كأنه قال: ان الله اصطفى آل ابراهيم واصطفى منهم آل عمران وآل محمد (ص).
[3.34]
{ ذرية } حال من نوح وآل ابراهيم وما بعده، او منصوب بفعل محذوف للمدح، او بدل من ما قبله، والذرية بالضم والكسر ولد الرجل للواحد والجمع { بعضها } ناشىء { من بعض } ولا ينافى كون بعضها من بعض تشعبها من ابراهيم بشعبتبن { والله سميع } لاقوال عباده بلسان استعدادهم ولسان قولهم فيعطى كلا من المصطفى وغيره بحسب استعداده { عليم } بمكمونات العباد من القوى البعيدة من الاستعدادات القريبة من الفعل فينظر منهم الى قواهم البعيدة من الفعل ولا يعطى جزافا كما لا يمنع جزافا فاصطفى هؤلاء باستحقاقهم واستعدادهم والجملة حال او عطف على جملة ان الله اصطفى او على معمولى ان فى مقام التعليل لاصطفاء هؤلاء، او هى فى مقام التعليل لاصطفاء آل عمران كأنه كان وجه اصطفاء آدم ونوح وآل ابراهيم معلوما بخلاف اصطفاء آل عمران فقال فى بيان وجهه: ان الله اصطفى آل عمران لانه كان سميعا لاقوال امرأة عمران عليما باستحقاقها.
[3.35]
{ إذ قالت امرأت عمران } فعلى هذا لفظ اذ كان ظرفا لسميع وعليم او مفعولا به لهما باعتبار المضاف اليه نظير الوصف بحال المتعلق، او ظرف لاصطفى المقدر قبل آل عمران وعلى الوجه الاول قوله { والله سميع عليم } كان مفعولا لا ذكر مقدرا وكان منقطعا عما قبله واسم امرأة عمران كان حنة وكانتا اختين احداهما عند عمران بن اشهم من ولد سليمان (ع) بن داود (ع) وقيل عمران بن ماثان وكان بنو ماثان رؤساء بنى اسرائيل، والاخرى عند زكريا وكان اسمها اشياع، وفى اخبارنا ان زوجة زكريا كانت اخت مريم لا اخت امها وكانت حنة قد امسك عنها الولد حتى اسنت فبينا هى تحت شجرة اذ رأت طائرا يزق فرخا له فتحركت نفسها للولد فدعت الله ان يرزقها ولدا فحملت بمريم ونذرت ولدها لخدمة بيت المقدس وروى ان الله اوحى الى عمران انى واهب لك ذكرا سويا مباركا يبرء الاكمه والابرص ويحيى الموتى باذن الله وجاعله رسولا الى بنى اسرائيل فحدث امرأته حنة فلما حملت بها كان حملها عند نفسها غلاما { فلما وضعتها قالت رب إني وضعتهآ أنثى.... وليس الذكر كالأنثى } لا يكون البنت رسولا يقول الله تعالى { والله أعلم بما وضعت } فلما وهب الله لمريم عيسى (ع) كان هو الذى بشر به عمران ووعده اياه فاذا قلنا فى الرجل منا شيئا وكان فى ولده او ولد ولده فلا تنكروا ذلك، ولما ظنت ان حملها الذكر الموعود نذرته لخدمة بيت المقدس وقالت { رب إني نذرت لك ما في بطني محررا } معتقا من خدمتنا لخدمة المتعبدات او مختارا او مهذبا مقوما من الحرية مقابل الرقية او بمعنى كون الشيء مختارا او من تحرير الكتاب بمعنى تقويمه وذكروا ان المحرر اذا حرر جعل فى الكنيسة يقوم عليها ويكنسها ويخدمها لا يبرح حتى يبلغ الحلم ثم يخير فان احب ان يقيم فيه اقام وان احب ان يذهب ذهب حيث شاء { فتقبل مني } نذرى { إنك أنت السميع } لقولى ونذرى { العليم } بنيتى وانى لا اريد بنذرى سواء رضاك.
[3.36]
{ فلما وضعتها } وكانت ترجوا ان تضع ذكرا ورأتها انثى خجلت واستحيت و { قالت } منكسة رأسها مظهرة لخجلتها { رب إني وضعتهآ أنثى } او لما وضعتها انثى وكانت ترجو ان الولد ذكر وخابت عن متمناها قالت اظهارا لخيبتها { رب إني وضعتهآ أنثى } او لما وضعتها ورأت انها انثى وعلمت ان الانثى تكون ضعيفة فى عقلها قالت تقدمة لسؤال استعاذتها رب انى وضعتها انثى والانثى تكون ضعيفة (فأعيذها بك من الشيطان)، او { قالت رب إني وضعتهآ أنثى } تقدمة لعدولها عن نذرها يعنى ان الانثى لا تصلح لخدمة المعابد فلا اقدر على الوفاء بنذرى قيل: مات عمران حين حملها ووضعتها بعد وفات عمران { والله أعلم بما وضعت } جملة معترضة من الله لتبجيل ما وضعت يعنى هو اعلم بشأن ما وضعت ومقامها العالى وتحسرها على كونها انثى كان لجهلها بمقامها وقرئ بضم التاء على ان يكون من كلامها تسلية لنفسها وبكسر التاء على ان يكون من كلامها خطابا لنفسها تسلية لها وعلى ان يكون من كلام الله تعالى خطابا لها وتسلية لها وقوله تعالى { وليس الذكر كالأنثى } من كلامه تعالى تسلية لها يعنى ليس الذكر المتمنى مثل هذه الانثى المولودة فى الشرف والمقام او هو من كلامها تعليلا لتمنيها وتحسرها على الانثى اى ليس جنس الذكر مثل جنس الانثى فى الخسة والممنوعية من الرسالة والمعابد بواسطة الانوثة والحيض، او ليس الذكر الموعود مثل هذه الانثى فى الخسة والممنوعية وقيل فيه غير هذا { وإني سميتها مريم } تفاؤلا فان مريم كانت بمعنى العابد { وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم } نسب الى النبى (ص)
" انه ما من مولود الا والشيطان يمسه حين ولد فيستهل صارخا من مس الشيطان اياه الا مريم وابنها ".
[3.37]
{ فتقبلها ربها } مع انوثتها من المنذور لخدمة بيت المقدس ولم يقبل قبلها انثى فى ذلك او المعنى تقبلها وتكفل امرها بحيث ما عرتها علة ساعة من ليل او نهار او تقبلها بتكفيل نبيه لها { بقبول حسن } الباء فيه مثل الباء فى قوله
فتستجيبون بحمده
[الإسراء: 52] فالباء فيه للمصاحبة او للآلة وحسن قبولها اخذها مقام الذكر وحفظها من الآفات وتسلمها عقيب ولادتها قبل ان تكبر وتصلح للخدمة وتكفيلها زكريا نسب الى الرواية ان حنة لما ولدتها لفتها فى خرقة وحملتها الى المسجد ووضعتها عند الاحبار وقالت: دونكم هذه النذيرة فتنافسوا فيها لانها كانت بنت امامهم وصاحب قربانهم فان بنى ماثان كانوا رؤس بنى اسرائيل وملوكهم فقال زكريا: انا احق بها عندى خالتها فأبوا الا القرعة وكانوا سبعة وعشرين فانطلقوا الى نهر فالقوا فيه اقلامهم فطفى قلم زكريا ورسبت اقلامهم فتكفلها { وأنبتها } من حنة او انماها فى نفسها { نباتا } اما مصدر من غير لفظ الفعل او حال موطئة للتوصيف يعنى انبتها حال كونها نباتا { حسنا } بان سوى خلقها او بان جعلها بحيث كانت تنمو فى يوم ما ينمو غيرها فى عام، او جعلها بحيث صامت نهارها وقامت ليلها وتبتلت الى الله حين بلغت حتى فاقت الاحبار { وكفلها } الله { زكريا } كما سبق وقرئ بتخفيف الفاء وزكريا كان من ولد سليمان وفيه ثلاث لغات المد والقصر وتشديد الياء بدون الالف ولما كفل زكريا مريم بنى لها بيتا واسترضع لها او ضمها الى خالتها ام يحيى حتى اذا شبت وبلغت مبلغ النساء بنى لها محرابا فى المسجد وجعل بابه فى وسطه لا يرقى اليها الا بسلم مثل باب الكعبة ولا يصعد اليها غيره وكان يأتيها بطعامها وشرابها ودهنها كل يوم { كلما دخل عليها زكريا المحراب } اى بيتها سمى محرابا لكونه معبدها ومحل محاربتها للشيطان { وجد عندها رزقا } فاكهة فى غير حينها غضا طريا والجملة جواب كلما { قال } جواب سؤال مقدر كأنه قيل: ما قال لها كلما وجد عندها رزقا؟ - فقال تعالى: قال { يمريم أنى لك هذا } كيف لك او من اى مكان لك هذا الرزق وهو للتعجب { قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشآء بغير حساب } استئناف فى مقام التعليل.
[3.38]
{ هنالك } فى ذلك المكان او فى ذلك الزمان { دعا زكريا ربه } يعنى بعد ما شاهد من مريم ما شاهد من اكرام الله لها حن الى ولد كريم على الله مثلها فدعا ربه { قال رب هب لي } لانتفاعى { من لدنك } لا من لدن غيرك من الملائكة او الشياطين حتى يكون عوده الى حضرتك { ذرية طيبة إنك سميع الدعآء } اى مجيبه فان السماع فى امثال المقام يستعمل فى الاجابة والجملة مستأنفة لبيان علة الدعاء او لبيان حاله تعالى فى مقام الدعاء.
[3.39]
{ ف } أجاب الله تعالى دعاءه و { نادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب } فى مصلاه { أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله } هذا اجابة منه تعالى لدعائه (ع) فإن التصديق بكلمة الله دليل الطيبوبة والمراد بكلمة الله هو المسيح فانه لفنائه فى نفسه وبقائه بربه صار كالكلمة الغير القارة الغير المستقلة بنفسها القائمة بالمتكلم { وسيدا } للخلق فى الشرف ولقومه فى الطاعة { وحصورا } مبالغا فى منع النفس عن الشهوات ولذلك فسر بمن لا يأتيه النساء { ونبيا من الصالحين } واتصافه بالاوصاف الثلاثة من الفضل فى الاجابة.
[3.40]
{ قال } قد مضى مكررا ان امثال هذا جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: ما قال بعد البشارة من الله بالولد؟ - قال { قال رب أنى } كيف { يكون لي غلام وقد بلغني الكبر } والكبير لا يصلح نطفته لانعقاد الولد كان الظاهر ان يقول وقد بلغت الكبر لكنه نسب البلوغ الى الكبر للاشعار بان الهرم كالطالب الاتى الى الانسان { وامرأتي عاقر } ما كان يصلح رحمها لانعقاد الولد قبل الكبر فكيف بعد الكبر وهذا تعجب واستبعاد منه للولد بحسب الاسباب الطبيعية ولذلك اتى بعده بانقطاع الاسباب الطبيعية وتبجج منه بافضال الله واكرامه مع عدم الاسباب لا انه انكار منه لفعل الله بدون الاسباب حتى يكون مخالفا لمقام الانبياء (ع) قيل كان زكريا يوم بشر بالولد ابن عشرين ومائة وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنة { قال } الله او الملك المنادى { كذلك } خبر مبتدأ محذوف اى الامر كما بشرت به او متعلق بيفعل يعنى مثل اعطاء الولد من غير وجود الاسباب الطبيعية { الله يفعل ما يشآء } كانت اسبابه موجودة او لم تكن، وقيل: كان استفهامه على سبيل التعرف ايعطيهما الولد على حال الشيخوخة ام يجعلهما شابين ثم يعطيهما، وقيل: يحتمل ان يكون اشتبه الامر عليه ايعطيه من امرأته العجوز العاقر ام من امرأة أخرى شابة صالحة للولد، وقيل: انما سأل ذلك ليعرف ان البشارة كانت حقة وكانت من الملك ام كانت من الشيطان ولذلك { قال رب اجعل لي آية }.
[3.41]
{ قال رب اجعل لي آية } وقيل انما قال ذلك ليتعرف بها وقت الحمل ليزيد فى العبادة والشكر او ليتعجل السرور به { قال آيتك ألا تكلم الناس } لا تقدر على التكلم { ثلاثة أيام إلا رمزا } استثناء مفرغ منقطع اى لكن ترمز اليهم رمزا، او المراد بالتكلم الافهام والاستثناء متصل والمعنى آيتك ان لا تفهم الناس ما فى ضميرك نحوا من الافهام الا افهام رمزا وفى حال من الاحوال الا رامزا او رامزين وانما حبس لسانه عن مكالمتهم خاصة دون ذكر الله ليخلص فى تلك المدة لشكره وذكره قضاء لحق النعمة، وهذا دليل على ان طلب الآية كان لمعرفة وقت الحمل طلبا لازدياد الشكر والذكر.
{ واذكر ربك كثيرا } يعنى فى تلك الايام عرفه ان حبس لسانه عن الكلام بغير ذكر الله لا عن ذكر الله ليكثر ذكر الله فى تلك المدة { وسبح بالعشي } قيل من الزوال الى الغروب، وقيل من العصر الى ذهاب صدر الليل وهذا هو المتبادر، وقيل: من الغروب الى ذهاب صدر الليل { والإبكار } من طلوع الفجر الى الضحى والتسبيح بمعنى التنزيه والتطهير لكنه اذا نسب الى الله يراد به تنزيهه من النقائص مع عدم اعتبار تنزهه عن النسب والاضافات، او مع اعتبار النسب والاضافات الى الكثرات كما سبق تحقيقه وتحقيق الفرق بينه وبين التقديس فى اول سورة البقرة عند قوله
ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك
[البقرة: 30].
تحقيق تسبيح الرب وتسبيح اسم الرب
اعلم ان فى كل فرد من افراد بنى آدم بل فى كل جزء من اجزاء العالم لطيفة الاهية هى تربيه وتحركه الى كمالاته الثانوية وتخرجه من القوى والاستعدادات المودعة فيه الى فعلياته، وتلك اللطيفة بوجه ربه وبوجه اسم ربه وقول الشاعر:
دل هر ذرة را كه بشكافى
آفتابيش در ميان بينى
وقول الآخر:
يكى ميل است با هر ذره رقاص
كشاند ذره را تا مقصد خاص
رساند كلشنى را تا بكلشن
دواند كلخنى راتا بكاخن
اشارة الى هذه اللطيقة وهذه محتجبة تحت اعدام الطبع ورذائل النفس، وتنزيهها عبارة عن تطهيرها عن الاعدام والنقائص والرذائل ولا يمكن ذلك الا بكثرة الذكر المأخوذ ممن كان مجازا من الله بلا واسطة او بواسطة او بوسائط، ولذا أمر به بعد الامر بالذكر الكثير وكلما ذكر تسبيح مطلقا او مقيدا باسم الرب او بالرب او بالله واقعا عليها بنفسه او متعلقا بها باللام او بالباء فالمراد تنزيه تلك اللطيفة لانها اسم للرب ورب ونازلة من الله والمراد { بالعشي والإبكار } اما تمام الاوقات فانه قد يراد بذكر طرفى النهار استغراق جميع الاوقات فى العرف، او خصوص طرفى النهار فانهما وقت نشاط النفس واشتداد شوقها الى اصلها بخلاف جوف الليل ووسط النهار فانهما وقت كلال النفس وفتور القوى ولا تقربوا الصلاة وانتم كسالى.
[3.42]
{ وإذ قالت الملائكة } عطف على قوله { اذ قالت امرأة عمران } او مستأنف بتقدير اذكر او ذكر اذ قالت الملائكة لمريم شفاها سواء كانت رأتهم ام لم تر اشخاصهم لانها كانت محدثة والمحدث قد يرى وقد لا يرى كما سبق الاشارة اليه عند قوله
وإثمهمآ أكبر من نفعهما
[البقرة: 219] { يمريم إن الله اصطفاك } من ذرية الانبياء { وطهرك } من السفاح { واصطفاك على نسآء العالمين } اى عالمى زمانك لولادة عيسى (ع) وهذا مضمون ما فى الخبر وقيل فيه اشياء أخر، ولعل المراد بالاصطفاء الاول اصطفاؤها بالنظر الى نفسها واستعدادها واستحقاقها وبالاصطفاء الثانى اصطفاؤها بالنسبة الى نساء عالمها ولذا جاء بالتطهير بينهما يعنى يا مريم ان الله نظر اليك ووجدك اهلا لخدمته وقربه فاصطفاك لخدمته وطهرك من نقائص الكثرات وقربك اليه وافناك مما ينبغى ان يفنى عنه ثم ابقاك ببقائه وأحياك بحيوته واحياك بما يحيى الباقون بعد الفناء حتى تفضلت على نساء العالمين فاصطفاك عليهن.
[3.43]
{ يمريم اقنتي } اطيعى او اديمى القيام فى العبادة او ادعى او اسكتى { لربك واسجدي } اخضعى او انحنى { واركعي } صلى او كبى على وجهك واما معنى القنوت والسجود والركوع الشرعية فغير مراد قطعا اذ الحقائق الشرعية على فرض ثبوتها انما هى فى شريعتنا لا فى الشرائع السابقة على ان قنوت صلاة شريعتنا وسجودها وركوعها غير ثابتة فى شريعتها وعلى هذا فلا حاجة الى بعض التوجيهات ولا الى القول بان الآية ما قدم وأخر بعض اجزائها { مع الراكعين } اى المصلين الاتيان باسم الفاعل الدال على دوام الفعل وثباته دون الذين ركعوا للاشارة الى ان الامر امر بدوام الركوع فان المصاحب بفعله لدائم الفعل لا بد ان يكون دائم الفعل، والاتيان بجمع المذكر للاشارة الى تشريفها بجعلها فى عداد الرجال.
[3.44]
{ ذلك } الاخبار باخبار ام مريم (ع) وزكريا (ع) ومريم (ع) { من أنبآء الغيب } اى من الانباء التى كانت فى غيب منك او من انباء الغائبين والغائبات منك { نوحيه إليك } خبر بعد خبر او حال او خبر ابتداء او مستأنف جواب لسؤال مقدر { وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم } قد مضى حكاية القرعة فى كفالة مريم { وما كنت لديهم إذ يختصمون } فى كفالة مريم حين لفتها امها فى خرقة واتت بها الى الاحبار او حين كبرها وعجز زكريا عن تربيتها كما قيل، ويجوز ان يراد اذ يختصمون عند ولادة عيسى (ع).
[3.45]
{ إذ قالت } بدل من قوله { اذ يختصمون } او من قوله { وإذ قالت الملائكة يمريم إن الله اصطفاك } وقوله { وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون } اذ قالت { الملائكة } تعليل لكون الاخبار فى غيب منه { يمريم إن الله يبشرك بكلمة منه } قد مضى وجه تسمية عيسى (ع) لكلمة الله { اسمه المسيح } وهو بالعربية بمعنى المبارك وله معان اخر تناسب التسمية بها وقيل هو معرب مشيحا بالسريانية بمعنى المبارك { عيسى ابن مريم } خبر بعد خبر او خبر مبتدأ محذوف { وجيها } حال مقدرة من كلمة والجاه والوجاهة رفعة المنزلة { في الدنيا والآخرة ومن المقربين } من الله.
[3.46-47]
{ ويكلم الناس في المهد } هو ما يمهد لمضجع الصبى { وكهلا } يعنى يكلم الناس فى طفولية كما تكلم حين الشهادة لنفسه ولأمه بالطهارة عن السفاح بقوله
إني عبد الله آتاني الكتاب
[مريم: 30] او يكلم الناس فى طفوليته بالرسالة والمحاجة عليها فانه بعث فى ابن خمس او ابن سبع وفى زمان بلوغه مبلغ الكمال لا الكهولة العرفية على ما قيل انه رفع فى شبابه وقيل: ان المراد بتكلمه كهلا تكلمه حين نزوله من السماء { ومن الصالحين قالت } مثل زكريا (ع) مستغربة بحسب الاسباب الطبيعية { رب أنى } كيف { يكون لي ولد ولم يمسسني بشر } ويجوز ان يكون استفهاما وسؤالا لتعلم ان الولد يكون بلا زوج او يكون بعد تزوجها { قال كذلك } الولد من غير مسيس البشر { الله يخلق ما يشآء إذا قضى أمرا } استئناف جواب سؤال مقدر عن كيفية خلقه ما يشاء { فإنما يقول له كن فيكون } من غير اسباب كما جرى سنته بان يخلق الاشياء الطبيعية تدريجا بالاسباب.
[3.48-49]
{ ويعلمه } قرئ بالنون وبياء الغيبة وهو عطف على يخلق او على الله يخلق او على كذلك الله يخلق ما يشاء، ويجوز ان يكون عطفا على ما قبل قوله تعالى: { قالت رب أنى يكون لي ولد } ويكون هذا القول معترضا حتى يكون تعليمه الكتاب مما بشرت به والمعنى { ان الله يبشرك بكلمة } يعلمه { الكتاب } قد مضى تحقيق الكتاب فى اول الكتاب ويجوز ان يراد به الكتابة هنا فانه قيل ان الله أعطى عيسى (ع) تسعة اجزاء من الخط وسائر الناس جزءا واحدا { والحكمة } آثار الولاية { والتوراة والإنجيل } خص الكتابين لشرفهما بالنسبة الى سائر الكتب السالفة { ورسولا } عطف على يعلمه الكتاب على ان يكون هو عطفا على ما قبل { قالت رب انى يكون لى ولد } او عطف عليه بتقدير يرسله او يكلم رسولا { إلى بني إسرائيل } خص بنى اسرائيل لانه كان رسولا اليهم، او لانهم كانوا اشرف المرسل اليهم، او لان المراد ببنى اسرائيل من لم ينقطع نسبته الفطرية الى الانبياء فانهم المنتفعون بهم والمرسل اليهم حقيقة { أني قد جئتكم } بانى قد جئتكم على تقدير التكلم والنطق قبل رسولا او تضمين رسولا معنى النطق { بآية من ربكم } حجة لا تشكون انها ليست من قوة البشر على صحة نبوتى { أني أخلق } بدل من آية من ربكم او بدل من انى قد جئتكم او خبر مبتدأ محذوف اى هى انى اخلق { لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه } اى فى هذا الطين او فى المخلوق من الطين او مماثل هيئة الطير على ان يكون الكاف اسما { فيكون طيرا } اى حيا ذا لحم وعظم وجناح وطيران ولما كان صيرورة الطين لحما وعظما وجناحا وذا حياة مما يخرج من قدرة البشر قيده بقوله تعالى { بإذن الله } لئلا يتوهم متوهم ما توهمه النصارى فى حقه والمعروف انه الخفاش المعروف { وأبرىء الأكمه } الاعمى او الذى ولد اعمى او الممسوح العين { والأبرص وأحي الموتى بإذن الله } تكرار باذن الله للاهتمام بدفع ذلك التوهم، ولما كان الغالب فى زمان عيسى (ع) آية من نسخ ما كان معتبرا عندهم خارجة عن قدرة البشر حتى يعترفوا بعد ما عرفوا بحذاقتهم انها خارجة عن قدرتهم بأنها من الله { وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم } يعنى اخبركم بأحوالكم التى هى معلومة لكم وغائبة عنى حتى تعلموا انى اعلم المغيبات { إن في ذلك } المذكور من خلق الطير من الطين الى قوله { وما تدخرون } او فى ذلك الانباء { لآية } عظيمة { لكم إن كنتم مؤمنين } اى ان كان سجيتكم الاذعان والتصديق بما يذعن به او { إن كنتم مؤمنين } بالانبياء السلف، نسب الى الباقر (ع) انه قال: ان عيسى (ع) كان يقول لبنى اسرائيل: انى رسول الله اليكم و { أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرىء الأكمه والأبرص } ، والاكمه هو الاعمى قالوا: ما نرى الذى تصنع الا سحرا فأرنا آية نعلم انك صادق قال: أرأيتكم ان اخبرتكم بما تأكلون وما تدخرون فى بيوتكم يقول ما أكلتم فى بيوتكم قبل ان تخرجوا وما ادخرتم بالليل تعلمون انى صادق؟ - قالوا: نعم وكان يقول: انت اكلت كذا وكذا، وشربت كذا وكذا، ورفعت كذا وكذا، فمنهم من يقبل منه فيؤمن، ومنهم من يكفر، وكان لهم فى ذلك آية ان كانوا مؤمنين.
[3.50]
{ ومصدقا } عطف على رسولا او على قد جئتكم بتقدير جئت او عطف على اخلق بتقدير كنت او جئت بان جعل تصديقه للتوراة آية صدقة والمعنى انى قد جئتكم بآية من ربكم انى كنت مصدقا { لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم } عطف على مصدقا باعتبار المعنى فان المقصود منه التعليل او عطف على جئت مصدقا بتقدير جئت او عطف على قد جئت بآية من ربكم بتقدير جئت لاحل لكم { بعض الذي حرم عليكم } ببغيكم مثل كل ذى ظفر وشحوم البقر والغنم وبعض الاعمال فى يوم السبت وغير ذلك، نسب الى الصادق (ع) انه قال كان بين داود (ع) وعيسى بن مريم (ع) اربعمائة وكانت شريعة عيسى (ع) انه بعث بالتوحيد والاخلاص وبما اوصى به نوح (ع) وابراهيم (ع) وموسى (ع) وأنزل عليه الانجيل وأخذ عليه الميثاق الذى أخذ على النبيين وشرع له فى الكتاب اقام الصلاة مع الدين والامر بالمعروف والنهى عن المنكر وتحريم الحرام وتحليل الحلال وانزل عليه فى الانجيل مواعظ وامثال وحدود وليس فيها قصاص ولا احكام حدود ولا فرض مواريث وأنزل عليه تخفيف ما كان على موسى فى التوراة وهو قول الله عز وجل فى الذى قال عيسى بن مريم (ع) لبنى اسرائيل { ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم } وامر عيسى (ع) من معه ممن اتبعه من المؤمنين ان يؤمنوا بشريعة التوراة والانجيل { وجئتكم بآية من ربكم } لما كان احلال المحرمات فى شريعة ثابتة مصدقة محلا للانكار وموهما لكذب المحلل واراد ان يأمر بطاعته بعد ما اتى بما هو موهم لكذبه كرر قوله { جئتكم بآية من ربكم } ليكونوا على ذكر من معجزاته فلا ينكروه ولا ينكروا امره { فاتقوا الله } يعنى اذا كنت جئتكم بآية من ربكم دالة على رسالتى منه فاتقوا سخطه فى مخالفتى { وأطيعون } فيما أدعوكم اليه وفيما أمرتكم به ونهيتكم عنه.
تحقيق كون الانسان فطرى التعلق واقتضاء ذلك الإتمام بامر
اعلم ان اللطيفة السيارة الانسانية خلقت مفطورة التعلق بمعنى ان التعلق ذاتى لها لا انه عرضى لها كسائر الاعراض بل نقول: ذاتها ليست الا التعلق وكلما كان سواها فهو ليس ذاتا ولا ذاتيا لها بل هو عرضى مانع لها من ظهورها بذاتها وعائق لها عن قربها من اصلها وكمالها بطرح ما سوى التعلق وظهور التعلق بدون قيد من القيود ولذلك قال تعالى حين تمامية كمال محمد (ص) وكمال قربه من مبدئه
دنا فتدلى
[النجم: 8] يعنى انتهى فى دنوه حتى لم يبق له الا التدلى الذى هو ذاته والا فالتدلى كان له من اول وجوده، وقولهم: القيد كفر ولو بالله؛ اشارة الى ان ذات الانسان تعلق محض من دون ضميمة قيد اليها وكلما ضم اليه قيد من القيود ولو كان تقيدا بالله اقتضى ذلك القيد الاثنينية والاستقلال فى الوجود وحجبه عن ذاته وعن مشاهدة ربه، وهذا بخلاف سائر الموجودات الامكانية فانها كلها متحددات بحدود مخصوصة يكون كمالها ببلوغها الى تلك الحدود ووقوفها فى تلك المواقف واستقلالها بحدودها فهى وان كان مقتضية للتعلق لكن التعلق فيها مختفية تحت التحدد والاستبداد وكانت ارباب انواعها تحت رب نوع الانسان لتحددها واطلاقه ولما كانت تلك اللطيفة بذاتها مقتضية للتعلق وكان التكليف مطابقا للتكوين امروا العباد بالاقتداء والتعلم والإتمام والطاعة وذكروا ان طاعة الامام اصل كل الخيرات فانه نسب الى ابى جعفر (ع) انه قال: زروة الامر وسنامه ومفتاحه وباب الاشياء ورضى الرحمن تبارك وتعالى الطاعة للامام بعد معرفته ثم قال: ان الله تبارك وتعالى يقول:
من يطع الرسول فقد أطاع الله
[النساء: 80]؛ وفى هذا المعنى اخبار كثيرة. ونسب الى على (ع) انه قال: اعلموا ان صحبة العالم واتباعه دين يدان الله به، وطاعته مكسبة للحسنات، ممحاة للسيئات، وذخيرة للمؤمنين ، ورفعة فيهم فى حياتهم، وحبل بعد مماتهم، بل ورد فى اخبار كثيرة صراحة واشارة الى ان لا خير ولا حسنة لغير المطيع، ولا ذنب للمطيع، وان اتى غير العارف المطيع للامام بجميع اعمال الخير والعارف المطيع بجميع اعمال الشر، والاخبار الدالة
" على ان من مات ولم يكن له امام مات ميتة الجاهليته او ميتة كفر "
؛ تدل على فضل الطاعة للامام، ولذلك امر الانبياء اممهم اول دعوتهم بالتقوى التى هى قبل الاسلام ثم بالطاعة لهم وقال الكبار من المشايخ (ره): ان كنت تحت طاعة عبد حبشى كان خيرا لك من ان تكون تحت طاعة نفسك، وقال الفقهاء رضوان الله عليهم: من عمل من المقلدين بطاعة ربه من غير تقليد لعالم وقته وكان عمله مطابقا لحكم الله كان باطلا غير مقبول او كان مقصرا فى ترك التقليد، والاخبار الدالة على وجوب طلب العلم مثل:
" طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة "
، ومثل:
" لو يعلم الناس ما فى طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللجج "
والاخبار الدالة على ان اصناف الناس ثلاثة: عالم ومتعلم وغثاء، او همج، او سواقط، كلها تدل على وجوب الطاعة فان العلم على التحقيق ليس بمحض انتقاش النفوس بنقوش المحسوسات والمظنونات والمعلومات، بل هو من شؤن النفوس وفعلياتها فى طريق الانسان لان انتقاش النفوس بنقوش المدركات وفعلياتها وشؤنها اذا لم تكن فى طريق الانسان بل كانت فى طريق الشيطان او الحيوان لم يكن علما بل يسمى جهلا عند اهل الله، والحق انه لا يحصل فعلية فى طريق الانسان بعد بلوغ الانسان مبلغ الرجال الا باتباع صاحب الطريق وطاعته، فان الانسان لا توجه له اختيارا من اول طفوليته الا الى البهيمية والسبعية، واذا بلغ اوان التكليف يزداد عليهما الشيطنة وان كان يحصل له حينئذ زاجر الهى ايضا لكن الزاجر الالهى يكون فى غاية الضعف وهذه الثلاثة فى غاية القوة ولا يمكنه الخلاص من حكومة هذه والسير على الطريق المستقيم الانسانى الا بالتمسك بولاية صاحب الولاية التى هى العروة الوثقى التى لا انفصام لها، وقوله تعالى
ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس
[آل عمران:112] اشارة الى الزاجر الالهى اعنى الولاية التكوينية والى الولاية التكليفية يعنى لا يكفى الحبل من الله الا بضميمة الحبل من الناس الذى هو الولاية والطاعة لولى الامر، ولعدم حصول العلوم والفعليات فى طريق الانسان الا باتباع الامام او من اجازه للاقتداء قالوا بطريق الحصر: نحن العلماء وشيعتنا المتعلمون وسائر الناس غثاء، ولعل بعضهم لم يتعلموا ساعة بطريق المعروف بل كان جمالا او راعيا او محترفا، ولما كان حصول الفعليات والعلوم فى طريق الانسان بسبب الاتصال المعنوى الذى عبر عنه بالحبل وكان الاتصال الصورى سببا للاتصال المعنوى وقنطرة له كان الانبياء (ع) واوصياؤهم (ع) من لدن آدم (ع) الى الخاتم (ص) مهتمين بأمر البيعة وعقد الايمان ومعانين فيها ولم يكونوا ليدعوا احدا من تابعيهم بدون اخذ البيعة والميثاق عنه.
[3.51]
{ إن الله ربي وربكم } جواب لسؤال مقدر فى مقام التعليل للامر بتقوى الله ولما اراد تعليل الامر بالتقوى بالآلهة وبالمرسلية وبربوبيتهم اتى بهذه العبارة فكأنه قال: جئتكم بآية من ربكم دالة على صدقى فى ادعائى الرسالة فاتقوا الله فى مخالفتى لآلهته وربوبيته لكم وارساله اياى لان صاحب الآلهة هو ربكم وربكم مرسلى اليكم { فاعبدوه } اى اذا كان الله ربكم فاعملوا له اعمال العبيد او صيروا عبيدا له خارجين من عبودية أنفسكم { هذا } المذكور من العبادة واعتقاد الربوبية او من التقوى والطاعة للنبى { صراط مستقيم } فان العبادة والخروج من الانانية والدخول تحت امر الآمر الالهى صراط مستقيم انسانى كما سبق وكذا التقوى التى هى الخروج من الانانية والاستقلال بالرأى والطاعة اى الدخول تحت امر الآمر الالهى صراط مستقيم انسانى.
[3.52]
{ فلمآ أحس عيسى منهم الكفر } بعد ما دعاهم الى الله وأتم لهم الحجة والمراد باحساس الكفر ادراكه اول الادراك ولذا فسر فى الخبر بقوله (ع) لما سمع ورأى انهم يكفرون { قال } معرضا عنهم مقبلا على الله داعيا لمن يريد الموافقة له { من أنصاري } حمل الجمع على لفظ من باعتبار معناه اى من الذين يذهبون معى بالاعانة لى { إلى الله } او من انصارى مع الله لاظهار الدين واعلانه؟ او من انصارى مع الله على معاداة الكفار ومقاتلتهم؟ ويجوز ان يكون معية الله مع الانصار ومع المنصور؛ هكذا فسرت الآية، لكن الاول هو المراد لانه كما نقل كان كلما احس من قوم كفرا ومعاداة اعرض عنهم وفر منهم الى قوم آخر { قال الحواريون } سموا به لأنهم كانوا قصارين يبيضون الثياب روى انهم اتبعوا عيسى (ع) وكانوا اثنى عشر وكانوا اذا جاعوا قالوا: يا روح الله جعنا فيضرب بيده على الارض سهلا كان او جبلا فيخرج لكل انسان منهم رغيفين يأكلهما، واذا عطشوا قالوا: يا روح الله عطشنا فيضرب بيده على الارض سهلا كان او جبلا فيخرج ماء فيشربون؛ قالوا: يا روح الله من افضل منا اذا شئنا اطعمتنا، واذا شئنا سقيتنا، وقد آمنا بك واتبعنا قال: افضل منكم من يعمل بيده ويأكل من كسبه، فصاروا يغسلون الثياب بالكرى او لانهم كانوا مبيضى الثياب، او لانهم كانوا انصارا له فان الحوارى يطلق على الناصر وعلى ناصر الانبياء، او لانهم كانوا مبيضى القلوب مخلصين فى أنفسهم ومخلصين غيرهم من دنس الذنوب واصله الحوار اتصل به الياء المشددة للمبالغة وكأنه لم يستعمل فى هذه المعانى بدون الياء { نحن أنصار الله } كان اقتضاء التوافق فى الجواب ان يقولوا: نحن انصارك الى الله لكنهم عدلوا الى هذا للاشعار بان نصرته نصرة الله من غير فرق { آمنا بالله } استئناف بيانى فى مقام التعليل او لبيان حالهم { واشهد بأنا مسلمون } منقادون مطيعون، او المراد بالايمان الاذعان وبالاسلام البيعة العامة، او المراد بالايمان والاسلام كليهما البيعة العامة النبوية وقبول دعوة الظاهرة ثم صرفوا الخطاب عن عيسى (ع) وخاطبوا الله بقولهم { ربنآ آمنا بمآ أنزلت }.
[3.53]
{ ربنآ آمنا بمآ أنزلت } على عيسى (ع) او بجملة ما انزلت { واتبعنا الرسول } يعنى عيسى (ع) { فاكتبنا مع الشاهدين } بوحدانيتك ورسالة رسولك او مع محمد (ص) وامته فانهم الشهداء على الناس بقوله تعالى،
لتكونوا شهدآء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا
[البقرة: 143].
[3.54]
{ ومكروا } اى اليهود الذين احس عيسى (ع) منهم الكفر مكروا لقتله بما سيجيء والمكر اخفاء المقصود واظهار غيره للعجز عن امضاء المقصود جهارا وبهذا المعنى لا يجوز اطلاقه على الله الا من باب المشاكلة { ومكر الله والله خير الماكرين } من حيث المكر لكون الاخفاء والاعلان بيده وفى حكمه بخلاف غيره من الماكرين، او لكون المكر منه عدلا ومن غيره ظلما، او لكون مكره واستدراجه ماضيا لا محالة دون غيره.
تفصيل حال عيسى واخذه وصلبه
نقل ان عيسى (ع) بعد اخراج قومه اياه من بين اظهرهم عاد اليهم مع الحواريين وصاح فيهم بالدعوة فهموا بقتله وتواطؤوا على القتل فذلك مكرهم به، ومكر الله بهم القاؤه شبهه على صاحبه الذى اراد قتل عيسى (ع) حتى قتل وصلب ورفع عيسى (ع) الى السماء وقيل: لما اراد ملك بنى اسرائيل قتل عيسى (ع) دخل خوخته وفيها كوة فرفعه جبرئيل من الكوة الى السماء وقال الملك لرجل منهم خبيث: ادخل عليه فاقتله فدخل الخوخة فألقى الله عليه شبه عيسى (ع) فخرج الى اصحابه يخبرهم انه ليس فى البيت فقتلوه وصلبوه وظنوا انه عيسى (ع) وقيل اسروه ونصبوا له خشبة ليصلبوه فأظلمت الارض وارسل الله الملائكة فحالوا بينه وبينهم فأخذوا رجلا يقال له يهودا وهو الذى دلهم على المسيح وذلك ان عيسى (ع) جمع الحواريين تلك الليلة وأوصاهم ثم قال: ليكفرن بى احدكم قبل ان يصيح الديك بدراهم يسيرة؛ فخرجوا وتفرقوا، وكانت اليهود تطلبه فاتى احد الحواريين اليهم فقال: ما تجعلون لى ان ادلكم عليه؟ فجعلوا له ثلاثين درهما فاخذها ودلهم عليه فالقى الله عليه شبه عيسى (ع) لما دخل البيت ورفع عيسى (ع) فأخذ فقال: انا الذى دللتكم عليه فلم يلتفتوا الى قوله وصلبوه وهم يظنون انه عيسى (ع) فلما صلب شبه عيسى (ع) واتى على ذلك سبعة ايام قال الله عز وجل لعيسى (ع): اهبط على مريم لتجمع لك الحواريين فهبط واشتعل الجبل نورا فجمعت له الحواريين فبثهم فى الارض دعاة ثم رفعه الله سبحانه وتلك الليلة هى الليلة التى يدخر فيها النصارى فلما اصبح الحواريون حدث كل واحد منهم بلغة من ارسله عيسى (ع) اليهم فذلك قوله عز وجل، { ومكر الله والله خير الماكرين } ، وذكر فى الانجيل ان يهودا الذى دلهم على عيسى (ع) ندم على فعله والقى الدراهم اليسيرة وكانت ثلاثين قطعة من الفضة فى معبدهم وقتل نفسه. وورد فى اخبارنا انه القى شبه عيسى (ع) على شاب من تابعيه ليكون معه فى درجته. وفى الانجيل ان الذى كفر به الليلة التى أخذ فيها ثلاث مرات قبل ان يصيح الديك كان شمعون وانه كفر به، وانكره ثلاث مرات، وفى الانجيل ان اليهود صلبوا عيسى (ع) والتمس رجل من تابعيه من الملك ان يدفن جثته فأذن له ودفنه فى قبر نحته من الحجر لنفسه والقى على بابه حجرا عظيما ثم رفع من القبر بعد الموت واجتمع له الحواريون وعلم كل بلغة من ارسل اليهم، وروى عن النبى (ص) انه قال
" بعث الله عيسى بن مريم (ع) واستودعه النور والعلم والحكم وجميع علوم الانبياء قبله وزاده الانجيل وبعثه الى بيت المقدس الى بنى اسرائيل يدعوهم الى كتابه وحكمته والى الايمان بالله ورسوله فابى اكثرهم الا طغيانا وكفرا فلما لم يؤمنوا دعا ربه وعزم عليه فمسح منهم شياطين ليريهم آية فيعتبروا فلم يزدهم ذلك الا طغيانا وكفرا فاتى بيت المقدس فمكث يدعوهم ويرغبهم فيما عند الله ثلاثة وثلاثين سنة حتى طلبته اليهود وادعت انها عذبته ودفنته فى الارض حيا، وادعى بعضهم انهم قتلوه وصلبوه وما كان الله ليجعل لهم سلطانا عليه وانما شبه لهم "
، وروى عن الباقر (ع) ان عيسى (ع) وعد اصحابه ليلة رفعه الله اليه فاجتمعوا اليه عند الماء وهم اثنا عشر رجلا فأدخلهم بيتا ثم خرج عليهم من عين فى زاوية البيت وهو ينفض رأسه من الماء فقال ان الله اوحى الى انه رافعى اليه الساعة ومطهرى من اليهود فايكم يلقى عليه شبحى فيقتل ويصلب فيكون معى فى درجتى؟ - فقال شاب منهم: انا يا روح الله قال فأنت هو فقال لهم عيسى (ع) اما ان منكم من يكفر بى قبل ان يصبح اثنتى عشرة كفرة فقال له رجل منهم انا هو يا نبى الله فقال عيسى (ع) اتحس بذلك فى نفسك فلتكن هو ثم قال لهم عيسى (ع) اما انكم ستفرقون بعدى على ثلاث فرق، فرقتين مفتريتين على الله فى النار وفرقة تتبع شمعون صادقة على الله فى الجنة، ثم رفع الله عيسى (ع) اليه من زاوية البيت وهم ينظرون اليه ثم قال ان اليهود جاءت فى طلب عيسى (ع) من ليلتهم فأخذوا الرجل الذى قال له عيسى (ع): ان منكم لمن يكفر بى قبل ان يصبح اثنتى عشرة كفرة، وأخذوا الشاب الذى القى عليه شبه عيسى (ع) فقتل وصلب وكفر الذى قال له عيسى (ع) يكفر بى قبل ان يصبح اثنتى عشرة كفرة.
[3.55]
{ إذ قال الله يعيسى إني متوفيك } اى قابضك من الارض بحيث لم ينالوا منك شيئا من غير قبض روحك من توفيت مالى بمعنى أخذته بتمامه او متوفيك توفى منام على ما روى انه رفع نائما نظيره قوله هو الذى يتوفاكم بالليل اى ينيمكم او متوفيك توفى مماة؛ على ما نقل انه اماته ثلاث ساعات او على ما نقل فى الانجيل انه صلب وقتل ودفن او هو على التقديم والتأخير معنى بناء على ان الواو لا يفيد ترتيبا اى انى رافعك ثم متوفيك { ورافعك إلي } اى الى سمائى وسمى رفعه الى السماء رفعا الى نفسه تشريفا للسماء لانها بمنزلة حضرته { ومطهرك من الذين كفروا } من لوث مجاورتهم ومعاشرتهم او من منقصة قصدهم وقتلهم اياك { وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا } بك من اليهود المكذبين وغيرهم واما المسلمون فانهم غير مكذبين له وغير كافرين به بل هم الذين اتبعوه حقيقة فى اخباره ببعثة محمد (ص) فهم ايضا فوق الذين كفروا بالحجة والغلبة فى الدنيا والآخرة، واتى باسم الفاعل فى الاوصاف المذكورة الدال على الثبات والاستمرار للاشارة الى انها واقعة منه من حين التكلم وعلى هذا يجوز ان يكون { إلى يوم القيامة } متعلقا بالجميع على سبيل التنازع لا بجاعل الذين اتبعوك فقط { ثم إلي مرجعكم } الخطاب لعيسى (ع) وتابعيه ومكذبيه { فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون } ثم بين الحكم بينهم بقوله تعالى { فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا }.
[3.56]
{ فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا } كون هذه الجملة تفصيلا لقوله تعالى { فأحكم بينكم } وترتب قوله { فأحكم بينكم } على قوله تعالى { ثم الى مرجعكم } وتعقيبه لقوله تعالى { وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة } يدل على ان الرجوع الى الله بعد اتمام جعلهم فوق الكفار بالوصول الى يوم القيامة والتعذيب فى الدنيا يكون بعد رجوعهم الى الله وهو يدل على ان الرجوع الى الله يجوز ان يقع حين كونهم فى الحياة الدنيا كما عليه محققوا العلماء والعرفاء يعنى اذا تم فوقية المؤمنين على الكفار بوصولهم الى يوم القيامة حال كونهم فى الحياة الدنيا انقلب ابصارهم ورأوا رجوع الكل الى الله وانه فى المحاكمة بينهم بتعذيب الكفار فى الدنيا برذائل النفوس ووارداتها ومخوفاتها بحيث يحسبون كل صيحة عليهم وبالواردات الغير الملائمة من القتل والاسر والنهب وغير ذلك { والآخرة } بأنواع عذاب الجحيم او فى الدنيا بالواردات الغير الملائمة البدنية وفى الآخرة بالاوصاف والواردات الغير الملائمة النفسانية { وما لهم من ناصرين } لا فى الدنيا ولا فى الآخرة.
[3.57]
{ وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم } فى الدنيا والآخرة بقرينة المقابلة { والله لا يحب } اى يبغض كما مر مرارا { الظالمين } ابدل الظالمين من الكافرين للاشعار بذم آخر لهم.
[3.58]
{ ذلك } المذكور من قوله { ان الله اصطفى آدم ونوحا } الى قوله { والله لا يحب الظالمين } واتى باسم الاشارة البعيدة مقدما للاشعار بتعظيمه { نتلوه عليك من الآيات } من بيانية والمراد بالآيات الآيات التدوينية او الآيات العظام من الانبياء المذكورين وام مريم ومريم وزكريا ويحيى (ع) وعيسى (ع) وابناؤهم المذكورة { والذكر الحكيم } تعبير عن الآيات بوصف آخر فانها كلها ذكر لله لانفسها ولغيرها بحيث لا يتطرق النسيان والغفلة ولا الابطال والافساد اليها، او من فى قوله من الآيات ابتدائية اى نأخذها من الآيات العظام التى هى الذكر الحكيم والكتاب المبين واللوح المحفوظ والقلم الاعلى ولما كان خلق عيسى (ع) بلا اب محلا للشك والانكار وموهما للريبة والبهتان كما وقع ذلك لليهود والنصارى فقال بعضهم انه من السفاح وبعضهم انه من يوسف النجار الذى كانت مريم (ع) فى خطبته كما كان موهما للغلو والآلهة حتى قالوا: انه اله وكان مورثا للسؤال عن حاله هل له مثال رد الله تعالى هذا الوهم واجاب عن هذا السؤال فقال: { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم }.
[3.59]
{ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم } فلا غرو فى خلقه بلا اب لان آدم (ع) خلق بلا اب وام وهم يقرون به مع انه اغرب { خلقه من تراب } مستأنف جواب لسؤال مقدر او حال بتقدير قد وبيان لوجه الشبه يعنى خلق عيسى (ع) من الروح مثل خلق آدم من التراب، ونكر التراب للاشعار بأنه كان ترابا خاصا لا يمكن تعريفه { ثم قال له } اى لآدم والاتيان بثم للتفاوت بين الاخبارين فان التفصيل مرتبة بعد الاجمال او المعنى قدر خلقه من تراب ثم قال له { كن } او صور صورته من تراب ثم قال له كن بشرا تاما { فيكون } وقد مر هذه الكلمة وبيانها عند قوله
بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون
[البقرة:117] من سورة البقرة.
[3.60]
{ الحق } اى هذا المذكور من خلق عيسى (ع) بلا اب وعدم كونه من سفاح، او من اب وكونه مخلوقا لله لا الها هو الحق { من ربك } او الحق مبتدأ ومن ربك خبر عنه والمعنى ان جنس الحق او جميع افراده من ربك فلا حق من غيره وكلما كان مغايرا لما هو من ربك فهو باطل { فلا تكن من الممترين } فى توحيد الله بسبب قولهم انه ثالث ثلاثة، ولا فى رسالتك بانكارهم رسالتك، ولا فى امر عيسى (ع) بقولهم انه ولد من اب او من سفاح او انه رب او انه ابن الله.
[3.61]
{ فمن حآجك فيه } اى فى عيسى (ع) او فى الحق الذى من ربك من التوحيد ورسالتك وخلق عيسى (ع) وكونه بنفخ من الله من غير سفاح ومن غير اب وفى كونه عبدا غير رب { من بعد ما جآءك من العلم } من بيانية او تبعيضية ولم يقل من بعد ما اخذت او تعلمت العلم للاشعار بان العلم اجل وارفع من ان يحصل بالكسب وانما هو نور يقذفه الله فى قلب من يشاء والتفسير بمجيء البينات الموجبة للعلم كما عن العامة تفسير مستغنى عنه { فقل } لهم بعد ان لم ينجع فيهم الحجة ولم يرتدعوا بالبيان والبرهان { تعالوا } الينا او الى مجتمع الناس حتى نجيء نحن للحجة الفارقة التى لا يشك احد عند مشاهدتها فى الغالب والمغلوب والمحق والمبطل وتلك الحجة هى الابتهال الذى هو الاجتهاد فى الدعاء بخير او بشر ليلحق لعن الحق تعالى وعقوبته للمبطل منا ويظهر بطلانه، ودعاء الخصم الى مثل هذا الامر لا يكون الا من العلم بصدق نفس الداعى وبطلان خصمه واليقين باجابة الله له، فان الشاك فى امره لا يجترئ على مثل هذا الامر، والشاك فى الاجابة يتخوف من بطلان الدعوى بعدم الاجابة، ولكونه على يقين من أمره أمر بدعاء أعزة آهالهم فان الانسان لا يقدم على اهلاك اهله معه بل يخاطر بنفسه دونهم ويجعل نفسه غرضا للبلايا والقتل لحفظهم ولذلك قدم الاهم فالاهم فان الابناء اعز الانفس على الرجل ثم النساء لان غيرة الناموس تقتضى الدخول فى المهالك لحفظهن ومن ثم كانوا يسوقون الظعائن فى الحروب معهم لتمنعهم من الهرب وقال: { تعالوا }.
تحقيق شرافة من كان مع محمد فى المباهلة
{ ندع أبناءنا وأبنآءكم } هذا من قبيل قالوا كونوا هودا او نصارى { ونسآءنا ونسآءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل } يجتهد كل منا فى الدعاء على الآخر { فنجعل } بدعائنا { لعنت الله } طرد الله وابعاده من رحمته وهو كناية عن العقوبة { على الكاذبين } هذه الآية من أدل الدلائل على صدقه فى نبوته، وعلى شرافة من أتى بهم للمباهلة وكونهم أعزة اهله واصحابه، ولا خلاف بين الفريقين انه (ص) لم يأت بأحد معه للمباهلة سوى الحسنين (ع) وفاطمة (ع) وعلى (ع). روى عن الصادق (ع) ان نصارى نجران لما وفدوا على رسول الله (ص) وكان سيدهم الاهتم والعاقب والسيد وحضرت صلاتهم فأقبلوا يضربون بالناقوس وصلوا فقال اصحاب رسول الله (ص): يا رسول الله (ص) هذا فى مسجدك؟ - فقال:
" دعوهم، فلما فرغوا دنوا من رسول الله (ص) فقالوا الى ما تدعو؟ - فقال: الى شهادة ان لا اله الا الله وانى رسول الله وان عيسى عبد مخلوق يأكل ويشرب ويحدث، قالوا: فمن ابوه؟ - فنزل الوحى على رسول الله (ص) فقال: قل لهم ما تقولون فى آدم (ع) اكان عبدا مخلوقا يأكل ويشرب ويحدث وينكح؟ - فسألهم النبى (ص)، فقالوا: نعم، قال: فمن أبوه؟ - فبهتوا فأنزل الله: ان مثل عيسى عند الله كمثل آدم الى قوله { فنجعل لعنت الله على الكاذبين } ، فقال رسول الله (ص): فباهلونى فان كنت صادقا انزلت اللعنة عليكم وان كنت كاذبا انزلت على، فقالوا: انصفت فتواعدوا للمباهلة فلما رجعوا الى منازلهم قال رؤساؤهم: ان باهلنا بقومه باهلناه فانه ليس نبيا وان باهلنا بأهل بيته خاصة فلا نباهله فانه لا يقدم الى اهل بيته الا وهو صادق، فلما أصبحوا جاؤا الى رسول الله (ص) ومعه أمير المؤمنين (ع) وفاطمة (ع) والحسن (ع) والحسين (ع) فقال النصارى: من هؤلاء؟ - فقيل لهم: ان هذا ابن عمه ووصيه وختنه على بن ابى طالب (ع) وهذه بنته فاطمة (ع) وهذان ابناه الحسن (ع) والحسين (ع) ففرقوا وقالوا لرسول الله (ص): نعطيك الرضا فاعفنا عن المباهلة فصالحهم رسول الله (ص) على الجزية وانصرفوا "
، وفى الكشاف روى: انه (ص) لما دعاهم الى المباهلة قالوا: نرجع وننظر فلما تخلوا قالوا لعاقب وكان ذا رأيهم: يا عبد المسيح ما ترى؟ - فقال: والله لقد عرفتم يا معشر النصارى ان محمدا (ص) نبى مرسل ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم والله ما باهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ولئن فعلتم لنهلكن فان ابيتم الا الف دينكم والاقامة على ما انتم عليه فوادعوا الرجل وانصرفوا الى بلادكم، فأتوا رسول الله (ص) وقد غدا محتضنا الحسين آخذا بيد الحسن وفاطمة تمشى خلفه وعلى (ع) خلفها وهو يقول:
" اذا انا دعوت فأمنوا، فقال اسقف نجران: يا معشر النصارى انى لأرى وجوها لو سألوا الله ان يزيل جبلا من مكانه لازاله بها، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الارض نصرانى الى يوم القيامة، فقالوا: يا ابا القاسم رأينا ان لا نباهلك وان نقرك على دينك ونثبت على ديننا، قال: فاذا ابيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم، فأبوا قال: فانى اناجزكم، فقالوا: ما لنا بحرب العرب من طاقة ولكن نصالحك على ان لا تغزونا ولا تردنا عن ديننا على ان نؤدى اليك كل عام ألفى حلة الف فى صفر والف فى رجب وثلاثين درعا من حديد؛ فصالحهم على ذلك، وقال: والذى نفسى بيده ان الهلاك قد تدلى على أهل نجران ولولا عنوا لمسخوا قردة وخنازير، ولا اضطرم عليهم الوادى نارا ولا استأصل الله نجران وأهله حتى الطير على رؤس الشجر "
وعن عائشة رضى الله عنها
" ان رسول الله (ص) خرج وعليه مرط مرحل من شعر اسود فجاء الحسن (ع) فأدخله ثم جاء الحسين (ع) فأدخله ثم فاطمة (ع) ثم على (ع) ثم قال: انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس اهل البيت "
، فان قلت: ما كان دعاؤه الى المباهلة الا لتبيين الكاذب منه ومن خصمه وذلك امر يختص به وبمن يكاذبه فما معنى ضم الابناء والنساء؟ - قلت: ذلك. اكد فى الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه حيث استجرأ على تعريض اعزته وافلاذ كبده واحب الناس اليه لذلك ولم يقتصر على تعريض نفسه له وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع احبته واعزته هلاك الاستئصال ان تمت المباهلة وخص الابناء والنساء لانهم أعز الاهل وألصقهم بالقلوب وربما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل ومن ثم كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن فى الحروب لتمنعم من الهرب وقدمهم فى الذكر على الانفس لينبه على لطف مكانهم وقرب منزلتهم وليؤذن بأنهم مقدمون على الانفس مفدون بها، وفيه دليل لا شيء اقوى منه على فضل اصحاب الكساء (ع)، وفيه برهان واضح على صحة نبوة النبى (ص). تم ما نقل من الكشاف، وقد نقلناه بطوله ليعلم انهم مقرون بفضل اصحاب الكساء وانهم على (ع) وفاطمة (ع) والحسن (ع) والحسين (ع)، وانه لم يكن احد اعز عليه من هؤلاء وان من منعهم حقهم او آذاهم كان اشد على نفسه ممن منع حقه وآذاه والحمد لله.
[3.62]
{ إن هذا } المذكور من بناء عيسى (ع) وحمل مريم (ع) به وتولده الى آخر ما ذكر فى حقه { لهو القصص } مصدر قصصت الحديث واقتصصته رويته على جهته وهو بمعناه المصدرى اى بمعنى المقصوص وهذا يفيد الحصر سواء كان الضمير للفصل او اسما مبتدأ ثانيا والمراد الحصر الاضافى بالنسبة الى ما قالوه فى حق عيسى (ع) فانه لا يخلو من شوب باطل بخلافه فانه القصص { الحق } الذى لا يشوبه باطل { وما من إله إلا الله } تصريح ببعض ما يستفاد من الحصر السابق يعنى هذا هو الحق لا ما قالوه فى حقه ومن جملة ما قالوه انه اله وانه ثالث ثلاثة وما من اله الا الله { وإن الله لهو العزيز } الغالب الذى لا يمنع من مراده { الحكيم } فى علمه وعمله وهو عطف فى معنى التعليل يعنى ان الاله ينبغى ان يكون عزيزا وحكيما حتى يعلم غايات الامور على ما ينبغى، ويتمكن من العمل على ما ينبغى، وحتى لا يغلب فى مراده؛ وهذه الاوصاف منحصرة فى الله فما من اله الا الله لا عيسى (ع) متفردا او مشاركا.
[3.63]
{ فإن تولوا } يعنى هؤلاء المحاجون عنك او عن دينك او عن قصص عيسى (ع) على ما ذكر فليحذروا { فإن الله عليم بالمفسدين } اى بهم ووضع الظاهر موضع المضمر للاشعار بأنهم فى التولى مفسدون فى عالمهم الصغير والكبير.
[3.64]
{ قل } يا محمد (ص) بعد ما اتممت لهم الحجة بتقرير حال عيسى (ع) واثبات المخلوقية والعبدية له من بيان احواله ثم بالزامهم بالمباهلة بعد ان لم تنجع فيهم الحجة البيانية وانقيادهم شيئا من الانقياد مع بقائهم على دينهم لعموم اهل الكتاب من اليهود والنصارى بطريق اللطف فى المحاجة والمداراة فيها { يأهل الكتاب تعالوا } من الخلاف والشقاق { إلى } الاتفاق والاجتماع فى { كلمة } واحدة هى توحيد الله فى العبادة وفى الآلهة وفى الطاعة { سوآء بيننا وبينكم } يعنى حتى تصير تلك الكلمة متساوية النسبة فى القبول بيننا وبينكم فلفظ سواء مصدر بمعنى اسم الفاعل للزمان الاتى { ألا نعبد إلا الله } بخلاف عبدة عزير باعتقاد انه ابن الله من اليهود، وعبدة المسيح باعتقاد انه الله او انه ابن الله من النصارى وهو خبر مبتدء محذوف او بدل من كلمة { ولا نشرك به شيئا } فى الآلهة بخلاف من قال من النصارى ان الله ثالث ثلاثة { ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله } فى الطاعة بخلاف من اتخذ الاحبار والرهبان والرؤساء اربابا فى الانقياد والطاعة ثابتين بعضا من غير الله، او ناشئة ربوبيتهم من غير الله، او من غير اذن الله فلفظ من للتبعيض والظرف مستقر وصف لاربابا، او لفظ من للابتداء والظرف لغو، او مستقر وصفة لاربابا، وطاعة المخلوق فى الدين من غير اذن الله وأمره به نحو عبادة للمطاع من حيث لا يشعر؛ ولذلك قال فى سورة التوبة:
اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم ومآ أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا
[التوبة:31] يعنى ان طاعتهم للاحبار من غير نظر الى اذن الله وأمره عبادة لهم وما أمروا الا بالعبادة للاله الواحد وروى انه لما نزلت آية اتخذوا احبارهم ورهبانهم اربابا من دون الله قال عدى بن حاتم: ما كنا نعبدهم يا رسول الله (ص)؟ - قال:
" اليس كانوا يحلون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم؟ - قال: نعم، قال: هو ذاك "
{ فإن تولوا } عن الاتفاق فى الكلمة معكم مع ان الانبياء واممهم كانوا متفقين فى تلك الكلمة { فقولوا } جمع الامة معه (ص) فى الخطاب لان هذا الكلام امر بالموادعة معهم بعد اتمام الحجة والزامهم، وهذا لجميع الامة بخلاف الكلمات السابقة فانها كانت دعوة واحتجاجا وليسا الا شأنه (ص) ولذلك خصه فى السابق بالخطاب { اشهدوا } يعنى تبجحوا وتفاخروا بالانقياد لتلك الكلمة وقولوا لمن تولوا عن الانقياد: اشهدوا علينا { بأنا مسلمون } منقادون لتلك الكلمة.
[3.65]
{ يأهل الكتاب } نداء من محمد (ص) وامته لهم على سبيل التبجح وما بعده من كلامهم او مستأنف من الله تعالى او النداء من الله لهم وعلى اى تقدير يدل الاتيان باداة نداء البعيد على كمال غفلتهم وحاجتهم الى نداء البعيد { لم تحآجون في إبراهيم } اى فى شريعته وملته وانه على اى ملة كان على ما قيل ان احبار اليهود ونصارى نجران اجتمعوا عند رسول الله (ص) فتنازعوا فى ابراهيم (ع) فقالت اليهود: ما كان الا يهوديا، وقالت النصارى: ما كان الا نصرانيا فأنزل الله هذه الآية { ومآ أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده } يعنى ان ملة التهود وشريعته كانت من التوراة وشريعة التنصر كانت من الانجيل ونزلت التوراة بعد ابراهيم نحوا من الف سنة ونزل الانجيل بعده نحوا من الفين { أفلا تعقلون } ان هذه دعوى برهان بطلانها معها ولا يدعى مثلها العاقل.
[3.66]
{ هأنتم هؤلاء } منادى او بدل او خبر والاتيان به وبأداتى التنبيه للاشعار بانهم من حمقهم وبلادتهم لا يتنبهون بدون التأكيد فى التنبيه وبدون النداء، واذا كان هؤلاء بدلا او خبرا كان كالتصريح ببلادتهم فان المعنى انتم هؤلاء الحمقى الذين ادعوا دعوى برهان بطلانها معها { حاججتم فيما لكم به علم } من امر موسى (ع) وشريعته وامر عيسى (ع) وشريعته يعنى كان فى ذلك علم اجمالى لكم وشأنكم ان يكون ذلك معلوما لكم فحاججتم وصرتم مغلوبين فى المحاجة { فلم تحآجون فيما ليس لكم به علم } من امر ابراهيم وشريعته يعنى ان العاقل اذا صار مغلوبا حين المحاجة فى امر يكون معلوما له او من شأنه ان يكون معلوما له ينبغى ان يتحرز عن المحاجة فيما ليس له به علم، ومن لم يتحرز عن المحاجة فيما ليس من شأنه العلم به كان سفيها غير عاقل { والله يعلم } فيعلم نبيه { وأنتم لا تعلمون } فمحاجتكم مع الرسول محاجة الجاهل مع العالم وليست وصف العاقل.
[3.67]
{ ما كان } متعلق بيعلم ولا تعلمون على سبيل التنازع وعلقهما لفظ ما عن العمل، او ابتداء كلام من الله للرد على اليهود والنصارى والمشركين فى دعاويهم الباطلة فانه بعد ما سفههم تلويحا وتصريحا صرح بالمدعى وابطال دعواهم فقال: ما كان { إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا } مستقيما او مائلا الى الدين الحق من الاديان الباطلة ولمناسبة احد المعنيين فسر بالخالص وهو تعريض بهم { مسلما } منقادا لله او صابرا ذا سلامة من عيوب النفس وبهذا المعنى فسر بالمخلص وهو ايضا تعريض بهم { وما كان من المشركين } رد على المشركين لانه ادعى مشركوا مكة ان ملتهم ملة ابراهيم (ع) ولما كان نفى الاشراك خارجا مما كان البحث والمحاجة فيه كرر النفى والفعل للاشعار بكونه نفيا آخر، نسب الى امير المؤمنين (ع) انه قال: لا يهوديا يصلى الى المغرب ولا نصرانيا يصلى الى المشرق ولكن كان حنيفا مسلما على دين محمد (ص).
[3.68]
{ إن أولى الناس } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: اذا لم يكن اليهودية والنصرانية وملة الشرك منسوبة الى ابراهيم فمن كان اقرب الخلق اليه؟ - فقال: ان اقرب الناس واحقهم { بإبراهيم للذين اتبعوه } فى زمانه وبعده الى بقاء امته { وهذا النبي والذين آمنوا } اى اسلموا بالبيعة العامة على يده تعريض بهم ونفى لولايتهم به فانهم ادعوا اولويتهم به كل بوجه فقال تعالى: ان الاولى به فى زمانه امته، وفى هذا الزمان محمد (ص) وامته لانهم احيوا ملته وما خالفوه فى اصول العقائد، واولى الناس بالانبياء اعملهم بما جاؤا به، عن الصادق (ع) هم الائمة ومن اتبعهم يعنى الذين آمنوا فأراد من الايمان، الايمان الخاص الحاصل بالبيعة الخاصة الولاية وقبول الدعوة الباطنة المورثة دخول الايمان فى القلب والباعثة لمعرفة هذا الامر والدخول فى أمرهم وعن عمر بن يزيد عنه قال: انتم والله من آل محمد (ص) فقلت: من أنفسهم جعلت فداك؟ - قال: نعم والله من أنفسهم ثلاثا ثم نظر الى ونظرت اليه، فقال: يا عمر ان الله يقول فى كتابه: ان اولى الناس؛ الآية، وعن امير المؤمنين (ع) ان { أولى الناس } بالانبياء أعملهم بما جاؤا به، ثم تلا هذه الآية: قال: ان ولى محمد (ص) من أطاع الله وان بعدت لحمته، وان عدو محمد (ص) من عصى الله وان قربت قرابته { والله ولي المؤمنين } تشريف آخر لهم وتعريض بأهل الكتاب حيث قالوا: { نحن ابناء الله واحباؤه }.
[3.69]
{ ودت } كلام منقطع عن سابقه كأنه اراد بعد تسفيه اهل الكتاب وتشريف المؤمنين ان يهيجهم لئلا يغتروا باضلال اهل الكتاب فقالت: ودت { طآئفة } قليلة لان أكثرهم كالبهائم لا يتنبهون بضلال واضلال وهداية { من أهل الكتاب لو يضلونكم } اى اضلالكم { وما يضلون } بارادة اضلال المؤمنين { إلا أنفسهم } فان الضال اذا اراد اضلال الغير اشتد ضلال نفسه فهو باضلال الغير يضل نفسه { وما يشعرون } انهم فى اضلال الغير ومنعه عن الخير يضلون أنفسهم ويمنعونها عن خيرها، او ما يضلون من المؤمنين الا أسناخهم فان من لم يكن من سنخهم من المؤمنين لا يضل باضلالهم، ومن يضل باضلالهم كان من سنخهم لانه كان كافرا مثلهم وكان الايمان عرضا معارا لهم، او ما يضلون وما يزيدون بارادة اضلال المؤمنين الا فى ضلال امثالهم من الكفار فان الكافر اذا رأى وسمع اضلال قرينه للمؤمنين اشتد ضلاله.
[3.70]
{ يأهل الكتاب } ناداهم بنداء البعيد تحقيرا وتبعيدا لهم عن ساحة الحضور وتنبيها على كمال غفلتهم { لم تكفرون بآيات الله } التدوينية الثابتة فى التوراة والانجيل والقرآن فى نعت محمد (ص) ووصيه (ع) وفى الاحكام المشروعة لكم فيها، او التكوينية الثابتة فى العالم الكبير من موسى (ع) وعيسى (ع) ومحمد (ص)، او الثابتة فى العالم الصغير من العقول الزاجرة عن اتباع الهوى والواردات الزاجرة والمرغبة { وأنتم تشهدون } تعلمون آيات الله او حاملون للشهادة لآيات الله، والكفر والكتمان بعد العلم اشد، او انتم تؤدون الشهادة بصدق الآيات اذا خلوتم مع امثالكم، او انتم تشاهدون وتعاينون الآيات من حيث انها آيات، وهذه الآية مثل الآية الآتية تعريض بأمة محمد وكفرهم بآيات الله التدوينية والتكوينية مع تحملهم للشهادة على خلافة على (ع).
[3.71]
{ يأهل الكتاب } كرر النداء لما ذكر من وجه الاتيان بنداء البعيد { لم تلبسون } تخلطون { الحق بالباطل } والمراد به ما كانوا يفعلونه من تحريف التوراة والانجيل وكتمان ما فيهما من نعت محمد (ص) ووصيه (ع) ومن اظهار الاسلام صدر النهار والرجوع منه آخره تدليسا على المؤمنين وتشكيكا لهم، ومن اظهار الكفر بمحمد (ص) وابطان التصديق به ومن اظهار تصديق موسى (ع) وعيسى (ع)، وابطان انكار ما ورد منهما فى نعت محمد (ص) ويجرى ذلك الخلط والكتمان فى اهل الكتاب ممن اسلم على يد محمد (ص) بالبيعة العامة او آمن بالبيعة الخاصة فانه يقال لهم: لم تلبسون العقائد الحقة المأخوذة بالآراء الكاسدة النفسانية، واللمات الالهية باللمات الشيطانية، والزاجرات الملكية بالشهوات الحيوانية، والعبادات القالبية والقلبية بالاغراض الفاسدة، ولو كانت قربا من الله او رضاه من العابد او انعامه عليه { وتكتمون الحق وأنتم تعلمون } الحق او اللبس والكتمان، او انتم العلماء وكون الآية تعريضا بالامة ظاهر.
[3.72]
{ وقالت طآئفة } قليلة لما ذكر فى السابق من ان اكثرهم كالبهائم لا يهتدون الى الحيل الشيطانية { من أهل الكتاب آمنوا } اى اظهروا ايمانكم { بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار } لتتمكنوا من الانكار والقاء الشبه فى قلوب الذين آمنوا فان المقر بشيء اذا انكره كان انكاره اوقع واشد تأثيرا من انكار من لا يعرف ذلك الشيء لان السامع يظن انه ابصر خللا فيه وانكره { واكفروا آخره } اى آخر النهار { لعلهم يرجعون } روى فى نزول الآية ان رسول الله (ص) لما قدم المدينة وهو يصلى نحو بيت المقدس اعجب ذلك القوم فلما صرفه الله عن بيت المقدس الى بيت الله الحرام وجدت اليهود من ذلك وكان صرف القبلة صلاة الظهر فقالوا: صلى محمد (ص) الغداة واستقبل قبلتنا فآمنوا بالذى انزل على محمد (ص) وجه النهار واكفروا آخره، يعنون القبلة حين استقبل رسول الله (ص) المسجد الحرام لعلهم يرجعون الى قبلتنا.
[3.73]
{ ولا تؤمنوا } من كلام تلك الطائفة وعطف على آمنوا والمعنى لا تظهروا ايمانكم اللسانى مع ابطان التهود او التنصر { إلا لمن تبع دينكم } اى الا لمن كان على دينكم قبل اسلامه فانهم اقرب الى قبول قولكم ولا يكون رجوعهم الا الى دينكم فيتقوى به دينكم واهل دينكم بخلاف غيرهم فانهم لا ينجع فيهم قبولكم وانكاركم، ولو نجع لا تنتفعون برجوعهم عن دين الاسلام لعدم دخولهم فى دينكم، او المعنى لا تصدقوا الا لمن تبع دينكم، او لا تظهروا اقراركم بان يؤتى احد مثل ما اوتيتم الا لمن تبع دينكم، او قوله تعالى ولا تؤمنوا خطاب من الله للمؤمنين يعنى لا تغتروا ايها المؤمنون بقول اهل الكتاب بمحض اظهار الايمان ولا تصدقوا لاحد الا لمن تبع دينكم حتى يظهر صدق قوله بآثار فعله وعلى اى تقدير فقوله تعالى: { قل إن الهدى هدى الله } معترضة وقوله تعالى { أن يؤتى } متعلق بلا تؤمنوا والمعنى لا تؤمنوا بان يؤتى، او قوله قل ان الهدى ابتداء كلام من الله وهدى الله بدل من الهدى، او خبر له وان يؤتى خبر له على الاول وخبر بعد خبر على الثانى والمعنى ان الهدى اعتقادان يؤتى { أحد مثل مآ أوتيتم } من الكتاب والشريعة { أو يحآجوكم عند ربكم } بان يحاجوكم او حتى يحاجوكم وضمير يحاجوكم راجع الى احد لعمومه معنى وقرئ ان يؤتى بالمد بهمزة الاستفهام وتخفيف همزة ان على معنى اتذكرون ان يؤتى احد مثل ما اوتيتم حتى يحاجوكم عند ربكم وقرئ بكسر همزة ان على معنى النفى { قل } لاهل الكتاب ليس فضل الله بأيديكم حتى تؤتوه وتمنعوه بحيلكم { إن الفضل بيد الله } والمراد بالفضل اعم من الكتاب والحكمة والرسالة والنبوة والهداية والسعة فى الصدر والدنيا { يؤتيه من يشآء والله واسع } لانفاد فى فضله بايتائه لموسى (ع) وعيسى (ع) وامتهما حتى لا يؤتيه غيرهما كما زعمتم وادعيتم { عليم } بمن كان اهلا لايتائه فكلما وجد أهلا له اعطاه ولو كرهتموه.
[3.74]
{ يختص برحمته من يشآء } اى يميز برحمته من يشاء من غيره ولما كان الفضل عبارة عن الرسالة وعن قبولها بالبيعة العامة النبوية وقبول الدعوة الظاهرة وكان الرحمة عبارة عن الولاية وعن قبولها بالبيعة الخاصة الولاية وقبول الدعوة الباطنة اتى فى جانب الفضل بالايتاء الدال على مطلق الاعطاء لعموم دعوة الرسالة وعموم قبولها وفى جانب الرحمة بالاختصاص المشعر بالامتياز الاختيار { والله ذو الفضل العظيم } بحيث لا نفاد فى فضله ولا ضنة له فى اعطائه.
[3.75]
{ ومن أهل الكتاب } عطف باعتبار المعنى كأنه قال: من اهل الكتاب من يحتال بالحيل الشيطانية ومنهم من يكون سالما من الحيل، ومن اهل الكتاب فى مقام الامانة والخيانة { من إن تأمنه بقنطار } الباء للتعدية والقنطار اربعون وقية من الذهب او الف ومأتا دينار او ثمانون الف درهم، او مئة رطل من الذهب او الفضة، او الف دينار او ملء مسك ثور ذهبا او فضة، او الف ومأتا وقية، او سبعون الف دينار والمراد مدح بعضهم بأنك ان تأمنه بكثير من المال لا يخنه و { يؤده إليك } قيل: المراد بهذا البعض النصارى { ومنهم من إن تأمنه بدينار } اصله دنار بدليل دنانير والمقصود المال القليل يخنه و { لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قآئما } اى الا ما لم تغب عن نظره وقيل: المراد بهذا البعض اليهود والحق انه لا اختصاص لشيء منهما بفرقة منهما { ذلك } المذكور من عدم الاداء { بأنهم قالوا ليس علينا في } حق { الأميين سبيل } يعنى ليس علينا عقوبة فى التقصير فى حقوق من ليسوا من اهل الكتاب والمراد بالاميين اما اهل مكة او اهل الاسلام لانتسابهم الى محمد (ص) المبعوث من مكة، او محمد (ص) الذى لم يقرأ ولم يكتب، او المراد كل من لم يكن له كتاب وشريعة وملة الهية وذلك انهم استحلوا ظلم من خالفهم وقالوا: لم يجعل لهم فى التوراة حرمة وعن النبى (ص) انه لما قرأ هذه الآية قال:
" كذب اعداء الله ما من شيء كان فى الجاهلية الا وهو تحت قدمى الا الامانة فانها مؤداة الى البر والفاجر "
{ ويقولون } اى يعلقون بقولهم هذا { على الله الكذب وهم يعلمون } انه كذب وهذا تعريض بالامة وما أحدثوه بعد وفاة الرسول (ص) من الاختلاف وانكار كل فرقة حرمة الاخرى كما هو واقع فى زماننا بين المنتحلين للتشيع والمقرين بالائمة الاثنى عشر حيث يكفر ويلعن بعضهم بعضا ويستحلون أموالهم ودماءهم وفروج المحصنات من نسائهم بادعاء كل ان المخالف لمذهبنا لا حرمة له فى نفسه وماله وعرضه.
[3.76]
{ بلى } عليهم سبيل فان الله لا يدع ظلامة العباد { من أوفى } ابتداء كلام تعليل لجملة تضمنتها بلى يعنى عليهم سبيل لان كل من اوفى { بعهده } الذى عاهده مع نبى (ص) او وصى نبى (ع) بالبيعة العامة او الخاصة والوفاء بسائر العهود من الوفاء بهذا العهد فانه مأخوذ فيه { واتقى } من مخالفة ما عاهد به فى بيعته والامانة جزء ما عاهد به سواء كان اميا او من اهل الكتاب { فإن الله يحب المتقين } وضع الظاهر موضع المضمر للاشعار بعلة الحكم فكأنه قال: فان الله يحبه والمحب ينتقم ممن ظلم محبوبه ويجوز ان يكون بلى تقريرا لسابقه على مرجوحية ويكون المعنى: بلى لا سبيل على المؤمن المعاهد بشرط الوفاء بالعهد واتقاء مخالفة ما وصف فى عهده لان من اوفى بعهده واتقى المخالفة صار محبوبا لله والمحبوب لا يناله مكروه من المحب ولا يؤاخذه المحب على ما فرط منه بالنسبة الى عدوه.
[3.77]
{ إن الذين يشترون } كان اقتضاء المقابلة ان يقال: ومن لم يوف بعهده ولم يتق فان الله يبغضهم لكنه ابرزه فى صورة الجواب لسؤال مقدر ليكون اوقع، واكده بمؤكدات وبسط فى الكلام لاقتضاء مقام السخط ذلك فكأنه قيل: قد علم حال الوافى بالعهد المتقى فما حال هؤلاء الناقضين الناكثين؟ - فقال: ان الذين يشترون { بعهد الله } الذى عاهدوه فى البيعة { وأيمانهم } جمع اليمين بمعنى القسم وانما سمى يمينا لانهم كانوا حين الحلف يعقدونه بايمانهم، او المراد عقود البيعة فان البيعة لا تعقد الا بالايمان { ثمنا قليلا } من اعراض الدنيا واغراضها فان الدنيا برمتها ثمن بخس عند من يرتضيها، واما من كان متوجها الى الآخرة متلذذا بلذائذها فهو نافر منها كل النفرة منزجر عنها كل الانزجار، وان توقف عليها بأمر من الله كان كمن حبس فى مزبلة كثيرة الحشرات خبيثة المؤذيات { أولئك } تكرار المبتدأ باسم الاشارة البعيدة للتأكيد وللاحضار بالاوصاف الذميمة وللتبعيد عن ساحة الحضور { لا خلاق لهم } لا نصيب لهم { في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة } عدم التكليم وعدم النظر كناية عن سخطه تعالى عليهم { ولا يزكيهم } لا يثنى عليهم ولا يذكرهم بخير، او لا يطهرهم من ذنوبهم { ولهم عذاب أليم } اثبت العذاب الاليم بعد ما نفى الاوصاف التى فيها تشريف بترتيب الاشرف فالادون عنهم، نسب الى النبى (ص) انه من حلف على يمين يقطع بها مال اخيه لقى الله عز وجل وهو عليه غضبان فأنزل الله تصديقه فى كتابه، ان الذين يشترون؛ الآية.
[3.78]
{ وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب } عطف على قوله: { ومن أهل الكتاب من إن تأمنه } واتى بأداتى التأكيد فى المعطوف لأنه ابلغ فى الذم ويتطرق الشك والانكار فيه، ولواه فتله وثناه، ويشبه ان يكون الكلام على القلب والتقدير يلوون الكتاب بألسنتهم ومثل هذا القلب كثير، او هو على الاصل بناء على تشبيه اللسان بالمفتول والكتاب بآلة الفتل، او على كون المعنى يحركون السنتهم بالكتاب، والمقصود انهم يحرفون الكتاب بحسب اللفظ بالزيادة والنقيصة والتبديل، وبحسب المعنى بالتغيير عن معناه والحمل على المعنى الغير المراد، او المعنى يفتلون الكتاب بالسنتهم لا بلسان الله او يحركون السنتهم لا لسان الله بالكتاب { لتحسبوه } اى الذى جرى على ألسنتهم { من الكتاب } لتشابهه صورة بما فى الكتاب يعنى أنهم بارائهم وانانياتهم يقرؤن شيئا من التوراة والانجيل، او يذكرون شيئا من أحكام شريعة موسى (ع) وعيسى (ع) بناء على عدم اختصاص الكتاب بصورة التوراة والانجيل لتحسبوا المقروء او المذكور ايها السامعون من التوراة والانجيل، او من الشريعتين.
تحقيق التواء الكتاب باللسان المضاف الى النفس
{ وما هو من الكتاب } لان الكتاب هو الذى يجرى على لسان صار لسان الله لخلو صاحبه من نسبة الوجود الى نفسه وصيرورته وصيرورة اعضائه الات الله، وهذا المقروء وان كان بصورة الكتاب لكنه جار على لسان لا نسبة بينه وبين الله، ونقوش الكتاب وحروفه وان كانت كلية لا اختصاص لها بنقش كتاب مخصوص ولا بحرف لسان مخصوص لكن شرط صدق الكتاب عليها ان تكون صادرة عن يد منتسبة الى الله، او لسان منسوب اليه كأيدى الانبياء (ع) وألسنتهم، غاية الامر ان يكون نسبة التابع اضعف من نسبة النبى (ص) المتبوع، ونظير هذه الآية قوله تعالى:
فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم
[البقرة: 79] يعنى لا بيد الله
ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا
[البقرة: 79]؛ الآية، وللاشارة الى انه ينبغى ان يكون لسان العبد حين القراءة وكذلك يده حين الكتابة لسان الله ويده امر الله تعالى عباده بتلاوة القرآن وامر المعصومون ان يقولوا: لبيك اللهم لبيك؛ عند قولهم: { يا ايها الذين آمنوا } ، وان يقولوا كذلك الله ربى؛ عند قرأة التوحيد، وان يسبحوا ويحمدوا ويستغفروا الله؛ عند قراءة { اذا جاء نصر الله } ، وامثال ذلك مما يدل على انه ينبغى ان يفرض لسان القارىء لسان الله ثم عومل مع المقروء نحو معاملة مقرو الله كثيرة { ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله } بل هو من عند أنفسهم ومن عند الشيطان { ويقولون على الله الكذب } بهذا القول { وهم يعلمون } انه كذب، او هم المعدودون من العلماء، او المعنى يقولون على الله الكذب غير ما يفتلونه بالسنتهم وهم يعلمون انه كذب.
[3.79]
{ ما كان } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: هل يجوز لنبى (ص) ان يدعو الناس الى نفسه؟ - او هو جواب لسؤال كان مذكورا ولم يحك لنا على ما قيل: ان ابا رافع القرظى والسيد النجرانى قالا:
" يا محمد (ص) أتريد ان نعبدك ونتخذك ربا؟ - فقال: معاذ الله ان نعبد غير الله وان نأمر بعبادة غير الله فما بذلك بعثنى، ولا بذلك أمرنى "
، فنزل { ما كان } اى ما صح { لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة } والمراد بالكتاب الرسالة واحكامها والكتاب التدوينى صورتها وبالحكم الولاية وآثارها والنبوة برزخ بينهما ولذلك أخرها { ثم يقول للناس كونوا عبادا لي } لانه ما لم يخرج من انانيته ولم يحي بانانية الله ولم يبق بالله لم يؤت الكتاب، واذا خرج من انانيته لم يكن له نفسية حتى يقول: { كونوا عبادا لي من دون الله } بل ان قال { كونوا عبادا لى } كان قوله متحدا مع قوله كونوا عبادا لله فانه ان قال انا كان اناه من الحق جاريا على لسانه لا من نفسه كما اشار اليه المولوى قدس سره:
كفت فرعونى انا الحق كشت بست
كفت منصورى انا الحق و برست
اين اناهو بود در سراى فضول
ز اتحاد نور نزراه حلول
بود انا الحق در لب منصور نور
بود انا الله در لب فرعون زور
آن انا بى وقت كفتن لعنت است
وين انا در وقت كفتن رحمت است
وكما انه لا يجوز الدعوة الى نفسه لمن بقى عليه من انانيته شيء كذلك لا يجوز ذلك اذا كان المدعو محجوبا عن مشاهدة الحق تعالى فى المظاهر فان المحجوب اذا دعى الى المظاهر كان اضلالا ودعوة الى عبادة الاسم دون المعنى، ولهذا طرد الصادق (ع) ابا الخطاب بعد ما كان يدعو المريدين ممن لا يرى الله فى المظاهر الى آلهة الصادق (ع)، واذا خرج الداعى من انانيته وبقى بانانية الله كان الداعى هو الله لان الدعوة كانت من الله بآلة لسان الداعى واذا كان المدعو ايضا لا يرى فى مظهر النبى (ص) الا الله كان النبى اسما محضا من غير شوب كونه مسمى، فاذا دعا هذا الداعى الى نفسه كان دعاؤه الى الله واذا لم ير المدعو فى مظهر الداعى الا الله لم يكن توجهه الا الى المسمى لا الاسم فلم يكن عبادته الا للمسمى بايقاع الاسم عليه، وبهذا الوجه قيل بالفارسية:
اكر كافر ز بت آكاه بودى
جرا در دين خود كمراه بودى
اكر مؤمن بدانستى كه بت جيست
يقين كردى كه دين در بت برستى ست
{ ولكن } يقول { كونوا ربانيين } هو منسوب الى الرب بزيادة الالف والنون وهذه الزيادة تدل على المبالغة فى النسبة الى الرب، والمبالغ فى الانتساب الى الرب من لا يرى فى المظاهر الا الرب وخصوصا فى المظاهر الفانية من أنفسهم فلا يرى للداعى نفسية حتى يكون دعوة الى نفسه فيقول للنبى (ص): كونوا خارجين عن حجب انانياتكم حتى تروا الله فى كل المظاهر { بما كنتم تعلمون الكتاب } يعنى كونوا تعلمون الكتاب وتدرسونه حتى تكونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب امثالكم على قراءة تشديد اللام { وبما كنتم تدرسون } اى تقرؤن الكتاب على قراءة تخفيف الراء لان الاشتغال بالكتب السماوية والتدبر فى الشرائع الالهية وتذكرها يخرجكم تدريجا من ظلمات انانياتكم ويدخلكم فى نور ظهور عبوديتكم وبروز ربوبيتكم وقرء تعلمون بتخفيف اللام وتدرسون من باب التفعيل او الافعال.
[3.80]
{ ولا يأمركم } ايها الناقصون المؤتمون قرء بالرفع وحينئذ فالفاعل اما راجع الى الله والجملة عطف على ما كان لبشر فانه فى معنى لا يأمر الله بشرا ان يدعو الناس الى عبادته، او حال بتقدير مبتدء لعدم جواز الواو فى المضارع المنفى بلا، او راجع الى بشر بالوجهين السابقين فى اعرابه، وقرئ بالنصب والفاعل ايضا اما راجع الى الله فيكون الواو بمعنى مع، او الى بشر فيكون الفعل عطفا على يقول: ولفظة لا زائدة لتأكيد النفى السابق، او يكون الواو بمعنى مع اى مع ان لا يأمركم والمقصود ان الله لا يأمر الانبياء ان يدعوا الناس بعبادتهم ولا يأمر العباد ان يعبدوا الانبياء والملائكة تعريضا بالنصارى واليهود فى عبادة عيسى (ع) وعزير وبعبادة الملائكة فلا يأمركم { أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا } لما كان الخطاب للامم الناقصين الذين لا يرون من المظاهر الا المظاهر ولا يتمكنون من رؤية الله فى المظاهر لم يأت بقيد من دون الله لعدم الاحتياج الى ذكره، او ترك ذكره بقرينة السابق وبقرينة قوله تعالى: { أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } بقبول النبوة من الانبياء والبيعة معهم بالبيعة العامة النبوية.
[3.81]
{ وإذ أخذ الله } اذكر او ذكرهم ويجوز ان يكون اذ هذه عطفا على اذ فى قوله { بعد اذ انتم مسلمون } والمعنى ايأمركم بالكفر { بعد اذ انتم مسلمون } منقادون وبعد اذ اخذ الله { ميثاق النبيين } ميثاق كل على يد النبى السابق او وصيه او فى عالم الذر على ايمان كل بالآخر او على ايمان الكل بمحمد (ص) او بعد اذ اخذ الله ميثاق امم النبيين على ايدى انبيائهم او فى عالم الذر على ان يؤمن كل امة بالنبى الذى يأتى بعد نبيهم او بمحمد (ص) ان ادركوا زمانه (ص) يعنى انه اخذ ميثاق كل من الانبياء على الايمان والنصرة لمن يأتى بعده او لمحمد (ص) وكذلك اممهم فكيف يأمر الانبياء بالاستقلال والربوبية والامم باتخاذهم اربابا وقد اشير الى كل من المعانى فى الاخبار وقيل: اذ اخذ الله عطف على قوله { اذ قالت الملائكة } وهو فى غاية البعد ولو قال هو عطف على قوله { اذ قال الله يا عيسى } كان اقرب، والميثاق العهد الذى يثق المتعاهد به شبه العهد بالرهن ثم استعمل الاخذ استعارة تخييلية وترشيحا للاستعارة { لمآ آتيتكم } كان حقه ان يقول: لما آتاهم لكنه اتى بالتكلم والخطاب حكاية لحال الخطاب { من كتاب وحكمة } قرئ بكسر اللام صلة للاخذ وما مصدرية او موصولة واذا كانت موصولة فالعائد محذوف من الصلة والعائد فى الجملة المعطوفة تكرار الموصول اعنى لما معكم، ولفظة من تبعيضية على تقدير كون ما مصدرية، وبيانية على تقدير كونها موصولة، وقرئ بفتح اللام فاللام تكون موطئة وما شرطية او موصولة، واذا كانت موصولة فالعائد مثل السابق، والمراد بالكتاب أحكام الرسالة والكتاب التدوينى صورتها وبالحكمة آثار الولاية { ثم جآءكم رسول مصدق لما معكم } من الكتاب والاحكام القالبية والحكمة التى هى العقائد الحقة الدقيقة التى لا تدرك الا بالمشاهدة بعين البصيرة { لتؤمنن به } اللام للقسم والجملة منقطعة عن سابقها على قراءة كسر لام لما آتيتكم وتكون بمنزلة جواب القسم لقوله: { اذ اخذ الله ميثاق النبيين } فانه بمنزلة القسم وهى خبر لما على قراءة فتح اللام وكون ما موصولة وجواب للقسم والشرط على تقدير كون ما شرطية، والضمير المجرور راجع الى ما { فيما آتيتكم } ، او الى محمد (ص) او الى نبى يأتى بعد النبى الاول يعنى اخذ الله ميثاق كل نبى لمن يأتى بعده او الى نبى كل امة على ان يكون التقدير اخذ الله ميثاق امم النبيين من كل امة لنبيها وقد نسب الى امير المؤمنين (ع) ان الله اخذ الميثاق على الانبياء (ع) قبل نبينا (ص) او يخبروا اممهم بمبعثه ونعته ويبشروهم به ويأمروهم بتصديقه ونقل: ان الله اخذ الميثاق على الانبياء على الاول والآخر فأخذ الله ميثاق الاول لتؤمنن بما جاء به الآخر، وعن الصادق (ع) انه قال تقديره: اذ اخذ الله ميثاق امم النبيين كل امة بتصديق نبيها والعمل بما جاءهم به وانهم خالفوهم مما بعد وما وفوا به وتركوا كثيرا من شريعته وحرفوا كثيرا منها { ولتنصرنه } الضمير المفعول راجع الى مرجع الضمير المجرور السابق، او الى امير المؤمنين (ع) على ما روى عنهم فانه نسب الى الصادق (ع) انه قال: ما بعث الله نبيا من لدن آدم فهلم جرا الا ويرجع الى الدنيا وينصر امير المؤمنين (ع) وهو قوله { لتؤمنن به ولتنصرنه } يعنى امير المؤمنين (ع)، وعن الباقر (ع) عن امير المؤمنين (ع) فى حديث طويل يبين كيفية خلقهم انه قال: واخذ ميثاق الانبياء بالايمان والنصرة لنا وذلك قوله عز وجل: { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لمآ آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جآءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه } يعنى لتؤمنن بمحمد (ص) ولتنصرن وصيه وسينصرونه جميعا وان الله اخذ ميثاقى مع ميثاق محمد (ص) بنصرة بعضنا لبعض فقد نصرت محمدا وجاهدت بين يديه وقتلت عدوه ووفيت لله بما أخذ على من الميثاق والعهد والنصرة لمحمد (ص) ولم ينصرنى احد من انبياء الله ورسله وذلك لما قبضهم الله اليه وسوف ينصروننى ويكون لى ما بين مشرقها الى مغربها وليبعثهم الله احياء من آدم (ع) الى محمد (ص) كل نبى مرسل يضربون بين يدى بالسيف هام الاموات والاحياء والثقلين جميعا (الى آخر الحديث بطوله) { قال } الله { أأقررتم } ايها الانبياء او ايها الانبياء مع الامم او ايتها الامم { وأخذتم على ذلكم إصري } الاصر بالكسر وقد يضم ويفتح العهد والذنب والثقل والمراد به العهد { قالوا } اى الانبياء او الانبياء واممهم او الامم { أقررنا قال } الله للملائكة { فاشهدوا } على الانبياء واممهم او قال الله للانبياء فاشهدوا على اممكم { وأنا معكم من الشاهدين } عن الصادق (ع) قال لهم فى الذر: اقررتم واخذتم على ذلكم اصرى اى عهدى؟ - قالوا اقررنا، قال الله للملائكة فاشهدوا، وعن امير المؤمنين (ع) قال الله للانبياء فاشهدوا على اممكم.
[3.82]
{ فمن تولى بعد ذلك } الميثاق عن نبيه وشريعته ووصيته فى حق محمد (ص) ووصيه او فمن تولى منكم ايها الحاضرون عن الايمان بمحمد (ص) بعد ذلك الميثاق او بعد ما ذكر من ميثاق الانبياء على الايمان بمحمد (ص) وهو عطف على فاشهدوا ليكون محكيا بالقول، او عطف على قال ليكون ابتداء كلام مع الموجودين، او هو جزاء شرط محذوف اى اذا علمتم ذلك فمن تولى بعد ذلك { فأولئك هم الفاسقون } الخارجون عن عهد الله وميثاقه.
[3.83]
{ أ } لا يؤمنون بمحمد (ص) بعد ما تذكروا ان الله اخذ ميثاق جميع الانبياء على الايمان به واخذ الانبياء ميثاق اممهم عليه وبعد ما علموا ان دين الله هو الايمان بمحمد (ص) { فغير دين الله يبغون و } الحال انه { له } اى لله او لمحمد (ص) { أسلم } انقاد { من في السماوات والأرض } فى عالم الذر او بحسب التكوين او له اسلم بحسب التكليف من فى السماوات تماما ومن فى الارض صفوتهم وخلاصتهم الذين هم المقصودون العاقلون، واما غيرهم فسواقط معدودون فى عداد البهائم، اوله اسلم من فى الارض تماما حين ظهور الدولة الحقة بظهور القائم عجل الله فرجه، اوله أسلم من فى الارض فى الدنيا قبل الموت، او حين الموت والتعبير بالماضى لتحقق وقوعه { طوعا وكرها } الاسلام طوعا وكرها فرقا من السيف بحسب التكليف ظاهر، واما بحسب التكوين فانقياد اجسام المواليد واتحادها مع طبائعها ونفوسها ليس الا قسرا وكرها والكره فى عالم الذر يكون بحسبه، عن الصادق (ع) ان اسلامهم هو توحيدهم الله عز وجل وهو اشارة الى اسلامهم التكوينى او اقرارهم فى عالم الذر وفى خبر آخر عنه (ع) ان معناه أكرم اقوام على الاسلام وجاء اقوام طائعين قال كرها اى فرقا من السيف وهو اشارة الى الاسلام التكليفى وعنه (ع) انها نزلت فى القائم وفى رواية تلاها فقال: اذا قام القائم لا يبقى ارض الا نودى فيها شهادة ان لا اله الا الله، وان محمدا رسول الله { وإليه يرجعون } يعنى ان اسلامهم عبارة عن اقرارهم بأنه تعالى خالقهم ومبدئهم ورجوع الكل يكون اليه فلا ينبغى ان يبغوا غير دين من يكون مبدئهم ومعادهم.
[3.84]
{ قل } يا محمد (ص) على سبيل المتاركة بعد ما اتممت لهم الحجة من قبل نفسك وامتك نحن: { آمنا بالله ومآ أنزل علينا ومآ أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون } يعنى نحن آمنا واسلمنا فانتم ان شئتم اسلمتم وان شئتم لم تسلموا.
[3.85]
{ ومن يبتغ غير الإسلام } المذكور فيكون اللام للعهد الذكرى او غير دين الاسلام فيكون اللام للعهد الذهنى { دينا } ملة او طريقا الى آخرته { فلن يقبل منه } ابتغاؤه وجهده { وهو في الآخرة من الخاسرين } حيث انفق بضاعته من القوى والمدارك وانفد عمره فى طلب ما لا ينفعه بل يضره.
تحقيق اصناف الناس بحسب طلب الدين والبقاء عليه والارتداد منه
اعلم انه تعالى اشار فى هذه الآيات الى اقسام الناس التسعة بالمنطوق والمفهوم لان الانسان اما طالب لدين او غير طالب، والطالب اما يبتغى الاسلام دينا فجهده مقبول وهو من الرابحين وهو مفهوم مخالفة من يبتغ غير الاسلام دينا واما يبتغى غير الاسلام دينا وهو منطوقه، وغير الطالب اما داخل فى الاسلام او غير داخل سواء كان داخلا فى دين وملة اخرى او كان واقفا فى جهنام الطبع، وغير الداخل فى دين الاسلام كافر وهو اما يموت على الاسلام حين ظهور الولاية عليه حال الاحتضار او على الكفر وقد اشار اليهما بمنطوق قوله { ان الذين كفروا وماتوا وهم كفار } بمفهومه، والداخل فى الاسلام اما يرتد عن ملة الاسلام او يبقى عليها من غير ازدياد فيها، والمرتد الملى اما يتوب او يبقى على ارتداده من غير ازدياد فيه ومن غير انجراره الى الارتداد الفطرى، وقد اشار الى هذه الثلاثة بمنطوق قوله { كيف يهدى الله قوما } الى قوله { الا الذين تابوا } ومفهومه وقد اشار الى الباقى على الارتداد مع انجراره الى الارتداد الفطرى الذى لا توبة له، والى الباقى على الاسلام مع ازدياده وانجراره الى الايمان بمراتبه بقوله تعالى: { ان الذين كفروا بعد ايمانهم } الى آخر الآية بمنطوقه ومفهومه.
واعلم ايضا ان الانسان له اتصال بالارواح الطيبة وابائه العلوية بحسب الفطرة والخلقة وهذا الاتصال يورث استعداده للارتقاء الى اوائل علله وهذا هو الحبل من الله المذكور فى الكتاب وهو الفطرة التى فطر الله الناس عليها فان اتصل مع ذلك بخلفاء الله بالبيعة العامة او الخاصة صار مسلما او مؤمنا ويعبر عن هذا الاتصال والدخول تحت الاحكام الالهية القالبية او القلبية بالاسلام والايمان والملة والدين، وهذا الاتصال هو الحبل من الناس المذكور فى الكتاب، والمتصل بهذا الاتصال ان ارتد عن هذا الاتصال وقطع هذا الاتصال بانكار الله او خلفائه او احكامه ولم يؤد ارتداده الى قطع الفطرة صار مرتدا مليا بمعنى انه ارتد عن الملة وقطع الحبل من الناس لا عن الفطرة وهذا المرتد لبقاء الحبل من الله وعدم قطع الفطرة ان تاب يقبل توبته لبقاء استعداده للاتصال ثانيا والارتقاء الى الارواح وهذا هو المرتد الملى، وان ارتد وزاد فى ارتداده حتى ينجر الى قطع الفطرة وابطالها وقطع الحبل من الله صار مرتدا فطريا لارتداده عن الاتصال الفطرى، وهذا المرتد لبطلان فطرته واتصاله الذى كان سبب استعداده للاتصال التكليفى لا يقبل توبته ولذا قيل بالفارسية: " مردود شيخى را اكر تمام مشايخ عالم جمع شوند وخواهند اصلاح نمايند نتوانند " ، وما ورد فى الاخبار وأفتى الفقهاء رضوان الله عليهم به من الاشارة الى ان المرتد الملى من ولد على الكفر ونشأ عليه ثم دخل فى الاسلام ثم ارتد منه، والمرتد الفطرى من ولد على الاسلام ونشأ عليه ثم دخل فيه ثم ارتد منه، اشارة الى انهما كاشفان من الارتدادين فان المتولد على الاسلام والناشئ عليه الداخل فيه لكون اسلامه كالذاتيات قلما يخرج منه ما لم يقطع الفطرة، والمتولد على الكفر الناشئ عليه الداخل فى الاسلام لكون اسلامه مثل العرضيات كثيرا ما يخرج من الاسلام من غير ابطال الفطرة وحينئذ لا حاجة لنا الى تكلف قبول توبة المرتد الفطرى باطنا وعدم قبوله ظاهرا؛ اذا عرفت ذلك فقوله { كيف يهدي الله }.
[3.86]
{ كيف يهدي الله } اشارة الى المرتد الملى اى لا يهديه الله الى الايمان فان الاسلام طريق الايمان وهداية اليه او الى الآخرة والجنان { قوما كفروا } بالله او بالرسول او بما جاء به من الاحكام او بقوله فى حق خليفته { بعد إيمانهم } ايمانا عاما بالبيعة العامة او ايمانا خاصا بالبيعة الخاصة { وشهدوا أن الرسول حق } عطف على ايمانهم بتقدير اداة المصدر او على كفروا او حال بتقدير قد { وجآءهم البينات } المعجزات او الادلة الواضحات على حقية الرسول { والله لا يهدي القوم الظالمين } جملة حالية فى مقام التعليل والمعنى لا يهديهم لانهم ظلموا أنفسهم وقواهم وظلموا الاسلام وصاحب الاسلام بخروجهم عنه والله لا يهدى القوم الظالمين فهو اشارة على قياس اقترانى من الشكل الاول هكذا: انهم ظالمون وكل ظالم لا يهديه الله فانهم لا يهديهم الله.
[3.87]
{ أولئك جزآؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين } يعنى تبعيد الله او دعاء الله باللعنة عليهم.
[3.88]
{ خالدين فيها } فى اللعنة او فى الجحيم المستفادة بالالتزام { لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون } بتأخير العذاب عنهم مدة ولاقتضاء مقام الغضب البسط والتغليظ والتشديد بسط الله تعالى فى الكلام وشدد عليهم.
[3.89]
{ إلا الذين تابوا من بعد ذلك } الكفر بعد الاسلام { وأصلحوا } ما افسدوه حين الكفر وهو استثناء من (قوما) او من (اولئك) لا عن فاعل (خالدين) ولا عن المجرور فى قوله (عنهم) ولا عن مرفوع (ينظرون) لايهام الكل خلاف المقصود والمعنى اولئك عليهم لعنة الله الا الذين تابوا منهم لانهم كما سبق ما قطعوا الحبل من الله المقتضى لاستعداد التوبة ويقبل الله توبتهم { فإن الله غفور } يغفر مساوئهم بعد رجوعهم اليه { رحيم } يتفضل عليهم ويرحمهم بعد مغفرتهم. روى ان نزول الآية فى رجل من الانصار ارتد بواسطة قتل وقع منه ولحق بمكة ثم ندم وارسل الى قومه ان سألوا رسول الله (ص) فنزلت فرجع الى المدينة وحسن اسلامه، لكنها تجرى فى كل من ارتد بانكار الله او الرسول او بعض احكامه او بعض اقواله.
[3.90]
{ إن الذين كفروا } بيان للمرتد الفطرى { بعد إيمانهم } العام او الخاص { ثم ازدادوا كفرا } بحيث يؤدى الى ابطال الفطرة وقطع حبل الله { لن تقبل توبتهم } الاتيان باداة نفى التأبيد للاشعار بأنهم ما بقى لهم استحقاق التوبة وقبولها لقطع ما به الاستعداد والاستحقاق { وأولئك هم الضآلون } يعنى ان الضلال على الاطلاق منحصر بمن قطع الفطرة واما من لم يقطع الفطرة وان ارتد عن الاسلام لم يكن ضالا على الاطلاق لبقاء الهداية التكوينية له.
[3.91]
{ إن الذين كفروا } بيان لحال من بقى على الكفر { وماتوا وهم كفار } التقييد بهذا القيد للاشعار بان الكافر يمكن ان يموت على الاسلام فلا يجوز بغض الكافر من حيث ذاته فى حال كفره وحياته، ولا لعنه بعد مماته الا لمن علم حاله فى حياته وانه يموت على الكفر، او من سمع من صادق بصير بحاله انه مات او يموت على الكفر، وللاشارة اليه قال المولوى قدس سره:
هيج كافر را بخوارى منكر يد
كه مسلمان مر دنش باشد اميد
جه خبر دارى زختم عمر او
تا بكر دانى از او يكباره رو
لكن ان ماتوا على الكفر { فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا } تميز محول عن الفاعل او منصوب بنزع الخافض اى ملء الارض من ذهب { ولو افتدى به } نفسه اى ولو بالغ فى الافتداء به فان الافتعال اذا لم يفد المطاوعة يدل على المبالغة وعلى هذا فلا حاجة الى التكلف فى توجيه صحة الاتيان به هاهنا لان ما بعد لو هذه يكون اخفى افراد الشرط { أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين } واتى فى هذه بالفاء فى خبر الموصول تأكيدا للزوم الجزاء للشرط، وترك الفاء فى خبر الموصول فى القرين السابق مع انه كان اولى بالتأكيد والبسط والتغليظ لان المرتد الذى ازداد فى كفره لوضوح عقابه وشدة عذابه كأن عذابه كان من المسلمات فلا حاجة له الى التأكيد والتغليظ والبسط ولذلك اقتصر فيه على ذكر عدم قبول التوبة وكونهم من الضالين من دون ذكر عذاب وكيفية عقاب لهم بخلاف السابق عليه واللاحق به، ولذلك ولكون الضلالة من اوصافهم لا بيانا لعقابهم اتى بالعاطف فى قوله { وأولئك هم الضآلون } بخلاف قوله فى السابق { أولئك جزآؤهم أن عليهم } ، الآية، وبخلاف قوله فى اللاحق: { اولئك لهم عذاب اليم } فان الاتيان بالعاطف اشارة الى انه معطوف ومعدود من اوصافهم المعلومة وليس المقام مقام سؤال حتى يجعل جوابا لسؤال مقدر بخلاف الفقرتين الاخريين.
[3.92]
{ لن تنالوا البر } منقطع عن سابقه لفظا ومعنى او جواب لسؤال ناشئ عن سابقه كأنه بعد ما ذكر الاصناف الاربعة من المنحرفين والمرتدين والكافرين سأل سائل: بم ننال الايمان والثبات فيه ومقام الاحسان؟ - فقال: لن تنالوا البر اى الجنة او الخير او الاتساع فى الاحسان او الصدق او الطاعة او خصلة الاحسان الى الغير فان الكل معانى البر والكل مناسب لمقام السؤال { حتى تنفقوا } قد مضى معنى الانفاق فى اول سورة البقرة { مما تحبون } اى بعض ما تحبون فان الاحسان والمحبوبية للانسان لا يحصل الا بالتوسط فى الاخلاق ولما كان محبوب الانسان فى كل مرتبة شيئا غير ما فى المرتبة الاخرى ولعل محبوبه فى مرتبة يكون مبغوضا له بحسب مرتبة اخرى ومحبوب كل مرتبة لا يكون بالنسبة الى جميع الافراد محبوبا بل قد يكون محبوبا لبعض ومبغوضا لبعض آخر، وقد يكون محبوبا لشخص فى حال مبغوضا له فى حال آخر فلا يكون الانفاق ولا المنفق مخصوصا بشيء ولا واقفا على حد بل نقول: محبوب الانسان فى كل مرتبة نفسه ولوازم نفسه وموافقاتها فى تلك المرتبة والاصل فى كل انفاق ان يكون ناشئا او مورثا لانفاق شيء من انانيته حتى يكون مقبولا فان المنفق اذا انفق لابقاء انانيته او لازدياد انانيته مثل المرائى والمعجب بنفسه والمنفق لابقاء الباطل او ابطال الحق لم يكن انفاقه مقبولا ولا مورثا للبر والاحسان بل يكون مردودا ومورثا للبعد من البر { وما تنفقوا من شيء } احقر ما يكون فلا يفوت عن الله { فإن الله به عليم } فيجازيكم باضعافه فلا تخافوا من فوته وافنائه.
[3.93]
{ كل الطعام } الطعام المطعوم بالفعل او بالقوة كالبر والشعير والمراد تعميم الطعام بالاضافة الى ما قالت اليهود انه كان حراما على الانبياء السابقة لا بالنسبة الى كلما يمكن ان يطعم، وهذا رد على اليهود وجواب لانكارهم تحريم الطيبات عليهم ببغيهم فان اليهود بعد ما نزل وسمعوا قوله تعالى
فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم
[النساء: 106] وقوله تعالى:
وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهمآ إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايآ أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون
[الأنعام: 146]، قالوا: لسنا باول من حرمت عليه وقد كانت محرمة على نوح (ع) وابراهيم (ع) ومن بعده من بنى اسرائيل الى ان انتهى التحريم الينا فكذبهم الله واجابهم بقوله: { كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل } وليس كما قالت اليهود ان الطيبات كانت محرمة من زمن نوح { إلا ما حرم إسرائيل } بسبب مرضه { على نفسه } من لحوم الابل فانه كما روى كان به وجع الخاصرة او عرق النساء وكان اذا اكل لحم الجمل هيج الوجع به فحرم على نفسه لحم الابل { من قبل أن تنزل التوراة } متعلق بقوله حلا او بحرم او بكليهما على سبيل التنازع يعنى كل المطاعم كان حلا لبنى اسرائيل سوى لحم الابل الذى حرمه اسرائيل على نفسه قبل نزول التوراة وبعد نزول التوراة حرم الطيبات عليهم ببغيهم { قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين } حاجهم بكتابهم حتى يتبين كذبهم فى ادعائهم وصدقه (ص) فيما نزل عليه من كتابهم، وقيل: لم يجسروا على اتيان التوراة وبهتوا، وهذا دليل صدقه فى نبوته حيث تمسك بكتاب خصمه فى صدقه.
[3.94]
{ فمن افترى على الله الكذب } بادعاء ان المحرمات كانت محرمة من زمن نوح { من بعد ذلك } المذكور من المحاجة والزام الحجة { فأولئك هم الظالمون } تأكيد وحصر ادعاء مبالغة، وظلمهم عبارة عن وضع الانكار موضع التصديق والاقرار.
[3.95]
{ قل صدق الله } كأن المقصود ان يقول: ظهر صدقى فاتبعوا ملتى لكن لما كان نسبة الصدق الى الله فى المقام مستلزما لصدقه (ص) لانه مدع ان اقواله ملقاة من الله تعالى اليه فاذا كان الاقوال الملقاة من الله صادقة كان هو صادقا وكان الكناية بصدق الله عن صدقه ابلغ من التصريح وأبعد من الشغب واللجاج واقرب الى الانصاف كنى به عنه، وهكذا الحال فى الامر باتباع ملة ابراهيم فانه (ع) لما كان معلنا بأن ملته ملة ابراهيم وملة ابراهيم ملته كنى باتباع ملة ابراهيم (ع) عن اتباع ملته (ص) فقال { فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين } قد مضت هذه العبارة قبيل هذا.
[3.96]
تحقيق كون البيت اول بيت وضع وكونه مأمنا
{ إن أول بيت } بالزمان كما فى الخبر ان موضع البيت اول بقعة خلقت من الارض على اختلاف فى مضمونها ثم دحيت الارض من تحتها، وكما فى الاخبار ان الله أنزله لآدم من الجنة وكانت درة بيضاء فرفعه الله الى السماء وبقى اساسه، او بالشرف كما فى الخبر: ان الله اختار من كل شيء شيئا؛ اختار من الارض موضع الكعبة، او للعبادة على ما قيل انه لم يكن قبله موضع مخصوص للعبادة { وضع } خلق او بنى { للناس } لانتفاعهم بالمكاسب فيه للكاسبين، او بغفرانهم لقاصديه، او براحتهم وامنهم عن القاصدين لملتجئيه، او بهدايتهم لناظريه وناظرى آياته، او بكفايتهم وقيامه بأمر معاشهم لساكنيه ومجاوريه ولو كانوا كافرين، او ببقائهم وعدم هلاكهم على ما روى من انه لو هدم البيت وتركوا الحج لهلك اهل العالم { للذي } للبيت الذى { ببكة } بكة ومكة مترادفتان، او بكة موضع البيت ومكة تمام البلد وسميت بكة لان الناس يبكون فيها يعنى يزدحمون او لبكاء الناس حولها وفيها، او لانها تبك اعناق الجابرة اى تدقها واشير الى ذلك فى الاخبار، وروى انما سميت مكة بكة لانه يبك بها الرجال والنساء والمرأة تصلى بين يديك وعن يمينك وعن شمالك وعن يسارك ومعك ولا بأس بذلك لأنه انما يكره فى سائر البلدان { مباركا } ذا بركة لمجاوريه حيث يرزقون من ثمرات الاشجار تماما مع انه لا ثمرة فى مكة ويجلب الحبوب والاثمار اليه ولزائريه حيث يغفر الله لهم كيوم ولدتهم امهم، وينظر اليهم بالرحمة، ويقبل توبتهم، ويخلف ما أنفقوا فى سبيله، وللطيور وسائر الحيوان حيث انها مأمونة من الاصطياد ولطيور المسجد لكونها مأمونة ومرزوقة، وللاشجار والنبات فى ارض الحرم حيث انها مأمونة عن القطع فى الجملة، ولاهل العالم حيث انهم باقون مرزوقون به كما سبق الاشارة اليه { وهدى للعالمين } فى حمل المعنى على الذات ما مر مرارا، وهدايته اما بكون وجوده سببا لهيجان النفوس للتوجه والسلوك اليه، او بكونه سببا لقرب زائريه الى الله، او بكونه قبلة ومتعبدا لهم من زمن ابراهيم (ع) او من زمن آدم (ع)، او بكونه ذا آيات دالات على تشريف الله اياه وعلى كونه فى حماية الله، وعلى صدق الانبياء (ع) الذين امروا بتعظيمه والطواف حوله والنسك لديه، وصدقهم فى ذلك يدل على صدق رسالتهم وليس رسالتهم الا بالاقرار بالمبدأ والمعاد وتوحيد المبدأ وتوحيد العبادة، وتلك الآيات مثل اهلاك من قصد خرابه مثل ابرهة صاحب الفيل وجنوده، ومثل شيوع الموت فى قبائل اخذوا الحجر الاسود حتى ردوه اليه، ومثل تنطق الحجر الاسود كما روى عند محاجة محمد الحنفية مع على بن الحسين (ع)، ومثل انحراف الطيور من محاذاته فى طيرانهم، وبكونه ذا آيات باقية من آثار الانبياء ومعجزاتهم (ع) مثل مقام ابراهيم فان غوص القدم فى الحجر الصلب آية دالة على ان صاحبه ذو قوة خارجة عن طوق البشر الهية، وكذا كونه محفوظا على مدى الاعصار مع كثرة اعدائه الذين كانوا بصدد محو مثل تلك الآثار ولذلك علله بقوله تعالى { فيه آيات بينات }.
[3.97]
{ فيه آيات بينات } جملة مستأنفة جواب للسؤال عن علة الهداية، او حال مترادفة، او متداخلة للتعليل، او صفة كذلك، او خبر بعد خبر وقد سبق الاشارة الى الآيات والى ظهورها { مقام إبراهيم } بدل من الآيات بدل البعض من الكل او مبتدأ خبر محذوف او خبر مبتدء محذوف اى هى مقام ابراهيم (ع) فانه باعتبار غوص القدم فى الحجر وبقاء اثر القدم ومحفوظيته فى دهور طويلة آيات عديدة وحكاية مقام ابراهيم (ع) قد اختلف الاخبار فى بيانها من اراد فليرجع الى الاخبار وكتب التفاسير { ومن دخله كان آمنا } عطف على { مقام ابراهيم } (ع) او على جملة { فيه آيات بينات } ، او على جملة { ان اول بيت وضع للناس للذى ببكة } ، او حال ولفظة من موصولة او شرطية والداخل فيه آمن من عذاب يوم القيامة بشرط الايمان والداخل فى الحرم آمن بالمواضعة الالهية عن المؤاخذة بجناية يؤاخذ عليها والضمير راجع الى البيت، او الى مقام ابراهيم، والمراد بمقام ابراهيم (ع) هو الحجر الذى فيه اثر قدم ابراهيم (ع) او الموضع الذى فيه ذلك الحجر الان، او الموضع الذى بينه وبين البيت، او المسجد، او الحرم تماما كما قيل، وكون امن من دخله من جملة الآيات ان كان المراد به امنهم من تعرض الجبابرة مع كثرتهم وهلاك من تعرض له ولهم مثل اصحاب الفيل فواضح، وان كان المراد به امنهم بالمواضعة الالهية ، او امنهم من عذاب يوم القيامة، او امن من دفن فيه من العذاب ففيه خفاء.
اعلم ان جميع الاعمال الشرعية الفرعية والمناسك الظاهرة القالبية صور لاعمال اللطيفة الانسانية السالكة الى الله والمناسك الباطنة القلبية وجميع المساجد وبيوت الله الصورية صور للمعابد الباطنة الانسانية من مواقف السالك فى سلوكه وصور لبيوت الله الحقيقية التى هى قلوب السالكين الى الله الداخل فيها الايمان الممتازة من الصدور المنشرحة بالاسلام بدخول الايمان فيها، وان الكعبة لما كانت بناء ابراهيم الذى كان متحققا بالقلب وكان بيت الله حقيقة كانت مظهرا للقلب بجميع مناسكه ومعابده ولذلك اجرى عليها جميع ما للقلب من الاوصاف والآثار فان القلب اللحمانى لما كان اول نقطة خلقت من بدن الانسان لكونه مظهرا للقلب المعنوى الذى خلق قبل جملة العوالم الروحانية باعتبار رب النوع الذى خلق قبل كل المخلوقات أجرى الله حكمه على الكعبة وقال: { اول بيت وضع للناس للذى ببكة } ومن قال ان الكبد اول نقطة خلقت من بدن الانسان لانه منبت النفس النباتية واحتياج بدن الحيوان ليس اولا الا الى القوى النباتية غفل عن ان الجنين من اول استقراره فى الرحم قد استفاد ضعيفا من كل من القوى النباتية التى لنفس الام وانه من اول استقراره فى الرحم يغتذى وينمو بتدبير النفس النباتية التى فى الأم، وتصوير الاعضاء ايضا ليس الا باعانة نفس الام لأنها حريصة على ايجاد مثلها وبقائه وهى لا تصور اولا الا ما كان مظهرا لمثلها لا لجنودها وهو القلب، ولما كان القلب قبل تنزله الى ارض العالم الصغير كالدرة البيضاء وبعد تنزله واختلاطه باهل العالم الصغير صار متلونا وكان دحوارض العالم الصغير من تحته وكان فى وسط هذا العالم من حيث لحمته الصنوبرية ومن حيث روحانيته باعتبار استواء نسبته الى جميع اجزاء البدن وكان مولد الولاية ومتوجها اليه لجميع اهل العالم الصغير فى مناسكهم ومآربهم وكان مأمنا لمن دخله ودخل حرمه وكان قائما بامور اهل مملكته ومقوما لهم وكان بركة ورازقا من جميع الثمرات من كان من اهله ومن لم يكن من اهله، وكان مثابة ومرجعا لهم، وكان اصل جميع القرى فى مملكته، وكان على الجميع الرجوع اليه والتجرد من ثياب الانانية لديه، والطواف حوله والتردد عنده والوقوف فى حرمه وقتل انانيته وقربانها قبل الوصول اليه، اخبروا عن الكعبة بمثل ذلك وجعل الله لها من المناسك مثل ذلك ولعلك تتفطن اجمالا بحكم جميع احكام الحج ومناسكه بعد التفطن بما ذكر، وقد أشرنا الى بعضها فيما سبق ونشير الى بعض منها فيما يأتى والغافل عما ذكرنا الناظر الى ظاهر ما ورد فى الاخبار من اوصاف البيت والرائى صور ما جعل له من المناسك لا يرى لها صحة وحكمة عقلانية بل يراها كذبا ولغوا، ولو لم يخف من الله او من اهل الاسلام يطعن فيها كما يطعن الكفار فيما ورد فيها { ولله على الناس حج البيت } قرئ بالفتح وبالكسر وهما مصدرا حج بمعنى قصد مطلقا، او بمعنى قصد مكة للمناسك المخصوصة، او بالفتح مصدر وبالكسر اسمه، ولما كان اهل العالم الصغير مفطورين على قصد بيت القلب وكان ذلك حقا من حقوق الله عليهم وكان رجوعهم الى القلب رجوعا الى الله كلف الله الناس بزيارة الكعبة التى هى مظهر ذلك البيت، وادى هذا التكليف بصورة الخبر تأكيدا واشعارا بان هذا كان فى فطرتهم وحقا لله عليهم وليس كسائر الحقوق الخلقية او الالهية ففيه تأكيد الوجوب من وجوه عديدة: اداء الامر بصورة الخبر، وانه من الامور التى تقع لا محالة ولا حاجة الى الامر به، وتأكيده باسمية الجملة، وكونه حقا على الناس وكونه حقا لله، لا كسائر الحقوق الراجعة الى الخلق، وحصر ذلك الحق فى الله من غير شراكة الغير فيه { من استطاع } بدل من الناس وفى هذا الابدال تأكيد آخر للحكم من حيث التخصيص بعد التعميم والتوضيح بعد الاجمال فكأنه كرره وقال: { لله على الناس حج البيت } لله على { من استطاع إليه سبيلا } حجه وهل الاستطاعة بالبدن او بالبدن والمال او الكسب بحيث يكفى لنفقته ونفقة من كان واجبا نفقته عليه ذهابا وايابا، او بحيث يكفى لذلك ويرجع الى ما يكفى بعده، وتحقيقه موكول الى الكتب الفقهية { ومن كفر } بالحج او بالله فى ترك الحج او باحكام الله فى تركه، وفى تسمية تركه كفرا تأكيد آخر لوجوبه فكأنه قال: تارك الحج على حد الكفر والشرك بالله فكما أنه لا يغفر ان يشرك به لا يغفر ان يترك الحج ويغفر ما دون ذلك فمن ترك الحج لا يعبأ الله به { فإن الله غني } عنه وذكر الغنى فى مثل المقام يدل على المقت والخذلان وقال غنى { عن العالمين } بدل غنى عنه مبالغة فى الاستغناء ليدل على المبالغة فى المقت والخذلان ولما كان حج بيت الله عبادة جامعة بين اتعاب البدن وكسر انانية النفس وقطع علاقتها عن متمنياتها وتجردها عن مشتهياتها مع بذل المال وانفاقه ولم يكن سائر العبادات كذلك ندب الله تعالى اليه واكده بأنواع التأكيدات ثم أمر نبيه ان يخاطب اهل الكتاب بالتقريع على الكفر بالآيات تعريضا بامته فى ترك الحج والكفر بعلى (ع) فقال { قل }.
[3.98]
{ قل } يا محمد (ص) { يأهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله } التدوينية من آيات القرآن والتوراة والانجيل والتكوينية والاحكام الالهية الثابتة فى الشرائع الثلاث { والله شهيد } حاضر او حافظ { على ما تعملون } فيجازيكم على كفركم بالآيات ولا ينفعكم التحريف والإسرار.
[3.99]
{ قل يأهل الكتاب } تكرار الخطاب والنداء للتأكيد فى التقريع وللاشارة الى ان كلا يكفى فى التقريع { لم تصدون } تمنعون { عن سبيل الله } عن الحج او الجهاد او مطلق الخير او الولاية او الاسلام { من آمن } حصل له الاسلام او من اراد الاسلام، قيل كانوا يمنعون المسلمين عن الإتلاف والاتفاق وكانوا يحرشون بينهم حتى اتوا الاوس والخزرج فذكروهم ما بينهم فى الجاهلية من التعادى والتقاتل ليعودوا لمثله، او المعنى لم تمنعون من آمن بتحريف الكتب وتغيير صفة النبى (ص) وكتمان ما دل صريحا على حقية الاسلام { تبغونها } حال عن فاعل تصدون او عن سبيل الله او عن كليهما او مستأنف جواب لسؤال مقدر والمعنى تبغون لها { عوجا } او تبغونها معوجة او تبغون عوجها على ان يكون مفعولا به او حالا او تميزا يعنى تتجسسون الاختلاف والمناقضات المترائاة فيها لتوهنوها على اهلها او ترغبون فيها ان كانت معوجة لانكم ذوو عوج ولا تطلبونها حال كونها مستقيمة، والعوج بالفتحتين والعوج بكسر العين مصدر اعوج كفرح، او الاول مصدر والثانى اسم مصدر، او الاول فى المتنصبات مثل الجدار والعصا والثانى فى غيرها مثل الارض والدين، والعوج فى كل شيء بحسبه فالعوج فى الدين ان يكون فى احكامه موصلا الى المطلوب منه، فان المطلوب من سبيل الله والتدين بدين الله ان توصل المتوسل بها الى الله والى دار نعيمه، فان توصل الى الشيطان ودار جحيمه او لم توصل الى الله كانت معوجة { وأنتم شهدآء } جمع الشهيد بمعنى الحامل للشهادة او المؤدى لها او الامين فيها، او بمعنى العالم، وعلى اى تقدير فهو اما منسى المفعول او منويه اى انتم الذين يستشهد بكم اهل ملتكم فى قضاياهم، او انتم الامناء فى شهاداتهم وعليكم اعتمادهم، او انتم علماء ملتكم، او انتم تشهدون بان السبيل سبيل الله، او تشهدون انكم تصدون عن سبيل الله { وما الله بغافل عما تعملون } وعيد لهم ولما كان القبيح فى الآية الاولى الكفر الذى كانوا يجهرون به وفى هذه الآية حيلتهم فى صد المسلمين عن الاسلام وكانوا يخفونه اتى فى الاولى بقوله { والله شهيد على ما تعملون } وفى هذه الآية بقوله { وما الله بغافل } لان اخفاء القبيح كان مظنة للغفلة عنه.
تفسير حجة الوداع وغدير خم
وهذه الآية كسابقتها تعريض بالامة وبكفرهم بعلى (ع) وما جاء الرسول به من عند الله فى حقه وما قاله لهم فى حجة الوداع فى مسجد الخيف وغدير خم من الوصية فى حقه وما امرهم به من البيعة معه فى عشرة مواطن او ثلاثة مواطن وبصدهم المسلمين عن البيعة معه والطاعة له، ولما كان الخطاب فى الآيتين الاوليين مع اهل الكتاب امر نبيه ان يخاطبهم توهينا وتبعيدا لهم عن تشريف الخطاب ولما كان الخطاب فى الآية الآتية مع المؤمنين خاطبهم بنفسه تشريفا لهم فقال { يأيها الذين آمنوا }.
[3.100]
{ يأيها الذين آمنوا } اى اسلموا بالبيعة العامة النبوية وقبول الدعوة الظاهرة { إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب } وهم الذين يصدونكم عن سبيل الله ويبغونها عوجا بالاستماع اليهم وقبول مفترياتهم { يردوكم بعد إيمانكم } عن ايمانكم وعن السبيل الموصل الى الله { كافرين } بعد تقريع اهل الكتاب على حيلتهم وخدعتهم للمؤمنين نبه المؤمنين حتى لا يغتروا بهم وباقوالهم المموهة قيل: نزلت فى نفر من الاوس والخزرج كانوا جلوسا يتحدثون فمر بهم واحد من كبار اليهود فغاظه تألفهم واجتماعهم فأمر شابا من اليهود ان يجلس اليهم ويذكرهم ما بينهم من القتال وينشد لهم بعض ما قيل فيه ففعل فتنازع القوم وتفاخروا وتغاضبوا وقالوا: السلاح السلاح واجتمع من القبيلتين خلق عظيم فتوجه اليهم رسول الله (ص) واصحابه فقال:
" اتدعون الجاهلية وانا بين اظهركم بعد اذ أكرمكم الله بالاسلام وقطع به عنكم امر الجاهلية والف بين قلوبكم "
، فعلموا انها نزعة من الشيطان وكيد من عدوهم فالقوا السلاح واستغفروا وعانق بعضهم بعضا.
[3.101]
{ وكيف تكفرون } لا ينبغى لكم ذلك { وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله } يعنى ان الكفر فى جميع الاحوال قبيح خصوصا فى تلك الحالة فان تلاوة الآيات ووجود الرسول كليهما يميتان الكفر ويحييان فطرة الايمان ولا يكفر فى مثل تلك الحال الا من بلغ فى الشقاوة منتهاها { ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم } ومن اهتدى الى الصراط المستقيم الموصل له الى مطلوبه الذى لا مطلوب له سواه لا يرجع منه البتة؛ وهذا وجه آخر لاستغراب الرجوع الى الكفر يعنى انكم اعتصمتم بالله بالبيعة مع رسوله (ص) فان البيعة تورث التمسك بمن قبل البيعة والتمسك بالرسول (ص) تمسك بالله لكونه مظهرا تاما له، ومن اعتصم بالرسول (ص) يهتد الى الصراط المستقيم الموصل الى الله لان الرسول (ص) هو الصراط المستقيم ومن اهتدى لا يرجع الا اذا كان بالغا فى العمى غايته.
[3.102]
{ يأيها الذين آمنوا } كرر النداء لتشريفهم وتهييجهم على الثبات على الايمان والارتداع عن الكفر ولان يجبر كلفة التكليف بالتقوى بلذة النداء { اتقوا الله } اتقوا سخطه { حق تقاته } قد مضى تحقيق معنى التقوى ومراتبها فى اول سورة البقرة وحق التقوى على الاطلاق ان لا يبقى من المتقى عين ولا اثر بطى جميع مراتب التقوى والانتهاء الى التقوى عن ذاته وعن تقواه فى جنب ذات الله ولما كان التقوى بهذا المعنى لا تتيسر الا لقليل قالوا: ان هذه الآية منسوخة بقوله تعالى فى سورة التغابن
فاتقوا الله ما استطعتم
[التغابن:16] لكن الحق ان حق التقوى تختلف بحسب اختلاف الاشخاص وبحسب اختلاف مراتب الشخص الواحد فان حق التقوى بالنسبة الى اصحاب النفوس الامارة وبالنسبة الى من لم يدخل بعد فى دين ولم يبايع البيعة العامة مع نبى او خليفته ان يحتاط فى عمله ويطلب من يأخذ منه دينه ويترك ما ينافى طلبه وحق التقوى بالنسبة الى من دخل فى دين ان يمتثل ما أمر به، ويترك ما نهى عنه، ويطلب من يدله على حق دينه وروح اعماله، ويترك ما ينافى هذا الطلب، وحق التقوى بالنسبة الى من دخل فى الايمان ودخل بذر الايمان فى قلبه ان يمتثل ما امر به وينتهى عما نهى عنه بحسب ايمانه، ومراتب التقوى للداخل فى الايمان كثيرة بحسب مراتب المؤمنين ودرجاتهم كما سبق مفصلا، وهكذا الحال فى التقوى بحسب مراتب الشخص الواحد من بشريته الى فنائه فان حق التقوى بحسب البشرية غيرها بحسب الصدر والقلب والروح وهكذا؛ فالآية على هذا امر للجميع بالاتيان بحق التقوى وكانت موافقة لقوله تعالى:
فاتقوا الله ما استطعتم
[التغابن:16] لان حق التقوى من كل احد ما استطاعه لان الله لا يكلف نفسا الا وسعها، وعن الصادق (ع) انه سئل عن هذه الآية فقال: يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، ولعلك تفطنت بصحة تعميم الطاعة والذكر والشكر والعصيان والنسيان والكفر بحسب مراتب المؤمنين { ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } يعنى اديموا الاسلام الى حال الموت فالنهى وارد على القيد لا المقيد ولا المجموع وقرء فى قراءة اهل البيت (مسلمون) بالتشديد يعنى لا تموتن الا وانتم مسلمون لرسول الله (ص) ثم للامام من بعده، ونسب الى الكاظم (ع) انه قال لبعض اصحابه: كيف تقرأ هذه الآية: { يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم } ماذا؟ - قال: { مسلمون } يعنى بتخفيف اللام فقال: سبحان الله يوقع عليهم الايمان فيسميهم مؤمنين ثم يسألهم الاسلام؛ والايمان فوق الاسلام؟! قال: هكذا يقرأ فى قراءة زيد قال: انما فى قراءة على (ع) وهو التنزيل الذى نزل به جبرئيل على محمد (ص) الا وانتم (مسلمون) لرسول الله (ص) ثم الامام من بعده.
[3.103]
تحقيق حبل الله وحبل الناس
{ واعتصموا بحبل الله } يطلق حبل الله على القرآن لانه كالحبل المحسوس الممدود من الله الى الخلق طرفه الذى هو مقام المشيئة وعلوية على (ع) بيد الله، وطرفه الآخر بيد الناس وهو نقشه وكتابته ولفظه وعبارته ويطلق على الكامل من النبى (ص) او الولى (ع) فانه ايضا حبل ممدود من الله الى الخلق طرفه المشيئة كالقرآن وطرفه الآخر بشريته، ويطلق على الولاية التكوينية والولاية التكليفية فانها ايضا حبل ممدود طرفه المشيئة لان الكل متحدة فى المقامات العالية، والتفرقة انما هى فى عالم الفرق وطرفه الآخر بشرية الكامل وصدر قابل الولاية وبشريته، وهكذا الحال فى النبوة والرسالة والشريعة المقررة منهما وقوله تعالى بعيد هذا: { ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس } اشارة الى الولايتين او الى القرآن والولاية التكليفية كما فى الخبر ان الحبل من الله القرآن والحبل من الناس على بن ابي طالب (ع)، ونسب الى النبى (ص) انه قال فى مقام وصف الكتاب والعترة:
" حبلين ممدودين طرف منهما بيد الله وطرف بايديكم وانهما لن يفترقا "
؛ لكن بعد ما سبق فى اول سورة البقرة من تحقيق معنى الكتاب وتعميمه يعلم ان الولاية التكوينية كتاب من الله كما ان الولاية التكليفية ايضا كتاب من الله والمراد به هاهنا محمد (ص) بنبوته او رسالته او ولايته، او المراد شريعته ودينه الذى هو الاسلام، او المراد على (ع) بولايته؛ فان المقصود من تلك الآيات التعريض بالامة فى اتباع الولاية، وعلى تعميم الامر بالاعتصام يراد جميع معانى الحبل بالنسبة الى مراتب الخلق فكأنه قال: اعتصموا ايها المسلمون بمحمد (ص) وشريعته وكتابه واعتصموا ايها المؤمنون بعلى (ع) وولايته { جميعا } اى مجتمعين على الاعتصام { ولا تفرقوا } فى الاعتصام بان تمسك بعضكم بحبل الله وبعضكم بحبل الشيطان من الاديان المنسوخة والباطلة ومن ولاية المنافقين، نسب الى الباقر (ع) انه قال فى بيان ان الآية تعريض بالامة واختلافهم فى الولاية بعد نبيهم (ص) ان الله تبارك وتعالى علم انهم سيفترقون بعد نبيهم ويختلفون فنهاهم عن التفرق كما نهى من كان قبلهم فامرهم ان يجتمعوا على ولاية آل محمد (ص) ولا يتفرقوا { واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعدآء فألف بين قلوبكم } بالاسلام { فأصبحتم بنعمته إخوانا } فى الدين متحابين متفقين، لما كان العداوة بين الناس بلاء عظيما لهم والالفة نعمة عظيمة فى الدنيا ومورثا للنعمة فى الآخرة ذكر من بين النعم التى انعم الله تعالى بها عليهم دفع هذا البلاء واعطاء هذه النعمة، قيل: كان الاوس والخزرج اخوين لابوين فوقع بين اولادهم العداوة وتطاولت الحروب مائة وعشرين سنة حتى أطفأها الله بالاسلام والف بينهم، وقيل: افتخر رجلان من الاوس والخزرج فقال الاوسى: منا خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، ومنا حنظلة غسيل الملائكة، ومنا عاصم بن ثابت حمى الدين، ومنا سعد بن معاذ الذى اهتز عرش الرحمن له ورضى الله بحكمه فى بنى قريظة، وقال الخزرجى: منا اربعة احكموا القرآن؛ ابى بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وابو زيد، ومنا سعد بن عبادة خطيب الانصار ورئيسهم؛ فجرى الحديث بينهما فغضبا وتفاخرا وناديا فجاء الاوس الى الاوسى والخزرج الى الخزرجى ومعهم السلاح فبلغ ذلك النبى (ص) فركب حمارا وأتاهم فانزل الله الآيات فقرأ عليهم فاصطلحوا { وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها } ذكر نعمة اخرى اخروية هى دفع بلاء الوقوع فى النار والنجاة منها وبيان لما يورثه العداوة والالفة { كذلك } التبيين لآياته المودعة فى البيت والمقام واحكامه المقررة فى باب حج البيت وآياته المذكورة فى مواعظكم { يبين الله لكم آياته } الاخر التكليفية والوعظية والتكوينية { لعلكم تهتدون } الى مصالحكم ومضاركم او الى ولاية ولى امركم فانها غاية كل هداية وتلويح كل آية كما ان قوله تعالى { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير }.
[3.104]
{ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير } تعريض بالامر بطلب الولاية وبالاجابة لولى الامر فان المقصود ان كون امة منكم داعية الى الخير امر حتم فاطلبوهم واجيبوا دعوتهم، وقرء فى قراءة اهل البيت ائمة، وعن الباقر (ع) فى هذه الآية قال: فهذه لآل محمد (ص) ومن تابعهم يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر { ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون } الكاملون فى الفلاح فان كمال الفلاح بالبقاء بعد الفناء فى الله وهو مقام الدعوة الى الخير والامر بالمعروف والنهى عن المنكر، وعن الصادق (ع): الامر بالمعروف والنهى عن المنكر خلقان من خلق الله تعالى فمن نصرهما أعزه الله ومن خذلهما خذله الله، وعن النبى (ص) انه قال:
" لا يزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البر فاذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات وسلط بعضهم على بعض ولم يكن لهم ناصر فى الارض ولا فى السماء "
، ونسب الى الباقر (ع) انه قال: يكون فى آخر الزمان قوم يتبع فيهم قوم مراؤن يتقرؤن ويتنسكون حدثاء سفهاء لا يوجبون امرا بمعروف ولا نهيا عن منكر الا اذا امنوا الضرر يطلبون لأنفسهم الرخص والمعاذير يتبعون زلات العلماء وفساد علمهم يقبلون على الصلاة والصيام وما لا يكلهم فى نفس ولا مال، ولو اضرت الصلاة بسائر ما يعملون بأموالهم وأبدانهم لرفضوها كما رفضوا اسمى الفرائض واشرفها؛ ان الامر بالمعروف والنهى عن المنكر فريضة عظيمة بها تقام الفرائض هنالك يتم غضب الله عليهم فيعمهم بعقابه فيهلك الابرار فى دار الفجار والصغار فى دار الكبار، ان الامر بالمعروف والنهى عن المنكر سبيل الانبياء ومنهاج الصالحين، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض وتؤمن المذاهب وتحل المكاسب وترد المظالم وتعمر الارض وينتصف من الاعداء ويستقيم الامر فأنكروا بقلوبكم والفظوا بالسنتكم وصكوا بها جباههم ولا تخافوا فى الله لومة لائم فان اتعظوا والى الحق رجعوا فلا سبيل عليهم
إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم
[الشورى:42] هنالك فجاهدوهم بابدانكم وابغضوهم بقلوبكم غير طالبين سلطانا ولا باغين مالا ولا مريدين بالظلم ظفرا حتى يفيئوا الى امر الله ويمضوا الى طاعته. وقد مضى تحقيق واف فى اول البقرة عند قوله تعالى:
" أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم "
[البقرة: 44] للامر بالمعروف والنهى عن المنكر.
[3.105]
{ ولا تكونوا } يعنى فاجتمعوا على التمسك بتلك الامة ولا تكونوا { كالذين تفرقوا واختلفوا } كاليهود والنصارى تركوا التمسك باوصياء موسى (ع) وعيسى (ع) وتفرقوا غاية التفرق واختلفوا غاية الاختلاف { من بعد ما جآءهم البينات } كما جاءتكم البينات والحجج الدالات على وجوب التمسك وعلى معرفة من تتمسكون به { وأولئك لهم عذاب عظيم } توعيد للمتفرقين وتهديد بليغ للمتشبهين بهم من هذه الامة ولهذا التهديد البليغ أكد عذابهم باسمية الجملة والاتيان بها ذات وجهين فانه فى قوة تكرار النسبة والاتيان باسم الاشارة البعيدة وتأكيد العذاب بالعظيم.
[3.106]
{ يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } بياض الوجه وسواده كنايتان عن بشاشة السرور ونضارته وكابة الحزن والخوف وكدورته، او يظهر البياض حقيقة فى وجوه والسواد فى وجوه لان يوم القيامة يوم ظهور الباطن فيظهر نور هؤلاء وظلمة اولئك على ظاهرهم { فأما الذين اسودت وجوههم } فيقال لهم { أكفرتم بعد إيمانكم } فحذف فاء جواب اما مع القول، ونزول الآية كما عن على (ع) وغيره من الخاصة والعامة فى منافقى الامة الذين ارتدوا على ادبارهم بعد ايمانهم بمحمد (ص) او على (ع) فانه روى انهم اهل البدع والاهواء من هذه الامة وهذا التفسير يناسب الآيات السابقة بحسب تعريضها { فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } بعد ايمانكم.
[3.107]
{ وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون } لم يقل ففى رحمة الله خالدون لتأكيد دخولهم فى الرحمة وللبسط فى مقام المحبة وانما لم يأت بالنشر مطابقا للف لان يكون فتح الآية وختمها بالرحمة واهلها وخالف بين الفقرتين فان التوفيق بينهما ان يقول واما الذين ابيضت وجوههم ابقيتم على ايمانكم فادخلوا الرحمة بما كنتم تؤمنون لكن لما كان التقريع على السيئة اسوء عقوبة للمسيء اراد ان يبين انهم يقرعون اولا ثم يدخلون العذاب ولما كان العذاب لا يحسون به الا فى الآخرة وان كانت جهنم محيطة بهم لكنهم لا يدخلونها ولا يحسون بالمها الا فى الآخرة لكون اعضائهم خدرة فى الدنيا ولبقائهم فى ابواب الرحمة خارج جهنم رحمة بهم لعلهم يتنبهون ويرجعون ما لم يبطلوا فطرتهم الانسانية ولذلك يقال لهم فى الآخرة: ادخلوا ابواب جهنم لانهم لم يدخلوا ابوابها بعد قال تعالى فى حقهم تفريعا على تقريعهم فى الآخرة: { فذوقوا العذاب }؛ بخلاف المؤمنين لان التهنئة على البقاء على الايمان ليست تشبه الجزاء لهم وانهم داخلون فى الرحمة من حين كونهم فى الدنيا فاسقط التذكرة بالبقاء على الايمان فى جزائهم وأتى بالرحمة مشعرا بدخولهم فيها من غير انتظار الآخرة ولم يقل بما كنتم تؤمنون لان دخول الرحمة ليس الا بمحض الفضل بخلاف دخول العذاب فانه بفعل العباد، وروى عن النبى (ص) ما يدل على ان المراد بهم مخالفو على (ع) ومتبعوه فانه (ص) قال:
" يرد على امتى يوم القيامة على خمس رايات؛ فراية مع عجل هذه الامة فأسألهم ما فعلتم بالثقلين من بعدى؟ - فيقولون: أما الاكبر فحرفناه ونبذناه وراء ظهورنا، واما الاصغر فعاديناه وابغضناه وظلمناه، فاقول: ردوا النار ظماء مظمئين مسودة وجوهكم، ثم يرد على راية مع فرعون هذه الامة فاقول لهم: ما فعلتم بالثقلين من بعدى؟ - فيقولون: اما الاكبر فحرفناه ومزقناه وخالفناه، واما الاصغر فعاديناه وقاتلناه فاقول: ردوا النار ظماء مظمئين مسودة وجوهكم، ثم يرد على راية مع سامرى هذه الامة فاقول لهم: ما فعلتم بالثقلين من بعدى؟ - فيقولون: اما الاكبر فعصينا وتركنا؛ واما الاصغر فخذلنا وضيعنا، فاقول: ردوا النار ظماء مظمئين مسودة وجوهكم، ثم يرد على راية ذى الثدية مع اول الخوارج واخرهم فاسألهم: ما فعلتم بالثقلين من بعدى؟ - فيقولون: اما الاكبر فمزقناه وبرئنا منه، واما الاصغر فقاتلنا وقتلنا، فاقول: ردوا النار ظماء مظمئين مسودة وجوهكم، ثم يرد على راية امام المتقين وسيد - المسلمين وقائد الغر المحجلين ووصى رسول رب العالمين فاقول لهم: ماذا فعلتم بالثقلين من بعدى؟ - فيقولون: اما الاكبر فاتبعناه واطعناه؛ واما الاصغر فاحببنا ووالينا ونصرنا حتى اهريقت فيه دمائنا، فاقول: ردوا الجنة رواء مرويين مبيضة وجوهكم ثم تلا رسول الله (ص). { يوم تبيض وجوه الى قوله خالدون } ".
[3.108]
{ تلك } المذكورات من كون البيت اول بيت وضع للناس الى انجرار التفرق فى الاعتصام والاختلاف الى اسوداد الوجوه وظهور الظلمة من الباطن فى الظاهر والى دخول العذاب وانجرار الاجتماع فى الاعتصام بحبل الله وولى الامر الى ابيضاض الوجوه ودخول الرحمة { آيات الله } الدالة على حقيته ومجازاته على الاعمال { نتلوها } فى الآيات التدوينية { عليك } او تلك الآيات المقروءة آيات كتاب الله نتلوها عليك { بالحق } متلبسة بالحق او بواسطة الحق المخلوق به { وما الله يريد ظلما للعالمين } باسوداد الوجوه وذوق العذاب بل هو نتيجة أعمالهم المنجرة اليهم، ولما كان تقديم الفاعل وادخال النفى عليه مفيدا لنفى الفعل عن الفاعل مع اثباته لغيره فهو فى قوة ان يقال: ولكنهم يريدون الظلم للعالمين.
[3.109]
{ ولله ما في السماوات وما في الأرض } جملة حالية او معطوفة لرفع ما توهم من نسبة الافعال السابقة الى العباد من استقلالهم فى الوجود وفى الافعال ولتعليل نفى الظلم عنه فان الظلم اما لجهل الظالم بقبح الظلم او لكون المظلوم وما يملكه مما يظلم به خارجا عن ملك الظالم واراد ادخاله فى ملكه، واللام فى مثله يدخل على الفاعل مثل ان يقال: هذا البناء للبناء الفلانى، ويدخل على المالك مثل ان يقال: هذا البستان لفلان اى ملكه، وعلى الغاية مثل ان يقال: هذا البناء للعبادة { وإلى الله ترجع الأمور } لانه غاية الغايات ونهاية الطلبات لان كل فعل يستعقب فعلية وكل فعلية تنتهى الى فعلية اخرى حتى تنتهى الى فعلية لا فعلية فوقها وهى الربوبية سواء تنتهى الفعليات على طريق المظاهر اللطفية او على طريق المظاهر القهرية الى الفعلية الاخيرة وغاية الخلقة لجميع الموجودات الانسان، وغاية الانسان الربوبية كما فى الحديث القدسى:
" خلقت الاشياء لاجلك وخلقتك لاجلى "
، وهذا رجوع بطريق العود فى نفس الامر، او اليه ترجع الامور لانه مبدء المبادى ومصدر المصادر وكل موجود جوهر او عرض مخلوق وكل مخلوق ذو مصدر، وكل مصدر ذو مصدر آخر الى ان ينتهى الى المصدر الاخير كحركة القلم فان مصدرها حركة اليد، ومصدرها حركة الاعصاب والرباطات، ومصدرها حركة القوة المحركة، ومصدرها حركة القوة الفكرية، ومصدرها النفس، ومصدرها العقل، ومصدره المشيئة، ومصدرها الربوبية، وهذا انتهاء ورجوع بطريق النظر، وهذا الرجوع اشارة الى مبدئيته تعالى وذلك يدل على منتهائيته.
[3.110]
{ كنتم خير أمة } استئناف جواب لسؤال مقدر كأنه قيل من المبيض الوجوه؟ - فقال: كنتم مبيضى الوجوه، وقال: خير امة للاشارة الى وصف آخر لهم، ولفظ كان لمحض التأكيد منسلخ عن الزمان او المقصود انكم كنتم فى النشئات السابقة خير امة { أخرجت } من العدم الى الوجود او من العوالم العالية والحجب الغيبية الى عالم الشهادة { للناس } لانتفاعهم { تأمرون بالمعروف } جواب لسؤال مقدر او صفة او حال او خبر بعد خبر وعلى اى تقدير فالمقصود تعليل كونهم خير امة ويجوز ان يكون مستأنفا لقصد المدح { وتنهون عن المنكر } ولما كان المخاطبون الائمة المعصومين (ع) كما روى عنهم بطرق كثيرة والفاظ متخالفة ومتوافقة وكانوا من اول تميزهم واوان طفوليتهم معصومين وآمرين قواهم وجنودهم فطرة بالمعروف وناهين لها عن المنكر الى زمان تعلق التكليف بهم بحسب الظاهر واوان بيعتهم ودخولهم فى الايمان ثم صاروا باقتضاء العصمة وظهور الولاية آمرين وناهين لاهل مملكتهم ولمن خرج عن مملكتهم بحسب التكليف الالهى والامر والنهى الشرعيين اخبر عنهم بالمضارع الدال على الاستمرار مسبوقا بكان الدال على انه كان شأنهم وشغلهم الامر بالمعروف والنهى عن المنكر قديما، وقدمهما على الايمان لان حدوث الايمان المذكور كان بعد الامر والنهى المذكورين، او لان الامر بالمعروف والنهى عن المنكر يدلان على الايمان فطريهما على فطرية وتكليفيهما على تكليفيه { وتؤمنون بالله } ولما كان للايمان بالله درجات والمؤمن السالك الى الله يحصل له كل يوم درجة من الايمان غير ما فى السابق اتى بالايمان ايضا مضارعا دالا على التجدد، وما قيل: انما اخر الايمان مع انه حقه ان يقدم لانه قصد بذكره الدلالة على انهم امروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ايمانا بالله وتصديقا به واظهارا لدينه ليس فى محله لان هذا المعنى يستفاد من التقديم ايضا بل مقتضى الترتيب الذكرى الدلالة على انهم آمنوا بالله لكونهم آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر كما بيناه خصوصا مع ملاحظة ما ورد عنهم ان الواو فى القرآن يفيد الترتيب مع ان الاغلب ان الترتيب الذكرى يكون للترتيب المعنوى. وعن الصادق (ع) انه قرأ عليه { كنتم خير امة } فقال: خير امة يقتلون امير المؤمنين (ع) والحسن (ع) والحسين بن على (ع) فقال القارى: جعلت فداك كيف نزلت؟ - فقال: نزلت { كنتم خير أمة أخرجت للناس } الا ترى مدح الله لهم: تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله والاخبار فى ان النازل من الله خير ائمة وان المراد بهم محمد (ص) واوصياؤه كثيرة، ولما كانت الامة تطلق على من يؤتم به وعلى من يأتم بغيره يجوز ان يراد بالامة معنى الائمة، ويجوز ان يكون مرادهم من خير ائمة ان الآية بهذا المعنى نزلت لا بالمعنى الذى توهموه { ولو آمن أهل الكتاب } عطف على قوله { كنتم خير امة } او على قوله { تأمرون } على ان يكون مستأنفا وكان المناسب ان يقول ولو امر اهل الكتاب بالمعروف ونهوا عن المنكر وآمنوا { لكان خيرا لهم } لكن لما لم يكن فطرتهم فطرة الامر بالمعروف قبل الايمان ولا تكليفهم الامر بالمعروف بعد الايمان الا بعد الكمال فى الايمان واراد تعالى ان يقول: لو حصل لهم اصل الايمان من دون التفات الى الاستكمال فيه اقتصر على الايمان { منهم المؤمنون } كأنه قيل: اما آمن منهم احد؟ - فقال جوابا له: منهم المؤمنون الذين آمنوا بمحمد (ص) قبل مبعثه وبعد بعثته مثل الانصار من يهود مدينة ومثل بعض النصارى من اهل الحبشة واهل اليمن { وأكثرهم الفاسقون } الخارجون من مقتضى دينهم وكتابهم ووصية نبيهم وللاشارة الى هذا المعنى لم يقل اكثرهم الكافرون.
[3.111]
{ لن يضروكم } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: هل يضر الفاسقون منهم بنا؟ - فقال: لن يضروكم { إلا أذى } الا ضررا يسيرا هو الاذى فالاذى مفعول مطلق نوعى من غير لفظ الفعل والاستثناء مفرغ { وإن يقاتلوكم } يعنى ان فرض ضرر المقاتلة فالعاقبة لكم لانهم ان يقاتلوكم { يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون } عطف على مجموع لن يضروكم (الى آخره) او على جملة الشرط والجزاء يعنى بعد الضرر اليسير والمقاتلة لا ينصرون، او بعد المقاتلة لا ينصرون، ويجوز ان يكون ثم للترتيب فى الاخبار وقرئ لا ينصروا مجزوما معطوفا على الجزاء والآية من الاخبار الآتية وتدل على نبوة النبى (ص) لوقوع المخبر عنه بعد الاخبار كما اخبر.
[3.112]
{ ضربت عليهم الذلة } المحيطة بهم كالبيت المضروب عليهم فى الدنيا بالصغار والجزية كاليهود والنصارى الذين رضوا بالجزية او فى الانظار كاليهود الذين لا يوجدون الا ذليلين فى الدنيا فى الامصار والانظار او بالمغلوبية بالحجة، او فى الآخرة والاتيان بالماضى لتحقق وقوعه { أين ما ثقفوا } وجدوا { إلا بحبل من الله } هو الفطرة التى فطر الله الناس عليها التى يعبر عنها بالولاية التكوينية التى هى الكتاب التكوينى الالهى الذى كتابه التدوينى ظهوره وبيانه { وحبل من الناس } هو الاتصال بالنبى (ص) بالبيعة العامة او بالولى (ع) بالبيعة الخاصة الولاية ويعبر عنه بالولاية التكليفية، نسب الى الصادق (ع) انه قال: الحبل من الله كتاب الله والحبل من الناس على بن ابى طالب (ع) { وبآءوا } اى يرجعون الى الآخرة والتأدية بالماضى للمشاكلة مع الافعال السابقة والآتية ولتحقق وقوعه { بغضب } عظيم { من الله وضربت عليهم المسكنة } مشتق جعلى من المسكين وهو الذى أسكنه الفقر من الحركة فى معاشه وهو اسوء حالا من الفقير الذى لا يكون له ما يكفيه لمؤنته وتلك الاوصاف جارية على اليهود من زمن النبى (ص) الى زماننا هذا فى جميع البلاد فانه قلما يوجد يهودى الا وهو ذليل، والآيات نازلة فى اهل الكتاب لكنها تعريض بالامة المعرضة عن على (ع) { ذلك } المذكور من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب { بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله } التدوينية والاحكام الالهية التى كانت فى كتبهم وشرائعهم وبآيات الله التكوينية من محمد (ص) وعلى (ع) ومعجزاتهما وانبيائهم فان كفرهم باقوال أنبيائهم فى محمد (ص) وعلى (ع) كفر بهم والاتيان بالمضارع مع تخلل كانوا للاشعار بان هذه كانت سجيتهم وانهم مستمرون عليها لا يمكنهم الانفكاك عنها { ويقتلون الأنبيآء بغير حق } التقييد به للتبيين او للتقييد باعتقادهم يعنى يتيقنون ان قتلهم كان بغير حق لا انهم كانوا يشكون او يظنون او يوقنون انه بحق { ذلك } الكفر والقتل { بما عصوا وكانوا يعتدون } اى بسبب عصيانهم وكونهم معتدين لان الاصرار على الصغائر يفضى الى الكبائر والكبائر تؤدى الى الاكبر.
[3.113]
{ ليسوا سوآء } اى ليس اهل الكتاب الذين آمنوا والفاسقون سواء فى احوالهم واعمالهم { من أهل الكتاب } مستأنفة جوابا لسؤال مقدر مثل الجمل السابقة والآتية كأنه قيل: ما حالهم المختلفة الغير المتساوية؟ او لم قلت: ليسوا سواء؟ - فقال: منهم { أمة قآئمة } معتدلة فى احوالهم واخلاقهم واعمالهم او قائمة للعبادة ويكون حينئذ آناء الليل متنازعا فيه { يتلون } صفة بعد صفة او حال او مستأنف { آيات الله } يعنى يرغبون فى آيات الله وينظرون اليها ويتدبرون فيها من كتبهم ومن القرآن { آنآء الليل } جمع الانى بفتح الهمزة او كسرها وسكون النون او جمع الانو بالكسر والسكون بمعنى الساعة من الليل { وهم يسجدون } يخضعون لله وللخلق او تلاوة الآيات، والسجود كناية عن صلاة العتمة او صلاة الليل وقوله تعالى { يؤمنون بالله واليوم الآخر }.
[3.114-115]
{ يؤمنون بالله واليوم الآخر } جملة مستأنفة او صفة بعد صفة او حال فى مقام التعليل، ويجوز ان يكون تأخيره عن التلاوة والسجود للاشعار بأنه مسبب عنهما والمعنى يؤمنون بالله على يد محمد (ص) بسبب تلاوة الآيات والسجود { ويأمرون بالمعروف } وللاشارة الى انهم ليسوا معصومين ومفطورين على الامر بالمعروف والنهى عن المنكر بل هما يحصلان لهم بعد الايمان التكليفى بالله اخرهما هاهنا عن الايمان بالله بخلاف الآية السابقة فانها كانت فى وصف الائمة المفطورين على الامر بالمعروف قبل الايمان { وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات } من العبادات والاحسان الى العباد { وأولئك } العظماء الموصوفون بتلك الاوصاف { من الصالحين وما يفعلوا من خير فلن يكفروه } يعنى فى الآخرة والا فالمؤمن مكفر وذلك ان معروفه يصعد الى السماء فلا ينتشر فى الناس، والكافر مشكور وذلك أن معروفه للناس ينتشر فى الناس ولا يصعد الى السماء وتعدية يكفروه الى المفعولين اما لتضمين معنى الحرمان او لتشبيه المنصوب الثانى بالمفعول مثل زيد حسن الوجه بنصب الوجه وقرء تفعلوا ويكفروه بالخطاب والغيبة { والله عليم بالمتقين } وضع الظاهر موضع المضمر للاشعار بمدح آخر لهم وللاشارة الى ان فعل الخير لا يكون الا عن التقوى وهو بشارة للمؤمنين بان افعالهم الحسنة لا تعزب عن علم الله تعالى فيجازى لا محالة عليها.
[3.116]
{ إن الذين كفروا } مستأنف جواب للسؤال عن حال الصنف الآخر من اهل الكتاب كأنه قيل: قد عرفنا حال الامة القائمة المؤمنة من اهل الكتاب فما حال الامة الكافرة منهم؟! وانما اخرج الكلام بصورة الجواب للسؤال المقدر مع ان حقه ان يقول: ومنهم امة معوجة يكفرون بالله حتى يتم التعديل مع قوله من اهل الكتاب امة قائمة اكتفاء ببيان حالهم عن التصريح بالتقسيم وتعميما للحكم لجميع الكفار مع الايجاز { لن تغني عنهم } اى لن تجاوز عنهم بالاغناء بتضمين مثل معنى المجاوزة { أموالهم ولا أولادهم } اقتصر مما يغتر به الانسان فيكفر بالله عليهما لانهما اعز الاشياء عليه ولان اعتماده واستظهاره بهما اقوى واشد من غيرهما { من الله } اى من سخط الله { شيئا } من الله حال مقدم ان كان شيئا مفعولا به؛ او قائم مقام الموصوف الذى هو مفعول به ان كان شيئا مفعولا مطلقا ولفظة من للتبعيض { وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } بمناسبة مقام السخط بسط فى الكلام وغلظ واكد بمؤكدات عديدة.
[3.117]
{ مثل ما ينفقون } اى الكفرة جواب لسؤال مقدر والمعنى مثل القوى والمدارك والاعمار والاموال التى ينفقها هؤلاء الكفرة لان تكون ذخيرة وزرعا لآخرتهم فى انفاقها فى غير مواقعها وفى جعلها فى محل لا يصل نفعها اليهم، وفى هلاكها وفناءها قبل بلوغها مبلغ الانتفاع { في } زمان { هذه الحياة الدنيا } او فى حفظها او ابقائها { كمثل ريح فيها صر } برد شديد { أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم } بجعل الزرع فى موضع يهلك ويفنى قبل بلوغه ولا يصل نفعه اليهم، او بزرعه فى غير وقته حتى يدركه البرد فيهلكه والمعنى كمثل حرث اصابته ريح وقد مضى مكررا ان التشبيه التمثيلى لا يلزم الترتيب بين اجزاء المشبه والمشبه به ولا دخول اداة التشبيه على المشبه به او المعنى مثل ما ينفقون من اموالهم واعمارهم وقواهم فى زمان الحياة الدنيا او فى حفظها فى اهلاك الحرث الاخروى التكوينى الذى زرع الله بذره فى وجودهم كمثل ريح فيها برد شديد اصابت حرث قوم ظلموا انفسهم بالمعاصى عقوبة لهم، او بوضع الحرث فى غير محله او فى غير وقته { فأهلكته } وافنته { وما ظلمهم الله } اى ما ظلم الكفار فى فناء منفقاتهم بلا منفعة لهم { ولكن أنفسهم يظلمون } بانفاقهم فى محل او على وجه او بنية لا يصل منفعته اليهم، او المعنى وما ظلم الله قوما اهلك الريح حرثهم ولكنهم ظلموا انفسهم بزرع الحرث فى غير محله او فى غير وقته او مع اسخاط الله بمعصيتهم لا مع ارضائه بطاعتهم، وكان حق العبارة ان يقول: وما الله ظلمهم ولكنهم يظلمون لانه اذا اريد نفى الفعل عن فاعل مع اثباته لغيره ينبغى ان يقع الفاعل المنفى عنه عقيب اداة النفى والفاعل مثبت له عقيب اداة الاستدراك لكنه اراد ان يقول انه لا ظلم فى ابطال الانفاق ولا فى اهلاك هذا الحرث فأدخل النفى على الفعل دون الفاعل افادة لهذا المعنى، واثبت ظلما ما لهم باعتبار منع انفسهم وقواهم عن حقوقها، وحصر وقوع الظلم على انفسهم اشعارا بهذا المعنى.
[3.118]
{ يأيها الذين آمنوا } بالايمان العام والبيعة العامة النبوية وقبول الدعوة الظاهرة { لا تتخذوا بطانة } البطانة بكسر الباء خاصة الرجل من الرجال او من يتخذه معتمدا عليه من غير اهله يستوى فيه المذكر والمؤنث والواحد وغيره { من دونكم } متعلق بلا تتخذوا، ولفظة من ابتدائية، او صفة لبطانة ولفظة من تبعيضية؛ والمعنى لا تتخذوا خليلا بعضا من غيركم { لا يألونكم خبالا } اى لا يقصرون الخبال والفساد فيكم او لا يتوانون فى الخبال فيكم وعلى اى تقدير فخبالا تميز وضمير الخطاب مفعول به على الاول ومنصوب بنزع الخافض على الثانى، او هما مفعولان بتضمين معنى المنع ومثله { ودوا ما عنتم } اى عنتكم وهو شدة الضر والمشقة { قد بدت البغضآء من أفواههم } فى ضمن كلامهم لعدم تمالكهم من شدة البغض مع انهم بنفاقهم يريدون ان يظهروا التودد لكم والجمل الثلاث اوصاف لبطانة او احوال مترادفة او متداخلة عنه لتخصصه بقوله { من دونكم } او عن فاعل لا تتخذوا او عن كليهما او مستأنفة فى مقام التعليل { وما تخفي صدورهم } من البغضاء عليكم { أكبر } مما يظهر من افواههم { قد بينا لكم الآيات } والعلامات الدالة على بغضائهم لكم وشدة عداوتهم فما لكم تتخذونهم بطانة { إن كنتم تعقلون } ذوى عقول او تدركون بعقولكم تلك العلامات اجتنبتم موالاتهم.
[3.119]
{ هآأنتم أولاء تحبونهم } انتم مبتدأ واولاء خبره وتحبونهم حينئذ خبر بعد خبر او حال او مستأنف او انتم مبتدأ واولاء مفعول من باب الاشتغال وخبره الفعل المقدر وتحبونهم مفسر او انتم مبتدأ وتحبونهم خبره واولاء بدل او منادى، او اولاء بمعنى الذين خبره وتحبونهم صلة اولاء { ولا يحبونكم } تقريع لهم على موالاتهم { وتؤمنون بالكتاب كله } اى الكتاب المنزل عليكم ولستم كمن آمن ببعض وكفر ببعض وقد تكرر فى الكتاب الالهى النهى عن اتخاذ الكافرين اولياء لان من يتولاهم فهو منهم والامر باتخاذ المؤمنين اولياء فما لكم تؤمنون بالكتاب كله ولا تتبعون هذا النهى والامر فهو تهييج لهم على ترك موالاتهم، وما قاله مفسروا العامة من ان المعنى تؤمنون بكتابهم وكتابكم وهم لا يؤمنون بكتابكم بعيد من سياق اللفظ { وإذا لقوكم قالوا آمنا } وجه آخر لردعهم عن موالاة الكفار المخالطين لهم بانهم يعاشرونهم على النفاق ولا ينبغى للمؤمنين ان يوالى المنافق الذى يكون ذا لسانين { وإذا خلوا } عنكم { عضوا عليكم الأنامل من الغيظ } لعصبيتهم لدينهم { قل موتوا بغيظكم } الخطاب لمحمد (ص) او لكل من يتأتى منه الخطاب وهو دعاء عليهم بزيادة الغيظ وشدته حتى يهلكوا به، او بدوام الغيظ لقوة الاسلام الى آخر اعمارهم، او زجر لهم على غيظهم { إن الله عليم بذات الصدور } بما صحب الصدور ولزمها فكيف لا يعلم ما يظهر على الاعضاء فى الخلوات من مثل عض الانامل وهو من جملة مقول القول فى مقام تعليل الموت بالغيظ او هو من الله وجواب لسؤال مقدر كأنه قيل: كيف يعلم الله عضهم الانامل؟ - فقال: ان الله يعلم ما هو اخفى منه، او قيل: كيف علمت يا محمد (ص)؟ - فقال: ان الله يعلم ما هو اخفى منه فيخبرنى به.
[3.120]
{ إن تمسسكم حسنة تسؤهم } وجه آخر لردعهم عن موالاتهم { وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها } وهذه حالة العدو وحقه العداوة لا الموالاة { وإن تصبروا } عن موالاتهم مع خوفكم عن ايذائهم وعلى ايذائهم ان آذوكم { وتتقوا } الله فى موالاتهم او تتقوا عنهم بان تكونوا على حذر منهم حتى لا يصل اليكم اثر احتيالهم { لا يضركم كيدهم شيئا } فثقوا بالله ولا تكلوا على موالاتهم فى دفع مضراتهم { إن الله بما يعملون محيط } فى موضع التعليل قرء بالخطاب وبالغيبة.
[3.121]
{ وإذ غدوت } عطف على لا تتخذوا واذكروا يا محمد (ص) ويا امة محمد (ص) او ذكرهم يا محمد (ص) بنصرة الله وتأييده فى مواطن عديدة حتى تقويهم فلا يخافو من الكفار ولا يولوهم الادبار خوفا منهم اذ خرجت بالغداة { من أهلك } الى جبل احد { تبوىء المؤمنين } تنزل كلا فى مقامه اللائق به { مقاعد } امكنة مناسبة { للقتال } فان المقعد وان كان مأخوذا من القعود يستعمل فى معنى الموقف والمقام من غير اعتبار قعود فيه كاستعمال المقام فى مطلق الموقف والمكان من غير اعتبار قيام فيه { والله سميع } والحال ان الله كان سميعا لاقوالكم حين التشاور { عليم } بنياتكم حين ترجيح بعضكم القتال فى المدينة وسككها وبعضكم الخروج الى خارج المدينة، او المعنى ان الله سميع لاقوالكم حين الفشل والفرار عليم باحوالكم ونياتكم وهو وعيد للمنافقين ووعد للصادقين. نسب الى الصادق (ع) انه قال سبب غزوة احد ان قريشا لما رجعت من بدر الى مكة وقد أصابهم ما أصابهم من القتل والاسر لانه قتل منهم سبعون واسر منهم سبعون قال ابو سفيان: يا معشر قريش لا تدعوا نساءكم يبكين على قتلاكم فان الدمعة اذا خرجت اذهبت الحزن والعداوة لمحمد (ص)، وخرجوا من مكة فى ثلاثة آلاف فارس والفى راجل واخرجوا معهم النساء فلما بلغ رسول الله (ص) ذلك جمع اصحابه وحثهم على الجهاد فقال عبد الله بن أبى: يا رسول الله لا تخرج من المدينة حتى نقاتل فى ازقتها فليقاتل الرجل الضعيف والمرأة والعبد والامة على افواه السكك وعلى السطوح فما ارادنا قوم قط فظفروا بنا ونحن فى حصوننا ودورنا وما خرجنا على عدو لنا قط الا كان لهم الظفر علينا، فقام سعد بن معاذ وغيره من الاوس فقال: يا رسول الله ما طمع فينا احد من العرب ونحن مشركون نعبد الاصنام فكيف يظفرون بنا وانت فينا؟! لا حتى نخرج اليهم نقاتلهم؛ فمن قتل منا كان شهيدا ومن نجا منا كان مجاهدا فى سبيل الله، فقبل رسول الله (ص) رأيه وخرج مع نفر من اصحابه يتبوؤن موضع القتال كما قال سبحانه: { واذ غدوت من اهلك } وقعد عنهم عبد الله بن ابى وجماعة من الخزرج اتبعوا رأيه، ووافت قريش الى احد وكان رسول الله (ص) عبأ اصحابه وكانوا سبعمائة رجل فوضع عبد الله بن جبير فى خمسين من الرماة على باب الشعب واشفق ان يأتيهم كمينهم من ذلك الشعب فقال رسول الله (ص) لعبد الله واصحابه:
" ان رأيتمونا قد هزمناهم حتى أدخلناهم مكة فلا تبرحوا من هذا المكان، وان رأيتموهم قد هزمونا حتى ادخلونا المدينة فلا تبرحوا والزموا مراكزكم "
، ووضع ابو سفيان خالد بن وليد فى مأتى فارس كمينا؛ وقال: اذا رأيتمونا قد اختلطنا فاخرجوا عليهم من هذا الشعب حتى تكونوا وراءهم (الى آخر ما روى).
[3.122-123]
{ إذ همت } بدل من اذ غدوت او ظرف لسميع وعليم { طآئفتان منكم } هما بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الاوس وكانا جناحى العسكر وقيل: كانتا طائفة من الانصار وطائفة من المهاجرين وكان سبب همهم بالفشل ان عبد الله بن ابى بن سلول دعاهما الى الرجوع الى المدينة عن لقاء المشركين يوم احد فهمتا به ولم تفعلاه { أن تفشلا } تضعفا وتجبنا { والله وليهما } فلا يدعهما ان تفشلا وتفرا وهو جملة حالية، او المعنى والله وليهما فلا ينبغى لهما ان تفشلا { وعلى الله } لا على غيره كعبد الله بن ابى { فليتوكل المؤمنون ولقد نصركم الله } عطف على قوله { والله وليهما } او حال والمقصود الاشارة الى تعليل الامر بالتوكل وتعليل ولايته { ببدر } موضع بين المدينة ومكة كان لرجل يسمى بدرا فسمى به { وأنتم أذلة } فى انظار النظار من حيث العدة والعدة اذ كنتم قليلين ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا وكنتم رث الهيئة من حيث اللباس ولم يكن فيكم سلاح ولا مراكب الا قليلا { فاتقوا الله } فى الاعتماد على الغير والاستمداد من الغير { لعلكم تشكرون } تتصفون بمقام الشكر او تشكرون نعمة نصرته لكم او تنعمون بنعمة اخرى من النصر وغيره فتشكرون على ان يكون تشكرون قائما مقام تنعمون من قبيل اقامة المسبب او السبب مقام السبب او المسبب.
[3.124-125]
{ إذ تقول } ظرف لنصركم او بدل من قوله { اذ همت } او بدل ثان من قوله { اذ غدوت } يعنى ان الله كان سميعا اذ تقول { للمؤمنين ألن يكفيكم } فى مقام الاستدلال على صدق النبى (ص) ووعده، او فى مقام المحاجة على الاعداء، او فى مقام المقاتلة مع الاعداء، والاتيان بلن الدالة على تأبيد النفى للاشارة الى انهم ظنوا بحسب غفلتهم وعدم تفكرهم وضعف انتقالهم او بحسب قلة عددهم وعددهم انه لن يكفيهم ابدا { أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى } محكى لقول النبى (ص) او ابتداء كلام من الله خطابا لمحمد (ص) وامته كأنه قال الله تعالى بلى يكفيكم فهى ايجاب للكفاية وليس قوله تعالى { إن تصبروا وتتقوا } بيانا لما افادته بلى بل هو وعد لهم بالزيادة على هذا العدد فى الامداد بشرط الثبات والتقوى عن الفشل والفرار فان تصبروا { ويأتوكم من فورهم هذا } الفور مصدر فار اذا غلى استعير للسرعة ثم استعمل فى الزمان الحاضر الذى لا تراخى فيه اصلا، او من فوران الغضب يعنى ان يأتوكم من اجل شدة غضبهم { يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين } معلمين بعلامات يمتازون بها عن غيرهم وقرئ بكسر الواو من سوم على القوم اغار عليهم ويستفاد من بعض الاخبار انه كما كان النصر ببدر كان هذا الوعد ايضا ببدر وان الملائكة النازلة كانت اولا ثلاثة آلاف ثم لحق بهم الفان، وفى بعض الاخبار اشارة الى ان هذا الوعد كان فى غزوة احد.
[3.126]
{ وما جعله الله } اى امدادكم بالملائكة { إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم } عن الاضطراب { به } يعنى ما كان المقصود من الامداد بالملائكة الا البشارة لكم لتسروا قبل الظفر ولتطمئن قلوبكم قبل ان تقر عيونكم بالغلبة والقتل لان الانظار البشرية على الاسباب الحسية { وما النصر إلا من عند الله } من غير توسط اسباب وآلات ومن دون الحاجة الى امداد واستعداد { العزيز } الذى لا يمنع من مراده { الحكيم } الذى لا ينصر ولا يخذل الا لحكم ومصالح عائدة اليكم.
[3.127]
{ ليقطع } متعلق بقوله { لقد نصركم الله } او بقوله { يمددكم } او بالنصر فى قوله { وما النصر الا من عند الله } او متعلق بمحذوف اى جعل هذا النصر لكم ليقطع { طرفا من الذين كفروا } بالقتل والاسر كما وقع فى بدر { أو يكبتهم } كبته صرعه واخزاه وصرفه وكسره ورده بغيظه واذله والكل مناسب ولفظة او للتنويع { فينقلبوا } يرجعوا { خآئبين } غير نائلين من آمالهم شيئا.
[3.128]
{ ليس لك من الأمر شيء } جملة معترضة بين المتعاطفات وقطع لظن المؤمنين فى ان امر اهلاك المشركين او احياءهم بايمانهم منوط بمسئلة النبى (ص) { أو يتوب عليهم } الظاهر انه عطف على ما قبل قوله { ليس لك من الامر شيء } ويجوز ان يكون عطفا على الامر او على شيء بتقدير ان ويجوز ان يكون او بمعنى حتى بتقدير ان اى ليس لك من امرهم شيء حتى يتوب الله عليهم بمسئلتك، او يكون بمعنى الا بتقدير ان اى ليس لك من امرهم شيء الا ان يتوب الله عليهم فتسر بتوبته وعلى التقادير الاربعة فقوله ليس لك من الامر يكون منقطعا جوابا لسؤال مقدر { أو يعذبهم فإنهم ظالمون } نسب الى الباقر (ع) انه قرء { ان تتوب عليهم } او تعذبهم باظهار ان ولفظ الخطاب ونسب اليه ايضا انه قرء { ان يتب عليهم او يعذبهم } وعنه (ع) انه قرئ عنده { ليس لك من الامر شيء } قال بلى والله ان له من الامر شيئا وشيئا وليس حيث ذهبت ولكنى اخبرك ان الله تعالى لما اخبر نبيه (ص) ان يظهر ولاية على (ع) ففكر فى عداوة قومه له فيما فضله الله به عليهم فى جميع خصاله وحسدهم له عليها ضاق عن ذلك فاخبر الله انه ليس له من هذا الامر شيء انما الامر فيه الى الله ان يصير عليا وصيه وولى الامر بعده فهذا عنى الله وكيف لا يكون له من الامر شيء وقد فوض الله اليه ان جعل ما احل فهو حلال وما حرم فهو حرام قوله تعالى
ومآ آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا
[الحشر: 7]، وروى عنه (ع) ايضا ان رسول الله (ص) كان حريصا على ان يكون على (ع) من بعده على الناس وكان عند الله خلاف ما اراد فقال له: ليس لك من الامر شيء يا محمد (ص) فى على (ع) الامر الى فى على (ع) وفى غيره الم انزل عليك يا محمد (ص) فيما انزلت من كتابى اليك
الم*أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون
[العنكبوت: 1-2] قال ففوض رسول الله (ص) الامر اليه.
[3.129]
{ ولله } من حيث كونه فاعلا وغاية ومالكا { ما في السماوات وما في الأرض } بعد ما نفى كون الامر بيده اثبت مخلوقية الجميع ومملوكيتها ورجوعها اليه تعالى { يغفر لمن يشآء ويعذب من يشآء } يعنى امر مغفرتهم وتعذيبهم بيده تعالى { والله غفور رحيم } ترجيح لجانب الغفران وردع له (ص) وللمؤمنين عن التبادر الى الدعاء واللعن عليهم وتغليب للرجاء على الخوف.
[3.130-131]
{ يآ أيها الذين آمنوا } ابتداء كلام لابداء حكم من احكام السياسات وانما صدره بالنداء ليجبر كلفة النهى عما هم عليه من الرباء بلذة النداء والخطاب { لا تأكلوا الربا } لا تأخذوها وقد شاع استعمال الأكل فى مطلق الاخذ والتصرف اما لان الأكل عمدة افراد التصرف او لان كل تصرف اكل لقوة من القوى { أضعافا } جمع الضعف بمعنى مثلى الشيء { مضاعفة } تأكيد للتضعيف والمعنى امثال ما عينتموه فى المدة الاولى او من شأنه ان يصير امثال اصل المال فى يسير زمان بتكرار الاجل وتكرار الزيادة كما كانوا فى السابق يربى الرجل منهم الى اجل ثم يزيد فيه زيادة اخرى وهكذا حتى يستوفى بالشيء اليسير فى الزمان القليل جميع مال المديون فهو نهى عن اقبح افراده او نهى عنه مطلقا ببيان قبحه الشأنى حتى يكون علة للنهى وليس تقييدا للنهى حتى يكون بمفهوم مخالفته منافيا لما سبق فى سورة البقرة من النهى عنه مطلقا ضمنا ولما يأتى فى سورة النساء من التصريح بالنهى عنه مطلقا { واتقوا الله } فى ارتكاب ما نهيتم عنه من الربا { لعلكم تفلحون واتقوا النار التي أعدت للكافرين } بالتجنب عن مثل افعالهم من اكل الربا وغيره وقد سبق وجه تحريم الربا فى سورة البقرة عند قوله تعالى
وأحل الله البيع وحرم الربا
[البقرة: 275]، وبعد ما نهى عما يضر الانسان ويجره الى النيران اغراه الى ما ينفعه ويجره الى الجنان فقال { وأطيعوا الله }.
[3.132]
{ وأطيعوا الله } بطاعة الرسول فيما امركم به ونهاكم عنه ولذلك لم يكرر اطيعوا وقال { والرسول لعلكم ترحمون } قد سبق ان الاتيان بادوات الترجى من عادة الكبار من الناس وان الترجى من الله واجب غير متخلف عنه.
[3.133]
{ وسارعوا } بالمسارعة الى طاعة الرسول والاهتمام بها { إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض }.
وجه التعبير عن عرض الجنة بعرض السماوات والارض
اعلم ان العرض والطول فى المسطحات عبارة عن اقل الامتدادين واكثرهما، وفى المجسمات عبارة عن اقصر الامتدادات الثلاثة واطولها، والعرض فى الاسطوانات والمخروطيات عبارة عن امتداد قواعدها والطول فيها عبارة عن امتداد سهامها، ولما كان عوالم الامكان مبتدئة من المشيئة التى هى الوحدة الحقة الظلية التى هى كالنقطة فى عدم تطرق الكثرة اليها منتهية الى عالم الاجسام الذى هو لكثرته مثل قاعدة المخروط شبه العوالم الطولية بالمخروط المنتهى من طرف الى النقطة ومن طرف الى القاعدة، ولما كان عالم الطبع بكثرته مثل قاعدة المخروط فى كثرتها وقد علمت ان عرض المخروط عبارة عن قطر قاعدته قال تعالى: عرضها نفس السماوات والارض من غير تخلل اداة التشبيه، ولما كان هذه كلها على طريق تشبيه المعقول بالمحسوس قال فى سورة الحديد:
سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السمآء والأرض
[الحديد:21] بتخلل اداة التشبيه.
ثم اعلم ان سعة عالم الطبع ومكانه وعاء لسعة العوالم العالية كما ان زمانه وعاء لامد بقائها وكما ان سعة الدهر الذى هو امد بقاء العوالم العالية بالنسبة الى الزمان اضعاف الزمان بالف او بخمسين الفا لان يوما من الدهر الذى وعاءه ومظهره يوم من الزمان كالف سنة فى المرتبة الاولى او كخمسين الف سنة فى المراتب الاخر كذلك سعة وعاء العوالم العالية الذى هو بمنزلة مكان عالم الطبع بالنسبة الى المكان الذى هو وعاء ومظهر لوعاء العوالم العالية اضعافه بالف او خمسين الفا، وهذه السعة غير السعة بحسب الكثرة فلا ينافى تشبيه عالم الطبع بالقاعدة فى الكثرة والعوالم العالية بالنقطة فى الوحدة { أعدت } صفة بعد صفة او حال بتقدير قد او مستأنف جوابا لسؤال مقدر كأنه قيل، لمن هذه الجنة؟ - فقال: اعدت { للمتقين } قد مضى فى اول سورة البقرة بيان مراتب التقوى فان التقوى الحقيقية هى التى تكون بعد الايمان واول مراتبها التقوى عن نسبة شيء من الاموال والافعال الى نفسه وآخر مراتبها التقوى عن ذاته بحيث لا يبقى له ذات وانانية وهى آخر مراتب العبودية واول مراتب الربوبية.
[3.134]
{ الذين ينفقون } من الاموال والابدان والاعراض والقوى والاوصاف والانانيات { في السرآء والضرآء } اى فى جميع الاحوال لا يمنعهم حال من الاحوال من الانفاق وهذا بيان للمتقين وليس تقييدا له كما عرفت { والكاظمين الغيظ } الحابسين له، والاوصاف الثلاثة بيان لبعض مراتب الانفاق لان كظم الغيظ فى الحقيقة انفاق من سورة القوة الغضبية كما ان العفو عن الناس وطهارة القلب عن الحقد عليهم والانزجار من اساءتهم ثم الاحسان اليهم بعد اساءتهم انفاق من سورة كبرياء النفس وانانيتها { والعافين عن الناس } العفو هاهنا بمعنى الصفح فانهما كالفقراء والمساكين لان كظم الغيظ بمعنى العفو وترك الانتقام وقد ذكر فالعفو بمعنى الصفح الذى هو تطهير القلب عن الحقد على المسيء.
تحقيق مراتب الناس فى القصاص وتركه
{ والله يحب المحسنين } حق العبارة ان يقول والمحسنين لكنه عدل اليه لافادة القسيم وكونه محبوبا لله باخصر لفظ، ولما كان الممدوح من هذه الثلاثة ما كان سجية وما كان منها صادرا عن سجية اتى بها اسماء بخلاف الانفاق فان المقصود والممدوح منه حدوث الفعل وطرح الفضول وفعل الغير وان كان سجيته ايضا ممدوحة ولذلك اتى به فعلا دالا على التجدد الاستمرارى وقد اشار تعالى بهذه العبارة الوجيزة الى مراتب التقوى ومنازل السلوك؛ فان اولى مراتب التقوى والسلوك الانزجار عن فضول الدنيا ومساوئ النفس وهو نحو انفاق من تشهيات النفس ثم انفاق الفضول وطرح شهوات النفس وفى هذه المرتبة يباح له القصاص عن المسيء لكنه ينهى عن الزيادة على قدر الاساءة وهو ايضا تقوى وانفاق من القوة الغضبية وامضائها فانها لا تقف فى مقام مكافاة المسيء على حد وهذه المرتبة لها درجات عديدة، وثانيتها مقام كظم الغيظ وترك امضاء الغضب على المسيء ولهذه المرتبة ايضا درجات، وثالثتها العفو عن المسيء وتطهير القلب عن الحقد عليه ولا يكون الا اذا حصل للسالك مقام الشهود والعيان وشاهد الحق الاول فى مظهر من مظاهره ولهذه المرتبة ايضا درجات وفى هذه المرتبة مهالك عديدة ومفاسد غير محدودة وكل من زاغ وانحرف الى مذهب من المذاهب الباطلة نشأ انحرافه من هذه المرتبة وآخرة درجاتها آخرة درجات العبودية واول ظهور الربوبية وهو مقام الاحسان ومقام المحبوبية لله.
[3.135]
{ والذين إذا فعلوا فاحشة } عطف على الذين ينفقون والفاحشة تطلق على الزنا مخصوصا وعلى ما يشتد قبحه مطلقا وعلى كل ما نهى الله عز وجل عنه { أو ظلموا أنفسهم } الظاهر المتبادر ان يكون المراد بالفاحشة البالغ فى القبح وبظلم النفس مطلق القبيح حتى يكون من قبيل ذكر العام بعد الخاص او الغير البالغ فى القبح حتى يكون قسيما للفاحشة لكنه نسب الى النبى (ص) انه فسر الفاحشة بالزنا وظلم النفس بارتكاب ذنب اعظم من الزنا وان الآية نزلت فى شاب كان ينبش القبور سبع سنين حتى نبش قبر جارية من بنات الانصار واخذ كفنها ثم جامعها فسمع صائتا يقول من ورائه: يا شاب ويلك من ديان يوم الدين يوم يقفنى واياك كما تركتنى عريانة فى عساكر الموتى ونزعتنى من حفرتى وسلبتنى اكفانى وتركتنى اقوم جنبة الى حسابى فويل لشبابك من النار، فندم واتى النبى (ص) باكيا متضرعا ولما علم النبى (ص) بحاله بعد استعلام حاله نحاه من عنده فيئس وخرج الى بعض الجبال وتضرع على الله اربعين صباحا حتى انزل الله تعالى قبول توبته وانزل هذه الآية على نبيه (ص) فخرج مع اصحابه فى طلبه فدلوه عليه فجاء اليه ودنا منه واطلق يديه من عنقه ونفض التراب من رأسه وقال:
" يا بهلول ابشر فانك عتيق الله من النار "
{ ذكروا الله } يعنى لم يكن الفاحشة او ظلم النفس من التمكن فى الجهل بل كان من اللمم النازلة بالعباد المغفورة لانها لم تكن كبيرة كما سبق ان الكبيرة ما كان صادرا من التمكن فى اتباع الطاغوت واما اذا كان الانسان متمكنا فى اتباع على (ع ) وولايته فكلما صدر عنه من المساوى فهو من قبيل اللمات ومن الصغائر وهذا الانسان كلما يوقعه الشيطان فى قبيح يتذكر الله لا محالة ويندم على قبيحه ويستغفر ربه وما ورد فى الاخبار من ان الاصرار ان يذنب الذنب فلا يستغفر الله ولا يحدث نفسه بتوبة، ومن قوله (ع): لا صغيرة مع الاصرار ولا كبيرة مع الاستغفار، ومن قول النبى (ص):
" ما اصر من استغفر وان عاد فى اليوم سبعين مرة "
، وغير ذلك مما ورد فى بيان الكبائر والصغائر يشعر بما ذكرنا فصاحبوا الصغيرة هم الذين اذا فعلوا فاحشة اى فاحشة كانت ذكروا الله { فاستغفروا لذنوبهم } وصاحبوا الكبيرة هم الذين اذا فعلوا فاحشة لم يتذكروا ولم يستغفر الله لذنوبهم، وما ورد من تعداد الكبائر وحصرها فى السبعة او اكثر انما هو للاشارة الى الكبارة بنسبة بعضها الى بعض { ومن يغفر الذنوب إلا الله } معترضة او حالية والمقصود تأييس العباد عن التوجه الى غيره تعالى والاستغفار ممن سواه وتوصيفه تعالى بسعة المغفرة مع حصرها فيه { ولم يصروا على ما فعلوا } عطف على قوله { استغفروا لذنوبهم } ، والاصرار على المعصية كما علم سابقا توطين النفس على المعصية من دون احداث توبة سواء صدرت عنه مكررة ام لا كما ان الكبيرة هى المعصيه الصادرة عن تمكين النفس فى الجهل واتباع الطاغوت { وهم يعلمون } يعنى لم يصروا على الفاحشة او ظلم انفسهم والحال انهم كانوا يعلمون بقبح فعلهم يعنى ان مناط صدق الاصرار على القبيح هو علم الفاعل بقبحه لا قبحه فى نفس الامر فلو اشتبه الاجنبية واصر على المضاجعة معها لم تكن معصية ولا الاصرار عليها اصرارا على القبح.
[3.136]
{ أولئك } الاتيان باسم الاشارة البعيدة لاحضارهم باوصافهم العظيمة ولتفخيم شأنهم { جزآؤهم مغفرة من ربهم وجنات } هذه الجملة تأكيد لما استفيد من قوله { اعدت للمتقين } فانه افاد ان الجنة والمغفرة جعلت نزل المتقين لانها كانت جزاءهم ولكونها فى مقام التأكيد اتى بها مؤكدة باسمية الجملة وتكرار النسبة بجعلها ذات وجهين كبرى وصغرى وبسط فى الكلام ولم يكتف بذكر المغفرة والجنة وجمع الجنات ووصفها بقوله تعالى { تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها } ومدحها بما يرتفع المنة به عنهم وانها اجر عملهم فقال: { ونعم أجر العاملين } المغفرة والجنات، روى انه لما نزلت هذه الآية صعد ابليس جبلا فصرخ بأعلى صوته بعفاريته فاجتمعوا اليه فقالوا: يا سيدنا لما دعوتنا؟ - قال: نزلت هذه الآية فمن لها؟ - فقام عفريت من الشيطان فقال: انالها بكذا وكذا، قال لست لها، فقام آخر فقال مثل ذلك، فقال: لست لها، فقال الوسواس الخناس: انالها، قال بماذا؟ - قال اعدهم وامنيهم حتى يواقعوا الخطيئة فاذا واقعوا الخطيئة انسيتهم الاستغفار فقال: انت لها، فوكله بها الى يوم القيامة.
[3.137]
{ قد خلت } استئناف جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: هذا للمتقين فما لغيرهم؟ - فقال: قد خلت اى مضت { من قبلكم سنن } جمع السنة وهى السيرة والطريقة والمقصود انه مضت طرائق كانت عليها الامم الماضية من المتقين المصدقين والفاسقين المكذبين { فسيروا في الأرض } اى ارض عالم الطبع لاستعلام سير المصدقين والمكذبين حتى تعلموا حالهما وعملهما وصنع الله فيهما وفى اعقابهما فى الدنيا والآخرة بمشاهدة آثار صنع الله بهما وباستعلام اخبار الانبياء بحالهما فى الآخرة ثم تفكروا { فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } حتى تعتبروا من حالهم وتجتنبوا مثل افعالهم، او سيروا فى ارض القرآن والكتب السماوية، او فى ارض اخبار الانبياء واوصيائهم، او فى ارض السير والتواريخ، او فى ارض وجودكم وعالمكم الصغير فان اهل عالمكم الماضين كل منهم فى مقامهم كانوا مدعين للانانية والاستقلال ومكذبين بلسانهم الحالى لمن يقول انتم فى الطريق والهلاك من هذه الحياة ولا بد لكم الفناء من هذا الوجود ثم البقاء والحياة بوجود آخر اشرف واكمل.
[3.138]
{ هذا } القرآن بآياته او هذا المذكور من ذكر حال المتقين ومآلهم وذكر المكذبين والاشارة الى عاقبتهم الفضيحة، او هذا المذكور من السنن الماضية من المتقين والمكذبين، او السير فى الارض، او فضيحة عاقبة المكذبين { بيان } اى ظاهر او مظهر او اظهار { للناس } عامة { وهدى } هاد او هداية { وموعظة } واعظ او وعظ { للمتقين } خاصة فان شرط الهداية والوعظ قبول القابل لانهما امران اضافيان.
[3.139]
{ ولا تهنوا } عطف على سارعوا لان الفاصل بينهما من متعلقات المعطوف عليه اى لا تضعفوا عن الجهاد بما اصابكم يوم احد وقد اصبتم مثليه يوم بدر { ولا تحزنوا } على قتلاكم لانهم بلغوا بالقتل مقاماتهم العالية من الجنان وعانقوا ازواجهم من الحور العين، ولا على ما فات منكم من الغنيمة { وأنتم الأعلون } بالصعود على الجبل او انتم الاعلون شأنا لانكم على الحق وعدوكم على الباطل وقتلاكم فى الجنة وقتلاهم فى النار، او انتم الاعلون فى العاقبة بالغلبة عليهم وعلى اى تقدير فهو تسلية قيل: نزلت الآية تسلية للمؤمنين لما نالهم يوم احد من القتل والجراح، وقيل: لما انهزم المسلمون اقبل خالد بن وليد بخيل من المشركين يريد ان يعلو عليهم الجبل فقال النبى (ص) لا يعلن علينا ووثب نفر رماة فصعدوا الجبل ورموا خيل المشركين حتى هزموهم وعلا المسلمون الجبل ونزلت الآية، وقيل: نزلت بعد يوم احد حين امر الله رسوله (ص) بطلب القوم وقد أصابهم من القتل والجراح ما أصابهم وقال رسول الله (ص)
" لا يخرج الا من شهد معنا بالامس "
فاشتد ذلك على المسلمين فنزلت الآية { إن كنتم مؤمنين } يعنى ان كنتم باقين على الايمان كنتم اعلون او هو شرط تهييجى لقوله: { لا تهنوا }.
[3.140]
{ إن يمسسكم قرح } قرئ بالفتح والضم وهما مصدران، او القرح بالفتح مصدر وبالضم اسم المصدر بمعنى الم الجراح { فقد مس القوم قرح مثله } ببدر او فى تلك الغزوة { وتلك الأيام } اى ايام الغلبة والسرور والنعمة فانه يكنى بالايام عن النعمة والسرور فيقال: هذه ايام فلان يعنى وقت سروره ونعمته { نداولها } اى نديرها بالنوبة { بين الناس } فنعطى السرور والظفر والغنيمة يوما للمؤمنين ويوما للكافرين لئلا يغتر المؤمنون ويسكنوا الى الدنيا ويجعلوا ايمانهم وسيلة لراحة دنياهم ولئلا يدخل المنافقون فى الاسلام طلبا للدنيا فيزاحموا الانبياء ويفتنوا المؤمنين { وليعلم الله الذين آمنوا } اى ليظهر علمه بالذين اسلموا حقيقة او ليعلم نبيه الذى هو مظهر اسمه الجامع الذى هو الله ولذلك التفت من التكلم الى الغيبة { ويتخذ منكم } بالابتلاء والامتحان { شهدآء على الناس } او امناء فى الشهادة او رجالا لا يغيب عن علمهم شيء كالاوصياء والاولياء او قتلى فى سبيل الله ويظهر ظلم الظلمة منكم ومن الكفار بسبب الغلبة والمغلوبية واكتفى عنه بقوله { والله لا يحب الظالمين } فانه يدل عليه مع شيء زائد والمراد بنفى المحبة فى مثل المقام اثبات الغضب عليهم كما مر مرارا.
[3.141]
{ وليمحص الله الذين آمنوا } من الاهوية والاغراض الفاسدة بسبب المغلوبية ومن الذنوب بسبب تحمل الاذى، او ليميز الله الذين آمنوا من الذين كفروا ممن انتحل الاسلام، او ليميز الله الذين آمنوا من الذين كانوا كافرين باعلان كلمة المؤمنين { ويمحق الكافرين } من حيث ذواتهم باهلاك بعض واسر بعض واجلاء بعض، او من حيث كفرهم بادخالهم طوعا او كرها فى الاسلام.
[3.142]
{ أم حسبتم } اضراب عما يستفاد من تلك التسلية سواء جعل ام بمعنى بل مع الهمزة او بمعنى بل فقط كأنه قال: ما تثبتم على الايمان وعلى الجهاد بل حسبتم { أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم } لما يظهر جهاد منكم فلم يظهر على الله بجهادكم او لم يعلم الله الجهاد منكم فى مقام مظاهره الذين هم الانبياء (ع) واوصياؤهم والفرق بين لم ولما ان لم لنفى الماضى من غير التفات الى استمراره الى الزمان الحاضر ومن غير ترقب وقوع المنفى بعد الزمان الحاضر، ولما لنفى الماضى مع الاستمرار الى الزمان الحاضر وترقب وقوع المنفى بعده؛ والجملة حالية، { ويعلم الصابرين } على الجهاد او عن الجهاد وقرئ بالنصب باضمار ان بعد الواو بمعنى مع، وبالرفع على ان يكون الجملة حالا بتقدير مبتدء او على ان تكون معطوفة على لما يعلم الله، ويكون المعنى ويعلم الصابرين عن الجهاد ولما يعلم المجاهد.
[3.143]
{ ولقد كنتم تمنون الموت } بالشهادة والجملة حالية، روى ان المؤمنين لما اخبرهم الله تعالى بالذى فعل بشهدائهم يوم بدر فى منازلهم فى الجنة رغبوا فى ذلك فقالوا: اللهم ارنا قتالا نستشهد فيه فاراهم الله يوم احد اياه فلم يثبتوا الا من شاء الله منهم وانهزموا وفروا عن القتل والموت فقال تعالى: { ولقد كنتم تمنون الموت } ببدر { من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه } بمشاهدة قتلاكم من اخوانكم المؤمنين وضمير تلقوه ورأيتموه راجع الى الموت باعتبار لقاء اسبابه ورؤية اسبابه { وأنتم تنظرون } ترون الموت باعينكم فيكون تأكيدا لرأيتموه لرفع احتمال ان يكون المراد رؤية القلب او تتفكرون او تتأنون.
[3.144]
{ وما محمد إلا رسول قد خلت } اى مضت { من قبله الرسل } بالموت او القتل فيخلو لا محالة { أفإن مات } باجله من دون اسباب خارجية وآلات قتالة فان المتبادر من الموت هذا خصوصا حين استعماله مقابل القتل وقد اشير فى الاخبار وصرح بأنه غير القتل { أو قتل انقلبتم } عن الدين { على أعقابكم } شبه الراجع عن الدين الذى هو طريق النفس بالراجع عن الطريق الظاهر وانما قال على اعقابكم للاشارة الى ان الانسان ان ارتد عن دينه كان وجهه الى مقصده بحسب فطرته مثل من ارتد عن طريق على عقبه حيث يكون وجهه الى مقصده الاول وذكر فى نزول الآية انه لما فشا يوم احد فى الناس ان محمدا (ص) قتل قال بعض المسلمين ليت لنا رسولا الى عبد الله بن ابى فيأخذ لنا امانا من ابى سفيان، وبعضهم جلسوا والقوا ما بايديهم وقال اناس من اهل النفاق: ان كان محمد (ص) قد قتل فالحقوا بدينكم الاول فقال انس بن نضر عم انس بن مالك: يا قوم ان كان قد قتل محمد (ص) فان رب محمد (ص) لم يقتل وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله (ص) فقاتلوا على ما قاتل عليه رسول الله (ص) وموتوا على ما مات عليه، ثم ان رسول الله (ص) انطلق الى الصخرة وهو يدعو الناس فاول من عرف رسول الله (ص) كعب بن مالك قال: فناديت بأعلى صوتى: يا معاشر المسلمين ابشروا فهذا رسول الله (ص) فاشار الى ان اسكت فانحازت اليه طائفة من اصحابه فلامهم النبى (ص) على الفرار فقالوا: فديناك بآبائنا وامهاتنا اتانا الخبر بانك قتلت فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين فأنزل الله تعالى: { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } (الى آخر الآية) وكان سبب هزيمة المسلمين يوم احد ان رسول الله (ص) لما سمع اجتماع المشركين لحربه وكانوا ثلاثة الاف فارس والفى راجل واخرجوا معهم النساء جمع اصحابه وحثهم على الجهاد ومنع عبد الله بن ابى اصحابه عن الخروج وقال سعد بن معاذ وامثاله: نخرج من المدينة وقبل رسول الله (ص) رأيه وخرج من المدينة ووضع رسول الله عبد الله بن جبير على باب الشعب واكد عليهم فى ثباتهم فى مراكزهم ووضع ابو سفيان خالد بن وليد فى مأتى فارس كمينا وقال: اذا اختلطنا فاخرجوا عليهم من هذا الشعب حتى تكونوا وراءهم وعبأ رسول الله (ص) اصحابه ودفع الراية الى امير المؤمنين (ع) فحمل الانصار على مشركى قريش فانهزموا هزيمة قبيحة ووقع اصحاب رسول الله (ص) فى سوادهم وانحط خالد بن وليد فى مأتى فارس على عبد الله بن جبير فاستقبلوهم بالسهام فرجع ونظر اصحاب عبد الله بن جبير الى اصحاب رسول الله (ص) ينهبون سواد القوم فقالوا لعبد الله: قد غنم أصحابنا ونبقى نحن بلا غنيمة.
.!؟ فقال لهم عبدالله: اتقوا الله فان رسول الله (ص) قد تقدم الينا ان لا نبرح فلم يقبلوا منه واقبلوا ينسل رجل فرجل حتى خلوا مراكزهم وبقى عبد الله بن جبير فى اثنى عشر رجلا وانحط خالد بن وليد على عبد الله بن جبير واصحابه فقتلهم على باب الشعب ثم أتى المسلمين فى ادبارهم ونظرت قريش فى هزيمتها الى الراية قد رفعت فلاذوا بها وانهزم اصحاب رسول الله (ص) هزيمة عظيمة واقبلوا يصعدون فى الجبال وفى كل وجه { ومن ينقلب } عن دينه { على عقبيه فلن يضر الله شيئا } بل يضر نفسه ويهلك حرثه ونسله { وسيجزي الله الشاكرين } يعنى ومن يثبت على دينه ويذهب على استقامة طريقه فهو شاكر ورابح وسيجزى الله الشاكرين وانما اقتصر على هذا لافادته اياه مع شيء زائد باخصر لفظ انما كان الثابت الذاهب مستقيما شاكرا لصرفه نعم الله التى هى مداركه وقواه وبدنه واعضاؤه وعلمه وشعوره فيما خلقت لاجله، ولحفظه حق المنعم وعظمته فى انعامه حين صرف نعمه فيما خلقت له، والمراد بالشاكرين هاهنا على (ع) ونفر يسير بقوا عند رسول الله (ص) حين انهزم المسلمون، روى عن الصادق (ع) انه لما انهزم المسلمون يوم احد عن النبى انصرف اليهم بوجهه وهو يقول:
" انا محمد انا رسول الله لم اقتل ولم امت، فالتفت اليه بعض الصحابة فقال: الان يسخر بنا ايضا وقد هزمنا وبقى معه على (ع) وابو دجانة رحمه الله فدعاه النبى (ص) فقال: يا ابا دجانة انصرف وانت فى حل من بيعتك فاما على (ع) فهو انا وانا هو فتحول وجلس بين يدى النبى وبكى وقال: لا والله ورفع رأسه الى السماء وقال: لا والله لا جعلت نفسى فى حل من بيعتى، انى بايعتك فالى من انصرف يا رسول الله (ص)؟! الى زوجة تموت؟ او ولد يموت؟ او دار تخرب؟ ومال يفنى؟ واجل قد اقترب؟ فرق له النبى فلم يزل يقاتل حتى قتل فجاء به على (ع) الى النبى (ص) فقال: يا رسول الله (ص) اوفيت ببيعتى؟ - قال: نعم، وقال له النبى (ص) خيرا وكان الناس يحملون على النبى (ص) الميمنة فيكشفهم على (ع) فاذا كشفهم اقبلت الميسرة الى النبى (ص) فلم يزل كذلك حتى تقطع سيفه بثلاث قطع فجاء الى النبى (ص) فطرحه بين يديه وقال: هذا سيفى قد تقطع فيومئذ اعطاه النبى (ص) ذا الفقار ولما رأى النبى (ص) اختلاج ساقيه من كثرة القتال رفع رأسه الى السماء وهو يبكى وقال: يا رب وعدتنى ان تظهر دينك وان شئت لم يعيك فأقبل على (ع) الى النبى (ص) فقال: يا رسول الله (ص) اسمع دويا شديدا واسمع اقدم يا حيزوم وما اهم اضرب احدا الا سقط ميتا قبل ان اضربه فقال: هذا جبرئيل وميكائيل واسرافيل والملائكة ثم جاء جبرئيل فوقف الى جنب رسول الله (ص) فقال: يا محمد (ص) ان هذا لهى المواساة فقال النبى (ص): ان عليا (ع) منى وانا منه فقال جبرئيل: وانا منكم "
(الى آخر الحديث) ونزل { وسيجزى الله الشاكرين } وهذا مضمون ما روى عن الصادق أيضا، وفى حديث عن النبى (ص)
" الا وان عليا (ع) هو الموصوف بالصبر والشكر ثم من بعده ولدى من صلبه "
، ويظهر من الاخبار ان الآية تعريض بما احدث المنافقون من بعده من رجوعهم من على (ع) وتركهم وصيته (ص) فى حقه فعن على (ع) فى حديث حتى اذا دعا الله نبيه ورفعه اليه لم يك ذلك بعده الا كلمحة من خفقة او وميض من برقة الى ان رجعوا على الاعقاب وانتكصوا على الادبار وطلبوا بالاوتار واظهروا الكتائب وردموا الباب وفلوا الديار وغيروا آثار رسول الله (ص) ورغبوا عن احكامه وبعدوا من انواره واستبدلوا بمستخلفه بديلا وعن الباقر (ع) انه قال كان الناس اهل ردة بعد رسول الله (ص) الا ثلاثة قيل ومن الثلاثة؟ - قال: المقداد وابو ذر وسلمان الفارسى ثم عرف اناس بعد يسير فقال: هؤلاء الذين دارت عليهم الرحا وابوا ان يبايعوا حتى جاءوا بامير المؤمنين مكرها فبايع وذلك قول الله { وما محمد إلا رسول } (الآية) وعن الصادق (ع) فى موت النبى (ص) وقتله انه قال: اتدرون مات النبى (ص) او قتل ان الله يقول: { افان مات او قتل انقلبتم على اعقابكم } (الى آخر الحديث).
[3.145]
{ وما كان لنفس أن تموت } كأن المراد بالموت هاهنا معنى اعم من القتل { إلا بإذن الله } اى باباحته وهذا تقوية لقلوب المؤمنين وتسلية لهم بانه ما اصابهم من القتل وما يصيبهم ما كان ولا يكون الا بعلمه وترخيصه لخروج الروح ولو لم يخرج ارواح المقتولين بالقتل لخرجت بالموت فما لهم يتوانون من الجهاد ويخافون من القتل ويتحسرون على القتلى { كتابا } حال من ان تموت فانه بتأويل الموت او مفعول مطلق لفعل محذوف { مؤجلا } مؤقتا لا يتخلف عن وقته بتأخير ان فرت وتقديم ان قاتلت { ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها } تعريض بمن شغلته الدنيا ومنعه تعلقه بها عن القتال وبمن شغلته الغنائم يوم احد عن امتثال الامر كاصحاب عبد الله بن جبير وعن القتال كبعض الانصار وبمن فر عن القتال ذلك اليوم وترك الرسول (ص) { ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها } تعريض بمن ثبت على الامتثال كبعض اصحاب عبد الله بن جبير وبمن ثبت على القتال حتى قتل او نجا { وسنجزي الشاكرين } من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر او المراد بالشاكرين من بذل جهده فى سبيل الله وترك الدنيا والآخرة وراء ظهره امتثالا لامر الله واعلاء لكلمته وحماية لدينه كعلى (ع) فكأنه قال: ومن يرد وجه الله وطرح ثواب الدنيا والآخرة فهو شاكر { وسنجزى الشاكرين } ، نسب الى الباقر (ع) انه قال: اصاب عليا (ع) يوم احد ستون جراحة وان النبى (ص) امر ام سليم وام عطية ان تداوياه فقالتا: انا لا نعالج منه مكانا الا انفتق منه مكان وقد خفنا عليه ودخل رسول الله (ص) والمسلمون يعودونه وهو قرحة واحدة فجعل يمسحه بيده ويقول: ان رجلا لقى هذا فى الله فقد أبلى وأعذر، فكان القرح الذى يمسحه رسول الله (ص) يلتئم فقال على (ع): الحمدلله اذ لم افر ولم اول الدبر فشكر الله له ذلك فى موضعين من القرآن وهو قوله { وسيجزى الله الشاكرين } { وسنجزى الشاكرين }.
[3.146]
{ وكأين من نبي قاتل } قرئ قتل مبنيا للمفعول، وقاتل من باب المفاعلة وهو خبر كاين او صفة نبى ومرفوعه اما ضمير نبى وحينئذ فقوله { معه ربيون } مبتدأ مكتف بمرفوعه ومرفوع مغن عن الخبر، او مبتدء مؤخر وخبر مقدم والجملة حال او صفة بعد صفة او خبر بعد خبر او خبر ابتداء و { كثير } صفة بعد صفة او خبر بعد خبر او خبر ابتداء وعلى بعض الوجوه الذى لا يبقى معه خبر لكاين يكون الخبر محذوفا او مرفوع قاتل ربيون وحينئذ يكون معه متعلقا بقاتل والجملة صفة او خبر وكثير صفة بعد صفة ويكون حينئذ خبر كأين محذوفا او خبر بعد خبر او خبر ابتداء والربيون منسوب الى الرب وكسر الراء من تغييرات النسب وقد قرئ بفتح الراء على الاصل وبضم الراء مثل الكسر مغيرا عن هيئته او هو جمع الربى منسوب الربة بالكسر بمعنى الجماعة الكثيرة، او بمعنى عشرة الاف، وبهذا المعنى قد يضم الربة وفسر فى الخبر بعشرة آلاف، وهذا أيضا تقوية للمؤمنين وتسلية لهم وتعريض بفشلهم عند الارجاف بقتل النبى (ص) فى احد { فما وهنوا } اى ما فتروا فى رأيهم عن القتال وعن القيام بأمر دينهم { لمآ أصابهم } من قتل النبى (ص) او قتل بعضهم ومن الجرح والنهب { في سبيل الله } ظرف لاصابهم او متنازع فيه لقاتل ووهنوا واصابهم { وما ضعفوا } فى ابدانهم او المراد بالوهن الضعف فى الابدان وبالضعف الوهن فى الرأى { وما استكانوا } ما تذللوا افتعل من المسكنة بمعنى الذلة اشبع فتحة الكاف او استفعل من كان له بمعنى انقاد له وهو تعريض بما قالوا عندما ارجف بقتل النبى (ص): اذهبوا بنا الى عبد الله بن أبى ليأخذ الامان لنا من أبى سفيان يعنى انهم ما وهنوا كما وهنتم وانهزمتم وما تذللوا عند العدو كما أردتم التذلل وصبروا على القتال { والله يحب الصابرين } تعريض ببغضهم لاجل الفرار وعدم الثبات واكتفى عن قوله وصبروا بقوله { والله يحب الصابرين } لافادة سابقه اياه واستفادته منه مع شيء زائد هو اثبات محبته لهم والتعريض ببغضه للفارين عن القتال.
[3.147]
{ وما كان قولهم } مع ثباتهم فى دينهم وكمال جهدهم لرضا ربهم { إلا أن قالوا } قالا او حالا { ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين } يعنى انهم مع تصلبهم فى دينهم وبذل وسعهم فى سبيل ربهم خافوا من ذنوبهم واستغفروا ربهم والتجأوا اليه واستضروه على أعدائهم وأعداء ربهم بخلافكم حيث اغتررتم ونسيتم ذنوبكم واردتم الالتجاء الى اعدائكم كابى سفيان وعبد الله بن أبى.
[3.148]
{ فآتاهم الله } بسبب ثباتهم على القتال والتجائهم الى الله واستغفارهم منه واستنصارهم له { ثواب الدنيا } من الظفر والغنيمة و الهيبة والرعب فى قلوب الاعداء وحسن الصيت والراحة من القتال بسبب علو كلمتهم وتسليم عدوهم لهم وفوق الكل الالتذاذ بقرب الله ومناجاته { وحسن ثواب الآخرة } من المراتب العالية من الجنات العالية مثل جنة عدن وجنة الرضوان ونعيمها مما وصف ومما لم يوصف ولم يخطر على قلب بشر وانما أتى بالحسن فى ثواب الآخرة للاشعار بان ثواب الآخرة ذو مراتب كثيرة بعضها حسن وبعضها أحسن وآتاهم الله احسنها لان الحسن المضاف الى امر ذى مراتب كلها حسن يراد به حسن الاحسن منها كأن الاحسن حسن بالنسبة وغير الاحسن غير حسن بالنسبة الى الاحسن، او المراد ثواب الآخرة مطلقا والثواب مطلقا حسن لكنه اضاف الحسن الى ثواب الآخرة دون ثواب الدنيا للاعتناء بثواب الآخرة دون ثواب الدنيا كأنه ليس له حسن { والله يحب المحسنين } اى يحبهم ووضع الظاهر موضع المضمر ايماء الى انهم محسنون واشعارا بعلة المحبة.
[3.149]
{ يا أيها الذين آمنوا } بالبيعة العامة وقبول الدعوة الظاهرة ناداهم بعد ما عرض بهم تلطفا بهم وجذبا لقلوبهم حتى يتعظوا بوعظه ويقبلوا نصحه { إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم } قد مضى وجه التعبير بالرد على الاعقاب وانه تمثيل للرد على الدين مع بقاء الفطرة بالرد عن الطريق مع توجه الوجه الى المقصد الاول { فتنقلبوا خاسرين } نسب الى مولاى ومولى كل مؤمن ومؤمنة امير المؤمنين (ع) انه قال: نزلت فى المنافقين اذ قالوا للمؤمنين يوم احد عند الهزيمة ارجعوا الى اخوانكم وارجعوا الى دينكم.
[3.150]
{ بل الله مولاكم } يعنى ليس هؤلاء المنافقون الذين يردونكم عن دينكم مولاكم بل الله مولاكم { وهو خير الناصرين } فلا تستنصروا بمثل عبد الله بن ابى ولا بمثل ابى سفيان.
[3.151]
{ سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب } بعد ما تلطف بهم وقواهم بكونه مولاهم وناصرهم وعدهم الرعب فى قلوب اعدائهم استتماما للنصرة واستكمالا للتقوية وقد انجز وعده بعد هزيمة المسلمين فى احد بنصرتهم على اعدائهم والقاء الخوف فى قلوبهم بحيث انهزموا وما وقفوا الى مكة من خوف تعاقب المسلمين { بمآ أشركوا بالله } باشراكهم فى الطاعة وفى الوجود { ما لم ينزل به سلطانا } الباء فى به ظرفية او سببية او للالصاق والمعنى بما اشركوا بالله شريكا لم ينزل بسببه من حيث شركته برهانا وحجة دالة على جواز الاشراك به فى الطاعة وعلى جواز التوجه والنظر اليه.
تحقيق الاشراك بالله باذنه وبرهانه
اعلم ان الانسان سوى المعصومين من اول الصبا كافر محض حالا واعتقادا الى اوان المراهقة والبلوغ فان ساعده التوفيق وانجذب الى الانقياد لنبى وقته والاعتقاد بالتوحيد صار مسلما موحدا اعتقادا وكان كافرا حالا لانه حينئذ فى دار الكثرة ومقام النفس التى لا ترى الا الكثرات ولا تتذكر فى الفاعلين فاعلا وحدانيا بل لا تعتقد فاعلا وحدانيا فان ساعده التوفيق وانجذب من دار الكثرة الى دار الوحدة التى هى دار القلب ودار الايمان فان بايع البيعة الخاصة الولوية ودخل الايمان فى قلبه وهاجر من دار الحرب التى هى دار النفس ودار الكفر الى مدينة القلب التى هى دار الامن والامان والايمان فهو قد يجد وجدانا وحالا الهيا فى الفاعلين فيخرج من الكفر الحالى الى الشرك الحالى ثم الشهودى ثم العيانى حتى يخرج من دار الشرك الى دار التوحيد بحيث لا يرى فى الوجود الا الله وحصل معنى لا حول ولا قوة الا بالله، ثم معنى لا اله الا الله، وهنا لك يخرج من الشرك ويصير موحدا فالانسان ما دام فى دار الكفر والشرك لا يخرج من الاشراك بالله فى الوجود ولا فى الطاعة لانه ان لم يطع انسانا يطع هواه وشيطانا فان كان ما اشرك به لله انزل الله تعالى حجة وبرهانا فى صحة اشراكه كان المشرك موحدا من طريق الاشراك وكان اشراكه مأذونا فيه ومأجورا فيه، وان لم ينزل فى اشراكه برهانا وسلطانا كان اشراكه كفرا ومنهيا عنه ومورثا لعقوبة الآخرة فقوله تعالى: { بمآ أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا } يفيد بمفهوم مخالفته انه ان اشرك بالله من نزل الله به سلطانا لم يكن مذموما وقد فسر الاشراك فى الاخبار بالاشراك بالولاية وبالاشراك بعلى (ع) وذلك لظهور الآلهة بالولاية وظهور الله بعلى (ع) { ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين } النار وفى وضع الظاهر موضع المضمر اظهار لذم آخر واشعار بعلة الحكم.
[3.152]
{ ولقد صدقكم الله وعده } اياكم بقوله { بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم } او بقوله { وأنتم الأعلون } وبقوله { بل الله مولاكم وهو خير الناصرين } تعريضا او بقوله { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب } او بقول نبيه (ص) لاصحاب عبد الله بن جبير
" لا تبرحوا من هذا المكان فانا لا نزال غالبين ما ثبتم مكانكم "
ولقد تحقق صدق وعده حين كنتم غالبين ما كنتم غير مخالفين لامر الرسول بثبات اصحاب عبد الله بن جبير فى مراكزهم { إذ تحسونهم } تقتلونهم من الحس بمعنى القتل او الحيلة او الاستئصال { بإذنه } بترخيصه واباحته تكوينا وتكليفا على لسان نبيه (ص) { حتى إذا فشلتم } ضعفتم عن القتال والثبات فى مراكزكم { وتنازعتم في الأمر } بان قال بعضكم: غنم اصحابنا، وقال بعضكم: لا نبرح من أمكنتنا فان الرسول (ص) قدم الينا ان لا نبرح { وعصيتم } امر الرسول (ص) بان لا تبرحوا عن امكنتكم سواء انهزم المسلمون او هزموا { من بعد مآ أراكم } الله { ما تحبون } من الظفر والغنيمة وجواب اذا محذوف وهو امتحنكم او منعكم انجاز وعده لمنعكم شرط وعده وهو الصبر والتقوى والثبات فى المراكز { منكم من يريد الدنيا } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل لما يقع النزاع منا؟ - فقال: لان منكم من يريد الدنيا وهم الذين تركوا مراكزهم من اصحاب عبد الله بن جبير للحرص على الغنيمة وارادة عرض الدنيا { ومنكم من يريد الآخرة } وهم الذين ثبتوا حتى قتلوا { ثم صرفكم عنهم } اى عن مقاتلتهم بالجبن والفرار حتى غلبوكم { ليبتليكم } يمتحنكم بالبلايا فيخلصكم من الهوى وارادة الدنيا { ولقد عفا عنكم } بعد ما ندمتم على مخالفتكم تفضلا منه عليكم فادالكم عليهم ثانيا بحيث غلبتموهم وارعبتموهم حتى لم يمكثوا الى مكة وكانوا مسرعين خائفين { والله ذو فضل على المؤمنين } فلا ينظر الى اعمالهم واستحقاقهم بل يريد استكمالهم فى الاحوال كلها سواء ابتلاهم او انعم عليهم.
[3.153]
{ إذ تصعدون } على الجبل فى فراركم او فى وجه الارض فان الاصعاد الذهاب فى الصعيد وهو وجه الارض والصعود بمعنى الارتقاء والظرف متعلق بصرفكم او بيبتليكم او مفعول لذكرهم مقدرا منقطعا عما قبله { ولا تلوون على أحد } لا تنظرون على اعقابكم فى فراركم لشدة خوفكم { والرسول } والحال ان الرسول { يدعوكم في أخراكم } فى جماعتكم المتأخرة اى فى اعقابكم كان يقول: الى عباد الله الى عباد الله انا رسول الله { فأثابكم } اى جازاكم الرسول او الله { غما } هو القتل موصولا { بغم } هو المغلوبية والفرار او غما هو الفرار والقتل موصولا بغم هو الارجاف بقتل الرسول (ص) او غموما متتالية هى القتل والهزيمة والارجاف والجرح فان هذه الكلمة قد تستعمل فى الكثرة المتتالية، او اثابكم غما هو الهزيمة والارجاف والقتل بدل غم او بسبب غم اصاب الرسول (ص) حين خلافكم قوله (ص) وعدم ثباتكم فى مراكزكم { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم } بعد ذلك يعنى ان اثابة الغم على ترك امر الرسول (ص) واذاقة مرارة الهزيمة والقتل ليكون ذلك فى ذكركم فلا تخالفوا بعد ذلك امر الرسول (ص) لعرض الدنيا ولا تحزنوا على ما تصورتم فواته من الغنيمة { ولا } على { مآ أصابكم } من الشدائد فى سبيل الله فان البلية اذا كانت فى طاعة الله وطاعة رسوله لم تؤثر اثرا بل تلذ لبعض، او المعنى اثابكم غما بغم ليستكملكم بذلك فلا تحزنوا بعد الاستكمال على ما فاتكم، او المعنى ليشغلكم حزنكم على مخالفة امر النبى (ص) عن الحزن على ما فاتكم { والله خبير بما تعملون } فيجازيكم على اعمالكم على حسب مصالحكم، وفيه ترغيب فى الطاعة وترهيب عن المعصية.
[3.154]
{ ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا } لتعلموا ان ليس الابتلاء والامنة الخارجان عن طريق المعتاد الا عن الله وتكلوا اموركم الى الله، و(امنة) مفعول انزل و(نعاسا) بدل منه بدل الاشتمال، او امنة حال من نعاسا او من المخاطبين بان تكون جمع آمن او بتقدير آمنين، ونعاسا بدل منه بدل الاشتمال، او امنة حال من نعاسا او من المخاطبين بان تكون جمع آمن او بتقدير آمنين، و(نعاسا) مفعول. نقل عن بعض الغازين فى احد انه قال غشينا النعاس فى المصاف حتى كان السيف يسقط من يد احدنا فيأخذه ثم يسقط فيأخذه { يغشى طآئفة منكم } وهم المؤمنون الخالصون { وطآئفة } اخرى ولتقدير الصفة جاز الابتداء به وهذه الطائفة هم المنافقون { قد أهمتهم أنفسهم } اوقعتهم انفسهم فى الهموم او جعلتهم ذوى اهتمام بأنفسهم من غير التفات الى الدين او الرسول (ص) والمسلمين والجملة خبر عن طائفة او صفة لها { يظنون بالله } خبر بعد خبر او صفة بعد صفة او خبر ابتداء او حال او مستأنف جواب لسؤال مقدر { غير الحق } غير الظن الحق على ان يكون مفعولا مطلقا او غير المظنون الحق على ان يكون قائما مقام المفعولين { ظن } الملة { الجاهلية } بدل من غير الحق او مفعول مطلق { يقولون } عند انفسهم او لاقرانهم والجملة بدل عن يظنون او هى مثل الجملة السابقة فى الوجوه المحتملة { هل لنا من الأمر } اى من امر الدين او من امر الوعد بالنصر والظفر او من امر أنفسنا وتدبير خلاصنا من هذه البلية، او هل لنا نجاة فنكون مسلطين على امر انفسنا { من شيء } يعنى يظهرون اضطرابهم وعدم اعتقادهم بنبوة محمد (ص) على انفسهم بكلامهم النفسانى او على غيرهم بكلامهم اللسانى { قل إن الأمر كله لله } اى امر الغلبة والنصر او امر التدبير او عالم الامر والقضاء والجملة معترضة ان كان قوله تعالى { يخفون في أنفسهم } حالا او صفة او خبرا واما اذا كان مستأنفا جوابا لسؤال مقدر فيكون قوله { قل ان الامر كله لله } منقطعا مستأنفا والمعنى يخفى هؤلاء الطائفة المنافقة فى انفسهم من الانكار والتكذيب وارادة اللحوق بالكفار { ما لا يبدون لك يقولون } الجملة كالجمل السابقة فى وجوه الاعراب { لو كان لنا من الأمر شيء } باحد المعانى المذكورة، او لو كنا بالمدينة باختيارنا ولم نبرح من المدينة كما كان رأى ابن ابى وغيره { ما قتلنا } ما غلبنا وما قتل المقتولون منا { هاهنا قل } ردا لهذا الزعم الفاسد والخيال الكاسد { لو كنتم في بيوتكم } متحصنين { لبرز الذين كتب } فى اللوح المحفوظ او فرض { عليهم القتل إلى مضاجعهم } ومصارعهم لم ينفعهم التحصن، او المعنى قل لهم ايها المضطربون الشاكون: لو كنتم فى بيوتكم لبرز المؤمنون الذين فرض الله عليهم القتال الى مضاجعهم { و } فعل ذلك الخروج والقتال والمقتولية والمغلوبية بكم { ليبتلي الله ما في صدوركم } ويمتحنه حتى يظهر كونه فاسدا غير موافق لما فى اللسان { وليمحص ما في قلوبكم } لما كان الصدر يطلق على النفس باعتبار جهتها السفلية والقلب يطلق عليها باعتبار جهتها الى القلب الحقيقى نسب الابتلاء الذى هو استعلام حال الردى واظهار ردائته الى الصدر والتمحيص الذى هو تخليص الجيد من الردى والصحيح من الفاسد الى القلب لان صدر المنافق لا يكون فيه الا النفاق والفاسد من العقائد وما لم ينقطع الفطرة الانسانية منه ولم يرتد فطريا لا يخلو قلبه من امر حق ولو كان اجماليا { والله عليم بذات الصدور } فلا يكون الامتحان منه لاستعلام الممتحن كامتحان الجاهلين بل لاستكمال الممتحن او ظهور حاله على معاشريه ممن لم يعلم حاله او استنزاله.
[3.155]
{ إن الذين تولوا منكم } جواب لسؤال مقدر عن حال المتولين عن القتال ولما ذمهم الله تعالى بابلغ ذم وصار الاعتذار عنهم باستزلال الشيطان والعفو عنهم محلا للشك اتى فى الجواب بتأكيدات فقال: ان الذين تولوا منكم { يوم التقى الجمعان } جمع المؤمنين وجمع المشركين فى احد { إنما استزلهم } طلب زلتهم او ازلهم { الشيطان ببعض ما كسبوا } من ذنوبهم السالفة وقيل: من خلافهم لقول الرسول وتركهم مراكزهم وقيل: بذكر بعض ما كسبوا فكرهوا القتال لئلا يقتلوا قبل التوبة وهما ينافيان ما وقع من فرار الكل وان الفارين اكثرهم كانوا منافقين غافلين من المعصية بل غير عادين المعصية معصية وقد ذكر انه لم يبق يوم احد مع النبى (ص) الا ثلاثة عشر نفرا خمسة من المهاجرين وثمانية من الانصار وكان المهاجرون عليا وابا بكر وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن ابى وقاص وقد اختلف فى الجميع الا فى على وطلحة، وروى عن عمر بن الخطاب انه قال ورأيتنى اصعد فى الجبل اردى ولم يرجع عثمان من الهزيمة الا بعد ثلاث { ولقد عفا الله عنهم } لما تابوا واعتذروا كرر ذكر العفو تطميعا وترغيبا للمذنبين فى العفو ومنعا لهم عن اليأس وتحسينا لظنون المؤمنين { إن الله غفور } يغفر لمن يعترف ويندم { حليم } لا يعاجل بالمؤاخذة انتظارا للتوبة واتماما للحجة.
[3.156]
{ يأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا } كفر نفاق او مطلقا { وقالوا لإخوانهم } اى لاجل اخوانهم وفى حقهم ومعنى اخوتهم مناسبتهم لهم فى النفاق وضعف الاعتقاد او الكفر { إذا ضربوا } اى الاخوان { في الأرض } سافروا للتجارة وغيرها ولم يقل اذ ضربوا بلفظ اذ التى هى للماضى لتصوير الماضى حالا حاضرا { أو كانوا غزى } غازين { لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم } متعلق بقالوا { والله يحيي } اى يحدث الحياة فى النطفة التى لا حياة لها ويبقيها فى الحياة لا الاقامة فى البيوت { ويميت } لا السفر والغزا { والله بما تعملون بصير } ترغيب وترهيب.
[3.157]
{ ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم } فى سبيله { لمغفرة } عظيمة { من الله ورحمة } عظيمة حاصلة لكم خير مما يجمعون } اى هؤلاء المنافقون او الكفار او سائر الناس من حطام الدنيا واعراضها فى الحياة الدنيا.
[3.158]
{ ولئن متم أو قتلتم لإلى الله } الذى هو مولاكم وولى امركم وحبيب قلوبكم ومنتهى طلبتكم { تحشرون } فما لكم تكرهون الموت او القتل، وقدم القتل فى الآية الاولى للاهتمام به فى ترتب الجزاء بخلاف الآية الثانية فان ترتب الجزاء فيها لا خصوصية للقتل فيه والموت هو الفرد الشائع من الشرط فالاهتمام بتقديمه اكثر.
[3.159]
{ فبما رحمة من الله } الفاء للترتيب فى الاخبار والباء سببية وما زائدة للتأكيد وتنكير الرحمة للتفخيم { لنت لهم } يعنى برحمة عظيمة نازلة من الله عليك لنت لهم فكن شاكرا لنعمه { ولو كنت فظا } سيء الخلق خشن الكلام { غليظ القلب } لا رقة ولا رأفة فيه { لانفضوا } لتفرقوا { من حولك } ولم يسكنو اليك { فاعف عنهم } يعنى اذا علمت ان لين الجانب ولين الكلام رحمة ونعمة من الله، وان سوء الخلق وقساوة القلب بالنسبة اليهم مورث لتفرقهم فاجتهد فى المداراة معهم واعف عن اساءتهم بالنسبة اليك { واستغفر لهم } ما بينى وبينهم حتى يرغبوا فيك اشد رغبة ويسكنوا اشد سكون { وشاورهم في الأمر } اى فى الحرب مخصوصا او فى كل ما يصح المشاورة فيه تطييبا لنفوسهم وتحبيبا لهم اليك واستظهارا برأيهم وتسنينا لسنة المشاورة فى امتك لان فى المشاورة رفعا للملامة والندامة فى العمل وجلبا للبركة فيه لان فى اتفاق النفوس اثرا ليس فى انفرادها بالامر بل نقول: ان لم يكن فى الامر الذى يشاور فيه ويتفق نفوس عليه خير يجعل الله فيه خيرا لا محالة فلا ينبغى ترك المشاورة فى الامور { فإذا عزمت } بعد المشاورة والاتفاق على امر { ف } لا تعتمد على الشورى واتفاق الآراء فان الصلاح والفساد فى الامور بيد الله { توكل على الله } فاعتمد على الله بأخذه وكيلا فى امورك واصلاحها { إن الله يحب المتوكلين } ولا شرف فوق محبة الله؛ ترغيب فى التوكل.
اعلم ان التوكل والتسليم والتفويض متقاربة المفهوم ويستعمل كل فى معنى الآخرين والفرق بينهما فى غاية الدقة لان التوكل اخذ الله وكيلا فى امورك، والتسليم عرض امورك عليه، والتفويض الخروج من نسبة الامور بل من نسبة الانانية الى نفسك، ففى التسليم تبجيل ليس فى التوكيل، وفى التفويض تبجيل لا يدع للمفوض التفاتا الى التبجيل ايضا.
[3.160]
{ إن ينصركم الله } جواب لسؤال مقدر { فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده } اى بعد خذلانه { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } تخلل الفاء بين العامل والمعمول مع صدارتهما اما بتقدير اما او بتوهمه، او لفظة الفاء فى امثاله زائدة، او العامل محذوف بقرينة المذكور.
[3.161]
{ وما كان لنبي أن يغل } تخلل كان لتأكيد النفى والمعنى ما وجد لاحد من الانبياء الغلول لمنافاة النبوة والخيانة وقرئ يغل بصيغة المعلوم من الثلاثى وبصيغة المجهول اما من باب الافعال بمعنى ما ينبغى لاحد من الانبياء ان ينسب الى الخيانة من أغله نسبه الى الخيانة، او بمعنى ان يخان معه من أغله بمعنى غله، او من الثلاثى، والجملة اما مقطوعة عن سابقتها على ما ورد انها نزلت فى قطيفة حمراء فقدت يوم بدر من المغنم فقال بعضهم: لعل النبى (ص) اخذها، ونسب الى الصادق (ع) ان رضا الناس لا بملك والسنتهم لا تضبط الم ينسبوا يوم بدر الى رسول الله (ص) انه اخذ لنفسه من المغنم قطيفة حمراء حتى اظهره الله على القطيفة وبرء نبيه من الخيانة، وانزل فى كتابه وما كان لنبى ان يغل (الآية) او على ما نقل ان رجلا غل بابرة عظيمة من غنائم هوازن يوم حنين فنزلت الآية، واما موصولة على ما قيل: ان الآية نزلت فى غنائم احد حيث ظن اصحاب عبد الله بن جبير ان الرسول (ص) يقسم الغنيمة فى الغانمين ولم يقسم لهم وظنوا انه يقول: من اخذ شيئا فهو له، او على ما قيل: انه قسم المغنم ولم يقسم للطلائع فنزلت تنبيها للرسول (ص) على التسوية فى المغنم، وسمى ترك القسمة للطلائع غلولا وعليهما فالآية معطوفة على ما قبلها { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } الباء للتعدية او للمصاحبة والمعنى انه يأتى به بحيث يعرف الناس انه غله ليفضح على رؤس الاشهاد، نسب الى الباقر (ع) انه قال: من غل شيئا رآه يوم القيامة فى النار ثم يكلف ان يدخل اليه فيخرجه من النار، ونقل عن النبى (ص) انه قال:
" الا لا يغلن احد بعيرا فيأتى به على ظهره يوم القيامة، الا لا يغلن احد فرسا فيأتى به على ظهره يوم القيامة فيقول: يا محمد (ص) يا محمد (ص) فاقول: قد بلغت قد بلغت لا املك لك من الله شيئا "
، ولا اختصاص للغلول بالخيانة فى الاموال بل كل معصية من كل عاص نحو غلول مع نفسه او مع الله { ثم توفى كل نفس } يعنى بعد ما اتى من غل بما غله وجمعوا فى القيامة توفى كل نفس مطيعة وعاصية { ما كسبت } بعينه على تجسم الاعمال كما سبق تحقيقه فى سورة البقرة عند قوله:
أولئك لهم نصيب مما كسبوا
[البقرة:202] او جزاء ما كسبت { وهم لا يظلمون } بنقص ثواب او زيادة عقاب ثم بعد ما عمم حكم الغلول لكل من غل وبين حكم كل نفس من المطيعة والعاصية عطف عليه انكار التسوية بين المطيعة والعاصية ليكون ابلغ فى الزجر عن المعصية والترغيب فى الطاعة فقال تعالى { أفمن اتبع رضوان الله }.
[3.162]
{ أفمن اتبع رضوان الله } الرضوان بكسر الراء وضمها والرضى مقصورا بالكسر والضم مصدرا رضى عنه وعليه والرضاء بكسر الراء ممدودا مصدر راضاه، واتباع رضوان الله لا يكون الا باتباع امر الله ونهيه بالفعل والترك، ولا يكون الا باتباع الرسول (ص) فى امره ونهيه { كمن بآء } رجع الى الله { بسخط من الله } بترك ما أمر به وفعل ما نهى عنه { ومأواه جهنم وبئس المصير } جهنم.
الفرق بين المصير والمرجع ان المصير ما ينتهى اليه مع تغير عما هو عليه والمرجع مطلق عن ذلك ولما كان المتحقق برضوان الله عليا (ع) والمتحقق بسخط الله كل من خالفه صح تفسير التابع لرضوان الله بالتابع لعلى (ع) والبائى بسخط الله بمن اتبع مخالفه.
[3.163]
تحقيق كون المؤمنين درجات وذوى درجات
{ هم درجات } اى التابعون رضوان الله والبائون بسخط الله درجات { عند الله } وان كانوا يرون متساوين عند الناس، ولما كان عالم الارواح الطيبة عالما وسيعا ذا مراتب ودرجات وكذلك عالم الارواح الخبيثة الذى فيه الجحيم وآلامها، وكل من اتصل بواحد من هذين العالمين تحقق بمرتبة منه وليس المتصلون بعالم الارواح الطيبة متساوين فى المرتبة والدرجة ولا المتصلون بعالم الارواح الخبيثة بل لكل واحد مرتبة ودرجة ليست لغيره ممن لم يكن بشأنه، نعم، اذا كان جماعة متوافقين فى الطاعة والسلوك او فى المخالفة والمعصية من جميع الجهات كانوا متوافقين فى المرتبة والدرجة وكل من اتصل بدرجة من درجات الجنان او بدركة من دركات النيران كان متصلا بالدرجات السابقة او الدركات السابقة، وكل من اتصل بدرجة صار متحققا بتلك الدرجة فصح ان يقال: ان المؤمنين بحسب عدد اشخاصهم درجات يعنى كل منهم درجة من الجنان، وان يقال: كل واحد منهم بحسب سعة وجوده درجات من الجنان، وان المعذبين بحسب عدد اشخاصهم دركات، وكل واحد منهم بحسب وجوده دركات من النيران فلا حاجة فى الآية الى بعض التقديرات والتأويلات، روى عن الصادق (ع) ان الذين اتبعوا رضوان الله هم الائمة عليهم السلام وهم والله درجات عند الله للمؤمنين وبولايتهم ومعرفتهم لنا يضاعف الله لهم اعمالهم ويرفع الله لهم الدرجات العلى، والذين باؤا بسخط من الله هم الذين جحدوا حق على (ع) وحق الائمة منا اهل البيت فباؤا لذلك بسخط من الله { والله بصير بما يعملون } فيعلم عمل كل ودرجته على حسب عمله فيجازيه على حسبها وهذا تهديد وترغيب.
[3.164]
{ لقد من الله } انعم الله { على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم } بشرا مثلهم ومن سنخهم { يتلوا عليهم آياته } او يقرأ عليهم آيات كتابه بعد ما كانوا جهالا لا يعرفون كتابا ولا شريعة { ويزكيهم } يطهرهم مما ينبغى للانسان ان يطهر عنه { ويعلمهم الكتاب والحكمة } قد مضى بيان التزكية وتعليم الكتاب والحكمة ووجه تأخير التعليم عن التزكية هاهنا وفى قوله { كما ارسلنا فيكم رسولا } الآية ووجه تقديمه على التزكية فى قوله
وابعث فيهم رسولا منهم
[البقرة: 129] الآية من سورة البقرة { وإن كانوا } اى انهم كانوا { من قبل لفي ضلال مبين } ظاهر واضح اظهار لمنه عليهم بنعمة وجود الرسول (ص) ليتنبهوا لها ويهتموا باتباع الرسول (ص) شكرا لنعمة وجوده.
[3.165]
{ أو لما أصابتكم } قد اختلف الاقوال عند اجتماع همزة الاستفهام واداة العطف وتقديم الهمزة على العاطف فقيل: انه على التقديم والتأخير وانما قدمت الهمزة لقوة صدارته، وقيل: ان الهمزة فى التقدير داخلة على محذوف حذف واتصل الهمزة بالعاطف والتقدير هاهنا انكرتم البلية التى وردت عليكم بتقصيركم فى أعمالكم ولما اصابتكم { مصيبة } يوم احد بقتل سبعين رجلا منكم { قد أصبتم مثليها } فى بدر بقتل سبعين واسر سبعين { قلتم أنى هذا } من اين او كيف هذا { قل هو من عند أنفسكم } باختياركم الفدى عن الاسارى يوم بدر وقد اخبركم الرسول (ص) ان الحكم فيهم القتل
ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض
[الأنفال: 67] فأصررتم فى الفداء دون القتل حتى اباح الله لكم الفداء بشرط ان يقتل منكم فى العام القابل بعدد من تأخذون منه الفداء فقبلتم ذلك واخذتم الفداء عن الاسارى السبعين { إن الله على كل شيء قدير } لما توهم من نسبة المصيبة الى انفسهم انها خارجة من قدرة الله وصار المقام مقام ان يسأل هل كان المصيبة بقدرة الله ام كانت خارجة من قدرته فقال: { ان الله على كل شيء قدير } فيقدر على اصابتكم واصابة عدوكم وقد يخذلكم لمصالح راجعة الى استكمال نفوسكم.
[3.166-167]
{ ومآ أصابكم يوم التقى الجمعان } يعنى يوم احد من الهزيمة والقتل والجرح { ف } كان { بإذن الله } باباحته التكوينية وترخيصه ليمتحنكم { وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا } ليتميز الفريقان بظهور ايمان هؤلاء ونفاق اولئك فيظهر علمه بهما او ليعلم النبى الذى هو مظهره فان علمه علم الله ولم يقل ليعلم المنافقين للاشعار بان نفاق المنافقين حدث عند قتال احد ولم يكن ثابتا وليناسب المعطوف فى قوله تعالى { وقيل لهم } عطف على نافقوا وداخل فى الصلة { تعالوا قاتلوا } بدل عن تعالوا نحو بدل الاشتمال { في سبيل الله } من دون نظر الى انفسكم وحفظكم انفسكم وعيالكم { أو ادفعوا } عن انفسكم وعيالكم واموالكم من دون نظر الى امر الله وسبيله { قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم } يعنى لو كنا نعلم ان ما انتم فيه قتال لاتبعناكم وليس بقتال فان القتال ما كان فيه احتمال الغلبة ولو فى بعض الاحيان وليس الامر كذلك لانه ليس فيه الا المغلوبية والهلكة، او لفظة لو ليست للنفى فى الماضى انما هو للشرط فى المستقبل يعنى اذا علمنا بالمقاتلة لاتبعناكم فيها وانما قالوه استهزاء بهم او دفعا لهم فى الحال الحاضر وقصدا لعدم الانكار صريحا { هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان } جواب لسؤال مقدر او حال والمعنى انهم كانوا على الاسلام لكنهم بظهور نفاقهم كأنهم وقعوا بين الكفر والايمان وصاروا اقرب الى الكفر { يقولون بأفواههم } يعنى لا بالكتابة ولا بالاشارة ولا بالسيرة والاحوال، او يقولون بافواههم لا بقلوبهم، او يقولون بأفواه انفسهم لا بأفواه غيرهم { ما ليس في قلوبهم } من قولهم { لو نعلم قتالا لاتبعناكم } اى وقت اطلاعنا على القتال وافقناكم وليس هذا مطابقا لاعتقادهم، او من اظهار نبوة النبى (ص) وليس فى قلوبهم ذلك الاعتقاد { والله أعلم بما يكتمون } من الاعتماد على الاسباب وعدم الاعتقاد بالله وبنبوة النبى (ص)، نسب الى الصادق (ع) انه قال فى مقام تثريب بعض من ضعفاء الاعتقاد ومن ضعف يقينه تعلق بالاسباب ورخص لنفسه بذلك واتبع العادات واقاويل الناس بغير حقيقة والسعى فى امور الدنيا وجمعها وامساكها، يقر باللسان انه لا مانع ولا معطى الا الله وان العبد لا يصيب الا ما رزق وقسم له، والجهد لا يزيد فى الرزق وينكر ذلك بفعله وقلبه قال الله تعالى: { يقولون بافواههم ما ليس فى قلوبهم والله أعلم بما يكتمون }.
[3.168]
{ الذين قالوا لإخوانهم } اى فى حقهم والجملة مستأنفة جواب لسؤال مقدر محذوفة المبتدأ، او محذوفة الخبر اى هم الذين قالوا، او الذين قالوا هؤلاء المنافقون، او مفعول لفعل محذوف على الذم، او بدل من فاعل يكتمون، او ضمير قلوبهم، او خبر بعد خبر للضمير فى قوله: { هم للكفر } ، او صفة للذين نافقوا { وقعدوا } عطف على قالوا او حال بتقدير قد { لو أطاعونا } فى القعود وعدم الخروج من المدينة { ما قتلوا } وقد كان ديدن النساء والرجال الذين هم كالنساء فى ضعف الاعتقاد والتوسل بالاسباب ان يكرروا بعد وقوع قضية اسباب عدم وقوعها ويؤدونه بلو كان كذا لما كان كذا ويكون ذلك اشد فى تحسرهم { قل } لهم { فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين } ان تدبيركم ابقاكم وان اخوانكم لما خرجوا من تدبيركم وقولكم هلكوا.
[3.169]
{ ولا تحسبن } عطف على (قل) او على { فادرأوا } ، او الخطاب لمحمد (ص) او لكل من يتأتى منه الخطاب، وقرئ بالياء على اسناده الى الرسول (ص) او الى من يتأتى منه الحسبان، او الى الظاهر بعده اى لا يحسبن { الذين قتلوا في سبيل الله } انفسهم { أمواتا } بحذف المفعول الاول وهذا رد على المنافقين حيث قالوا: { لو كانوا عندنا ما ماتوا } { ولو اطاعونا ما قتلوا } { بل } هم { أحياء } حياة اتم واكمل واشرف واعلى من هذه الحياة الدانية { عند ربهم يرزقون } بالرزق المناسب لمقامهم عند الرب.
[3.170]
{ فرحين بمآ آتاهم الله من فضله } فضل الله يطلق على نعمه التى يفيضها على عباده من جهة كثراتهم مثل احكام الرسالة والنعم التى يجازى الله العباد بها بسبب قبول احكام الرسالة والعمل بها كما ان الرحمة تطلق على النعم التى يفيضها على العباد من جهة وحدتهم مثل الولاية وآثارها والمجازاة بها { ويستبشرون } يفرحون او يطلبون الفرح او يبشرون انفسهم او غيرهم { بالذين لم يلحقوا بهم } بحسب الزمان كالمؤمنين الذين لم يقتلوا ولم يموتوا او بحسب الرتبة كالمؤمنين الذين لم يلحقوا برتبتهم ودرجتهم { من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون } قد مضى وجه الاختلاف بين القرينتين فى اول البقرة.
[3.171]
{ يستبشرون بنعمة من الله } النعمة كالرحمة الولاية وكلما صدر منه او انتهى اليها { وفضل } منه قد مضى ان الفضل الرسالة وقبول احكامها والمجازاة بها ولذلك فسر النعمة بعلى (ع) والفضل بمحمد (ص) والتنكير فيهما للتفخيم { وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين } قرئ بفتح الهمزة للعطف على نعمة وقرئ بكسر الهمزة للعطف على يستبشرون او لكونها حالا.
[3.172]
{ الذين استجابوا لله والرسول من بعد مآ أصابهم القرح } صفة للمؤمنين او خبر مبتدء محذوف، او مفعول فعل محذوف للمدح، او مبتدء خبره جملة { للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم } والجملة مستأنفة جواب لسؤال مقدر، روى ان الرسول (ص) لما دخل المدينة من وقعة احد نزل عليه جبرئيل وقال: يا محمد (ص) ان الله يأمرك ان تخرج فى اثر القوم ولا يخرج معك الا من به جراحة فأمر رسول الله (ص) مناديا ينادى يا معشر المهاجرين والانصار من كانت به جراحة فليخرج ومن لم يكن به جراحة فليقم فأقبلوا يضمدون جراحاتهم ويداوونها فخرجوا على ما بهم من الالم والجراح فلما بلغ رسول الله (ص) حمراء الاسد وهو على ثمانية اميال من المدينة وقريش قد نزلت الروحاء قال عكرمة بن ابى جهل والحارث بن هشام وعمرو بن العاص وخالد بن وليد نرجع ونغير على المدينة قد قتلنا سراتهم وكبشهم يعنون حمزة فوافاهم رجل خرج من المدينة فسألوه الخبر فقال: تركت محمدا (ص) واصحابه بحمراء الاسد يطلبونكم جد الطلب فقال ابو سفيان: هذا النكد والبغى فقد ظفرنا بالقوم وبغينا والله ما افلح قوم قط بغوا فوافاهم نعيم بن مسعود الشجعى فقال ابو سفيان: اين تريد؟ - قال المدينة لامتار لاهلى طعاما، فقال: هل لك ان تمر بحمراء الاسد وتلقى اصحاب محمد (ص) وتعلمهم ان حلفاءنا وموالينا قد وافونا من الاحابيش حتى يرجعوا عنا ولك عندى عشرة قلائص املأها تمرا وزبيبا، قال: نعم؛ فوافى فى غد ذلك اليوم حمراء الاسد فقال لاصحاب رسول الله (ص) اين تريدون؟ - قالوا: قريشا قال: ارجعوا ان قريشا قد اجتمعت اليهم حلفاؤهم ومن كان تخلف عنهم وما اظن الا اوائل خيلهم يطلعون عليكم الساعة فقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل ما نبالى، فنزل جبرئيل على رسول الله (ص) فقال: ارجع يا محمد (ص) فان الله قد ارعب قريشا ومروا لا يلوون على شيء، فرجع رسول الله (ص) وانزل الله: { الذين استجابوا }؛ الآية، وقيل: نزلت الآية فى بدر الصغرى وذلك ان ابا سفيان حين اراد ان ينصرف من احد قال: يا محمد (ص) موعدنا موسم بدر الصغرى من قابل، فلما كان العام المقبل خرج ابو سفيان فى اهل مكة فالقى الله عليه الرعب فبدا له فلقى نعيم بن مسعود الاشجعى فقال له ابو سفيان: انى واعدت محمدا (ص) ان نلتقى بموسم بدر وان هذه عام جدب وبدا لى ان لا اخرج اليه واكره ان يزيدهم ذلك جرأة فالحق بالمدينة فثبطهم ولك عندى عشرة من الابل اضعها على يد سهيل بن عمرو، فأتى نعيم المدينة فوجد الناس يتجهزون فثبط وأرعب أصحاب الرسول فقال رسول الله (ص) والذى نفسى بيده لاخرجن ولو وحدى فانحرف الجبان وتأهب الشجاع وقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فخرج رسول الله (ص) فى أصحابه حتى وافوا بدرا الصغرى وكانت موضع سوق لهم فى الجاهلية يجتمعون اليها فى كل عام ثمانية ايام فاقام ينتظر ابا سفيان وقد انصرف ابو سفيان فسماهم اهل مكة جيش السويق وقالوا: خرجتم تشربون السويق، ووافق رسول الله (ص) السوق وكانت لهم تجارات فباعوا واصابوا للدرهم درهمين وانصرفوا الى المدينة سالمين غانمين.
[3.173-174]
{ الذين قال لهم الناس } صفة الذين استجابوا، او صفة الذين احسنوا منهم، او مبتدأ خبره فزادهم ايمانا ودخول الفاء فى الخبر لكون المبتدأ متضمنا معنى الشرط، او خبره فانقلبوا بنعمة من الله، او خبر مبتدء محذوف، او مبتدأ خبر محذوف، او مفعول فعل محذوف للمدح والمراد بالناس نعيم بن مسعود على ما نقل من حكايته او ركب من عبد القيس على ما قيل انه لقى ابا سفيان بعد ما علم بخروج محمد (ص) من المدينة على اثرهم ركب من عبد القيس فقال: اين تريدون؟ - فقالوا: نريد المدينة فقال: هل انتم مبلغون محمدا (ص) رسالتى واحمل لكم ابلكم هذه زبيبا بعكاظ غدا اذا وافيتمونا؟ - قالوا: نعم، قال: فاذ اجئتموه فأخبروه انا قد اجمعنا للكرة عليه وعلى اصحابه لنستأصل بقيتهم، او المراد بالناس منافقوا اصحاب الرسول (ص) { إن الناس } يعنى ابا سفيان واصحابه { قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا } لان المتوسل بالله بعد الاتصال بخلفائه بسبب الايمان اذا دهمته بلية يزداد اتصاله الايمانى ويتقوى توسله وايمانه { وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا } من حمراء الاسد او من بدر الصغرى { بنعمة من الله } اى مع نعمة من الله وهى عافيتهم من القتال وسلامتهم من اثر الجراح الذى كان بهم وقوة من القلب والايمان { وفضل } الشرف والصيت وارعاب قلوب الاعداء او بنعمة هى ما أصابوا من التجارات ببدر { وفضل } هو الربح الذى اصابوه من ضعفى ما كان لهم او بنعمة هو على (ع) { وفضل } هو محمد (ص) { لم يمسسهم سوء } لا من عدوهم ولا من جراحاتهم { واتبعوا رضوان الله } حيث امتثلوا امره مع ما بهم من الجراح { والله ذو فضل عظيم } فيتفضل عليهم فى الآخرة بما لا حد له وما لا عين رأت وفيه تحسير للمتخلفين وتخطئة لهم وترغيب فى الجهاد.
[3.175]
{ إنما ذلكم الشيطان } الشيطان خبر ذلكم او صفته والخبر { يخوف أولياءه } والمراد بالمشار اليه نعيم بن مسعود المثبط او ابو سفيان او المثبط من ركب عبد القيس واولياءه مفعول اول او مفعول ثان { فلا تخافوهم } اى الشيطان ومن معه او اولياء الشيطان { وخافون } فان الضرر من كل ضار لا يصل الى احد الا باذنى { إن كنتم مؤمنين } فان شأن الايمان والاعتقاد بتوحيد الله ان لا يرجو المؤمن ولا يخاف الا الله.
[3.176]
{ ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } فى الذهاب الى الكفر لخوفك ان يضروك او يضروا المؤمنين بتقوية الكافرين او مقاتلة المؤمنين والمراد بهم المنافقون المتخلفون عن الجهاد { إنهم لن يضروا الله } فى مقام التعليل والمعنى لن يضروا اولياء الله ومظاهره فى الارض { شيئا } من الضرر على ان يكون شيئا قائما مقام المصدر ويجوز ان يكون بدلا من الله نحو بدل الاشتمال بتقدير لن يضروا الله شيئا منه، ويجوز ان يكون منصوبا بنزع الخافض اى بشيء من الله { يريد الله } جواب لسؤال مقدر او حال { ألا يجعل لهم حظا في الآخرة } وفيه تسلية للرسول (ص) ودلالة على ان تسرعهم الى الكفر انما هو بارادة الله وان لم يكن برضاه { ولهم عذاب عظيم } فى الدنيا والآخرة فان التعبير بالجملة الاسمية الدالة على الاستمرار الثبوتى يدل على كونه ثابتا لهم من حين التكلم.
[3.177-178]
{ إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان } تأكيد للاول او تعليل له وتعميم للحكم لجميع الكفار بعد تخصيصه بالقاعدين المنافقين { لن يضروا الله شيئا ولهم عذاب أليم ولا يحسبن الذين كفروا } قرئ { تحسبن } بالخطاب وبالغيبة { أنما نملي } ان الذى نملى او ان الاملاء { لهم خير لأنفسهم } لهم متعلق بنملى وانما نملى مفعول ثان ليحسبن او بدل من المفعول الاول مغن عن المفعول الثانى وعلى كون الذين كفروا فاعلا فهو قائم مقام المفعولين والاملاء الامهال او اطاعة العمر { إنما نملي لهم ليزدادوا إثما } جواب لسؤال مقدر وما كافة او مصدرية او موصولة { ولهم عذاب مهين } فى الدنيا والآخرة من حين التكلم ولما كان المقام مقام السخط والغضب ناسبه البسط والتغليظ والتكرير ولذلك كرر نفى الضرر وثبوت العذاب باوصاف مختلفة واتى فى الاول بوصف العظيم للعذاب للاشعار بان عذاب المنافق اشد واعظم من عذاب سائر الكفار.
[3.179]
{ ما كان الله ليذر المؤمنين على مآ أنتم عليه } اى على الحال التى انتم عليها من اختلاط المخلص بالمنافق والمحقق بالمنتحل بل كان شيمته القديمة الابتلاء والامتحان بالتكاليف المخالفة للأهواء { حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله } كأنه قيل: ان اطلعنا الله على ما فى القلوب من الاخلاص والنفاق اجتنبنا عن المنافق فقال: وما كان الله { ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشآء } من بيانية والظرف حال من { من يشاء } يعنى ان الله يختار { من يشاء } حال كونه عبارة من رسله للاطلاع على المغيبات عنكم بارائتها لهم او اخبارهم بها بتوسط الملائكة او بلا واسطة فلا تقولوا برأيكم فيما هو غيب عنكم من قولكم لو كان كذا لكان كذا، ومن نسبة الخير والشر الى العباد { فآمنوا } اذعنوا او اسلموا حقيقة كما اسلمتم ظاهرا، او آمنوا بالايمان الخاص والبيعة الخاصة وقبول الدعوة الباطنة { بالله ورسله } اى خلفائه من الرسل واوصيائهم { وإن تؤمنوا } تذعنوا او تسلموا بالبيعة العامة او تؤمنوا بالبيعة الخاصة { وتتقوا } سخط الله باتباع خلفائه فيما أمروا به ونهوا عنه؛ او تتقوا الانحراف عن الطريق بالبيعة الخاصة، او تتقوا الخروج عن الطريق بعد البيعة الخاصة والدخول فيه { فلكم أجر عظيم } لما كان عظم الاجر خاصا بمن قبل ولاية على (ع) بالبيعة الخاصة وقبول الدعوة الباطنة فالشرط لا بد وان يفسر بما يشمل الايمان الخاص.
[3.180]
{ ولا يحسبن الذين يبخلون } قرئ بالغيبة فالفاعل ضمير راجع الى الرسول او الى من يتأتى منه الحسبان والمفعول الاول الذين يبخلون بتقدير مضاف ليطابق المفعول الثانى او الفاعل الذين يبخلون والمفعول الاول محذوف وقرئ بالخطاب خطابا للرسول (ص) او لكل من يتأتى منه الخطاب والذين يبخلون مفعوله الاول بتقدير مضاف اى لا تحسبن بخل الذين يبخلون { بمآ آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم } لان البخل يستجلب العقاب عليهم وليس الامساك يبقى المال ولا الانفاق يفنيه { سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة } عن الصادقين (ع): ما من احد يمنع زكاة ماله شيئا الا جعل الله ذلك يوم القيامة ثعبانا من نار مطوقا فى عنقه ينهش من لحمه حتى يفرغ من الحساب وهو قول الله تعالى: { سيطوقون ما بخلوا }: وعن الصادق (ع) عن رسول الله (ص): ما من ذى زكاة مال نخل او زرع او كرم يمنع زكاة ماله الا قلده الله تعالى تربة ارضه يطوق بها من سبع ارضين الى يوم القيامة، اعلم ان البخل لا يكون الا لتعلق القلب بما يبخل البخيل به وكلما تعلق القلب به يكون بملكوته حاضرا فى القلب وثابتا فيه وكلما كان ثابتا فى القلب يتمثل عند القلب يوم تبلى السرائر، وبتفاوت التعلق يكون حضوره متفاوتا بنحو الطوق او بنحو اللباس مشتملا على جميع البدن، او بنحو البيت وغير ذلك من انواع الحضور سواء كان ذلك الذى يبخل به من الاموال او القوى والابدان، او العلوم النفسانية التى بخلوا بها ولم يظهروها لاهلها مثل اليهود والنصارى بخلوا بما علموا من اوصاف محمد (ص) وعلى (ع) التى كانت فى كتبهم واخبار اسلافهم، ومثل المنافقين من الامة بخلوا بما علموا من حقية محمد (ص) ومن بعده بما علموا من حقية على (ع) فان من كتم علما ألجمه الله تعالى يوم القيامة بلجام من النار { ولله ميراث السماوات والأرض } يعنى له ما فى السماوات والارض واداه بلفظ الميراث للاشعار بان ما فيها يبقى من بعض ويرثه بعض آخر، وهكذا كان حاله وما كان حاله هكذا فلا ينبغى للعاقل ان يبخل به ولا يعطيه بيده وقال الله للاشارة الى ان الكل ملكه فلا ينبغى للعاقل ان يبخل بملك الغير ولا يعطيه بأمره او المعنى لله ميراث هى السماوات وما فيها والارض وما فيها من العالم الكبير والصغير يعنى يفنى الكل ويبقى الله الواحد القهار وارثا لها ولما فيها؛ فما بال متروك به المرء يبخل؟! { والله بما تعملون } من البخل والاعطاء { خبير } وعد ووعيد وقرئ بالخطاب بطريق الالتفات من الغيبة الى الخطاب.
[3.181]
{ لقد سمع الله } لما ذم البخل والمنع توهم ان الله يحتاج فى اصلاح حال الفقراء الى الاغنياء وكأنه قيل: هل له حاجة الى انفاق المنفق؟ - فقال تعالى ردا لهذا الوهم وسدا لهذا الخيال: لقد سمع الله { قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنيآء } قالت اليهود ذلك لما سمعوا:
من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا
[البقرة: 245] وقيل كتب النبى (ص) مع أبى بكر الى يهود بنى قينقاع يدعوهم الى الاسلام وما عليه المسلمون من اقام الصلاة وايتاء الزكاة وان يقرضوا الله قرضا حسنا، فدخل ابو بكر بيت مدارستهم فوجد ناسا كثيرا منهم اجتمعوا الى رجل منهم، فدعاهم الى الاسلام والصلاة والزكاة وان يقرضوا الله قرضا حسنا فقال ذلك الرجل: فان الله فقير والا لما استقرضنا اموالنا فلطمه ابو بكر ونزلت الآية { سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق } قرئ سنكتب بالتكلم وبالغيبة على صيغة المجهول وقتلهم بالنصب وبالرفع { ونقول } قرئ بالتكلم وبالغيبة { ذوقوا عذاب الحريق } وفيه تأكيد فى التهديد من حيث اقتران ما قالوه بقتل الانبياء (ع) وكتابته وضبطه بنفسه ثم ذكر الجزاء بالعذاب الحريق والاخبار باستهزائه بهم حين العذاب، والذوق ادراك المطعوم ثم اتسع فيه فاستعمل فى كل ادراك ملذ او مولم، وانما اختار الذوق الذى يكون فى المطعوم هاهنا لان العذاب مرتب على قولهم وهذا القول ناشئ عن البخل والتهالك على المال وغالب حاجة الانسان الى المال تكون لتحصيل المطاعم ولذلك كثر ذكر الاكل مع المال.
[3.182]
{ ذلك } العذاب { بما قدمت أيديكم } خصص الايدى بالذكر لان معظم الاعمال البدنية تصدر منها { وأن الله ليس بظلام للعبيد } الظلام كالتمار والخياط للنسبة وليس للمبالغة وهو معطوف على ما قدمت ايديكم وسببية نفى الظلم عنه تعالى للعذاب بواسطة ان نفى الظلم مستلزم للعدل والفضل والعدل يقتضى عقوبة المسيء كما يقتضى اثابة المحسن، او المقصود التنبيه على ان المسيء اذا صار متمكنا فى الاساءة صار فعليته الاخيرة هى قوته المسيئة المناسبة للجحيم وآلامها وتلك القوة كما تكون مناسبة للجحيم تكون منافية للنعيم، والانسانية فى هذا الانسان تكون مغلوبة خفية غير ظاهرة باقتضائها فلو لم يدخل هذا الانسان فى الجحيم لكان ظلما على قوته المقتضية لها وان كانت الجحيم عذابا لانسانيته لكن انسانيته مختفية غير مقتضية لشيء.
[3.183]
{ الذين قالوا } صفة للذين { قالوا ان الله فقير } او بدل منه ويجوز ان يكون مقطوعا مستأنفا للذم خبر مبتدأ محذوف، او مفعول فعل محذوف، او مبتدأ خبر محذوف { إن الله عهد إلينا } اى فى التوراة لان القائلين القول الاول كانوا من اليهود كما سلف او على لسان نبيه (ص) وخلفاء نبيه (ص) وخلفاء نبيه { ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار } يعنى عهد الينا ان لا نؤمن الا برسول يأتى بهذه المعجزة التى كانت لانبياء بنى اسرائيل وهى ان يقرب (ع) بقربان فيقوم النبى (ع) فيدعو فيأتى نار من السماء فتحيل القربان الى طبعها بالاحراق { قل } لهم { قد جآءكم } اى اسلافكم الذين كنتم اسناخا لهم { رسل من قبلي بالبينات } والمعجزات الكثيرة غير ما قلتم { وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين } فى هذه الدعوى.
[3.184]
{ فإن كذبوك } فلا تحزن فان المكذبية كانت سيرة الانبياء { فقد كذب رسل من قبلك جآءوا } صفة او حال بتقدير قد او مستأنف { بالبينات } المعجزات الواضحات او الموضحات التى هى من آثار الرسالة ومصدقاتها او الحجج الدالة على صدق رسالتهم او الاحكام القالبية الدالة على صدقهم { والزبر } الحكم والمواعظ التى هى آثار الولاية الدالات على حقيتهم وصدقهم { والكتاب المنير } احكام الرسالة التى تضيء قلوب العاملين بها وتنير صدق الرسل فى رسالتهم او التى تتضح فى أنفسها فان المنير من انار وهو لازم ومتعد والكتاب التدوينى صورة تلك الاحكام.
اعلم ان البينة من بان بمعنى ظهر واظهر لازم ومتعد تطلق على المعجزة لوضوح كونها من الله وايضاحها ما تدل عليه من صدق من أتى بها، وعلى احكام الرسالة لانها احكام القالب الظاهرة على كل ذى حس والمظهرة لصدق من أتى بها والمظهرة طريق من عمل بها، وعلى الحجج والبراهين الدالة على صدق الدعوى، وعلى الشاهد المظهر بنطقه صدق الدعوى، وعلى الحروف الملفوظة من اسماء الحروف، او على غير الحرف الاول من حروف اسماء الحروف مقابل الزبر المطلقة على الحروف المكتوبة منها، والزبر جمع الزبور بالفتح بمعنى الكتاب لكن المراد بها هاهنا الاحكام القلبية وآثار الولاية من المواعظ والنصائح والآثار التى تظهر للسالكين فى طريق الولاية فانها كلها التعبير عنها ليس الا بالكناية والاشارة كما ان الكتابة فى الحقيقة تعبير عما فى القلب بنحو اشارة والمراد بالكتاب هاهنا احكام الرسالة القالبية.
[3.185]
{ كل نفس ذآئقة الموت } جواب لسؤال مقدر وتسلية للرسول (ص) وللمؤمنين وتهديد للمكذبين كأنه قيل: فما لنا لا نرى الفرق بين المصدقين والمكذبين؟ - فقال تعالى: { كل نفس ذآئقة الموت } { وإنما توفون أجوركم } توفية الشيء اعطاءه بتمام اجزائه يعنى تعطون اجوركم بتمامها من دون نقيصة شيء منها { يوم القيامة } اى يوم قيامكم عند الله، او قيامكم من قبوركم واشار بمفهوم القيد الى انه يعطى شيء من الاجور قبل القيامة بعد الموت وفى الحياة الدنيا لان انموذج الاجر فى الاعمال التى لها اجر ان وقعت على ما قررها الشارع يكون مع العمل ويصل شيء من الاجر الى العامل بعد العمل فى الدنيا وفى القبر لكن تمام الاجر بحيث لا يشذ منه شيء يعطى يوم القيامة { فمن زحزح } اى بوعد { عن النار } تفصيل لاقسام الاجر واربابها { وأدخل الجنة فقد فاز } بالنجاة ونعيم الآخرة { وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور } جمع الغار او مصدر وهذا واقع موقع من ادخل النار وزحزح عن الجنة فقد هلك واكتفى بهذا للاشعار بان الغرور بالحياة الدنيا مادة دخول النار فكأنه قال: ومن اغتر بالحياة الدنيا ادخل النار، ومن ادخل النار فقد هلك، فى الحديث القدسى:
" فبعزتى حلفت وبجلالى اقسمت انه لا يتولى عليا (ع) عبد من عبادى الا زحزحته عن النار وأدخلته الجنة، ولا يبغضه احد من عبادى الا ابغضته ".
[3.186]
{ لتبلون } مستأنفة منقطعة عما قبلها، او جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: ما لنا يرد علينا البلايا فى أموالنا وأنفسنا؟ - فقال: أقسم بالله على سبيل التأكيد بالقسم ولامه ونون التأكيد لتبلون ولتمتحنن حتى يخرج ما ينافى الايمان من وجودكم ويخلص ايمانكم مما خالطه من الاغراض الفاسدة الشيطانية والاهوية الكاسدة النفسانية فأشار بلفظ لتبلون الى ان الابتلاء { في أموالكم وأنفسكم } لان يخلصكم مما لا ينبغى ان يكون خليط ايمانكم، والابتلاء فى الاموال بتكليف اخراج الحقوق منها او تكليف قضاء الحوائج وحفظ النفوس والحقوق وصلة الارحام بها، او باتلافها بآفات ارضية وسماوية، والابتلاء فى النفوس بتكليف الجهاد والحج وسائر العبادات، او بالآفات البدنية والنفسية { ولتسمعن } ذكر للخاص بعد العام للاهتمام به فان سماع الاذى ابتلاء فى الانفس { من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } اليهود والنصارى { ومن الذين أشركوا أذى كثيرا } اى قولا فيه اذى كثير لكم كهجاء الرسول (ص) والطعن فى دينكم ولمز المؤمنين والتخويف بالقتل والاسر والنهب والشماتة بكم وغير ذلك، وهذا اخبار على سبيل التأكيد حتى يوطنوا انفسهم عليه فلا يضطربوا فى دينهم ولا فى انفسهم حين ورودها عليهم { وإن تصبروا } ولا تضطربوا فى الدين ولا تخرجوا بالجزع عن الثبات فى الدين ولا تتبادروا الى المكافاة بالالسن او الايدى { وتتقوا } عن المكافاة بالاساءة اليهم وعما يخالف رضى الله تتمكنوا فى دينكم وتتفضلوا بصفة العزيمة والثبات { فإن ذلك } الصبر والتقوى { من عزم الأمور } مما يعزم عليه من الامور اى مما ينبغى ان يعزم ويوطن النفوس عليه.
[3.187]
{ و } اذكروا يا امة محمد (ص) { إذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب } حتى تكونوا على ذكر منه فلا تصيروا مثلهم بان تتركوا الميثاق الذى يأخذه محمد (ص) عليكم بولاية على (ع) وبان تبينوا ولايته لمن غاب عنكم بقوله (ص):
" الا فليبلغ الشاهد الغائب منكم فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه الى من هو افقه منه "
؛ فهو تعريض بالامة وعطف باعتبار المعنى كأنه قال: { ولتسمعن من الذين اوتوا الكتاب اذى كثيرا } فكونوا ذاكرين له واذكروا اذ اخذ الله ميثاق الذين اوتوا الكتاب على ايدى انبيائهم وخلفاء انبيائهم { لتبيننه } اللام لام جواب القسم لأن اخذ الميثاق قائم مقام القسم، والهاء راجع الى الكتاب او الى الميثاق، وفى اخبارنا انه راجع الى محمد (ص) وان التقدير اذ اخذ الله ميثاق اهل الكتاب فى محمد (ص) لتبينن محمد (ص) اذا خرج { للناس ولا تكتمونه } وقرئ الكلمتان بالغيبة وقراءة الخطاب على حكاية حال التخاطب { فنبذوه } اى الكتاب او الميثاق او تبيين محمد (ص) { ورآء ظهورهم } فلم يراعوه وهذه الكلمة صارت مثلا فى العرب والعجم لترك الاعتداء بالمنبوذ { واشتروا به ثمنا قليلا } من اعراض الدنيا واغراضها وهذا من قبيل الاضراب من الادنى الى الابلغ فى الذم فكأنه قال: بل لم يكتفوا بالنبذ وجعلوه آلة التوسل الى حطام الدنيا { فبئس ما يشترون } فى نفسه فان حطام الدنيا لو لم يكن وسيلة الى الآخرة كان مذموما ومن حيث الاشتراء والاستبدال حيث استبدلوا بالنفيس المقصود الخسيس الغير المقصود.
[3.188]
{ لا تحسبن } جواب لسؤال ناشئ من سابقه كأنه قيل: ما حال هؤلاء؟ - فقال: لا تحسبنهم بمفازة من العذاب وانما وضع الظاهر موضع المضمر للاشارة الى ذم آخر لم { الذين يفرحون بمآ أتوا } اى عملوا كانوا يعجبون بأعمالهم الفاسدة مثل اهل هذا الزمان ويباهون بافعالهم الكاسدة وكان الضعفاء يحسبون انهم على شيء ويحمدونهم على ما قالوه من افعالهم فردع الله الضعفاء عن ذلك لحسبان واثبت لهم العذاب بأعمالهم واعجابهم وذلك لان الاعمال ان كانت من قبيل العبادات فان نقصت من انانية العامل شيئا صارت عبادة، وان لم تنقص منها او زادتها كانت وبالا وعصيانا، وان كانت من قبيل المباحات؛ فان لم تزد فى الانانية بقيت على اباحتها، وان زادتها لم تبق على اباحتها بل صارت وبالا، وان كانت من قبيل المرجوحات مكروهة كانت او محرمة؛ كانت بذاتها وبالا وعصيانا، والاعجاب بالعمل ليس الا من زيادة الانانية ورؤية النفس وعملها، فالمعجب بالعمل يجب عليه الاستغفار من ذلك العمل لا الافتخار والفرح به من حيث انه عمل عملا جره الى النار وان كان بصورة العبادة { ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا } من الطاعات والافعال المرضية { فلا تحسبنهم } تأكيد لزيادة الردع عن هذا الحسبان وقرئ { لا تحسبن } بخطاب المفرد فى كليهما على ان يكون الخطاب لمحمد (ص) او لكل من يتأتى منه الخطاب وقرئ بخطاب الجمع فى كليهما على ان يكون الخطاب له وللمؤمنين وحينئذ يكون المفعول الاول الذين يفرحون والمفعول الثانى قوله تعالى { بمفازة من العذاب } وقوله { فلا تحسبنهم } تأكيد للاول وقرئ بالغيبة فى كليهما مع الافراد فى الاول والجمع فى الثانى على ان يكون الذين يفرحون فاعلا للاول وضمير الجمع فاعلا للثانى { ولهم عذاب } جملة حالية بلحاظ النفى لا المنفى والمعنى لا تحسبنهم فى منجاة او ناجين من العذاب حال كونهم لهم عذاب { أليم } باعجابهم بأعمالهم الفاسدة المردودة وان كانت بصورة العبادات.
[3.189]
{ ولله ملك السماوات } اى سماوات الارواح { والأرض } اى ارض الاشباح النورانية والظلمانية فان كلما كان فيه جهة الفاعلية اظهر وجهة القبول اخفى كان باسم السماء اجدر، وما كان بالعكس فباسم الارض احرى، والجملة اما حال عن فاعل اشتروا به ثمنا قليلا او عطف عليه، وجملة لا تحسبن الذين يفرحون (الى آخرها) معترضة والمعنى انهم انحرفوا عن الله واشتروا بميثاقه ثمنا قليلا من اعراض الدنيا والحال ان لله ملك السماوات والارض فمن انحرف عنه لطلب ما فى ملكه كان مخطئا فى طلبه لانه من كان يريد حرث الدنيا فعند الله حرث الدنيا والآخرة { والله على كل شيء قدير } فيقدر على اعطاء ما يشترون بالميثاق من دون الاشتراء ويقدر على اتلاف ما يشترون بميثاقه.
[3.190]
{ إن في خلق السماوات والأرض } استئناف جواب لسؤال مقدر للتعليل على مالكيته وعموم قدرته لان فيهما وفى تنضيدهما وتعانقهما وتعاشقهما واختلاف حركات السماوات واوضاع كواكبها واختلاف اوضاعها وظهور الآثار المختلفة منها فى الارض { واختلاف الليل والنهار } بتعاقبهما وتخالفهما بالزيادة والنقيصة وبالآثار المترتبة عليهما من اختلاف فصول الارض وتوليد المركبات التامة والناقصة { لآيات } دالة على علمه تعالى وحكمته وعموم قدرته ومالكيته وكمال عنايته بخلقه { لأولي الألباب } وهم الذين بايعوا البيعة الخاصة الولوية وقبلوا الدعوة الباطنة واقروا بولاية على (ع) فان غيرهم وان بلغ ما بلغ فى العلم والزهد والتقوى والعبادة بحيث لو عبد الله سبعين خريفا قائما ليله صائما نهاره لم تكن منه مقبولة ولأكبه الله على منخريه فى النار لانه لم يكن له لب ولا لعلمه مقدار، واولوا الالباب هم الذين يستدلون بدقائق الصنع على دقائق الحكمة الدالة على عموم القدرة وعموم المالكية لله.
[3.191]
{ الذين يذكرون الله } فى جميع احوالهم فان صاحب اللب الذى قبل الولاية وصار ذا لب بتلقيح الولاية لا يخلو فى احواله من ذكر الله وان أنساه الشيطان ذكر ربه حينا ما تذكر فاستغفر على اى حال كان { قياما وقعودا } يجوز فى كل منها ان يكون مصدرا وان يكون جمعا { وعلى جنوبهم } قد مر بيان للذكر واقسامه وشطر من الاخبار فى اول البقرة عند قوله تعالى:
فاذكروني أذكركم
[البقرة: 152]، وفى هذه الآية دلالة على حسن ذكر الله على كل حال ولا بأس بذكر الله فى كل حال وفى خبر: لا باس بذكر الله وانت تبول، وفى خبر عن النبى (ص):
" من احب ان يرتع فى رياض الجنة فليكثر ذكر الله "
، وفى خبر:
" ذاكر الله فى الغافلين كالمقاتل فى الغازين "
، وفى خبر
" عن النبى (ص) يقول الله تعالى: انا مع عبدى ما ذكرنى وتحركت به شفتاه "
، وفى خبر:
" ما عمل ابن آدم من عمل انجى له من عذاب الله تعالى من ذكر الله، قالوا: يا رسول الله (ص) ولا الجهاد فى سبيل الله؟ - قال (ص) ولا الجهاد فى سبيل الله ولا ان تضرب بسيفك حتى تقطع، ثم تضرب به حتى تقطع ثلاثا "
، وفى حديث قدسى:
" يا موسى (ع) لو ان السماوات السبع وعامريهن عندى والارضين السبع فى كفة ولا اله الا الله فى كفة مالت بهن "
، وفى قدسى آخر:
" اذا كان الغالب على عبدى الاشتغال بى جعلت همه ولذته فى ذكرى، واذا جعلت همه ولذته فى ذكرى عشقنى وعشقته، واذا عشقته رفعت الحجاب بينى وبينه، لا يسهو اذا سهى الناس، اولئك كلامهم كلام الانبياء، اولئك الابدال حقا، اولئك الذين اذا اردت باهل الارض عقوبة او عذابا ذكرتهم فيهم فصرفته بهم عنهم "
، وفى قدسى آخر:
" ايما عبد اطلعت على قلبه فرأيت الغالب عليه التمسك بذكرى توليت سياسته وكنت جليسه ومحادثه، ونسب الى امير المؤمنين (ع) انه قال: ان الله يتجلى على عباده الذاكرين عند الذكر وعند تلاوة القرآن من غير ان يروه ويريهم نفسه من غير ان يتجلى لهم لانه اعز من ان يرى واظهر من ان يخفى فتفردوا بالله سبحانه واستأنسوا بذكره "
، ونسب اليه (ع) فى هذه الآية انه قال: الصحيح يصلى قائما والمريض يصلى جالسا، وعلى جنوبهم الذى يكون أضعف من المريض الذى يصلى جالسا.
بيان الفكر ومراتبه
{ ويتفكرون } الفكر والتفكر والنظر هو الانتقال من المعلوم الحاضر الى المجهول كما ان الفقه هو العلم الدينى الذى ينتقل منه الى علم آخر والعلم عندهم ليس الا بهذا المعنى كما ان الفكر عندهم هو السير من المبادئ المعلومة الى المقاصد المطلوبة للانسان اى المقاصد النافعة فى الآخرة، والفكر بهذا المعنى من اجل العبادات واعظم القربات وفى مدحه بهذا المعنى ورد اخبار كثيرة؛ منها:
" تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة "
، ولهذا الفكر مراتب ودرجات بحسب اختلاف احوال الاشخاص فمنها التفكر فى حال الخربة المنظورة والانتقال منها الى فناء بانيها وساكنيها، ومنه الى فناء نفس المتفكر التى هى مماثلة البانين والساكنين، ومنه الى اعداد النفس للبقاء بعد الفناء، ومنه الى لزوم التوسل بمن يستعلم منه كيفية ذلك الاعداد، ومنها التفكر فى خلق بدنه الذى هو مركب روحه وكيفية ارتباط اجزائه واتصال اركانه بحيث ينتفع منه الانسان بابلغ وجه، ومنها التفكر فى نفسه وتعلقها ببدنه بحيث تؤثر فى بدنه وتتأثر منه مع الانتقال منه الى المصالح والحكم المودعة فى انتضاد نفسه وبدنه وقواهما واجزائهما ورجوعها الى غاية هى استكمال نفسه وبدنه وهما السماء والارض فى عالمه الصغير، ومنها ان يتفكروا { في خلق السماوات والأرض } فى العالم الكبير وكيفية ارتباطهما وتأثير السماوات فى الارض وتأثر الارض منها، وفى وضعهما ووضع كواكب السماء واختلافها فى الصغر والكبر والضوء، وفى الحركة بالبطوء والسرعة والمناطق والشرقية والغربية والاستقامة والرجوع والوقوف، وفى وضع الارض بالنسبة الى مناطق الكواكب بحيث يلزمه طلوعها وغروبها وتعاقب الليالى والايام وتخالفهما بالكيفية والزيادة والنقيصة وتعاقب الفصول الاربعة وفى انتفاع الانسان بتلك الاوضاع، وفى ان كلا من هذه الحكم ودقائق الصنع فى السماوات والارض راجع الى الانسان ونافع له، وفى ان الانسان الذى هو غاية الكل لابقاء له ببدنه وحياته الحيوانية وان الغاية ليست انتفاع الانسان من حيث حياته الحيوانية الفانية فلا بد ان يكون المقصود غير هذه الحياة وان يكون بعد هذه الحياة حياة اشرف واتم وأكمل من هذه الحياة او عذاب اتم وابقى واشد من هذا العذاب فيتضرع عليه تعالى ويلتجئ اليه ويسأله ان يحفظه من عذاب ما بعد هذه الحياة وان يوصله الى حياة اتم ويقول { ربنآ ما خلقت هذا } المخلوق من السماوات والارض وما فيهما { باطلا } غير منته الى غاية وغير مندرج فيه حكم ومصالح كما يقوله الدهرى والطبيعى، ومنها التفكر فى اعماله واقواله وانها من اى مصدر صدرت والى اى غاية ترجع فيحترز مما يصدر من مصدر غير الهى او يرجع الى غاية غير انسانية، ومنها التفكر فى خطراته وخيالاته وانها من اى مصدر والى اى غاية، ومنها التفكر فى صفاته واخلاقه وانها من اى دار، ومنها التفكر فى آيات الله ونعمه فى السماوات والاراضى فى العالم الصغير والكبير، ومنها التفكر فى صفاته الاضافية وخصوصا جباريته تعالى وانه ما اخذ من موجودات هذا العالم شيئا الا واعطى خيرا منها اومثلها، وانه ما ينسخ من آية او ينسها يأت بخير منها او مثلها كما يشاهد من حال الانسان من اول تكونه من مادة الغذاء ووصوله الى الانسانية وانسلاخه كل آن من لباس وصورة وتصوره بصورة اكمل واشرف الى اوان بلوغه ورشده، ومنها التفكر فى الذكر المأخوذ من صاحب الاجازة وفيما يستعقبه من الواردات والاستبصارات والوجدانيات الذوقيات والمشاهدات واليه اشار المولوى قدس سره بقوله:
فكر آن باشد كه بكشايد رهى
راه آن باشد كه بيش آيد شهى
ومنها التفكر فى الفكر المصطلح للصوفية وهو تمثل شيخ السالك عنده من قوة اشتغاله بذكره بحيث لا يرى فيما يرى غيره وبحيث يطلع تدريجا على تصرفاته فى ملكه وفى ملك العالم الكبير، وهذا الفكر هو غاية الغايات ونهاية الطلبات وهو السكينة القرينة بالنصر والتأييد وهو الريح الفائحة من الجنة لها وجه كوجه الانسان وهو الامام الظاهر فى العالم الصغير واشرقت الارض بنور ربها اشارة اليه { ويوم تبدل الارض غير الارض } بظهوره، واليه اشار الشيخ الكامل قدس سره بقوله:
كرد شهنشاه عشق در حرم دل ظهور
قد زميان بر فراشت رايت الله نور
والمنظور من قوله تعالى: { كونوا مع الصادقين } هذه المعية، { وابتغوا اليه الوسيلة } حقيقتها هذه الوسيلة، وكيف مد الظل بيانه هذا الظل.
كيف مد الظل نقش اولياست
كو دليل نور خورشيد خداست
دامن او كير زو تر بيكمان
تا رهى از آفت آخر زمان
اندر اين وادى مرو بى اين دليل
لا احب الافلين كو جون خليل
واذا وصل السالكون الى شيخهم يقولون حالا وقالا { سبحانك } اللهم من معرفة امثالنا ووصول اشباهنا الى ساحة جلالك وعما يتصوره المتصورون ويظهر عليهم عالم الظلمة والنور ويذوقون ويشاهدون آلام الفتنة والغرور، ولذات نعيم الجنان وراحات دار السرور، ويعرفون ان الانسان برزخ بين الجحيم والجنان { ف } يستعيذون بربهم من النيران ويقولون { فقنا عذاب النار } منادين لربهم متضرعين عليه بقولهم { ربنآ إنك من تدخل النار فقد أخزيته }.
[3.192]
{ ربنآ إنك من تدخل النار فقد أخزيته } اعترافا بان ادخال النار ليس الا بحكمة { وما للظالمين من أنصار } وضعوا الظاهر موضع المضمر اشعارا بان فعله تعالى ليس جزافا وليس ادخال الداخلين فى النار الا لظلمهم وذلك ايضا سبب انتفاء النصرة عنهم، ويجوز ان يكون هذه الجملة من كلام الله معترضة او معطوفة على قولهم ثم يستبصرون بمساوئهم اللازمة لذواتهم من انانياتهم ولوازمها فيستظهرون بالايمان الذى به يغفر الذنوب ويستر ويذكرونه مقدمة لسؤال المغفرة منادين لربهم مستغيثين به.
[3.193]
{ ربنآ إننآ سمعنا مناديا } من وجودنا هو العقل الذى يدعونا الى التسليم والانقياد ومناديا من خارج وجودنا هو نبى عصرنا وخليفته { ينادي } عبادك { للإيمان } لاجل الايمان او الى الايمان { أن آمنوا بربكم } { ف } أجبناه و { آمنا } بك والتجأنا اليك وحصلنا مادة الغفران التى هى الايمان { ربنا فاغفر لنا ذنوبنا } واستر علينا وعلى غيرنا آثامنا التى لها تبعات ومشاهدتها وتذكرتها تستتبع عقوبة والما { وكفر } اى ازل { عنا سيئاتنا } جمع السيئة من ساء بمعنى قبح والفرق بين الذنب والسيئة بالشدة والضعف فان الذنب هو السيئة التى هى بنفسها توذى الانسانية ولها تبعة وعقوبة هى ايضا تؤذى والسيئة هى الذنب الذى هو بنفسه يؤذى الانسانية من دون تبعة له ولذلك نسب الغفران الى الذنوب والتكفير الذى هو بمعنى الازالة الى السيئات، ويستعمل كل فى كل { و } بعد غفران ذنوبنا وتكفير سيئاتنا { توفنا } اى خذ بجميع فعلياتنا { مع الأبرار } ظرف مستقر حال عن المفعول او ظرف لغو متعلق بتوفنا، و { الابرار } جمع البر بمعنى المحسن الى الخلق مقابل المسيء اليهم، او بمعنى المحسن فى حاله وهو المراد هاهنا كما سيأتى الاشارة اليه، ثم التجأوا اليه بعد ما سألوه التوفى والافناء التام ونادوه متضرعين اليه وسألوه البقاء التام بعد الفناء وقالوا: { ربنا وآتنا ما وعدتنا }.
[3.194]
{ ربنا وآتنا ما وعدتنا } من الاستخلاف فى الارض والبقاء بخلافتك والتمكين فى الدين وتبديل الخوف بالامن كما قلت:
وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا
[النور:55] قالا ولا حالا ولا شهودا { بي شيئا } { على رسلك } هذه الكلمة مجملة محتاجة الى تقدير مضاف فهو اما متعلق بوعدتنا فالتقدير آتنا ما وعدتنا على السنة رسلك او متعلق بآتنا فالتقدير آتنا ما وعدتنا على طريقة رسلك، اى طريقة اعطاء رسلك من كمال البقاء فى الكثرات بحيث لا تهمل شيئا من حقوق الكثرات ومن لحاظ التوحيد بحيث لا يشغلنا شأن التوحيد عن شأن التكثير ولا شأن التكثير عن شأن التوحيد، وانما سألوه ما وعده تعالى والحال أنه لا خلف لوعده خوفا من تقصيرهم فيما يعدهم لوعده فالسؤال لجبران التقصير فى الاعداد لا لمحض التعبد كما قاله مفسروا العامة { ولا تخزنا يوم القيامة } لا تفضحنا ببقاء نقيصة حتى يظهر تلك النقيصة فنفتضح بها { إنك لا تخلف الميعاد } استئناف فى مقام التعليل، او جواب للسؤال عن حاله تعالى مع العباد.
اعلم ان الانسان ما لم يصر بذاته وافعاله ذا لب بتلقيح التوبة والبيعة الخاصة الولاية وقبول الدعوة الباطنة بقبول الولاية، كان كاللوز والجوز والفستق الخاليات من اللب ولا اعتداد به ولا قرب له عند الله ولو أجهد نفسه فى عبادة الله بقيام الليل وصيام النهار طول عمره لأكبه الله فى النار، واذا صار ذا لب بقبول الولاية وقبول الدعوة الباطنة صار متذكرا لله على كل حال ومتفكرا فى خلق نفسه وفى الفانيات من الارض والارضى والسماء والسماوى فينظر فيكون نظره عبرة، ويتكلم فيكون كلامه حكمة، ويسكت فيكون سكوته فكرة بقدر مرتبته فى الايمان، فينظر الى آلام الدنيا مثلا ويعتبر وينتقل الى آلام الآخرة وشدتها فيستعيذ منها ويتوب الى الله مما يجرها بحسب حاله وان كان لا يقول بلسانه، ثم ينظر الى لبه ولطيفة ايمانه التى هى نازلة ولى امره فيستظهر بها ويستغفر لذنوبه التى هى حاصلة له من نسبة الصفات الى نفسه ويسأله تكفير سيئاته التى هى حاصلة له من نسبة الصفات الى نفسه، ثم يسأله ان يتوفاه ويأخذ جميع فعلياته بحيث لا يبقى له نسبة فعلية الى ذاته ولا نسبة ذاته الى ذاته حتى يحصل له الفناء التام عن افعاله وصفاته وذاته، ثم يساله بلسان غير منسوب اليه البقاء بعد الفناء على نحو بقاء الرسل بحفظ الوحدة فى الكثرة وهذه آخرة مراتب السالك وهى الربوبية بعد العبودية، كل ذلك بلسان حاله سواء كان قرينا بلسان القال او لم يكن وسواء كان باستشعاره ام بغير استشعاره، فالآية مشيرة الى مراتب السير لان قوله تعالى: { الذين يذكرون الله } الى قوله { فآمنا } اشارة الى السير من الخلق الى الحق، وقوله { فاغفر لنا ذنوبنا } الى قوله { وتوفنا مع الابرار } اشارة الى السير من الحق الى الحق بمراتبه من توحيد الافعال والصفات والذات والى السير فى الحق، وقوله: { آتنا ما وعدتنا } الى قوله { لا تخلف الميعاد } اشارة الى السير بالحق فى الخلق، ولكون الآية اشارة الى مراتب الانسان فى الكمال كرر النداء وكرر ربنا بحسب المراتب وتفاوت ظهور الرب وتفاوت حال السالك وكان المنادى والمنادى فى كل مرتبة غير المنادى والمنادى فى المرتبة السابقة ولذلك ورد عن النبى (ص)
" ويل لمن لاكها بين فكيه ولم يتأمل ما فيها "
، وروى: من حزنه امر فقال خمس مرات: ربنا؛ أنجاه الله مما يخاف.
[3.195]
{ فاستجاب لهم ربهم أني } اى بانى { لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى } فاعطيكم من الوقاية والمغفرة والتكفير والتوفية والايتاء بقدر استعدادكم بأعمالكم { بعضكم من بعض } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: ان كان لا يضيع الله عمل عامل فما بال الرجال يذكرون فى الدنيا بالمدائح مثل الهجرة وغيرها دون النساء؟ - فقال: { بعضكم من بعض } فمديحة الرجال مديحة للنساء ايضا او جواب لسؤال مذكور على ما روى ان ام سلمة قالت: يا رسول الله (ص) ما بال الرجال يذكرون فى الهجر دون النساء؟ - ومعنى كون { بعضهم من بعض } ان بعضهم ناشئ من بعض بالتوالد، الرجال ناشؤون من النساء، والنساء من الرجال، او بعضهم من سنخ بعض، او من مادة بعض، فلفظة (من ) ابتدائية او تبعيضية، ولم يكتف تعالى شأنه بالجواب الاجمالى واتى بالتفصيل فى الاجابة بطريق عطف التفصيل على الاجمال فقال: { فالذين هاجروا } من الاوطان الصورية المانعة من اقامة العبادة واظهار الدين الى مدينة الرسول (ص) طلبا للدين او للتمكن من اظهار الدين والعبادة، او الى بلد اى بلد كان يطلب فيه الدين، او يتمكن فيه من اظهار الدين، او اقامة مراسمه، او هاجروا من دار الشرك الباطنى التى هى النفس الامارة ثم اللوامة لان المهاجر الحقيقى من هجر السيئات التى اصلها النفس الامارة { وأخرجوا } الواو بمعنى او، او هو عطف فى معنى التعليل { من ديارهم } الصورية والمعنوية وهو متنازع فيه لهاجروا واخرجوا { وأوذوا في سبيلي } اى سبيل المدينة او سبيل الرسول (ص)، او سبيل تحصيل الدين، واضافه الى نفسه تشريفا له، او المراد من السبيل نفس الدين او الرسول (ص) او طريق القلب والولاية فانها سبيل الله حقيقة { وقاتلوا } بالجهاد الصورى او بالجهاد المعنوى { وقتلوا } من حياتهم الحيوانية باسياف الاعداء الظاهرة او من انانياتهم { لأكفرن عنهم سيئاتهم } لازيلن عنهم انانياتهم ولوازم انانياتهم من السيئات القالبية { ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار } اى من تحت اشجارها او عماراتها او قطعها.
اعلم ان اضافات الحق الاول تعالى ليست اعتبارية بل اضافات حقيقية اشراقية يعبر عنها بالانهار وكل مرتبة من العاليات محل لظهور اضافاته فيها وبروزها منها الى غيرها، وجهتها التى تلى الحق الواجب تعالى عالية ومحيطة بالجهة التى تلى الخلق، وبروز اضافاته تعالى الى الخلق من الجهة التى تلى الخلق فصح ان يقال: ان الانهار الجارية الى الخلق جارية من تحت تلك المراتب التى هى الجنان بوجه { ثوابا } اى جزاء مفعول مطلق من غير لفظ الفعل او مفعول له او التقدير ادخال ثواب او هو حال من الفاعل او المفعول اى حال كونهم مجزيين { من عند الله والله عنده حسن الثواب } عطف او حال فيه تحسين للثواب الذى من عند الله تشريفا لهم؛ روى ان الآية نزلت فى على (ع) حين هاجر من مكة ومعه الفواطم، فاطمة بنت اسد وفاطمة بنت رسول الله (ص) وفاطمة بنت الزبير وقد قارع الفرسان من قريش حين جاؤا من عقبه ليمنعوه فسار ظاهرا قاهرا حتى نزل ضجنان فلزم بها يوما وليلة ولحق به نفر من ضعفاء المؤمنين وفيهم ام ايمن مولاة رسول الله (ص) وكان يصلى ليلته تلك هو والفواطم ويذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم فلم يزالوا كذلك حتى طلع الفجر فصلى بهم صلاة الفجر ثم سار لوجهه فجعل هو وهن يصنعون ذلك منزلا بعد منزل يعبدون الله عز وجل ويرغبون اليه كذلك حتى قدم المدينة وقد نزل الوحى بما كان من شأنهم قبل قدومهم الذين يذكرون الله الى قوله { من ذكر او انثى }؛ الذكر على (ع) والانثى الفواطم، وتلك الآيات بل جميع الآيات القرآنية ان كان نزولها خاصا فهى جارية فى كل من اتصف بالصفات المذكورة فيها.
[3.196]
{ لا يغرنك } مقطوع عن سابقه ودفع لتوهم نشأ من قوله { انى لا اضيع عمل عامل } منكم من انه كيف لا يضاع عمل العاملين والحال ان المؤمنين مع كمال طاعتهم فى ضيق من العيش وبلاء كثير والكافرون والمنافقون مع عدم طاعتهم فى سعة من العيش وراحة من البلاء والخطاب خاص بالنبى (ص) على طريق اياك اعنى واسمعى يا جارة، او عام لكل من يتأتى منه الخطاب، وروى ان بعضهم تفوهوا بهذا الوهم بعد ما كانوا يرون المشركين فى رخاء ولين عيش فيقولون: اعداء الله فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع فنزل { لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد } التقلب كناية عن سعتهم وراحتهم وتجاراتهم الرابحة وتمكنهم مما ارادوا، ذلك التقلب.
[3.197]
{ متاع قليل } جواب سؤال محذوف فى مقام التعليل وخبر مبتدء محذوف او مبتدء خبر محذوف اى فيه متاع قليل والمتاع بمعناه المصدرى او بمعنى ما به التمتع وقلته عبارة عن قلة ما به التمتع فى الدنيا او عن قلة مدة التمتع فيها، فان جميع الدنيا فى جنب الآخرة مثل ما يجعل احد اصبعه فى اليم كما فى الخبر، ومدة الدنيا فى جنب الدهر ليست الا مثل ذلك { ثم مأواهم جهنم } ولا مدى له ولا شدة مثل شدته { وبئس المهاد } جهنم والمهاد كالمهد ما يهيئ للصبى وراحته ونومه واستعماله هنا للتهكم.
[3.198]
{ لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات } استدراك مما استفيد من قوله { تقلب الذين كفروا } فانه يستفاد منه ان الكفار متنعمون دون المؤمنين فقال لكن المؤمنين لهم جنات { تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها } من غير زوال { نزلا } تشريفا لهم والنزل ما يعد للنازل من طعام وشراب وصلة مثلا لان يكون حاضرا عند نزوله { من عند الله وما عند الله خير للأبرار } مما يتقلب فيه الفجار، وضع الظاهر موضع المضمر اشارة الى مديحة اخرى لهم.
[3.199]
{ وإن من أهل الكتاب } عطف باعتبار المعنى فانه كما قيل: نزلت آية { لا يغرنك } (الى آخرها) فى غبطة المسلمين لليهود حيث رأوهم متقلبين متنعمين وتوهموا من ضعفهم ان لهم خيرا فقال الله: { لا يغرنكم تقلبهم } فان ذلك التقلب { متاع قليل } وله عاقبة سيئة فكأنه قال: ان بعض اهل الكتاب لمن يكفر بالله ولهم جهنم وان منهم { لمن يؤمن بالله ومآ أنزل إليكم } من الكتاب والشريعة { ومآ أنزل إليهم } من كتابيهم وشرائعهم { خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا } مثل الكفار منهم ومثل منافقى امة محمد (ص) فهو تعريض بالكفار من اهل الكتاب وبالمنافقين من اهل الاسلام { أولئك لهم أجرهم } اضافة الاجر اليهم تفخيم للاجر كأنه لا يمكن معرفته الا بالاضافة اليهم { عند ربهم } تفخيم آخر لهم وتعريض بالكفار والمنافقين { إن الله سريع الحساب } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: ان للكفار جزاء بقدر استحقاقهم وبحسب اعمالهم وللمؤمنين جزاء بقدر استعدادهم وأعمالهم، والنفوس البشرية غير متناهية فكيف يحاسب تلك النفوس واعمالها وجزاءها؟ - فقال: ان الله سريع الحساب لانه لا يشغله حساب عن حساب ولا يشذ عن عمله شيء ولا يغيب عنه شيء فيحاسب الكل دفعة واحدة فى طرفة عين.
[3.200]
{ يا أيها الذين آمنوا } بالايمان العام والبيعة العامة النبوية او بالايمان الخاص والبيعة الخاصة الولوية وقبول الدعوة الباطنة { اصبروا } الصبر حبس النفس ومنعها عن مقتضاها، ولما كانت مقتضيات النفس بحسب قواها الداخلة ووارداتها الخارجة مختلفة صار اقسام الصبر مختلفة بحسب المتعلق وقد جعل الصبر فى الاخبار ثلاثة اقسام: احدها الصبر عن المعاصى وهو حبس النفس عن مقتضى قواها الشهوية والغضبية والشيطانية من غير اذن واباحة من الله، وثانيها الصبر على الطاعات وهو حبس النفس عن الخروج عن مقام التسليم والانقياد فان النفس بقوتها الشيطانية تقتضى الاستبداد والانانية، وثالثها الصبر على المصائب وهو حبس النفس عن الجزع حين ورود الامر الغير الملائم عليها لانها تقتضى الجزع والاضطراب والالتجاء الى غيرها والتماس الدفع منه عند ورود المنافى عليها اذا لم تتمكن من دفعه او من الانتقام له اذا كان مما ينتقم له ولما كانت الآيات ذوات وجوه بحسب اللفظ وبحسب المعنى وكانت الائمة (ع) يفسرون الآيات بالوجوه المناسبة لمقامات الكلام بحسب احوال الاشخاص فسروا الآية بوجوه مختلفة كما سنشير اليها { وصابروا } من المصابرة بمعنى حمل كل واحد كلا على الصبر على المصائب او على الطاعات او عن المعاصى او بمعنى المغالبة فى الصبر اى صابروا عدوكم فى الغزاء فانكم اولى بالصبر والثبات فى الجهاد منهم حيث ترجون من الله ما لا يرجون، او صابروهم على التقية، او على الفتنة، وقد اشير الى كل فى الخبر كما فسر اصبروا فى الخبر بالصبر على الفرائض والصبر على المصائب، وعلى الدين، وعن المعاصى، بحسب اختلاف احوال السائلين والمخاطبين وكثرة وجوه القرآن وجواز ارادة كل منها بحسب اقتضاء المقام كما اشرنا اليه { ورابطوا } المرابطة فى الظاهر ملازمة ثغر العدو او ان يربط كل من الفريقين خيولهم فى ثغره او المراد بها الاتصال بالامام بالبيعة الخاصة الولوية، او بالتبعية والانقياد فى الاحكام، او الاتصال بملكوت الامام، او المراد انتظار الصلاة بعد الصلاة كما اشير الى كل فى الاخبار، وقد فسرت المرابطة فى اخبار كثيرة بالمرابطة على الامام مع اختلاف يسير فى اللفظ، وقد استشهد الصوفية بامثال هذه الآية على ما قالوه ان السالك ينبغى ان يجاهد فى الرياضات والذكر والفكر المأخوذة من صاحب الاجازة فى الشريعة او الطريقة بحيث يصفو مرآة قلبه من غبار الكثرات ويتجلى فيها صورة شيخه ولا يغيب عنه ويسمون هذا الاتصال والتجلى بالمرابطة والحضور والفكر كما يسمون ذلك المتجلى بالسكينة ويقولون: ان السالك ما لم يتصل بملكوت شيخه كان سالكا الى الطريق لا الى الله، فاذا اتصل بملكوت شيخه وصل الى الطريق وصار سالكا الى الله على الطريق، وقبل هذا الاتصال يكون العبادة منه كلفة وعناء وكرها وبعد الوصول تصير لذة وراحة وطوعا؛ وقول المولوى قدس سره:
جهد كن تا نورتو رخشان شود
تا سلوك و خدمتت آسان شود
اشارة الى هذا الظهور والتجلى، وبهذا الاتصال تصدق المعية مع الصادقين التى امر الله بها فى قوله تعالى:
وكونوا مع الصادقين
[التوبة:119] وهذا الظاهر هو الوسيلة التى امر الله بابتغائها بقوله:
وابتغوا إليه الوسيلة
[المائدة:35] وبهذا يتبدل الارض غير الارض
وأشرقت الأرض بنور ربها
[الزمر:69]،
وأخرجت الأرض أثقالها
[الزلزلة:2] و
تحدث أخبارها
[الزلزلة:4] وتبلى سرائرها وهذا الظاهر هو النور الساعى بين أيديهم وبأيمانهم، روى عن سيد الساجدين (ع) ان الآية نزلت فى العباس وفينا ولم يكن الرباط الذى أمرنا به وسيكون ذلك من نسلنا المرابط ومن نسله المرابط { واتقوا الله } اى سخطه وعذابه فى ترك ما امرتم به من الصبر والمصابرة والمرابطة، واتقوا الله بعد المرابطة فى الغفلة او الاعراض عن المتجلى لانه من يكفر بعد فيعذبه الله عذابا لا يعذبه احدا من العالمين { لعلكم تفلحون } قد مضى ان الترجى من الله واجب وانه يجرى فى وعده على عادة الكبار من الناس.
[4 - سورة النساء]
[4.1]
{ يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونسآء } لما كان تلك الحكاية وامثالها من مرموزات الاوائل من الانبياء والاولياء والحكماء التابعين لهم وحملها العوام من الناس على ظواهرها اختلف الاخبار في تصديقها وتقريرها وتكذيبها وتوهينها فان فى كيفية خلقة آدم (ع) وحواء (ع) وتناسلهما وتناكحهما وتناكح اولادهما، وكذا في قصة هاروت وماروت وقصة داود (ع) وغير ذلك اختلافا كثيرا فى الاخبار واضطرابا شديدا بحيث يورث التحير والاضطراب لمن لا خبرة له، حتى يكاد يخرج من الدين ولكن الراسخين فى العلم يعلمون ان كلا من معادن النبوة ومحال الوحى صدر ولا اختلاف فيها ولا اضطراب؛ جعلنا الله منهم والله ولى التوفيق، ولما كان المقصود الوصاية في امر الايتام والاهتمام بهم وباموالهم اكد الامر بالتقوى بالتكرير فقال تعالى { واتقوا الله الذي تسآءلون به والأرحام } وعلقه اولا على وصف الربوبية المقتضية للتقوى عن مخالفته ووصفه ايضا بما يقتضى التقوى وعلقه ثانيا على وصف الآلهية ووصفه بما يقتضى تعظيمه وقرن الارحام به بالعطف على الضمير المجرور او على الله مبالغة فى حفظ الارحام وتمهيدا لاظهار المقصود من حفظ الايتام فان الحافظ للايتام فى الاغلب ذوو الارحام ومحافظة الرحم وتعظيمه مما يحكم به العقل والعرف وورد فى الشريعة مالا يحصى فى الاهتمام به.
اعلم ان الله تعالى شأنه خلق الانسان ذا نشأتين وبحسب كل نشأة جعل له اصولا وفروعا ويسمى اصوله وفروعه ومن انتهى معه الى اصل واحد ارحاما لانتهائهم الى رحم واحد والتفاضل بين ارحامه الجمسانية وارحامه الروحانية كالتفاضل بين الروح والجسم، وفضل صلة الارحام الروحانية على الجسمانية كفضل الروح على الجسم لا يقال: من انتسب الى الشيطان كان نسبته الروحانية الى الشيطان وكان المنتسب الى الشيطان رحما له فليزم له مراعاته وصلته مع انه مأمور بمباغضته وقطيعته لانا نقول: كما اسس الله تعالى لصحة النسبة الجمسانية فى كل ملة وشريعة ما تبتنى عليه ومن لم تكن نسبته مبتنية على ما اسسه كان لغية وحاله مع اصوله وفروع اصوله كحال الاجنبي من غير فرق ومن لم يكن رحما لهم كما لم يكونوا ارحاما له كذلك اسس الله تعالى لصحة النسبة الروحانية ما تبتنى عليه ومن لم تكن نسبته مبتنية على ما اسسه كان لغية وحاله ولا اعتبار بنسبته، لا يقال: على هذا يلزم ان يكون من انتسب الى الانبياء (ع ) من غير الابتناء على ما اسسه الله تعالى لغية نعوذ بالله من هذا القول، لانا نقول: الانتساب اليهم (ع) من غير الابتناء على ما به الانتساب محال، لان من لم يكن له امام من الله يأتم به وانتحل الانتساب اليهم كان داخل النسب وكان الايتمار بشريعتهم نحلة لا ملة ولذا ورد في الاخبار المعصومية: من اصبح من هذه الامة لا امام له من الله ظاهر عادل اصبح ضالا تائها، وان مات على هذه الحالة مات ميتة كفر ونفاق اعاذنا الله، وبهذا المضمون منهم روايات كثيرة وكما ان داخل النسب في النسبة الجسمانية ملعون كذلك من لم تكن نسبته الى من انتسب إليه بحسب الروحانية مبتنية على ما يصححها كان داخل النسب وكان ملعونا ونسبة اللغية إلى اللغية ونسبة داخل النسب الى داخل النسب كنسبة الروح الى الجسد.
{ إن الله كان عليكم رقيبا } أيها المأمورون بالتقوى ومراعاة الأرحام وحفظ أموال الأيتام، فيطلع على خيانتكم سرا وعلانيه.
[4.2]
{ وآتوا اليتامى أموالهم } بعد الحفظ وانس الرشد منهم { ولا تتبدلواالخبيث } الردى من اموالكم { بالطيب } الجيد من اموالهم او الحرام من اموالهم بالحلال المقدر لكم فان من ارتزق بالحرام حرم المقدر له من الحلال لكن الاول هو المراد لان قوله تعالى { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } يفيد الثاني.
اعلم ان اليتيم كالرحم روحانى وجسمانى فالجسمانى من انقطع فى صغره عن ابيه الجسمانى، والروحانى من انقطع عن امامه الذي هو ابوه الروحاني كما ورد تصريحا واشارة واليتيم عن الامام اما بغيبته عن شهود حسه بموت وغيره او بغيبته عن شهود بصيرته بعدم استعداد الحضور وعدم حصول الفكر الذى هو مصطلح الصوفية، فان من لم يتمثل مثال الشيخ في صدره ولم يشاهد صورته المثالية بعين بصيرته كان منقطعا عن امامه، وحقه الخدمة والمواساة والمحبة والنصيحة التي يعطون الميثاق عليها؛ هذا هو اليتيم الروحانى في العالم الكبير، واما في العالم الصغير فالقوى الحيوانية والبشرية ما لم تبلغ في التبعية للنفس الى مقام التمتع والالتذاذ بشهود النفس لشيخها تكون يتامى ومالها وحقها التلذذ بمشتهياتها ومقتضياتها فى الحلال فان التلذذ فى الحلال جعل قسيما لتزود المعاد فى الاخبار، ولما كان منع اليتامى باى معنى كان عن حقهم ظلما على المظلوم الذي كان مستحقا للترحم عظم تعالى ذنبه فقال تعالى { إنه كان حوبا كبيرا } اي ذنبا عظيما.
[4.3]
{ وإن خفتم } ايها الناظرون من امر اليتامى اذا اردتم نكاحهن ضنة بأموالهن { ألا تقسطوا في اليتامى } بالتقصير في حقهن { ف } دعوا نكاحهن و { انكحوا ما طاب لكم من النسآء } وعن امير المؤمنين (ع) في جواب مسائل الزنديق الذي سأل عن اشياء انه اسقط بين طرفى تلك الآية اكثر من ثلث القرآن { مثنى وثلاث ورباع } تخيير بين الواحدة الى اربع وايضا تخيير فى الاستبدال فان فى هذا الوزن دلالة على التكرير { فإن خفتم } ايها الراغبون في النكاح { ألا تعدلوا } بينهن اذا كن اكثر من الواحدة { ف } انكحوا { واحدة أو ما ملكت أيمانكم } ان خفتم التقصير في حق الحرة { ذلك أدنى ألا تعولوا } اى لا تميلوا عن الحق اولا تمونوا فتعسروا فان خفة العيال احد اليسارين كما في الخبر.
[4.4-5]
{ وآتوا النسآء } ايها الازواج { صدقاتهن نحلة } منكم لهن اي عطية وفيه تنشيطا لهم فان استرداد العطية فى غاية القبح وان كان الخطاب لاولياء النكاح لانهم كانوا يأخذون الصداق لانفسهم كما هو الان كذلك في بعض الاعراب والاكراد فالمعنى آتوهن صدقاتهن ايها الاولياء فانها عطية لهن فليس لكم ان تأخذوها { فإن طبن لكم عن شيء منه } اى من الصداق { نفسا فكلوه هنيئا مريئا ولا تؤتوا السفهآء أموالكم التي جعل الله لكم قياما }.
اعلم ان الانسان ذو نشأة محسوسة وذو نشأة غير محسوسة وله بحسب كل نشأة ما ينفعه وما يضره وكل من ميز بين النافع والضار وقدر على جلب النافع ودفع الضار يسمى عاقلا ورشيدا، ومن لم يميز او لم يقدر يسمى سفيها لكن لا ملازمة بين سفاهة الدنيا وسفاهة الآخرة؛ فكم من سفيه في الدنيا عاقل في الآخرة، وكم من عاقل في الدنيا سفيه في الآخرة فمعاوية مع كونه ملقبا باعقل زمانه سفيه، والبهلول مع كونه مجنونا عاقل، واختلاف الاخبار في تفسير السفيه بمن لم يكن تصرفه فى ماله على وجه يرتضيه العقل وبمن لم يعرف الحق وبشارب الخمر وبمن لم يدخل فى هذا الامر بحسب اختلاف النشأتين، فان العاقل بحسب النشأة الآخرة من عرف امامه ودخل على الوجه المقرر فى ولايته وبايعه بالبيعة الخاصة وقبول الدعوة الباطنة ودخل الايمان فى قلبه ولذلك نسبوا الى شيعتهم العقل والعلم التعلم والعرفان وغير ذلك مما يدل على كونهم عاقلين مع ان اكثرهم لم يكونوا من اهل العلوم الرسمية والعقول الدنيوية بل كانوا في نظر اهل الدنيا مجانين وسفهاء كما قالوا:
أنؤمن كمآ آمن السفهآء
[البقرة:13]،وقالوا:
أم به جنة
[سبأ: 8]، وكما ان الشرع والعقل حاكمان بقبح اعطاء المال الدنيوى للسفيه من الاولاد والازواج او الايتام الذين فى تربيتكم او غيرهم ممن يضيع المال او من لا يعرف الحق كذلك حاكمان بقبح اعطاء المال الاخروى من العلم والحكمة لمن لم يكن اهله ولم يعرف الحق فان الله يأمركم ان تؤدوا الامانات الى اهلها يعنى لا تمنعوها اهلها فتظلموهم ولا تعطوها غير اهلها فتظلموها وتكونوا كمن علق الدر على اعناق الخنازير { وارزقوهم فيها واكسوهم } بان تمكنوهم فيها لتحصيل رزقهم وكسوتهم منها بالعمل فيها بحيث لم ينقص من اصل المال شيء سواء زاد فيها بعملهم اولا، وانما قال فى الآية الآتية: وارزقوهم منها لان المعطى هناك من اصل المال { وقولوا لهم قولا معروفا } لا ازدراء فيه ولا لوم { و } اما اموال التيامى ف { ابتلوا اليتامى }.
[4.6]
{ ابتلوا اليتامى } باختبار احوالهم من اوان تميزهم وزمان صغرهم { حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا } وعدم تضييع للمال { فادفعوا إليهم أموالهم } عن الصادق (ع) اشارة الى وجه من وجوه التأويل فى هذه انه قال: اذا رأيتموهم يحبون آل محمد (ص) فادفعوهم درجة يعنى وابتلوا يتامى آل محمد (ص) وراقبوا في تربيتهم ايها المربون ليتامى آل محمد (ص) حتى اذا بلغوا مقام الزواج بالشواهد الآلهية والواردات الغيبية فان آنستم منهم رشدا وثباتا في المحبة وعدم افشاء الاسرار بهوى النفس فادفعوهم عن مقامهم الدانى درجة كما هو شأن الائمة (ع) والمشايخ في تربية اطفال الطريق وايتام السلوك { ولا تأكلوهآ إسرافا } تجاوزا عن حد المعروف { وبدارا } اى مسرعين في الأكل خوف { أن يكبروا } او مبادرين كبرهم { ومن كان غنيا } عن اموالهم بعدم اشتغاله بها عن معيشته او بعدم حاجته اليها لغنائه في نفسه { فليستعفف ومن كان فقيرا } لاجل اشتغاله عن مرمة معيشته بواسطة اصلاح اموالهم او كان فقيرا فى نفسه { فليأكل بالمعروف } اى بقدر اجرة اشتغاله بها فان الأكل بالمعروف عند الشرع والعقل ما كان بقدر اجرة اشتغاله عن اصلاح معيشته لا اصلاح معيشته عن اموالهم وان كان اضعاف عمله وبما فسرنا يمكن الجمع بين المتخالفات من الاخبار في هذا المقام ولما كان السورة المباركة اكثرها في آداب المعاشرة وتدبير المنزل وسياسة المدن، ومن جملة الحزم في المعاشرة ان تكون بريئا من المخاصمة متقيا عن مواضع التهمة حافظا لعرضك عن افواه الناس مجتنبا عما فيه الملامة وذلك بان يكون معاملتك مع الغير سالما عن الشبهة والادعاء الباطل ولا يمكن السلامة الا بان يكون ثالث بينك وبين من تعامله حتى يكون مانعا لادعائه باطلا ومطلعا حتى يرفع الشبهة اذا وقعت، علم الله تعالى عباده ذلك فقال تعالى { فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم } ولا تخونوا فيما لم يطلع هو ولا غيره عليه لان الله تعالى شاهد عليكم ويحاسبكم بدقيق ما عندكم وجليله { وكفى بالله حسيبا } هذا بحسب التنزيل واما بحسب التأويل فيقال: اذا دفعتم الى يتامى آل محمد (ص) بعد الاستحقاق ما يستحقونه من رفع درجة فأشهدوا الله وملائكته عليهم حتى يكونوا بمرأى من الله وملائكته ويكون اعطاؤكم باذن من الله بل بمرأى منه بل بيده حتى لا يكون انفسكم واسطة بينهم وبين الله ويكون المحاسب هو الله وكفى بالله حسيبا.
[4.7]
{ للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنسآء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا } بيان لآداب التوارث ونهى عن رسوم الجاهلية من منع النساء عن الارث.
[4.8]
{ وإذا حضر القسمة أولوا القربى } من غير الوراث { واليتامى والمساكين } من غير اولى القربى { فارزقوهم منه } تصدقا عليهم وتطييبا لنفوسهم فانه مورث لترويح المورث وبركة الوارث ولا تؤذوهم بأيديكم والسنتكم { وقولوا لهم قولا معروفا } باستقلال العطية والاعتذار عنه والاحترام لهم اكثر من سائر الاوقات ولما كان الامر بظاهره مفيدا للوجوب والمقصود الاستحباب لا الوجوب اختلف الاخبار في انها منسوخة او باقية فما أفاد نسخها خوطب بها من فهم الوجوب، وما أفاد بقاءها خوطب بها من فهم الاستحباب، ولما كانت النفوس متفاوتة في التناهى عن المنهيات لان تناهيها اما لخوف الافتضاح بين الناس، او اطلاع الغير عليها، او تسلط الظالم، او رفع البركة، او تضييع اولادها بالمكافاة، او سوء العاقبة والعذاب فى الآخرة ذكر الله تعالى فى مقام التأكيد فى امر اليتامى والتهديد عن الخيانة والتوانى عن المحافظة بعضا منها فقال تعالى: { وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم }.
[4.9]
{ وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم } فان الدار دار مكافاة وليعلموا ان ما يدينون به فى يتامى الغير يدانون به في يتاماهم { فليتقوا الله } فى الخيانة فى حقهم والتوانى فى تربيتهم والخشونة فى القول معهم { وليقولوا } لهم { قولا سديدا } لا يجرئهم على عدم الانقياد ولا يزجرهم زائدا على قدر تربيتهم، هذا تهديد عن المكافاة في حق الاولاد.
[4.10]
{ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون } اى يدخلون بأكل اموال اليتامى { في بطونهم نارا } اى ما يؤدى الى اكل النار او دخول النار { وسيصلون سعيرا } هذا تهديد عن سوء العاقبة والعذاب فى الآخرة.
[4.11]
{ يوصيكم الله في } ميراث { أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين } لوجوه كثيرة ذكرت فى الاخبار وغيرها { فإن كن نسآء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث مما ترك فإن كان له إخوة فلأمه السدس } هذا احد مواضع الحجب ولا يحجب الام عن نصيبها الا على الا متعدد اقله اثنان ولفظ الاخوة ايضا يدل عليه فانه لا يطلق على الواحد والاختان بمنزلة اخ واحد { من بعد وصية يوصي بهآ أو دين آبآؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا } فتتصرفون فى اموالكم بأهويتكم وتعطون البعض وتحرمون البعض بل النافع لكم ان تنقادوا لقسمة الله وتكلوا الى حكم الله فانه انفع لكم ولابائكم واولادكم اعتراض مؤكد لتسليم القسمة الى حكم الله تعالى، يوصيكم بهذه القسمة وصية { فريضة من الله } او فرض هذه القسمة فريضة من الله فلا تجاوزوا وصيته وحكمه { إن الله كان عليما حكيما } فلا ينبغى للجاهل العاجز ان يخالفه ويغير ما امره.
[4.12]
{ ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بهآ أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بهآ أو دين وإن كان رجل يورث كلالة } والمراد بها هنا الاخوة والاخوات من جهة الام خاصة وللآية وجوه عديدة بحسب الاعراب والمعنى لا يتغير المقصود بها { أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركآء في الثلث من بعد وصية يوصى بهآ أو دين غير مضآر } بالزيادة على الثلث او بقصد الاضرار بالاقرار على الوارث يوصيكم { وصية من الله والله عليم } فلا تخالفوه { حليم } فلا تغتروا بعدم تعجيل مؤاخذته واحذروا فى العاقبة من معاقبته.
[4.13-14]
{ تلك } التى امرناكم بها من آداب المعاشرة في حق اليتامى والازواج والتوارث { حدود الله } التى من تجاوز عنها افترسه الغيلان ومن دخل فيها كان آمنا { ومن يطع الله ورسوله } في المحافظة على حدوده صار من خواص الله، ومن صار من خواص الله { يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين } آية الفروض والانصباء وان كانت مجملة غير وافية بتمام الفروض ولا ببيان الزيادة على الفروض ولا النقيصة عنها لكن اهل الكتاب الذين نزل فيهم بينوه لنا فلا حاجة لنا الى ما قاسته عقولنا الناقصة ومسئلة العول والتعصيب التى هى من امهات ما تخالف العامة والخاصة فيها نشأت من الاعراض عن اهل الكتاب والاتكال على العقول الناقصة في كل باب.
[4.15]
{ واللاتي يأتين الفاحشة من نسآئكم } هذه الآية فى كيفية سياسة الخارجين من الحدود { فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } فاطلبوا من القاذف اربعة رجال من المؤمنين { فإن شهدوا } بالكيفيه المعتبرة فى الشهادة على الزنا { فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا } لما كان هذه الآية فى ابتداء تأسيس السياسات لم يشدد في السياسة، ولما تم الاسلام وقوى انزلت سورة النور والحد والرجم للزانى والزانية ولذا قالوا نسخت هذه الاية بما فى سورة النور والسبيل هو الحد والرجم.
[4.16]
{ واللذان يأتيانها منكم فآذوهما } بزجر الرجل وحبس المرأة { فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهمآ } وخلوا سبيلهما { إن الله كان توابا رحيما } يتوب على من تاب ويرحم على من ندم، ولما اوهم من نسبة وصف التوبة والرحمة اليه تعالى انه يتوب على العاصى اى عاص كان استدركه فقال تعالى: { إنما التوبة على الله }.
[4.17]
{ إنما التوبة على الله } يعنى ان التوبة حال كونها واجبة على الله بمقتضى وعده وايجابه ليست الا { للذين يعملون السوء بجهالة } ويجوز ان يكون على الله خبرا.
تحقيق كون السيئات تماما بجهالة
اعلم انه تعالى خلق اول ما خلق عالم العقول الكلية التى يعبر عنها بالقلم والملائكة المقربين والكتاب المبين وغير ذلك من الاسماء اللائقة المطلقة عليها، ثم عالم العقول العرضية التي تسمى في لسان الجكماء بأرباب الأنواع وأرباب الطلسمات وبالأرواح وبالصافات صفا، ثم عالم النفوس الكلية التى تسمى باللوح المحفوظ والمدبرات امرا، ثم عالم النفوس الجزئية التى تسمى بالملائكة ذوى الاجنحة وبالقدر العلمى ولوح المحو والاثبات وبعالم الملكوت العليا وبعالم المثال والاشباح النورية، ثم عالم الاجسام علوية كانت او سفلية من العناصر ومواليدها وتسمى بالاشباح الظلمانية والقدر العينى، ثم عالم الارواح الخبيثة التى هى الشياطين والجنة والارواح البشرية التى تلحق بها وتسمى بعالم الملكوت السفلى وهذا العالم بحسب رتبة الوجود تحت عالم الطبع كما ان عالم المثال النورى فوق عالم الطبع، وهذا العالم أنكره كثير من الحكماء القائلين بالاشباح النورية والاجسام المجردة التى تسمى عندهم بعالم المثال وهم اتباع صاحب الاشراق، والمشاؤن أنكروا المثال النورى فضلا عن الظلمانى وقالوا: ان الموجود الممكن اما مجرد صرف او مادى صرف واما المتقدر المجرد عن المادة فلا وجود له، واما المتكلمون والفقهاء فليس شأنهم البحث عن امثال هذا من حيث اشتغالهم بالفقه والكلام فان موضوع الفقه افعال العباد من حيث الصحة والفساد الشرعى، وموضوع الكلام العقائد الدينية المأخوذة عن المسلميات، والدليل على وجود العالمين شهود اهل الشهود لهذين العالمين ومنامات عامة الخلق ورؤيتهم في المنام الملذات والموذيات ومطابقة رؤياهم للواقع فى بعض الاوقات، ولولا شهودهم لتينك فى عالم محقق مطابق لما فى هذا العالم محيط به لما طابق الواقع وخلو المثال النورى عما يؤذى دليل على المثال الظلمانى، وتصرفات اهل الشر فى هذا العالم مثل تصرفات اهل الخير شاهد على وجود المثال الظلمانى واحاطته بهذا العالم، واطلاع اهل الشر على المغيبات واشرافهم على الخواطر كاطلاع اهل الخير يشهد بذلك، واشارات الكتاب وشواهد السنة على وجود هذا العالم كثيرة، فتح الله عيوننا بها، ولما كانت العوالم تجلياته تعالى شأنه واسماؤه اللطفية سابقة على اسمائه القهرية كان خلق العوالم النورية بارواحها واشباحها من تجلياته اللطفية الخاصة، ولما تم تجلياته النورية الخالصة في عالم المثال النورى تجلى باسمائه اللطفية والقهرية فصار عالم الطبع موجودا، ثم تجلى باسمائه القهرية بحيث كان اللطف مقهورا تحت القهر فصار عالم المثال السفلى موجودا، وبوجه آخر لما انتهى تجلياته تعالى الى عالم الطبع وقفت وما نفذت عنه لكثافته واظلامه فانعكست تلك التجليات كانعكاس الضوء عن المرآة فصار ذلك العكس مثالا لهذا العالم ، نوريا صاعدا بازاء المثال النورى النازل وحصل من كثافة هذا العالم ظل ظلمانى تحته فصار مثالا ظلمانيا وهذا المثال الظلمانى محل للشياطين وابالستها والجنة وعفاريتها، وبهذا العالم يصحح الجحيم ودركاتها وحميمها وحياتها وجميع موذياتها وبه يتم الارض وطبقاتها، ولا حاجة لنا الى تأويل شيء مما ورد فى الشريعة المطهرة من امثال ما ورد في المعاد الجسمانى والجنة والشياطين وغير ذلك كما فعله المشاؤن والاشراقيون من الحكماء، ولا الاكتفاء بمحض التقليد والسماع عن صادق من غير تحقيق وتفتيش عن حقيقة ما ورد، كما قنع به الشيخ الرئيس فى المعاد الجمسانى لانكاره العالمين، وكما قنع به المقلدون الذين ليس شأنهم التفتيش والتحقيق بل نقول: هذا باب من العلم ينفتح منه الف باب لاهل التحقيق والبصيرة، واهل الله من اهل المكاشفة اكتفوا في بيان هذا الباب بالاشارات من غير كشف حجاب اقتفاء لسنة السنة وسيرة الكتاب ولم يأت احد منهم بما فيه تحقيق وتفصيل اتباعا لاصحاب الوحى والتنزيل، ولاهل العالم السفلى كاهل العالم العلوى لتجردهم عن المادة قدرة وتصرف في اجزاء العناصر والعنصريات اى تصرف شاؤا، وللعنصريات بواسطة مادتها جهة قبول عنهم من غير اباء وامتناع، ومن هنا وهم الثنوية لما كاشف رؤساؤهم هذين العالمين وشاهدوا تصرف اهلهما في عالم العناصر فقالوا: ان للعالم مبدئين نورا وظلمة او يزدان واهريمن، ومن هنا وهم الزنادقة من الهنود لما كاشف رؤساؤهم العالم السفلى من الملكوت وشاهدوا تصرف اهله في عالم العناصر ولم يفرقوا بين الارواح الخبيثة والطيبة، لان للارواح الخبيثة كالارواح الطيبة نورانية عرضية مانعة عن ظهور ظلمتها لمن لا يشاهد الارواح الطيبة، فقالوا ان طريق الاتصال بعالم الارواح متعدد؛ طريق الانبياء والرياضة بالاعمال الشرعية وهذا ابعد الطرق، وطريق الرياضة بالمخالفة للشرائع الآلهية وهذا اقرب الطرق؛ فيرون ان اعظم الاعمال فى هذا الباب سفك الدماء وشربها وخصوصا دم الانسان والزنا وخصوصا مع المحارم فيسفكون الدماء ويجعلونها فى الدنان ويشربون منها ويشربون من يدخلونه فى طريقهم منها ويزنون مع النساء المحصنات فى حضور الازواج، ويهتكون الكتب السماوية بتعليقها فى المزابل وغير ذلك من الشنائع وهم صادقون فى انها اعظم الاعمال فى الوصول الى الارواح، لكنهم مغالطون بين الارواح الخبيثة والارواح الطيبة ويقصرون الارواح فى الارواح الخبيثة ولا يدرون ان الاتصال بها اصطلاء فى النار ودخول فى الجحيم مع الاشرار.
وامثال هذه المغالطات لاصحاب الملل والاديان ايضا كثيرة فيرون اقبح ما يأتونه حسنا عصمنا الله من العمه والعمى وحفظنا من السفه والردى. والحاكم فى العالم العلوى هو العقل الذى هو حقيقة متحققة حقيقته عين التعقل والادراك، والحاكم فى العالم السفلى هو ابليس الذى هو حقيقة متحققة حقيقته عين الجهل، وحديث العقل وجنوده والجهل وجنوده المروى عن الصادق (ع) فى الكافى اشارة الى هاتين لا الجهل الذى هو عدم ملكة لا حقيقة له، واخبار خلقة الانسان من امتزاج الطينتين اشارة الى انموذج العالمين وحيثية قبوله لتصرف الطرفين فكل من عمل سوء فبجهته الظلمانية وحكومة ابليس الذى هو الجهل وتسخيره، وكل من عمل خيرا فبجهته النورية وحكومة العقل فلا شر الا بالجهل ولا خير الا بالعقل فقوله تعالى: { بجهالة } بيان لانه لا يكون السوء الا بجهالة يعنى الا بتسخر عامله للجهل لا تقييد لفعل السوء، وعن مولينا ومقتدانا ومن هو كالروح في ابداننا وعن انفاسه القدسية اوراق ارواحنا جعفر الصادق (ع) كل ذنب عمله العبد وان كان عالما فهو جاهل حين خاطر بنفسه في معصية ربه (الى آخر الحديث) وفى ايراد لفظ السوء مفردا من غير مبالغة والتقييد بالجهالة اشارات لطيفة الى ان من له استعداد التوبة بعدم ابطال الفطرة، مساويه وان كانت كثيرة فهى قليلة مفردة فى جنب ما يمحوها من الفطرة، وانها وان كانت بالغة فى القبح فهى ضعيفة غير بالغة، لان مصدرها الجهالة العرضية وان مصدرها وان كان نفس هذا الانسان لكن سببها الجهل الذى هو مغاير لها بخلاف ذلك كله من لم يكن له استعداد التوبة كما يأتى فى الآية الآتية { ثم يتوبون من قريب } اى من غير بعد عن دار العلم ومقامه الاصلى بالتمكن فى دار الجهل والتجوهر به بابطال الفطرة سواء كان مع القرب الزمانى او مع البعد الزمانى حتى لا ينافى الاخبار فى سعة زمان التوبة ولا يبقى بين من ذكر فى الآيتين واسطة { فأولئك يتوب الله عليهم } فى وضع المظهر موضع المضمر وادائه اسم الاشارة وتقديمه على المسند وتكرار لفظة الله من تفخيم شأنهم وتأكيد الحكم ما لا يخفى { وكان الله عليما حكيما } عطف فيه تعليل لان اقتضاء حكمته التى هى مراقبة الامور الدقيقة واعطاء كل ذى حق حقه جليلا كان او حقيرا مع العلم باستعداد العباد واستقحاقهم حين توبة العبد وقربه من داره الاصلية واستحقاقه للقبول والوصول الى داره قبول توبته.
[4.18]
{ وليست التوبة للذين يعملون السيئات } بيان وتأكيد لمفهوم الآية الاولى كأنه تعالى قال: انما التوبة لهؤلاء لا لغيرهم، وفى ايراد السيئات بالصيغة التى فيها شوب مبالغة مجموعة محلاة باللام من غير تقييد بالجهل اشارة الى ان المسوفين للتوبة ابطلوا الفطرة ومن أبطلوا الفطرة صاروا متجوهرين بالجهل فلم يبق ميز واثنينية بين الجهل وذواتهم وان مساويهم لتجوهرهم بالجهل وان كانت قليلة القبح فهى بالغة فى القبح، وانهم عاملون لجميع السيئات لتجوهرهم بالجهل الذى هو مصدر الجميع، وكل من تجوهر بالجهل كل ما عمل فهو سيئة فكأنه قال: ليست التوبة للذين يعملون السيئات جميعها { حتى إذا حضر أحدهم الموت } يعنى عاين الموت كما فى الاخبار { قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما } وفى هذه الآية من التحقير والتأكيد ما لا يخفى وهذه الآية كأنها معترضة بين آيات الآداب لاستطراد ذكر التوبة.
[4.19-20]
{ يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النسآء كرها } كانوا فى الجاهلية يرثون نكاح ازواج مورثهم بالصداق الذى اصدقه المورث فنهوا عنه { ولا تعضلوهن } لا تمنعوهن عن النكاح ضرارا { لتذهبوا ببعض مآ آتيتموهن } كما هو شائع فى زماننا هذا { إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } ما يؤدى الى الشقاق مع الازواج فانه يحل لهم حينئذ الافتداء من المهر وغيره وخلعهن { وعاشروهن بالمعروف } حسن العشرة بما يستحسنه العقل والشرع ممدوح مع كل احد خصوصا مع من كان تحت اليد ولا سيما الحرة التى صارت مملوكة لك بسبب المهر { فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا } قيل كان الرجل اذا اراد جديدة بهت التى تحته ليفتدى منها ويصرفه فى الجديدة فمنعوا منه.
[4.21]
{ وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم } مائه { إلى بعض } واستحل رحمه بما اعطاه { وأخذن منكم ميثاقا غليظا } هو الكلمة التى جعلها الله ميثاقا اكيدا بين الأزواج ورتب عليها احكاما كثيرة غليظة هى الاحكام التى للزوج على الزوجة وللزوجة على الزوج.
[4.22]
{ ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النسآء } وان علوا فتستحقوا عليه العقوبة { إلا ما قد سلف } فانه لا عقوبة عليه وذكر من النساء بيان لا تقييد { إنه كان فاحشة ومقتا } لان ذوى مرواتهم كانوا يسمونه نكاح المقت والولد منه المقتى { وسآء سبيلا } فانه سبيل اهل الجهل ويؤدى الى النار فى العاقبة ولم يجعلها الله تعالى فى عداد المحرمات الآتية فانه حيث قال:
حلائل أبنائكم
[النساء: 23] ينبغى ان يقول وحلائل آبائكم لان نكاح سائر المحرمات لم يكن شائعا بينهم كشيوعه فكان توكيد تحريمه وافراده بالذكر مطلوبا لشيوعه.
[4.23]
{ حرمت عليكم أمهاتكم } اى نكاحهن بقرينة الحال والمقام { وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت } تعميم الامهات للجدات والبنات للاحفاد مما يفيده ظاهر اللفظ ولا خلاف بين الفريقين فى حرمتها وان علون ونزلن وكذا العمات والخالات وان علون وهذا بيان المحرمات بالنسب والملاك هو ان اصولك وفروعك تماما واول فرع من اصولك والفروع التى نشأت من اول اصولك محرمة بالنسب والمحرمات بالسبب اما بالرضاع واما بالمصاهرة واما بالمانع فبينها تعالى شأنه بقوله تعالى { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة } بيان المحرمات بالرضاع مجملة بينها لنا اهل الكتاب { وأمهات نسآئكم } شروع فى بيان المحرمات بالمصاهرة.
اعلم ان الاحكام تابعة للعنوانات والعنوانات لمصاديقها العرفية فكل من صدق عليها عرفا انها امرأة فلان فامها محرمة عليه، ومن لم يصدق عليها عرفا انها امرأة فلان فظاهر الآية ان امها لا تكون محرمة النكاح ولا محللة النظر للرجل، وصدق هذه الاضافة اما بان يكون للمرء يد عليها بعد العقد المحلل او خلطة وخدمة من الطرفين او تمتع او مجامعة او غير ذلك من اسباب صدق هذه الاضافة، اما بمحض العقد متعة ففى صدق تلك الاضافة اشكال اذا كانت المعقودة صغيرة غير قابلة للاستتماع، وحمل ما ورد فى الاخبار من الاحتياج الى الدخول مع منافاتها لظاهر الآية على ما ذكرنا من تصحيح صدق هذه النسبة اولى من حملها على التقية حتى يلزم منه تحريم الفرج الحلال وتحليل النظر الحرام كأنهم (ع) قالوا: لا بد فى التحريم من صدق هذه النسبة، والدخول احد اسباب هذا الصدق فما شاع عندهم من تمتيع الصغائر لتحليل النظر الى الامهات فيه اشكال عظيم والاحتياط هو طريق السداد وهو ان يجتنب من النظر الى غير المواضع المستثناة من ام المعقودة الصغيرة وان يجتنب من تحليل بضعها ايضا ولا يحوم حول مثل هذه الشبهات.
تحقيق حرمة منظورة الاب والابن على الآخر
{ وربائبكم اللاتي فى حجوركم } ذكر فى حجور كم لبيان علة الحرمة لا انه تقييد { من نسآئكم اللاتي دخلتم بهن } تقييد للنساء ولذا لم يكتف به وبين مفهومه فقال تعالى: { فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم } وان نزلوا لا الذين سماهم الناس ابناءكم، وحليلة الرجل تصدق على المرأة بمحض العقد والمحلل واما ملك اليمين فهى وان كانت محللة بمحض عقد الملك لكنها لا تحرم بمحض هذا العقد من الابن او الاب على الآخر، لان عقد الملك قد يقع لمحض الخدمة وقد يقع لمحض التمتع وقد يقع لهما فاذا وقع عقد الملك فان ظهر امارات التمتع فى هذا العقد من لمس وتقبيل ونظر بشهوة فهو بمنزلة عقد النكاح يحرم مملوكة الابن على الاب وبالعكس، وان لم يظهر تلك الامارات فهى كسائر المملوكات وله التصرف فيها باى نحو شاء ولا تصير محرمة كحرمة المصاهرة فمنظورة الاب وملموسته بشهوة ان كانت مملوكة له فهى محرمة على الابن بالعكس، واما الحرة فالحاقها بالمملوكة قياس مع الفارق وليس عليها نص منهم عليهم السلام { وأن تجمعوا بين الاختين إلا ما قد سلف } فانه لا عقوبة عليكم فيما مضى وكان بجهالة منكم وهذا شروع فى بيان المانع { إن الله كان غفورا } يغفر ما يقع عن جهل { رحيما } لا يؤاخذ من لا يعمد فى مخالفته.
[4.24]
{ والمحصنات من النسآء } لكون بضعهن مملوكا للغير { إلا ما ملكت أيمانكم } كالمسبيات اللاتى لهن ازواج كفار فانهن محللة وكالاماء اللاتى تحت العبيد فان امرهم بالاعتزال وكذا بيعهن بمنزلة الطلاق { كتاب الله عليكم } اى كتب الله تلك الاحكام كتابا عليكم { وأحل لكم ما وراء ذلكم } هذا ايضا مجمل بينه لنا اهله فان سائر المحرمات بالرضاع والجمع بين المرأة وعمتها او خالتها بغير اذنهما غير مذكورة فى الآية السابقة وغير محللة { أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين } حافظين لانفسكم بالنكاح الشرعى غير زانين { فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن } اى فالنساء اللاتى استمتعتم بهن من جملة النساء فآتوهن اجورهن او فالمال الذى استمتعتم به من النساء فآتوه اياهن، ووضع الاجور على هذا موضع الضمير وفى لفظ الاستمتاع وذكر الاجور وذكر الاجل على قراءة الى اجل دلالة واضحة على تحليل المتعة { فريضة } فرضت فريضة او حال كونها مفروضة عليكم بالعقد { ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به } من اعطاء الزيادة على الفريضة او اسقاطهن شيئا من الفريضة { من بعد الفريضة } وفيه اشعار بكون الاجر من اركان عقد التمتع كما عليه من قال به، وروى عن الباقر (ع) لا بأس بان تزيدها وتزيدك اذا انقطع الاجل فيما بينكما تقول: استحللتك باجل آخر برضى منهما ولا تحل لغيرك حتى تنقضى عدتها وعدتها حيضتان { إن الله كان عليما حكيما } فحلل المتعة من علم ولغايات منوطة بالمصالح والحكم.
[4.25]
{ ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات } فان فى نكاحن تكاليف شاقة من النفقة والكسوة والمسكن والقسامة { ف } لينكح { من ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم } فاكتفوا بظاهر الايمان فان الله هو العالم بالسرائر فرب امة كانت افضل فى الايمان من الحرة والامة بحسب المعاش اخف عليكم { بعضكم من بعض } فى النسبة الى آدم (ع) والى الاسلام { فانكحوهن بإذن أهلهن } فانه بدون الاذن زنا { وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات } عفايف { غير مسافحات } زانيات { ولا متخذات أخدان } اخلاء فى السر { فإذآ أحصن } بالتزويج { فإن أتين بفاحشة } زنا { فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } يعنى ان العبيد والاماء يضربون نصف الحد فان عادوا الى ثمانى مرات هكذا يحدون وفى الثامنة يقتلون، وعن الصادق (ع) انما صار يقتل فى الثامنة لان الله رحمه ان يجمع عليه ربق الرق وحد الحر، وعن الباقر (ع) فى امة تزنى قال تجلد نصف حد الحر كان لها زوج او لم يكن لها زوج، وفى رواية لا ترجم ولا تنفى { ذلك } اى ترخيص نكاح الاماء { لمن خشي العنت منكم } اى التعب والاذى من العزوبة { وأن تصبروا } عن نكاح الاماء بالتعفف { خير لكم } لانهن فى الاغلب غير اصيلة غليظة الطبع والمضاجعة معهن مؤثرة فتؤثر فى نفوسكم وامزجتكم واولادهن يصيرون مثلهن ولا ينبغى لنطفكم ان تقع فى ارحامهن فيتولد لكم منهن ما لا يليق بكم { والله غفور } للسوءة اللازمة من نكاحن { رحيم } بالترخيص لكم فى نكاحهن حين العنت وترجيح التعفف عنهن مهما امكن حتى لا يرد عليكم من مضاجعتهن سوءة.
[4.26]
{ يريد الله ليبين لكم } ما هو صلاحكم في معاشكم ومعادكم بتلك الاحكام من تحريم المحرمات وتحليل المحللات وتسنين الاستمتاع بالنساء والترخيص فى المكروهات من نكاح الاماء وقت مساس الحاجة والتعفف عنهن مهما امكن { ويهديكم سنن الذين من قبلكم } من الانبياء لتقتدوا بهم { ويتوب عليكم } بخروجكم عن مشتهى انفسكم ودخولكم تحت امره بامتثال اوامره ونواهيه { والله عليم } فيعلم ما هو اصلح بحالكم { حكيم } فلا يأمركم بما ليس فيه صلاحكم.
[4.27]
{ والله يريد أن يتوب عليكم } كرره تأكيدا وتصويرا للمقابلة ترغيبا في اتباع اوامره واجتناب مخالفتها { ويريد الذين يتبعون الشهوات } كمن يمنع عن الاستمتاع بالنساء { أن تميلوا } عن الطريق المؤدى الى نجاتكم { ميلا عظيما } فهو حقيق بالاتباع وهم احقاء بالاجتناب.
[4.28]
{ يريد الله أن يخفف عنكم } بتشريع المتعة وترخيص نكاح الاماء حتى لا يثقل عليكم العزوبة، وفى الآية تعريض بمن يمنع عن المتعة وانه من الذين يتبعون الشهوات ويرد اخراجكم من سنن الانبياء وان يثقل عليكم العزوبة حتى تدخلوا فى الزنا { وخلق الإنسان ضعيفا } فلا يمكنه مقاومة الشهوة والصبر عنها حتى يدخل فيما يضره من الزنا ولذا رخص له المتعة ونكاح الاماء وقت خوف العنت ورجح له التعفف عن الاماء مع الامكان حتى لا يجانسهن بالمضاجعة لضعفه.
[4.29]
تحقيق تعميم الاكل والبطلان
{ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } تأديب فى الاموال والانفس.
اعلم ان الالفاظ كما سبق موضوعة للحقائق باعتبار عناوينها المرسلة من غير اعتبار خصوصية من خصوصيات المصاديق فيها كلية كانت ام جزئية، فان لفظة زيد مثلا موضوعة للذات المخصوصة من غير اعتبار حالة وخصوصية من حالاتها وخصوصياتها، فانه فى حال الصبا زيد وفى حال الشيخوخة ايضا زيد وكذا بحسب تجسمه وتجرده فانه فى حال كونه مع المادة زيد وفى حال كونه فارغا من المادة زيد متقدرا زيد ومجردا عن التقدر زيد، فلا شيء من خصوصيات الاحوال ولا من خصوصيات النشئات معتبرا فى وضعه ولا فى اطلاقه، واستغراب من لا يتجاوز ادراكه عن عوالم الحس وحصرهم المفاهيم على المصاديق الحسية حجة لهم لا لنا، فانهم بحسب نشأتهم لا يدركون مصاديق سائر النشئات فلا يمكنهم تعميم المفاهيم وفى الاخبار نصوص واشارات الى ما ذكرنا، بصرنا الله تعالى بها. فالاكل غير معتبر فيه خصوصيات الاكل الحيوانى من ادخال شيء فى الفم الحسى ومضغه بالاسنان وبلعه وادخاله فى البطن ولا خصوصيات الاكل ولا خصوصيات المأكول ولا خصوصيات شيء من النشئات فهو اسم لفعل ما به قوام الفاعل وقوته وازدياده باى نحو كان وفى اى نشأة وقع فلعب الاطفال أكل لهم بحسب اكل هو الخيال الحيوانى اللعبى، وتجارة التجار وزراعة الزراع ونكاح النكاح أكل لهم بحسب قوة من قواهم بل فعل كل فاعل فى اى نشأة كان أكل له، والمال اسم للمملوك فكلما كان الملك فيه اقوى كان بصدق اسم المال اولى، فالاعراض الدنيوية التى لا حيثية مملوكية لها الا ما اعتبره الشارع او ما اعتبره العرف حيث يعدون ما تحت يد الرجل ماله ومملوكه مال والقوى النفسانية التى تحت تصرف النفس ولا حيثية لها الا حيثية المملوكية للنفس اولى بصدق المال، وكذا العلوم والصنائع التى صارت ملكة او غير ملكة لكن كانت ثابتة فى خزانة العقل مال، والخطاب فى بينكم لجماعة الذكور سواء كانوا فى العالم الكبير او فى العالم الصغير الانسانى فى نشأة الطبع او فى غيرها والنساء مرادة ايضا تغليبا، والباطل يقال لفعل لا غاية له او لا غاية عقلانية او عرفية له، ولفعل لم يصل الى غايته، ولسنة وطريقة لم تبتن على اساس مستحكم، ولسنة لم تبتن على اساس آلهى، ويقال لما لا حقيقة له اصلا كالاعدام، ولما لا حقيقة له فى نفس الامر كالسراب، ولما لا تحقق له بالذات بل بالعرض كالماهيات، ولما لا تحقق له بنفسه بل بالعلة كالوجودات الامكانية، ولما اختفى تحققه بحيث يكون الغالب عليه الاعدام كالملكوت السفلى فانها باطلة لغلبة الاعدام عليها وان كان يصدق عليها ايضا بسائر معانيه، فالآية الشريفة بحسب مصاديقها لها وجوه عديدة بعضها فوق بعض: فاول مصاديقها ما هو اقرب الى فهم العوام من الاكل المعروف بالمضغ والبلع ومعناها لا تأكلوا بالمضغ اعراضكم الدنيوية بينكم بالطريق الباطل الذى لم يسنه الشارع ولم يبحه، او بالمبدء الباطل الذى هو النفس والشيطان فان الحاكم والمحرك للفعل اما النفس والشيطان او العقل والرحمن وقد علمت ان الشيطان باطل لغلبة الاعدام عليه، وثانيها لا تصرفوا اموالكم الدنيوية بينكم بالباطل بمعنييه وهو ايضا قريب من فهم العامة، وثالثها لا تفعلوا افعالكم بينكم بالباطل بمعنييه، ورابعها لا تفعلوا افعالكم التكليفية القالبية النبوية بالمبدء الباطل او بالغرض الباطل ، وخامسها لا تفعلوا افعالكم التكليفية القلبية الولوية بينكم بالباطل بمعنييه، وسادسها لا تصرفوا قواكم بينكم بالباطل، وسابعها لا تصرفوا ولا تأخذوا علومكم، وثامنها لا تصرفوا مدد حياتكم ومادة حيوتكم، وتاسعها لا تأخذوا مشاهداتكم ومشهوداتكم { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } بما سبق يمكن التعميم { ولا تقتلوا أنفسكم } اما مربوط بالمعطوف عليه لان صرف الاموال من غير معيار مورث لقتل الانفس والنهى عنه كالعلة للنهى عنه او حكم مستقل وتعميمه لا يخفى { إن الله كان بكم رحيما } علة لنهيه تعالى عن صرف الاموال بالباطل وقتل الانفس فان رحمته داعية الى هذا النهى كسائر التكاليف.
[4.30-31]
{ ومن يفعل ذلك } الصرف والقتل { عدوانا } لعدوان او فعل عدوان او عدى عدوانا او حال كونه عاديا او يفعل عدوانه ذلك على ان يكون تميزا يعنى من يفعل ذلك عن عمد وتجاوز عن حدود الله او عن عداوة من نفسه { وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا إن تجتنبوا كبآئر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم } كأنه قيل: واينا يخلو من صرف المال بالباطل خصوصا على ما فسر؟ - فقال: تسلية وتطييبا ان تجتنبوا (الى آخر الآية) وقد اختلف الاخبار والاقوال فى بيان الكبيرة ففى بعض هى سبع وفى بعض اكثر مع الاختلاف فى بيان انواعها فلا بد من ميزان به يوزن الاعمال ويجمع بين الاخبار والاقوال.
تحقيق الكبير والصغير
فنقول: الافعال من حيث انها حركات وسكنات لا توصف بالحسن والقبح لاشتراكها فى تلك الحيثية ولا من حيث نسبتها الى الانسان لاشتراكها فيها ايضا، ولا من حيث انواعها المخصوصة كالصوم والصلوة والجهاد والقتل والنهب والفساد لاتصافها بالحسن تارة والقبح اخرى، بل الحسن والقبح يلحقان الاعمال من حيث نسبتها الى العقل والجهل فكل عمل يصدر عن الانسان بحكومة العقل وطاعته خصوصا عقل الانبياء والاولياء الذين هم العقول الكلية المحيطة فى اى صورة كان العمل فهو حسنة وبحسب درجات الطاعة وقبول الحكومة بالشدة والضعف تتفاوت درجات الحسنة بالشدة والضعف والصغر والكبر، وكلما صدر عن حكومة الجهل وطاعته خصوصا الجهل الكلى الذى هو الشيطان فهو سيئة فى اى صورة كان وبحسب تفاوت درجات الطاعة وقبول الحكومة تتفاوت درجات السيئة بالشدة والضعف والصغر والكبر، فمن اراد طاعة الله ومتابعة اوامره فكلما صدر عنه بحسب هذه الارادة فهو حسنة لكنها ضعيفة واذا علم ان اوامر العقل التى هى اوامر الله لا تتميز عنده عن اوامر الجهل التى هى اوامر الشيطان بل لا بد من بصير نقاد وذى قلب وقاد اتصل بالعقل واخذ من الله حتى يبين له اوامر العقل من اوامر الشيطان وذلك النقاد هو النبى (ص) او الولى (ع) وعزم على الوصول اليه والاخذ منه، فكلما صدر عنه بحسب هذا العزم فهو حسنة اقوى من الاولى فاذا اتصل بهذا العالم وعاهد معه وبايع على يده وانقاد له واخذ الاحكام القالبية منه وهذا الاخذ والبيعة هو الاسلام فكلما صدر عنه بحسب هذا الانقياد وهذا الاخذ فهو حسنة اقوى من سابقتها. واذا علم ان الاسلام واحكام القالب قوالب لاحكام الباطن ولا يمكن له الوصول الى حضرة العقل الا من طريق الباطل ولا يمكن السلوك من طريق الباطن الى تلك الحضرة الا برفع المانع منه وارتكاب الباعث عليه وعلم انه لا يمكنه معرفة المانع والباعث الا بالاخذ من بصير حكيم وعزم على الوصول اليه والأخذ منه ففعله من جهة هذا العزم حسنة اقوى، واذا وصل الى هذا الحكيم وبايع معه على قبول احكام الباطن واخذ احكام الباطن منه وذلك الاخذ والبيعة هو الايمان صار مؤمنا وصار افعاله من هذه الجهة حسنات اقوى مما قبلها، وللايمان بعد ذلك درجات حتى وصل الى العقل وتحقق به وحينئذ يصير اصل الحسنات وفرعها واولها وآخرها؛ ان ذكر الخير كنتم اصله وفرعه واوله وآخره، وبالعكس من ذلك من تحقق بالجهل فهو اصل السيئة وفرعها واولها وآخرها ومن تحقق من افراد البشر بالجهل كان اقوى فى السوء من الجهل نفسه كما ان المتحقق بالعقل اقوى من العقل، ولذا كان على (ع) مقدما على العقل وجبريل وعدوه مقدما على الشيطان وكل ذى سوء حتى يحمل عليه معصية كل ذى معصية، ومن تمكن فى طاعة الجهل بحيث لم يبق عليه اثر من طاعة العقل فكلما فعل فهو معصية كبيرة ومن لم يتمكن فى طاعة الجهل بل بقى عليه اثر من طاعة العقل او ارادة طاعة العقل فما فعل من جهة طاعة الجهل فهو سيئة مغفورة ان شاء الله، ومن غلب عليه طاعة العقل او ارادة طاعة العقل ويطرء عليه طاعة الجهل حينا فما فعل من جهة طريان طاعة الجهل فهو لمة ممحوة ان شاء الله، وبين المراتب المذكورة فى الحسنات والسيئات درجات غير محصورة بحسب الشدة والضعف والمذكورة امهاتها، هذا بحسب نسبة الحسنة والسيئة الى الفاعل؛ وبهذا الاعتبار يصير شرب دعبل صغيرة وصلوة الناصبين كبيرة ولذلك ورد: لا صغيرة مع الاصرار، اى مع التمكن فى طاعة الجهل بحيث كلما تمكن من تلك المعصية وقع فيها: ولا كبيرة مع الاستغفار، اى مع بقاء طاعة العقل بحيث يحمله على الاستغفار وقد تعتبر النسبة بين انواع الحسنات والسيئات مع قطع النظر عن الفاعل او مع اعتبارها الى فاعل واحد من جهة واحدة فيعد بعضها احسن من بعض فى الحسنات وبعضها اغلظ من بعض فى السيئات، كالوطى الحرام اذا اعتبر من فاعل واحد فانه مع المحصنة والذكران اغلظ من الوطى مع غير المحصنة، والوطى مع امرأة غير محصنة اغلظ من الوطى مع البهائم، والوطى الحرام اغلظ من النظر الحرام، فمعنى الآية ان تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه باجتناب التمكن فى طاعة الجهل نكفر عنكم سيئاتكم التى تصدر عنكم بطاعة الجهل ونمحو لماتكم التى تعرض عليكم { و } بعد تكفير اثر الجهل الذى يمنعكم من الدخول فى دار كرامتى ومحوه { ندخلكم مدخلا كريما } ادخالا او مكانا كريما.
[4.32]
{ ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } التمنى طلب امر محال او طلب شيء من غير تهية اسباب وصوله ويجوز ان يراد كل من المعنيين والمراد بما فضل الله اما النعم الصورية من سعة العيش والامن والصحة والقوة والعظمة فى الجسم والجاه والمسكن والزوج والقوى والجوارح وغيرها او النعم الباطنة من الاخلاق والعلم والحكمة وحسن التدبير والالفة والزهد والطاعة وغيرها، والتعبير عن النعم بما فضل الله للاشارة الى علة النهى عن التمنى والامر بالسؤال من فضله ولما كان النهى واردا على التمنى اى الطلب من دون حصول الاسباب مقيدا بكون المطلوب النعم المتفضل بها الله على البعض كان المراد النهى عن كل من التمنى وقيده كأنه قال: لا تطلبوا شيئا بدون اسباب حصوله لانه { للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنسآء نصيب مما اكتسبن } فتوسلوا بالاسباب ولا تطلبوا نعم بعضكم لانها من فضل الله عليه فتوجهوا الى الله { واسألوا الله من فضله } فاشار الى علة النهيين ومفهوم مخالفتهما مع ايجاز، والسؤال اما بلسان القال ولا اعتداد به فان الاجابة والافضال بقدر الاستعداد، او بلسان الاستعداد والحال سواء كان مقترنا بلسان القال او لم يكن فانه لا يخفى على الله قدر الاستعداد وخفايا الاستحقاق { إن الله كان بكل شيء عليما } فكيف يخفى عليه قدر استحقاقكم ولما اشار فى هذه الآية الى توقف الافضال على الاستعداد والاستحقاق بالكسب وتوجه ان يقال ان الله تعالى قد يتفضل على عباده بمال مورثهم ولا استعداد بالكسب لهم هنا اشار تعالى الى الاستعداد والكسب هناك ايضا فان الاستعداد والكسب اعم من ان يكونا بالاختيار او بالتكوين فان التوارث لا يكون الا بين متناسبين بالنسبة الجسمانية وبهذه النسبة يكتسب كل من المتوارثين كيفية من الآخر وسنخية له بها يستحق افضال الله بمال احدهما على الآخر وايضا كل منهما لحمة من الآخر او كاللحمة فكسب احدهما اختيارا كأنه كسب الآخر او بين متناسبين بالنسبة الكسبية الاختيارية كعقد الملك فى مولى المعتق وعقد ضمان الجريرة فى ضامن الجريرة وعقد الاسلام والايمان فى النبى (ص) او الامام (ع) فقال { و } ليس للرجال والنساء ان يرثهم كل احد منتسبا او غير منتسب بل { لكل جعلنا موالي }.
[4.33]
{ لكل جعلنا موالي } مخصوصة في الارث اى اقارب مخصوصة او ذوى نسب مخصوصة نتفضل عليهم باستحقاق نسبة القرابة او نسبة العقد يرثون { مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم } عقد الملك او عقد ضمان الجريرة او عقد الاسلام والايمان يعنى اذا لم يكن قريب نسبى فالمولى المعتق بالتفصيل الذى ذكر فى الفقه، فان لم يوجد فضامن الجريرة، فان لم يوجد فالنبى (ص) او الامام (ع), وعلى ما بيناه فلا حاجة الى القول بالنسخ فى الآية كما قيل انه كان الرجل يعاقد الرجل بنحو عقد ضمان الجريرة فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف فنسخ بقوله تعالى: واولوا الارحام بعضهم اولى بعض { فآتوهم نصيبهم } المقرر فان لهم استحقاقا وكسبا { إن الله كان على كل شيء شهيدا } فيشهد دقائق الاستحقاق بحسب النسب واتى هنا بشهيدا وهناك بعليما لدقة الكيفية الحاصلة من النسب كأنها لا يمكن تمييزها الا بالمشاهدة فان العلم فى الاغلب يستعمل فى كليات الامور وفى العمل الحصولى والشهود فى جزئيات الامور والعلم الحضورى.
[4.34]
{ الرجال قوامون على النسآء } قائمون عليهن قيام الولاة على رعيتهم مراقبون احوالهن مقيمون اعوجاجهن كأن المنظور كان بيان وجه استحقاق التوارث بينهما فانه وان كان مستفادا من ذكر عقد الايمان لكن لظهور عقد الايمان فى الثلاثة السابقة كان يمكن اختفاء هذا ثم اتبعه ببيان آداب المعاشرة بين الازواج { بما فضل الله بعضهم على بعض } بتفضيله الرجال فى الجثة والقوة والادراك وحسن التدبير وكمال العقل { وبمآ أنفقوا من أموالهم } يعنى لهم فضيلة ذاتية وفضيلة عرضية بكل يستحقون التفضيل والتسلط فعليهم مراقبتهن وسد فاقتهن وقضاء حاجتهن وعليهن الانقياد وقبول نصحهم وحفظ غيبهم { فالصالحات } منهن لا يخرجن مما هو شأنهن وحكمهن بل هن { قانتات حافظات } لانفسهن واموال ازواجهن { للغيب } اى فى غيبهن عن الازواج او غيب الازواج عنهن على ان يكون اللام بمعنى فى او حافظات للاشياء الغائبة عن نظر ازواجهن من اموالهم وانفسهن { بما حفظ الله } نسب الحفظ هنا والتفضيل هناك الى نفسه اشارة الى ان كل من اتصف بصفة كمال انما هو من الله لا من نفسه { و } اما غير الصالحات { اللاتي تخافون نشوزهن } خروجهن عن طاعتكم فآداب المعاشرة معهن مداراة بالنصح وان لم يكففن فبالمهاجرة قليللا بحث لا تنافى قسامتهن فان لم تنجع فيضربهن بحيث لم يقطع لحما ولم يكسر عظما { فعظوهن } بالقول { واهجروهن في المضاجع } بالاستدبار عنهن { واضربوهن } فبين الافراد ترتيب { فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا } بالايذاء والتحكم بما لم يرخصه الشارع { إن الله كان عليا كبيرا } فلا تغفلوا فى اعلائكم على النساء عن علو الله عليكم فيورثكم الغفلة التعدى عليهن.
[4.35]
{ وإن خفتم } يا اولياء الزوجين او ايها الحكام { شقاق بينهما } اى الاختلاف والنزاع فان كلا من المتنازعين فى شق غير شق الآخر { ف } اصلحوا بينهما فانه من لوازم الايمان والقرابة والحكومة ولا تكلوهما الى انفسهما ف { ابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلهآ } يكونان بحسب القرابة شفيقين لهما مريدين للاصلاح ويكون ارادتهما للاصلاح مؤثرة فيهما فانه كما يكون امزجة الاقرباء متناسبة فى الصحة والمرض سريعة التأثر من احوالهم فى الاغلب كذلك يكون نفوسهم متناسبة فى الاغلب سريعة التأثر فالحكمان من الاقرباء { إن يريدآ إصلاحا } بينهما يؤثر ارادتهما فى نفوس الزوجين ويستعدان بذلك التأثر لافاضة التوافق من الله بينهما وان يستعدا لذلك { يوفق الله بينهمآ إن الله كان عليما } بما به يستعدان للتوافق فيأمركم به { خبيرا } بكيفية التوافق وهو اهل خبرة الاصلاح.
[4.36]
{ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا } لما أراد أن يبين آداب حسن النسبة مع الاحقاء ببذل المحبة وحسن الصحبة قدم نفسه لانه احق الاحقاء بحسن النسبة وبذل الخدمة وبين طريق حسن النسبة معه باخلاص العبودية ونفى الشركة فى العبودية لانحصاره فيهما واطلق طريق حسن النسبة مع غيره لعدم انحصاره فى امر مخصوص ورتب المستحقين للخدمة بحسب ترتبهم فى الاستحقاق ولتعميم الوالدين للروحانيين واستحقاقهما التفرد فى النظر وعدم الاشراك بهما ولذلك فسر الكفر والشرك فى الآيات فى تفاسير المعصومين (ع) بالكفر والاشراك بعلى (ع) او بالولاية قرنهما بنفسه، واسقط الفعل واخر المصدر ليوهم ان قوله بالوالدين عطف على الجار والمجرور وان المعنى { و } لا تشركوا { بالوالدين } احسنوا { إحسانا } بهما { وبذي القربى }.
تحقيق الوالدين وسائر الاقرباء وتعميمهم
والوالدان هما اللذان باعدادهما وحركاتهما المخصوصة اوجد الله نطفتك واصل مادتك وهذه السببية كلما كانت في شيء اقوى كان باسم الوالد احرى وان كان العامة العمياء يخصون هذا الاسم بالمعد لنطفتك الجسمانية غافلين عن كيفية تولدك الروحانى فالافلاك والعناصر آباء للمواليد، والعقل والنفس الكليان والدان لعالم الطبع، اذ بالقاء الافلاك بحركاتها الدورية وكواكبها التى هى كالقوى الانسانية الآثار على العناصر وقبول العناصر لها كتأثر النساء عن الرجال وقبول ارحامهن لنطفهم يتولد المواليد وتنمو وتبقى وهى فى بقائها ونمائها ايضا محتاجة الى تلك الآباء بخلاف حاجة الحيوان الى آبائها الجسمانية فانها بعد حصول مادتها وحصول قوام ما لمادتها مدة كونها فى الرحم غير محتاجة الى آبائها، وبالقاء العقل الكلى نقوش العالم على لوح النفس الكلية التى هى كالبذور يوجد عالم الطبع وعالم الطبع في بقائه محتاج الى ذينك الوالدين، هذا فى العالم الكبير واما فى العالم الصغير الانسانى فبعد تسويته يوجد آدم الصغير وحواء الصغرى بازدواج العقل والنفس وبازواجهما يولد بنو آدم وذريتهما، وبازدواج الشيطان والنفس الامارة يولد بنو الجان وذرية الشيطان، هذا بحسب التكوين فى العالمين، واما بحسب الاختيار والتكليف وهو مختص بالانسان الضعيف فقد جرت السنة الآلهية ان يكون توليد المواليد الاختيارية من القلب ومراتبه وجنوده الخلقية والعلمية والعيانية بتعاضد نفسين مأذونتين من الله وايصالهما اثر الامر الآلهى الى المكلف بتعاضدهما لتطابق التكليف والتكوين فان الاوامر التكليفية متسببة عن الاوامر التكوينية وموافقة لها، وان لم ندرك فى بعضها كيفية التوافق لعدم العلم بالتكوين وتلك السنة كانت جارية من لدن آدم (ع) الى زماننا هذا وتكون باقية الى انقراض العالم، وان لم يبق لها اثر ولا بين العامة منها ذكر ولا خبر. فان صحة الاسلام فى الصدر ودخول الايمان فى القلب ما كان الا بتعاضد شخصين يكون احدهما مظهرا للعقل الكلى والآخر مظهرا للنفس الكلية واخذهما البيعة العامة النبوية او البيعة الخاصة الولوية بالكيفية المخصوصة والميثاق المخصوص: انا وعلى (ع) ابوا هذه الامة يهديك؛
كل نفس معها سآئق وشهيد
[ق:21] يشهد لك،
واجعل لي وزيرا من أهلي
[طه: 29] يكفيك فمحمد (ص) وعلى (ع) مظهرا العقل والنفس الكليين وبالبيعة على ايديهما بتولد جنود العقل الاختيارية، واعداؤهما مظاهر الجهل والنفس الامارة الكليين وبالبيعة على ايديهم يتولد جنود الجهل الاختيارية، وقد فسر المعصومون (ع) الوالدين فى القرآن بمحمد (ص) وعلى (ع) وفسروا
وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم
[لقمان: 15] بالجبت والطاغوت، ويسمى الصوفية مظهر العقل بالمرشد ومظهر النفس بالدليل وبلسان الفرس " بيرارشاد وبير دليل " وبحسب تفاوت مظهريتهما وتصرفهما يكون احدهما مظهرا لاسم الله أوالرحيم والآخر مظهرا لاسم الرحمن وباعتبار هذه المظهرية والاثنينية قال تعالى:
قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن
[الاسراء:110] فان التخيير والترديد ليس باعتبار اللفظين فانهما آلتا الدعوة وليسا مدعوين ولا مفهومى اللفظين فانهما ايضا عنوانا المدعوين والمدعو لا محالة امر حقيقى لا امر ذهنى، والذات الاحدية التى هى مصداق ذينك اللفظين لا تكثر فيه فلا بد وان يكون المدعو امرين يكونان مظهرين لمفهومى هذين الاسمين حتى يصح هذا الترديد لا يقال: المراد ادعوا الذات الاحدية بلفظ الله او بلفظ الرحمن لانه يقال: ظاهر اللفظ غير هذا والحذف والايصال فى مثل هذا شاذ ينافى الفصاحة وتكرار ادعوا ينافيه وجعل ادعوا بمعنى سموا ايضا بعيد، فالمراد ادعوا مظهر اسم الله او ادعوا مظهر اسم الرحمن، والدعوة هى طلب المدعو للورود على الداعى والحضور عنده اما لان المطلوب منه حضور ذاته عنده اوامر غير ذاته يحصل من حضور ذاته وليس معناها مسئلة شيء من المدعو حاضرا كان ام غائبا وبهذا وامثاله استشهد الصوفية على ان المطلوب من دعاء الله او دعاء مظاهره هو حضور المدعو عند الداعى ويسمونه حضورا وفكرا.
تحقيق تمثل صورة الشيخ عند السالك
وبعضهم يقولون: لا بد ان يجعل السالك صورة الشيخ نصب عينيه ويسمون هذا الجعل والتصوير حضورا ويستشهدون بمثل ما ورد من قوله (ع): وقت تكبيرة الاحرام تذكر رسول الله (ص) واجعل واحدا من الائمة نصب عينيك؛ ولكنه بعيد عن الطريق المستقيم فان الحضور هو الاتصال بروحانية الشيخ وظهور مثاله لديك لا تصوير صورة مثل صورته وجعلها نصب العين فانها مردودة اليك ونوع كفر وشرك وبعد ما يقال انه كفر يقولون هو كفر فوق الكفر والايمان كما قال المولوى قدس سره:
جون خليل آمد خيال يار من
ظاهرش بت معنى او بت شكن
لكن نقول: تصوير صورة الشيخ بالاختيار وتقييد الخيال به من قبيل عبادة الاسم دون المسمى وتشبه بعبدة الاصنام وجحيم عاجلة ينبغى للعاقل العبور عنها كما قال المولوى قدس سره:
جملة دانسته كه اين هستى فخ است
ذكرو فكر اختيارى دوزخ است
لكن لا بد للسالك من العبور عليها. واحسنوا بذى القربى بعد الله والوالدين فان اولى الاحقاء بالاحسان ذوو القربى سواء كانوا جسمانيين ام روحانيين فى العالم الكبير او الصغير { واليتامى والمساكين } قد مضى تفسيرهما وتعميمهما { والجار ذي القربى } النسبية وتأخيره بلحاظ الجوار لا القرابة او المكانية { والجار الجنب } البعيد النسبى او المكانى وحق الجوار كما فى الاخبار الى اربعين دارا من الجوانب الاربعة او من كل جانب { والصاحب بالجنب } كالرفيق فى تعلم او حرفة او سفر { وابن السبيل وما ملكت أيمانكم } العبيد والاماء والاهل والخادم والخادمة وكل من كان تحت ايديكم فى الكبير او الصغير فلا تتأنفوا عن تعهد حالهم والتوجه والاحسان اليهم ان كنتم تريدون محبة الله { إن الله لا يحب من كان مختالا } استيناف فى موضع التعليل والمختال من يتأنف عن التوجه الى الغير حتى الوالدين الروحانيين ولا ينقاد لاحد حتى الوالدين الروحانيين ومن تأنف عن الانقياد للوالدين الروحانيين تأنف عن كل من سواه، ومن انقاد وتواضع للوالدين الروحانيين تواضع لمن سواهما فالمختال الحقيقى من لم يتواضع لوالديه الروحانيين { فخورا } اذا التفت الى غيره عظم نفسه وحقر غيره حتى والديه الروحانيين، ومن افتخر على والديه الروحانيين افتخر على كل من سواه الا اذا رأى حظ نفسه ممن سواه فانه حينئذ يتملق له وان كان يظن انه يتواضع، ولما كانت الولاية اصل الخيرات والقرابات، والتواضع لها اصل التواضعات، والاختيال والفخر عليها اصل الاختيالات والفخرات ومادتها، وعلى (ع) اصل الولايات وعدوه اصل الشرور والاختيالات صح ان يقال: ان المنظور اولا من الآية اختيال العدو وفخره على على (ع) ثم اختيال غيره بالنسبة الى الولاية والى غيرها، ولما كان المتكبر المعجب بنفسه لا يعد غيره الا اسباب انتفاعه كأنه لم يخلق غيره الا لاجل انتفاعه ولو بهلاكته وكان لا ينفق مما فى يده على غيره لانه خلاف حسبانه ويمنع غيره الذى يراه فى مرتبة من الانفاق على غيره حتى انه يمنع نفسه وغيره من انفاق القوى والمدارك والانانيات فى طريق امامه وولاية ولى امره ويكتم من الغير نعمه التى لا يرى فى اظهارها صيتا ومدحا وجلب حظ لنفسه ولو انفق او اظهر لم يكن ذلك الا بملاحظة حظ لنفسه فسر المختال الفخور بالوصف البيانى فقال تعالى: { الذين يبخلون }.
[4.37]
{ الذين يبخلون } صفة او بدل من، من كان مختالا او عطف بيان لواحد منهما او خبر مبتدء محذوف او مبتدء خبر محذوف، او مفعول فعل محذوف.
تحقيق معنى البخل والتقتير والتبذير
والبخل سجية تمنع الانسان من اخراج ما تحت يده ورفع يده عنه سواء كان من الحقوق الآلهية كالزكوة والخمس او الخلقية كالنفقات الواجبة والديون الحالة المفروضة كما ذكر او مسنونة كالزكوة وسائر الصدقات المستحبة والصنائع المعروفة وكالانفاقات المستحبة لنفسه وعياله واقاربه وجيرانه، ولذلك ورد عن رسول الله (ص)
" ليس البخيل من ادى الزكوة المفروضة من ماله واعطى البائنة فى قومه انما البخيل حق البخيل من لم يؤد الزكوة المفروضة من ماله ولم يعط البائنة فى قومه وهو يبذر فيما سوى ذلك "
، وانما سمى المال المنفق بالبائنة لانه كلما ينسب الى الانسان حتى وجوده من شأنه البينونة والمفارقه عنه الا وجه الله الباقى فانه ان كان من اعراض الدنيا فهو بائن فى نفسه وتبين وتنقطع نسبته ايضا عن الانسان بالموت او بالانتقالات الشرعية او بصروف الدهر، وان كان من قبيل القوى والجوارح والاعراض والجاه فهو ايضا يبين عن الانسان بالموت الاختيارى او الاضطرارى او بالحوادث الطارئة.
فان تكن الاموال للترك جمعها
فما بال متروك به المرء يبخل
اعلم ان السخاء فريضة متوسطة بين طرفى الافراط والتفريط اللذين هما التبذير والتقتير، وللتقتير مراتب عديدة بعضها يسمى بخلا وهو امساك ما فى يد الانسان وعدم قدرته على صرفه فى الوجوه المفروضة والمندوبة والمباحة، وبعضها يسمى شحا وهو امساك ما فى يده وتمنى ان يكون ما فى يد غيره فى يده كما ورد عن الصادق (ع): ان البخيل بخيل بما فى يده والشحيح يشح بما فى أيدى الناس، وعلى ما فى يديه حتى لا يرى فى ايدى الناس شيئا الا تمنى ان يكون له بالحل والحرام ولا يقنع بما رزقه الله، وللتبذير ايضا مراتب ولما كان الظاهر من الانسان من افعاله واقواله واخلاقه واحواله من المتشابهات التى لا يعلم تأويلها الا الله والراسخون فى العلم كان التمييز بين السخاء والتبذير والتقتير وبين مراتبها بحسب المعرفة وتشخيص جزئياتها الصادرة عن الانسان فى غاية الخفاء حتى على نفس الفاعل وان كانت بحسب العلم وكلياتها جلية قد فصلها علماء الاخلاق وبينوها بمرابتها فان الانفاق بحسب قصد المنفق والغاية المترتبة عليه والوجه المصروف فيه والشخص الموصول اليه يختلف حاله واسمه؛ فرب امساك كان خيرا من الانفاق الحسن ورب انفاق كان وبالا على المنفق، ونعم ما قال المولوى قدس سره:
منفق وممسك محل بين به بود
جون محل باشد مؤثر ميشود
اي بسا امساك كز انفاق به
مال حق را جز بامر حق مده
مال راكز بهر حق باشى حمول
نعم مال صالح كفت آن رسول
ولما كان اصل كل ما ينسب الى الانسان انانيته التى هى نسبة الوجود الى نفسه، واصل كل الانفاقات وغايتها وعلتها الغائية الانفاق من الانانية، واصل جميع ما ينفق عليه الولاية فمن انفق انانيته فى طريق الولاية بان يسلمها لولى امره بالبيعة الخاصة الولوية وقبول الدعوة الباطنة فان انفق من سائر ما ينسب اليه من حيث انتسابه الى الولاية على نفسه وعلى من تحت يده وعلى غيره بطريق الفرض او الندب او الاباحة كان انفاقه سخاء، وان امسك من هذه الجهة كان امساكه ممدوحا ولم يكن بخلا، ومن بخل بانانيته ولم ينفقها فى طريق الولاية فان امسك كان امساكه بخلا وان انفق كان انفاقه تبذيرا الا اذا كان الامساك او الانفاق فى طلب الولاية فانهما حينئذ يخرجان من اسم البخل والتبذير فعلى هذا صح ان يقال: ان المختالين الذين يبخلون بصرف انانياتهم فى طريق ولاية على (ع) { ويأمرون الناس بالبخل } والامتناع من صرف انانياتهم فى طريق الولاية يعنى الذين يعرضون عن الولاية ويصدون الناس عنها، وصح ان يقال ان الآية تعريض برؤساء منافقى الامة حيث كانوا يعرضون بعد محمد (ص) عن على (ع) ويمنعون الناس عن الرجوع اليه { ويكتمون مآ آتاهم الله من فضله } يعنى يعتذرون عن امساكهم بانه ليس لهم ما ينفقون ويكتمون ما كان لهم من النعم الظاهره والباطنة من قوة قواهم وحشمتهم وجاههم وعلومهم ومعارفهم ولما كان اشرف النعم الظاهرة والباطنة ما يطرء للانسان من الاحوال والاخلاق الآلهية التى تجعل الانسان فى حال طروها فى راحة وانبساط ولذة، واصل الكل نعمة الولاية ومعرفتها وكان اقبح اقسام الكتمان كتمان تلك الاحوال وهذا المعرفة عن نفسه بان يصير الانسان غافلا عن معرفته وعن لذة احواله او مغمضا عنهما وكان تلك ادل دليل على نبوة من اتصف وامر بها وولايته صح تفسير الآية بكتمان ما آتاهم الله من ادلة نبوة محمد (ص) او ادلة ولاية على (ع) مما عرفوه من كتبهم واخبار انبيائهم ومن القرآن واخبار محمد (ص) ومما وجدوه فى نفوسهم من الاخلاق الاخروية التى هى انموذج اخلاقهما واحوالهما { وأعتدنا } التفت من الغيبة الى التكلم تنشيطا للسامع { للكافرين } اى الكاتمين لنعم الله غير شاكرين لها باظهارها فان اظهار النعمة احد اقسام الشكر كما ان كتمانها احد اقسام كفرانها، ووضع الظاهر موضع المضمر للاشعار بان الكاتمين لنعم الله معدودون من الكفرة { عذابا مهينا } كما انهم اهانوا نعمنا بالكتمان وعدم الاظهار فان الله اذا انعم على عبد بنعمة احب ان يراها عليه وابتذال النعم وتحديثها بالفعال خير من ابتذالها بالمقال، ومن كتم علما ألجمه الله بلجام من النار.
[4.38]
{ والذين ينفقون أموالهم رئآء الناس } يعنى ان المختال جامع بين طرفى السخاء اى التقتير والتبذير لامتناعهم من اداء الحقوق المفروضة والمسنونة وصرفهم اموالهم فيما يتصورون انتفاعهم فى الدنيا به من مثل صيت وتعظيم من الناس وغير ذلك، والاول بخل مذموم والثانى تبذير ملعون { ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } من قبيل عطف العلة على المعلول فان عدم الايمان علة للانفاق فى سبيل الشيطان ولعدم الانفاق فى سبيل الله يعنى البخل { ومن يكن الشيطان } عطف على { إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا } او جملة حالية والمقصود التنبيه على ان المرائى فى الانفاق مبذر والمبذر قرين الشيطان ومن يكن الشيطان { له قرينا فسآء قرينا } لاداء اقترانه الى السجن والسجين وملك الشياطين فهو اشارة الى قياسات ثلاثة.
اعلم أن الانسان خلق مفطورا على التعلق والايتمار ومحلا لتصرف العقل والشيطان، ولما كان فى بد وخلقته ضعيفا غير متجاوز عن المحسوسات، والمحسوسات شبائك الشيطان كان تصرف الشيطان فيه اقوى واتم فما لم يساعده التوفيق ولم يصل الى شيخ من الله مرشد له الى طريق نجاته تمكن الشيطان منه بحيث لم يبق له طريق الى حكومة العقل ولا للعقل طريق الى الحكومة عليه، ولذلك قال ابو جعفر الاول (ع) فى حديث: من اصبح من هذه الامة لا امام له من الله عز وجل ظاهرا عادلا اصبح ضالا تائها؛ وان مات على هذه الحالة مات ميتة كفر ونفاق، وفى الآيات نصوص واشارات على وجوب الايتمار والايتمام بامام منصوص من الله، وفى الروايات عليه تصريحات ولكن كان على سمعهم وابصارهم غشاوة فيرجحون المفضول على الفاضل ولذا كان على (ع) يرى الصبر اجحى.
[4.39]
{ وماذا عليهم } استفهام انكارى يعنى البتة ليس عليهم كلفة دنيوية ولا عقوبة اخروية { لو آمنوا بالله واليوم الآخر } يعنى بالمبدأ والمعاد حتى ايقنوا ان النعمة من الله وان خزائنه لا تنفد بالانفاق وان اعماله يجزى بها { وأنفقوا مما رزقهم الله } قدم الايمان ههنا على الانفاق واخر عدم الايمان فى الآية السابقة عن الانفاق الريائى لكون الايمان بالله سببا للانفاق فى سبيل الله لعلم المؤمن بالله ان الكل من الله وان الانفاق لا يفنيه والامساك لا يبقيه فلذلك ولتشريفهم قال ههنا مما رزقهم الله ولكون عدم الانفاق فى سبيل الله دليلا على عدم الايمان بالله، ولما كان الامساك والتبذير دليلا على كفران كون النعمة من الله قال: والذين ينفقون اموالهم باضافة الاموال اليهم { وكان الله بهم عليما } حال وعدم الاتيان بقد لعدم قصد المضى او هو بتقدير قد او عطف على قصد التعليل يعنى علم الله بهم وهم فى طريق رضاه يستدعى عدم الوزر عليهم.
[4.40]
{ إن الله لا يظلم مثقال ذرة } مقدار ذرة هى اصغر النمل او جزء من اجزاء الهباء { وإن تك حسنة } قرئ بالنصب والرفع بتقدير تك ناقصة وتامة { يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما } قوله ان الله لا يظلم (الى آخر الآية) مستأنف او حال فى مقام التعليل لقوله: ماذا عليهم لانه يستعمل فى مثل المقام لنفى الوزر والعقوبة وللتعريض بالاجر فكأنه قال: لا وزر ولا عقوبة عليهم بل لهم الاجر لو آمنوا بالله لان الله لا يظلم حتى يعاقب المحسن ويضاعف الاجر للمحسن بحسب استحقاقه للاجر ويؤت المحسن من لدنه اجرا عظيما من غير استحقاق، وتسمية ما يعطيه من غير استحقاق اجرا لاستتباع الاجر له، او المراد ان الله يضاعف نفس الحسنة باعتبار جهتى النفس العمالة والعلامة فى النفس ويؤت من لدنه اجرا اخرويا خارج النفس على ما سبق من تحقيق تجسم الاعمال واستتباع تجسم الاعمال فى النفس الاجر الاخروى.
[4.41]
{ فكيف } يكون حال هؤلاء المختالين الموصوفين بالاوصاف السابقة من شدة الخوف والعقوبة { إذا جئنا من كل أمة } من امم الانبياء { بشهيد } هو نبيهم او من كل فرقة من فرق امتك بشهيد هو امامهم فى عصرهم او من كل امة من امم الانبياء ومن كل فرقة من فرق امم الانبياء ومن فرق امتك بشهيد هو نبيهم اووصى نبيهم وامامهم وقد اشير الى الكل فى الاخبار لكن لما كان المقصود منه تحذير المنافقين من الامة المرحومة عن مخالفة على (ع) والاوصياء من بعده ورد عن الصادق (ع) انها نزلت فى امه محمد (ص) خاصة بطريق الحصر { وجئنا بك } يا محمد (ص) { على هؤلاء } الامم والفرق، او على هؤلاء الشهداء او على هؤلاء الامم والفرق والشهداء { شهيدا } تشهد لهم وعليهم او تشهد لبعض وهم الانبياء والاوصياء ومن اقر بهم، وعلى بعض وهم المنكرون لهم الغير المقرين بهم.
[4.42]
{ يومئذ يود الذين كفروا } بالله او بالرسل أو بأوصيائهم وولايات اوصيائهم لكن لما كان المقصود تحذير منافقى الامة كان المقصود يود الذين كفروا بعلى (ع) وولايته { وعصوا الرسول } فى امره بولاية على (ع) فى غدير خم وغيره { لو تسوى بهم الأرض } قرئ بفتح التاء وتخفيف السين من التفعل ماضيا او مضارعا محذوف التاء، وقرئ بفتح التاء مشدد السين من التفعل مدغم التاء فى السين، وقرئ بضم التاء من التفعيل مبنيا للمفعول واستوت به الارض وتسوت وسويت مبنيا للمفعول اى هلك، ولفظة لو مصدرية او للتمنى والباء للتعدية والمعنى يودون فى ذلك اليوم مساواتهم للارض بان كانوا يدفنون فى ذلك اليوم او يوم غصب الخلافة او لم يبعثوا او كانوا ترابا ولم يخلقوا، او جعلوا قابلا محضا ولم يكن لهم فعلية اصلا { ولا يكتمون الله حديثا } عطف على يود والمعنى يومئذ لا يكتمون الله حديثا كما كانوا يكتمونه من خلفائه فى الدنيا، او عطف على تسوى والمعنى يودون لولا يكتمون الله حديثا فى الدنيا، وعلى ما بينا ان المقصود منهم منافقو الامة فهم يتمنون ان الارض تبلعهم فى اليوم الذى غصبوا الخلافة ولا يكتمون فى ذلك اليوم حديث الرسول (ص) فى حق على (ع) وقد اشير الى كل منهما فى الاخبار، ولما افاد فى السابق لزوم الايمان بالله ولزوم طاعة الرسول (ص) ولزوم اتباع الشهداء فى كل زمان ولكل فرقة اراد ان يبين كيفية المعاشرة مع الرسول والشهداء ومع نفسه فى عباداته وخصوصا اعظم العبادات التى هى الصلوة المسنونة من الاركان والاذكار المخصوصة او من سائر اقسامها وناداهم تلطفا بهم وجبرا لكلفة النهى بلذة النداء فقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا }.
[4.43]
{ يا أيها الذين آمنوا } اذعنوا بالله وبمحمد (ص)، او ارادوا الايمان بالله على يد محمد (ص)، او آمنوا على يد محمد (ص) بالبيعة العامة النبوية وقبول الدعوة الظاهرة، او آمنوا بالبيعة الخاصة الولوية وقبول الدعوة الباطنة { لا تقربوا الصلاة } الصلوة تطلق لغة على الدعاء والرحمة والاستغفار وشرعا على الافعال والاذكار الموضوعة فى الشريعة، وتطلق حقيقة او مجازا على المواضع المقررة للصلوة الشرعية، وعلى الذكر القلبى المأخوذ من صاحب اجازة آلهية، وعلى صاحب الاجازة الآلهية، وعلى الصورة المثالية الحاضرة فى قلب السالك من صاحب الاجازة، وعلى كل من مراتبه البشرية والمثالية والقلبية والروحية بمراتب الروحية وذلك لان الاسماء وضعت للمسميات من غير اعتبار خصوصية من خصوصيات المراتب فيها؛ فالصلوة وضعت لما به يتوجه الى الله ويسلك اليه بتسنين واذن من الله كما ان الزكوة اسم لما به ينصرف عن غير الله بتسنين واذن من الله، ويدل على ذلك ان الصلوة كانت فى كل شريعة ولم تكن بتلك الهيئة المخصوصة وقوله
الذين هم على صلاتهم دآئمون
[المعارج:23] يدل على العموم لعدم امكان ادامة الصلوة القالبية وكذا قوله:
رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة
[النور:37]، وكذا قول على (ع) فى بعض ما قال: انا الصلوة، فقلب على (ع) وولايته هى الصلوة التى هى عمود الدين، وان قبلت قبل ما سواها، وهى معراج المؤمن وهى بيت الله الذى اذن الله ان يرفع، وهى الكعبة، وهى المسجد الذى قال تعالى:
خذوا زينتكم عند كل مسجد
[الأعراف:31] وقال:
وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا
[الجن:18] وما يدخل من نفخة على (ع) فى القلب وهو الايمان الداخل فى القلب، وما يؤخذ من صاحب الاجازة الالهية من الذكر الجلى والخفى، وما يؤخذ من صاحب الاجازة من الصلوة القالبية كلها صلوة، وما يبينه صاحب القلب الذى صار قلبه متصفا بالصلوة من حيث ذلك الاتصاف كالمساجد هو ايضا صلوة كما انه بيت الله، فمن اخذ الصلوة القالبية من امثاله واقرانه او آبائه ومعلميه من غير تقليد عالم مجاز لم يكن علمه مقبولا ولو كان موافقا، وهكذا حال من تسرع الى الاذكار والاوراد ومن تسرع الى الذكر القلبى من غير اذن واجازة من شيخ مجاز لم ينتفع به ولم يكن صلوته صلوة حقيقة ولا عبادته عبادة، وقد ورد اخبار كثيرة فى ان العبادة بدون الولاية غير مقبولة ومردودة والولاية وقبولها عبارة عما يحصل بسببه الاجازة فى العبادة وكأنه تعالى اراد بالصلوة جميع معانيها بمثل عموم المجاز والاشتراك ولذلك قال: لا تقربوا؛ ليناسب جميع معانيها دون لا تدخلوا لئلا يتوهم ارادة بعض المعانى الدانية منه والنهى اعم من الحرمة والكراهة والنزاهة ولا اختصاص له بشيء منها واستعماله فى الموارد المخصوصة بحسب القرائن فى الحرمة او الكراهة لا ينافى عموم مفهومه.
تحقيق معنى السكر
{ وأنتم سكارى } قرئ بضم السين وفتحها جمعا وكهلكى جمعا او مفردا على ان يكون صفة لجماعة مقدرة وكحبلى مفردا، والسكر من السكر بمعنى السد ويسمى الحالة الحاصلة من استعمال شيء من المسكرات سكرا لسدها طرق تصرف العقل فى القوى وطرق انقياد القوى للعقل، ولا اختصاص لها بالخمر العنبية المعروفة بل كل ما يحصل منه تلك الحالة شربا او اكلا او تدخينا او غير ذلك فهو خمر النفس سواء حصل منه السكر المعروف كالفقاع والعصيرات المتخذة من غير العنب وكالبنج والجرس والافيون اولا كالحرص والامل والحب والشهوة والغضب والحسد والبخل والغم والفرح والنعاس والكسل الغالبة بحيث يغلب مقتضاها على مقتضى العقل بل الحالة الحاصلة المانعة من نفاذ حكم العقل وتدبيره سكر النفس من اى شيء ومن اى سبب حصلت، وقد اشير فى الاخبار الى تعميم السكر ففى خبر فى بيان الآية: لا تقم الى الصلوة متكاسلا ولا متناعسا ولا متثاقلا فانها من خلال النفاق، وفى خبر منه سكر النوم، ومنها سكر الشهوة الغالبة التى لا يفيق صاحبها عنه الا بقضائها، ويسمى الحالة الحاصلة بعد قضاء الشهوة من تدنس النفس بدنس الشهوة وتكدرها بكدورات الحيوانية، وتوغلها فى صفات البهائم جنابة، ولا اختصاص لتلك الحالة بشهوة خاصة بل كلما يدنس الانسان ويوغلها فى الحيوانية والبهيمية او السبعية فهو جنابة النفس حتى تفيقوا من سكركم { وتعلموا ما تقولون } لفظة ما استفهامية او موصولة او موصوفة يعنى حتى تعلموا الذى تقولون فلا تحرفوا الكلم عن مواضعه ولا تغيروه عن الصورة التى نزل عليها كما قيل: انها نزلت حين قرأ بعض الصحابة فى الصلوة حالة السكر، اعبد ما تعبدون ولما كان المتبادر من السكر سكر الخمر والمستفاد من الآية جواز هذا السكر وعدم جواز الدخول فى الصلوة معه ورد انها نسخت من حيث هذا الجواز المستفاد، ولما كان محض الافاقة من سكر النفس من دون رفع اثر التدنس منها غير مبيحة للقرب من الصلوة اضاف اليه قوله تعالى { ولا جنبا } يعنى لا تقربوا المساجد بالدخول فيها حرمة او كراهة، ولا تدخلوا فى الصلوة القالبية بمعنى انها لا تنعقد منكم ولا تقربوا الصلوة الحقيقية التى هى اذكاركم القلبية وافكاركم المثالية التى هى مثل مشايخكم ولا تقربوا قلوبكم وعقولكم التى هى قربانكم وصلوتكم ان كان لكم قلب وعقل ولا تقربوا الصلوات الحقيقية التى هى خلفاء الله فى ارضه جنبا يعنى فى حالة تدنسكم بادناس شهوات النفوس وغضباتها وفى حالة توغلكم فى عقباتها حتى لا تدنسوا الصلوات بادناس نفوسكم { إلا عابري سبيل } مطلقا فى المسجد الصورى او بشرط التيمم للدخول فى الصلوة القالبية او بشرط التيمم المعنوى للدخول فى الصلوات المعنوية { حتى تغتسلوا } بان تغمسوا ابدانكم فى الماء حتى تزيلوا ادناس ظواهر ابدانكم التى حصل عليها من الابخرة الغليظة الردية العفنة التى حصلت فى بشرتكم وسدت مسام ابدانكم التى بسببها ترويح ارواحكم الحيوانية وفى بقائها على ابدانكم احتمال امراض عديدة وحتى تتنبهوا من الاغتسال الظاهر وتنتقلوا الى لزوم اغتسال نفوسكم من ادناس رذائلكم بماء التوبة والانابة الى ربكم فتغمسوا انفسكم فى الماء الطهور الذى يجرى عليكم من عين الولاية التكوينية والتكليفية { وإن كنتم مرضى } بعد ما علم تعميم السكر من الاخبار سهل تعميم الجنابة، وبعد تعميم الجنابة سهل تعميم الفقرات المذكورة فى هذه الآية، وجملة الشرط والجزاء معطوفة باعتبار المعنى فان المعنى يا ايها الذين آمنوا ان كنتم سكارى فلا تقربوا الصلوة حتى تعلموا ما تقولون، وان كنتم جنبا فلا تقربوها حتى تغتسلوا، وان كنتم مرضى يعنى حين ارادة قرب الصلوة او حين الجنابة وارادة الاغتسال والاخير هو المتبادر من سوق العبارة وهذا المتبادر يدل على قصد العموم من الفقرات كما ان عدم التقييد بشيء منهما يدل ايضا على قصد العموم وان المراد ان كنتم مبتلين بالامراض البدنية المانعة من استعمال الماء الصورى او من طلبه وتحصيله، او بالامراض النفسانية المانعة من الغسل بماء الولاية او من طلبه وتحصيله فتيمموا واقصدوا تراب الذلة والمسكنة عند الله الذى هو اطيب من كل طيب بعد ماء الولاية، واقصدوا ترابا من وجه الارض طاهرا واظهروا اثر تراب الذل على وجوهكم المعنوية باظهار تضرعكم وخشوعكم وتبصبصكم عند ربكم، واثر تراب الارض الصورية على مقاديم ابدانكم { أو } ان كنتم { على سفر } يتعذر عليكم فيه استعمال الماء او تحصيله سواء كان سفركم فى الارض الصورية او فى طرق النفس للخروج من ديار الشرك التى هى ديار النفس فانكم مادمتم متحيرين فى طرق النفس اما لا تتذكرون بماء الولاية ولا تتمكنون من تحصيله او لا يليق بكم الاغتسال بعد فيه لتضرركم به { أو جآء أحد منكم من الغآئط } الغائط المنخفضة من الارض كانوا يقصدونها للنجو فكنى به عنه ولم يقل او على الغائط ليكون اوفق بسابقه واخصر لان من كان على الغائط لم يصح منه صلوة اصلا ولا يرد الصلوة ولم يقل، او على المجيء من الغائط لانه داخل فى قوله على السفر بلحاظ التأويل، ولم يقل اوجئتم من الغائط ليوافق السابق واللاحق فى المرفوع لارادة العموم البدلى من احد حتى يصح الحكم بحسب التنزيل وللاشارة الى ان كل واحد منكم جماعة واذا وقع واحد منكم او من قواكم وجنودكم فى سفل النفس ووهدتها فما دام هو فى تلك الوهدة كان حالكم حال السكران الذى لا يليق به قرب الصلوة اصلا، واذا انصرف من جهنام النفس كان حالكم حال الجنب المفيق من شهوة الفرج لكن لا يليق بكم استعمال ماء الولاية او لا تصلون اليه واذا اريد تصحيح ظاهر التنزيل يجعل او ههنا بمعنى الواو حتى لا يلزم جعل ما هو جزء الشرط قسيما له { أو لامستم النسآء } كناية عن المجامعة يعنى ان جامعتموهن وخالطتم نفوسكم باتباع مقتضياتها فلا يليق بكم استعمال الماء او لا تصلون اليه { فلم تجدوا مآء } للاستعمال بان لم تجدوه او تجدوه ولا تتمكنوا من استعماله، او المراد عدم وجدان الماء ويكون تعذر استعمال الماء غير مذكور مثل سائر مجملات القرآن { فتيمموا } يم وام بمعنى قصد اى فاقصدوا { صعيدا } اى ترابا او وجه ارض على خلاف فى معناه اللغوى { طيبا } اى طاهرا او مباحا وعلى اختلاف تفسير الصعيد اختلفوا فى جواز التيمم على الحجر والوحل، وان كان المراد بالصعيد مطلق وجه الارض فالآتية فى سورة المائدة تدل على عدم جواز التيمم بما ليس فيه غبار مثل الحجر الصلد والوحل حيث قال تعالى هناك: { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم } منه والاخبار تدل على جواز التيمم بالتراب ثم بما فيه غبار من اللبد وعرف الفرس وغيرهما، ثم بالوحل ثم الحجر لكن تدل على ان التيمم بغير التراب انما هو من باب الاضطرار { فامسحوا بوجوهكم } اى بعض وجوهكم وهذا من المجملات التى بينوها لنا { وأيديكم } عطف على وجوهكم اى بعض ايديكم وقد بينوها لنا ولم يدعونا حيارى لا ندرى اى شيء الممسوح، ولا حاجة لنا الى ان يقول كل منا بقول وان نجعل هوانا آلهنا والحمد لله رب العالمين { إن الله كان عفوا } يعنى رخص الله لكم القرب من الصلوة مع تدنسكم بادناس الطبيعة والنفوس من دون اغتسال ابدانكم بالماء الصورى ومن دون اغتسال نفوسكم بالماء المعنوى بشرط ظهور تراب الذل والمسكنة على مقاديم ابدانكم ومقاديم نفوسكم لانه كان عفوا كثير العفو عن عباده وتقصيراتهم وقصوراتهم، فلا يؤاخذكم بتدنسكم بادناس النفس والطبع والهوى { غفورا } يستر عليكم ما يبقى عليكم من اثر دنس الهوى فلا يطردكم عن حضرته بسبب ذنوبكم.
[4.44]
{ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا } حظا يسيرا { من الكتاب } اى كتاب النبوة بان دخلوا فى شريعة وقبلوا دعوة نبى دعوته الظاهرة مثل اليهود والنصارى والمسلمين الذين بايعوا محمدا (ص) بالبيعة العامة النبوية بان لا يخالفوا قوله ويطيعوا امره ونهيه وان كان نزول الآية فى احبار اليهود فالمقصود منافقوا الامة تعريضا الذين انحرفوا عن طريق الولاية ومنعوا غيرهم والآية تعجيب من حالهم التى كانوا عليها لان النصيب من الكتاب يقتضى الاهتداء الى اصحاب الكتاب والبيعة معهم وقبول ولايتهم لان الاسلام طريق الى الايمان وبه يهتدى اليه وذلك قال تعالى { يشترون الضلالة } والخروج من طريق الولاية وطريق القلب بالهدى الذى يحصل لهم من ظاهر اسلامهم لانه بضاعتهم المكتسبة من اسلامهم و { بالهدى } الذى هو فطرتهم ولا يقنعون به { ويريدون أن تضلوا } ايها المؤمنون عن { السبيل } الذى انتم عليه من ولاية على (ع).
[4.45]
{ والله أعلم } منكم { بأعدائكم } فلا تتخذوا كل من اظهر بلسانه محبتكم وولايتكم اولياء بل اكتفوا بولاية الله فى مظاهر اوليائه الذين امركم الله بولايتهم { وكفى بالله } فى مظاهره { وليا وكفى بالله نصيرا } فلا تطلبوا الولاية والنصرة من غير من امركم الله ورسوله (ص) بقبول ولايته وهو على (ع) واصرفوا وجوه قلوبكم عمن امركم بالصرف عنه.
[4.46]
{ من الذين هادوا } من بيانية والظرف حال عن الذين اوتوا نصيبا من الكتاب او من تبعيضية والظرف بنفسه مبتدأ لقوة معنى البعضية فى من التبعيضية سواء جعلت اسما او حرفا، او الظرف قائم مقام الموصوف المحذوف الذى هو مبتدأ { يحرفون الكلم عن مواضعه } بتبديل كلمة مكان كلمة، او باسقاط بعض من الكلم، او بصرفه عن مصاديقه الى غيرها بتمويه ان ذلك الغير مصاديقه او بصرفه عن مقاصده المرادة بتمويه ان غيرها مقصود من الكلم سواء كان ذلك عن علم بالمصداق والمقصود او عن جهل وهو تعريض بمنافقى الامة وبفعلهم بكلم الكتاب والسنة حيث كتموا بعضه وبدلوا بعضه وصرفوا بعضه عن مصداقه وبعضه عن مقصوده وهو يجرى ايضا فيمن اقام نفسه مقام بيان الكلم وصرفه عن مصداقه ومقصوده جهلا بهما كاكثر العامة { و } بيان التحريف انهم { يقولون سمعنا } بلسانهم { وعصينا } فى انفسهم لانهم لا يصرحون بالعصيان { و } يقولون { اسمع غير مسمع } بتبديل غير مسمع عن مقصوده الذى هو معنى غير مسمع مكروها الى معنى غير مسمع بالصمم او الموت { و } يقولون { راعنا } بصرف راعنا عن معناه ومفهومه العربى الى معناه الذى هو سب فى لغتهم { ليا بألسنتهم } التواء للحروف بالسنتهم من غير القصد الى معناه المعروف او التواء للكلم عن معناه المعروف المدحى الى المعنى الغير المعروف السبى { وطعنا في الدين } استهزاء بالدين بسبب ما يضمرونه من خلاف المعروف وهو مفعول مطلق قائم مقام فعله او مفعول له او حال وكذلك ليا { ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا } بتبديل راعنا به او بقصد هذا المعنى من راعنا { لكان خيرا لهم وأقوم } واعدل { ولكن لعنهم الله } ابعدهم عن الخير والصلاح { بكفرهم } بك { فلا يؤمنون إلا قليلا } ايمانا قليلا وهو الايمان ببعض ما يؤمن به من آيات الكتاب والرسل او الا قليلا منهم على ان يكون المستثنى فى الكلام المنفى التام منصوبا.
[4.47]
{ يا أيهآ الذين أوتوا الكتاب } من اليهود والنصارى ويكون تعريضا بامة محمد (ص) وتهديدا لهم اومن امة محمد (ص) على ان يكون الخطاب لهم ابتداء والاول اظهر { آمنوا بما نزلنا } من القرآن او من ولاية على (ع) { مصدقا } ومثبتا { ل } صدق { ما معكم } من التوارة والانجيل او مخرجا عن الاعوجاج والانحناء لما معكم من احكام النبوة وقبول طاعة النبى (ص)، وان كان المراد من ظاهر اللفظ اليهود والنصارى فامة محمد (ص) مقصودة تعريضا { من قبل أن نطمس وجوها } بمحو محاسنها واشكالها الفطرية والكسبية { فنردها على أدبارهآ أو نلعنهم } بتغيير صور تمام اعضائهم فنمسخم { كما لعنآ } ومسخنا { أصحاب السبت }.
اعلم ان الانسان خلق باطنه كظاهره مستوى القامة مشتملا على احسن هيئة يمكن له الانتقال، رجلاه منفصلتان من الارض لا كالنبات الغائر اصله فى الارض لا يمكنه الانتقال من مكانه، مستقيما قامته ورأسه مجردا بشرته محسنا صورته بانواع المحاسن الفطرية قابلة لانواع المحاسن الكسبية فكلما بالغ فى تصفيتها وتزيينها زاد حسنها وبهاؤها وحسن صورة بدنه بخطوطها واشكالها ووضع كل من محال قواها فى موضعه اللائق به وبصفائها وبهائها وطراوتها وتزيينها بتصفيتها من الدرن اللاحق بها والحاق ما يزينها بها وحسن صورة باطنه ببياضها بنور الاسلام واستنارتها بنور الايمان وتوجهها الى عالم النور وانفصالها عن عالم الزور وتزيينها بتصفيتها وازدياد عملها وتحسين اخلاقها بمتابعة من كان اخلاقه اخلاق الروحانيين فاذا اعرض الانسان عن الولاية عن غفلة او عن جهل لم يحصل لها تزينها، واذا اعرض عن علم كان كمن توجه الى قفاه، واذا تمكن فى هذا الاعراض صار وجهه المحاذى لمقاديم بدنه منصرفا الى قفاه كأنه مخلوق عليه، واذا استحكم فى التمكن صار ممسوخا بالمسخ الملكوتى، واذا استحكم هذا المسخ الملكوتى حتى غلب على الملك صار صورته الملكية ايضا مسخا وعد بعض الفلاسفة المسخ الملكى من المحالات؛ وتأويل ما ورد منه فى الشرعيات ليس فى محله { وكان أمر الله مفعولا } لا مانع من نفاذه فاحذروا ما اوعدتم، ولما كان المقصود من الآية السابقة تعريضا او اصالة امة محمد (ص) وقد امرهم بالايمان بما نزله وقد كان المراد مما نزل ولاية على (ع) كما سبق عللها بقوله تعالى { إن الله لا يغفر أن يشرك به }.
[4.48]
{ إن الله لا يغفر أن يشرك به } باعتبار اتم مظاهره الذى هو على (ع) وقد فسر بالشرك والكفر بولاية على (ع) لان الله لا يعرف ولا يدرك الا فى مظاهره شرك به فكأنه قال: يا امة محمد (ص) آمنوا بولاية على (ع) التى نزلناها مصدقة لما معكم من احكام الاسلام واحذروا فى مخالفته عن عقوبتى فانى لا اغفر لمن يشرك بولاية على (ع) فضلا عمن كفر بولايته { ويغفر ما دون ذلك } الشرك كائنا ما كان كبيرا او صغيرا { لمن يشآء } من شيعة على (ع) وفى الاخبار تصريح بما ذكر من تفسير الآيات بمنافقى الامة وولاية على (ع) مع ان عمومات الاخبار واشاراتها تكفى فى تفسيرها بذلك، فعن الصادق (ع) فى تفسير ما دون ذلك انه قال: الكبائر فما سواها، وفى حديث عن رسول الله (ص):
" لو ان المؤمن خرج من الدنيا وعليه مثل ذنوب اهل الارض لكان الموت كفارة لتلك الذنوب "
، والمراد بالمؤمن من قبل الولاية وفى آخر هذا الحديث: ان الله لا يغفر ان يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء لشيعتك ومحبيك يا على (ع) وعن الباقر (ع) يعنى انه لا يغفر لمن يكفر بولاية على (ع) ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء يعنى لمن والى عليا (ع) وعن على (ع) ما فى القرآن آية احب الى من هذه الآية { ومن يشرك بالله } باعتبار الشرك باتم مظاهره { فقد افترى إثما عظيما } عطف فى معنى التعليل، والافتراء يكون بالقول وبالفعل.
[4.49]
{ ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم } تعجيب من تزكيتهم انفسهم بعد ما سبق من حالهم وتهديد لهم والتزكية اما بمعنى نسبة الطهارة الى الانفس وعدها زاكيات طاهرات او بمعنى ازالة الدرن عن الانفس بأفعالهم وأذكارهم وكل واحد اما بالقول مثل ان قال انى لم اعص، واصوم كذا، واصلى كذا، وانفق كذا؛ وغير ذلك، او مثل ان داوم على ذكر اللسان بنفسه من دون اذن واجازة قصدا الى تحصيل كمال النفس وتطهيرها من نقائصها من غير مراياة، واما بالفعل مثل ان فعل الافعال الحسنة مراءاة واظهارا للناس انه زاهد راغب فى الآخرة، او مثل ان اشتغل بالافعال الحسنة والرياضات من قبل نفسه من غير مراءاة بل لتحصيل كمال النفس وطهارتها ظنا منه ان افعاله تزكى نفسه والكل خيال باطل فان المراءاة فعلا او قولا من اعظم المعاصى والعمل من قبل النفس لتزكيتها لا يزيد الا فى شقائها { بل الله يزكي من يشآء } يظهر طهارة من يشاء من دون حاجة الى اظهارهم، او يطهر من الادناس والرذائل من يشاء لا من اراد ان يزكى نفسه بعمله لانها فضل من الله لا يمكن اكتسابه بالعمل بل العمل ان كان بأمر خلفائه يعد النفس لقبول ذلك الفضل، والاية ان كانت نازلة فى اليهود والنصارى لقولهم:
نحن أبناء الله
[المائدة:18]، و
لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى
[البقرة:111] فالتعريض بمنافقى الامة الذين فى اقوالهم وافعالهم مراءاة فى نسبة الطهارة الى انفسهم قولا وفى رياضاتهم وعباداتهم الشاقة من قبل انفسهم قصدا للتفوق فى الكمال على اقرانهم، ولما توهم من هذا ان العمل لا ينجع فى طهارة النفس فمن شاء الله زكاه ومن لم يشأ لم يزكه رفع هذا الوهم فقال تعالى { ولا يظلمون فتيلا } بنقص اجر العامل او بعقوبته اذا وقع العمل على وجهه ولا بزيادة عقوبة العاصى.
[4.50-51]
{ انظر كيف يفترون على الله الكذب } فى نسبة الطهارة الى انفسهم او فى تحصيل الطهارة بفعلهم ظنا منهم ان فى فعلهم رضى الله واذنه ولما كان الافتراء على الله المندرج فى تزكيتهم انفسهم غير ظاهر على كل راء ومدرك اتى بلفظ انظر الدال على التأمل والتعمل فى الادراك بخلاف تزكيتهم وايمانهم بالجبت والطاغوت حيث يراهما كل راء { وكفى به إثما مبينا ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب } كمنافقى امتك وان كان نزوله فى اهل الكتاب فالتعريض بهم يتركون وصيك و { يؤمنون بالجبت } اسم صنم ثم استعمل فى كل ما عبد من دون الله { والطاغوت } مقلوب طيغوت مبالغة فى الطاغى سمى به الشيطان ثم كل من بالغ فى الطغيان { ويقولون للذين كفروا } اى فى حقهم { هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا } اصلهم على (ع) ثم الائمة من بعدهم ثم شيعتهم.
[4.52]
{ أولئك الذين لعنهم الله } بطردهم عن بابه وصرفهم عن الولاية والمتابعة لمن هو بمنزلته { ومن يلعن الله } عن باب الولاية { فلن تجد له نصيرا } لان النصرة هى الاعانة للمنصور فى جلب منفعة او دفع مضرة على سبيل الترحم عليه وهى موقوفة على معرفة المنافع والمضار ومعرفة الرحمة ومحلها فمن اعان رجلا على قتل محبوبه او شرب سم وترحم عليه فى ذلك لم يكن ذلك نصرة ولا ترحمه ترحما بل عداوة وسخطا وان سماه المحجوبون عن ادراك الاشياء كما هى نصرة، والعارف بحقائق الاشياء هم الا نبياء والاولياء (ع) ومن طرد عنهم لم يكن له ناصر فى الارض ولا فى السماء والناصرون له من هذه الجهة اعداء له حقيقه ولذلك يظهر يوم القيامة ان الاخلاء بعضهم كان لبعض عدوا الا الذين آمنوا فان خلتهم ونصرتهم من جهة ايمانهم توجب قربهم الى باب الولاية ثم صرف القول عن التابعين الى المتبوعين فقال تعالى { أم لهم }.
[4.53]
{ أم لهم } اى للمتبوعين { نصيب من الملك } حتى يستحقوا بذلك الاتباع وان فرض ان لهم نصيبا من الملك { فإذا لا يؤتون الناس } الذين هم المتحققون بالانسانية وهم الاولياء واصلهم على (ع) فكيف بأشباه الناس والنسناس { نقيرا } والنقير النقطة التى فى وسط النواة يمثل به فى الحقارة والمعنى انهم ليس لهم نصيب من الملك حتى يطمعوا فيه فيتبعوهم وحالهم ان لو كان لهم نصيب من الملك لما اتوا الناس شيئا حقيرا منه فكيف بهم وهم نسناس فلا ملكهم يقتضى الاتباع ولا حالهم ثم صرف القول الى الاتباع والمتبوعين جميعا فقال تعالى { أم يحسدون الناس }.
[4.54]
{ أم يحسدون الناس } يعنى هؤلاء الاتباع فى اتباعهم لغير الناس الذين هم رؤساء الضلالة والمتبوعون فى ترك اتباعهم للاولياء والاصل فيهم على (ع) وادعاء المتبوعية لانفسهم يريدون زوال فضل الله عن الناس والمقصود تقرير حسدهم والاصل فى الناس بعد محمد (ص) على (ع) وخلفاؤه { على مآ آتاهم الله من فضله } من الامامة والخلافة { فقد آتينآ آل إبراهيم } على رغم انوفهم وعمى عيونهم، وآل ابراهيم (ع) محمد (ص) وعلى (ع) وخلفاؤه صلوات الله وسلامه عليهم واضافهم الى ابراهيم (ع) للاشارة الى منقبة اخرى لهم حتى يزدادوا غيظا { الكتاب } اى النبوة فان مرتبة النبوة من جهة انها لنقوش الاحكام الآلهية من مرتبة الولاية يعبر عنها بالكتاب كما ان مرتبة الرسالة ايضا كذلك، لكن سيأتى انها المرادة بالملك العظيم وقد سبق فى اول الكتاب تعميم اطلاق الكتاب فيراد منه فى كل مقام معنى بحسب اقتضاء ذلك المقام.
تحقيق معنى الحكمة
{ والحكمة } الحكمة قوة بها يقتدر الانسان على ادراك دقائق الامور وخفايا المصنوع وعلى الاتيان بالمصنوع المشتمل على دقائق الصنع فهى باعتبار متعلقه مركبة من جزئين جزء علمى ويسمى حكمة نظرية وجزء عملى ويسمى حكمة عملية ويعبر عنهما بلسان الفرس " بخرده بينى وخرده كارى " وقد يعبر عن الحكمة بالاتقان فى العمل للاشارة الى احد جزئيها وقد يعبر عنها بالكمال فى العلم والاتقان فيه للاشارة الى الجزء الآخر، وقد تفسر بالاتقان فى العلم والعمل للاشارة الى كلا جزئيها والحكمة التى تذكر فى مقابلة الجربزة هى القوام فى تدبير المعيشة علما وعملا والجربزة افراطه، وهذه الحكمة هى من نتائج مرتبة الولاية فان الولى بتجرده يقتدر على معرفة دقائق الاشياء لعدم احتجاب شيء منه اذا اراد معرفته وعلى صنع دقائق المصنوعات لعدم تأبى شيء منه، والحكيم المطلق هو الله تعالى ثم الانبياء (ع) والرسل (ع) بجهة ولايتهم ثم خلفاؤهم ثم الامثل فالامثل. واول مراتب الحكمة ان تدرك دقائق صنع الله فى نفسك وبدنك وانك خلقت برزخا بين العالمين السفلى والعلوى وان نفسك خلقت قابلة صرفة لتصرف الملكوتين لا تأبى لها من تصرفهما، وان تصرف السفلى يؤديها الى السجن والسجين، وتصرف العلوى يجذبها الى قرب الملأ الاعلى، كل ذلك على سبيل المعرفة لا على طريق العلم، والمظنة كما هو طريق حكماء الاخلاق فانهم يقنعون بالعلم الكلى غافلين عن نفوسهم الجزئية فلا ينتفعون بعلمهم ثم تقدر على دقائق العمل لسد طرق تصرف الملكوت السفلى وفتح طرق تصرف الملكوت العلوى كقدرة على عليه السلام فى الغزاة على ترك الضرب حين ظفر بالعدو ورفع السيف للضرب فتفل فى وجه على (ع) فترك الضرب لهيجان النفس للضرب.
فاذا عرف الانسان بما ذكر وقدر وعمل ارتقى لا محالة الى مقام العبودية وهو مقام الفناء ومقام الولاية ثم اذا علم الله فيه استعداد اصلاح الغير رده الى بشريته بخلعة النبوة والرسالة او الخلافة وبصره دقائق الصنع فى الملك والملكوت واقدره على دقائق التصرف فى الاشياء وأخدمه جميع الموجودات وهو آخر مراتب الحكمة. والمراد بالحكمة ههنا الولاية لانها من نتائجها وهذا بيان الحكمة، وتحقيقها والتفسيرات المختلفة التى وقعت فى كلماتهم راجعة اليه مثل ان قيل: هى معرفة حقائق الاشياء كما هى، او: هى العلم الحسن والعمل الصالح، او: هى الاتيان بالفعل الذى له عاقبة محمودة، او: هى الاقتداء بالخالق بقدر الطاقة البشرية، او: هى التشبه بالإله فى العلم والعمل بقدر الطاقة البشرية { وآتيناهم ملكا عظيما } الملك اسم مصدر بمعنى ما يملك، ويطلق على كل مملكوك وعلى عالم الطبع خاصة لانه لا جهة فيه الا المملوكية بخلاف الملكوت التى هى مبالغة فى المالكية فانها وان كانت مملوكة من وجه لكن لها مالكية للملك كمالكية الجبروت لما دونها واللاهوت لما سواها، والمراد بالملك العظيم ههنا مقابلا للكتاب والحكمة هو الرسالة وخلافة الرسالة فانها لجمعها بين الوحدة والكثرة بنحو الكمال ملك لا اعظم منها وقد فسر فى الخبر بالطاعة المفروضة اللازمة لها، وبطاعة جميع الموجودات تكوينا اللازمة للولاية، وبملك القلوب. وتكرار آتينا للاشارة الى استقلاله بالامتنان والانعام.
[4.55]
{ فمنهم من آمن به } عطف باعتبار المعنى كأنه تعالى قال بعد ارادة على (ع) من الناس المحسودين، وذكر اعطائه من فضله تصريحا والكتاب والحكمة والملك العظيم تعريضا ينبغى ان يؤمنوا به ولا يخرجوا من طاعته لكنهم تفرقوا واختلفوا، او عطف على محذوف جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: ما فعلوا به؟ - فقال: اختلفوا فيه فمنهم من آمن به كسلمان واقرانه { ومنهم من صد عنه } اعرض او منع غيره { وكفى بجهنم سعيرا } يعنى ان لم نعاقبهم فى الدنيا فكفاهم جهنم فى الآخرة والجملة عطف على منهم من صد عنه من قبيل عطف الانشاء على الخبر او باعتبار لازم معناه كأنه قال: ومنهم من صد عنه وهم المعاقبون فى النار.
[4.56-57]
{ إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا } تفصيل لحال المؤمنين به والصادين عنه وتقديم حال الصادين لقصد كون الافتتاح والاختتام بحال المؤمنين كأنه قال: اما الذين صدوا عنه واما الذين آمنوا به؛ لكن اداه هكذا اشارة الى تعليل قوله كفى بجهنم سعيرا والى كونهم كافرين وان عليا (ع) اعظم الآيات وان الكافر به كافر بجميع الآيات { كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب } اختلف كلمات الحكماء والصوفية فى كيفية خلود اهل النار وعذابهم الدائمى واصحاب الشرائع مطبقون على خلودهم وان المحكوم بكونه اهل السجين لا نجاة له من داره وان لكل دار عمارا هم اهلها لا يخرجون منها ابدا، وتبديل جلودهم يكون بحسب ملكاتهم الردية وعقائدهم الفاسدة واخلاقهم الكاسدة فانها من فروع الشجرة الخبيثة التى اجتثت من فوق الارض ما لها من قرار، والمراد بالجلود اما جلود الابدان او جلود الارواح وهى ابدانهم الخبيثة، والسؤال بان المعاقب يصير غير المذنب ساقط من اصله لا جواب له { إن الله كان عزيزا } لا مانع له من حكمه وعقوبته { حكيما } لا يعاقب من غير استحقاق { والذين آمنوا } بعلى (ع) { وعملوا الصالحات } حتى كسبوا فى ايمانهم خيرا { سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيهآ أبدا لهم فيهآ أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا } ثم صرف القول الى الناس المحسودين بالخطاب لهم فقال تعالى: { إن الله يأمركم }.
[4.58]
{ إن الله يأمركم } ايها الناس المحسودون الذين اتاكم الله من فضله واتاكم الكتاب والحكمة والملك العظيم { أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } شكرا لما انعم به عليكم اى: لا تعطوها غير اهلها فتظلموها، ولا تمنعوها اهلها فتظلموهم، والخطاب خاص بهم لكن يعم الامر غيرهم ايضا لكونهم مأمورين بالتأسى بهم ولذلك عمموا الآية فى الاخبار.
تحقيق معنى الامانات
والامانة ما يودع عند الامين قصدا الى حفظه ونمائه ان كان له نماء، وامانات الله عند الانسان كثيرة منها الامانة التى عرضها الله على السماوات والارض وهى اصلها واساسها واشرفها وانماها وهى اللطيفة السيارة الانسانية التى لا جوهر اشرف منها فى خزائنه تعالى، ولما اراد اخراجها من خزائنه وكان لها لنفاستها اعداء كثيرة طلب لها مأمنا من سماوات الارواح فلم يكن فيها مأمن لايداعها، ثم عرضها على اراضى الاشباح من الملكوتين وجملة عالم الطبع فلم يجد لها مأمنا، ثم عرضها على المواليد الجماد والنبات والحيوان فلم تكن لها باهل، ثم عرضها على عالم الانسان فوجده اهلا لها فاودعها فيه وقبلها الانسان؛ فلما اودعها الانسان وكانت لشرافتها ونفاستها كثيرة الطلاب والسراق من اهل العالم السفلى ولم يمكنه المدافعة من دون امداد من صاحب الامانة جعل الله تعالى له جنودا من اهل العالم العلوى وامره بحفظها وانمائها حتى اذا طالبها سلمها سالما ناميا زاكيا، فمن امتثل امره تعالى وجاهد مع طلابها وسراقها وحفظها عن ايدى السراق وانماها وزكاها صار مستحقا للخلع الفاخرة البهية والمنصب العالى الولاية والنبوة والرسالة والخلافة والجلوس فى مقعد الصدق عند المليك المقتدر، ومن اهمل رعايتها حتى اختطفها سراقها صار مستحقا للسجن والعقوبات، ثم بعد تلك الامانة الامانات التى اودعها الله الانسان لحفظ تلك الامانة سوى الجنود العلوية التى عدها لامداد الانسان فى حفظها وهى المدارك والقوى والاعضاء الظاهرة والباطنة وامره بحفظها لان لها ايضا طلابا وسراقا من العالم السفلى، وامره بان يؤديها الى اهلها الذى هو العقل ثم قوة قبول التكاليف وامره ان يؤديها الى اهلها الذى هو العقل فى مظاهره البشرية بان عرضها عليه وسلمها لامره ونهيه ثم التكاليف القالبية النبوية الحاصلة له بالبيعة العامة، وامره ان يؤديها بعد حفظها واستنمائها الى اهلها الذى هو صاحب التكاليف القلبية بان عرضها عليه سالمة نامية، ثم التكاليف القلبية الباطنة التى اخذها من صاحب الدعوة الباطنة بالبيعة الخاصة الولوية وقبول الدعوة الخاصة، وامره ان يؤديها الى اهلها الذى هو صاحب الدعوة التامة والولاية المطلقة اعنى عليا (ع) فاذا استكمل له هذه الامانات وحفظها انماها وسلمها الى اهلها وارتضاها منه ورضى عنه اودعها امانات شريفة نفيسة هى ودائع الخلافة الآلهية فى العالم الكبير فى لباس النبوة او الرسالة او الخلافة او الامامة وتلك اشرف الامانات بعد الامانة الاولى؛ وهى مختلفة فمنها ما هى من قبيل التكاليف ولها اهل وهم المستعدون لقبولها والعمل بها، وبعضها من قبيل الخلافة ولها اهل وهم المستعدون لاصلاح الخلق والتبليغ لهم كالمشايخ والنواب الذين كانوا خلفاء الانبياء (ع) والاولياء (ع)، وبعضها هو اصل الخلافة الآلهية ولها اهل وهم الذين يقومون مقام الانبياء (ع) والاولياء (ع) بعد رحلتهم ويصدق على امانات الناس التى هى من الاعراض الدنيوية ايضا انها امانات ولها اهل وهم صاحبو الامانات { وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } يعنى لم يكن الحكومة حتما عليكم وانتم فيها بالخيار لكن اذا حكمتم يأمركم ان تحكموا بالعدل اى بسبب العدل الذى فى ايديكم مما نزل على محمد (ص) من السياسات، او بآلة العدل التى هو السياسات الآلهية او ملتبسين بالعدل والتسوية بين الخصمين او بالعدل والاستقامة خارجين عن الاعوجاج الذى هو من مداخلة الشيطان او حالكون حكمكم متلبسا بالعدل والتسوية، والعدل بين الخصمين هو التسوية بينهما فى المجلس والتخاطب والشروع فى الخطاب والتوجه والبشر بل فى ميل القلب، فان التسوية فى ذلك خروج عن الاعوجاج اذا كانا مسلمين فانهما ان كانا مسلمين وما سويت بينهما كنت جائرا، وكذا اذا لم تسو بينهما فى الميل القلبى من جهة الحكومة كنت معوجا بتصرف الشيطان { إن الله نعما يعظكم به } فتقبلوا عظته، هذه جملة معترضة { إن الله كان سميعا بصيرا } تعليل لاداء الامانة الى اهلها والحكم بالعدل وتحذير عن المخالفة.
[4.59]
{ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله } فيما انزل ولا سيما عمدة ما انزل وهى ما به صلاحكم ورفع نزاعكم ورد خلافكم وهو تعيين من ترجعون اليه فى جملة اموركم الدنيوية والاخروية وفيما اشتبه عليكم وهى قوله
إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا
[المائدة:55] (الى آخرها) فانه لا خلاف بينهم انه فى على (ع) { وأطيعوا الرسول } فيما آتاكم وفيما نهاكم عنه
ومآ آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا
[الحشر:7] ولا سيما عمدة ما آتاكم وهى قوله بعد ما قال: الست اولى بكم من انفسكم، الا ومن كنت مولاه فهذا على (ع) مولاه؛ ولا خلاف بينهم انه من الرسول (ص).
تحقيق معنى اولى الامر
{ وأولي الأمر منكم } لم يكرر اطيعوا اشارة الى تعيين اولى الامر وان اولى الامر من كان شأنه شأن الرسول وامره امره وطاعته طاعته حتى لا يكون لكل طاعة غير طاعة الآخر، وتفسير اولى الامر بامراء السرايا والسلاطين الصورية الاسلامية نقض لصدر الآية او التزام نسخ له او التزام اجتماع النقيضين لانه لا نزاع فى وجوب طاعتهم فى امر الدنيا او لمحض التقية؛ انما النزاع فى طاعتهم فى امر الدين من غير تقية ويلزم منه ما ذكر، لان واو العطف للجمع والسلاطين بعضهم فساق وقد يكون امرهم خلاف امر الله وامر رسوله (ص) فلا يمكن الجمع بين الطاعات الثلاث فوجوب طاعتهم اما ناقض لوجوب طاعة الرسول (ص) او ناسخ له او التزام لاجتماع النقيضين، فان السلاطين الجائرة يكون امرهم بقتل النفس المحرمة مناقضا لنهيه تعلى عنه وكذا حال امرهم بشرب الخمر لندمائهم مع نهيه تعالى عنه، وتقريره انه اذا كان المراد باولى الامر السلاطين على ما زعموا يلزم وجوب طاعتهم فى جميع ما امروا ونهوا بصريح الآية وعدم ما يخصصه، لا يقال: المخصص هو صدر الآية فان الامر بطاعة الله والرسول (ص) مقدما على طاعة السلطان يفيد وجوب طاعة السلطان فيما لا ينافى طاعتهما، لانا نقول: يكون الامر بطاعة السلطان حينئذ لغوا لان امره ان كان مطابقا لامرهما فالامر بطاعة الاولين كاف عن ذلك الامر، وان كان منافيا فوجوب طاعتهما يفيد عدم وجوب طاعته، وان كان غير معلوم مطابقته وعدمها فاما ان نكون مأمورين بتشخيص المطابقة وعدمها ثم بالطاعة وعدمها فبعد التشخيص يأتى الشقان، او لم نكن مأمورين بتشخيص المطابقة فاما ان نلتزم ان امره مبين لأمر الله ورسوله ومطابق له فهو خلاف الفرض والتزام لمذهب الخصم، او لا نلتزم ذلك فيلزم حينئذ من الامر بطاعته الاغراء بالحرام من الله والتوالى باطلة، وكلما وجب طاعة السلاطين فى جميع ما امروا ونهوا يلزم وجوب طاعتهم فيما يخالف امر الله ونهيه ويناقضهما؛ فاما ان يكون وجوب طاعتهم مقدما على وجوب طاعة الله مع بقاء وجوبها فيكون نقضا او رافعا لوجوب طاعته وبيانا لانتهاء امد وجوبها فيكون نسخا او نلتزم بقاء الوجوبين فجواز اجتماع النقيضين، فان تعلق الامر والنهى بقضية واحدة فى زمان واحد مستلزم لجواز ايجاب تلك القضية وسلبها وهو التناقض.
فالحاصل ان ارادة السلاطين من اولى الامر مناقضة مع صدر الآية بخلاف ما لو اريد باولى الامر من كان شأنه شأن النبى وامره امره وعلمه علمه وكان معصوما من الخطاء والزلل، فان امره حينئذ يكون موافقا ومبينا لامر الرسول (ص) ولو لم يكن سوى هذه الآية فى اثبات مدعى الشيعة لكفت هذه ولا حاجة لهم الى غيرها مع ان عليه ادلة عديدة عقليه ونقليه دونها القوم فى تداوينهم، وتوسلهم بالاجماع وحديث لا تجتمع امتى على خطأ؛ يدفعه آية الخيرة، وحديث الغدير فى مشهد جم غفير بحيث ما امكن لهم انكاره على ان الاجماع محض ادعاء وافتراء لخروج بعض الصحابة عن البيعة وعدم حضور كثير فى السقيفة ورد جمع على ابى بكر الخلافة وتوسلهم بصلوته بالامة فى حال حياة الرسول (ص) حجة عليهم، لان النبى (ص) بعد ما افاق وعلم ان ابا بكر ام بالقوم خرج مع ضعفه وازاله عن مقامه قبل اتمام صلوته وام بنفسه، وهو دليل على انه لم يؤم القوم به بأمره وانه لا ينبغى له الامامة والا كان تقريره عليها فى حال حياته واجبا، وحديث: سيدا كهول اهل الجنة؛ يدفعه العقل والنقل لان اهل الجنة على اشرف الاحوال وهى حال الشباب كما ورد ان اهل الجنة جرد مرد، وحديث:
" لو لم ابعث لبعث عمر "
؛ يكذبه قول النبى (ص) فى حق من تخلف عن جيش اسامة ورده عليه فى أمره باحضار القلم والدواة لرفع النزاع، وقوله:
" ان الرجل ليهجر "
؛ وخلافه ابى بكر بلا فصل بزعمهم، ومواخاته (ص) مع على (ع) دونه، ووصايته باداء ديونه انجاز عداته (ص) الى على وانت منى بمنزلة هارون من موسى (ع) وكون على (ع) بمنزلة نفسه تحت الكساء، والمستحق للبعثة اولى بكل ذلك، وتأسى جبرئيل بأبى بكر فى لبس الصوف واسترضاء الله منه؛ يكذبه ان التأسى بالنبى (ص) اولى واسترضاء النبى (ص) اجدر مع انه سوف استرضاء النبى (ص) فقال:
ولسوف يعطيك ربك فترضى
[الضحى:5] وفرار الشيطان من هيبة عمر؛ يكذبه فراره من الغزاء فى احد، وآية:
إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا
[آل عمران:155] فى الفارين فى احد. والحاصل ان مقدماتهم التى نظموها شاعرين او غير شاعرين مختلة، فانهم حالا وقالا يقولون، ان ابا بكر لم يكن معصوما وكل من لم يكن معصوما يمكن ان يكون خليفة للرسول (ص)، فأبو بكر يمكن ان يكون خليفة للرسول، وكل من يمكن ان يكون خليفة واجمع الامة على خلافته فهو خليفة، فابو بكر خليفة؛ نقول: الصغرى فى القياس الثانى وهى ان ابا بكر يمكن ان يكون خليفة واجمع عليه الامة باطلة بحسب امكان خلافته كما يجيء وبحسب اجماع الامة كما عرفت، والكبرى فيه ايضا باطلة بآية الخيرة، والصغرى فى القياس الاول مسلمة بل نقول: ان ابا بكر مثل عمر تخلف عن جيش اسامة فضلا عن ان لم يكن معصوما، واما الكبرى فيه فهى فاسدة، لان الرسول (ص) كان له الرسالة والخلافة الآلهية وهى تقتضى ان يكون صاحبها كالآله ناظرا الى كل فى مقامه ومعطيا لكل حقه بحسب استعداده ولسان استحقاقه حافظا لكل باسباب حفظه، والا لم يكن خليفة الله وكان له السلطنة على كل من دخل تحت يده وهذه تقتضى التسلط عليهم بحسب الدنيا والتصرف فيهم بأى نحو شاء فان كان المراد بخليفته وامكان عدم عصمته هو خليفته فى السلطنة والغلبة فى الدنيا، فمسلم انه لا يجب عصمته بل يجوز فسقه؛ لكن الكلام فى خلافة الرسالة والسياسة الالهية وهذا الوصف يقتضى كون صاحبه كالرسول (ص) بصيرا ناقدا عالما بمرتبة كل واستحقاقه ولسان استعداده برزخا واسطة بين الخلق والحق موصلا كلا الى غايته والا كان مفسدا فى الارض ومهلكا للحرث والنسل، على انه ان لم يصدق الخلق بأنه بصير من الله عالم بخفيات الموجودات وجلياتها قادر على حفظ كل فى مرتبته وعلى اعطاء كل حقه لا يقع منهم اطاعته عن صميم القلب فلم ينقادوا له باطنا فلم ينتفعوا منه بحسب الآخرة، فان علموا انه غير معصوم ويجوز له الخطاء فيما القى اليهم فكيف يسلمون له وهذا هو الذى اقتضى النص فى حقه فان العصمة والبصيرة والعلم ببواطن الامور امر ليس فى ظاهر البشرة فيدرك بالابصار حتى يمكن معرفته للخلق، بل أمر خفى لا يدركه الا من كان محيطا به عالما بسائره وخفياته فمن لم يكن عليه نص لا يمكن خلافته وفى آيات توقف الشفاعة على اذن الله اشارة الى هذا التوقف ولذلك قالت الصوفية: توقف الرياسة الآلهية على الاذن والاجازة من ضرويات المذهب او قريب منها وكان سلسلة اجازتهم منضبطة يدا بيد ونفسا بنفس الى المعصوم، والفقهاء رضوان الله عليهم قائلون به وكان سلسلة اجازتهم مضبوطة بل كانوا فى الصدر الاول اذا لم يحصل لاحد منهم الاجازة فى الكلام مع الخصوم والرواية عن المعصوم لم يتكلم مع احد فى امر الدين ولم يرو حديثا من أحاديث المعصومين، ومشايخ اجازة الرواية معرفة فمن ادعى الخلافة ونيابة الرسالة من غير اذن واجازة لم يكن كالصدر الاول من العذاب بمفازة.
ولما كان الرسول (ص) مؤسسا للاحكام السياسية والعبادات القالبية اخذا للبيعة منهم من هذه الجهة ويسمى اخذه للبيعة من هذه الجهة اسلاما، وكان هاديا من جهة القلب ومصلحا لاحوال الباطن ومبينا للآداب القلبية اخذا للبيعة منهم من هذه الجهة ويسمى ايمانا كان خليفته اما خليفة له من الجهتين كعلى (ع) واولاده المعصومين (ع) وكل من كان جامعا للطرفين حافظا للجانبين.
واما خليفة له من الجهة الاولى وهم الفقهاء وعلماء الشريعة رضوان الله عليهم الذين تصدوا للاحكام الظاهرة وآداب السياسة، واما خليفة له من الجهة الاخرى كالصوفية الصافية الطوية من الشيعة الذين كان تمام اهتمامهم بأحوال الباطن وأحكام القلب والنزاع بين الفريقين بانكار كل طريقة الاخرى ناش من الجهل بحقيقة الرسالة والغفلة عن كيفية النيابة، فان كلا اذا حصل له الاذن والاجازة كان نائبا فى مرتبته مأجورا فى شغله مفروضا طاعته اماما فى مرحلته محكوما على الخلق بالرجوع اليه والاخذ منه، وكل منهما اذا لم يحصل له الاجازة كان نسناسا بل خناسا وشيطانا مردودا، فالنزاع ليس فى محله بل الحق ان يبدل النفاق بالوفاق ويرجع كل الى صاحبه فيما هو من شأنه ويأخذ منه فيتصالحا، فان الظاهر غير غنى عن الباطن والباطن لا يستكمل بدون الظاهر، وقصة اتباع موسى (ع) للخضر (ع) مع كونه افضل واعلى من الخضر بمراتب عديدة برهان على جواز رجوع الافضل فى جهة الى من كان افضل منه فى جهة اخرى، فلا بد ان يرجع صاحب الباطن الى عالم الشرع فى الاحكام الظاهرة وصاحب الشرع الى عالم الطريقة فى الاحكام الباطنة فاذا تصالحا وتوافقا فالاحسن ان يتظاهرا ويدفعا كل منافق كذاب من مدعى الفتيا والسلوك عن ادعائه ويظهرا بطلانه ويحفظا الدين عن غوائل الشياطين من الكذابين وتلبس بعض الزنادقة بلباس الصوفية، وكذا تلبس المتصوفة من العامة بلباسهم وصدور ما ينافى الشريعة عنهم قولا وفعلا لا يصير سببا لطعن صوفية الشيعة؛ فانهم مراقبون كمال المراقبة فى ان لا يصدر عنهم ما يخالف الشريعة قولا وفعلا بل يقولون ترك القيد فى ان يتقيد الانسان بالشريعة ويراقبون ان لا يجرى على لسانهم غير ما جرى على لسان الشريعة فكيف بفلعهم واعتقادهم { فإن تنازعتم في شيء } يسير فكيف بالخطير خصوصا النبأ العظيم الذى هو الخلافة { فردوه إلى الله والرسول } لم يقل والى اولى الامر لان المقصود الاصلى انه اذا وقع التنازع بينكم فى تعيين ولى الامر فردوه اليهما فاذا عيناه لكم فردوا جميع اموركم اليه، وفى بعض الاخبار ان الآية هكذا { وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } يعنى ردوا جميع ما خفتم التنازع فيه الى قولهما فانهما بينا جميع ما تحتاجون اليه ببيانه فى الكتاب والسنة وبتعيين من عنده علم الكتاب فان قول الله اطيعوا الله (الى اخر الآية) وقوله
إنما وليكم الله
[المائدة:55] (الى آخر الآية) فى على (ع) وقول محمد (ص):
" من كنت مولاه "
(الحديث) بينا ان الاولى بكم من انفسكم واحرى بالرجوع اليه والاخذ منه والتسليم له هو على (ع) فان رددتم كلما خفتم التنازع فيه الى على (ع) بعد ما رددتم النزاع الكلى الى الكتاب والرسول (ص) واخذتم بقولهما فيه لم يبق لكم ريب ونزاع فى شيء من الاشياء وان حكمتم الرجال دون الكتاب وقول الرسول (ص) خرجتم من الرشاد وطريق السداد الى الحيرة والارتياب؛ هذا فى الكبير، وأما فى العالم الصغير فان تنازع النفس وهواها والطبيعة وقواها معكم فى شيء من الاشياء فاعرضوه على الروح والعقل فكلما ارتضاه العقل وصدقه الروح فخذوه وكلما لم يصدقه العقل وان كان النفس ارتضته فاتركوه { إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } يعنى ان الايمان بهما يقتضى رد كل ما اشتبه عليكم الى الكتاب والسنة ومن عنده علمهما، وترك الرجوع الى الكتاب والسنة ومبينهما دليل عدم الايمان بهما { ذلك خير وأحسن تأويلا } من تحريفكم اولى الامر من معناه الى السلاطين ووليكم الى المحب ومولاه الى المحب حتى يستقيم لكم رأيكم الباطل.
[4.60]
{ ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بمآ أنزل إليك ومآ أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت } اى الخارج من حكومة العقل الذى هو على (ع) البالغ فى الطغيان عليه { وقد أمروا أن يكفروا به } اى بمن خرج عن حكومة العقل وحكم الله { ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا } بعد ما بين وجوب طاعة الله فيما انزل وطاعة الرسول فيما حكم وطاعة ولى الامر يعنى صاحب الامارة الباطنة وصاحب عالم الامر مقابل الخلق وبين وجوب الرد الى كتاب الله والى الرسول (ص) وقد عين فى الكتاب وبين الرسول من هو ولى الامر وترجمان الكتاب والسنة وقد لزم منه ان من خرج عن طاعة الله وطاعة الرسول (ص) ونبذ قولهما فى تعيين ولى الامر وراء ظهره لم يكن مؤمنا وظهر ذلك بحيث لاخفاء فيه خاطب رسوله على سبيل التعجيب من بلادة من اتبع الشيطان باضلال الطاغوت فان القضية وان لم تكن بعد لكنها مشهودة لمحمد (ص) فالآية ان كانت نازلة فى الزبير بن العوام ورجل من اليهود كما ورد ان الزبير نازع يهوديا فى حديقة فقال الزبير: نرضى بابن شيبة اليهودى وقال اليهودى: نرضى بمحمد (ص) فنزلت حرمة المحاكمة الى الطاغوت وسلاطين الجور وقضاتهم، وحرمة ما اخذ بحكمهم قد وردت عن ائمتنا المعصومين، فعن الصادق (ع) للاشارة الى تعميم الآية: ايما رجل كان بينه وبين اخ له مماراة فى حق فدعاه الى رجل من اخوانه ليحكم بينه وبينه فأبى الا ان يرافعه الى هؤلاء كان بمنزلة الذين قال الله: الم ترى الى الذين يزعمون (الآية)، وعنه انه سئل عن رجلين من اصحابنا يكون بينهما منازعة فى دين او ميراث فتحاكما الى السلطان او الى القضاة؛ ايحل ذلك؟ - فقال: من تحاكم الى الطاغوت فحكم له فانما يأخذ سحتا وان كان حقه ثابتا لانه اخذ بحكم الطاغوت وقد امر الله ان يكفر به، قيل: كيف يصنعان؟ قال: انظروا الى من كان منكم قد روى حديثنا ونظر فى حلالنا وحرامنا وعرف احكامنا فارضوا به حكما فانى قد جعلته عليكم حاكما فاذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فانما بحكم الله استخف وعلينا رد، والراد علينا الراد على الله وهو على حد الشرك بالله.
تحقيق حديث انظروا الى من كان منكم
وقد روى هذا الخبر فى الكافى بتغيير يسير وقوله: الى من كان منكم مقصوده من كان قد دخل فى هذا الامر وعرف ولايتنا وقبل الدعوة الباطنة وبايع معنا البيعة الخاصة الولوية لامن انتحل الاسلام كاكثر العامة او بايع على يد من لا يجوز البيعة على يده كخلفاء الزور، وقوله: قد روى حديثنا، مراده ان العارف لهذا الامر لا ينصب نفسه لرواية الحديث الا ان يؤذن له بحسب استعداده واستحقاقه وقوله: نظر فى حلالنا وحراما يعنى به ان الداخل فى هذا الامر ما لم يستعد للنظر فى حلالنا وحرامنا بخروجه من حكومة النفس والشيطان وباصلاح نفسه بقدر استعداده من تخليته عن الرذائل وتحليته بالفضائل لا يؤذن له فى النظر الى ما هو خارج عن نفسه بل يلقى اليه ما هو تكليفه ويؤمر بالعمل به حتى يخلص من غوائل نفسه فاذا خلص يؤذن له فى النظر الى ما هو خارج عن نفسه، وقوله: عرف احكامنا، يعنى بسماع اشخاصها منا او بسماع كلياتها بحيث تنطبق على الجزئيات لان المعرفة تستعمل فى العلوم الجزئية الحاصلة من المدارك الجزئية وقوله: فارضوا به حكما، يعنى ان الاوصاف المذكورة تدل على انه منصوب منا مأذون من قبلنا وكل من كان منصوبا منا لا بد من الرضا بحكومته لان حكومته باذننا هى حكومتنا، وقوله: فانى قد جعلته عليكم حاكما، مؤكدا بان واسمية الجملة وتكرار النسبة بتقديم المسند اليه قرينا بقد وما ضوية المسند يدل مثل سابقه على ان الجعل والنصب قد وقع منه سابقا؛ فالحديث دليل على الاذن الخاص الحاصل للموصوف بهذه الاوصاف وعلى ان هذه الاوصاف امارات هذا الاذن.
هذا فى الكبير، واما فى الصغير فالمراد التحاكم الى الطاغوت التحاكم الى الخيال وقبول حكومته باضلال شيطان الوهم وحيلته وهما مظهر الطاغوت والشيطان فى الصغير، فمن اكل ولبس ونكح وجمع المال بحكومة الخيال فهو آكل السحت،
وشاركهم في الأموال والأولاد
[الإسراء:64]، اشارة اليه، وقد امروا ان يكفروا بحكومته الخيال، ويرجعوا الى كتاب القلب ورسول العقل؛ وعلى الروح، فمن رجع الى حكومة على الروح الجارية على لسان رسول العقل الثابتة فى كتاب القلب فكل ما فعل فهو حلال وان كان يرى صورته خلافا، وكل ما فعل بحكومة الخيال فهو حرام وان كان يرى صورته وفاقا، فالصوم والصلوة والحج والجهاد من اتباع الشيطان سحت وعصيان، والنوم والنكاح والاكل والمزاح من اتباع على (ع) طاعة واحسان. ونعم ما قال المولوى قدس سره:
مشورت يا نفس خود كرسيكنى
هرجه كويدكن خلاف آن دنى
كر نماز وروزه مسفرما يدت
نفس سكار است سكرى زايدت
وقوله تعالى:
ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه
[الأنعام: 121]،
وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه
[الأنعام: 119[، اشارة الى هذا، وقد قال المولوى روح الله روحه:
هرجه كيرد علتى علت شود
كفر كيرد كاملى ملت شود
ازسموم نفس جون باعلتى
هرجه كيرى تو مرض را آلتى
[4.61]
{ وإذا قيل لهم تعالوا إلى مآ أنزل الله وإلى الرسول } يعنى انا اريناك القضايا الآيتة والمنازعات المستقبلة مما سيقع بين على (ع) واصحابه وبين المنافقين واحزابهم من المحاجات والمنازعات ومن دعائهم الى كتاب الله والى ما قلت فى حقه فكلما قيل لهم تعالوا نجعل الكتاب وسنة الرسول حكما { رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا } صد عنه صدودا بمعنى اعرض وصد عنه صدا بمعنى منع، والمقصود انهم يعرضون عن على (ع) واتى به خطابا لمحمد (ص) اما تعريضا بعلى (ع) او للاشارة الى ان الصد عن على (ع) صد عنه لانه ظهوره بعده وبمنزلة نفسه كما دل عليه آية انفسنا. وفى الخبر اليه اشارة.
[4.62]
{ فكيف } حالك معهم { إذآ أصابتهم مصيبة } عقوبة من الله { بما قدمت أيديهم ثم جآءوك } للاعتذار كذبا { يحلفون بالله إن أردنآ إلا إحسانا } بك وبامتك { وتوفيقا } بينهم.
[4.63]
{ أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم } من النفاق ويستر عليهم { فأعرض عنهم } اى عن تفضيحهم ولا تعاقبهم ودارهم فان فى مداراتهم مصلحة كلية لنظام الكل { وعظهم } اتماما للحجة وتقليلا لاظهارهم نفاقهم { وقل لهم في أنفسهم } فى شأن على (ع) فانه نفسية كل ذى نفس او فى الخلوة او فى شأن انفسهم { قولا بليغا } يؤثر فيهم ويمنعهم من اظهار نفاقهم حتى لا يوافقهم كثير من امتك فان اكثرهم بسبب قتل على (ع) منهم اقاربهم يعادونه واذا رأوا من يعانده وينافقه يوافقونه، والمداراة مع هؤلاء المنافقين وموعظتهم وتخويفهم بحيث لا يجترؤن على اظهار نفاقهم مع غيرهم اصلح لحفظ امتك عن النفاق.
[4.64]
{ ومآ أرسلنا من رسول ألا ليطاع بإذن الله } عطف على قوله: اذا قيل لهم، وتنبيه على غاية شقاوتهم فى الآباء عن الرجوع اليه (ص) { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم } بالمعاهدة على معاندة على (ع) والاتفاق على غصب حقه تابوا وندموا و { جآءوك } يعنى جاؤا عليا (ع) تعريضا او لانه مظهره { فاستغفروا الله } مخلصين عند على (ع) { واستغفر لهم الرسول } اى نفس الرسول (ص) وهو على (ع) { لوجدوا الله توابا رحيما } فانه جعل عليا (ع) بابه ومظهر رحمته فمن تاب عنده فاز بتوبة الله ورحمته.
[4.65]
{ فلا وربك لا يؤمنون } لا يصيرون متصفين بالاسلام والايمان العام { حتى يحكموك } او يحكموا عليا (ع) { فيما شجر بينهم } اى فيما تنازعوا فيه من، شجر الامر بينهم، بمعنى تنازعوا فيه { ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت } انت او على { ويسلموا } انفسهم لك او لعلى (ع) { تسليما } فى الكافى عن الباقر لقد خاطب الله امير المؤمنين (ع) فى كتابه فى قوله: ولو انهم اذ ظلموا وتلا الى قوله فيما شجر بينهم قال فيما تعاقدوا عليه لئن امات الله محمدا (ص) لا يردوا هذا الامر فى بنى هاشم ثم لا يجدوا فى انفسهم حرجا مما قضيت عليهم من القتل او العفو ويسلموا تسليما، وامثال هذا من اسرار الكتاب التى لا يعلمها الا من خوطب به والراسخون فى العلم يقول كل من عند ربنا ولقد بينا وجه صحته مع كون الخطاب ظاهرا لمحمد (ص).
[4.66]
{ ولو أنا كتبنا } فرضنا { عليهم أن اقتلوا أنفسكم } كفارة لذنوبكم كما كتبنا على بنى اسرائيل بعد عبادتهم للعجل { أو اخرجوا من دياركم } بالجلاء { ما فعلوه إلا قليل منهم } تفضيح بليغ لهم ببيان ان حالهم فى اتخاذهم العجل باغواء سامريهم اقبح واقوى فى الشقاء من قوم موسى (ع) فانهم ندموا وتابوا وبعد ندمهم كتبنا عليهم القتل ففعلوا وهؤلاء لا يندمون ولو ندموا لا يفعلون ما كتب عليهم { ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به } من الرجوع الى الكتاب والى قولك فى على (ع) ومن الرجوع اليه والرضا بحكومته والتسليم له بعد التندم وطلب الاستغفار منه { لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا } لاقدامهم على الاسلام.
[4.67]
{ وإذا لآتيناهم من لدنآ أجرا عظيما } لانه باب رحمتنا فلا يرد من اتاه خائبا.
[4.68]
{ ولهديناهم صراطا مستقيما } فان الندم عن خلافهم معه وطلب المغفرة منه يوجب شمول رحمتنا لهم، وبشمول رحمتنا يستحقون الايمان والتوبة الخاصة على يده، وحينئذ يقبلهم ويتوب عليهم ويأخذ منهم البيعة الخاصة الولوية، ويفتح لهم بابا الى الصراط المستقيم الذى هو صراط القلب بل الطريق الى الحضور عنده الذى هو الحضور عند الله.
[4.69]
{ ومن يطع الله والرسول } بقبول امرهما فى على (ع)، فاذا قبل ما قالا فى على (ع) رجع اليه والتجأ اليه، ومن التجأ اليه عن صدق صار مقبولا عنده، ومن صار مقبولا عنده رحمه واخذ البيعة وميثاق الله منه وادخله فى ولايته، ومن ادخله على (ع) فى ولايته { فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم } فان النعمة الحقيقية هو على (ع) وولايته فما بلغ من بلغ النبوة وكمالاتها الا بولاية على (ع)، وما ابتلى من ابتلى منهم الا بالوقوف فى ولاية على (ع) { من النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين وحسن أولئك رفيقا } والنبى هو انسان اوحى اليه بشيء، والصديق هو الذى خرج عن الاعوجاج قولا وفعلا وعقيدة وخلقا بحيث لا يبقى فيه اعوجاج ويخرج غيره ايضا عن الاعوجاج فان المبالغة تقتضى ذلك والمراد بهم الاوصياء الذين صاروا كاملين فى أنفسهم مكملين لغيرهم، والشهداء هم الذين شهدوا الغيب بالسلوك او بالجذب ووصلوا الى مقام القلب وحضروا عند ربهم فى الولاية الذى هو على (ع)، او المراد بهم الذين استشهدوا فى الجهاد، والصالحين ههنا هم الذين توسلوا بالولاية ولم يبلغوا مقاما فيها لكن سلكوا عن صدق.
[4.70]
{ ذلك الفضل من الله } ترغيب للناس وتحريص لهم على الولاية، وبشارة للمؤمنين بان الفضل الذى ينبغى ان يتنافس فيه ولا فضل سواه هو ذلك الترافق فمن طلب الفضل فليتول عليا (ع) وليدخل فى ولايته بالبيعة له { وكفى بالله عليما } بمقدار استحقاقكم وسلوككم فى طريق ولايته فيتفضل عليكم بقدر طاعتكم وسلوككم فلا يكتف من بايع عليا (ع) بالبيعة الولوية بمحض البيعة وليطلب زيادة الفضل والدرجة العليا.
[4.71]
{ يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم } بعد ما ذكر المنافقين وحالهم ومآلهم والموافقين وحالهم ومآلهم، نادى المؤمنين شفقة بهم وحذرهم عن صد المنافقين اياهم فأمرهم باخذ الحذر وهو التيقظ والتهيوء للعدو وقد يستعمل فى السلاح وهو ما به التيقظ والاستعداد، فان كان المراد بالمؤمنين الذين بايعوا البيعة العامة التى هى الاسلام فالمراد بالحذر الظاهر الاسلحة للجهاد الصورى وبالحذر الباطن التمسك بقول محمد (ص) فى على (ع) والتذكر له مداما كما قال (ص) فى خطبته قبل القاء ولاية على (ع) عليهم توصية لهم: رحم الله امرء سمع فوعى فوصاهم بالحفظ وان كان المراد بهم الذين بايعوا عليا (ع) وتابوا على يده ودخل بنفخته الايمان فى قلوبهم وهو الايمان حقيقة فالمراد بالحذر الصورى الاسلحة ايضا والمراد بالحذر الباطنى الصلوة التى علمها اياهم فانها تنهى عن الفحشاء والمنكر. وانها السلاح الذى تردع الشياطين الجنية والانسية عن باب الله الذى هو الولاية { فانفروا } الى الجهاد الصورى الجلى مع الكفرة او الصورى الخفى مع المنافقين المبطئين، او الى الجهاد الباطنى مع اعدائكم الباطنية المبطئين لكم عن سلوككم ورجوعكم الى باب القلب والحضور عند على (ع) فى بيت القلب { ثبات } جمع الثبة بضم الثاء بمعنى الجماعة والمعنى انفروا متدرجين كما هو شأن الحازمين فى الغزو الظاهرى وشأن السالكين فى الغزو الباطنى { أو انفروا جميعا } مجتمعين كما هو شأن المتجلدين المتجرئين فى الغزو الصورى وشأن المجذوبين فى النفور الباطنى ولما كان المناسب بيان حالهم من السلوك والترغيب فيه والتبطئة منه قال تعالى فى ذلك: { وإن منكم لمن ليبطئن }.
[4.72]
{ وإن منكم لمن ليبطئن } عطفا على محذوف هو قسيمه اى ان منكم لمن يسرع فى النفر او يبطوء فيقتل او يقتل واكتفى عنه بقوله: ومن يقاتل فى سبيل الله وفصل احوال المبطئين { فإن أصابتكم مصيبة } ظاهره كالقتل والهزيمة والجراحة او باطنه كالرياضات والابتلاءات التى تكون فى الطريق { قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا } فيرى السلامة فى دار البلاء عن الابتلاء فى طريق دار الراحة نعمة والحال انها نقمة اذا لم تكن فى طريق الآخرة، او مع الانصراف عن الولاية، فعن الصادق (ع) لو قال هذه الكلمة اهل الشرق والغرب لكانوا بها خارجين من الايمان ولكن الله قد سماهم مؤمنين باقرارهم، وفى رواية: وليسوا بمؤمنين ولا كرامة، والسر فيه، انه ما لم يختر الدنيا وهوى النفس لا يرى السلامة فيها نعمة، ومن اختارها لم يكن له حظ من الايمان، وباسم الايمان لا يحصل له كرامة بل الكرامة بالايمان الذى هو قبول الدعوة الباطنة والبيعة مع صاحبها بشرائطها وبكسب الخير فيه الذى يؤدى الى ايثار الآخرة على الدنيا.
[4.73]
{ ولئن أصابكم فضل من الله } ظاهرا او باطنا ولما كان القضية الاولى كأنها مع من هو خالى الذهن عن الحكم وسؤاله وانكاره حسن خلوها عن التأكيد وهذه لما كانت بعد الاولى وصار المخاطب بذكر قسيمها مستعدا للسؤال عن القسيم الآخر اكدها باللام الموطئة والقسم ولام القسم ونون التأكيد استحسانا { ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما } يعنى ان الوصلة الايمانية تقتضى السرور بتنعمكم والحزن بمصيبتكم فالسرور حين اصابتكم بسلامته والتحسر حين التفضل عليكم بعدم وصول الفضل اليه دليل على مباينته لكم وان كان موافقا لكم بظاهر قوله ولذلك اتى بالجملة المعترضة بين القول ومقوله، واذا كان حال المبطئين على ما ذكر.
[4.74]
{ فليقاتل في سبيل الله } المؤمنون { الذين يشرون } اى يبيعون { الحياة الدنيا بالآخرة } اى الذين باعوا على يد محمد (ص) او على (ع) انفسهم واموالهم بأن لهم الجنة فصار حالهم ان يعطوا تدريجا من المبيع ويأخذوا على حسبه من الثمن { ومن يقاتل } عطف على محذوف جواب لسؤال مقدر تقديره: من لم يقاتل فهو ملحق بالمبطئين او حال عن الذين يشرون { في سبيل الله } اى حال كونه فى سبيل الله او فى حفظ سبيل الله { فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما } يعنى كلاهما له فلا ينبغى ان يطلب بجهاده الغلبة بل اعزاز نفسه بامتثال الامر واعزاز الدين ببذل نفسه او غلبته، روى عن النبى (ص) انه قال:
" للشهيد سبع خصال من الله، اول قطرة مغفور له كل ذنب، والثانية يقع رأسه فى حجر زوجيه من الحور العين وتمسحان الغبار عن وجهه، الى ان قال: والثالثة يكسى من كسوة الجنة، والرابعة يبتدر خزنة الجنة بكل ريح طيبة ايهم يأخذه منه، والخامسة ان يرى منزله، والسادسة يقال لروحه: اسرع فى الجنة حيث شئت، والسابعة ان ينظر فى وجه الله وانها الراحة لكل نبى وشهيد ".
[4.75]
{ وما لكم } اى منفعة لكم او اى مانع لكم والجملة عطف على قوله ليقاتل او حال او معطوف على مقدر تقديره: اذا كان القتال لكم مطلقا فما لكم لا ترغبون؟! فيه وما لكم { لا تقاتلون } استيناف جواب لسؤال مقدر او حال عن المجرور { في } تقوية { سبيل الله } او حفظها وهى الولاية فانها سبيل الله حقيقة وكلما انشعب منها او اتصل بها فهو سبيل الله بتبعها { والمستضعفين } عطف على الله او على سبيل الله سواء كان المراد بهم الائمة واتباعهم واولادهم الذين عدهم اشباه الناس ضعفاء او جعلوهم ضعفاء بمنع فيئهم وقتل انصارهم ام كان المراد بهم ضعفاء العقول من الشيعة او غيرهم، والمعنى ما لكم لا تقاتلون الاعداء الظاهرة للولاية فى تقوية الولاية واعلائها واعلانها بأيديكم والسنتكم واموالكم ببذلها للاعداء فى اسكاتهم او ببذلها لمن يدافعهم ويسكتهم والاعداء الباطنة لها بالسنتكم باذكارها وبجوارحكم باعمالها وبقواكم التى هى اموالكم الباطنة ببذلها حتى تدفعوا اعداءها عنها وفى تقوية الذين عدهم الاعداء او جعلوهم ضعفاء من الائمة واتباعهم وغى نصرتهم، او تقوية المعدودين من الضعفاء بدفع الشبه الواردة عليهم من الاعداء وهم شيعة ائمة الهدى (ع)، او فى تقوية الضعفاء من جنود وجودك التى عدهم الشيطان وجنوده او جعلوهم ضعفاء، او فى حفظ المعدودين من ضعفاء العقول عن الهلاك والضياع { من الرجال والنسآء والولدان الذين } لا قوة لهم على مدافعة الاعداء { يقولون ربنآ أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها } ان كان النزول فى ضعفاء مكة فلا اختصاص لها بهم كما فى الخبر فالقرية مكة وكل قرية لا يجد الشيعة فيها وليا من الامام ومشايخهم وكل قرية وقع بها الائمة بين منافقى الامة وقرية النفس الحيوانية التى لا يجد الجنود الانسانية فيها وليا ويطلبون الخروج منها الى قرية الصدر ومدينة القلب ويسألون الحضور عند امامهم او مشايخهم فى بيت القلب خاليا عن مزاحمة الأغيار بقولهم { واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا } تكرار اجعل لان مقام التضرع والابتهال يناسبه التطويل والالحاح فى السؤال ولان المسؤل ليس شخصا واحدا ولو كان واحدا لم يكن مسؤلا من جهة واحدة بل المسؤل محمد (ص) وعلى (ع)، او المسؤل محمد (ص) من جهة هدايته ومن جهة نصرته، او على (ع) كذلك وقد بقى بين الصوفية ان يكون التعليم والتلقين بتعاضد نفسين متوافقتين يسمى احد - الشخصين هاديا والآخر دليلا، والشيخ الهادى له الهداية وتولى امور السالك فيما ينفعه ويجذبه والشيخ الدليل ينصره لمدافعة الاعداء ويخرجه من الجهل والردى بدلالته طريق التوسل الى شيخ الهدى، وفى الآية اشارة الى ان السالك ينبغى له ان يطلب دائما حضوره عند شيخه بحسب مقام نورانيته ومقام صدره وهو معنى انتظار ظهور الشيخ فى عالمه الصغير واما ظهور الشيخ بحسب بشريته على بشرية السالك فلا يصدق عليه انه من لدن الله واذا ظهر الشيخ بحسب النورانية كان وليا من لدن الله ونصيرا من لدنه.
[4.76]
{ الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله } حال او مستأنف فى مقام التعليل والمعنى لا ينبغى لكم ترك المقاتلة لان الانسان لا يخلو عن المقاتلة واكتفى عن نسبة المقاتله بطريق العموم والاستمرار الى الانسان بنسبة المقاتلة الى الفريقين والاتيان بالمضارع الدال على الاستمرار التجددى ولان المؤمنين يقاتلون فى سبيل الله وقد مضى انه من يقاتل فى سبيل الله فالعاقبة له سواء غلب او غلب { والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت } ومن يقاتل فى سبيل الطاغوت لا تجد له نصيرا كما مضى ان المؤمنين بالجبت والطاغوت لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا ولا تجد له ظهيرا، لان الشيطان يعدهم وما يعدهم الا غرورا وبعد ما يوقعهم فيما يريد يفر عنهم.
اعلم ان نفس المقاتلة والمعارضة مع الاعداء لا تكون الا عن قوة القلب التى هى مبدء كثير من الخيرات كالشجاعة والسخاوة والعفة والجرأة والشهامة وغيرها وتورث قوة للقلب، واذا كان باذن وامر من الله يورث توكلا تاما وعاقبة محمودة ويوجد للمجاهد ناصر ومظاهر من الله ولذلك ورد التأكيد فى امر الجهاد ومدح المجاهدين وذم القاعدين من غير عذر { فقاتلوا } الجملة جزاء شرط محذوف مستفاد من السابق تقديره: اذا كان المؤمنون يقاتلون فى سبيل الله والكافرون يقاتلون فى سبيل الشيطان فقاتلوا ايها المؤمنون { أولياء الشيطان } ابدل من الكافرين اولياء الشيطان اشعارا بذم آخر لهم { إن كيد الشيطان كان ضعيفا } ترغيب وتجرئة للمؤمنين.
[4.77]
{ ألم تر } الخطاب لمحمد (ص) او لكل من يتأتى منه الخطاب والمقصود التنبيه على حال القاعدين وانهم كالنساء فى الجبن وضعف القلب حتى يكون ترغيبا فى الجهاد وتحذيرا عن القعود كأنه قال: انظر { إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم } عن القتال والسنتكم عن الجدال كما اشير اليه فى الخبر { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } حتى تعلم فضيلة الجهاد وان الذين يقعدون عن القتال مع الاعداء الظاهرة او الباطنة لا تمكن لهم فى شيء من صفات الرجال بل يكون حالهم كحال النساء فى ابتغائهن الراحة والبقاء وخوفهن عن مجاهرة الاعداء، وان كان الخطاب للنبى (ص) فالتعريض بالامة، ونزولها ان كان فى مؤمنى مكة قبل هجرة الرسول او قبل هجرتهم بعد هجرة الرسول فهي جارية فى كل زمان وزمان كل امام، فعن الباقر (ع) انتم والله اهل هذه الآية، وعن الصادق (ع): كفوا ايديكم يعنى كفوا السنتكم، وعن الباقر (ع): كفوا ايديكم مع الحسن (ع) كتب عليهم القتال مع الحسين (ع) الى اجل قريب الى خروج القائم عجل الله فرجه فان معه الظفر { فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم } لعدم تدربهم الجهاد وعدم تمكنهم فى صفات الرجال { يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا } لضيق صدورهم عن مجاهرة الاعداء { ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب } زمان دولة المؤمنين وتلك الاحوال قد تعرض للسالك فيؤمر بالعزلة عن الخلق والصمت عن المجادلة والمكالمة من غير ضرورة ثم يؤمر بالمعاشرة والمدافعة عن اخوانه وقضاء حوائجهم فيضيق صدره عن ذلك ولا يتمالك نفسه حتى يصدر عنه مثل هذه المقالات، وصدور مثل هذه المقالات عن الكافين دليل فضيلة المقاتلة وشرف المعاشرة { قل } لهم { متاع الدنيا } تمتعها او أعراضها التى هى مرغوبة للنساء { قليل } بحسب المقدار والكيفية والبقاء { والآخرة خير لمن اتقى } عن التعلق بمتاع - الدنيا وتسارع الى قتال الاعداء { ولا تظلمون فتيلا } حتى تخافوا ان لا توجروا على متاعبكم فان كنتم تخافون الموت وفراق الدنيا كالنساء فاعلموا ان الآخرة التى تفرون منها خير لكم وان تسألوا ان الفرار من القتال هل يورث البقاء؟ - فيقال فى الجواب { أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة }
[4.78]
{ أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة } قصور مرتفعة، فالجملة مستأنفة جواب لسؤال مقدر من الله او مقول قول الرسول (ص) ثم صرف الخطاب عنهم الى محمد (ص) فقال لكن ان تعظهم بكل عظة لا يفقهوا { وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك } مثل قولهم لم كتبت علينا القتال (الى آخر الآية) { قل كل من عند الله } فان الفاعل فى كل موجود هو الله وليس منكم الا استعداد القبول والسيئة والحسنة منسوبة اليكم نسبة الشيء الى القابل ومنسوبة الى الله نسبة الشيء الى الفاعل، لكن السيئات اى الاعدام او الموجبات للاعدام لما كان الوجود فيها ضعيفا بحيث عدها بعضهم اعداما صرفة تكون نسبتها الى الفاعل ضعيفة لضعف الوجود فيها والنسبة الى الفاعل لا تكون الا من حيث الوجود، وتكون نسبتها الى القابل اقوى لتبعيتها لاعدام القابل فيكون القابل اولى بها، والحسنات لما كان الوجود فيها قويا تكون نسبتها الى الفاعل اقوى فيكون الفاعل اولى بها { فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا } فيتخالطون فى الكلام كتخاليط النساء.
[4.79]
{ مآ أصابك من حسنة } جواب لسؤال نشأ من قوله: قل كل من عند الله كأن قائلا يقول: فلا نسبة لها اليهم ولا تفاوت فى نسبة الجميع الى الله فقال: ما اصابك من حسنة { فمن الله ومآ أصابك من سيئة فمن نفسك } والخطاب اما لغير معين او لمحمد (ص) من قبيل: اياك اعنى واسمعى يا جارة، والسر فى اختلاف النسبتين ما عرفت { وأرسلناك للناس رسولا } لا فاعلا للخير والشر فلا وجه للتطير بك { وكفى بالله شهيدا } فما يضرك عدم قرارهم برسالتك.
[4.80]
{ من يطع الرسول } وضع المظهر موضع المضمر اشارة الى التعليل { فقد أطاع الله } فى قوله اطيعوا الرسول، او لانه مبلغ والآمر والناهى هو الله، او لان الرسول (ص) لما فنى من نفسه وبقى بالله ونسبته الى الله اقوى من نسبته الى بشريته، وظهور الله فيه اتم من بشريته كما قال: من رآنى فقد رأى الحق، فمن اطاعه من حيث ظهور بشريته يعلم انه اطاع الله قبل حيثية بشريته ولذلك اتى بالماضى مصدرا بقد للدلالة على مضيه لتقدم نسبته الى الله وظهوره فيه على نسبته الى بشريته { ومن تولى } الاتيان بالماضى مع كون الفعل فى المعطوف عليه مستقبلا لكون الاطاعة امرا يحدث بعد ما لم يكن على سبل التجدد والتولى امر مفطور عليه لا تجدد فيه سوى البقاء عليه فقد تولى عن الله فلا تتحسر عليهم لتوليهم عنك { فمآ أرسلناك عليهم حفيظا } حتى تتحسر على عدم حفظك اياهم
[4.81]
{ ويقولون } بألسنتهم شأننا { طاعة } لك فى على (ع) كأنه قال لكنهم يطيعون بألسنتهم ويتولون بقلوبهم ويقولون بألسنتهم شأننا طاعة { فإذا برزوا من عندك بيت طآئفة منهم } ودبروا ليلا { غير الذي تقول } انت فى على (ع) او تلك الطائفة من الطاعة لك فى على (ع) فيقولون ويتعاقدون على ان يمنعوا عليا (ع) من الخلافة { والله يكتب ما يبيتون } تسلية للرسول (ص) وتهديد لهم { فأعرض عنهم } ولا تؤاخذهم فانه اصلح لك لعدم افتتان سائر امتك { وتوكل } فى جملة امورك خصوصا فيما تهتم به من خلافة على (ع) { على الله وكفى بالله وكيلا } فانه لا حاجة له الى معاون فى امضاء امر ولا الى مشاور فى استعلام امر.
[4.82]
{ أفلا يتدبرون القرآن } وانه من عند الله حتى يعلموا صدقك ورسالتك فلا يبيتوا خلاف طاعتك، والتدبر كالتفكر { ولو كان من عند غير الله } عطف على القرآن باعتبار ان التدبر يتعلق بنسبة الجملة لكن الفعل معلق بلو او الجملة حالية { لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } لان فيه بصورته تخالفا وتناقضا لكنه لما كان من عند الله وله بحسب العوالم العديدة بطون وجهات كان كل من المتخالفات منزلا على عالم او على جهة او المعنى انه لو كان من عند غير الله كما قالوا انما يعلمه بشر، وانه افتراء لوقع فيه التخالف لان الكذب لعدم ابتنائه على اصل او شهود لا يقع بين اجزائه توافق ولكن ليس فيه تخالف حقيقة.
[4.83-84]
{ وإذا جآءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به } عطف على مجموع اذا برزوا من عندك، او على جزائه اعنى بيت طائفة، او عطف على لا يتدبرون القرآن، او على مجموع افلا يتدبرون القرآن باعتبار المقصود، او حال يعنى اذا جاءهم خبر من سراياك او من جانب العدو او من قولك بوعد الفتح او الوعيد من العدو اذاعوه لعدم توكلهم وعدم ثباتهم فى الايمان، وكذا اذا جاءهم امر فى باطنهم من المنامات او الحالات او الخيالات والخطرات المبشرة او المخوفة اذاعوه { ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم } اى وكلوه اليهم ولا يتكلموا فيه بشيء او اظهروه عليهم لا على غيرهم { لعلمه الذين يستنبطونه منهم } اما من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر اشعارا بانهم اهل الاستنباط، او المراد باولى الامر اعم من امراء السرايا، والمستنبطون هم الرسول (ص) واوصياؤه (ع) { ولولا فضل الله عليكم ورحمته } خاطبهم تفضلا وتلطفا لمحمد (ص) وعلى (ع) بعد ما ذمهم على ضعف عقيدتهم وسوء صنيعتهم، وفضل الله هو الرسالة، ولما كان الرسالة من شؤن الرسول وسعة صدره ومتحدة معه صح تفسيره بالرسول وهو ههنا محمد (ص) ورحمته هى الولاية والولاية ايضا متحدة مع الولى فصح تفسيرها به وهو ههنا على (ع) ولذلك فسرا بمحمد (ص) وعلى (ع) فى اخبارنا، ولما كان محمد (ص) اصلا فى الولاية وان كانت الرسالة فيه اظهرو على (ع) خليفة فى الرسالة وان كانت الولاية فيه اظهر صح تفسير الفضل بعلى (ع) والرحمة بمحمد (ص) كما فى الخبر، يعنى انا لا نخذلكم مع سوء صنيعكم بواسطة محمد (ص) وعلى (ع)، ولولا محمد (ص) وعلى (ع) قائما عليكم حافظا لكم { لاتبعتم الشيطان إلا قليلا فقاتل في سبيل الله } يعنى اذا علمت حال قومك من الجبن والفشل والتبيت بخلاف طاعتك وعدم حفظهم لما سمعوا من الاخبار وتوكلت على الله وعلمت كفايته لك فقاتل فى حفظ سبيل الله واعلائه، او حال كونك فى سبيل الله، او فى ولاية على (ع) فانها سبيل الله وعلى (ع) بنفسه ايضا سبيل الله ولا تبال باعانة قومك وعدمها { لا تكلف إلا نفسك } اى الا فعل نفسك واصلاحها او اصلاح على (ع) لانه نفسك والجملة حال او مستأنفة جواب لسؤال مقدر فى مقام التعليل او فى مقام بيان الحال { وحرض المؤمنين } لانك ان لم تحتج اليهم فانهم محتاجون اليك فى اصلاحك لهم والمقاتلة اصلاح لهم لانها تورث التشجع والتمكن والثبات والتوكل { عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا } يعنى قريشا على ما روى انها نزلت فى موعد بدر الصغرى وتثبط القوم عن الخروج فخرج (ص) وما معه الا سبعون رجلا { والله أشد بأسا وأشد تنكيلا } اى تعذيبا من الكفار عطف على ما يستفاد من ذكر بأس الكفار يعنى لهم بأس والله اشد او حال عن الله او عن الذين كفروا، ولما قال حرض المؤمنين بعد الاشارة الى استغنائه عن الغير وكفاية الله له وامره بالقتال وحده صار المقام مناسبا لان يقال: ولم امرت بتحريض المؤمنين؟ - او صار المقام مقام ان يقال: الا ادل الكفار على الخير والا انصحهم وكيف حال من نصحهم وما ينبغى ان يفعل المؤمنون بمن نصحهم؟ - فقال جوابا لذلك
[4.85]
{ من يشفع شفاعة حسنة } فهو استيناف جواب لسؤال مقدر واقع موقع التعليل او موقع بيان الحال ومعناه من ضم عملا حسنا الى عمل حسن آخر، او من ينضم الى صاحبه ويشاركه فى عمل حسن، او من يصلح بين اثنين او من يطلب ويسأل من غيره لصاحبه خبرا او دفع ضرا وترك عقوبة سواء كان ذلك من الخلق او من الله او من يدعو لصاحبه بخير من " شفع " اذا دعا له اودعا عليه، او من يدعو صاحبه الى خير او من يعين صاحبه على خير او من يدل صاحبه على خير والكل يمكن ان يستفاد من هذه العبارة والكل صحيح { يكن له نصيب منها } النصيب والكفل الحظ وما يعطى من القسمة لكن استعمال النصيب فيما فيه حظ صاحبه اكثر من استعماله فيما فيه تعبه والكفل بالعكس من ذلك { ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها } توصيف الشفاعة بالحسن والسوئة باعبتار متعلقها { وكان الله على كل شيء مقيتا } مقتدرا او حافظا لا يفوته شفاعة شفيع ولا كيفيتها ولا قدرها.
[4.86]
{ وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منهآ أو ردوهآ } عطف على من يشفع الى آخر الآية وجواب آخر للسؤال السابق وهو ما يفعل المؤمنون بمن نصحهم وان كان هو فى نفسه من الآداب المهمة المحتاجة الى البيان لكن اداه بحيث يكون مرتبطا بسابقه ليفيد تأكيدا بتقدير السؤال، والتحية فى العرف هى التسليم لكن المراد منها معنى اعم من التسليم وهو ايصال الخير الى الغير بنحو الشفقة والتعظيم من تسليم ودعاء وثناء وتعظيم وهدية، وكتابة فيها تعظيم وشفقة وزيارة وغير ذلك مما يدل على عظمة المحيى فى قلب المحيى ومحبوبيته له، لكن اذا كان لمحض الشفقة والمحبة لا للاغراض التى فشت بين اهل الرسوم حتى يتأنف العالى ظاهرا عن التسليم على الدانى وينتظر تسليمه ويتأنف عن زيارته بدوا الا عوضا عن زيارته، وهكذا الحال فى غيرهما فما اشتهر بين الفرس من قولهم " ديد مستحب؛ بازديد واجب " صحيح ان لم يكن مشوبا بالاغراض الفاسدة وان كان مشوبا فالزيادة مذمومة وعوضها ايضا مذموم، ولذلك ورد من زار أخاه المؤمن فى بيته من غير عوض ولا غرض كان كمن زار الله فى عرشه، وخلوص اعمال اهل الدنيا من الاغراض الفاسدة محال والمخالطة معهم مؤثرة فى النفوس الضعيفة، فالاولى للسالك مهما امكن ترك مخالطتهم حفظا لنفسه عن استراق الاغراض منهم، الا ان تكون تقية لحفظ عرض او مال او نفس او شفقة لاصلاح حال، فانها حينئذ تكون واجبة وان احتمل استراق النفس. والمراد بردها ليس رد عينها ان كانت من الاعراض الدنيوية فانه لا يرد الاحسان الا الحمار بل رد مثلها مثلا اذا قال: سلام عليك، فقال: سلام عليك فهو ردها، وان قال: سلام عليك ورحمة الله فهو أحسن، واحسنيتها اعم من ان تكون بالزيادة عليها او بتغيير هيئتها الى احسن منها، كما قال ابراهيم (ع) سلام فى جواب الملائكة حين قالوا سلاما، عدولا من النصب الى الرفع للدلالة على الدوام، ويختلج ببالى ان ادون الرسوم العادية والآداب المستحبة ان وفقنى الله ان شاء الله ليكون السالكون على بصيرة منها، واذا ارتكبوها لا يكون عن عمى وعادة صرفه { إن الله كان على كل شيء حسيبا } فيحاسبكم على تحياتكم وقدرها يحاسبكم ايضا على اغراضكم فيها فلا تخالطوها بالاغراض.
[4.87]
{ الله لا إله إلا هو } استيناف مشير الى التعليل للسابق وتميهد للاحق { ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه } فى الجمع او فى اليوم، استيناف! أوحال عن اليوم { ومن أصدق من الله حديثا } استفهام انكارى والجملة معطوفة على جملة القسم والمقسم عليها او حالية وتمهيد للانكار الآتى.
[4.88-89]
{ فما لكم في المنافقين فئتين } حال من الضمير المجرور يعنى لا ينبغى لكم ان تتفرقوا فرقتين فيمن حكم الله بكفرهم عن الباقر (ع) انها نزلت فى قوم قدموا من مكة واظهروا الاسلام ثم رجعوا اليها فأظهورا الشرك ثم سافروا الى اليمامة فاختلف المسلمون فى غزوهم لاختلافهم فى اسلامهم وشركهم { والله أركسهم } ردهم فى الكفر { بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سوآء } كما هو ديدن الناس فان كل ذى مذهب وطريق خاص يود ان يكون كل الناس على طريقه والآية جارية فى الانسان الصغير ايضا وتعريض بمنافقى الامة المرتدين بعد محمد (ص) بانكار قوله فى على (ع) وعدم هجرتهم من دار شركهم النفسانية الى دار الاسلام والايمان العلوية الولوية ان لم يكن تنزيلها فيهم { فلا تتخذوا منهم أوليآء } بعد حكمه تعالى عليهم بالضلالة { حتى يهاجروا } عن اوطان المشركين اليكم { في سبيل الله } ظرف ليهاجروا او حال عن الفاعل يعنى يهاجروا بنيات صادقة لا بنيات منحرفة الى الشيطان او يهاجروا عن دار شركهم فى ولاية على (ع) الى على (ع) { فإن تولوا } عن المهاجرة الصحيحة صورة اليك او باطنا الى على (ع) { فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم } كما فعل محمد (ص) بالمرتدين فى زمانه وعلى (ع) بالمرتدين فى زمانه كاصحاب الجمل والصفين والنهروان { ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا } ظاهرا ولا باطنا اى لا تبايعوهم بالبيعة العامة المحمدية ولا الخاصة العلوية، او لا تتخذوا منهم حبيبا ولا تستنصروا بهم.
[4.90]
{ إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق } فلا تتخذوهم اولياء ولا تقتلوهم حفظا للميثاق من جميع الوجوه { أو جآءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلونكم } فلا يكونوا عليكم { أو يقاتلوا قومهم } فلا يكونوا معكم فانهم لحصر صدورهم عن مقاتلتكم يستحقون الرفق لا الاخذ والقتل، ونزول الآية مذكور فى التفاسير وتعميمها سهل على البصير { ولو شآء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا } بالاخذ والقتل.
[4.91]
{ ستجدون آخرين } استيناف وتنبيه على حال المختدعين وبيان لحكمهم { يريدون أن يأمنوكم } خدعة { ويأمنوا قومهم } وفاقا حال كونهم { كل ما ردوا إلى الفتنة } اى القتال معكم فالجملة حال اوستيناف جواب سؤال مقدر { أركسوا فيها } انقلبوا عن اظهار الوفاق الى القتال معكم { فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم } عطف على المنفى { فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا } تسلطا ويدا او حجة لغدرهم.
[4.92]
{ وما كان لمؤمن } ما صح وما لاق بحاله { أن يقتل مؤمنا } بغير حق { إلا خطئا } استثناء من لازمه اى فيعذب على كل حال الا خطأ { ومن قتل مؤمنا خطئا } { ف } عليه { تحرير رقبة مؤمنة } كفارة له { ودية مسلمة إلى أهله } لئلا يهدر دم امرء مسلم { إلا أن يصدقوا } يتصدقوا بالعفو فان التصدق يطلب على كل معروف { فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن } من عطف التفصيل على الاجمال { ف } عليه { تحرير رقبة مؤمنة } من غير دية لعدم السبيل للكافر على المسلم { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق } { ف } عليه { دية مسلمة إلى أهله } حفظا للميثاق { وتحرير رقبة مؤمنة } قدم الدية ههنا للاهتمام ببيانها فانه يتراءى ان لايكون لهم كفارا عليه دية مسلما، واخرها فى الآية السابقة لانها حق الناس والتحرير حق الله { فمن لم يجد } رقبة ولا ثمنها { فصيام شهرين متتابعين توبة من الله } سبب توبة من الله { وكان الله عليما } بوضع الاحكام { حكيما } يضعها على غايات محكمة.
[4.93]
{ ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزآؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما } تهديد بما لم يهدد به احدا من اصحاب الكبائر، والتعمد المورث للوعيد الشديد كما فى الاخبار ان يقتله من جهة ايمانه عالما به لا ان يقتله لغضب او جدل او حقد له من جهة اخرى فانه وان كان عمدا فهو من وجه خفى مشوب بالخطأ، ومن قتل مؤمنا من جهة ايمانه كان كمن قتل صاحبه ومن قتل صاحبه وهو الامام لاخلاص هل له من النار ولا توبة له، اولا يوفق للتوبة كما فى الاخبار، ولذلك ورد ان غيبة المؤمن اشد من الزنية، او من سبعين زنية، او من سبعين زنية تحت الكعبة، وفى بعض الاخبار مع المحارم، والسر ما ذكرنا، فان ذكر المؤمن بالسوء من جهة ايمانه ذكر صاحبه بالسوء وذكر الامام بالسوء من اكبر الكبائر.
[4.94]
{ يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم } بارجلكم الارض { في سبيل الله } اى سافرتم فى الجهاد تأديب للمجاهدين باصلاح النية فى الجهاد حتى لا يغلب الهوى على امر الله { فتبينوا } فبالغوا فى طلب ظهور الامر من الكفر والايمان ممن تلاقونه وقرئ فتثبتوا بمعنى التأنى والتأمل والمقصود واحد يعنى لا تعجلوا فى القتل قبل التيقن بكفرهم { ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام } وقرئ السلم يعنى الانقياد والتسليم او تحية الاسلام اظهارا لاسلامه بشعار الاسلام { لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا } اى لا تنكروا اسلامه لابتغاء ماله بقتله بل تبينوا أمره فان ظهر اثر الصدق فلا تقتلوه { فعند الله مغانم كثيرة } اى لا تقولوا ذلك ولا تقتلوه فانكم ان لا تقولوا تستحقوا مغانم اكثر من غنيمته من الله فعند الله مغانم كثيرة مبذولة لمن امتثل امره ونهيه فأقيم السبب مقام الجواب { كذلك كنتم من قبل } كافرين ومتزلزلين ومظهرين للاسلام بالسنتكم من غير علم بمواطاة القلوب { فمن الله عليكم } بالتحقق بالايمان والاشتهار به { فتبينوا } كرره للتأكيد وللاشارة إلى ان امتثال امر الله يقتضى التبين والمقايسة الى انفسكم ايضا تقتضى التبين { إن الله كان بما تعملون خبيرا } فاحتاطوا فى افعالكم وفى نياتكم، والآية ان وردت فى اسامة بن زيد وقتله يهوديا وعدم اعتنائه باظهاره الشهادتين فهو عام لا اختصاص له بالقتل ولا بالسفر.
[4.95]
{ لا يستوي القاعدون } مستأنف جواب لسؤال مقدر ناش من التهديد على قتل المؤمن متعمدا والدية والكفارة على قتله خطأ ومن الامر بالتبين عند لقاء من لا يعلم حاله ومما كان معلوما من مورد نزول الآية وهو قتل اسامة بن زيد يهوديا فدكيا جمع عياله وماله وساق غنمه وانحاز الى ناحية جبل وكان قد اسلم فقال بعد ما لقى عسكر اسامة: السلام عليكم لا إله الا الله؛ محمد رسول الله، فبدراليه اسامة فقتله فلما رجع قال له رسول الله (ص):
" افلا شققت الغطاء عن قلبه، لا ما قال بلسانه قبلت، ولا ما كان فى نفسه علمت "
، ونزلت الآية فحلف اسامة بعد ذلك ان لا يقتل احدا قال لا آله الا الله، وبهذا العذر تخلف عن على (ع) وقيل: نزلت فى رجل آخر كان فى سرية لقى رجلا كان بينهما احنة فحياه الرجل بتحية الاسلام فقتله وجاء الى رسول الله (ص) وقال: استغفر لى، فقال رسول الله (ص)
" لا غفر الله لك "
وعلى اى تقدير صار المقام مقام ان يقال: هل القعود افضل من الجهاد ان كان فى الجهاد هذه الآفات؟ - فقال تعالى: لا يستوى القاعدون عن الحرب { من المؤمنين } الذين قبلوا الدعوة الظاهرة سواء كانوا قبلوا الدعوة الباطنة وبايعوا البيعة الخاصة ام كانوا واقفين على الدعوة الظاهرة وعلى قبول البيعة العامة الاسلامية، والظرف مستقر حال عن القاعدون او عن المستتر فيه { غير أولي الضرر } قرئ برفع غير صفة للقاعدون لان الغير وان كان لا يتعرف بالاضافة لغاية ابهامه لكنه اذا اضيف الى معرف يقع صفة للمعرفة اذا كانت المعرفة معرفة باللام الجنسية او موصولة لابهامهما مثل غير، او كان غير واقعا بين النقيضين، وقرئ بالنصب حالا عن القاعدون او عن المستتر فيه او منصوبا على الاستثناء، وقرئ بالجر صفة للمؤمنين، قيل: نزلت الآية فى جمع تخلفوا عن غزوة تبوك ولم يكن فيها غير اولى الضرر فجاء ابن ام مكتوم وكان اعمى وهو يبكى فقال: يا رسول الله (ص) كيف بمن لا يستطيع الجهاد فغشيه الوحى ثانيا ثم سرى عنه فقال
" اقرء غير اولى الضرر فألحقها والذى نفسى بيده لكأنى انظر الى ملحقها عند صدع فى الكتف "
{ والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم } ببذلها على المجاهدين وصرفها فى سبيل الخيرات وانقاقها على انفسهم فى الجهاد وصرف قواهم التى هى اموالهم الحقيقية وكذلك نسبة افعالهم واوصافهم الى انفسهم { وأنفسهم } باتعابها فى الجهاد واجهادها فى الخيرات والرياضات وهذا تهييج للمجاهد فى جهاده وترغيب للقاعد عن قعوده { فضل الله } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: ما الفرق بينهما؟ - فقال: فضل الله { المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين } اظهر المجاهدين والقاعدين اشعارا بعلة الحكم وتكرارا لوصفها الداعى الى التفضيل تهييجا وترغيبا لهما، واظهر الاموال والانفس لانه تعالى اراد ان يعلق حكم التفضيل بدرجة واحدة على حالة بقاء نسبة الاموال والانفس اليهم حتى يظهر الفرق بين هؤلاء المجاهدين والمجاهدين الآتين، لانه ذكر هناك تفضيلهم على القاعدين بدرجات وما امكن الاشارة الى بقاء نسبة الاموال والانفس الا بالتصريح بهما واضافتهما اليهم، وقدم الاموال على الانفس لان المجاهد يقدم الاموال فى الجهاد دون نفسه ولانه مال تكن نسبة الاموال اولا لم تكن نسبة الانفس، وقدم القاعدين اولا واخرهم ثانيا لان السؤال كأنه كان عن حال القاعدين وانهم هل يبلغون درجة المجاهدين ام لا؟ بخلاف المجاهدين فان فضلهم كان معلوما.
واعلم انه لا فرق بين القاعد والمجاهد بالاموال والانفس الا بدرجة لانهما فى نسبة الاموال والانفس اليهما متساويان لكن القاعد لم يترك الراحة بالاموال والانفس والمجاهد الا بدرجة لانهما فى نسبة الاموال والانفس اليهما متساويان لكن القاعد لم يترك الراحة بالاموال والانفس والمجاهد ارتفع عنه درجة من حيث انه ترك الراحة بالاموال والانفس وهما بخلاف المجاهدين فى الآية الآتية ولذلك قيد ههنا التفضيل بقوله تعالى { درجة } واطلقه فى الآية الآتية { وكلا } منهما { وعد الله } المثوبة { الحسنى } اذا لم يكن القعود عن عذر، ولا اختصاص للآية بالقاعد والمجاهد الصورى بل تجرى فى المؤمن القاعد فى نواحى دار اسلامه او الواصل الى دار اسلامه التى هى الصدر والواقف فيها، وفى المؤمن المجاهد فى سبيل الله حال كونه فى حدود النفس باقيا عليه نسبة المال والنفس وحال كونه بلغ الى القلب وطرح نسبة المال والنفس عن نفسه وجاهد حتى طرح نسبة المال والنفس عن نفسه وقتل فى حضور الامام بفنائه فى شيخه فلا يرى فى ممالك وجوده غير شيخه وللمجاهد فى فنائه مراتب ودرجات، رزقنا الله وجميع المؤمنين ذلك { وفضل الله المجاهدين } المجردين عن نسبة الاموال والانفس بطرح تلك النسبة والفناء عن نسبة الاموال والصفات والانفس { على القاعدين أجرا عظيما } لا يحد بحد لان هؤلاء المجاهدين قد خرجوا عن الحدود.
[4.96]
{ درجات } عظيمة { منه ومغفرة } عظيمة بستر نسبة الافعال والصفات والانفس عنهم { ورحمة } عظيمة لانهم خرجوا عن دار السخط ودخلوا فى دار الرحمة وصاروا رحمة بانفسهم وقد علم وجه عدم الاتيان بالاموال والانفس ههنا { وكان الله غفورا رحيما } يعنى ان شيمته المغفرة والرحمة فلا اختصاص لمغفرته ورحمته بالمجاهدين المستحقين لهما بل تشملان القاعد الغير المستحق وفيه تهييج واطماع للقاعدين.
[4.97]
{ إن الذين توفاهم الملائكة } مستأنف جواب لسؤال مقدر كأن السامع لما سمع المغفرة والرحمة للقاعد توهم ان القاعد بجميع اقسامه مرحوم وسأل ذلك كأنه منكر لعذاب القاعد فقال تعالى مؤكدا بان واسمية الجملة دفعا لهذا الوهم: ان الذين توفاهم الملائكة { ظالمي أنفسهم } بعدم الخروج من دار الشرك التى هى نفوسهم الحيوانية مقصرين كانوا كالذين توعدهم بكونهم اصحاب الجحيم، او قاصرين كالذين اسثناهم الله.
اعلم انه تعالى اراد ان يبين اقسام العباد فى العبودية وعدمها بعد ما ذكر القاعدين والمجاهدين فانهم اما واقفون فى دار الشرك التى هى نفوسهم الامارة سواء كانوا فى دار الشرك الصورية ام فى دار الاسلام الصورية وقد اشار اليهم بقوله: ان الذين توفاهم الملائكة (الآية) او خارجون من بيوتهم التى هى بيوت طبائعهم ونفوسهم الامارة فى طلب من اسلموا على يده ومن قبلوا الاحكام القالبية منه واشار اليهم بقوله: ومن يخرج من بيته مهاجرا، الآية، ولما كان المقصود ممن يخرج من بيته الطالب للاسلام لم يأت بقوله: فى سبيل الله، لانه لم يكن بعد على سبيل الله واتى بقوله الى الله ورسوله لعدم وصوله الى الرسول (ص) بعد او مهاجرون على سبيل الله الى مراتب الايمان بالتوسل بالولاية بعد ما كانوا قد خرجوا عن نفوسهم الامارة بقبول الدعوة الظاهرة وقبول الاسلام بالبيعة العامة النبوية، وهؤلاء اما مجاهدون او قاعدون عن الجهاد وقد اشار اليهما بقوله سابقا: لا يستوى القاعدون، واشار اليهم بقوله: ومن يهاجر فى سبيل الله، ولم يقل: من يخرج لان المفروض انهم قد خرجوا بقبول الاسلام، ولم يقل الى الله ورسوله لان المفروض انهم قد خرجوا الى الله ورسوله وقبلوا الدعوة الظاهرة وقال فى سبيل الله لانهم بقبولهم الاسلام كانوا فى سبيل الله لان الاسلام طريق الى الايمان.
تحقيق توفى الله وتوفى الملائكة والرسل
ووجه الجمع بين الآيات المختلفة فى توفى الانفس بتوفى الله وملك الموت والملائكة والرسل لا يخفى على البصير فان العقل فى العالم الصغير كالحق فى العالم الكبير، واذا لوحظ ان للعقل جنودا واعوانا ومدارك وقوى لا يعصون ما امرهم العقل وهم بأمره يعملون وان امره للقوى والمشاعر امتثالها من غير تراخ وتأبى، وفعلها كما انه منسوب اليها حقيقة منسوب الى العقل ايضا حقيقة من غير مجاز لاحدى النسبتين او اثنينية وتعدد للنسبة بل فعل القوى فعل العقل من حيث كونه فعل القوى من غير تعدد فى الحيثية ايضا فالرؤية مثلا فعل الباصرة وهى من حيث انها فعل الباصرة فعل العقل لكن فى مرتبة الباصرة لافى مرتبته العالية، بل فعله الخاص به فى مرتبته العالية هو التعقل اعنى درك الاشياء مجردة عن غواشى المادة والتقدر والتحدد والتشكل، علم ان الفاعل فى كل فعل دانيا كان او عاليا هو الله سبحانه، لكن لكل مباشر خاص ينسب الفعل اليه والى الله باعتبار تشأنه وظهوره بفاعله الخاص وله باعتبار مرتبته المخصوصة فعل خاص به لا ينسب الى غيره، فالعقل مظهر لله سبحانه فى مرتبته الخاصة والنفس مظهر لملك الموت، والقوى والمشاعر مظاهر للملائكة والرسل، فالباصرة كالملك تباشر نزع الصور عن المواد، والنفس كملك الموت تنزع عن الصور المجردة عن المواد الصور المجردة عن التحددات والتشكلات المخصوصة مع تقدرها، والعقل كالله ينزع الكليات عن الصور مع ان نزع الاول ايضا فعل العقل بواسطة الباصرة والنزع الاخير فعله بلا واسطة فاختلاف الآيات والاخبار باعتبار اختلاف المباشر واختلاف المراتب مع صحة الانحصار فى قوله تعالى الله يتوفى الانفس، واختلاف المباشر باعتبار اختلاف النفوس مثل مباشر نزع النفوس النباتية والحيوانية والانسانية، وفى النفوس الانسانية ايضا مراتب فنفس يقبضها الله بلا واسطة، ونفس يقبضها ملك الموت، ونفس يقبضها الملائكة والرسل، ومقبوض الملائكة مقبوض لملك الموت ولله، ومقبوض ملك الموت مقبوض الله، والمراد بظلم النفس ههنا غير ما ذكر فى قوله تعالى:
فمنهم ظالم لنفسه
[فاطر:32] لان الظالمين لانفسهم هنا محكوم عليهم بالجحيم وهناك بالجنة، فالمراد بظالمى انفسهم ههنا من لزم دار شركه ولم يخرج من بيت شركه الى الله ورسوله، وهناك من خرج من بيت شركه الى الله ورسوله ولكن وقف ولم يهاجر فى سبيل الله، فانه محكوم عليه بالقعود عن الجهاد وعن الهجرة. وبعبارة أخرى الظالم ههنا فى العالم الصغير من لزم بيت نفسه الامارة ولم يخرج منه الى مدينة صدره ليصل الى الرسول وقبول الاسلام فهو مخلد فى جحيم طبعه وبعد الموت فى جحيم الآخرة، وهناك من خرج من بيت نفسه الامارة الى مدينة صدره ووصل الى الرسول وقبل الاسلام بدليل ايراثه الكتاب اى كتاب النبوة بقبول احكام الرسالة ولم يهاجر من مدينة صدره الى الجهاد الاكبر فى تحصيل الولاية فهو محكوم عليه بدخول الجنة لكن ليس له درجة المجاهدين فى تحصيل الولاية. وما روى عن الصادق (ع) فى تفسير الظالم لنفسه هناك من انه: يحوم حول نفسه؛ يشعر بما ذكر { قالوا فيم كنتم } بهذه الادناس والارجاس اى فى اى حال كنتم حتى خرجتم بهذه الارجاس ولم ما طهرتم نفوسكم فى حيوتكم؟ - { قالوا } اعتذارا { كنا مستضعفين في الأرض } غلب علينا اهل الشرك بحيث لا يمكننا تغيير حالنا { قالوا } ردا لاعتذارهم { ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها } اى فان تهاجروا او فلم تهاجروا يعنى ان لم يمكنكم التغيير فى ارضكم لامكنكم المهاجرة عنها، والارض اعم من ارض العالم الكبير وارض العالم الصغير وارض كتب الانبياء وسير احوالهم وارض احكام الملل المختلفة وتمييز المستقيم منها عن السقيم { فأولئك مأواهم جهنم وسآءت مصيرا } لا منافاة بين خصوصية النزول والتعميم الذى ذكرنا على وفق ما اشير اليه فى الاخبار.
[4.98]
{ إلا المستضعفين من الرجال والنسآء والولدان } استثناء منقطع ان خصص ظالموا انفسهم بالمقصرين وان عم المقصرين والقاصرين فمتصل فان المقيم فى دار شرك النفس اما متمكن من الخروج بحسب القوة النظرية والعملية او غير متمكن والاول مقصر والثانى قاصر، والمستضعف من لا قدرة له بحسب القوة العملية على الاعمال التى تطهر قلبه عما يحجبه عن افاضات الحق تعالى ولا بحسب القوة النظرية على التميز بين الحق والباطل ولذلك فسر المستضعفين بقوله تعالى { لا يستطيعون حيلة } بحسب العمل { ولا يهتدون سبيلا } بحسب النظر وقد يفسر المستضعف بمن لم يسمع دينا ومذهبا سوى عادياتة وهو راجع الى الاول لان العجز اما من جهة اصل الفطرة او من جهة عدم المنبه.
[4.99]
{ فأولئك } مع عدم خروجهم عن دار شركهم { عسى الله أن يعفو عنهم } عن اقامتهم فى دار الشرك { وكان الله عفوا غفورا } من قبيل عطف العلة.
[4.100]
{ ومن يهاجر في سبيل الله } لما فرغ من بيان حال المقصر والقاصر المتوطن فى دار الشرك اراد ان يبين حال الخارج من بيت الشرك وهو اما يخرج فى الظاهر من بيت وطنه الصورى او فى الباطن من بيت نفسه الامارة فى طلب الاسلام وليس له جهاد لان الجهاد بعد قبول الاسلام ومعرفة الاعداء باذن النبى او الامام، او يهاجر فى سبيل الله بعد اسلامه فى طلب الايمان من بيته الصورى او المعنوى ولهذا المهاجر يتصور الجهاد بمراتبه اما بالاموال والانفس، او فانيا عن الاموال والانفس بمحض الامر من غير تعلق الخاطر بغير الامر، او بالله بالفناء عن الامر ايضا ولم يذكر الخارج من دار اسلامه او دار ايمانه الى دار الشرك لعدم الاعتناء به ولاستفادته من مفهوم المخالفة واشار الى المهاجر بعد الاسلام فى سبيل الله بقوله: ومن يهاجر فى سبيل الله { يجد في الأرض } بمعانيها { مراغما كثيرا } من الرغام وهو التراب بمعنى المذهب والمهرب والمغضب والمراد به محل تفرج وتنزه من الارض بحيث يرغم الاعداء { وسعة } فى الارض او فى نفسه او فى معيشته او فى سيره ظاهرا او باطنا، وقدم بيان حال المهاجر بعد الاسلام على الخارج الى الاسلام لشرفه وان كان مؤخرا برتبته، واشار الى الخارج الى الاسلام بقوله تعالى { ومن يخرج من بيته } ظاهرا وباطنا { مهاجرا إلى الله ورسوله } ذكر الى الله للاشارة الى ان الخارج من بيت الشرك ذاهبا الى الرسالة فى طلب الاسلام ذاهب الى الله لانتهائه الى الله، ولان الرسول مظهر الآلهة ولذا لم يكرر لفظ الى { ثم يدركه الموت } اختيار بالجذبة الآلهية او اضطرارا فى السبيل الظاهرى او الباطنى { فقد وقع أجره على الله } اى لا ينبغى ان يتكفل اداء اجره غيره وفيه بشارة الى تامة لهم { وكان الله غفورا رحيما } فيغفر مساويه الغير الزائلة عنه ويرحمه باعطاء اجره بلا واسطة ان كان نزول الآية فى جندب بن ضمرة حين خرج من مكة الى المدينة فمات، او النجاشى حين خرج الى المدينة فمات؛ لا ينافى تعميمها، ولما ذكر المجاهدين والمهاجرين اراد ان يبين حكمهم فى العبادات فقال تعالى { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة }.
[4.101]
{ وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } شرائط القصر وكيفيته غير محتاجة الى البيان، ونفى الجناح لا ينافى وجوب القصر لانه تعالى جرى على طريقة المخاطبات العرفية وآداب الملوك من نفى البأس والحرج عن الشيء وارادة الامر به، وبعد ما علمت ان الصلوة هى ما به يتوجه الى الله والاصل فيه محمد (ص) وولايته ثم على (ع) وخلافته، ثم الاعمال القلبيته والقالبية المأخوذة منهما التى تصير سببا للتوجه اليه تعالى امكنك تعميم السفر وتعميم الصلوة والقصر { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } اشارة الى الحكمة فى تشريع القصر لا انه تقييد للحكم فلا ينافى وجوب القصر فى حال الا من على ان حجية مفهوم الشرط غير مسلم بل هو بحسب المفهوم كسائر المجملات، واعتباره وعدم اعتباره محتاج الى القرينة، ويحتمل ان يكون المراد صلوة الخوف وقصرها ويكون قصر مطلق الصلوة فى السفر من قبيل المجملات التى بينوها لنا بدليل بيان صلوة الخوف بعدها { إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا } استيناف فى موضع التعليل.
[4.102]
{ وإذا كنت فيهم } حين المسافرة والخوف { فأقمت لهم الصلاة } بان تؤمهم { فلتقم طآئفة منهم } للصلوة { معك وليأخذوا أسلحتهم } اى الطائفة الغازية المستفادة التزاما او الطائفة المصلية { فإذا سجدوا } اى الطائفة المصلية { فليكونوا } اى الطائفة الغازية { من ورآئكم } ايتها الطائفة المصلية { ولتأت طآئفة أخرى لم يصلوا } بعد ما انتظرتهم فى القيام الثانى واتم الطائفة المصلون معك صلوتهم وذهبوا الى مواقفهم { فليصلوا معك } بان يأتموا بك فى القيام وتنتظرهم فى القعود حتى يتموا صلوتهم بالاتيان بالركعة الاخرى ثم تسلم عليهم بعد لحوقهم بك فى القعود { وليأخذوا حذرهم } اى الطائفة الذين صلوا ووقفوا مواقف غير المصلين او الطائفة المشغولة بالصلوة { وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة } استيناف فى موضع التعليل { ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر } لثقل الاسلحة { أو كنتم مرضى } فتضعفوا عن الحمل { أن تضعوا أسلحتكم } لما بالغ فى التيقظ والحذر واخذ الاسلحة فى كل حال اوهم ان لا يجوز وضع الاسلحة بحال فرفعه { وخذوا حذركم } لكن مع ذلك لا تخرجوا من طريق الحزم { إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا } على ايديكم ولذا يأمركم بالحزم واخذ السلاح حتى لا تستأصلوا فيعذبهم بكم وعلى هذا صح اخراجه مخرج التعليل، وان كان نزول الآية فى غزوة الحديبية او ذات الرقاع فلا ينافى عموم حكمها.
[4.103]
{ فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم } يعنى اذا اديتم الصلوة فلا تغفلوا عن ذكر الله ولا تراقبوا حين الغزو ادبا للذكر بل اذكروا الله فى جميع احوالكم، او فاذا اردتم اداء الصلوة وقت شدة الخوف وعدم تمكنكم من الصلوة على ما قرر فصلوا على اى حال وقع منكم وتمكنتم منها بقرينة قوله تعالى { فإذا اطمأننتم } عن شدة الخوف { فأقيموا الصلاة } اى فاتموها بشرائطها وآدابها المقررة لها فى السفر، او فاذا اطمأننتم فى اوطانكم او دار اقامتكم فاتموها بإتمام ركعاتها { فإن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا } تأكيد كتابا لان الموقوت بمعنى المفروض فى الاوقات والمعنى فرضا مفروضا يعنى انا بالغنا فى حفظ الصلوة وعدم تركها فى حال من الاحوال لانها بالغة حد الكمال فى الوجوب.
[4.104]
{ ولا تهنوا } عطف باعتبار ما يفهم من تأكيد فرض الصلوة اى فحافظوا عليها ولا تهنوا { في ابتغآء القوم } حتى تقتلوهم وتأسروهم او يسلموا { إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون } استيناف واقع موقع التعليل للنهى وتشجيع لهم على القتال بسبب ان المهم لا يزيد على الم القوم وانهم يزيدون عليهم برجاء اجر المجاهدين من الله { وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما } فيعلم ان الاصلح بحالكم وثباتكم على الايمان وعدم تعلقكم بالدنيا كالنسوان هو الجهاد ويرغبكم فيه على وفق حكمته وعلمه بدقائق المصالح التى لا تظهر عليكم وتدبيره بادق وجه واتقن صنع لتمكينكم فى اكثر الكمالات.
[4.105]
{ إنآ أنزلنا إليك الكتاب } كتاب النبوة الذى ظهوره بالقرآن استيناف لتأديب الامة بالخطاب لمحمد (ص) او لتأديب محمد (ص) اصالة ولامته تبعا { بالحق } الحق المطلق هو الله جل شأنه والحق المضاف هو مشيته المسماة بالحق المخلوق به والاضافة الاشراقية والحقيقة المحمدية وهو الولاية المطلقة وهى علوية على (ع) ومعروفية الله وظهوره، خلقت الخلق بالمشية والمشية بنفسها، اشارة اليه، ولما كان النبوة ظهور الولاية، وكتاب التدوين ظهور النبوة والرسالة، وظهور الظهور، ظهور للظاهر الاول كان انزال الكتاب بتوسط الحق المضاف صحيحا ومتلبسا بالحق المضاف ايضا صحيحا لان حقية كل حق وحقيقة كل ذى حقيقة هى هذا، ومع الحق ايضا جائز { لتحكم بين الناس } المراد من الحكم الحكومة المعروفة من قطع المنازعات ومن تأسيس السياسات والعبادات، او ما هو اعم منها ومن اصلاحهم بالنصائح والآداب أو ما هو أعم منها ومن اصلاحهم وتكميلاتهم فى الباطن بلسان السر { بمآ أراك الله } من رؤية البصر، لان ظهور الولاية بالنبوة لا يكون الا مع فتح باب من الملكوت فيرى صاحبه بعين البصيرة دقائق امور العباد وخفايا احوالهم فيمكن له الحكم والاصلاح بما يرى، او من الرأى يعنى بما جعلك الله ذا رأى لا تحتاج فيه الى رأى الغير لفتح بصيرتك أيضا بانزال الكتاب، وفى الخبر اشارة الى المعنى الاخير وان التفويض الى الرأى خاص به (ص) وليس لغيره ثم التفويض بعده لاوصيائه، فاذا كان انزال الكتاب لحكومتك برأيك فاحكم بينهم برأيك او رؤيتك { ولا تكن للخآئنين خصيما } على خصمائهم برأى غيرك.
[4.106]
{ واستغفر الله } مما هممت به او فعلت من الخصومة عن قبل الخائنين { إن الله كان غفورا رحيما } وقد نقل فى نزولها، ان ثلاثة اخوة من بنى ابيرق نقبوا على عم قتادة بن النعمان واخرجوا طعاما وسيفا ودرعا فشكى قتادة الى رسول الله (ص) وقال بنو ابيرق: هذا عمل لبيد، وكان لبيد رجلا مؤمنا، فمشى بنو ابيرق الى اسيد بن عروة من رهطهم وكان منطيقا، فمشى الى رسول الله (ص) وقال: ان قتادة رمى اهل بيت منا اهل شرف وحسب ونسب بالسرقة، فاغتم رسول الله (ص) وجاء اليه قتادة فقال له رسول الله:
" رميت اهل بيت شرف وحسب ونسب بالسرقة "
؟! وعاتبه فاغتم قتادة لذلك فأنزل الله فى ذلك: { إنآ أنزلنا إليك الكتاب } (الى آخر الآيات) فنقول: لو سلم ان نزولها كان كذا مع انه شبيه بموضوعات العامة فالتعريض بالامة كأنه قال: يا امة محمد (ص) لاتغفلوا عما قال لكم محمد (ص) وأعلمكم الله به من ولاية على (ع) وسائر الاحكام فاذا حكمتم بحكم فليكن مطابقا لحكم الله ولتميزوا بين الخائن وغيره ولا تكونوا للخائنين خصيما مع الصالحين يعنى اذا توفى محمد (ص) ووقع النزاع بينكم فاحكموا بما اعلمكم الله وبينه لكم رسوله.
[4.107]
{ ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم } باقتراف المعاصى ولو فسر انفسهم بعلى (ع) والائمة (ع) لم يكن بعيدا لما سبق من ان الولاية المطلقة حقيقة كل ذى حقيقة ونفسية كل ذى نفس { إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما } هما للمبالغة والجملة فى موضع التعليل، ونفى المحبة فى مثل المقام يفيد البغض اى ان الله يبغض من كان خوانا اثيما.
[4.108]
{ يستخفون } خبر بعد خبر او صفة بعد صفة او استيناف جواب لسؤال مقدر او حال، وجمعية الضمير باعتبار معنى من يعنى يستترون { من الناس } للحياء او للخوف منهم حين تبييتهم ما لا يرضى الله من القول { ولا يستخفون من الله } بيان لخيانتهم وكفى به خيانة مع الله ومع انفسهم وقواهم ومع الرسول (ص) { وهو معهم إذ يبيتون } يدبرون { ما لا يرضى من القول } والقول هنا اعم من الفعل لان فعل الاعضاء اقوالها كما ان قول اللسان فعله وهو عبارة عن تدبيرهم لمنع على (ع) عن حقه او عند تدبيرهم لنسبة السرقة الى غير السارق على ما ذكر من التنزيل { وكان الله بما يعملون محيطا } فلا يشذ عنه خفيات اعمالهم واقوالهم تهديد لهم.
[4.109]
{ ها أنتم هؤلاء جادلتم } ها حرف تنبيه تنبيه على حمقهم، وانتم مبتدأ، وهؤلاء اسم اشارة خبره او بدله او منادى، وجادلتم خبر بعد خبر او مستأنف او حال على الاول وخبر على الاخيرين، او هؤلاء موصول خبر انتم وجادلتم { عنهم في الحياة الدنيا } صلته، وخطاب الجمع للمحامين عن السارقين مثل اسيد بن عروة بناء على نزول الآية فى بنى ابيرق ومحاماة اسيد بن عروة عنهم { فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة } يعنى ان المجادلة هذه تكون عند النبى (ص) ويوم القيامة تكون عند الله { أم من يكون عليهم وكيلا } الوكيل من كان مراقبا لامور الموكل وحافظا لها، وتعديته بعلى لتضمين معنى المراقبة وهذا غاية تهديد للمجادلين والمجادلين عنهم جميعا.
[4.110]
{ ومن يعمل سوءا } بارتكاب ما لا يرضاه العقل والشرع { أو يظلم نفسه } بترك ارتكاب ما يرضاه العقل والشرع فان المراد بعامل السوء من يرتكب القبائح التى يبعده عن حضرة العقل والرب، وبظالم النفس من يقف عما يقر به الى حضرة العقل، وقد فسر فى الخبر الظالم لنفسه بمن يحوم حول نفسه من دون الحركة الى حول القلب { ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما } وعد للخائن والمجادل عنه بقبول توبته ان تاب، والمغفرة ستر الذنوب وترك العقاب عليها. والرحمة التفضل عليه زائدا على ترك العقاب.
[4.111]
{ ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما } باثمه { حكيما } لا يفعل لغوا حتى يمكن ان يرجع وبال اثمه على الغير فرمى الغير به لا ينفعه بل يضره.
[4.112]
{ ومن يكسب خطيئة أو إثما } الخطيئة كاللمة ما صدر عن الشخص مع انزجار النفس كأنه لم يقصده، والاثم ما كان بدون انزجار { ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا } بسبب نسبة السوء الى من هو بري منه { وإثما مبينا } زائدا على اثمه الاول بسبب تنزيه النفس الخاطئة او الآثمة منه ورمى البريء به.
[4.113]
{ ولولا فضل الله } النبوة والرسالة بالنسبة الى النبى المخاطب به ولولا النبى والرسول بالنسبة الى المعرض به { عليك } واردا او حافظا عليك { ورحمته } الولاية او على (ع) بالنسبتين { لهمت طآئفة منهم } يعنى ان هيبة الفضل والرحمة مانعة من همتهم او من تأثير همتهم على تضمين اثرت { أن يضلوك } عن رأيك الصواب او عن رؤيتك الصواب وعلى ما بينا فالمعنى لولا النبى (ص) وعلى (ع) حافظا عليكم لهم منافقوا الامة ان يضلوكم عن نهج الصواب والطريق المدلول عليه بالاسلام من ولاية على (ع) { وما يضلون إلا أنفسهم } بهمتهم { وما يضرونك من شيء } على فرض الهمة منهم { وأنزل الله عليك الكتاب } اى النبوة { والحكمة } اى الولاية { وعلمك ما لم تكن تعلم } بانزال الولاية من دقائق الكثرات ودقائق احكامها التى هى لازمة الرسالة { وكان فضل الله } اى الرسالة او مطلق نعم الله { عليك عظيما } وفى وصل هذا الامتنان اشارة الى تعليل عدم الاضرار.
[4.114]
{ لا خير في كثير من نجواهم } من تبعيضية او بيانية وما بعدها بيان لكثير، او من ابتدائية او تعليلية والمعنى لا خير فى كثير من الناس ناشئا من نجواهم او ليس لهم خير لاجل نجواهم وحينئذ يكون من نجويهم قيدا للنفى او للمنفى مرفوعا بالنفى، وقوله تعالى { إلا من أمر بصدقة } استثناء من كثير بتقدير نجوى من امر بصدقة على الاول، وبدون التقدير على الاخيرين، او الاستثناء منقطع على الوجه الاول { أو معروف أو إصلاح بين الناس } وفسر المعروف بالقرض فمن امر بالصدقة فى نجواه من حيث انه امر بالصدقة كان النجوى خيرا له وللمأمور وللمأمور سواء كان نجواه مع غيره والمأمور غيره، او كان نجواه مع نفسه بالخطرات والخيالات وكان المأمور نفسه وقد جاء عنهم قراءة قوله تعالى
إنما النجوى من الشيطان
[المجادلة:10] (الى آخر الآية) عند المنامات المشوشة اشارة الى انها نجوى الشيطان، وروى عن الصادق (ع) ان الله تعالى فرض التجمل فى القرآن فسئل وما التجمل؟ - قال: ان يكون وجهك اعرض من وجه أخيك لتمحل له وهو قوله تعالى { لا خير في كثير من نجواهم } (الآية) { ومن يفعل ذلك } من قبيل عطف التفصيل على الاجمال كأنه قال: ومن يفعل ذلك فلة اجر عظيم، ومن يشاقق الرسول بنجواه فله عذاب عظيم ومن لم يأمر بالصدقة ولم يشاقق الرسول فلا اجر كاملا له ولا عذاب فمن يفعل النجوى { ابتغآء مرضات الله } خالصا عن شوب رياء وسمعة وعظمة ورفعة بالنسبة الى المأمور او المأمور له او غيرهما { فسوف نؤتيه أجرا عظيما } لصرف عرضه او لتحمل تعب الاصلاح.
[4.115-116]
{ ومن يشاقق الرسول } بان يناجى بخلافه ولا يرضى بقوله وينهى عما يأمر به كمن تحالفوا فى مكة لا يتركوا هذا الامر فى بنى هاشم ومثل من تخلف عن جيش اسامة { من بعد ما تبين له الهدى } الرشاد او حقيقة الهدى وهى الولاية فانها تبينت بقول الله وقول رسوله (ص) { ويتبع غير سبيل المؤمنين } بالبيعة الخاصة الولوية كسبيل سلمان وابى ذر واقرانهما او غير سبيل المسلمين من حيث اسلامهم فان سبيلهم من حيث الاسلام هى السبيل المنتهية الى الولاية { نوله ما تولى } نوجهه تكوينا ما توجه اليه باختياره من سبيل الجحيم { ونصله جهنم } لانتهاء سبيله اليها { وسآءت مصيرا إن الله لا يغفر أن يشرك به } باعتبار مظهره الذى هو على (ع) استيناف فى موضع التعليل تعليلا للحكم واظهارا لان مشاقة الرسول (ص) فى على (ع) والشرك به شرك بالله { ويغفر ما دون ذلك لمن يشآء } قد مضى الآية بتمام اجزائها سابقا { ومن يشرك بالله } باعتبار الشرك بالولاية { فقد ضل ضلالا بعيدا } وصف الضلال بالبعد باعتبار بعد صاحبه مبالغة.
[4.117]
{ إن يدعون } هؤلاء المشركون بالله او بعلى (ع) { من دونه } اى من دون الله او من دون على { إلا إناثا } لانهم يسمون اصنامهم اناثا ويقولون: انثى بنى فلان وانثى بنى فلان، او لانهم يعبدون نفوسهم الامارة وهى اناث العالم الصغير وهى التى تمكن فيها الشيطان ويأمر وينهى الانسان، او لانهم يطيعون ائمة الضلالة؛ وائمة الضلالة لكون فعلياتهم فعليات النفوس الامارة ما بقى لهم جهة رجولية لا بالفعل ولا بالقوة { وإن يدعون إلا شيطانا مريدا } الشيطان الخارجى او الظاهر بنفوسهم الامارة، والمريد والمارد الخارج عن الطاعة الذى لا خير فيه.
[4.118]
{ لعنه الله } دعاء عليه او اخبار بحاله مستأنفا او صفة او حالا { وقال لأتخذن من عبادك } اى من كل فرد من عبادك او من مجموع عبادك، والاتيان بلام القسم ونون التأكيد للتأكيد والمبالغة فى وقوعه { نصيبا مفروضا } قسطا معينا فرض لى او عين لى وهو الجزء السجينى من كل عبد او اهل السجين من العباد، روى ان من بنى آدم تسعة وتسعين فى النار وواحدا فى الجنة، وروى من كل الف واحد لله وسائرهم للنار ولابليس.
[4.119]
{ ولأضلنهم } عن طريق الهدى { ولأمنينهم } بالامانى الباطلة كطول العمر والرفعة والحشمة وكثرة الاموال وغير ذلك { ولأمرنهم } بالباطل { فليبتكن آذان الأنعام } اى ليقطعنها من اصلها، وقيل كانوا يشقون آذان الانعام اذا ولدت خمسة أبطن والخامس ذكر وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها، وهذا احد موارد التبتيك { ولأمرنهم فليغيرن خلق الله } تغيير خلق الله بتغيير صورته الظاهرة من غير اذن من الله كقطع الاذن من الحيوان والانسان واخصائهما وكل مثلة، او بتغيير صفته الظاهرة من غير اذن من الله، او بتغيير صورته الباطنة كتغيير صوته الانسانية عن الاستقامة الى الانحناء والنكس وتبديل صورهم الانسانية بصور القردة والخنازير باغوائهم، او بتغيير صفته كتغيير استقامته على الطريق الآلهى الى الاعوجاج، وتغيير دينه المستقيم الى الاديان المنحرفة، وتغيير فطرته على الاسلام الى فطرة الكفار، ويلزمه تغيير اوامر الله ونواهيه فصح ما فى الخبر من تفسيره بدين الله وأمره ونهيه { ومن يتخذ الشيطان } الجنى او الانسى { وليا } محبا او اميرا { من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا } باتلاف رأس ماله الذى هو اللطيفة الانسانية.
[4.120]
{ يعدهم ويمنيهم } استيناف فى موضع التعليل { وما يعدهم الشيطان } الجنى { إلا غرورا } مصدر غره اذا خدعه وأطمعه بالباطل والمراد به ما يغتر به فيكون مفعولا به، او معنى الخديعة والاطماع فيكون قائما مقام المفعول المطلق، أو مفعولا مطلقا من غير لفظ الفعل.
[4.121]
{ أولئك } المتمكن منهم الشيطان { مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا } مهربا وذلك لانهم تمكنوا فى طريق العالم السفلى ودار الشياطين بحيث لا يمكن لهم الرجوع عنه.
[4.122]
{ والذين آمنوا } بالبيعة العامة فليكن قوله تعالى { وعملوا الصالحات } اشارة الى الايمان الخاص الولوى لان العمل ما لم يكن عن ايمان قلبى وميثاق علوى لا يصير صالحا، او المراد الذين آمنوا بالبيعة الخاصة الولوية وعملوا الصالحات بكسب الخيرات فيه حتى يتمكن فى الايمان، فان الايمان ما لم يتمكن الانسان فيه كان مستودعا محتملا للزوال { سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار } لان طريقهم طريق القلب وطريق الولاية الموصلة الى العالم العلوى وفيه الجنات { خالدين فيهآ أبدا وعد الله } وعد الله وعدا { حقا ومن أصدق من الله قيلا } فلا خلف لوعده، اكده بتأكيدات عديدة ثم صرف الكلام عن بيان حال المؤمنين الى الخطاب مع المنافقين التابعين للشيطان فقال تعالى { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب }.
[4.123]
{ ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب } يعنى انتم واهل الكتاب بانتسابكم وانتحالكم النسبة الى نبى وكتاب تتمنون ان يغفر الله لكم ذنوبكم كائنة ما كانت، وان يعامل الله معكم معاملة الوالد مع اعز اولاده، وليس الامر منوطا بامانيكم ولا امانى اهل الكتاب بل { من يعمل سوءا يجز به } يعنى لستم ممن يغفر او يمحى اويبدل سيئاتكم لان هذه لمن كان له نبى وامام يعنى نصير وولى، وانتم انحرفتم عن النبوة والولاية ولا ينفعكم انتحال احكام النبوة فمن يعمل منكم سوء يجز به { ولا يجد له } لنفسه { من دون الله } من دون مظاهره { وليا } يلى اموره من امام منصوب من الله صاحب ولاية { ولا نصيرا } من نبى بحق ينصره عما يضره، روى ان اسمعيل (ع) قال للصادق (ع): يا ابتاه ما تقول فى المذنب منا ومن غيرنا؟ - فقال: { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به } وهو يشير الى تعميم الحكم ولا ينافى تخصيص الخطاب بالمنافقين المنتحلين.
[4.124]
{ ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن } لان شرط قبول العمل هو الايمان الخاص والبيعة على يد على (ع) يعنى ان العمل الصالح يصير صالحا اذا كان ناشئا من الايمان وراجعا اليه والا لم يكن صالحا وان كان صورته صورة العمل الصالح، لان الصلاح اصله هو الولاية لعلى (ع) فكل ما صدر عن الوجهة الولوية فهو صالح كائنا ما كان، وكل ما لم يصدر عن الوجهة الولوية فهو فاسد { فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا } شيئا قليلا والنقير النقطة فى وسط النواة، ووجه الاختلاف بين القرينتين بالاجمال فى الشرط والاتيان بالجزاء مضارعا مجردا عن الفاء فى الاولى، والتفصيل فى الشرط والاتيان بالجزاء جملة اسمية مصدرة بالفاء فى الثانى ما هو من عادة صاحبى الحياء والكرم من الاجمال والاغماض فى جانب الوعيد والتفصيل والتأكيد فى جانب الوعد.
[4.125]
{ ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن } استفهام انكارى فيه معنى التعجب عطف على من يعمل من الصالحات باعتبار لازمه الذى هو معنى لا احد احسن دينا منه، واشارة الى علة الحكم والى وصف آخر لهم مشعر بالمدح، فان المراد بمن اسلم وجهه لله هو المؤمن، والمراد بالمحسن من يعمل من الصالحات، فان الايمان هو انقياد وجهك الباطنى واخلاصه لمن بايعت على يده، ولما كان من بايعت على يده بيعة حقة واسطة بينك وبين الله كان اخلاص الوجه له اخلاصا لله وهو على (ع) او خلفاؤه، والاحسان هو ان يكون العمل صادرا عن امر هو اصل فى الحسن، وهو على (ع) وخلفاؤه (ع) كما سبق فى بيان العمل الصالح كأنه قال: ولا احد احسن دينا منهم لان حسن الدين اما بالعمل وهو ان يكون صادرا عن امر الحسن الحقيقى، واما بالاعتقاد والعمل الجنانى وهو ان يكون عارفا لامام زمانه مسلما وجهه له بالبيعة على يده وهو الحسن الحقيقى، وهؤلاء متصفون بوصف العمل الصادر عن امر الحسن الحقيقى والانقياد اعتقادا للحسن الحقيقى، وفى النبوى المشهور اشارة الى ما ذكرنا من تفسير المحسن فانه (ص) قال:
" الاحسان ان تعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك "
، يعنى ان الاحسان يصدق اذا كان العمل بمشاهدة الله يعنى بمشاهدة امره حتى يكون المصدر هو امره، وتقديم العمل الصالح فى المعلول لكون العنوان الاعمال وجزاءها، وتأخير الاحسان الذى هو بمعناه فى العلة لتقدم الايمان على العمل الصالح ذاتا { واتبع ملة إبراهيم حنيفا } فيه اشارة الى ان المراد بالمحسن العامل بالاعمال القلبية الولوية المخلية للنفس عن الرذائل والهواجس والوساوس المحلية لها بالخصائل والالهامات والتحديثات والمشاهدات والمعاينات، والمراد بالتابع لملة ابراهيم (ع) هو العامل بالاعمال القالبية والاحكام النبوية من المفروضات والمسنونات وترك المنهيات، فان من تاب على يد على (ع) وتلقى منه آداب السلوك واحكام القلب لا بد له من العمل بأحكام القالب فانها كالقشر لاحكام القلب فما لم يحفظ القشر لم يحفظ اللب، وحنيفا حال عن التابع او الملة او ابراهيم (ع) وعدم مراعات التأنيث اما لتشبيه الحنيف بالفعيل بمعنى المفعول، او لكسب الملة التذكير من المضاف اليه لصحة حذفه، والحنيف بمعنى الخالص او المائل عن الاديان الاخر، او الراغب الى الاسلام الثابت عليه { واتخذ الله إبراهيم خليلا } عطف مشعر بالتعليل او حال بتقدير قد او بدون التقدير على خلاف فيه، فى الخبر عن الصادقين (ع) ان الله تبارك وتعالى اتخذ ابراهيم عبدا قبل ان يتخذه نبيا، وان الله اتخذه نبيا قبل ان يتخذه رسولا، وان الله اتخذه رسولا قبل ان يتخذه خليلا، وان الله اتخذه خليلا قبل ان يتخذه اماما، وقد اشار بعد الاشارة الى انتهاء العبودية الى المراتب الاربع الكلية التى هى امهات مراتب الخلافة الآلهية، وتحت كل مرتبة منها مراتب جزئية الى غير النهاية، وشرحها على سبيل الاجمال بحيث لا يشمئز منه طباع الرجال ولا يصير سببا للشين والجدال ان يقال: ان الانسان من بدو خلقته الى آخر مراتب وجوده التى لا نهاية لها يطرو عليه الاحوال المختلفة ويتشأن بشؤن متضادة كأنه كل يوم هو فى شأن: فاول خلقته نطفة فى قرار مكين، ثم يتدرج فى اطوار الجمادية الى ان وصل الى مرتبة النبات متدرجا فيه، الى ان ينفخ فيه الروح الحيوانية متدرجا الى ان ينفخ فيه الروح الدماغية، ثم بعد استحكام اعضائه وبشرته بحيث يستعد لمباشرة الهواء يتولد وفيه المدارك الحيوانية الظاهرة بالفعل متدرجا الى ان صار مداركه الباطنة بالفعل وفيه العقل بالقوة ويسمى العقل الهيولانى، وغذاءه فى الرحم دم منضوج يصلح لان يكون غذاءه، وبعد التولد ايضا دم مستحيل الى اللبن ليكون موافقا لبدنه، وبعد استحكام اعضائه وشدة عظمه وغلظه بحيث لا يستضر بغير اللبن يفطم من اللبن ويغتذى بلذائذ الاغذية، ولا يعرف الا ما يشتهيه الى ان يصل الى او ان المراهقة ويميز بين الخير والشر فى الجملة متدرجا فيه الى زمان الرشد واستعداد التميز بين الخير والشر الباطنين، وحينئذ يصير عقله بالفعل ويستعد لان يدرك الاوامر والنواهى التكليفية.
فان وفقه الله لطلب من يأمره وينهاه من الله وطلب بصدق يصل بفضله تعالى لا محالة الى رسول من الله او خليفة الرسول ويقبل رسالته او خلافته، فاذا قبله علمه آداب الوصل والمبايعة والمعاهدة وبايع وعاهد وبعد البيعة والميثاق لقنه أحكام القالب وحذره من الانس بالنفس الاماره وينهاه من الاهوية الكاسدة وأوحشه منها، فاذا توحش وفطم عن لبنها طلب من يأنس به ويغذو من غذائه، فاذا طلب بصدق وصل لا محالة الى رسول من الله او خليفته ثانيا وقبل ولايته فاذا قبل ولايته وتسلطه الباطنى علمه آداب الوصل والمبايعة الخاصة والميثاق الخاص وبايعه وعاهده بالبيعة الولوية الباطنة القلبية الخاصة ولقنه احكام القلب وآنسه بابيه العقل بعد فطمه من امه النفس واطعمه من غذاء ابيه؛ والمبايعة الاولى تسمى اسلاما والثانية تسمى ايمانا. ولا يمكن للمسلم ان يسلك الى الله ولا الى الطريق من حيث اسلامه، فان المسلم قبل اسلامه بمنزلة من ضل فى بيداء عميقة لا يظهر فيها آثار الطريق وتكون كثيرة السباع وفيها قطاع الطريق وهو غافل عن ضلالته وعن سباعها ويظن انه فى الطريق او فى موطنه ومحل قراره آمنا من كل ما يوذيه، والرسول او خليفته بمنزلة من ينبهه عن غفلته ويخبره بضلالته وبكثرة السباع والموذيات فيتوحش ويطلب طريقا ينجيه ودليلا يهديه فيسلم قوله ويلتمس منه الدلالة على آثار الطريق فيقول: انما انا منذر عن المخاوف ومنبه عن الغفلة وللطريق هاد فيبين علامة من هو هاد ويقول: من كنت مولاه فعلى (ع) مولاه مثلا، ولذا كان شأن النبى (ص) منحصرا فى الانذار والهداية موكولة الى من عينه لاولى الابصار
إنمآ أنت منذر ولكل قوم هاد
[الرعد:7] فاذا عين النبى (ص) او خليفته من كان يدله على الطريق يتسرع لا محالة اليه ويلتمس منه آثار الطريق فيأخذ منه المواثيق الاكيدة بالمبايعة والمعاقدة ثم يعلمه آثار الطريق وهو الايمان، فاذا امن وعلم آثار الطريق فان تسرع بآثاره وعلائمه يكن حينئذ سالكا الى الطريق خائفا من السباع والموذيات، ومن عدم الوصول فيتعب نفسه فى السير والحركة اليه وكثيرا ما يعارضه الغيلان والسباع وقطاع الطريق والموذيات فيدافع ويدفع عن نفسه بالسلاح الذى أعطاه المنذر اولا والهادى ثانيا فينجو منهم بقوة السلاح ان شاء الله، فيصل الى الطريق الذى هو على (ع) ويحصل له الحضور عنده ويسمى عندهم تلك المرتبة بالفكر والحضور، ويحصل له الراحة بعد التعب والسرور بعد الحزن والبشارة بعد الخوف واللذة بعد الالم، ويصير سالكا بعد ذلك الى الله. فانه بعد الانذار متحير متوحش خائف، وبعد الدلالة على الطريق سالك الى الطريق خائف راج متعب نفسه، وبعد الوصول الى الطريق الموصل الى الله سالك الى الله راج خائف، لكن خوفه ليس عن المهلك والموذى ولا خوف النفس الامارة المسمى بالخوف ولا خوف النفس العالمة بالله المسمى بالخشيه بل خوف القلب المسمى بالهيبة، والسالك فى هذه الحالة قد يفنى عن نسبة الافعال الى نفسه ويرى الافعال من على (ع) وقد يشارك عليا (ع) فى الافعال وقد يتحد معه فى ذلك ويسمى فناؤه عن الافعال بالفناء الفعلى، فاذا سار وسلك وارتفع درجة حتى لا ينسب الصفات الى نفسه بل يرى الصفات ايضا من على (ع) صارت الاثنينية ضعيفة والمعاينة قوية بحيث كاد ان لا يرى نفسه ويسمى بالفناء عن الصفات، لكن له رجاء وخوف بقدر شعوره بنفسه وان كان ذاهلا عن الشعور بالخوف والرجاء وخوفه يسمى سطوة، فاذا سار معه الى ان لا يرى نفسه ويغيب فى حضوره عنده عن نفسه صارت الاثنينية مرتفعة ولم يكن له حينئذ نفسية حتى يكون له رجاء وخوف، ويصير حينئذ مصداقا لقوله (ع): اذا وصلوا اتصلوا فلا يكون فرق بينه وبين حبييه، ويسمى بالفناء الذاتى؛ ويسمى الفناءات بالمحو والمحق والطمس وهو قبل الاسلام يسمى ضالا تائها وبعده يسمى مسلما وطالبا. فان لم يطلب من يهديه الى الطريق ووقف خصوصا بعد الانقطاع عمن أسلم على يده يسمى ايضا ضالا ولذلك ورد: من أصبح من هذه الامة لا امام له من الله تعالى اصبح ضالا تائها، وان مات على هذه الحالة مات ميتة كفر ونفاق.
وبعد الوصول الى امامه وولى امره والمبايعة معه واعطاء الميثاق له يسمى سالكا وسائرا الى الطريق لا الى الله بلا واسطة، وان كان سيره الى الطريق سيرا الى الله ويسمى سيره هذا سفرا من الخلق الى الحق، وبعد وصوله الى الطريق يصير سالكا الى الله ويسمى سيره هذا سفرا من الحق بالحق الى الحق، فاذا وصل وفنى عن افعاله وصفاته وسار بالوصال فى فناء ذاته يسمى سائرا فى الله ويسمى سيره هذا سفرا بالحق فى الحق، وبهذا السير يتم له العبودية والفناء ولا يبقى منه ذات ولا اثر ويصير وصاله اتصالا وينتقل بعد ذلك عبوديته الى الربوبية وفناؤه الى البقاء. وما قالوا: من ان الفقر اذا تم فهو الله، اشارة الى هذا فانه بعد صحوه يصير موجودا بوجود الله وباقيا ببقاء الله وحاكما بحكم الله وخليفة لله، لانه اذا صار عبدا لله وعلم الله صدق عبوديته رده الى ما عاد منه ووكله بأمور بيته الذى هو قلبه وشرفه بشرافة خلافة البيت فإذا وجد في إصلاح البيت بصيرا أمينا كاملا وكله بأمور مملكته وشرفه بشرافة خلافة المملكة ويسمى هذا العود بعد الاوب سفرا من الحق الى الخلق بالحق، فاذا وجده فى اصلاح المملكة وتعمير بلادها وتكثير عبادها بصيرا امينا بالغا دعاه ثانيا الى مقام الانس وآنسه بنفسه، لكن هذا الحضور غير الحضور الاول؛ فان الاول دهشة وحيرة وفقر وفاقة وهذا انس وحشمة وغناء لكن بانس الله وحشمته وغنائه. فاذا آنسه وارتضاه فوض اليه جميع اموره من عباده وجنوده وسجنه وسجينه واضيافه ومضيفه واعطائه ومنعه فمن شاء يسجنه ومن شاء يضفه، ومن شاء يعطه ومن شاء يمنعه فله التسلط والتصرف فيمن شاء كيف شاء ويسمى هذا فى الحضور الاول والفناء التام عبدا، وفى حال اصلاح البيت نبيا، وفى حال اصلاح المملكة رسولا، وفى الحضور الثانى خليلا، وفى حال التفويض اماما؛ وهذه الامامة غير ما يطلق على ائمة الجور، وغير ما يطلق على ائمة الجماعة، وغير ما يطلق على الاولياء الجزئية بل هى مرتبة لا يتصور فوقها مرتبة. ولا يلزم مما ذكرنا ان يكون كل من بايع النبى (ص) بالبيعة العامة وصل الى مقام البيعة الخاصة كاكثر العامة، ولا كل من بايع البيعة الخاصة وصل الى الطريق كاكثر الشيعة، ولا كل من وصل الى الطريق وصل الى الحق، ولا كل من وصل الى الحق صار عبدا، ولا كل من صار عبدا صار نبيا، ولا كل نبى رسولا، ولا كل رسول خليلا، ولا كل خليل اماما؛ ولما كانت الامامة بهذا المعنى خلافة مطلقة كلية ونهاية لجميع المراتب واستشعر الخليل (ع) بأنها آخر مراتب الكمالات الانسانية صار مبتهجا ومن ابتهاجه قال: ومن ذريتى.
[4.126]
{ ولله ما في السماوات وما في الأرض } اللام للاختصاص وقد يستعمل باعتبار المبدأ وقد يستعمل باعتبار الغاية وقد يستعمل باعتبار المملوكية كما يقال: هذا البيت لفلان يعنى بانيه ومصدر بنائه فلان لا غير، او هذا البيت لسكنى الشتاء او لسكنى الصيف باعتبار غايته، او هذا البيت لفلان يعنى فلان مالكه من غير شراكة الغير، والمراد فى هذا الموضع وامثاله معنى عام يشمل المعانى الثلاثة، يعنى لله ما فيهما بدوا وغاية وملكا وهو عطف او حال فيه اشعار بالتعليل وكذا قوله تعالى { وكان الله بكل شيء محيطا } كأنه قال: لا احد احسن حالا ممن أسلم وجهه لله واتبع خليله، لان كل ما فى السماوات والارض مملوك له وله العلم بكل شيء فيعلم من اسلم وجهه له ويعلم مرتبته وقدر استحقاقه فلا يمسك عنه ما هو مستحق له.
[4.127-128]
{ ويستفتونك في النسآء } اى فى حكم نسائهم من الالفة والفرقة بقرينة وان امراة خافت من بعلها (الآية) او فى حكم مطلق النساء من الارث بقرينة { في يتامى النسآء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن } او فى حكم النساء بحسب الارث من الازواج كما مضى حكمه، او من الارحام كما مضى ايضا، او بحسب المعاشرة كما يأتى { قل الله يفتيكم فيهن } وفى نسبة الافتاء الى الله فى الجواب اشارة الى ان ما يقوله (ص) ليس منه برأى واجتهاد وظن وتخمين كما سيحدثونه، بل هو فتيا الله على لسانه اما لفنائه من نفسه او لوحى منه { وما يتلى عليكم } عطف على الله او على المستتر فى يفتيكم وسوغه الفصل، او هو تقدير فعل هو يبين او ما نافية والجملة معطوفة على جملة الله يفتيكم او حالية بتقدير مبتدء والمعنى ما يتلى افتاؤه بعد عليكم { في الكتاب في يتامى النسآء } متعلق بيتلى او بدل من قوله فيهن { اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن } وبذكر ما كتب لهن اشار الى ان لهن ميراثا مفروضا وقد بين فى اول السورة ما لهن بحسب الارث من الازواج ومن الارحام كانوا فى الجاهلية لا يورثون الصغير ولا المرأة ويقولون: الارث لمن تمكن عن المقاتلة والمدافعة عن الحريم وحيازة الغنيمة { وترغبون أن تنكحوهن } اذا لم يكن ذوات جمال ولا يكون لهن اموال ايضا فترغبون عنهن لعدم المال والجمال { والمستضعفين } عطف على يتامى النساء { من الولدان } جمع الوليد وقد مضى حكمهم بحسب الارث والحفظ والمال جميعا فى اول السورة { و } يفتيكم ايضا فى { أن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير } عطف على يستفتونك او على الله يفتيكم على ان يكون من جملة مقول القول يعنى قل لهم ما تفعلوا من خير فى ارث النساء وقسامتهن وفى حفظ اليتامى واموالهم لا يضع عملكم { فإن الله كان به عليما وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا } سوء عشرة معها ومنعها من حقوقها لما قدم ذكر خوف نشوز المرأة ذكر ههنا خوف نشوز المرء { أو إعراضا } تجافيا وعدم توجه اليها مع اعطائها حقوقها من النفقة والكسوة والقسامة فان النشوز عدم القيام بما يجب عليه والاعراض لما ذكر فى مقابله يكون غيره { فلا جناح عليهمآ أن يصلحا بينهما صلحا } قرئ يصلحا من باب الافعال وحينئذ يجوز ان يكون صلحا مفعولا به اى يوقعا صلحا وان يكون بينهما مجردا عن الظرفية مفعولا به، وان يكون المفعول به محذوفا وقرئ يصالحا ويصلحا بتشديد الصاد من تصالح واصطلح والمقصود نفى الجناح من ان يصطلحا على اعطاء المرأة شيئا من مهرها او غيره، او على تحمل خدمة له لاستمالته، او على اقساط قسامتها وسائر حقوقها، فعن الصادق (ع) هى المرأة تكون عند الرجل فيكرهها فيقول لها: اريد ان اطلقك فتقول له: لا تفعل انى اكره ان يشمت بى ولكن انظر فى ليلتى فاصنع بها ما شئت وما كان سوى ذلك من شيء فهو لك ودعنى على حالتى وهو قوله تعالى: فلا جناح عليهما ان يصلحا ولا اختصاص له باسقاط المرأة حقها بلا عوض، فيجوز ان يجعل بدل اسقاط الحق عوضا { والصلح خير } من الفرقة والطلاق وسوء العشرة { وأحضرت الأنفس الشح } لانها مطبوعة على جذب خيرها وعدم اخراجه من ايديها كأنها اجبرت على الحضور عند الشح فكأن نفوس الرجال لا يمكنها امساك النساء مع كراهتهن ولا القيام بحقوقهن ولا نفوس النساء يمكنها اسقاط حقها وترك حظها والجملة الاولى للترغيب على الصلح والثانية لتمهيد العذر لمماكسة الطرفين عن الصلح { وإن تحسنوا } فى العشرة { وتتقوا } عن نقص حقوقهن او عن الفرقة وفتح باب الشماتة لهن وتمسكوهن مع كراهتهن كان الله يجزيكم بالاحسان الاحسان وبالتقوى الغفران { فإن الله كان بما تعملون خبيرا } فاقيم السبب مقام الجزاء.
[4.129]
{ ولن تستطيعوا } لفظة لن للتأبيد اشارة الى انه كالمحال { أن تعدلوا بين النسآء } فان العدل التسوية بينهن وهى ان كانت ممكنة بحسب الظاهر فليست بمقدورة بحسب ميل القلب { ولو حرصتم } على العدل بينهن، عن النبى (ص) انه كان يقسم بين نسائه ويقول:
" اللهم هذه قسمتى فيما أملك فلا تلمنى فيما تملك ولا املك "
{ فلا تميلوا كل الميل } بسراية ميل الباطن الى احديهن وكراهة الاخرى الى الظاهر فتجعلوا قسامتهن وغير قسامتهن مطابقة لميلكم الباطنى بهن { فتذروها } اى المكروهة { كالمعلقة } التى لا بعل لها ولا اختيار لها لنفسها، روى ان عليا (ع) كان له امرأتان وكان اذا كان يوم واحدة لا يتوضأ فى بيت الاخرى، فواحسرتاه على العدول الذين فى زماننا وقسامتهم بين ازواجهم كسائر موارد عدلهم.! { وإن تصلحوا } انفسكم بتقليل تفاوت الميل القلبى بقدر ما يمكن وتسوية الترحم عليهن باتصافكم بالرحمة التى هى من صفات الله { وتتقوا } عن الانزجار القلبى عمن تكرهونهن بالاغضاء عن نقائصهن ومعايبهن الذى هو المغفرة لهن صرتم متخلقين باخلاق الله ومستحقين لرحمته ومغفرته لتخلقكم بهما { فإن الله كان غفورا رحيما } فاقيم السبب مقام المسبب، او المعنى ان تصلحوا ما افسدتم بالميل الكلى وتتقوا عن الافساد فيما يأتى صرتم احقاء برحمته ومغفرته، او المعنى وان توقعوا الصلح وتتقوا عن الفرقة بالترحم عليهن والمغفرة لهن صرتم مستحقين لرحمه بقرينة مقابلته لقوله تعالى { وإن يتفرقا }.
[4.130]
{ وإن يتفرقا } بعد عدم الرضا بالصلح وعدم احسان الازواج { يغن الله كلا من سعته } بالازواج للرجال والازواج للنساء، او بصفات الملائكة وخصالهم فيسلو كل من الزوج بانساء الطبيعة عن المضاجعة وتقليل شهوة النكاح او بالاموال الدنيوية فيعطى كلا ما يغنيه، وحديث امر الصادق (ع) شاكيا من الفقر بالنكاح واشتداد الفقر عليه بعد النكاح وامره ثانيا بالفرقة وحصول الغناء له يدل على الاخير ولاينافى التعميم { وكان الله واسعا حكيما } عطف فيه معنى التعليل يعنى يقدر على التوسعة فى الازواج او فى الخصال او فى الاموال على فرض التفرق لانه واسع بحسب كل شيء ويأمركم بالاحسان والاغضاء لانه حكيم وفيما يأمركم به صلاحكم.
[4.131]
{ ولله } صدورا ورجوعا وملكا { ما في السماوات وما في الأرض } فيه ايضا معنى التعليل { ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله } فيه تأكيد أكيد للتقوى اشعارا بان ما ذكر على طريق المداراة معكم من التقوى عن سوء العشرة وعن الفرقة فهو وصية قديمة وجديدة فما لكم لا تتقون عن سوء العشرة وتنتهون فى امر ازواجكم الى الفرقة ولقد جمع الله فى هذه الوصية على سبيل الاجمال جميع ما ينبغى ان يوصى به فان تقوى الله عما لا يرضى ملاك ترك كل حرام ومكروه ومناط فعل كل واجب ومندوب { وإن تكفروا } وتخرجوا من السماء التى هى محل الطاعة الى الارض التى هى محل الشرك والمعصية فلا تخرجوا من مملكته حتى ينقص فيها شيء ولا حاجة له الى طاعتكم وتقويكم حتى لا يقضى بترككم حاجته، ولا يلحقه ذم بواسطة كفركم حتى يحتاج فى رفعه الى طاعتكم، ولا حاجة له الى حفظكم لنفسه ومملكته حتى تكونا بترككم الطاعة غير محفوظتين { فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا } فاقيم السبب مقام الجزاء.
[4.132]
{ ولله ما في السماوات وما في الأرض } تأكيد للسابق وتمهيد وتعليل لكونه وكيلا على كل شيء ومقتدرا على التصرف فى كل شيء بأى نحو شاء { وكفى بالله وكيلا } فلا حاجة له فى الحفظ الى طاعتكم.
[4.133]
{ إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين } فلا تخرجوا بكفركم عن تحت قدرته وتصرفه { وكان الله على ذلك قديرا } روى انه لما نزلت هذه الآية
" ضرب النبى (ص) يده على ظهر سلمان (ره) وقال: هم قوم هذا "
يعنى عجم الفرس، والمراد انه شاء ذلك ويأتى لا محالة بآخرين وهم قوم هذا.
[4.134]
{ من كان يريد ثواب الدنيا } بترك التقوى والكفر بالله فليطلبه بالتقوى وطاعة الله حتى يحصل له ثواب الدنيا مع ثواب الآخرة فان من كانت الآخرة همته كفاه الله همته من الدنيا { فعند الله ثواب الدنيا والآخرة } فهو جواب لما عسى ان يقال: ان تارك التقوى لا يلتفت فى طاعته وتركه الى حاجة لله اليه فى شيء مما ذكر بل يريد ثواب الدنيا ويظن انه لا يحصل بالتقوى ولذا اتى به مفصولا لا موصولا بالعطف { وكان الله سميعا بصيرا } فاذا اطاعوا واتقوا وطلبوا قالا او حالا يسمعهم ويجيبهم، واذا لم يطلبوا وكان غرضهم ذلك او لم يكن غرضهم ذلك ولكن كان حاجتهم اليه يبصر اغراضهم ومقدار حاجاتهم فيعطيهم من ثواب الدنيا ايضا.
[4.135]
{ يا أيها الذين آمنوا } على يد محمد (ص) بالبيعة العامة وقبول الدعوة الظاهرة { كونوا قوامين } اثبتوا على هذا الوصف فان تخليل الكون للدلالة على الثبات والدوام، والقوام الخارج عن الاعوجاج والمخرج نفسه وقواه وغيره عنه فانه يستفاد من المبالغة السراية الى الغير كما فى الظهور او هو مأخوذ من قام عليه وبأمره اذا اصلحه { بالقسط } اى بالعدل فانه بسبب التسوية بين طرفى الافراط والتفريط فى النفس وبسبب تساوى طرفى النزاع عند النفس فى النزاع الخارجى يمكن الخروج والاخراج عن الاعوجاج ويجوز تعلقه بقوله تعالى { شهدآء } متحملين ومؤدين للشهادة خبر بعد خبر تفسير للاول او حال كذلك { لله } لطلب رضا الله اوفى شهادات الحسبة لان فيها صاحب الحق هو الله، او لله باعتبار مظاهره وخلفائه ولا سيما اتم مظاهره الذى هو على (ع) والآية عامة لكن المقصود والعمدة هو هذا فانها توصية وتوطئة لتحمل الشهادة لعلى (ع) حين التمسه النبى (ص) منهم بقوله:
" رحم الله امرء سمع فوعى "
، ولأداء الشهادة لعلى (ع) حين التمسه عنهم بقوله،
" الا فليبلغ الشاهد منكم الغائب "
، وحين التمس على (ع) عنهم بعد النبى (ص) ان يؤدوا ما سمعوا عنه، ولكن ما وفوا بهذه الوصية وما ادوا { ولو على أنفسكم } مضرا عليها فانها احب الاشياء عليكم { أو الوالدين والأقربين } فانهم بعد الانفس احب الاغيار { إن يكن } كل واحد من الطرفين { غنيا أو فقيرا } فلا تخرجوا عن الاستقامة بملاحظة ان الفقير اولى بالانتفاع وعدم التضرر والغنى لا يتضرر على فرض عدم وصول ماله اليه او ينتفع الغير بما له على فرض الشهادة عليه زورا، او بخيال انتفاعكم عن الغنى وعدم تضرركم منه وعدم مبالاتكم بالفقير { فالله أولى بهما } فامتثلوا امره ولا تبالوا بتضرر الفقير وعدم تضرر الغنى { فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا } اى فى العدول عن الحق او بسبب العدول او لكراهة العدل فى الشهادة { وإن تلووا } السنتكم بالشهادة حين الاداء بان تغيروها بالسنتكم وقرئ تلوا من ولى بمعنى توجه { أو تعرضوا } بكتمانها يجازكم الله بحسبه { فإن الله كان بما تعملون خبيرا } فاقيم السبب مقام الجزاء.
[4.136]
{ يا أيها الذين آمنوا آمنوا } بالايمان العام والبيعة على يد محمد (ص) وقبول دعوته الظاهرة { آمنوا } بالايمان الخاص والبيعة الولوية وقبول الدعوة الباطنة، فان الاسلام وهو البيعة العامة النبوية واخذ الميثاق على اعطاء الاحكام القالبية والتوبة على يد محمد (ص) قد يسمى ايمانا، لانه طريق اليه وسبب لحصوله، والايمان حقيقة هو البيعة الولوية والتوبة على يد على (ع) او على يد محمد (ص) من حيث ولوتيه واخذ الميثاق على اعطاء الاحكام القلبية وادخال الايمان فى القلب، ولذلك قال فى انكار ايمان المدعين للايمان:
ولما يدخل الإيمان في قلوبكم
[الحجرات:14] فعلى هذا لا حاجة الى التكلفات البعيدة التى ارتكبها المفسرون { بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل } يعنى ان الايمان بمحمد (ص) بقبول دعوته الظاهرة اسلام وانقياد له وتقليد محض لا معرفة فيه ولا تحقيق، وانما يحصل المعرفة من طريق القلب فآمنوا بعلى (ع) بقبول دعوته الباطنة حتى يدخل الايمان فى قلوبكم ويفتح ابواب قلوبكم الى الملكوت فتعرفوا الله ورسوله (ص) وكتابه الجامع الذى هو النبوة، وكامله فى محمد (ص) وصورته القرآن وناقصه كان فى الانبياء السلف وصورته التوراة والانجيل والصحف والزبور وغيرها، وللاشارة الى الفرق بين نبوة محمد (ص) ونبوة غيره بالكمال والضعف قال فى الاول نزل بالتفعيل الذى فيه تعمل وفى الثانى انزل خاليا منه وقرئ فيهما بالبناء للمفعول { ومن يكفر بالله وملآئكته وكتبه ورسله واليوم الآخر } ذكرهم بالترتيب من المبدء الى المنتهى، فان المراد بالملائكة العقول وبالكتب النبوات واحكامها فانها نزولا بعد الملائكة والرسالة بعد النبوة، والكفر بها مسبب عن الكفر بالولاية وعدم قبول الدعوة الباطنة، فانه ما لم يدخل الايمان بالبيعة على يد على (ع) فى القلب لا ينفتح بابه، وما لم ينفتح بابه الى الملكوت لم يعرف شيء منها كما عرفت ولذلك اتى به بعد الامر بالايمان بعلى (ع) { فقد ضل ضلالا بعيدا } وصف بحال المتعلق وتهديد بليغ للمنحرفين عن الولاية وعن قبول الايمان على يد على (ع).
[4.137]
{ إن الذين آمنوا } مفهوم الآية عام وتنزيلها خاص، فان المراد بها المنافقون الذين آمنوا بمحمد (ص) يعنى اسملوا { ثم كفروا } بتعاهدهم على خلافه فى مكة { ثم آمنوا } حين قبلوا قوله فى الغدير وبايعوا مع على (ع) بالخلافة { ثم كفروا } بتخلفهم عن جيش اسامة حال حيوته { ثم ازدادوا كفرا } بتشديدهم لآل محمد (ص) { لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا } لانهم ارتدوا عن الفطرة بقطعهم الفطرة الانسانية فلا رجوع لهم بالتوبة ولا سبيل لهم الى دار الراحة، فان الفطرة الانسانية هى السبيل الى دار الراحة فلا يتصور لهم مغفرة ولا هداية، لان المرتد الفطرى لا توبة له كما قالوا بالفارسى " مردود شيخى را اكر تمام مشايخ عالم جمع شوند نتوانند اصلاح نمايند " لانه مرتد فطرى قاطع لفطرته.
[4.138]
{ بشر المنافقين } الآية الاولى بيان حال المتبوعين وهذه بيان حال الاتباع مع امكان التعميم { بأن لهم عذابا أليما } استعمال البشارة فى العذاب للتهكم.
[4.139]
{ الذين يتخذون الكافرين } الذين سبق ذكرهم من اعداء آل محمد (ص) { أوليآء } باتباعهم وقبول دعوتهم والبيعة معهم { من دون المؤمنين } على (ع) واتباعه { أيبتغون عندهم العزة } استفهام انكارى للتوبيخ يعنى لا ينبغى ان يبتغوا عندهم العزة { فإن العزة لله جميعا } مجتمعة عنده فما لهم يخالفون امره ولا يتبعون اولياءه ويبتغون من غيره العزة.
[4.140-141]
{ وقد نزل عليكم في الكتاب } حال من فاعل يتخذون وجملة ايبتغون اعتراض او عن فاعل يبتغون او عن الله المجرور باللام والمراد بالكتاب اما احكام النبوة او القرآن او هما { أن إذا سمعتم } ان تفسيرية او مخففة { آيات الله } واعظمها على (ع) { يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم } فضلا عن موالاتهم { حتى يخوضوا في حديث غيره } غاية للنهى عن العقود معهم او غاية لترك تعظيمهم ولاستهزاءهم المستفادين من النهى عن القعود اى لا تقعدوا معهم لينفعلوا ولا يعودوا لمثله { إنكم إذا مثلهم } بمحض القعود معهم فضلا عن موالاتهم والمماثلة معهم اما فى الكفر، ان ترضوا بقولهم، او فى الاثم، ان لم ترضوا، { إن الله جامع المنافقين } الذين كانوا مع محمد (ص) ظاهرا ثم اتبعوا اعداءه { والكافرين } المتبوعين { في جهنم جميعا الذين يتربصون بكم } اى ينتظرون بسببكم يعنى وقوع امر من خير او شر لكم كأن وجودكم صار سببا لانتظارهم { فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم } يعنى انهم كانوا طالبين للدنيا اينما وجدوها تملقوا لها لا تعلق لهم بكفر ولا ايمان { وإن كان للكافرين نصيب } سمى الاول فتحا والثانى نصيبا اشارة الى ان المؤمنين مقصودهم محض الفتح لاعزاز الدين، والكافرين لا قصد لهم الا حظهم ونصيبهم من الدنيا { قالوا ألم نستحوذ } الم نستول { عليكم } ونتمكن منكم فتركنا القتال معكم فوافقونا ولا تعادونا، والاستحواذ من الكلمات التى جاءت على الاصل ولم يعل { ونمنعكم } الم نمنعكم { من المؤمنين } يتراءى ان يقال ولم نمنع المؤمنين منكم ولكن يقال منعته من الاسد اذا حفظه من افتراسه كأن المانع يمنعه من التعرض للاسد { فالله يحكم بينكم يوم القيامة } دعاء عليهم او اخبار ولا يخلوا عن تهديد المقصود بينكم وبينهم بتقدير بينهم او بكون الخطاب للمؤمنين والكافرين جميعا { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا } تسلطا دعاء او اخبار والمراد انه لا سبيل لهم فى الآخرة او بالحجة او فى الدنيا بالغلبة من حيث انهم مؤمنون فان قتل الكافرين للمؤمنين واسرهم ونهب اموالهم انما هى بالنسبة الى ابدانهم التى هى بمنزلة السجن لهم لا بالنسبة الى لطيفة ايمانهم وهذا رد لتربصهم نصيب الكافرين.
[4.142]
{ إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم } جواب لما يتراءى ان يسأل عنه من حال المنافقين مع الله وفى عبادة الله ولذلك لم يأت بالوصل، بمخادعتهم لله خدعته باعتبار مظاهره واتمها محمد (ص) وعلى (ع) او يخادعون الله باعتبار ما يذكرون بالسنتهم ان لنا مبدء وامرا ونهيا منه والا فلا معرفة لهم بالله حتى يخادعوه، ونسبة الخدعة الى الله على سبيل المشاكلة، او لانه باستدراجه لهم يفعل فعل المخادع، واتيان الفعل من باب المفاعلة للاشارة الى انهم كأنهم يغالبون الله فى المخادعة وهو يغلبهم فيها { و } طريق عبادتهم انهم { إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يرآءون الناس } بيان لمخادعتهم الله يعنى ليس فى وجودهم داع وشوق للعبادة كأنهم مكرهون وقيامهم الى الصلوة ليس لعبادة الله بل لمحض الخدعة مع الله واراءة الناس { و } لذلك { لا يذكرون الله إلا قليلا } اى ذكرا قليلا او جمعا قليلا منهم، عن امير المؤمنين (ع) من ذكر الله فى السر فقد ذكر الله كثيرا ان المنافقين كانوا يذكرون الله علانية فلا يذكرونه فى السر فقال الله عز وجل: يراؤن الناس ولا يذكرون الله الا قليلا.
[4.143]
{ مذبذبين بين ذلك } الامر من الايمان والكفر، من الذبذبة بمعنى جعل الشيء مضطربا واصله الذب وقرئ على صيغة الفاعل بمعنى مذبذبين قلوبهم { لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء } كالنسوان والاطفال لا يستقيم رأيهم على امر واحد لضعف عقلهم وتسلط وهمهم فانهم اضلهم الله { ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا } حتى يستقيم عليه ولما ذكر حال البالغين فى الكفر والنفاق من هذه الامة وذكر حال النازلين عنهم وهم المنافقون التابعون للكافرين نادى المؤمنين على سبيل التلطف بهم ونهاهم عن طريق المنافقين وهددهم بذكر حال المنافقين فقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أوليآء }.
[4.144]
{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أوليآء } كالمنافقين { من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا } فان اتخاذ البالغين فى الكفر والنفاق وهم اعداء آل محمد (ص) اولياء مع تصريح الله وتصريح نبيه (ص) بمن هو وليكم وعداوة هؤلاء لمن صرحا بولايته يوجب حجة ظاهره لله عليكم.
[4.145]
{ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } استيناف فى موضع التعليل للنهى، وللعالم السفلى كالعالم العلوى مراتب وكلياتها سبع مراتب والاراضى السبع اشارة اليها وتسمى طبقات ودركات، ولما كان كفر النفاق اسوء اقسام الكفر واقبحها كان سببا لانجرار صاحبه الى الدرك الاسفل من النار { ولن تجد لهم نصيرا } لم يقل لن تجد لهم وليا ولا نصيرا للاشارة الى ان المنافقين وقعوا فى الدرك الاسفل فى الدنيا، والولى لا يكون الا من ولاية محمد (ص) التى تفتح باب رحمة الله على العباد ولا يتصور فتح باب الرحمة لمن كان فى الدرك الاسفل حتى يحتاج الى التصريح بنفيه عنهم، بخلاف النصير فانه من رسالة محمد (ص) والرسالة لما كانت ظهور رحمة الله الرحمانية يتصور تعلقها بكل احد ومع ذلك لا يكون له نصير، وما بقى بين الصوفية من تعاضد نفسين حين التوبة والتلقين، انما هو باعتبار مظهرية الرسالة والولاية وباعتبار النصرة والولاية.
[4.146]
{ إلا الذين تابوا } من نفاقهم { وأصلحوا } ما افسدوا بنفاقهم بنصرة الرسالة والرسول او مظهره { واعتصموا بالله } اى بمظهره الذى هو شيخ الارشاد وهو على (ع) { وأخلصوا دينهم لله } الدين هو الولاية، واخلاصها بان لا تكون باشراك ولاية من ليس لها باهل وبان لا تكون مشوبة بالاغراض الكاسدة { فأولئك مع المؤمنين } لانهم بتوبتهم على يد على (ع) واعتصامهم ببيعتهم الخاصة الولوية صاروا مؤمنين بعد نفاقهم وطهروا عن دنسه بالتوبة ولذلك قبلهم على (ع) { وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما } فيساهمونهم.
[4.147]
{ ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم } قد يفسر الشكر بتعظيم المنعم لاجل النعمة وعلى هذا فالمراد ههنا تعظيم الله لاجل النعمة التى هى على (ع) فانه اصل النعم بل فرعها ايضا، فلا نعمة غيره وقرينة التخصيص تعقيبه بقوله تعالى { وآمنتم } فانه قد علمت ان الايمان لا يحصل الا بالبيعة الخاصة الولوية على يدل على (ع) على ان الكلام فى آل محمد (ص) واعدائهم، وقد يفسر الشكر بصرف النعمة فيما خلقت لاجله، وعلى هذا فالمراد بالنعمة المأخوذة فى الشكر استعداد قبول الولاية والبيعة الولوية والتهيؤ للعروج الى الملكوت، ولا نعمة اعظم منها فى العالم الصغير، كما انه لا نعمة اعظم من على (ع) فى العالم الكبير، وصرف تلك النعمة فى وجهها بان يسلمها الى على (ع) حتى يعطيه ما يتستحقه والقرينة ايضا قوله تعالى: وآمنتم وتقديم الشكر لتقدمة على حصول الايمان فان البيعة وقبول الولاية لا تكون الا بعد التعظيم والتسليم، وتعميم الآية لكل شكر ونعمة غير مخفى على ذوى الدارية { وكان الله شاكرا } يجزى الشكر زيادة فى النعمة فكيف يعذب الشاكر { عليما } لا يفوت عنه شكركم فيعذبكم لعدم العلم بشكركم.
[4.148]
{ لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم } استثناء من المفعول بتقدير الا جهر من ظلم او استثناء مفرغ بتقدير لا يحب الله الجهر بالسوء من احد الا ممن ظلم وعليهما يكون الجهر بالسوء من المظلوم محبوبا لكن هو محبوب من كل المظلومين او من بعضهم، وفى كل اقسام الظلم او بعضها، وبكل سوء او بسوء مخصوص ومجمل محتاج الى البيان، او المستثنى منقطع والتقدير لا يحب الله الجهر بالسوء لكن من ظلم يجهر بالسوء او يباح له الجهر بالسوء وهذا اوفق بقراءة ظلم مبنيا للفاعل وبيان نظم الآية بحيث يظهر القيود فيها هكذا لا يحب الله الشيء المقول المجهور السوء، يعنى لا الشيء الصادر من غير اللسان من الاعضاء ولا الشيء الصادر من اللسان غير المجهور كالمخفت ولا الشيء الصادر من اللسان المجهور غير السيء، ولما لم يكن مفهوم المخالفة من الوصف والقيد معتبرا لا يلزم ان يكون هذه محبوبة بل مسكوتا عنها، وبيانها بالآيات الاخر واخبار الاحكام وهذه الآية فى بيان حكم القول الجهر السوء من احكام القالب واحكام ظاهر الشريعة، واما الخطرات والخيالات فانها وان كانت اقوال النفس وسيئها سيء وحسنها حسن لكن لا مؤاخذة عليها فى الشريعة ورفعت عن الامة المرحومة وكانت عليها مؤاخذة فى الطريقة كما اشاروا اليها بقولهم، فى جواب من سئل عن الخطرات، هل ريح المنتن وريح الطيب سواء، يعنى لطيبها مجازاة وعلى منتنها مؤاخذة، وسوء القول اعم من كونه كذبا وافتراء، او صدقا وغيبة بما لا يجوز، او صدقا وغيبة بما يجوز، او صدقا من غير اسماع لغير من ينسب السوء اليه حتى لا يكون غيبة او مع اسماع الغير فى حضور من ينسب السوء اليه والكل غير محبوب لله الا قول الجهر السوء ممن ظلم، لكن هذا مجمل محتاج الى البيان لانه لا يجوز بجميع شقوقه قطعا فبينوا المجوز منه لنا مثل موارد جواز الغيبة ومثل ذكر الضيف مساوى مضيفه فى ضيافته اذا لم يحسن ضيافته، ومثل تكذيب من يمدحك بما ليس فيك، وقد نسب الى على (ع) انه قال استاههم الحفر وقال لخالد: انما يفعل ذلك من كان استه اضيق من استك، لكن بقى هل هو محبوب كما هو ظاهر الاستثناء او ليس بمذموم فنقول: انه ليس بمحبوب لله على الاطلاق فانه علق محبته على الاحسان فى مقابل الاساءة فى قوله
والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين
[آل عمران:134] ويدل عليه الآيات الآخر الامرة بالصبر عند الاساءة بل يكون محبوبا او غير مبغوض على بعض الوجوه. فان للانسان من اول اسلامه الى كمال ايمانه مراتب ودرجات ولكل مرتبة حكم ليس لما فوقها ولا لما دونها فلا يجرى حكم مرتبة فى مرتبة اخرى، وهذا احد معنيى النسخ فى الآيات والاخبار، فصاحب المرتبة الاولى من الاسلام الذى لا يقنع نفسه من الاساءة الواحدة بالعشرة ولا يكسر سورة غضبه الا بالمائة فاذا ائتمر بأمر الله واكتقى من الواحدة بالواحدة كان ذلك منه محبوبا ولصاحب هذه المرتبة قال الله تعالى،
فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم
[البقرة:194]، ولكن هذا من صاحب الدرجة الثانية مذموم وهكذا، ولذلك ورد: حسنات الابرار سيئات المقربين، والصبر وكظم الغيظ لصاحب الدرجة الثانية، والعفو وتطهير القلب لصاحب الدرجة الثالثة، والاحسان الى المسيء للمنتهى فى الايمان، ويمكن جعل الاستثناء من لازم الآية وهو ما يستفاد من نفى المحبوبية من القول الجهر السوء كأنه قيل: كل احد هذا منه مذموم الا من ظلم { وكان الله سميعا عليما } فكلوا امر من ظلمكم اليه ولا تجهروا بالقول السوء اتكالا على الله وحياء منه، او المراد ردع المظلوم عن الزيادة على قدر الظلم يعنى فلا تتجاوزوا قدر الظلم فتصيروا ظالمين فان الله سميع يسمع قول الظالم وقول المظلوم عليم بقدر كل.
[4.149]
{ إن تبدوا خيرا } بالنسبة الى من ظلمكم { أو تخفوه أو تعفوا عن سوء } ان لم يتيسر لكم الاولان فانه مقام لا مقام فوقه، والمراد من العفو ههنا اعم من الصفح الذى هو تطهير القلب عن الحقد على المسيء ولذلك لم يذكره فان تفعلوا ذلك تتخلقوا بأخلاق الله وتتصفوا بصفاته فتستحقوا عفوه واحسانه { فإن الله كان عفوا قديرا } على الاحسان فاقيم السبب مقام الجزاء وقدم الاحسان ههنا واخره فى آية كظم الغيظ لانه ابدأه ههنا بصورة الشرط والفرض فيناسبه الترتيب من الاعلى الى الادنى بخلافه هناك فانه ذكر هناك على سبيل تحقق مراتب الرجال كما ان قوله عفوا قديرا، كان على سبيل ترتيب الصفات، فان المراد من القدرة القدرة على الاحسان الى المسيء، والاحسان الى المسيء بعد العفو عن اساءته ويجوز ان يراد بها القدرة على الانتقام وحينئذ يكون المعنى انه عفو مع كونه قديرا على الانتقام ليكون ترغيبا فى العفو.
[4.150]
{ إن الذين يكفرون } بعد ما ذكر ادبا من الآداب جدد ذكر محبوبه واعداء محبوبه:
از هرجه سيرود سخن دوست خوشتر است
ووراه بادائه بطريق العموم كما هو ديدنه تعالى، كما قيل:
خوشتر آن ابشد كه سر دلبران
كفته آيد در حديث ديكران
فقال تعالى: ان الذين يكفرون { بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله } بان آمنوا بالله وكفروا بالرسول { ويقولون نؤمن ببعض } كالله { ونكفر ببعض } كالرسل (ع)، او نؤمن ببعض الرسل كمحمد (ص) ونكفر ببعض كاوصيائه (ع) { ويريدون أن يتخذوا بين ذلك } اى الايمان بمحمد (ص) والكفر باوصياءه (ع) { سبيلا } ويجوز ان يكون المراد مظاهره كعلى (ع) لان عليا (ع) بعلويته مرتبته مرتبة المشية وهى ظهور الله على العباد ومقام معروفيته وتجليه باسمه العلى، غاية الامر ان عليا اسم لتلك المرتبة باعتبار اضافتها الى الخلق، وفى تفسير القمى: هم الذين اقروا برسول الله (ص) وانكروا امير المؤمنين (ع).
[4.151-153]
{ أولئك هم الكافرون حقا } لانهم الكاملون فى الكفر حيث ضموا النفاق الى كفرهم وباظهارهم الاسلام صدوا كثيرا عن الايمان { وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم } كسلمان واقرانه { أولئك سوف يؤتيهم أجورهم } قرئ بالتكلم وبالغيبة يعنى انا نعطيهم اجورهم بحسب عملهم ونغفر زلاتهم ونتفضل عليهم بالرحمة الخاصة بحسب شأننا من المغفرة والرحمة، ولذا قال تعالى بعد ذكر اعطاء اجورهم { وكان الله غفورا رحيما يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السمآء } استيناف منقطع لفظا ومعنى عن سابقه ولذا لم يأت بالوصل، روى ان كعب بن الاشرف وجماعة من اليهود قالوا: يا محمد (ص) ان كنت نبيا فأتنا بكتاب من السماء جملة كما اتى موسى بالتوراة جملة، فنزلت وقال تعالى تسلية لرسوله: لا تعجب من سؤالهم ولا تعظمنه فان هذا ديدنهم { فقد سألوا موسى أكبر من ذلك } يعنى سأل آباؤهم الذين هم من اسناخهم { فقالوا أرنا الله جهرة } عيانا { فأخذتهم الصاعقة بظلمهم } وهو سؤالهم ما ليس لهم بحق وتجاوزهم عن حدهم { ثم اتخذوا العجل } معبودا { من بعد ما جآءتهم البينات } اى المعجزات من موسى (ع) { فعفونا عن ذلك } بمحض رحمتنا { وآتينا موسى سلطانا مبينا } حجة واضحة او موضحة لصدقه، او تسلطا فى الظاهر بحيث ما كان يمكن لهم التخلف عنه ويكون قوله تعالى { ورفعنا فوقهم الطور }.
[4.154]
{ ورفعنا فوقهم الطور } بيانا للسلطان باى معنى كان { بميثاقهم } بسبب تحصيل ميثاقهم { وقلنا لهم } على لسان مظهرنا وخليفتنا موسى (ع) { ادخلوا الباب سجدا } يعنى باب حطة { وقلنا لهم لا تعدوا في السبت } يعنى جعلنا السبت محترما لهم ومنعناهم فيه عن بعض ما ابحناه لهم فى غيره كالصيد { وأخذنا منهم ميثاقا غليظا } على ذلك، ولما كان مقصوده تعالى من كل قصة وحكاية ذكر على (ع) والترغيب فى الولاية عرض بذكره بعد هذه الحكاية فكأنه قال: يا امة محمد (ص) قد أخذنا عليكم الميثاق بالولاية فتذكروا امة موسى (ع) حتى لا تصيروا بسبب نقض هذا الميثاق معاقبا مثلهم.
[4.155]
{ فبما نقضهم ميثاقهم } فعلنا بهم ما هو مثل على السنتكم ومشهور بينكم بحيث لا حاجة الى ذكره من مسخهم وعقوباتهم الاخر { وكفرهم بآيات الله } فتنبهوا حتى لا تكفروا بعلى (ع) { وقتلهم الأنبيآء بغير حق } فاحذروا ان تقتلوا عليا (ع) والحسن (ع) والحسين (ع) فان شأنهم شأن الانبياء بل أرفع كما حدثكم به نبيكم { وقولهم قلوبنا غلف } اوعية للعلوم استكبارا وارتضاء بانفسهم، او فى اكنة استهزاء بالانبياء فاحذروا ان تستبدوا بآرائكم فى مقابلهم { بل طبع الله عليها بكفرهم } اضراب وابطال لما قالوا واثبات لضده، يعنى ليس فى قلوبهم علم او ليس قلوبهم فى اكنة بل طبع الله عليها بكفرهم { فلا يؤمنون إلا } ايمانا { قليلا } وهو الايمان العام النبوى (ص) او الا قليلا منهم
[4.156]
{ وبكفرهم } بعيسى (ع) { وقولهم على مريم بهتانا عظيما } فاحذروا ان لا تبهتوا على مريم هذه الامة ولا تضعوا حديثا ولا تأخذوا فدك منها.
[4.157]
{ وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله } ذكروا رسول الله استهزاء والا فما كان لهم اعتقاد برسالته يعنى بتجريهم على انتحال قتله وقولهم هذا لعناهم وعاقبناهم فاحذروا ان تقتلوا مسيح هذه الامة وان تفعلوا ما قال امة عيسى (ع) فى حقه ولم يفعلوه من ادعاء قتله { وما قتلوه } عطف باعتبار المعنى او حال { وما صلبوه ولكن شبه لهم } قد مضى فى سورة آل عمران عند قوله ومكروا او مكر الله والله خير الماكرين قصة عيسى (ع) وقتله وصلبه { وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه } عطف على ما قتلوه او على شبه لهم او حال من الضمير المجرور او من فاعل ما قتلوه قيل بعد وقوع تلك الواقعة اختلف اليهود والنصارى فقال بعضهم: كان عيسى (ع) كاذبا وقتلناه، وقال بعضهم: لو كان المقتول عيسى (ع) فاين صاحبنا؟ - وقال بعضهم: الوجه وجه عيسى (ع) والبدن بدن صاحبنا، وقال بعضهم: رفع الى السماء لما اخبر عيسى (ع) برفعه الى السماء، وقال بعضهم: رفع الملكوت وصلب الناسوت، وقيل القى شبهه على جميع الحواريين وكانوا سبعة عشر فى بيت فلما احاط اليهود بهم رأوا كلهم على مثال عيسى (ع) وقالوا: سحرتمونا فليخرج الينا عيسى (ع) والا نقتل كلكم فأخذوا واحدا وقالوا: هذا عيسى (ع) واشتبه الحال عليهم فاختلفوا، وقيل: ان رؤساء اليهود اخذوا انسانا وقتلوه وصلبوه فى موضع عال ولم يمكنوا احدا منه حتى تغير حليته فقالوا: قتلنا المسيح ليشتبه الامر على العوام لانهم لما احاطوا بالبيت ورفع الله عيسى (ع) خافوا ان يؤمن به عامتهم { ما لهم به من علم إلا اتباع الظن } استثناء منقطع { وما قتلوه يقينا } مفعول مطلق مؤكد لغيره اى يقن عدم القتل يقينا، واما جعله حالا او مضافا اليه لمفعول مطلق محذوف تقديره قتل يقين فبعيد معنى لا فادته تقييد نفى القتل بحال اليقين واثباته مع الشك وليس هذا مقصودا.
[4.158]
{ بل رفعه الله إليه } اختلاف اليهود والنصارى فى مولد عيسى (ع) وفى قتله وصلبه ورفعه الى السماء ونزوله منها علاوة على ما ذكر ههنا وعلى ما ذكر فى سورة آل عمران معروف مسطور فى التواريخ، ولا غرابة فى رفعه ببدنه العنصرى لغلبة الملكوت على الملك، وانكار الفلسفى والطبيعى غير مسموع فى مقابل المشهود، والتأويل بأن المقتول والمصلوب هو بدنه الدنيوى وهو بما هو ليس بعيسى (ع) بل متشبه به، والمرفوع هو بدنه الملكوتى وروحه عنهم معروف، ولكن بعد امكان غلبة - الملكوت على الملك بحيث يعطى الملك حكمه لا حاجة لنا الى هذا التأويل بل نقف على ظاهر ما ورد فى التنزيل والاخبار { وكان الله عزيزا } لا يغلب فيقتل نبيه (ع) على خلاف ارادته، اولا يغلب فى مظاهر خلفائه، وما يتراءى من القتل والاذى لهم انما هو بالنسبة الى بدنهم العنصرى وهو سجن لهم ولباس لأنفسهم، وقوله تعالى { حكيما } اشارة اليه يعنى ان وقع على سجنهم ولباسهم تصرف من الاعداء فهو ايضا بحكمه.
[4.159]
{ وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته } يعنى ما احد من اهل الكتاب الا ليؤمنن بعيسى (ع) قبل موته حين احتضاره او قبل موت عيسى (ع) او قبل موته حين نزول عيسى (ع) من السماء مع مهدى هذه الامة، لكن نقول فى بيان ما هو المقصود انه صرف الكلام عن حكاية حال اهل الكتاب متوجها الى المقصود مخاطبا لحبيبه محمد (ص) فى حبيبه على (ع) تسلية له (ص) فقال: ان فعلوا كل ما فعلوا فلا تحزن فانهم وجميع اهل الارض يؤمنون به قبل موتهم فانه ما من احد يموت الا ويرى عليا (ع) حين موته ويكون رؤيته راحة لهم او نقمة لهم، ونسب اليه عليه السلام:
يا حار همدان من يمت يرنى
من مؤمن او منافق قبلا
يعرفنى طرفه وأعرفه
بعينه واسمه وما فعلا
والسر فيه ان حال الاحتضار يرتفع الحجاب ويشاهد المحتضر الملكوت، واول ما يظهر من الملكوت هو الولاية السارية المقومة لكل الاشياء والاصل فيها على (ع) وكل الانبياء والاولياء من السلف والخلف أظلاله فاول ما يظهر هو الولاية المطلقة فيؤمن الكل بها، والاخبار فى ان المعنى ما من كتابى الا ليؤمنن قبل موته بمحمد (ص) وعلى (ع) كثيرة، وفى خبر: هذه نزلت فينا خاصة، وحاصل ذلك الخبر انه ما من ولد فاطمة احد يموت حتى يقر للامام بامامته، وما ورد فى تفسيره من الايمان بمحمد (ص) او بعيسى (ع) او بالمهدى (ع) كلها راجع الى الايمان بعلى (ع) فان الكل ظهور الولاية الكلية وهو المتحقق بها { ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا } يعنى عيسى (ع) او المنظور منه تسلية اخرى لمحمد (ص) بان عليا (ع) يكون يوم القيامة شاهدا على اهل الكتاب وعلى منافقى امته فيشهد عليهم بما فعلوا.
[4.160]
{ فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } اى طيبات الرزق الصورى او طيبات عظيمة هى رزق الروح الانسانى من العلوم الكسبية او اللدنية والمشاهدات والمعاينات، والآية بتمام اجزائها تعريض بمنافقى الامة المعرضين الصادين عن الولاية وآكلى الربا وآكلى الرشى وغيرهم يعنى اذا علمت ان كلما اصاب الذين هادوا كان بشنائع اعمالهم علمت ان تحريم الطيبات المحللة عليهم ايضا كان بواحد منها، يعنى فاحذروا عن مثل افعالهم او علمت انه كان بظلم عظيم من انواع ظلمهم وهو اعراضهم عن الولاية بقرينة قوله تعالى { وبصدهم عن سبيل الله } وسبيل الله هو الامام الذى يفتح باب القلب فيسير السالك بالتوسل به الى الله وكل عمل يدلك على هذا الامام ايضا سبيل الله لان سبيل السبيل سبيل { كثيرا } صدا كثيرا او جمعا كثيرا.
[4.161]
{ وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل } قد سبق معنى الباطل والحق الذى فى مقابله { وأعتدنا للكافرين منهم } لا التائبين ولا المذنبين المعترفين { عذابا أليما } لما توهم من نسبة سؤال الكتاب والنقض والصد وغير ذلك اليهم عموما ان الكل كانوا مخالفين له (ص) غير مؤمنين به استدركه بقوله تعالى { لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون }.
[4.162]
{ لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون } اى منهم فالمعنى والمنقادون المسلمون بأنبيائهم وخلفاء انبيائهم او المؤمنون من امتك فالمعنى والمناقدون المسلمون بك من امتك او منهم ومن امتك { يؤمنون بمآ أنزل إليك } عموما ومنه الولاية او بما انزل اليك من ولاية على (ع) خصوصا فانها منظورة من كلما ذكر { ومآ أنزل من قبلك } فى على (ع) او عموما { والمقيمين الصلاة } ويؤمنون بالمقيمين الصلوة ولما وسم عليا (ع) باسم مقيم الصلوة ومؤتى الزكوة بقوله:
الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون
[المائدة:55] ورى عنه بالمقيمين الصلوة وأتى بالمؤتون الزكوة بالرفع ليكون تورية اخرى حتى لا يسقطوه كسائر موارد التصريح به وعلى هذا فقوله تعالى { والمؤتون الزكاة } خبر مبتدء محذوف كأنه قال: وهم المعهودون بايتاء الزكوة فى الركوع وقد بين العامة وجوها لاعراب الآية لا فائدة فى ايرادها وان كانت محتملة بحسب اللفظ { و } هم { المؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك } الراسخون المؤمنون { سنؤتيهم أجرا عظيما } لايمانهم بما انزل اليك فى على (ع).
[4.163-164]
{ إنآ أوحينآ إليك } استيناف لتشييد رسالته حتى يستفاد منه صدقه فى الولاية او لتشييد الوحى اليه فى الولاية ولذا لم يأت بأداة الوصل، وتقديم المسند اليه مضمرا مصدرا بان لتقوية الحكم مع اشارة ما الى الحصر، فان المقصود نفس تقرير الوحى اليه من غير نظر الى الوحى به فالمعنى لا بدع فى الوحى اليك حتى تستوحش من عدم قبولهم ويستوحشوا من ادعائك فلا تبال بردهم وقبلوهم، وان كان المقصود تقرير الوحى بالخلافة فالمعنى انا اوحينا اليك بالخلافة، ويؤيده انه لو كان المراد تقرير الرسالة لكان ارسلنا مقام اوحينا اوقع، وايضا لو كان المراد ذلك لما ذكر بعد الرسل فى قوله لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل لان معناه حينئذ بعد ارسال الرسل، وهذا المعنى يستفاد من كون اللام غاية لارسال الرسل بخلاف ما اذا كان غاية للوحى بالخلافة، فان معناه حينئذ لئلا يكون الارض بعد مضى الرسل خالية عن الحجة { كمآ أوحينآ إلى نوح والنبيين من بعده } بالخلافة فلم يكن الوحى بالخلافة بدعا حتى يستوحشوا منه فلا تبال بهم { وأوحينآ إلى إبراهيم } عطف على المشبه او المشبه به وذكر هؤلاء مخصوصا بعد ذكرهم عموما فى النبيين لشرافتهم والاهتمام بهم { وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داوود زبورا ورسلا } اما من باب الاشتغال او بتقدير ارسلنا { قد قصصناهم عليك من قبل } اليوم او من قبل هذه السورة { ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما } فكيف بالوحى.
[4.165]
{ رسلا } حال موطئة { مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } بعد ارسال الرسل وقد مضى ان هذا المعنى يستفاد من اللام، او اوحينا بالخلافة لئلا يكون للناس على الله حجة بعد مضى الرسل فان قالوا: كنا فى زمان لم يكن فيه رسول ولا من يعلمنا معالم ديننا { وكان الله عزيزا } لا مانع له من ارسال الرسل ولا من نصب الخليفة لهم { حكيما } يكونا ارسال الرسل منه ونصب الخليفة لمصالح كلية وغايات متقنة.
[4.166]
{ لكن الله يشهد } استدراك عن جواب سؤال يناسب المقام كأن سائلا يسأل: هل يشهد الامة بذلك؟ - فأجيب لا يشهدون لكن الله يشهد { بمآ أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا } فلا حاجة الى غيره، وورد عنهم (ع) انه أنزل لكن الله يشهد بما انزل اليك فى على.
[4.167]
{ إن الذين كفروا } استيناف كأن السامع سئل وطلب بيان حال الكافر بما أنزل اليه مع ان الله يشهد به ولذا اكده والمراد بهذا الكفر، الكفر بما انزل اليه فى على (ع) والكفر بسبيل الله على سبيل التنازع { وصدوا عن سبيل الله } عن ولاية على عليه السلام { قد ضلوا } عن الطريق { ضلالا بعيدا } لانك قد علمت ان الطريق هو على (ع) ولا يحصل الا بدلالة على (ع) وانهم كفروا به وصدوا الغير عنه، ولما ذكر حالهم فى انفسهم كأن السامع طلب حالهم مع الله ونسبة مغفرته وهدايته لهم فقال جوابا لهم: { إن الذين كفروا }.
[4.168]
{ إن الذين كفروا } بوضع المظهر موضع المضمر اظهارا لشناعة حالهم وذكرا لذم آخر لهم بذكر ظلمهم وابرازا للسبب فى عدم المغفرة { وظلموا } آل محمد (ص) هكذا ورد عنهم (ع) { لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا } لان ما به المغفرة هو الولاية ولان الهداية الى طريق الجنة قد عرفت انها مخصوصة بالولاية لان شأن النبوة الانذار.
[4.169]
{ إلا طريق جهنم خالدين فيهآ أبدا وكان ذلك على الله يسيرا } ثم نادى الناس تلطفا بهم وتنبيها لهم بعد ما اكد امر الولاية وهدد الكافرين بها ابلغ تهديد فقال تعالى: { يأيها الناس قد جآءكم الرسول بالحق }
[4.170]
{ يأيها الناس قد جآءكم الرسول بالحق } اى بولاية على (ع) فانها الحق وكل ما سواها حق بها كما مضى { من ربكم } فلا تبالوا بمن كفر به ولا تتبعوه { فآمنوا } بهذا الحق او بالرسول فيما قال فى حق هذا الحق واتبعوا { خيرا لكم } او ايمانا خيرا لكم او حال كونه خيرا لكم او يكن خيرا لكم { وإن تكفروا } بهذا الحق لا تخرجوا من حيطة قدرته وتصرفه ولا يهملكم من غير عقوبة وجزاء { فإن لله ما في السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما } لا يهملكم بل يجزيكم بما يقتضى حكمته.
[4.171]
{ يأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم } بحط عيسى (ع) عن مرتبته وجعله لغير رشده ورفعه عن مرتبته يجعله آلها او ابنا والغلو وان كان فى الافراط اظهر لكن صاحب التفريط فى حق عيسى (ع) من اليهود باعتبار انه مجاوز للحد فى حطه (ع) عن مرتبة ولد الرشدة الى اللغية وباعتبار انه مجاوز فى حق دينه بعد النسخ الى ابقائه غال وهو تعريض بالمفرط فى على (ع) من هذه الامة { ولا تقولوا على الله إلا الحق } لا تقولوا والدا او ثالث ثلاثة { إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه } وليس لغية كما زعمته اليهود ولا ابنا او آلها كما زعمته النصارى { فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا } الاقانيم { ثلاثة } الله والمسيح (ع) ومريم (ع) وهذا قول بعضهم كما اشار اليه تعالى بقوله:
أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين
[المائدة: 116] اثنين، والا فاكثرهم لا يقولون ذلك وسيجيء تحقيقه فى سورة المائدة { انتهوا } عن التثليث { خيرا لكم } مضى نظيره { إنما الله إله واحد } لا شريك له فى الآلهة كما توهمتم يظن ان المناسب لنفى القول بان الآلهة ثلاثة ان يقال انما الآله واحد لكنه تعالى عدل الى هذا لافادة هذا المعنى منه مع شيء زائد هو تعيين ذلك الواحد لانه قد يقال: هذا واحد مقابل الاثنين وبهذا المعنى كل ذات واحدة وقد يقال: هذا واحد ويراد نفى الشريك والنظير والقرين عنه وهذا هو المراد فان المقصود ان الله آله واحد لا شريك له فى الآلهة ولا نظير ولا قرين، وهذا يفيد ان جنس الآله واحد وذلك الواحد هو الله { سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض } كل له مملوك لا يماثله شيء ولا يساويه حتى يكون له ولد { وكفى بالله وكيلا } يعنى انه غنى عن اخذ الوكيل فلا يحتاج الى ولد يكون وكيلا له.
[4.172]
{ لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله } جواب آخر للنصارى فى افراطهم وتوطئة للتعريض بالمستنكفين من امة محمد (ص) عن عبادة الله فى امره بولاية على { ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر } الاستنكاف الترفع على الشيء بتصور نقصان فيه والاستكبار الترفع عليه بتصور المستكبر رفعة فى نفسه { فسيحشرهم } اى العابدين والمستنكفين { إليه جميعا } وفيه تعريض بالمستنكفين عن قول الله فى ولاية على (ع).
[4.173]
{ فأما الذين آمنوا } بالبيعة العامة { وعملوا الصالحات } بالبيعة الخاصة والاعمال المتعلقة بها، او آمنوا بالبيعة الخاصة وعملوا الاعمال المتعلقة بها، وقد عرفت ان الصالح اصلا هو الولاية وكل ما تعلق بها فهو صالح من باب الفرعية وكل ما لم يتعلق بها فليس بصالح وان كان بصورة الصالح { فيوفيهم أجورهم } التوفية الاعطاء بالتمام { ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا } قد مضى ان النصير هو النبوة والنبى وان الولى هو الولاية والولى ويقوم مقامهما خلفاؤهما.
[4.174]
برهان الشيء ما يدل عليه، والنور ما به يرى الاشياء، وقد سبق ان الرسالة تنبه عن الغفلة والجهالة وتدل على من يهدى الى الطريق، والولاية بها يرى الطريق فالبرهان محمد (ص) من حيث الرسالة والنور على (ع) من حيث الولاية اذا تحققت هذا فلا اعتناء بما قبل فى تفسير الآية خصوصا بعد ما فسره الائمة الذين هم اهل - الكتاب بما ذكرنا، والمبين بمعنى الظاهر او المظهر وفى ذكر جاء ومن ربكم فى جانب البرهان والانزال مع ضمير المتكلم فى جانب النور اشارة الى شرافة الولاية بالنسبة الى الرسالة، لا اقول ولاية على (ع) اشرف من ولاية محمد (ص) ورسالته حتى يتوهم متوهم بل اقول: ولاية محمد (ص) اشرف من رسالته.
[4.175]
{ فأما الذين آمنوا بالله } لما كان ذكر الايمان ههنا بعد البرهان والنور فالاولى ان يكون اشارة الى البيعتين فقوله آمنوا بالله اشارة الى البيعة العامة على يد محمد (ص) { واعتصموا به } اشارة الى البيعة الخاصة على يد على (ع) { فسيدخلهم في رحمة منه } هى موائد الولاية { وفضل } موائد الرسالة لما مضى ان الرحمة هى الولاية والفضل هو الرسالة { ويهديهم } يذهبهم { إليه صراطا مستقيما } اى درجات الولاية ولما كانت البيعة العامة متقدمة على البيعة الخاصة قدم الايمان بالله على الاعتصام بعلى (ع) ولما كان ثمرة الولاية وهى الفناء متقدمة على حاصل الرسالة وهو البقاء بعد الفناء عكس فى الجزاء وقدم الادخال فى الرحمة على الادخال فى الفضل واخر الهداية الى الصراط المستقيم لانها تكون بمجموع الفناء والبقاء و { يستفتونك }.
[4.176]
{ يستفتونك } اى فى الكلالة والاخوة وميراثها فان المراد بالكلالة هنا الاخوة { قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثهآ } تمام مالها { إن لم يكن لهآ ولد فإن كانتا اثنتين } اى الوارث بالاخوة { فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونسآء فللذكر مثل حظ الأنثيين } عن الباقر (ع): اذا مات الرجل وله اخت تأخذ نصف الميراث بالآية كما تأخذ البنت لو كانت والنصف الباقى يرد عليها بالرحم اذا لم يكن للميت وارث اقرب منها، فان كان موضع الاخت اخ اخذ الميراث كله بالآية لقول الله وهو يرثها ان لم يكن لها ولد، فان كانتا اختين اخذتا الثلثين بالآية والثلث الباقى بالرحم، وان كانوا اخوة رجالا ونساءا فللذكر مثل حظ الانثيين وذلك كله اذا لم يكن للميت ولد وابوان او زوجة { يبين الله لكم } كراهة { أن تضلوا } او يبين الله ضلالكم، او يبين الله لئلا تضلوا، او يبين الله لضلالكم الحاصل فانه الداعى الى البيان حتى يرتفع { والله بكل شيء عليم } فيشرع لكم بحسب مصالحكم.
[5 - سورة المائدة]
[5.1]
{ يا أيها الذين آمنوا } ايمانا عاما او خاصا او بمعنى اعم منهما لان الخطاب لعامة الامة للتحريص على أمر الولاية { أوفوا بالعقود } اعلم ان سورة النساء وهذه السورة نزلتا فى خلافة على (ع) والترغيب فيها والتهديد على خلافها، فكلما ذكر فيهما من امر ونهى وحلال وحرام واجر وعقاب وقصة وحكاية عموما وخصوصا مطلقا ومقيدا فالمقصود منه الاشارة الى الولاية سواء قلنا ان ذكر على (ع) كان مصرحا فاسقطوه او مورى فلم يفهموه، وفى اخبارنا تصريحات بان ذكره (ع) كان مصرحا فى كثير من المواضع فاسقطوه، والايمان عاما كان او خاصا قد علمت سابقا انه ما كان يحصل الا بالبيعة على يد النبى (ص) او الامام (ع) او خلفائهما (ع) وكانت فى تلك البيعة معاهدات ومواثقات وشروط تؤاخذ على البائع، لكن فى كل من البيعة العامة والخاصة بكيفية مخصوصة بها غير كيفية الاخرى، وقد اشير الى بعض الشروط فى آية مبايعة النساء وكان من جملة شروط البيعة العامة عدم مخالفة المشترى وطاعته فى امره ونهيه وكانت البيعة لا تحصل الا بعقد يمين البايع على يمين المشترى كما هو المعهود اليوم بينهم فى المعاملات، ولذا يسمى مطلق المبايعة وسائر المعاملات التى فيها ايجاب وقبول عقودا للاهتمام بعقد اليد فيها. والوفاء بالعقد عبارة عن الاتيان بمقتضى اصل العقد والاتيان بشرائطه ومعاهداته تماما فالمعنى يا ايها الذين بايعوا مع محمد (ص) او مع على (ع) اوفوا بجملة العقود من المعاملات بينكم والمبايعة مع الله ولا تدعوا شيئا من شرائطها وعهودها، وسوق هذا الكلام من ذكر عقد خاص فى ضمن آمنوا وتعقيبه بذكر جملة العقود عموما والامر بالوفاء بها يقتضى ان يكون المقصود الوفاء بهذا العقد الخاص، كانه قال: يا ايها الذين عقدتم البيعة مع محمد (ص) اوفوا بجملة العقود خصوصا بهذا العقد او اوفوا بهذا العقد لكنه جمع العقود باعتبار تعدد العاقدين او باعتبار تعدد وقوع هذا العقد فى عشرة مواطن او فى ثلاثة مواطن، فالمقصود لا تخلعوا بيعتكم عن رقابكم بالارتداد عن الاسلام او الايمان ولا تتركوا شرائطها بمخالفة قول النبى (ص) فى الامر بالولاية وروى عن الجواد (ع) ان رسول الله (ص) عقد عليهم لعلى (ع) بالخلافة فى عشرة مواطن، ثم انزل الله يا ايها الذين آمنوا اوفوا بالعقود التى عقدت عليكم لامير المؤمنين (ع) وعلى هذا كان المراد بالآية، الامر بالوفاء بعقود الولاية بحسب المنطوق وعلى ما ذكر سابقا فى وجهها الاول المراد بها الامر بالوفاء بعقد الولاية التزاما { أحلت لكم بهيمة الأنعام } لما كان من جملة شرائط البيعة الاسلامية والايمانية ترك اذى الحيوان صار المقام مظنة ان يسأل عن ذبح البهائم الذى كان شائعا فيهم مسلمين وجاهلين خصوصا مع ملاحظة ما كان مشهورا من اتباع العجم من حرمة ذبح الحيوان واكله فأجاب تعالى بان ذبح البهائم واكلها احل لكم، فى القاموس: البهيمة كل ذات اربع قوائم ولو فى الماء، او كل حي لا يميز، والبهيمة اولاد الضأن والمعز والبقر، وعلى هذا فالاضافة من قبيل اضافة العام الى الخاص والانعام الازواج الثمانية وفى الاخبار فسر بهيمة الانعام بالاجنة من الانعام ولا ينافى التعميم، لان المراد بذلك التفسير بيان الفرد الخفى والمصداق الذى لا يكاد يطلق اسم البهيمة عليه، او المقصود من هذا التفسر انه احد وجوه الآية بتصوير أن بهيمة الحيوان ما لا نطق له ولا تميز وبهيمة الانعام ما يكون عدم نطقه وعدم تميزه بالنسبة الى الانعام وما لا تميز له بالنسبة الى الانعام هو جنينها، واعلم ان ما ذكر من جعل قوله تعالى احلت لكم بهيمة الانعام مستأنفا جوابا لسؤال مقدر انما هو بحسب احتمال ظاهر اللفظ وبحسب ظاهر الشريعة المطهرة، والا فالمقصود تعليق احلال البهيمة على الوفاء بعقد الولاية كما صرح بهذا التعليق فى قوله تعالى
اليوم أحل لكم الطيبات
[المائدة: 5] كما سيجيء وكما يستفاد من اشارات الآيات وتصريحات الاخبار، ان احلال كل حلال معلق على قبول الولاية، وان من لم يقبل الولاية ولم يعرض عنها لا يحكم عليه بحلية شيء ولا بحرمته ومن اعرض عنها يحكم عليه بحرمة كل شيء عليه، ومن قبل الولاية ووفى بعقدها حكم عليه بحلية المحللات؛ ولى على (ع) لا يأكل الا الحلال وعدو على (ع) لا يأكل الا الحرام.
كر بكيرد خون جهانرا مال مال
كى خورد مرد خدا الا حلال
فعلى هذا كان احلت فى هذه الآية جوابا للامر وفى محل الجزم واداه بالماضى لئلا يكون تصريحا تعليق احلال البهائم على الوفاء بعقد الولاية حتى لا يسقطوه مثل سائر ما صرح به من مناقب على (ع) { إلا ما يتلى عليكم } مما يأتى فى الآية الآتية { غير محلي الصيد } حال عن المجرور فى لكم والمعنى احلت لكم بهيمة الانعام حال كونكم غير معتقدين حلية الصيد { وأنتم حرم } حال عن المستتر فى محلى الصيد يعنى ان اعتقدتم حلية الصيد وقت الاحرام كانت المحللات حراما عليكم لانكم ما وفيتم بشروط عقدكم، والحرم جمع الحرام بمعنى المحرم للحج او العمرة سواء كان وصفا او مصدرا فى الاصل كالحلال بمعنى الخارج من الاحرام { إن الله يحكم ما يريد } فلا تتعجبوا من تعليق إحلال المحللات على الوفاء بعقد الولاية ولا تتحرجوا من ذبح البهائم واكلها بشبهة سبقت الى اوهامكم من الاعاجم.
[5.2-4]
{ يا أيها الذين آمنوا } كرره تلطفا بهم وتذكيرا لعلة النهى تهييجا على الامتثال والمراد بالايمان كالسابق اما الايمان العام او الخاص او اعم منهما { لا تحلوا شعآئر الله } يستعمل الاحلال المتعلق بالامور ذوى الخطر فى ترك حرمتها وفى اعتقاد حلية ترك حرمتها والمعاملة معها بخلاف شأنها فالمعنى لا تتركوا حرمة شعائر الله ولا تعتقدوا حلية ترك حرمتها فتتهاونوا بها، والشعائر جمع الشعيرة او الشعارة او الشعار بمعنى العلامة، ولما كان كل من العبادات علامة لدين الاسلام وللعبودية وقبول آلهة الله سميت شعائر الدين وشعائر الاسلام وشعائر الله، ولما كان اعظم شعائر الاسلام هى الولاية لانها اعظم اركانها الخمسة واسناها وكان المقصود من الوفاء بالعقود الوفاء بعقد الولاية كما علمت كان المقصود ههنا ايضا النهى عن احلال حرمة الولاية ، ولما كانت الولاية من شؤن الولى وكان على (ع) هو الاصل فى ذلك كان المقصود لا تتهاونوا بعلى (ع) { ولا الشهر الحرام } من قبيل ذكر الخاص بعد العام لان الشهر الحرام من حيث حرمته من شعائر الله، وعن على (ع) انا الاعوام والدهور وانا الايام والشهور، ونزول الآية كما فى الخبر فى رجل من بنى ربيعة قدم حاجا واراد المسلمون قتله فى الاشهر الحرم لكفره ولانه كان قد استاق سرح المدنية { ولا الهدي } ما اهدى به الى البيت { ولا القلائد } ذوات القلائد جمع القلادة ما اشعر به الهدى من نعل صلى فيه او لحاء شجر او غيره اعلاما بانه هدى البيت لئلا يتعرض له او المراد النهى عن احلال القلائد انفسها، وعلى الاول يكون من عطف الخاص على العام { ولا آمين البيت الحرام } قاصدين البيت لزيارته بقرينة قوله تعالى { يبتغون } بزيارتهم { فضلا من ربهم } من سعة العيش فى الدنيا { ورضوانا } رضا ربهم فى الآخرة، وبعد ما علمت ان البيت الحقيقى لله هو القلب فى العالم الصغير وصاحب القلب فى العالم الكبير وان البيت الذى بناه ابراهيم (ع) صورة هذا البيت وظهور القلب الذى هو بيت حقيقى لله ولذا سمى بيتا لله، وكونه بحذاء البيت المعمور وانه فى السماء الرابعة يدل على هذا، فاعلم ان جميع ما سن الله تعالى من مناسكه ومواقفه صورة ما سنه تعالى تكوينا وتكليفا من مناسك الحج الحقيقى فى الصغير والكبير، فاول بيت وضع للناس فى ملك الصغير هو القلب فانه اول عضو يتكون ومن تحته دحو ارض البدن، واول بيت وضع للناس فى ملكوت الصغير هوا لقلب الملكوتى، واول بيت وضع للناس هو الكبير هو خليفة الله فى ارضه، ولما كان بيت الاحجار ظهور قلب ذلك الخليفة فكلما يتأتى فى القلب يجرى بعينه فى هذا البيت وتفصيله قد مضى فى آل عمران عند قوله:
إن أول بيت وضع للناس
[آل عمران: 96] ، فالقلب هو بيت الله والصدر المستنير بنور القلب مسجد وحرم وشهر حرام بتفاوت الاعتبارات ، وصاحب هذا الصدر المأذون فى التكلم مع الخلق ونقل اخبارهم وبيان احكامهم ايضا شهر حرام وحرم ومن بيوت الانبياء (ع) ومسجد المحلة ومن القرى الظاهرة الواسطة بين الخلق وبين القرى المباركة والبهيمة والهدى وذوات القلائد فى الصغير القوى الغير الشاردة الابية المتوقفة عن حضرة القلب او المتحركة اليها بتبعية اللطيفة الانسانية غير المستنيرة بنور القلب، او المستنيرة المتقلدة بقلادة نور القلب وفى الكبير افراد الانسان التى لا تأبى لها عن الطاعة ولا تهيج لها للحركة الى بيت الله الامام، او المتحركة مع قاصد البيت من غير تعلم شيء من علامات الدين الذى هو قلادتها واشعارها، او مع تعلم شيء منها وتقلدها بقلادتها، والصيد هو الشارد الابى من القوى ومن افراد الانسان، ولا يجوز للمحرم لحضرة القلب ما لم يطف به ولم يتمكن من مناسكه التعرض له، فانه خلاف قصده ومضر إحرامه لانه شاغل له عن الحركة اليه، فاذا تمكن من طواف القلب وعاد بعد الهجرة الى مقام الصدر واستنار صدره بنور القلب بحيث لا ينطفى ولا يختفى ذلك النور باشتغاله بامر الصيد فله التعرض بقتل وقيد واسر، والفضل استنارة الصدر بنور القلب، والرضوان استنارة القلب بنور الروح، وما لم تشتدا كانتا للانسان قبولا وصاحبهما قابلا وتابعا ومقلدا، واذا اشتدتا وتجوهر الصدر والقلب بهما وكان صاحبهما محتاجا الى الاستمداد من الواسطة بينه وبين الله صارتا خلافة للرسالة او للولاية، واذا استغنتا عن الواسطة واستمدتا من الله بلا واسطة صارتا رسالة وولاية وهما كما علمت من شؤن الرسول والولى ومتحدتان معهما، والاصل فى الرسل والاولياء محمد (ص) وعلى (ع) فصح تفسيرهما بمحمد (ص) وعلى (ع) وحصرهما فيهما، ولما اجمل ذكر الصيد فى قوله: غير محلى الصيد؛ ولم يتعرض له فى جملة المنهية عن التهاون بها ناسب المقام السؤال عن حاله والجواب عنه فقال تعالى جوابا وبيانا { وإذا حللتم فاصطادوا } امر فى معنى الاباحة بحسب التكاليف القالبية وفى معنى الرجحان بحسب التأويل { ولا يجرمنكم } لا يكسبنكم اولا يحملنكم { شنآن قوم } بغضاؤكم لقوم او بغضاء قوم لكم قرء شنأن قوم بفتح النون مصدرا او بسكون النون مصدرا او وصفا { أن صدوكم عن المسجد الحرام } قرئ بفتح الهمزة بتقدير اللام او الباء او على ويجوز ان يكون بتقدير فى وان يكون بدلا من شنأن قوم بدل الاشتمال او مفعولا ثانيا ليجرمنكم وقرئ بكسر الهمزة { أن تعتدوا } مفعول ثان ليجرمنكم او بتقدير اللام او الباء او على او فى او بدل من شنأن قوم او من صدوكم نحو بدل الاشتمال، اى لا يحملنكم بغضاء قوم على الاعتداء بالخروج عما رخص الله لكم فى شريعتكم وعما حده لكم فى طريقتكم من التنزل عن مقام الصدر المنشرح بالاسلام الى مقام النفس الامارة والايتمار بأمرها وقمع القوى المانعة لكم من الحضور لدى القلب وقتل من يمنعكم من الحضور عند صاحب القلب، بل عليكم بالملاينة والمرافقة والمداراة واعطاء كل ذى حق حقه فى مقامه { وتعاونوا على البر والتقوى } البر ههنا الاحسان الى خلق الله وهو من احكام الرسالة ولوازمها كما قال:
ومآ أرسلناك إلا رحمة للعالمين
[الأنبياء:107]؛ والتقوى حفظ النفس عن ضر الغير وعن اضرارها للغير وهو من آثار الولاية ولوازمها لان الرسالة رجوع الى الخلق بصفات الحق من عموم الرحمة، وقبول الولاية انزجار ورجوع من الخلق الى الحق، وصاحب الولاية شأنه ارجاع الناس من الكثرات الى الوحدة وهما متحدان مع الرسالة والولاية وهما متحدتان مع الرسول (ص) والولى (ع) فصح تفسيرهما بمحمد (ص) وبعلى (ع) وحصرهما فيهما { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } الاثم الاساءة الغير المتعدية والعدوان الاساءة المتعدية وهما متحدان مع الآثم والعادى يعنى لا تعاونوا على الاساءتين { واتقوا الله } فى الاعتداء والتعاون عليهما { إن الله شديد آلعقاب حرمت عليكم الميتة } استيناف لبيان المستثنى المقدم كأن السامع يطلب ويسأل بيانه وينتظر ذكره ولذا لم يأت باداة الوصل { والدم ولحم الخنزير ومآ أهل لغير الله } اى رفع الصوت لغير الله به والمراد تنزيلا الذبيحة التى ذكر غير اسم الله عليه وتأويلا كل فعل رفع صوت النفس بالامر به، فان صوتها لغير الله لا محالة كما ان قوله ومالكم الا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه اشارة الى كل فعل امر العقل به فان امره لا محالة لله { والمنخنقة } كانوا يخنقون البقر او الغنم فاذا انخنق اكلوه { والموقوذة } كانوا يشدون ارجل الانعام ويضربونها حتى تموت فيأكلونها { والمتردية } كانوا يشدون اعينها ويلقونها من السطح ثم يأكلونها { والنطيحة } كانوا يناطحون بالكباش فاذا ماتت اكلوها { ومآ أكل السبع إلا ما ذكيتم } كانوا يأكلون فريسة السبع { وما ذبح على النصب } كانوا يذبحون لبيوت النيران وكانوا يعبدون الشجر والصخر والاصنام فيذبحون لها { وأن تستقسموا بالأزلام } جمع الزلم محركة او كصرد قدح يتقامر به كانوا يعمدون الى الجزور فيقومونه بينهم ثم يسهمون عشرة أسهم سبعة لها انصباء وثلاثة لا انصباء لها ويجعلون ثمن الجزور على الثلاثة التى لا انصباء لها ثم يخرجون السهام فمن خرج اسمه الثلاثة التى لا انصباء لها الزموهم ثمنها والسبعة التى لها انصباء يأخذون لحم الجزور بلا ثمن فحرم ذلك كله وقال تعالى { ذلكم } اشارة الى المجموع او الى الاستقسام بالازلام { فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } اشارة الى يوم نصب على (ع) بالخلافة يعنى كان الكافرون والمنافقون يترقبون لموت النبى (ص) او قتله (ص) وتفرق كلمتكم والغلبة على دينكم وبعد نصب امير لكم يئس الكفار من الغلبة وتفرق الكلمة ويئس المنافقون بنصب على (ع) عن الغلبة على دينكم وترويج باطلهم واظهار نفاقهم فاذا يئس الكفار { فلا تخشوهم } ولما لم يستكمل ايمانكم فلا تأمنوا من عقوبتى { واخشون اليوم } يوم نصب على (ع) بغدير خم { أكملت لكم دينكم } الاكمال قد يستعمل فى اتمام ذات الشيء كاكمال النوع بالفصل والبيت بأركانه وسقفه، وقد يستعمل فى اتمام الشيء بمحسناته ومتمماته الزائدة على ذاته كاكمال الانسان بمهارته فى العلوم والصنائع، والبيت بزخرفته وفروشه، والمراد بالدين هنا هو الاسلام الحاصل بالبيعة العامة النبوية وقبول الاحكام النبوية والمراد بالاكمال هو اتمامه فى ذاته، لان الاسلام بنى على خمسة اركان والركن الاخير هو الولاية اعنى البيعة مع على (ع) بالامامة لان الولاية بمعنى المحبة او اعتقاد الولاية لعلى (ع) خارجة عن الاعمال القالبية الاسلامية فلا تكون من اركان الاسلام ومتممات احكام القالب واتمامه فى خارج ذاته باعتبار، فان الاسلام كالمادة للولاية بالمعنى الحاصل بالولاية التى هى من اركان الاسلام وهو الايمان الداخل فى القلب وبه الحركة والسير الى الله وهو بمنزلة الصورة للاسلام والصورة وان كانت محصلة للمادة وما به قوام المادة وبقاؤها لكنها خارجة عن ذاتها { وأتممت عليكم نعمتي } فان الاسلام نعمة من الله لكنه مركب من الاركان الخمسة ولا يتم المجموع الا بتمام اجزائه وايضا هو مادة للولاية بالمعنى الآخر وبقاء ولا قوام للمادة الا بالصورة فبالولاية تتم نعمة الاسلام { ورضيت لكم الأسلام دينا } فانه لنقصان اركانه وعدم تحصله كان غير مرضى وعن الصادقين (ع) انما نزل بعد ان نصب النبى (ص) عليا (ع) علما للانام يوم غدير خم عند منصرفه عن حجة الوداع، قالا: وهى آخر فريضة انزلها الله ثم لم تنزل بعدها فريضة، وورد عنهم (ع) اخبار كثيرة قريبة من هذا { فمن اضطر في مخمصة } المخمصة هى المجاعة لكن تستعمل فى كل شدة وضيق، فى تفاسير العامة انه مربوط بذكر المحرمات وما بينهما اعتراض، ولما علق وقيد يأس الكفار عن الدين واكمال الدين واتمام النعمة وارتضاء الاسلام منهم بيوم مخصوص ووقت معين، علم أنه لا يكون الا لوقوع امر عظيم فيه هو يقطع طمع الكفار ويصير سببا لاكمال الدين والا لم يكن للتقييد به وجه وما ذاك الا سد خلل الدين بعد النبى (ص) بنصب من يحميه ويحفظ أهله من الاختلاف والافتراق فانه لا امر اعظم منه فضلا عما بينوا لنا من ان نزولها بغدير خم بعد نصب على (ع) والترغيب فيه كأنهم سألوا فما لنا ان اضطررنا الى اكل المحرمات او لى ترك التوسل بعلى (ع) والتبعية له؟ - فقال تعالى: { فمن اضطر في مخمصة } بيانا لوجه الاضطرار حال كونه { غير متجانف لإثم } اى غير مائل اليه او غير متجاوز عن قدر الضرورة كما فى قوله غير باغ ولا عاد، ولما كان المقصود هو الاضطرار الى اتباع معاوية وترك اتباع على (ع) فلا ضيران يفسر الاثم بمعاوية، اى غير مائل فى الباطن الى معاوية، فانه لا يؤاخذ اذا كان اكل الحرام او اتباع غير على (ع) عن اضطرار من غير ميل قلبى { فإن الله غفور رحيم يسألونك ماذآ أحل لهم } اى اى شيء او ما الذى احل لهم سألوا عن المحللات بعد ذكر المحرمات { قل أحل لكم الطيبات } لا اختصاص لها بالاغذية الغير المتسخبثة كما فسره المفسرون، بل اصل الطيبات هو على (ع) ثم ولايته بالبيعة الولوية ثم العمل بما دخل منه (ع) فى القلب ثم العمل بما اخذ عليه فى ميثاقه ثم اخذ العلم منه ثم العمل به ثم المباحات من الاغذية والاشربة والالبسة والازواج والمساكن واثاثها والمراكب وجملة الاعراض الدنيوية التى حصلت فى اليد من الوجه الحلال { وما علمتم من الجوارح } اى نفس ما علمتم من حيث التعليم يعنى احل لكن تعليم الكلاب الاصطياد، وحلية مقتولها تستفاد مما يأتى او صيد ما علمتم ويجوز ان يكون ما شرطية، وقوله فكلوا مما امسكن جزاؤه، ولما كان مقتول الكلاب مظنة الاستخباث افرده بالذكر { مكلبين } تقييد للاحلال بتعليم الكلاب او بمقتول الكلب المعلم لا غيره من السباع المعلمة فان المكلب بصيغة اسم الفاعل هو المعلم للكلب ومشتق منه { تعلمونهن مما علمكم الله } تكوينا او تحصيلا بتوسط بشر اخر من آداب الاصطياد والانقياد فى الارسال والزجر وضبط الصيد على صاحبهن { فكلوا ممآ أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه } لما لم يكن الواو للترتيب لم يكن تأخير الامر بذكر اسم الله فى اللفظ منافيا لوجوب تقديم الذكر عند الارسال { واتقوا الله } فيما لم يحل لكم { إن الله سريع الحساب } يحاسب على الدقيق والجليل.
[5.5]
{ اليوم أحل لكم الطيبات } فى تقييد احلال الطيبات بعد ذكره مطلقا باليوم الخاص الذى هو يوم نصب على (ع) بالخلافة، اشارة لطيفة الى ان حلية الطيبات موقوفة على الولاية ولولاها لكانت محرمة وإن كانت طيبة حاصلة من كسب اليد والوجه الحلال، غاية الامر ان يكون المراد بالحلية ههنا الحلية فى نفس الامر وبحسب الطريقة لا بحسب ظاهر الشريعة { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم } قد اختلف الاخبار فى طهارة اهل الكتاب ونجاستهم، واكثرها يشعر بأن نجاستهم عرضية بواسطة عدم اجتنابهم عن الخمر ولحم الخنزير، وان فى انيتهم الخمر ولحم الخنزير وقد فسر الطعام بالحبوب دون ذبائحهم لانهم غير مأمونين على تسمية الله عليها فنقول: ليس المراد بطعام الذين اوتوا الكتاب طعامهم المصنوع لهم حتى كانت حليته منافية لنجاستهم ان قلنا بنجاستهم كالمشركين، بل المراد نفى الحرج عن طعامهم المنسوب اليهم من حيث انه منسوب اليهم يعنى لا حرج عليكم فى طعامكم من حيث تلك النسبة فان النسبة لا تستخبث الطعام اذا لم يكن فيه خباثة من وجه اخر، ولذلك كان طعامكم حلا لهم يعنى ان نسبة الطعام اليكم لا تورث حرجا عليكم اذا اطعمتموه اهل الكتاب ولا تجعلهم ممنوعين من الاكل ولما كان طعامهم مظنة الخباثة ذكره بعد احلال الطيبات، وايضا لما ندب على ولاية على (ع) وقيد احلال الطيبات بزمان نصب على (ع) للاشارة الى تقييد الحلية بالولاية ولم يكن لاهل الكتاب ولاية صار المقام مظنة لحرمة المخالطة معهم وعدم حلية طعامهم واطعامهم فنفى هذا الوهم، لانهم بانتحال ملة آلهية وقبول الدعوة الظاهرة كانوا مسلمين ولم يخرجوا بحسب الظاهر عن الاسلام، وبمخالطتهم واكل طعامهم واطعامهم يستعدون للهداية ولما كان حلية طعامهم واطعامهم بحسب الظاهر وحلية الطيبات المتوقفة على الولاية بحسب نفس الامر غير الاسلوب واتى بالجملة الاسمية عطفا على مجموع القيد والمقيد حتى لا يتقيد بالولاية { والمحصنات } اللائى احصن انفسهن عما لا ينبغى عطف على الطيبات المتقيد احلالها بولاية على (ع) ولذا قيدهن بوصف الاحسان والايمان، يعنى اليوم احلت لكم حلالا واقعيا المحصنات { من المؤمنات } ولا ينبغى لكم غيرهن فان غيرهن من الاماء والمتجريات على ما لا ينبغى وان كن حلالا بحسب ظاهر الاسلام، لكنهن غير محللات بحسب نسبة الايمان وفى نفس الامر { والمحصنات } اللائى احصن انفسهن عما لا ينبغى { من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } قد اختلف الاخبار والاقوال فى نكاح النساء من اهل الكتاب، وكذا فى ان هذه الآية منسوخة بآية حرمة نكاح المشركات وحرمة الاخذ بعصم الكوافر او ناسخة، وكذا فى الدوام والتمتع بهن وقول النبى (ص):
" ان سورة المائدة آخر القرآن نزولا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها "
، ينفى كونها منسوخة، وقوله تعالى { إذآ آتيتموهن أجورهن } مشعر بتقييد الحلية بحال التمتع بهن فان استعمال الاجور فى مهور المتمتعات اكثر واشهر { محصنين } حال كونكم حافظين انفسكم من السفاح علانية وسرا، اما بيان لوجه الاحلال او تقييد له باعتبار الواقع لا باعتبار ظاهر الاسلام { غير مسافحين } حال بعد حال يعنى غير متجاهرين بالزنا { ولا متخذي أخدان } ولا مسرين لهن جمع الخدن وهو الصديق يقع على الذكر والانثى، ولما ندب على الولاية وعلق اكمال الدين واحلال الطيبات عليها ناسب المقام ان يذكر حال مخالف الولاية فقال تعالى: { ومن يكفر بالإيمان } اى بقبول ولاية على (ع) والبيعة الخاصة الولوية معه، وما ورد فى الاخبار من التفسير بترك الصلوة، او ترك العمل الذى اقر به فى بيعته، او ترك العمل اجمع، او التبدد بأمر هو خلاف الحق فانما هو تفسير لفروع الولاية، ولا ينافى كون المقصود هو الولاية كما فى بعض الاخبار { فقد حبط عمله } الذى عمله فى الاسلام فان ما به القبول هو الولاية { وهو في الآخرة من الخاسرين } لصرف بضاعته فيما لا قدر له.
[5.6]
{ يا أيها الذين آمنوا } عاما او خاصا { إذا قمتم إلى الصلاة } اى اذا قمتم من النوم كما فى الخبر، واذا اردتم القيام { فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين } وبعد ما مضى فى سورة النساء لا يتعسر عليك تعميم الصلوة ولا تعميم الغسل ولا تعميم سائر اجزاء الآية، والوجه ما يواجه به وهو من قصاص الشعر الى الذقن وما دارت منه الابهام والوسطى عليه وما زاد فليس بوجه، وعدم وجوب تخليل الشعر يمكن استنباطه من عنوان الوجه فان ما به التوجه هو ظاهر الشعر لا البشرة المستورة تحته، واليد اسم للعضو المخصوص تطلق على ما دون المنكب وعلى ما دون المرفق وعلى ما دون الزند فاحتاجت الى التحديد والبيان، فحدده بقوله الى المرافق فلفظ الى لانتهاء المغسول لا الغسل فالتمسك بها مع احتمال كونها لانتهاء المغسول فى الاستدلال على انتهاء الغسل كما فعلوا خارج عن طريق الاستدلال، والباء للتبعيض كما وصل الينا من اهل الكتاب واثبت التبعيض لها كثير منهم وارجلكم بالجر عطف على رؤوسكم وبالنصب على محل رؤسكم، وعطفه على وجوهكم مع جواز العطف على رؤسكم فى غاية البعد، غاية الامر انها فى هذا العطف محتملة مجملة كسائر اجزاء الآية محتاجة الى البيان ولم يكن رأينا مبينا للقرآن لاستلزامه الترجيح بلا مرجح، بل المبين من نص الله ورسوله عليه لا من نصبوه لبيانه فان نصب شخص انسانى لبيان القرآن وخلافة الرحمن ليس باقل من نصب الاصنام لعبادة الانام، او العجل المصنوع للعوام، وتفصيل الوضوء وكيفيته قد وصل الينا مفصلا مبينا عن ائمتنا المنصوصين من الله ورسوله وقد فصله الفقهاء رضوان الله عليهم فلا حاجة الى التفصيل ههنا { وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جآء أحد منكم من الغائط أو لامستم النسآء فلم تجدوا مآء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } اى من الصعيد وقد مضى شرح الآية مفصلا فى سورة النساء فلا حاجة الى التكرار { ما يريد الله ليجعل عليكم } فى الدين { من حرج } مفعول يريد محذوف اى ما يريد الامر بالغسل او التيمم ليجعل عليكم حرجا او لام ليجعل للتقوية وما بعده مفعول هو استيناف لبيان وجه تشريع التيمم { ولكن يريد ليطهركم } بغسل الاعضاء الباطنة بالتوبة عند اهله وبغسل الاعضاء الظاهرة بالماء، فان لم يتيسر لكم فباظهار الذل والمسكنة والعجز واعلاء تراب الذل على مقاديم نفوسكم وابدانكم وليعدكم لقبول التوبة والبيعة الولوية التى هى تمام نعمة الاسلام كما مضى { وليتم نعمته } التى هى الاسلام { عليكم } بمتممه الذى هو الولاية والبيعة مع على (ع) { لعلكم } بعد تمام النعمة عليكم { تشكرون } المنعم بصرف النعمة التى هى احكام الاسلام القالبية واحكام الايمان القلبية فى وجهها من صدورها من حضرة العقل ورجوعها اليها، فان شكر النعمة وصرفها فى وجهها لا يحصل الا بدخول الايمان فى القلب وفتح بابه الى الملكوت.
[5.7]
{ واذكروا نعمة الله عليكم } عطف على تيمموا يعنى حين تطهركم تذكروا محمدا (ص) او الاسلام الذى هو البيعة مع محمد (ص)، او الاسلام الحاصل بالبيعة مع محمد (ص) حتى يكون شروطها فى ذكركم من عدم المخالفة واتباع قوله فى كل ما يأمر وينهى، هذا ان كان المراد بالميثاق الميثاق الذى أخذ عليهم بغدير خم، وان كان المراد بالميثاق المبايعة مع محمد (ص) فالمراد بالنعمة هو الاسلام الحاصل بالبيعة، او محمد (ص) فانه اصل نعمة الاسلام كما ان عليا (ع) اصل نعمة الايمان { وميثاقه الذي واثقكم به } عاهدكم عهدا وثيقا به لعلى (ع) فى غدير خم حتى لا تنسوه فتخالفوا عليا (ع) او عهدا وثيقا بان لا تخالفوا قوله حتى لا تنسوه فتخالفوا قوله فى على (ع) والاول هو المروى { إذ قلتم سمعنا } قولك فى على (ع) على الاول، او شرطك علينا بعدم المخالفة على الثانى { وأطعنا } عليا (ع) او اطعناك { واتقوا الله } فى نسيان نعمته ونقض ميثاقه بالمخالفة لعلى (ع) { إن الله عليم بذات الصدور } فيعلم نياتكم واغراضكم فكيف بأفعالكم.
[5.8]
{ يا أيهآ الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهدآء بالقسط } توصية لهم بالاستقامة وتقويم الغير عن الاعوجاج كما مضى حين تحمل الشهادة خصوصا وقت توصية محمد (ص) بحملها وحفظها، وحين اداء الشهادة خصوصا وقت سؤال على (ع) عنهم الشهادة فان المقصود هو هذا { ولا يجرمنكم شنآن قوم } بغضاءكم لقوم او بغضاء قوم لكم { على ألا تعدلوا } فى اداء شهاداتكم بتغييرها او كتمانها خوفا من مخالفى على (ع) او بغضا لموافقى على (ع) { اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله } فى الشهادات ولا تكتموها ولا تغيروها { إن الله خبير بما تعملون } فيجازيكم بحسبه .
[5.9]
{ وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم } الجملة فى محل المفعول لوعد لانه بمعنى القول والمراد بالايمان هو الحاصل بالبيعة مع محمد (ص)، وبالعمل الصالح البيعة مع على (ع)، او المراد بالايمان البيعة مع على (ع) وبالعمل الصالح العمل على طبق البيعة.
[5.10]
{ والذين كفروا } ببيعة على (ع) او ببيعة محمد (ص) { وكذبوا بآياتنآ } واصلها على (ع) { أولئك أصحاب الجحيم } جمع بين الوعد والوعيد كما هو شأنه وللاشارة الى ان المغفرة والاجر للمؤمن المستقيم مقصودة بالذات وجزاء المسيء مقضى بالعرض غير الاسلوب واتى بالجلمة الاسمية الدالة على ان الجزاء لهم كأنه من لوازم ذواتهم المسيئة.
[5.11]
{ يا أيهآ الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم } بالاسلام من مدد الملائكة وجنود لم تروها او من قوة على (ع) وسيفه { إذ هم قوم } بدل من نعمة الله او ظرف لها باعتبار الانعام { أن يبسطوا إليكم أيديهم } بمكة قبل الهجرة او ببدر او بأحد او بخندق { فكف أيديهم عنكم } بسبب اسلامكم او بعلى (ع) فتذكروا شرف الاسلام حتى لا تخالفوه بترك قول محمد (ص) فى على (ع)، او تذكروا شأن على (ع) فلا تخالفوه بعد وفاة محمد (ص) { واتقوا الله } فى نسيان النعمة ومخالفة على (ع) ولا تخافوا غيره { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } فلا يعتمدوا على غيره ولا يخافوا الا منه، وضع المظهر موضع المضمر التفاتا من الخطاب الى الغيبة بيانا لما به التوكل.
[5.12]
{ ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرآئيل } تعريض بامة محمد (ص) لاخذ ميثاقهم لنقيبهم الذى هو على (ع) { وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا } يأمرونهم وينهونهم { وقال الله إني معكم } فأشاهد منكم ما تفعلون { لئن أقمتم الصلاة } بوصلها الى النقباء (ع) { وآتيتم الزكاة } من كل شيء حتى من ميل قواكم الى مخالفة النقباء (ع) { وآمنتم برسلي } الذين منهم النقباء (ع) { وعزرتموهم } نصرتموهم وقويتموهم { وأقرضتم الله قرضا حسنا } من اصل المال بانفاقه فى سبيل الله، واصل القوى باضعافها بالعبادات والرياضات، فان الزكوة هى فضول المال التى هى حق الغير والقرض من اصل المال { لأكفرن عنكم سيئاتكم } بزكوتكم وقرضكم { ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار } بصلوتكم وايمانكم وتعزيركم { فمن كفر بعد ذلك } الميثاق للنقباء (ع) والوعد عليه { منكم فقد ضل سوآء السبيل } فتذكروا يا امة محمد (ص) واوفوا بميثاقكم لعلى (ع) ولا تكفروا بعد الميثاق.
[5.13-14]
{ فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم } فتذكروا ميثاقكم ولا تنقضوه { وجعلنا قلوبهم قاسية } لا تتأثر بالمواعظ { يحرفون الكلم عن مواضعه } حال او جواب سؤال مقدر كما ستحرفونه يا امة محمد (ص) بعد بتأويلات فضيحة للتمويه على من لا عقل له { ونسوا حظا مما ذكروا به } من الميثاق والوعد عليه عطف على يحرفون، والاختلاف بالمضى والمضارعة للاشارة الى ان الثانى وقع منهم فصار سببا لاستمرارهم على الاول { ولا تزال تطلع على خآئنة منهم } بواسطة نقض الميثاق الذى هو اصل الخيانات كما ان الوفاء به هو اصل الوفاء بالامانات، والخائنة مصدر او وصف بمعنى فرقة خائنة، او نفس خائنة، او شخص خائن على ان يكون التاء للمبالغة { إلا قليلا منهم } استثناء من مفهومه كأنه قال كلهم خائنون الا قليلا منهم، ويحتمل الاستثناء من قلوبهم او من المضاف اليه فى قلوبهم او من فاعل يحرفون او من فاعل نسوا، ويمكن جعل الا بمعنى غير صفة لخائنة منهم، ويحتمل كون الكلام منصرفا عن بيان حال بني اسائيل إلى بيان حال منافقى الامة ولذا خاطب محمدا (ص)، ويحمتل ان يكون المرادبيان حال بنى اسرائيل ويكون التعريض بالامة كما هو طريقة جملة القصص والحكايات وقوله تعالى { فاعف عنهم واصفح } يؤيد المعنى الاول، والعفو ترك الانتقام، والصفح ترك تذكر المساوى والاخراج من القلب، وقد يستعمل كل فى كل وكل فى كلا المعنيين، ولا تقف على العفو والصفح واحسن اليهم { إن الله يحب المحسنين ومن الذين قالوا إنا نصارى } لم يقل ومن النصارى لان التنصر انما يحصل بالبيعة مع اوصياء عيسى (ع) وهؤلاء انتحلوا التنصر لا انهم بايعوا على النصرانية { أخذنا ميثاقهم } بعد بيان حال اليهود بين حال النصارى للتعريض بامة محمد (ص) يعنى اخذنا ميثاق اسلافهم لاوصياء عيسى (ع) { فنسوا } كاليهود { حظا مما ذكروا به } فصار النسيان سببا لاختلافهم { فأغرينا بينهم العداوة } بالافعال { والبغضآء } بالقلوب وكان ذلك خزيهم فى الدنيا { إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون } يعنى ينبئهم فى الآخرة فيعذبهم عليه فاحذروا ان تكونوا مثلهم فى نسيان الميثاق لعلى (ع) يا امة محمد (ص) فيقع بينكم العداوة والبغضاء فى الدنيا ويؤاخذكم الله عليه فى الآخرة.
[5.15]
{ يا أهل الكتاب قد جآءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب } كتاب النبوة بصورة التوارة والانجيل تعريض بامة محمد (ص) واخفائهم بعده كثيرا من الكتاب وبتبيين على (ع) لهم ما يخفون، وقد ذكر فى نزول الآية
" انه كان فى زان وزانية محصنين من اشراف اليهود وكرهوا رجمهما فسألوا محمدا (ص) عن ذلك فقال (ص): " حكمهما الرجم " ، فأبوا ورضوا بابن صوريا وكان أعلم اليهود فسأله محمد (ص) عن ذلك فقال: " نعم هو الرجم " فأمر بهما النبى فرجما عند باب مسجده "
{ ويعفوا عن كثير } يعرض عنه ولا يظهره { قد جآءكم من الله نور وكتاب مبين } تأكيد للجملة الاولى ولذا لم يأت بالعطف، وكونه تأكيدا اذا كان المراد بالنور الولاية وبالكتاب النبوة ظاهر، فان الرسول صاحب الولاية والنبوة، واذا كان المراد بالنور امير المؤمنين (ع) وبالكتاب القرآن ايضا ظاهر، لان الرسالة تستلزم ما به الرسالة وما لأجله الرسالة والاول الكتاب والثانى الولاية، وعلمت سابقا انها من شؤن الولى ومتحدة مع على (ع).
[5.16]
{ يهدي به الله } توحيد الضمير ان كان راجعا الى الكتاب او النور ظاهر، وان كان راجعا اليهما كان باعتبار ان الكتاب ليس الا ظهور النور { من اتبع رضوانه } هو ولاية على (ع) والبيعة له كما اشير اليه فى قوله: ورضيت لكم الاسلام دينا يعنى يهدى بالكتاب من بايع عليا (ع) بالبيعة الولوية { سبل السلام } طرق الله او طرق السلامة { ويخرجهم من الظلمات } المتراكمة التى فى مرتبة النفس { إلى } عالم { النور } وهو فسحة عالم الروح { بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم } وهو المراتب النوارنية لعلى (ع) التى معرفتها معرفة الله تعالى.
[5.17]
{ لقد كفر الذين قآلوا إن الله هو المسيح ابن مريم } قيل انهم فرقة منهم وهم اليعقوبية يقولون باتحاده تعالى مع عيسى (ع) لكن نقول: اعتقاد النصارى ان عيسى (ع) فيه جوهر آلهى وجوهر آدمى وباعتباره الآلهى يقولون هو الله ومرادهم تأكيد اتحاده مع عيسى (ع) باعتبار جوهره الآلهى ويقولون: هو باعتبار جوهره الآدمى ابن ومولود وجسم ومقتول ومصلوب، هذا اعتقاد محققيهم، وأما اتباعهم فلا يعرفون منه الا مقام بشريته ويقولون: هو الله ومقصودهم مقام بشريته { قل } يا محمد (ص) للرد عليهم ان كان الامر كما تقولون { فمن يملك من الله شيئا } مفعول يملك ومن الله حال منه مقدم عليه، والمعنى لا يقدر احد على شيء مما يملكه الله بتغييره او دفعه فان الملك عبارة عن قدرة التصرف فى المملوك، وان كان فى عيسى (ع) جوهر آلهى كان قادرا على التغيير والدفع { إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا } بيان لحال النصارى وقالهم وتوهين لهم وتعريض بالغالى من امة محمد (ص) وبالقائلين منهم بالاتحاد والحلول وحق العبارة ان يقال: لو اراد ان يهلك المسيح وامه لأن المسيح وأمه كانا قد مضيا لكنه تعالى اداه بصورة الشرط المستقبل لفرض الحال الماضية حاضرة، او لاعتقادهم ان عيسى (ع) حى فى السماء قاعد على يمين ابيه وكذلك امه، او للاشارة الى انه حى بحيوته الطبيعية فى السماء الرابعة { ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما } استيناف او حال لبيان عدم المانع له من ارادته ونفاذ أمره وللدلالة على ان المسيح مملوك له والمملوك لا يكون آلها ولا ولدا للمالك { يخلق ما يشآء } فلا غروان يخلق عيسى (ع) من انثى بلا ذكر ولا دلالة فيه على كونه آلها او ابنا كما تمسكوا به، بل فيه دلالة على آلهة الخالق الذى خلقه بلا ذكر نقضا لما قاله الطبيعى { والله على كل شيء قدير } فيقدر على خلق الانسان بلا اب وعلى اهلاك من فى الارض جميعا، وخلق عيسى (ع) بلا اب يدل على عموم قدرته لا على آلهة عيسى (ع).
[5.18]
{ وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه } بيان لحال الفريقين ومقالتهم الفضيحة، ووجه هذا الادعاء انهم قالوا من اقر به تعالى وتقرب لديه فهو ابنه الروحانى وقيل: مقصودهم من هذا انهم اشياع ابنيه المسيح (ع) وعزير (ع) وهو بعيد { قل } ردا لهم { فلم يعذبكم بذنوبكم } فى الدنيا بالمغلوبية وفى الآخرة بالنار دائما او اياما قلائل على زعمكم { بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشآء } منكم { ويعذب من يشآء } منكم على حسب اختلاف استعدادكم { ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما } بيان لتسويتهم مع غيرهم فى النسبة اليه، وتكراره ههنا وفى غير هذا الموضع لتمكينه فى قلب السامع ولأن كلا يقتضيه المقام المخصوص { وإليه المصير } بيان لمساواتهم مع غيرهم فى الانتهاء اليه.
[5.19]
{ يا أهل الكتاب قد جآءكم رسولنا } اضاف الرسول الى نفسه فى الموضعين تشريفا له وتهويلا لمخالفيه { يبين لكم } ما تحتاجون اليه او المفعول منسى { على فترة من الرسل } حال من رسولنا او من المستتر فى يبين، او من الضمير فى لكم او متعلق بجاءكم او يبين على تضمين معنى يورد والمراد فتور احكام الرسل (ع) لعدم ظهورهم واختفاء اوصيائهم لا انقطاع الوحى وانقطاع الحجة كما هو مذهب العامة فانه كان بين عيسى (ع) ومحمد (ص) انبياء (ع) واوصياء (ع) كان اكثرهم مغمورين غير ظاهرين وكان دينه فى نهاية الخفاء وان كانت ملته ظاهرة غالبة وقيل: كان بين ميلاد عيسى (ع) ومحمد (ص) خمسمائة وتسع وستون سنة وكان من تلك المدة مائة واربع وثلثون زمان ظهور الرسل والباقى زمان الفترة وهذا احد الاقوال، وقيل: مدة الفترة كانت ستمائة سنة وقيل: خمسمائة وستين، وقيل: اربع مائة وبضعا وستين وقيل: خمسمائة وشيئا { أن تقولوا } كراهة ان تقولوا او لئلا تقولوا { ما جآءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم } الفاء للسببية فان التقدير لا تعتذروا بذلك فقد جاءكم { بشير ونذير والله على كل شيء قدير } فيقدر على ارسال الرسول حين الفترة، او يقدر على انطاق جوارحكم ان تنكروا مجيء الرسول وتبليغه، او يقدر على عذابكم ان تنكروا رسوله ولا تقروا به.
[5.20]
{ وإذ قال موسى لقومه } عطف على مقدر هو لا تعتذروا المقدر السابق اى لا تعتذروا واذكروا ما قال موسى (ع) لقومه حتى تذكروا نعمة وجود الرسول (ع) فيكم ولا تخالفوا قوله والمقصود التعريض بامة محمد (ص) بتذكير حال امة موسى (ع) والنعم التى انعم الله بها عليهم وابائهم عن امر موسى (ع) وضلالتهم فى التيه اربعين سنة حتى يتنبهوا للنعم التى انعم الله بها عليهم ولا يخالفوا قوله ولا يخرجوا من امره فى على (ع) فلا يضلوا كما ضل قوم موسى (ع) { ياقوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبيآء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين } من فلق البحر وتظليل الغمام وانزال المن والسلوى وغير ذلك.
[5.21]
{ ياقوم ادخلوا الأرض المقدسة } يعنى الشام { التي كتب الله لكم } ان تكون مسكنا لكم فخالفوا وحرموا ودخلها أبناء أبنائهم كذا نقل { ولا ترتدوا } من طريق الارض المقدسة التى هى الشام او ارض القلب { على أدباركم فتنقلبوا خاسرين } كما قال نبينا (ص) لامته هذه المقالة فى على (ع) فأبوا الا الارتداد.
[5.22-23]
{ قالوا ياموسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها } لعدم طاقتنا لمقاومتهم { فإن يخرجوا منها فإنا داخلون قال رجلان } يوشع بن نون وكالب بن يوفنا ابنا عمه وقيل: رجلان من اهل الشام اسلما بموسى (ع) { من الذين يخافون } يتصفون بالخوف او يخافون سخط الله { أنعم الله عليهما } معترضة او حال { ادخلوا عليهم الباب } يعنى باغتوهم حتى لا يتمكنوا من الاصحار او قووا قلوبكم ولا تنظروا الى عظم جثتهم فانهم اجسام خالية عن الجرأة { فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } يعنى ان الايمان يقتضى التوكل عليه فهو شرط للتهييج.
[5.24]
{ قالوا ياموسى إنا لن ندخلهآ أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون } هذا الكلام منهم لغاية حماقتهم واعتقادهم ان الله هو واحد مثلهم لكنه يقدر على ما لا يقدرون فقالوا خوفا من الجبابرة: اذهب انت وربك، وقيل: هذا القول منهم كان استهزاء بالله ورسوله وعدم مبالاة بهما.
[5.25]
{ قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي } اما المراد بأخى هرون او المراد كل من كان منقادا له ومواخيا معه على ان يكون المفرد المضاف كالمعرف باللام للعموم، واخى فى موضع الرفع معطوفا على محل اسم ان او على المستتر فى لا املك وسوغه الفصل، او فى موضع النصب معطوفا على اسم ان، او على نفسى، او فى موضع الجر معطوفا على الياء مضاف اليها النفس من دون اعادة الجار على ضعف { فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين } قاله دعاء عليهم وتحسرا.
[5.26]
{ قال فإنها محرمة عليهم } عقوبة لهم فلا يدخلونها ولا يملكونها بسبب عصيانهم { أربعين سنة } ظرف لمحرمة او لقوله تعالى { يتيهون في الأرض } ومعنى يتيهون يتحيرون لا يرون طريقا للخروج { فلا تأس على القوم الفاسقين } كأنه كان نادما عن دعائه عليهم متحسرا لهم، عن الباقر (ع) عن رسول الله (ص)
" والذى نفسى بيده لتركبن سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة حتى لا تخطؤا طريقهم ولا تخطأكم سنة بنى اسرائيل "
ثم قال الباقر (ع): قال موسى (ع) لقومه: يا قوم ادخلوا الارض المقدسة التى كتب الله لكم، فردوا عليه وكانوا ستمائة الف فقالوا: يا موسى ان فيها قوما جبارين (الآيات)، قال فعصى اربعون الفا وسلم هرون وابناه ويوشع بن نون وكالب بن يوفنا، فسماهم الله فاسقين فقال: لا تأس على القوم الفاسقين فتاهوا اربعين سنة لانهم عصوا وكانوا حذو النعل بالنعل ان رسول الله (ص) لما قبض لم يكن على امر الله الا على والحسن (ع) والحسين (ع) وسلمان (ره) والمقداد (ره) وابو ذر (ره) فمكثوا اربعين حتى قام على (ع) فقاتل من خالفه.
[5.27-30]
{ واتل عليهم نبأ ابني آدم } قابيل وهابيل { بالحق إذ قربا قربانا } اظهر كل منهما وعرض قربانا على الله، والقربان ما يتقرب به من ذبيحة او غيرها { فتقبل من أحدهما } لانه خرج من نفسه وهواها واتى بالقربان بأمر مولاه وعمد الى احسن ما عنده { ولم يتقبل من الآخر } لسخطه حكم الله وكون قربانه من قبل النفس وهواها واتيانه بأخس ما عنده وهو قابيل { قال } قابيل لهابيل { لأقتلنك } توعده بالقتل لفرط حسده عليه لقبول قربانه { قال إنما يتقبل الله من المتقين } لا من المعتدين المقدمين على قتل النفس المحترمة يعنى قبول القربان انما يحصل بالتقوى عن النفس وهواها لا بالحسد على الغير وقتله لتقواه { لئن بسطت إلي يدك لتقتلني مآ أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزآء الظالمين فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين } فى الدنيا والآخرة روى انه لما اراد قتله لم يدر كيف يقتله فجاء ابليس فعلمه ولم يدر بعد القتل ما يصنع به.
[5.31]
{ فبعث الله غرابا يبحث في الأرض } نقل انه جاء غرابان فاقتتلا فقتل أحدهما الاخر فوارى جثة المقتول فى الارض { ليريه } اى الله او الغراب { كيف يواري سوءة أخيه } السوأة الفرج وما يستقبح وانما قال سوأة اخيه لان جثة المقتول يستقبح ويستقذر { قال ياويلتا } الالف بدل من ياء التكلم والويل حلول الشر او نفس الشر وبهاء الفضيحة وهو كلمة تفجع وندبة { أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين } ندم النفس الذى هو عقوبة وحسرة لا ندم العقل الذى هو منجاة وتوبة لقطعه مادة التوبة.
اعلم ان امثال حكاية خلق آدم (ع) وحواء (ع) واسكانهما جنة الدنيا ونهيهما من شجرة الحنطة او العنب او العنابه او الحسد او العلم او غير ذلك، ووسوسة الشيطان لهما واكلهما من الشجرة المنهية ونزع لباسهما عنهما وظهور سوأتهما وهبوطهما الى الارض، وافتراقهما سنين وحزنهما وبكاءهما على الفراق، ثم مواصلتهما وحمل حواء (ع) فى كل بطن غلاما وجارية، وتولد قابيل وتوأمته اقليما فى اول بطن، وتولد هابيل وتوأمته ليوذا فى بطن آخر، وامر الله لآدم (ع) ان ينكح من قابيل اخت هابيل ومن هابيل اخت قابيل، وحسد قابيل على هابيل لكون اخته اجمل من اخت هابيل، وعدم رضاه وامر آدم (ع) لهما ان يقربا قربانا وقبول قربان هابيل وعدم قبول قربان قابيل، واشتداد حسده على هابيل وقتله اياه؛ من مرموزات السابقين كما مر. وهكذا الحال فى حكاية سليمان (ع) وخاتمه وجلوس شيطان على كرسيه بعد سرقة خاتمة، وحكاية داود (ع) وتصور الشيطان له بصورة طير احسن ما يكون من الطيور، وكون داود (ع) فى الصلوة وقطعه الصلوة فى طلب الطير وصعود السطح واشرافه على دار اوريا وتعشقه بزوجته وكتابته لامير الجند أن يقدمه امام التابوت حتى يقتل، وحكاية هاروت وماروت ونزولهما الى الارض وتعشقهما بامرأة وابتلائهما بشرب الخمر وسجدة الوثن وقتل النفس، وغير ذلك مما فيها ما لا يوافق شأن الانبياء والملائكة فانهم ارادوا بها التنبيه على المعانى الغيبية المشهودة لهم الغائبة على الانظار، وكانت العوام تداولوها بنحو الاسمار ولم يدركوا منها سوى معانيها الظاهرة المدركة بالمدارك الحيوانية ونسبوا بذلك الى الانبياء والملائكة ما يقتضى عصمتهم تطهير ساحتهم عن امثالها؛ ولبطلانها بظواهرها وصحتها بمعانيها المقصودة للانبياء (ع) والحكماء (ره) فى اخبارنا انكارها وتعيير القائلين بها وتقريرها والتصديق بها من هاتين الجهتين.
ثم اعلم، انه كل ما كان فى العالم الكبير كان انموذجه فى العالم الصغير بل التحقيق انه انموذج لما فى العالم الصغير خصوصا ان كان من قبيل الافعال الاختيارية او الحوادث اليومية، وما ورد فى الاخبار من بركة الاموال والاولاد والاعمار بصلة الارحام وحسن الجوار، وحبس الامطار بمنع الزكوة، وانتشار الوباء بكثرة الزنا يدل على ذلك، وكما ان آدم ابا البشر وحواء ام البشر خلقا فى العالم الكبير وهبطا الى الارض، آدم على الصفا جبل قرب المسجد الحرام ويشاهد منه البيت من باب المسجد المحاذى للصفا، وحواء على المروة التى هى ابعد من المسجد الحرام والبيت ولا يشاهد البيت منها، واول بطن من حواء كان قابيل مع توأمته وثانيه كان هابيل مع توأمته، واشير فى بعض الاخبار الى انه لم يكن لآدم اولاد غير اثنين ونزلت لاحدهما حورية من الجنة واتى لآخر بجنية وكثر نسل آدم منهما.
كذلك كان هبوط آدم (ع) وحواء (ع) فى العالم الصغير هبط احدهما على صفا النفس واعلاها واصفى اطرافها واقربها من بيت الله الحقيقى، والاخرى على مروة النفس وادناها واكدر اطرافها وابعدها من القلب، ولذلك سمى آدم (ع) بآدم (ع) لا دمته باختلاط على النفس وصافيها وحواء بحواء لحوته باختلاط ادانى النفس، لان الحوة خضرة الى السواد او حمرة الى السواد. واول بطن من حواء بعد ازدواجهما كان قابيل النوعى الذى كان الغالب عليه صفات النفس من الانانية والبخل والحسد والحقد والعداوة وحب الجاه والكبرياء بغلبة النفس وقوة صفاتها حينئذ، وثانى بطن منها كان هابيل الذى كما الغالب عليه صفات العقل لاستكمال النفس بمجاورة آدم (ع) وحواء وضعف صفاتها وغلبة صفات العقل، وكان كل منهما توأما لاخت له واراد آدم النوعى جذب قابيل واخته الى قرب العقل وتبديل صفاتهما النفسانية بالصفات العقلانية، فاراد تزويج اخته لهابيل وتزويج اخت هابيل له حتى يتبدل صفاتهما بذلك، وابى قابيل عن التبديل وعن الصعود الى مقام العقل وحسد اخاه واستبد برأيه فقتله فأصبح من الخاسرين لابطاله وافنائه بضاعته التى هى استعداده للصعود الى مقام العقل، وبقتل هابيل ينقطع الانسانية من العالم الصغير ويفنى الناس فى هذا العالم كلهم لان الناس كلهم فى هذا العالم كانوا من نسل هابيل وكان اناسى هذا العالم ابناء العقل الذى هو اسرائيل النوعى اى عبد الله وصفوة الله، كما كان قابيل وذريته هم الجنة والشياطين فى هذا العالم، وما لم يقتل هابيل العالم الصغير كان الحكم جاريا عليهم والتكليف باقيا لهم والخطاب من الله متوجها اليهم، واذا قتل هابيل وانقطع الاناسى لم يكن من الله حكم وخطاب وتكليف وكان الزنا والصلوة متساويين لهم؛ فمن قتل فى ملكه قابيل وجوده هابيل وجوده قتل الناس كلهم فى وجوده ولم يتوجه اليهم بعد خطاب وتكليف. فقوله تعالى { من أجل ذلك }.
[5.32]
{ من أجل ذلك } معناه من اجل قتل قابيل العالم الكبير هابيله الذى هو دليل قتل قابيل العالم الصغير هابيله { كتبنا } اى اثبتنا والزمنا تكوينا { على بني إسرائيل } اى على من بقى فى وجوده الانسانية وهم بنو العقل الذى هو اسرائيل، ولما كان بنو اسرائيل الشخصى فى العالم الكبير كلهم او اكثرهم على طريق الحق وكان كثير منهم انبياء (ع) وكان هذا الحكم اكثر ظهورا فيهم كان التفسير ببنى يعقوب صحيحا { أنه من قتل } فى العالم الكبير { نفسا } بازهاق روحه الحيوانى او قطع روحه الانسانى بدعوته الى الضلالة وصده عن طريق الهداية بمباشرته او بتسبيبه { بغير } قصاص { نفس أو } بغير { فساد } من المقتول { في الأرض } بقطع طريق ونهب مال واخافة للمسلمين بان يشهر السيف او يحمله بالليل الا ان لا يكون من اهل الريبة { فكأنما قتل الناس جميعا } لانه ما لم يقتل قابيل وجوده هابيل وجوده ولم يقطع الانسانية ولم يفن اناسى وجوده لم يرض بقتل نفس، فالقاتل قتل الناس جميعا فى وجوده وقتل نفسا بعده فى الخارج، ومن قتل الناس جميعا فى وجوده كان كمن قتل الناس جميعا فى الخارج، وايضا من قتل نفسا كان قد قتل وقطع رب النوع فى وجوده، ومن قتل رب النوع كان كمن قتل الناس جميعا، واشير فى الخبر الى وجه آخر، وهو ان فى جهنم لواديا من قتل نفسا واحدة ينتهى اليه، ومن قتل جميع الناس لا يتجاوزه { ومن أحياها } بانجائها من الهلاك الطبيعى او دعوتها الى هداية واحيائها بالحيوة الانسانية الايمانية { فكأنما أحيا الناس جميعا } لان احياء الناس لا يكون الا اذا صار قابيل وجوده مبدلا فى وجوده وصار جميع جنوده احياء بحيوة العقل { ولقد جآءتهم رسلنا بالبينات } اى المعجزات او احكام الشريعة القالبية او الدلائل الدالة السمعية والعقلية على هذا الحكم والتغليظ فيه { ثم إن كثيرا منهم } من بنى اسرائيل { بعد ذلك } اى بعد مجيء الرسل بالبينات او بعد هذا الحكم او بعدهما { في الأرض } ارض العالم الصغير او الكبير { لمسرفون } متجاوزون عن حدود الله بسفك الدماء واستحلال المحارم وغيرها كما فى الخبر ولما ذكر القتل وبالغ فى ذم من ارتكبه صار المقام مقام ان يسأل: ما حال من حارب اولياء الله (ع)؟ - فقال تعالى جوابا لهذا السؤال { إنما جزآء الذين يحاربون الله }
[5.33-34]
{ إنما جزآء الذين يحاربون الله } بمحاربة اوليائه وعباده المؤمنين { ورسوله } بمحاربة نفسه او خليفته او المؤمنين او بقطع طريقهم او قطع طريق من يريد الرسول (ص) والامام (ع) واقله ان يشهر السيف لاخافة مؤمن ويحمل السيف بالليل الا ان لا يكون من اهل الريبة { ويسعون في الأرض فسادا } مفعول مطلق ليسعون من غير فعله او بتقدير مصدر من السعى، والافساد فى الارض بقطع طريق ونهب مال وقتل نفس { أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض } وقد اختلف الاخبار فى ان العقوبات مخيرة او منوطة برأى الامام كيف شاء، او منوطة برأيه لكن بملاحظة الجناية ومقدارها واختياره العقوبة على قدر الجناية، وكذا فى النفى من الارض بأنه اخراج من المصر الذى هو فيه الى مصر آخر، مع انه يكتب الى ذلك المصر بانه منفى فلا تجالسوه ولا تبايعوه ولا تناكحوه ولا تؤاكلوه ولا تشاربوه الى سنة، او بأنه اغراق فى البحر، او بأنه ايداع فى الحبس { ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم } ليس المراد بهذه التوبة هى التى بين الله وبين العبد من الندم على المعصية واجراء لفظ التوبة على اللسان، فانه لا تعلم الا باقرار التائب واقرار الشخص غير نافذ فيما هو له، بل فيما هو عليه بل المراد هى التى تكون مناط الاسلام او الايمان بقبول الدعوة الظاهرة او الدعوة الباطنة فانها ليست امرا بين الله وبين العبد فقط، بل لا بد فيها من قبول الرسول (ص) او الامام (ع) توبته والاستغفار له واخذ الميثاق منه، ومن استغفر الرسول (ص) او الامام له وقبل توبته فهو مغفور له مقبول توبته ومشهود له بالتوبة، لان الاسلام يجب ما قبله، ولما ذكر حال المحاربين والمفسدين وان عقوبتهم فى الدنيا وفى الآخرة اشد عقوبة وان من تاب على يد الرسول (ص) او الامام (ع) وتوسل بهما الى الله يسقط منه تلك العقوبة العظيمة، صار المقام مناسبا لان ينادى التائبين على يد محمد (ص) ويحذرهم عما يوجب تلك العقوبة ويرغبهم فيما يسقطها فيقول: { يا أيها الذين آمنوا }.
[5.35-36]
{ يا أيها الذين آمنوا } بالبيعة العامة { اتقوا الله } عما يوجب تلك العقوبة { وابتغوا إليه الوسيلة } التى تسقط تلك العقوبة، ولما كان الخطاب للمؤمنين كان المراد بالوسيلة المعرفة باللام من يقبل التوبة بعد الايمان بالرسول (ص) والتوبة على يده، وليس الا الامام الذى يدعو بالدعوة الباطنة الولوية ولذلك فسروها بأنفسهم { وجاهدوا في سبيله } كأن فيه اشعارا بان المجاهدة تكون بعد التوسل بالوسيلة، واما قبل الوسيلة فلا سبيل له حتى يجاهد فيه { لعلكم تفلحون إن الذين كفروا } بهذه الوسيلة وهو فى موضع تعليل لابتغاء الوسيلة { لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم } تمثيل للزوم العذاب وشدته وان من ابتلى به لا خلاص له.
[5.37-39]
{ يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها } لان طريق الخروج من النار منحصر فى التوسل الى الوسيلة المذكورة من كفر به فلا طريق له الى الخروج { ولهم عذاب مقيم والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } لما ذكر حكم المحارب والمفسد فى الارض والكافر، ذكر حكم السارق الذى هو ايضا مفسد لكن لا الى حد القتل وشرائط السرقة المؤدية الى الحد من كونها من حرز وبلوغ المسروق الى ربع دينار وفى غير المجاعة، وشرائط القطع من الابتداء باليد وانه لا يقطع الا الاصابع الاربعة من اليد اليمنى من اصولها ويترك الابهام، وان الرجل اليسرى تقطع من دون العقب مذكورة فى الكتب الفقهية مفصلة وليس ههنا مقام تحقيقها وتفصيلها { جزآء بما كسبا نكالا من الله } عقوبة منه { والله عزيز حكيم فمن تاب من بعد ظلمه } بالتوبة الخاصة النبوية او الولوية من قبل قدرة الامام بقرينة السابق وببيان المعصومين (ع) { وأصلح } برد المسروق الى صاحبه فلا حد عليه كالمحارب { فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم } تعليل لما قبله.
[5.40-42]
{ ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض } لما صار المقام مظنة خطور انه لا ينبغى ان يسقط الحد الذى ثبت عليه بمحاربته او سرقته بمحض توبته اجاب عنه بقوله، الم تعلم، والخطاب اما عام لمن يتأتى منه الخطاب او خاص بمحمد (ص) من قبيل اياك اعنى واسمعى يا جارة { يعذب من يشآء ويغفر لمن يشآء والله على كل شيء قدير يأيها الرسول } لما ذكر حال المحارب والمفسد فى العالم الكبير والعالم الصغير، وذكر حال السارق فى العالمين وعقوبتهم وما يسقط العقوبة عنهم من الوسيلة، صار الرسول (ص) لكونه رحمة للعالمين محزونا على منافقى امته الذين انصرفوا من الوسيلة وكفروا به، كأنهم سارقون صورة الاسلام وسارقون الكلم عن مواضعه وعلى اليهود الذين سرقوا القول للحكاية لقوم آخرين وسرقوا الكلم عن مواضعه، على ان الكل بوجه مفسدون فى الارض فناداه تسلية له (ص) بقوله تعالى { لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } بالوسيلة { من الذين قالوا آمنا بأفواههم } كأنهم سرقوا الاسلام وأظهروه بلسانهم { ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب } بكثرة ما يقولون الكذب، فان التفوه بالكذب مستلزم لسماعه او سماعون لقولك ليكذبوا عليك؛ او سماعون للكذب لا الصدق لسنخيتهم للكذب { سماعون } كلامك لينقلوه { لقوم آخرين لم يأتوك } تكبرا ومناعة او حنقا وغيظا { يحرفون الكلم من بعد مواضعه } استيناف جواب سؤال مقدر لبيان حال المسارعين فى الكفر واليهود السماعين للكذب، او صفة لقوم آخرين لكن الاول اوفق واشمل والمراد بتحريف الكلم، اما تغييره فى اللفظ بزيادة او نقصان كما روى فى كثير من الآيات، واما صرفه عن مفهومه، واما صرفه عن مصداقه الذى وضعه الله او الرسول (ص) فيه، والمعنى يحرفون الكلم عن مواضعه من بعد ثبوته فى مواضعه وكأن المنظور بهذا اللفظ الاشارة الى كلم ولاية العهد من الله من قوله: { إنما وليكم الله ورسوله } (الآية) فانه لم يكن خلاف فى ان موضعه على (ع)، ومن الرسول (ص) بقوله: من كنت مولاه فعلى مولاه، فانه لم يكن خلاف فى انه ولاية العهد ولعلى (ع) { يقولون } اى المسارعون فى الكفر او القوم الآخرون { إن أوتيتم هذا فخذوه } يعنى ان اوتيتم ايها الموافقون فى طريقتنا هذا الذى قلناه فخذوه { وإن لم تؤتوه } بل اوتيتم غيره { فاحذروا } من قبوله، وقد ذكر فى سبب نزولها انها نزلت فى محاكمة يهود خيبر الى النبى (ص) ومحاكمة ابن صوريا للنبى (ص) وقد ذكر ايضا انه كان بين بنى قريظة وبنى النضير كتاب وعهد على انه اذا قتل رجل من بنى قريظة رجلا من بنى النضير ادوا القاتل اليهم ليقتل، والدية كاملة لان بنى النضير كانوا اقوى حالا واكثر مالا من بنى قريظة، واذا قتل رجل من بنى النضر رجلا من بنى قريظة ادوا القاتل اليهم ليركبوه على جمل ويولى وجهه الى ذنبه ويلطخ وجهه بالحمأة ويدفع نصف الدية اليهم، فقتل بعد مقدم النبى (ص) رجل من بنى قريظة رجلا من بنى النضير فطلبوا القاتل والدية على العهد الذى كان بينهم، فابى بنو قريظة وقالوا: هذا محمد (ص) بيننا وبينكم فهلموا نتحاكم اليه، فمشوا الى عبد الله بن ابى وكان حليفا لبنى النضير وقالوا له: سل محمدا (ص) ان لا ينقض عهدنا على بنى قريظة، فذهب عبد الله بن ابى اليه وقال له مثل ما قالوا، فنزل جبرئيل وقال: يحرفون الكلم الذى فى التوارة من بعد مواضعه، الآية { ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا } حتى تقدر على منع فتنته واصلاحه { أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم } من الارجاس التى هى سبب الكفر والعقوبة { لهم في الدنيا خزي } بالقتل والاسر والجزية والاجلاء واظهار نفاق المناقق وتفضيحه وخوفهم جميعا من المؤمنين { ولهم في الآخرة عذاب عظيم سماعون للكذب أكالون للسحت } تكرار السماع للكذب لابداء العلة فى الخزى والعذاب، والسحت كل حرام من الرشى فى الحكم وكل ما لم يأذن الله فى طريق تحصيله من ثمن الميتة والخمر واجر البغية واجر الكهانة واكل مال اليتيم والربا بعد البينة وفى بعض الاخبار واما الرشى فى الحكم فان ذلك الكفر بالله العظيم، وفى بعض الاخبار من ذلك قبول هدية على قضاء حاجة اخيه المؤمن، وفى بعض الاخبار عد ما اخذ من حق بمحاكمة الطاغوت سحتا { فإن جآءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } يعنى اذا جاءك اليهود للمحاكمة فانت مخير بين قبول محاكمتهم والاعراض عنهم { وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا } يعنى ان حكمت بينهم فلا يكن محاكمتك عن خوف منهم واستمالة لهم لانك ان تعرض عنه فلن يضروك شيئا حتى يكون اقبالك عليهم من خوف ضرر منهم { وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط } يعنى ينبغى ان يكون حكمك بما امرك الله به من القسط لا بما هم عليه من الكفر وعدم الحرمة { إن الله يحب المقسطين } فى المؤمن والكافر.
[5.43]
{ وكيف يحكمونك } يعنى انهم ان رضوا بحكم الله لا يلجأوا الى حكمك لانهم اهل كتاب الله { وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك } التحكيم عن حكمك لعدم موافقته لرأيهم وان كان موافقا لحكمهم، او ثم يتولون عن التوارة وعن حكم الله الذى فيه { ومآ أولئك بالمؤمنين } بكتابهم وبك، وفيه تعريض بالمنحرفين عن حكمه (ص) فى على (ع).
[5.44]
{ إنآ أنزلنا التوراة فيها هدى } يهدى به للحق { ونور } يكشف به المبهمات، تعليل لعدم ايمانهم وتعريض بمن يعرض عن القرآن الذى فيه بيان الحق وكشفه من ولاية على (ع) { يحكم بها النبيون الذين أسلموا } صفة لبيان حالهم وتعريض بان من لم يرض بحكم القرآن لم يكن مسلما منقادا لله { للذين هادوا } يحكم بها { والربانيون } الذين طلبوا الحق بالرياضات والمجاهدات { والأحبار } الذين طلبوه بالعلم وطريق البحث { بما استحفظوا } استحفظه طلب منه حفظ شيء او جعله حافظا لشيء، ولفظة ما موصولة او مصدرية وفيه اشارة الى انهم كانوا حافظين لكتاب الله من التغيير او حافظين له فى صدورهم { من كتاب الله } التدوينى او احكام النبوة { وكانوا عليه شهدآء } يشهدون له على من يغيره، وعنهم (ع) فى بيان التعريض: هذه الآية فينا نزلت، والربانيون الائمة دون الانبياء الذين يربون الناس بعلمهم، والاحبار هم العلماء يعنى ان المقصود التعريض بامة محمد (ص) وانزال القرآن وان الحاكم به هم الائمة (ع) ومشايخهم الذين اجازوا لهم الحكم به { فلا تخشوا الناس } فى حكوماتكم ولا تعرضوا عما قررناه من الاحكام، والخطاب لمحمد (ص) ولما كان التعريض بامته جمع أمته معه فى الخطاب { واخشون } فانى احق بالخشية { ولا تشتروا بآياتي } التدوينية بان تغيروها وتبدلوها، ولا بآياتى التكوينية من النبى (ص) وقوله (ص) ومن الائمة الهداة { ثمنا قليلا } من الاعراض الدنيوية واغراضها، وقد مضى فى اول البقرة فى نظير الآية تفصيل تام لاشتراء الثمن القليل بالآيات { ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأولئك هم الكافرون } اعلم، ان الآيات الثلاثة مذكورة ههنا بهذه الصورة من ترتب الكفر والظلم والفسق على عدم الحكم بما انزل الله، ويلزم منه ان يكون كل فرد من افراد الانسان حاكما بما انزل الله تعالى حتى لا يكون داخلا تحت الآيات، والحال ان اكثرهم لا يعلمون حكم الله وليس كل من يعلم حكم الله يؤذن له فى الحكم بين الناس، ولذلك فسروه بمن يحكم بغير ما انزل الله وهو اخص من الاول، لان عدم الحكم بما انزل الله اما بان لا يحكم اصلا او بان يحكم بغير ما انزل الله والتحقيق فى هذا المقام ان يقال: ان ما انزل الله غير مختص بالتدوينى بل هو اعم من التدوينى الذى اتى به الانبياء (ع) مسطورا فى الصحائف والالواح ومن التكوينى فى العالم الكبير من النبوات واحكامها التى نزلت من مقام الروح الى قلوب الانبياء (ع) ومنها الى صدورهم، ومنها الى الخلق من السياسات والعبادات القالبية، ومن التكوينى فى العالم الصغير من الاحكام العقلية النازلة من مقام العقل او ان البلوغ الى صدور الخلق فكل انسان له زاجرا آلهى وشيطان يغويه وكل انسان له الحكومة لا محالة، اما فى وجوده وعالمه الصغير لانه لا محالة لا يخلو عن حركة وسكون ولو فى الاكل والشرب وسائر الضروريات، وان كان له عيال ودار ففى اهل داره ايضا وان كان له خدم وحشم واموال ففيها ايضا، ولا بد لحركته وسكونه الاختياريين من محرك وباعث فالباعث ان كان الهيا فهو حاكم فى حركته وسكونه بما انزل الله من حكم العقل على صدره، وان كان شيطانيا فهو حاكم بغير ما انزل الله وهذا الحاكم بين الخلق ان كان الباعث له على الحكومة آلهيا كان حاكما بما انزل الله، وان كان شيطانيا كان حاكما بغير ما انزل الله ولم يحكم بما انزل الله، وان كان صورة الحكم صورة ما انزل الله فانه اذا حكم من لم يكن مأذونا من الله بلا واسطة كالانبياء (ع) او بالواسطة كأوصيائهم (ع) وكان حكمه بصورة ما انزل الله فى التدوين او فى النبوات كان حكمه بغير ما انزل الله وكان طاغوتا، وما ورد فى الاخبار من ان هذا مجلس لا يجلس فيه الا نبي او وصى او شقى؛ يدل على هذا، لان من جلس بغير الوصاية لم يكن جلوسه وحكمه بما أنزل الله بل بغير ما أنزل الله وبحكم الشيطان ولذلك علق الشفاعة التى هى والحكومة توأمان على الاذن فى عدة من الآيات، ومما ذكرنا ظهر ان عدم الحكم بما أنزل الله لازم مساو لحكم بغير ما أنزل الله لا انه أعم منه لان الانسان لا يخلو من حكومة ما، ومن لم يكن خاليا من الحكومة فكلما لم يحكم بما أنزل الله كان حاكما بغير ما أنزل الله لما عرفت من التلازم فصح ما ورد من تفسيره فى الاخبار بالحكم بغير ما أنزل الله؛ روى عن امير المؤمنين (ع) ان الحكم حكمان؛ حكم الله وحكم الجاهلية فمن أخطأ حكم الله حكم بحكم الجاهلية وهو دليل على ما قلنا.
[5.45]
{ وكتبنا عليهم فيهآ } اى فى التوارة وهو تقرير لعدم رضاهم بحكم الله وانهم رضوا بمحمد (ص) ليفروا من حكم التوراة { أن النفس بالنفس } مجمل محتاج الى البيان يعنى نفس المرء بالمرء والعبد بالعبد والانثى بالانثى او كان حكم التوارة عاما { والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص } ذات قصاص والفقرات محتاجة الى تقدير آخر ايضا وهو ان النفس تقتل بالنفس والعين تفقأ بالعين وهكذا { فمن تصدق به } اى بالقصاص اى عفا عنه { فهو كفارة له } من ذنوبه { ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأولئك هم الظالمون } كرره ثلاث مرات لكمال الاهتمام به، لانه كما علمت معيار تمام الحركات والسكنات ومصحح العبادات والسياسات وبه قوام المعاش والمعاد، ولان الاول ناظر الى امة محمد (ص) لان الخطاب فى قوله فلا تخشوا الناس (الى آخره) كان لهم والثانى ناظر الى احكام التوراة واهلها، والثالث ناظر الى احكام الانجيل واهلها.
[5.46]
{ وقفينا على آثارهم } اى آثار النبيين والربانيين والاحبار الذين كانوا يحكمون بالتوراة { بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا } عطف على جملة فيه هدى ونور لانها حال ومنصوب محلا وكرره لان الاول حال من عيسى (ع) والثانى من الانجيل { لما بين يديه من التوراة وهدى } كرره لان الاول باعتبار اجزائه وهذا باعتبار المجموع، وايضا الاول وصف باعتبار معانيه والثانى للفظه وان كان باعتبار المعانى والتأكيد مطلوب ايضا { وموعظة للمتقين } لان الوعظ اضافة بني الواعظ والمتعظ ومن لم يتعظ لم يكن الوعظ وعظا له، والمتقون هم الذين يكون الوعظ وعظا لهم.
[5.47]
{ وليحكم } قرئ بالامر وبكسر اللام وفتح الميم { أهل الإنجيل بمآ أنزل الله فيه ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } وصفهم بالكفر تارة وهو عدم الاقرار بالله او بدينه، وبالظلم اخرى وهو اعطاء الحق لغير المستحق ومنع الحق عن المستحق، وبالفسق اخرى وهو الخروج عن طريق الشرع والعقل لاتصافهم بالاوصاف الثلاثة ولتفضيحهم غاية التفضيح ولان الاول بالنسبة الى امة محمد (ص) ولما كان رسالته وكتابه واحكامه اشرف سمى المنحرف عن احكامه، والحاكم بغيرها كافرا اشعارا بان المنحرف عن احكامه لشرافتها اسوء حالا من الكل والثانى بالنسبة الى اليهود، ولما كان الكثرة فيهم غاية كان الظلم وهو الاضافة الى الغير فيهم اظهر والثالث بالنسبة الى النصارى ولما كان الوحدة فيهم اظهر كان الخروج عن طريق الوحدة وهو الفسق انسب بحالهم واعلم، انه ليس المراد الحكم بالتوراة والحكم بالانجيل الحكم فى مطلق السياسات والعبادات فانهما منسوختان بمحمد (ص) وكتابه، بل المقصود الحكم بهما باعتبار ما ثبت فيهما من بعثة النبى (ص) وآثاره وعلاماته، والمقصود الاهم التعريض بالامة فى الحكم بالقرآن فى خلافة على (ع) فلا تغفل.
[5.48]
{ وأنزلنآ إليك الكتاب بالحق } بسبب الحق او متلبسا الحق او مع الحق، وقد سبق ان الحق فى امثال المقام هو الولاية الكبرى { مصدقا لما بين يديه من الكتاب } من جنس الكتب المنزلة والنبوات الماضية { ومهيمنا عليه } رقيبا على ذلك الكتاب بحفظه عن التغيير واظهار ما كتموه منه وتصديقه وتصديق النبوات الماضية، والمهيمن من اسمائه تعالى بمعنى الرقيب والحافظ والمؤتمن والامين والشاهد { فاحكم بينهم } بين امتك او بين اهل الكتاب ان اخترت الحكم بينهم والمقصود التعريض بالامة وحكمهم { بمآ أنزل الله } فى على (ع) { ولا تتبع أهوآءهم عما جآءك من الحق } وهو الكتاب والنبوة فانهما صورتا الحق الذى هو الولاية { لكل جعلنا منكم شرعة } اى لكل فرقة وامة منكم جعلنا شريعة بحسب القالب وتأخير منكم للاشارة الى ان الشرعة الخاصة بكل امة انما نشأت من اختلاف استعدادهم { ومنهاجا } طريقا واضحا بحسب القلب، والشرعة الطريقة الى الماء التى يرد عليها جميع الخلق بالسوية والاحكام القالبية فى كل امة وشريعة طريقة الى ماء الحيوة ويستوى فيها جميع الامة، والمنهاج من نهج الامر اذا وضح والمراد الطريق الواضح من القلب الى الحق وهو بمنزلة التعليل لسابقه يعنى لا تتجاوز عن شرعتك الخاصة بواسطة شرائعهم، فان شرائعهم كانت خاصة بهم ولك شرعة خاصة بك { ولو شآء الله لجعلكم أمة واحدة } متفقة على طريقة واحدة من غير نسخ شريعة وتجديد اخرى { ولكن } جعلكم امما مختلفة { ليبلوكم في مآ آتاكم } من الشرائع الجديدة لان قبول المألوف المعتاد اسهل على النفس ولا يظهر صدق الايمان به بخلاف غير المألوف، فان قبوله لا يكون الا عن صدق الايمان بمن اتى به { فاستبقوا الخيرات } يعنى اذا علمتم ان الاختلاف امتحان لكم فاستبقوا الخيرات التى هى ما أمر الله به على لسان نبيه (ص) لا العادات التى اخذتموها من اسلافكم، يعنى خذوا الخيرات سابقين على نفوسكم فانها تأمركم بالعادات او سابقين على اقرانكم حيازة لقصب السبق { إلى الله مرجعكم جميعا } السابق واللاحق والاخذ بالامر والاخذ بالعادة وهو تعليل لقوله فاستبقوا ووعد ووعيد للفريقين { فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون } من الحق والباطل والامر والعادة وهذا ايضا تعريض بالولاية واختلافهم فيها بعد الرسول (ص).
[5.49]
{ وأن احكم بينهم بمآ أنزل الله } قيل عطف على الكتاب او على الحق بجعل ان مصدرية ودخول ان المصدرية على الامر نادر وغير فصيح، بل هى فى الاغلب تكون مفسرة اذا وقع بعد ما فيه معنى القول والعطف على المعنى كثير شائع فى كلام الفصحاء، وهو اما عطف على مصدقا باعتبار المعنى اى انزلنا عليك الكتاب ان صدق لما بين يديك وان احكم فيكون تفسيرا للانزال الذى فيه معنى القول فان الانزال اذا نسب الى اللفظ كان فى معنى القول، ويحتمل ان يكون بتقدير امرنا عطفا على انزلنا ويكون ان تفسيرية ايضا وتكرار الامر بالحكم بما انزل الله للتأكيد، او لكون احد هما فى زنا المحصنين والآخر فى قتل وقع بينهم، كما روى عن الباقر (ع) انما كرر الامر بالحكم بينهم لانهما حكمان امر بهما جميعا لانهم احتكموا اليه فى زنا المحصنين ثم احتكموا اليه فى قتل كان بينهم { ولا تتبع أهوآءهم واحذرهم أن يفتنوك } يصرفوك { عن بعض مآ أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم } يعنى فاعلم ان لهم ذنوبا كثيرة والاقبال عليك مسقط لعقوبتها والتولى عنك دليل على اراداة الله لعقوبتهم ببعض منها { وإن كثيرا من الناس لفاسقون } خارجون عن طريق الحق وهو تعريض بالامة حيث تولوا عنه فى امره بولاية على (ع) ان كان نزوله فى اهل الكتاب وتسلية للرسول (ص) بان لا يعظم توليهم ولا يحزن عليهم لتوليهم.
[5.50]
{ أفحكم الجاهلية يبغون } وهذا مؤيد لوجه التعريض، فان توبيخ الامة بعد تصديق الرسول (ص) على طلب حكم الجاهلية له موقع دون توبيخ غير المصدقين { ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون } اللام لام اختصاص والظرف متعلق بحكما او بأحسن، والاستفهام للانكار يعنى لا احسن من الله حكما لقوم يوقنون والمقصود ان الله احسن حكما فانه وان كان بحسب المفهوم اعم، لكن استعماله فى مثل هذا المقام لاثبات الاحسنية للمفضل عليه ونفيها من غيره والتعبير عنه بحيث يظهر تعلق اللام هكذا الله يحسن حكومته لقوم يوقنون اشد حسن، او حكومة الله تحسن لقوم يوقنون، وتخصيص احسنية الحكومة بالموقنين لظهورها عليهم ولموافقتها لهم دون غيرهم من اصحاب الاهواء والظنون، وقيل: اللام بمعنى عند ويكون حينئذ متعلقا بأحسن، وقيل: اللام للبيان اى لبيان متعلق الاستفهام اى هذا الاستفهام لقوم لا يوقنون.
[5.51]
{ يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أوليآء } احباء تعاشرونهم معاشرة الاحباب وتتوقعون منهم النصرة فى البلايا { بعضهم أوليآء بعض } فلا تتوقعوا منهم الولاية فانهم لكونهم على دين واحد متوادون وان كانوا متنازعين من جهة اخرى { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } لان التولى والتودد لا يكون الا من سنخية بين المتوادين والسنخية تقتضى الدخول في الاسناخ، عن الصادق (ع) من تولى آل محمد (ص) وقدمهم على جميع الناس بما قدمهم من قرابة رسول الله (ص) فهو من آل محمد (ص) بمنزلة آل محمد (ص) لانه من القوم باعيانهم وانما هو منهم بتوليه اليهم واتباعه اياهم وكذلك حكم الله فى كتابه { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } وقول ابراهيم (ع)
فمن تبعني فإنه مني
[إبراهيم:36] { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } يعنى لا تتخذوا منهم اولياء لانهم ظالمون بعدم قبول الاسلام وان الله لا يهدى القوم الظالمين، اولا تتخذوا منهم اولياء فتصيروا ظالمين بتوليهم وعدم تولى المؤمنين فلا يهديكم الله الى الحق لان الله لا يهدى القوم الظالمين.
[5.52]
{ فترى الذين في قلوبهم مرض } كابن ابى واضرابه { يسارعون فيهم } فى موالاتهم { يقولون نخشى أن تصيبنا دآئرة } اعتذار من توددهم، والدائرة عبارة عن نوائب الدهر تدور على الخلق، روى ان عبادة بن الصامت قال لرسول الله (ص): ان لى موالى من اليهود كثيرا عددهم وانى ابرء الى الله ورسوله (ص) من ولايتهم واوالى الله ورسوله (ص) فقال ابن ابى: انى رجل اخاف الدوائر لا ابرء من ولاية موالى فنزلت { فعسى الله أن يأتي بالفتح } لرسوله (ص) وللمؤمنين { أو أمر من عنده } دون الفتح من غنيمة او اهلاك القائلين يكون فيه اعزاز المؤمنين ويظهر به ذلة الكافرين والموالين لهم { فيصبحوا } اى هؤلاء المنافقون فى الدنيا او فى الآخرة { على مآ أسروا في أنفسهم } من نفاق المؤمنين وموالاة الكافرين { نادمين } ورد فى الاخبار ان تأويله فى بنى اميه فنقول ان كان نزوله فى عبد الله بن ابى واصحابه فالتعريض بمخالفى على (ع) ويجرى فى كل من خالف الائمة (ع) ومنهم بنو امية الى ظهور القائم عجل الله فرجه.
[5.53]
{ ويقول الذين آمنوا } فى الدنيا بعد انقلاب الامر على الكفار او على المنافقين بعد ما رأوا المنافقين فى زمرة الكافرين او فى الآخرة بعد ما رأوهم فى طريق الكافرين، وقرئ بنصب يقول عطفا على يأتى او يصبحوا { أهؤلاء } اشارة الى المنافقين يعنى يقول المؤمنون فى حق المنافقين بعد ما رأوهم فى زمرة الكافرين ورأوا حسن حال المؤمنين تبجحا وسرورا بما للمؤمنين اهولاء { الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم } اغلظ ايمانهم { إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين } فيه معنى التعجب.
[5.54]
{ يأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه } فلن يضر دين الله شيئا { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } والمقصود الارتداد عن قول محمد (ص) فى ولاية على والمراد بقوم يحبهم اصحاب على (ع) فان هذا الوصف لهم مأخوذ من سيدهم على (ع) لقول النبى (ص) فى خيبر:
" لاعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله "
، ولا خلاف ان الرجل كان عليا (ع) ولما كانت الآية جارية الى يوم القيامة فكل من اصحاب الائمة (ع) داخل تحتها الى المهدى عجل الله فرجه، وقد فسرت بعلى (ع) واصحابه وباصحاب على (ع) وقال على (ع) يوم الجمل: والله ما قوتل اهل هذه الآية حتى اليوم، وعن الصادق (ع): هم امير المؤمنين واصحابه حين قاتل من قاتله من الناكثين والقاسطين والمارقين { أذلة على المؤمنين } من الذل بالكسر بمعنى اللين او من الذل بالضم بمعنى الهوان بمعنى انهم يعدون انفسهم اذلاء عند المؤمنين بتحقير انفسهم وتبجيل المؤمنين لان المؤمنين يعدونهم اذلاء { أعزة على الكافرين } غلاظ شداد والمقصود انهم ذو مناعة وعزة على الكافرين لا يعدونهم فى شيء { يجاهدون في سبيل الله } لا فى سبيل النفس والشيطان { ولا يخافون لومة لائم } فيما يفعلون بأمر الله يعنى انهم ناظرون الى أمر الله لا الى مدح مادح ولوم لائم { ذلك فضل الله يؤتيه من يشآء والله واسع عليم } الاتيان باسم الاشارة البعيدة غاية تعظيم لما ذكر لهم من الصفات وكذا اضافة الفضل الى الله.
[5.55]
{ إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون } قد ورد من طريق العامة والخاصة ان الآية نازلة فى على (ع) حين تصدق فى المسجد فى ركوع الصلوة بخاتمه او بحلته التى كان قيمتها الف دينار، ومفسرو العامة لا ينكرون الاخبار فى كونها نازلة فى امير المؤمنين (ع) وقد نقلوا بطرق عديدة من رواتهم انها نزلت فى على (ع) ومع ذلك يقولون فى تفسيرها ان الآية لما نزلت بعد النهى عن اتخاذ اهل الكتاب اولياء، ولا شك ان المراد بالاولياء هناك اولياء المعاشرة لا اولياء التصرف كان المراد بالاولياء ههنا ايضا المعاشرة بقرينة المقابلة وبقرينة جمع المؤمنين، ولو كان المراد امير المؤمنين (ع) وبالولاية ولاية التصرف، لصرح باسمه او لقال والذى آمن بالافراد؛ وهم غافلون عن انه لو صرح باسمه او افرد المؤمن مع الاتفاق في انها نازلة فى امير المؤمنين (ع) لأسقطوه تمويها على مخالفى على (ع) فنقول: نسبة الولاية اولا الى الله ثم الى رسوله (ص) ثم الى الذين آمنوا تدل على ان المراد بالولايه ولاية التصرف التى فى قوله تعالى:
النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم
[الأحزاب:6] لان ولاية الله ليست ولاية المعاشرة ولا ولاية الرسول (ص) بقرينة العطف وبما هو معلوم من الخارج، فكذلك ولاية الذين آمنوا بقرينة العطف وبقرينة عدم تكرار الولى، فان المراد ان الولاية ههنا امر واحد مترتب فى الظهور، فان ولاية الرسول (ص) ليست شيئا سوى ولاية الله وولاية الله تتحقق بولاية الرسول (ص) فهكذا ولاية الذين آمنوا فانها ولاية الرسول (ص) تظهر فى ولاية الذين آمنوا على ما قاله الشيعة، ولو كان المراد ولاية المعاشرة كان اولياؤكم بلفظ الجمع اولى، وتقييد الذين آمنوا باقامة الصلوة وايتاء الزكوة فى حال الركوع يدل على انها ليست ولاية المعاشرة والا لكان جملة المؤمنين فيها سواء، وليس كذلك المؤمنين متصفين بالصفات المذكورة على انه لا خلاف معتدا به فى انها نزلت فى على (ع) وصورة الاوصاف خاصة به، وقوله الذين يقيمون الصلوة بالمضارع اشارة الى ان هذا الوصف مستمر لهم يعنى حالهم استمرار اقامة الصلوة وايتاء الزكوة فى حال الخضوع لله لا فى حال بهجة النفس، لانهم يؤتون ما اتوا وقلوبهم وجلة انهم الى ربهم راجعون، بخلاف الفاعل من قبل النفس فان شأنه الارتضاء بفعله وتوقع المدح من الغير على فعله، لان كل حزب من احزاب النفس بما لديهم فرحون ويحبون ان يحمدوا على ما لم يفعلوا فضلا عما فعلوا، واستمرار الصفات بحسب المعنى لعلى (ع) واولاده المعصومين (ع) بشهادة اعدائهم وبحسب الصورة ما كان احد مصداقها الا على (ع) نقلا عن طريق العامة والخاصة وقد وقع صدور الزكوة فى الركوع من كل من الائمة (ع) كما ورد عن طريق الخاصة، وفى نسبة الولاية الى الله دون المخاطبين والاتيان باداة الحصر دلالة تامة على ان المراد بها ولاية التصرف فانها امر ثابتة لله ذاتا ولرسوله (ص) ولخلفاء رسوله (ص) باعتبار كونهما مظهرين لله وليس لاحد شراكة فيها وليس المراد بها ولاية المعاشرة التى تكون بالمواضعة والاتخاذ، والا لم يكن للحصر وجه وكان اقتضاء المقابلة ان يقول بل انتم اولياء الله (الى آخرها) او بل اتخذوا الله ورسوله والمؤمنين اولياء ولان المراد بها ولاية التصرف التى كانت بالذات لله قال فى عكسه.
[5.56]
{ ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا } اشعارا بان الولاية السابقة هى ولاية التصرف وليست لغير الله وخلفائه الا قبولها ومن قبلها منهم باستعداده لظهورها فيه صار مرتبطا بالله وخلفائه، ومن صار مرتبطا بالله صار من حزب الله، ومن صار من حزب الله كان غالبا { فإن حزب الله هم الغالبون } ولو كان المراد بها ولاية المعاشرة لكان الاولى ان يقول ومن يتخذ الله او من صار وليا لله، والحاصل ان فى لفظ الآية دلالات واضحة على ان المراد بالولاية ولاية التصرف وانها بعد الرسول (ص) ليست لجملة المؤمنين بل لمن اتصف بصفات خاصة كائنا من كان متعددا او منفردا سواء قلنا نزلت فى على (ع) او لم نقل، لكن باتفاق الفريقين لم توجد الاوصاف الا فيه (ع) ونزلت الآية فى حقه (ع) والمراد بالذين آمنوا ههنا هم الموصوفون فى الآية السابقة لما تقرر عندهم ان المعرفة اذا تكررت كانت عين الاولى.
[5.57-58]
{ يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار } بولاية من امرتم بولايته بقرينة كونها بعد آية ولاية الله وقبول ولايته والتعليق على هذا الوصف للاشعار بعلة النهى { أوليآء } لانهم فى شقاق معكم فلا ينبغى لكم توليهم { واتقوا الله } فى اتخاذ المذكورين اولياء { إن كنتم مؤمنين } فان الايمان يقتضى المجانبة لا المجانسة معهم { وإذا ناديتم } عطف على قوله اتخذوا دينكم اوحال { إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون } فان العقل يقتضى تعظيم الحق وعباداته لا الاستهزاء بها.
[5.59]
{ قل يأهل الكتاب هل تنقمون } تكافؤن او تكرهون او تعاقبون { منآ إلا أن آمنا بالله } المستنثى بتقدير اللام او الباء او مفعول به بلا واسطة حرف { ومآ أنزل إلينا ومآ أنزل من قبل } تعريض بمنافقى الامة فى النقمة من على (ع) واولاده المعصومين (ع) واصحابهم التابعين لهم { وأن أكثركم فاسقون } خارجون عن طريق الحق والعقل وهو عطف على ان آمنا او على الله يعنى الا لان آمنا بان اكثركم فاسقون.
[5.60]
{ قل هل أنبئكم بشر من ذلك } الايمان الذى تنقمون لاجله او من ذلك الفسق او من ذلك النقم يعنى ان هذا شرا باعتقادكم او فى الواقع فهل انبئكم بشر منه { مثوبة } جزاء { عند الله من لعنه الله } هو خبر مبتدء محذوف تقديره صاحب ذلك الشر من لعنه الله او ذلك الشر صفة من لعنه الله او بدل بتقدير مضاف، تقديره بصفة من لعنه الله وهو مبتدء وجملة اولئك شر مكانا خبره { وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت } فيه قراءات، قرئ فعلا مبنيا للفاعل ومبنيا للمفعول بتقدير فيهم وعابد الطاغوت وعبدة الطاغوت وعبد الطاغوت جمعا كخدم وعبد الطاغوت بضم الباء وصفا، وعطفه على القراءات واضح وقد مضى تفسير الطاغوت { أولئك شر مكانا وأضل عن سوآء السبيل } من قبيل اضافة الصفة الى الموصوف اى السبيل السواء غير مائل الى احد الطرفين من الافراط والتفريط للنصارى واليهود والمراد بالتفضيل اما الزيادة مطلقا لا بالاضافة الى المؤمنين او بالاضافة الى الناقمين او الى الفاسقين، او الى المؤمنين على اعتقادهم او بالاضافة الى المؤمنين على سبيل التهكم بهم.
[5.61]
{ وإذا جآءوكم قالوا آمنا } تأديب للمؤمنين بان يراقبوا حالهم وتعريض بالمنافقين من امة محمد (ص) { وقد دخلوا } فى مجلسك او فى دينك { بالكفر } يعنى لم يكن دخولهم خلوصا من الكفر بل انقيادا لسلطنتك { وهم قد خرجوا به } من عندك او من دينك من غير تأثير لكلامك فيهم { والله أعلم بما كانوا يكتمون } تهديد لهم.
[5.62]
{ وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم } الذنب الغير المتعدى الى الغير { والعدوان } الاساءة الى الغير فان كان المراد اهل الكتاب فالتعريض بهم { وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون } ذم على فعلهم.
[5.63]
{ لولا ينهاهم الربانيون والأحبار } قد مضى ان الاول هم المرتاضون والثانى العلماء { عن قولهم الإثم } القول اعم من الفعل كما مضى تحقيقه { وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون } والتعبير ههنا بيصنعون للاشارة الى انهم ابلغ ذما من السابقين، لانهم بجهلهم يعملون وهؤلاء عن علم يتركون لان استعمال الصنع فى الاغلب فيما اذا تمكن وتعمل فى العمل، عن ابن عباس انها اشد آية فى القرآن.
[5.64]
{ وقالت اليهود يد الله مغلولة } غل اليد كناية عن الامساك والبخل وبسطها كناية عن الجود. اعلم، ان لليهود مذاهب مختلفة وعقائد متشتتة وآراء مبتدعة فمنها اعتقادهم ان الله جسم وانه خلق السماوات والارض وما فيها من المواليد فى ستة ايام، وآخر المخلوقات فى اليوم الآخر كان آدم (ع) وخلق له من ضلعه الايسر حواء واسكنه جنة خلق له فى عدن ومنعه من اكل شجرة، واكلت حواء باغواء الشيطان والحية من تلك الشجرة وحملت آدم (ع) على الاكل وان الله ندم من خلق آدم (ع) وبنى آدم، وان الله فرغ من الخلق يوم الجمعة واستراح يوم السبت وهو مستريح فارغ من الامر، فنقل تعالى قولهم الباطل ورد عليهم ودعا عليهم بقوله { غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشآء } واليد كما سبق فى امثالها غير مختصة بالعضو المخصوص الذى لذوى الحيوة الحيوانية، بل هى اسم لمعنى عام له مصاديق كثيرة ومترتبة بعضها فوق بعض، وهو معنى ما به التصرف بالحركة فى الجذب والدفع والدخل والخرج، وما به القدرة فى الانفاق والامساك والايجاد والاعدام وغير ذلك من لوازم التصرف، وهى فى الحيوان آلة مخصوصة مركبة من اجسام مختلفة، وفى الانسان الملكى آلة اخرى وفى الانسان الملكوتى ايضا آلة محسوسة غير ما للانسان الملكى، وفى الجبروتى ليست آلة محسوسة بل امر معقول مجرد عن المادة ولوازم المادة وعن التقدر والتشكل، والحق تعالى شأنه لما كان احدى الذات لا كثرة لذاته بوجه من وجوه الكثرة ولا تركيب فيه بوجه من وجوه التركيب ، بل انيته وجود صرف محيط بكل الكثرات بحيث لا يشذ عن وجوده شيء منها والا كان محدودا مركبا، فهو بذاته الاحدية مصداق لجميع الاسماء والصفات المتقابلة بحيث لا يلزم منه تكثير ولا تركيب ولا تحديد، فان من حده بشيء فقد عده واثبت له ثانيا، ومن عده فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزاه، ومن جزاه فقد جهله، فمن وجوب وجوده يستدل على عدم تركبه، ومنه على عدم تحدده، ومنه على احاطته فهو بكل شيء محيط. وهذا اتم البراهين التى اقامها الحكماء على احاطته بل هو اصل للكل والكل راجع اليه فهو باحديته مصداق الصفات الحقيقية المحضة ومصداق الصفات الحقيقية ذات الاضافة، ومصداق الاضافات والسلوب تماما فهو الحى العليم السميع البصير المدرك القادر المريد المتكلم الرحمن الرحيم الخالق الرازق المبدء المعيد المتصرف الهادى المفضل المضل المنتقم السبوح القدوس، لكن هذه الاسماء غير ظاهرة فى مرتبته الاحدية فانها الغيب الذى لا اسم له ولا رسم ولا خبر عنه ولا اثر بل هى ظاهرة فى مقام المعروفية المسماة بنفس الرحمن والحقيقة المحمدية والاضافة الاشراقية وعرش الرحمن والولاية المطلقة والمشية والحق المخلوق به وغير ذلك من اسمائها، سوى الف الف اسم الله تعالى شأنه هى مصداقها فى مقام الظهور وهى باعتبار نفسها من غير اعتبار حيثيته وحيثية يد الله وباعتبار وجهها الى الله ووجهها الى الخلق، وباعتبار انضيافها الى الملكوت العليا والسفلى، وباعتبار ظهور اللطف والقهر فيها يدان لله وكلتا يديه يمين وباسط اليدين بالرحمة فى هذا المقام، وباعتبار انضيافها الى المهيات والاعيان الثابتات تظهر فيها الاسماء المتقابلات من اللطيف والقاهر والرحيم والمنتقم ولكل صنف من اسمائه تعالى عالم هو محل ظهور فعالم الارواح والاشباح النورية التى هى عالم المثال والفلكيات تماما مظاهر اسمائه اللطيفة.
والعالم السفلى الذى هو عالم الشياطين والجنة ومقر الارواح الخبيثة وفيه الجحيم ونيرانها مظاهر اسمائه القهرية، وعالم العناصر بمواليدها مظاهر اللطف والقهر تماما فأسماءه تعالى اللطفية والقهرية يداه تعالى وبهذا الاعتبار ايضا كلتا يديه يمين ومظاهر الاسماء اللطفية من عالم الارواح والسماوات يمينه،
والسماوات مطويات بيمينه
[الزمر:67] والطاوى والمطوى باعتبار الظاهر والمظهر، والا فالسماوات يمين والظاهر فيه ايضا يمين والظاهر السفلى شمال واصحاب اليمين اصحاب الشمال اشارة الى اهل هذين العالمين، لكن كونهما يمينا وشمالا باعتبارهما فى انفسهما لا بالاضافة اليه تعالى فان كلا منهما بالاضافة اليه تعالى يمين، ولذلك لم يرد فى كلامه تعالى شمال الله، بل اصحاب الشمال واصحاب المشئمة بدون الاضافة، ولم يقل تعالى والارض جميعا فى شماله مع ان المناسب فى مقابل { والسماوات مطويات بيمينه } ان يقول والارض مقبوضة بشماله بل قال قبضته لا باسم اليمين ولا باسم الشمال فباضافة العالمين اليه كلتا يديه يمين ايضا، واذا اريد بالرحمة، الرحمة الرحمانية فهو باسط اليدين بالرحمة فى هذين العالمين ايضا، واذا اريد اظهار الاضافة اللازمة لليمين والشمال يقال يمين العالم وشمال العالم. اذا علمت ذلك فاعلم، انه تعالى قيوم ومعنى قيوميته ان به تحصل الاشياء وبقاءها ومعنى به بقاؤها ان لا بقاء لها فى انفسها الا بمبقيها
يأيها الناس أنتم الفقرآء إلى الله والله هو الغني
[فاطر:15]، مثالها فى بقائها بمبقيها وفنائها فى انفسها، مثال ضوء الشمس المنبسط على السطوح فانه من حيث اضافته الى السطوح آنا فانا فى الفناء بحيث لا يبقى ضوء على سطح آنين، اذا اردت معرفة ذلك من طريق الحس فانظر الى ضوء منبسط على سطح من كوة يكون بينها وبين ذلك السطح مسافة بعيدة، فاذا انسد تلك الكوة فنى ذلك الضوء من السطح من غير تراخ ولولا فناؤه فى نفسه وبقاؤه بمبقيه الذى هو الشمس لبقى آنا ما بعد سد الكوة، واذا كان حال الاشياء بالنسبة الى الله تعالى حال الضوء بالنسبة الى الشمس فلو لم يجد بافاضة الضوء الحقيقى على سطوح المهيات آنا، لفنت الاشياء فهو تعالى ابدا فى الافاضة والخلق والابداء، فيداه بمعانيهما التى عرفت مبسوطتان بالانفاق وكيفية انفاقه منوطة بمشيته فمن قال قد فرغ من الامر جهل الامر وكذب على الله ولعن من باب معرفته وغلت يداه العلمى والعملى الى عنقه.
هذا فى العالم الكبير وكل ما فى العالم الكبير فهو بعينه فى العالم الصغير من غير تفاوت الا بالكبر والصغر ما دام الصغير صغيرا فالنفس الامارة كالعالم السفلى واللوامة وبدنه كعالم العناصر والمطمئنة كالسموات والقلب كالانسان واقع بين السفلى والعلوى والروح والعقل كعالم الارواح؛ قلب المؤمن بين اصبعى الرحمن، اشارة الى السفل والعلو كاليدين فى الكبير ولكونه صغيرا عبر عنهما بالاصبعين { وليزيدن كثيرا منهم مآ أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا } اللام موطئة ويزيدن جواب القسم، والسر فيه انهم لما تمكنوا فى الكفر فكلما قرع الحق سمعهم ازدادوا تنفرا واشمئزازا منك ومن الحق لعدم السنخية فازدادوا حنقا وكفرا { وألقينا بينهم العداوة } فى القلوب { والبغضآء } فى الافعال لان ما به الاتفاق والمحبة هو الايمان والتوجه الى عالم الوفاق والوداد وهم بريئون منه { إلى يوم القيامة كلمآ أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله } لعدم وفاقهم فأجسادهم عظيمة مجتمعة وقلوبهم ضعيفة شتى { ويسعون في الأرض فسادا } مفعول مطلق من غير لفظ الفعل ان كان السعاية بمعنى الافساد والا فمفعول له، وافسادهم فى ارض عالمهم الصغير بترك اصلاح اهله وصدهم عن طريق القلب وفى الكبير بصد اهله عن طريق الايمان قيل: بافسادهم سلط الله عليهم بخت نصر فاستأصلهم ثم فطرس الرومى ثم المجوس ثم المسلمين { والله لا يحب المفسدين } فلا قدر لهم عنده.
[5.65]
{ ولو أن أهل الكتاب آمنوا } بنبيهم وكتابهم { واتقوا } مخالفة كتابهم ومخالفة ما فيه من الاحكام ومن وصف محمد (ص) حتى يؤمنوا به وهذا وان كان لاهل الكتاب من اليهود والنصارى لكن التعريض باهل الكتاب من امة محمد (ص) { لكفرنا عنهم سيئاتهم } التى لزمت نفوسهم حاصلة من افعال جوارحهم والتى صارت سببا لافعال جوارحهم { ولأدخلناهم جنات النعيم } لان الايمان يعد لدخول الجنة والتقوى لازالة السيئات.
[5.66]
{ ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل } يعنى لو ان امة محمد (ص) اقاموا القرآن لانه تعريض بهم والمعرض به والمقصود فى الكلام، واقامة الكتاب بالايتمار بأوامره والانتهاء بنواهيه وحفظ ما نزل فيه { ومآ أنزل إليهم من ربهم } قد فسر فى الخبر بالولاية مناسبا للتعريض واما بالنسبة الى المعرض عنهم فالمراد سائر ما وصل اليهم من انبيائهم (ع) الآخرين او ما وصاهم انبياؤهم او اوصياؤهم من المحافظة على الكتابين وحدودهما { لأكلوا من فوقهم } من الارزاق السماوية الاخروية الروحية { ومن تحت أرجلهم } من الارزاق الارضية الدنيوية البدنية، او المراد بكليهما اكل الروح فان المؤمن بالبيعة الولوية وقبول الولاية يفتح له باب القلب، فاذا انفتح باب القلب فكلما حصل له من الارزاق النباتية والعلوم الحسية والكسبية التى هى من السفل وكذا العلوم الحاصلة له بمحض الافاضة الآلهية المسماة بالعلوم اللدنية تكون غذاء روحه لا غذاء نفسه وشيطانه، لما مر سابقا ان اسماء الاشياء اسماء لفعلياتها الاخيرة، ومن اقام التوارة والانجيل اقر بمحمد (ص) ومن اقر بمحمد (ص) اقر بالولاية ومن اقر بالولاية صار فعليته الاخيرة فعلية الولاية، ومن صار فعليته الاخيرة فعلية الولاية صار جميع ما حصل له من العلوم والاعمال غذاء لفعلية الولاية { منهم أمة مقتصدة } خارجة عن تفريط اليهود وافراط النصارى وداخلة فى الطريق المقتصد المحمدى (ص) { وكثير منهم سآء ما يعملون } لخروجهم عن الاقتصار الى احد طرفيه.
[5.67]
{ يأيها الرسول بلغ مآ أنزل إليك من ربك } عنهم (ع) كان هناك: فى على؛ فأسقطوه { وإن لم تفعل } خوفا من افتتان امتك وفتنتك بهم { فما بلغت رسالته } لان الولاية غاية الرسالة فان لم تحصل كانت الرسالة كأن لم تحصل { والله يعصمك من الناس } فلا يكن خوف فتنتك منهم مانعا من التبليغ { إن الله لا يهدي القوم الكافرين } الى مرادهم من السوء بك يعنى لا يخلى بينهم وبين مرادهم. هذه الآية وآية { اليوم أكملت لكم دينكم } قد روى من طريق الخاصة بطرق كثيرة انهما فى ولاية على (ع) ونزولهما كان فى حجة الوداع قبل منصرفه (ص) او بعده (ص) الى غدير خم، وهذه السورة بتمام آيها آخر ما نزلت ولم ينزل بعدها شيء من القرآن، والخطب التى خطب النبى (ص) بها فى مكة ومسجد الخيف وغدير خم مذكورة من طريقهم فى المفصلات من التفاسير وغيرها، ومتأخرو مفسرى العامة اكتفوا فى تفسير هذه الآية بظاهر اللفظ وفسروها هكذا يا ايها الرسول بلغ جميع ما انزل اليك من ربك وان لم تفعل اى تبليغ الجميع فما بلغت شيئا من رسالته على قراءة رسالته بالافراد او ما بلغت جميع رسالاته على قراءة رسالاته بالجمع، ونزول الآية لو كان فى اول التبليغ كان لهذا التفسير وجه، ولما كان نزول الآية فى آخر التبليغ كما عليه الشيعة او بعد الهجرة كما عليه الكل لم يكن لهذا التفسير موقع، لانه قبل نزول الآية كان قد بلغ اكثر التكاليف وبقى بعضها فان كان الباقى مثل ما بلغ سابقا من احكام القالب لم يكن يخاف من التبليغ ولا يتأمل فيه حتى يصير معاتبا بتركه، لانه كان قد بلغ اكثر الاحكام حين الانغمار وغلبة المشركين ولم يخف منهم فكيف يخاف حين ظهور سلطانه وقبول احكامه، فينبغى ان يكون خوفه من امته وافتتان اتباعه ولا يكون الا اذا كان الامر المأمور هو بتبليغه امرا عظيما ثقيلا على اسماع الامة، حتى يخاف (ص) من عدم قبولهم وارتدادهم ويخاف على نفسه ايضا من الاذى والقتل، ويتأمل فى التبليغ ويتردد فيه فيصح من الله مجيء العزيمة والامر البتى فيه والعتاب والتهديد على تركه ووعد العصمة من الناس فى تبليغه، ومن انصف من نفسه علم ان هذا الامر لا يكون من جنس الصوم والصلوة ولا الحج والزكوة ولا الخمس والجهاد ولا سائر العقود والمعاملات بل امرا خارجا من جنس تلك الاحكام ولا يتصور الا ان يكون ذلك الامر نصب شخص للامارة عليهم بعده وادخالهم تحت حكمه مع كونه مبغوضا لهم، وما ادعى هذا لاحد الا لعلى (ع) وقد قال (ص) باتفاق الفريقين:
" من كنت مولاه فعلى مولاه "
، وتأويلهم هذا بالمحب كما أولوه بعيد عن الانصاف غاية البعد، وكلامنا مع المنصف لامع المتعصب المنحرف فانه لا كلام لنا معه ولا كتاب والله المتفضل بالتوفيق والصواب. هذا مع قطع النظر عما ثبت وورد بطريق الخاصة والعامة فى حقه (ع) مما يدل على استحقاقه (ع) خلافة النبى (ص) دون غيره من كونه لم يشرك بالله طرفة عين ولم يعبد وثنا بخلاف غيره ومن دعاء الرسول (ص) له الى الاسلام وتكليفه (ص) البيعة معه واجابته (ع) له (ص) حين كونه (ع) ابن تسع سنين، فانه ان كان فى ذلك الزمان مستعدا لتعلق التكليف به ومستحقا لدعوة الرسول وقابلا للتوبة على يده والبيعة معه، كفى به شرفا لانه لا خلاف فى انه اول من بايع الرسول (ص) وانه كان حين بايع ابن تسع سنين، وان لم يكن اهلا للدعوة والبيعة ومع ذلك دعاه محمد (ص) وبايعه كان مرتكبا للغو وهو بحكمته الكاملة اجل من ان يفعل اللغو. ومن مبيته على فراش الرسول (ص) وفداءه بنفسه ليلة المبيت، ومن استخلافه له بمكة فى اهله، وفى رد امانات الناس، ومن حمله الفواطم ومنهن فاطمة بنت رسول الله (ص) بعده الى المدينة، ومن كونه بمنزلة نفسه (ص) كما سبق فى آية المباهلة، ونقلنا هناك اتفاق الخاصة والعامة على انه لم يكن معه (ص) حين الخروج الى المباهلة احد من الصحابة سوى الحسنين وفاطمة وعلى (ع) ونقلنا هناك عن بعض مفسريهم ورواتهم انه قال: لم يكن معه غير هؤلاء، وهو يدل على انه لم يكن اعز عليه من هؤلاء؛ والفضل ما شهدت به الاعداء. ومن كونه قتال ابطال العرب لحماية الدين ولطاعة سيد المرسلين (ص) وكفى به فضلا وشرفا، حيث بذل نفسه واهلك انانيته لامر ربه واقدم على ما لم يقدم عليه أحد من اقرانه الذين ارادوا بالدين وبالبيعة مع سيد المرسلين (ص) ابقاء انانياتهم وجذب الخير لانفسهم، ومن قوله (ص) فى حقه (ع)
" لاعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله "
، ومن قوله (ص):
" انى تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتى اهل بيتى وانهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض "
، ولم يدع احد من مدعى الخلافة كونه من اهل بيته ومن عترته، ومن قوله (ص): انا مدينة العلم وعلى بابها، ومن كونه اعلم الصحابة وأقضاهم واشجعهم واغزاهم، ومن رجوع الخلفاء اليه فى معضلاتهم وقولهم: قضية ولا باحسن لها، صار مثلا بينهم وقد تيمنت بما ذكرت والا فمناقبه المشهورة المذكورة بين العامة والخاصة قد بلغت من الوضوح مبلغ الشمس فى رابعة النهار غنية عن الوصف والاظهار، ومن الكثرة بحيث ملأت الخافقين لا يمكن احصاؤها مع ان اعداءه كتموها حسدا وبغيا واحباؤه ضنة وخوفا: وقد اغنى ابن ابى الحديد الشيعة عن ذكر مناقبه بما ذكر فى شرحه لنهج البلاغة، وان كان مع اطرائه لم يبلغ قطرة من بحار مناقبه وقد ذكر صريحا وتلويحا مثالبهم فى ضمن اوصافهم، وكان ابن ابى الحديد من مشايخهم وعلمائهم وذكر فى شرح نهج البلاغة ما مضمونه: ان رجلا من اهل البصرة كان يوم الغدير بمشهد على (ع) وسمع من الرفضة رفض الخلفاء وبعض الصحابة وسبهم ومثالبهم، فرجع الى البصرة ودخل على قاضيها وقال للقاضى رأيت العجب فى مشهد على قال: ما رأيت؟ - قال: رأيت الشيعة يسبون الخلفاء، قال القاضى: هذا ما علمهم صاحب القبر، قال: فما لنا نحبه ونحبهم؟! فقام القاضى وخرج من الباب الذى يلى داره وقال: لعن الله الفاعل ابن الفاعلة ان كان يعلم جواب هذى المسئلة، فان كان على باقرارهم علم شيعته سب الخلفاء كان مبغضا لهم فان كنت محبا له فاقتضاء محبته ان تبغض الخلفاء وان كنت محبا لهم فاقتضاء محبتهم ان تبغض عليا فما لك تحبه وتحبهم، فاخرج عن عصبيتك وانظر الى آثار كبار ملتك وخذ من دنياك لآخرتك.
وللتيمن بقوله (ص) فى خلافة خليفته (ع) نذكر شطرا من الخطب التى خطب بها فى حجة الوداع، فنقول: نسب الى ابن عباس والثعلبى وغيرهما من العامة انهم قالوا: ان الله امر نبيه ان ينصب عليا علما للناس ويخبرهم بولايته، فتخوف ان يقولوا حابى ابن عمه وان يشق ذلك على جماعة من اصحابه، فنزلت هذه الآية فأخذ بيده يوم غدير خم وقال:
" من كنت مولاه فعلى مولاه "
، وقرأ الآية، ونسب الى الباقر (ع) انه قال : قد حج رسول الله (ص) من المدينة وقد بلغ جميع الشرائع قومه غير الحج والولاية، فأتاه جبرئيل فقال له يا محمد ان الله عز وجل يقرئك السلام ويقول لك: انى لم اقبض نبيا من انبيائى ولا رسولا من رسلى الا بعد اكمال دينى وتأكيد حجتى، وقد بقى عليك من ذلك فريضتان مما يحتاج ان تبلغهما قومك فريضة الحج وفريضة الولاية والخلافة من بعدك، فانى لم اخل ارضى من حجتى ولن اخليها ابدا، فان الله يأمرك ان تبلغ قومك الحج، تحج ويحج معك كل من استطاع اليه سبيلا من اهل الحضر والاطراف والاعراب وتعلمهم من حجتهم مثل ما علمتهم من صلوتهم وزكوتهم وصيامهم، وتوقفهم من ذلك على مثال الذى اوقفتهم عليه من جميع ما بلغتهم من الشرائع، فنادى منادى رسول الله (ص) فى الناس الا ان رسول الله (ص) يريد الحج وان يعلمكم من ذلك مثل الذى علمكم من شرائع دينكم ويوقفكم من ذلك على ما اوقفكم عليه من غيره، فخرج رسول الله (ص) وخرج معه الناس واصغوا اليه لينظروا ما يصنع فيصنعوا مثله، فحج بهم وبلغ من حج مع رسول الله (ص) من اهل المدنية واهل الاطراف والاعراب سبيعن الف انسان او يزيدون، على نحو عدد اصحاب موسى (ع) سبعين الفا الذين اخذ عليهم بيعة هارون (ع) فنكثوا واتبعوا العجل والسامرى، وكذلك رسول الله (ص) اخذ البيعة لعلى بن أبى طالب (ع) بالخلافة على عدد اصحاب موسى (ع) فنكثوا البيعة واتبعوا العجل سنة بسنة ومثلا بمثل، واتصلت التلبية ما بين مكة والمدينة فلما وقف بالموقف اتاه جبرئيل عن الله تعالى فقال: يا محمد، ان الله تعالى يقرئك السلام ويقول لك: انه قد دنا اجلك ومدتك، وانا مستقدمك على ما لا بد منه ولا عنه محيص فاعهد عهدك وقدم وصيتك واعمد الى ما عندك من العلم وميراث علوم الانبياء من قبلك، والسلاح والتابوت وجميع ما عندك من آيات الانبياء، فسلمها الى وصيك وخليفتك من بعدك حجتى البالغة على خلقى على بن أبى طالب، فأقمه للناس علما وجدد عهده وميثاقه وبيعته وذكرهم ما اخذت عليهم من بيعتى وميثاقى الذى واثقتهم به وعهدى الذى عهدت اليهم من ولاية وليى ومولاهم ومولى كل مؤمن ومؤمنة على بن أبى طالب.
فانى لم اقبض نبيا من الانبياء الا من بعد اكمال دنيى واتمام نعمتى بولاية اوليائى ومعاداة اعدائى، وذلك كمال توحيدى ودينى واتمام نعمتى على خلقى باتباع وليى وطاعته، وذلك انى لا أترك ارضى بغير قيم ليكون حجة لى على خلقى، فاليوم اكلمت لكم دينكم (الآية) بولاية وليى ومولى كل مؤمن ومؤمنة على عبدى ووصى نبيى والخليفة من بعده وحجتى البالغة على خلقى مقرون طاعته بطاعة محمد نبيى ومقرون طاعته مع طاعة محمد بطاعتى، من أطاعه فقد اطاعنى ومن عصاه فقد عصانى، جعلته علما بينى وبين خلقى من عرفة كان مؤمنا ومن انكره كان كافرا، ومن أشرك ببيعته كان مشركا، ومن لقينى بولايته دخل الجنة، ومن لقينى بعداوته دخل النار؛ فأقم يا محمد عليا علما وخذ عليهم البيعة وجدد عليهم عهدى وميثاقى لهم الذى واثقتهم عليه، فانى قابضك الى ومستقدمك على. فخشى رسول الله (ص) قومه واهل النفاق والشقاق ان يتفرقوا ويرجعوا جاهلية لما عرف من عداوتهم، ولما ينطوى عليه انفسهم لعلى من البغضة، وسأل جبرئيل، ان يسأل ربه العصمة من الناس وانتظر ان يأتيه (ص) جبرئيل بالعصمة من الناس من الله جل اسمه فأخر ذلك الى ان بلغ مسجد الخيف، فأتاه جبرئيل فى مسجد الخيف فأمره ان يعهد عهده ويقيم عليا (ع) للناس ولم يأته بالعصمة من الله جل جلاله الذى اراد، حتى اتى كراع الغميم بين مكة والمدينة فأتاه جبرئيل وأمره بالذى اتاه من قبل ولم يأته بالعصمة، فقال (ص): يا جبرئيل انى اخشى قومى ان يكذبونى ولا يقبلوا قولى فى على، فرحل فلما بلغ غدير خم قبل الجحفة بثلاثة اميال اتاه جبرئيل على خمس ساعات مضت من النهار بالزجر والانتهار والعصمة من الناس، يا محمد، ان الله تعالى يقرئك السلام ويقول لك: (يا ايها الرسول بلغ ما انزل اليك من ربك في علي وان لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس)، وكان اوائلهم قربت من الجحفة فأمره بان يرد من تقدم منهم ويحبس من تأخر عنهم فى ذلك المكان ليقيم عليا للناس ويبلغهم ما انزل الله تعالى فى على وأخبره بان الله عز وجل قد عصمه من الناس، فأمر رسول الله عند ما جاءته العصمة مناديا ينادى فى الناس بالصلوة جامعة، ويرد من تقدم منهم ويحبس من تأخر فتنحى عن يمين الطريق الى جنب مسجد الغدير امره بذلك جبرئيل عن الله عز وجل، وفى الموضع سلمان فأمر رسول الله (ص) ان يقم ما تحتهن وينصب له احجار كهيئة المنبر ليشرف على الناس، فتراجع الناس واحتبس اواخرهم فى ذلك المكان لا يزالون فقام رسول الله (ص) فوق تلك الاحجار، ثم حمد الله تعالى وأثنى عليه بما أثنى (الى أن قال) واومن به وبملائكته وكتبه ورسله، اسمع أمره وأطيع وابادر الى كل ما يرضاه واستسلم لقضائه رغبة فى طاعته وخوفا من عقوبته، اقر له على نفسى بالعبودية واشهد له بالربوبية وأودى ما أوحى الى حذرا من ان لا افعل فتحل بى منه قارعة لا يدفعها عنى احد وان عظمت حيلته، لا آله الا هو لانه قد أعلمنى انى ان لم ابلغ ما أنزل الى فما بلغت رسالته، فقد ضمن لى تبارك وتعالى العصمة وهو الله الكافى الكريم، فأوحى الى بسم الله الرحمن الرحيم { يأيها الرسول بلغ مآ أنزل إليك من ربك } فى على وان لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس؛ معاشر الناس، ما قصرت فى تبليغ ما انزله وانا مبين لكم سبب هذه الآية ان جبرئيل هبط الى مرارا ثلاثا يأمرنى عن السلام وربى وهو السلام ان اقوم فى هذا المشهد، فأعلم كل أبيض وأسود ان على بن أبي طالب اخى ووصيى وخليفتى والامام من بعدى الذى محله منى محل هارون من موسى الا انه لا نبى بعدى وهو وليكم بعد الله ورسوله وقد أنزل الله تعالى على بذلك آية من كتابه انما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلوة ويؤتون الزكوة وهم راكعون، وعلى بن أبى طالب أقام الصلوة وآتى الزكوة وهو راكع يريد الله عز وجل فى كل حال وسألت جبرئيل ان يستعفينى عن تبليغ ذلك اليكم ايها الناس، لعلمى بقلة المتقين وكثرة المنافقين وادغال الآثمين وحيل المستهزئين بالاسلام، الذين وصفهم الله فى كتابه، بأنهم يقولون بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم ويحسبونه هينا هو عند الله عظيم، وكثرة اذاهم لى غير مرة حتى سمونى اذنا وزعموا انى كذلك لكثرة ملازمته اياى واقبالى عليه، حتى انزل الله عز وجل فى ذلك:
ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن
[التوبة: 61] قل اذن على الذين يزعمون أنه اذن خير لكم (الآية) ولو شئت ان اسمى بأسمائهم لسميت وان اومى اليهم بأعيانهم لا ومأت وان ادل عليهم لدللت، ولكنى والله فى امورهم قد تكرمت وكل ذلك لا يرضى الله منى الا ان ابلغ ما انزل الى ثم تلا: { يأيها الرسول بلغ مآ أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس } ، فاعلموا، معاشر الناس، ان الله قد نصبه لكم وليا واماما مفترضا طاعته على المهاجرين والانصار وعلى التابعين لهم باحسان وعلى البادى والحاضر وعلى الاعجمى والعربى والحر والمملوك والصغير والكبير وعلى الابيض والاسود وعلى كل موجود ماض حكمه جائز قوله نافذ امره، ملعون من خالفه مرحوم من تبعه، ومن صدقه فقد غفر الله له ولمن سمع منه واطاع له، معاشر الناس أنه آخر مقام اقومه فى هذا المشهد، فاسمعوا واطيعوا وانقادوا لامر ربكم، فان الله عز وجل هو ربكم ووليكم وآلهكم، ثم من دونه رسوله محمد وليكم القائم المخاطب لكم، ثم من بعدى علي وليكم وامامكم بأمر الله ربكم، ثم الامامة فى ذريتى من ولده الى يوم القيامة يوم يلقون الله ورسوله، لا حلال الا ما أحله الله ولا حرام الا ما حرمه الله، عرفنى الحلال والحرام وانا افضيت بما علمنى ربى من كتابه وحلاله وحرامه اليه. معاشر الناس، ما من علم الا وقد أحصاه الله فى وكل علم علمته فقد أحصيته فى على امام المتقين ما من علم الا وقد علمته وهو الامام المبين، معاشر الناس، لا تضلوا عنه ولا تنفروا منه ولا تستنكفوا من ولايته فهو الذى يهدى الى الحق ويعمل به ويزهق الباطل وينهى عنه ولا تأخذه فى الله لومة لائم، انه اول من آمن بالله ورسوله، والذى فدى رسول الله بنفسه، والذى كان مع رسول الله ولا احد يعبد الله مع رسوله من الرجال غيره، معاشر الناس، فضلوه فقد فضله الله واقبلوه فقد نصبه الله، معاشر الناس، انه امام من الله ولن يتوب الله على احد انكر ولايته ولن يغفر الله له حتما على الله ان يفعل ذلك بمن خالف أمره فيه وان يعذبه عذابا نكرا ابد الاباد ودهر الدهور، فاحذروا ان تخالفوه فتصلوا نارا وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين، ايها الناس، بى والله بشر الاولون من النبيين والمرسلين وانا خاتم الانبياء والمرسلين والحجة على جميع - المخلوقين من اهل السماوات والارضين، فمن شك فى ذلك فهو كافر كفر الجاهلية الاولى ومن شك فى شيء من قولى هذا فقد شك فى الكل منه والشاك فى الكل فله النار، معاشر الناس، حبانى الله بهذه الفضيلة منا منه على واحسانا منه الى، ولا اله الا هو له الحمد منى ابد الآبدين ودهر الداهرين على كل حال، معاشر الناس، فضلوا عليا فانه افضل الناس بعدى من ذكر وأنثى، بنا انزل الله الرزق وبقى الخلق، ملعون معلون مغضوب مغضوب من رد قولى هذا وان لم يوافقه، الا ان جبرئيل خبرنى عن الله تعالى بذلك ويقول: من عادى عليا ولم يتوله فعليه لعنتى وغضبى، فلتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله ان تخالفوه فتزل قدم بعد ثبوتها ان الله خبير بما تعملون، معاشر الناس، انه جنب الله نزل فى كتابه:
يحسرتا على ما فرطت في جنب الله
[الزمر :56] معاشر الناس، تدبروا القرآن وافهموا آياته وانظروا الى محكماته ولا تتبعوا متشابهه فوالله لن يبين لكم زواجره ولا يوضح لكم تفسيره الا الذى انا آخذ بيده ومصعده الى وشائل بعضده، ومعلمكم ان من كنت مولاه فهذا على مولاه وهو على بن أبى طالب، اخى ووصيى، وموالاته من الله عز وجل انزلها على، معاشر الناس، ان عليا والطيبين من ولدى هم الثقل الاصغر والقرآن هو الثقل الاكبر فكل واحد منبئ عن صاحبه وموافق له لن يفترقا حتى يردا على الحوض، امناء الله فى خلقه وحكامه فى ارضه الا وقد اديت، الا وقد بلغت، الا وقد أسمعت، الا وقد أوضحت، الا وان الله عز وجل قال وانا قلته عن الله عز وجل، الا انه ليس امير المؤمنين غير اخى هذا ولا تحل امرة المؤمنين بعدى لأحد غيره. ثم ضرب بيده الى عضده فرفعه وكان منذ اول ما صعد رسول الله شال عليا حتى صار رجله مع ركبة رسول الله ثم قال: معاشر الناس، هذا على اخى ووصيى وواعى علمى وخليفتى على امتى وعلى تفسير كتاب الله والداعى اليه، والعامل بما يرضيه، والمحارب لاعدائه، والموالى على طاعته والناهى عن معصيته خليفة رسول الله وامير المؤمنين والامام الهادى وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، بأمر الله اقول ما يبدل القول لدى، بأمر الله ربى اقول: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، والعن من أنكره واغضب على من جحد حقه، اللهم انك انزلت على ان الامامة لعلى وليك عند تبيانى ذلك ونصبى اياه، بما اكملت لعبادك من دينهم واتمم عليهم نعمتك ورضيت لهم الاسلام دينا. فقلت:
ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين
[آل عمران:85] اللهم انى اشهدك انى قد بلغت، معاشر الناس، انما الله عز وجل أكمل دينكم بامامته فمن لم يأتم به وبمن يقوم مقامه من ولدى من صلبه الى يوم القيامة، والعرض على الله عز وجل فاولئك الذين حبطت اعمالهم وفى النار هم خالدون لا يخفف الله عنهم العذاب ولا هم ينظرون، معاشر الناس، هذا على انصركم لى، واحقكم بى، وأقربكم الى وأعزكم على والله عز وجل وانا عنه راضيان وما نزلت آية رضى الا فيه، وما خاطب الله الذين آمنوا الا بدء به، ولا نزلت آية مدح فى القرآن الا فيه، ولا شهد الله بالجنة فى
هل أتى على الإنسان
[الإنسان:1] الا وله ولا انزلها فى سواه ولا مدح بها غيره، معاشر الناس، هو ناصر دين الله، والمجادل عن رسول الله، والتقى النقى الهادى المهدى نبيكم خير نبى ووصيكم خير وصى، وبنوه خير الاوصياء، معاشر الناس، ذرية كل نبي من صلبه وذريتى من صل على، معاشر الناس، ان ابليس أخرج آدم من الجنة بالحسد فلا تحسدوه فتحبط اعمالكم وتزل اقدامكم؛ فان آدم اهبط الى الارض بخطيئة واحدة وهو صفوة الله عز وجل فكيف بكم وأنتم أنتم ومنكم أعداء الله، الا انه لا يبغض عليا الا شقى ولا يتولى عليا الا تقى ولا يؤمن به الا مؤمن مخلص، وفى على والله انزل سورة العصر بسم الله الرحمن الرحيم
والعصر
[العصر:1] الى آخره، معاشر الناس قد استشهدت الله وبلغتكم رسالتى { وما على الرسول إلا البلاغ المبين } ، معاشر الناس، اتقوا الله حق تقاته فلا تموتن الا وانتم مسلمون، معاشر الناس، آمنوا بالله ورسوله والنور الذى انزل معه من قبل ان نطمس وجوها فنردها على ادبارها، معاشر الناس، النور من الله عز وجل فى، ثم مسلوك فى على، ثم فى النسل منه الى القائم المهدى يأخذ بحق الله وبكل حق، هو لنا لان الله عز وجل قد جعلنا حجة على المقصرين والمعاندين والمخالفين والخائبين والآثمين والظالمين من جميع العالمين. معاشر الناس، انى انذركم انى رسول الله اليكم قد خلت من قبلى الرسول افان مت او قتلت انقلبتم على أعقابكم
ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين
[آل عمران:144]، الا وان عليا الموصوف بالصبر والشكر ثم من بعده ولدى من صلبه، معاشر الناس، لا تمنو على الله اسلامكم فيسخط عليكم ويصيبكم بعذاب من عنده انه لبالمرصاد، معاشر الناس، سيكون من بعدى ائمة يدعون الى النار ويوم القيامة لا ينصرون، معاشر الناس، ان الله وانا بريئان منهم، معاشر الناس، انهم واشياعهم واتباعهم وانصارهم فى الدرك الاسفل من النار ولبئس مثوى المتكبرين، الا انهم اصحاب الصحيفة فينظر أحدكم فى صحيفته (قال: فذهب على الناس الا شرذمة امر الصحيفة) معاشر الناس، انى ادعها امامة ووراثة فى عقبى الى يوم القيامة، وقد بلغت ما أمرت بتبليغه حجة على كل حاضر وغائب وعلى كل احد ممن شهد او لم يشهد ولد او لم يولد، فليبلغ الحاضر الغائب والوالد والولد الى يوم القيامة وسيجعلونها ملكا اغتصابا، الا لعن الله الغاصبين والمغتصبين وعندها
سنفرغ لكم أيه الثقلان
[الرحمن:31]
يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران
[الرحمن:35]، معاشر الناس، ان الله عز وجل لم يكن يذركم على ما انتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب، معاشر الناس، انه ما من قرية الا والله مهلكها بتكذيبها وكذلك يهلك القرى وهى ظالمة كما ذكر الله تعالى، وهذا امامكم ووليكم وهو مواعيد الله والله يصدق ما وعده، معاشر الناس، قد ضل قبلكم اكثر الاولين والله لقد اهلك الاولين وهو مهلك الآخرين، معاشر الناس، ان الله قد أمرنى ونهانى وقد أمرت عليا ونهيته فعلم الامر والنهى من ربه عز وجل فاسمعوا لأمره تسلموا، وأطيعوه تهتدوا، وانتهوا لنهيه ترشدوا، وصيروا الى مراده ولا يتفرق بكم السبيل عن سبيله، انا صراط الله المستقيم الذى امركم باتباعه ثم على من بعدى ثم ولدى من صلبه ائمة يهدون بالحق وبه يعدلون. ثم قرأ (ص) الحمد لله رب العالمين (الى آخرها) وقال، فى نزلت وفيهم نزلت ولهم عمت واياهم خصت، اولئك
أوليآء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
[يونس:62]
ألا إن حزب الله هم المفلحون
[المجادلة:22]، الا ان اعداء على هم اهل الشقاق العادون، واخوان الشياطين الذين يوحى بعضهم الى بعض زخرف القول غرورا، الا ان اولياء الله هم المؤمنون الذين ذكرهم الله فى كتابه فقال عز وجل:
لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوآدون من حآد الله ورسوله
[المجادلة:22] (الى آخر الآية) الا ان اولياء الله هم الذين وصفهم الله عز وجل فقال:
الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون
[الأنعام:82]، الا ان اولياء الله هم الذين يدخلون الجنة آمنين وتتلقاهم الملائكة بالتسليم ان طبتم فادخلوها خالدين، الا ان اولياء الله هم الذين قال الله عز وجل
يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب
[غافر:40] الا ان اعداءهم الذين يصلون سعيرا، الا ان اعداءهم الذين يسمعون لجهنم شهيقا وهى تفور ولها زفير
كلما دخلت أمة لعنت أختها
[الأعراف:138] (الآية)، الا ان اعداءهم الذين قال الله عز وجل
كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتهآ ألم يأتكم
[الملك:8] (الآية)، الا ان اولياء الله هم الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة واجر كبير، معاشر الناس، شتان ما بين السعير والجنة، عدونا من ذمه الله ولعنه وولينا من أحبه الله ومدحه، الا وانى منذر وعلى هاد، معاشر الناس، انى نبى وعلى وصيى الا وان خاتم الائمة منا القائم المهدى، الا انه الظاهر على الدين، الا انه المنتقم من الظالمين، الا انه فاتح الحصون وهادمها، الا انه قاتل كل قبيلة من اهل الشرك، الا انه مدرك كل ثأر لاولياء الله عز وجل، الا انه ناصر دين الله عز وجل، الا انه الغراف من بحر عميق، الا انه يسم كل ذى فضل بفضله وكل ذى جهل بجهله، الا انه خيرة الله ومختاره، الا انه وارث كل علم والمحيط به، الا انه المخبر عن ربه عز وجل المنبه بأمر ايمانه، الا انه الرشيد السديد، الا انه المفوض اليه، الا انه قد بشر به من سلف بين يديه، الا انه الباقى حجة ولا حجة بعده ولا حق الا معه ولا نور الا عنده، الا انه لا غالب له ولا منصور عليه، الا انه ولى الله فى ارضه، وحكمه فى خلقه، وامينه فى سره وعلانيته، معاشر الناس، قد بينت لكم وأفهمتكم وهذا على يفهمكم بعدى، الا وان عند انقضاء خطبتى ادعوكم الى مصافقتى على بيعته والاقرار به ثم مصافقته من بعدى، الا وانى قد بايعت الله وعلى قد بايعنى وانا آخذكم بالبيعة له عن الله عز وجل، ومن نكث فانما ينكث على نفسه (الآية).
معاشر الناس، ان الحج والصفا والمروة والعمرة من شعائر الله فمن حج البيت او اعتمر (الآية)، معاشر الناس، حجوا البيت فما ورده اهل بيت الا استغنوا ولا تخلفوا عنه الا افتقروا، معاشر الناس، ما وقف بالموقف مؤمن الا غفر الله له ما سلف من ذنبه الى وقته ذلك، فاذا انقضت حجته استأنف عمله، معاشر الناس، الحجاج معانون ونفقاتهم مخلفة والله لا يضيع اجر المحسنين، معاشر الناس، حجوا البيت بكمال الدين والتفقه ولا تنصرفوا عن المشاهد الا بتوبة واقلاع، معاشر الناس، اقيموا الصلوة وآتوا الزكوة كما أمركم الله عز وجل لئن طال عليكم الامد فقصرتم او نيستم فعلى وليكم ومبين لكم، الذى نصبه الله عز وجل بعدى من خلفه الله منى ومنه يخبركم بما تسألون منه ويبين لكم ما لا تعلمون، الا ان الحلال والحرام اكثر من أحصيهما واعرفهما، فآمر بالحلال وأنهى عن الحرام فى مقام واحد فأمرت ان أخذ البيعة عليكم والصفقة لكم بقبول ما جئت به عن الله عز وجل فى على امير المؤمنين، والائمة من بعده الذين هم منى ومنه امة قائمة ومنه امة قائمة ومنهم المهدى الى يوم القيامة الذى يقضى بالحق، معاشر الناس، وكل حلال دللتكم عليه وكل حرام نهيتكم عنه فانى لم ارجع عن ذلك ولم - ابدل، الا فاذكروا ذلك واحفظوه وتواصوا به ولا تبدلوه ولا تغيروه، الا وانى اجدد القول، الا فأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة وامروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، الا وان رأس الامر بالمعروف ان تنتهوا الى قولى وتبلغوه من لم يحضره وتأمروه بقبوله وتنهوه عن مخالفته فانه امر من الله عز وجل ومنى، ولا امر بمعروف ولا نهى عن منكر الا مع امام، معاشر الناس، القرآن يعرفكم ان الائمة من بعده ولده وعرفتكم انهم منى ومنه حيث يقول الله
وجعلها كلمة باقية في عقبه
[الزخرف:28] وقلت: لن تضلوا ما ان تمسكتم بهما، معاشر الناس، والتقوى التقوى احذروا الساعة كما قال الله تعالى،
إن زلزلة الساعة شيء عظيم
[الحج:1]، اذكروا الممات والحساب والموازين والمحاسبة بين يدى رب العالمين، والثواب والعقاب فمن جاء بالحسنة اثيب، ومن جاء بالسيئة فليس له فى الجنان نصيب، معاشر الناس، انكم اكثر من ان تصافقونى بكف واحدة وامرنى الله عز وجل ان اخذ من السنتكم الاقرار بما عقدت لعلى من امرة المؤمنين ومن جاء بعده من الائمة منى ومنه على ما أعلمتكم ان دريتى من صلبه فقولوا بأجمعكم انا سامعون مطيعون راضون منقادون لما بلغت عن ربنا وربك فى امر على وامر ولده من صلبه من الائمة نبايعك على ذلك بقلوبنا وأنفسنا وألسنتنا وأيدينا، على ذلك نحيى ونموت ونبعث ولا نغير ولا نبدل ولا نشك ولا نرتاب ولا نرجع عن عهد ولا ننقض الميثاق ونطيع الله ونطيعك وعليا امير المؤمنين وولده الائمة الذين ذكرتهم من ذريتك من صلبه بعد الحسن والحسين، الذين قد عرفتكم مكانهما منى ومحلهما عندى ومنزلتهما من ربى عز وجل، فقد اديت ذلك اليكم وانهما سيدا شباب اهل الجنة وانهما الامامان بعد ابيهما على وانا ابوهما قبله وقولوا اطعنا الله بذلك واياك وعليا والحسن والحسين والائمة الذين ذكرت عهدا وميثاقا مأخوذا لامير المؤمنين من قلوبنا وانفسنا والسنتنا ومصافقة أيدينا من ادركهما واقر بهما بلسانه لا نبتغى بذلك بدلا ولا نرى من انفسنا عنه حولا ابدا، أشهدنا الله وكفى به شهيدا وانت علينا به شهيد، وكل من اطاع ممن ظهرو استتر وملائكة الله وجنوده وعبيده والله اكبر من كل شهيد. معاشر الناس، ما تقولون فان الله يعلم كل صوت وخافية كل نفس فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فانما يضل عليها ومن بايع فانما يبايع الله عز وجل، يد الله فوق ايديهم، معاشر الناس ، فاتقوا الله وبايعوا عليا امير المؤمنين والحسن والحسين والائمة كلمة باقية يهلك الله من غدر ويرحم الله من وفى، ومن نكث فانما ينكث على نفسه، الآية، معاشر الناس، قولوا الذى قلت لكم وسلموا على على بامرة المؤمنين وقولوا
سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير
[البقرة:285] وقولوا: الحمد لله الذى هدانا لهذا وما كنا لنهتدى لولا ان هدانا الله، معاشر الناس، ان فضائل على بن أبى طالب عند الله عز وجل وقد انزلها على فى القرآن اكثر من ان احصيها فى مكان واحد فمن أنبأكم بها وعرفها فصدقوه، معاشر الناس، من يطع الله ورسوله وعليا والائمة الذين ذكرتهم فقد فاز فوزا مبينا، معاشر الناس، السابقون الى مبايعته وموالاته والتسليم عليه بامرة المؤمنين اولئك هم الفائزون فى جنات النعيم، معاشر الناس، قولوا ما يرضى الله به عنكم من القول فان تكفروا انتم ومن فى الارض جيمعا فلن يضر الله شيئا، اللهم اغفر للؤمنين والمؤمنات واغضب على الكافرين والكافرات والحمد لله رب العالمين.
فناداه القوم، نعم سمعنا وأطعنا على أمر الله وأمر رسوله بقلوبنا والسنتنا وأيدينا وتداكوا على رسول الله (ص) وعلى على (ع) وصافقوا بأيديهم فكان اول من صافق رسول الله (ص) الاول والثانى والثالث والرابع والخامس وباقى المهاجرين والانصار وباقى الناس على طبقاتهم وقدر منازلهم الى ان صليت العشاء والعتمة فى وقت واحد، وواصلوا البيعة والمصافقة ثلاثا ورسول الله يقول كلما بايع قوم: الحمد لله الذى فضلنا على جميع العالمين وصارت المصافقة سنة ورسما يستعملها من ليس له حق فيها.
[5.68]
{ قل يأهل الكتاب لستم على شيء } من الدين يعتنى به ويسمى شيئا ام تعريض بالامة او خطاب على سبيل العموم ولاهل الكتاب والمقصود خطاب الامة باقامتهم ما انزل اليهم فى الولاية { حتى تقيموا التوراة والإنجيل } باقامة اوامرهما ونواهيهما { ومآ أنزل إليكم من ربكم } من القرآن باقامة حدوده ومن جملة حدوده الامر بالولاية وهى العمدة، او ما انزل اليكم من ربكم فى الولاية كما فى أخبارنا على وجه التعريض، ويمكن ان يقال : وما أنزل اليكم من ربكم على السنة انبيائكم واوصيائهم من اخذ الميثاق وانتظار الفرج بمحمد (ص) { وليزيدن كثيرا منهم مآ أنزل إليك من ربك } فى على او مطلقا لكن يكون المقصود ما انزل فى الولاية بنحو التعريض { طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين } فانهم لانحرافهم عن باب الولاية لم يبق فيهم ما يتأسف به عليهم ولا يضرونك ولا عليا (ع) ايضا بانحرافهم حتى تتأسف على ذلك.
[5.69]
{ إن الذين آمنوا } بمحمد (ص) بقبول الدعوة الظاهرة وبالبيعة العامة النبوية { والذين هادوا والصابئون } عطف على محل اسم ان على ضعف او على محل ان واسمها { والنصارى من آمن } بقبول الدعوة الباطنة والبيعة مع على (ع) بالبيعة الخاصة الولوية ودخول الايمان فى قلوبهم، فان به فتح باب القلب، وبفتحه رفع الخوف والحزن والايقان باليوم الآخر، وبه يعمل العمل الصالح { بالله واليوم الآخر وعمل صالحا } الاعمال المرتبطة بالايمان الداخل فى القلب الذى هو اصل كل صالح، وغيره بتوسطه يصير صالحا { فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } لان الخوف والحزن من صفات النفس وهؤلاء قد خرجوا من دار النفس ودخلوا فى حدود دار القلب فتبدل خوفهم خشية وحزنهم قبضا، ولا ينافى هذا ما ورد كثيرا من نسبة الخوف والحزن الى المؤمن الخاص فى الآيات والاخبار، لان اطلاق الخوف والحزن على ما للمؤمن الخاص انما هو باعتبار معناهما العام وقد عد الفرح من جنود العقل والحزن من جنود الجهل، وما ورد من ان المؤمن خوفه ورجاءه متساويان ككفتى الميزان فانما يراد بالخوف معناه الاعم، وورد ان المراد نفى الخوف والحزن فى الآخرة.
[5.70]
{ لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل } يعنى كما أخذنا ميثاقكم بولاية على (ع) فاحذروا ان تكونوا مثلهم فتكذبوا فريقا وتقتلوا فريقا كما فعلوا بعلى (ع) والحسن (ع) والحسين (ع) { وأرسلنآ إليهم رسلا كلما جآءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون } الاتيان بالاستقبال لاستحضار الحال الماضية تفضيحا لهم باحضار اشنع أحوالهم وللمحافظة على رؤس الآى.
[5.71]
{ وحسبوا } من تماديهم فى الغفلة والاعراض { ألا تكون فتنة } عذاب وابتلاء من الله بسبب هذا التكذيب والقتل واستصغارا للذنب العظيم { فعموا } عن الاعتبار بمن مضى { وصموا } عن استماع حكاياتهم وعن استماع الحق { ثم تاب الله عليهم } بتوبتهم وقبول نصح الانبياء واوصيائهم { ثم عموا وصموا } كرة اخرى { كثير منهم } بدل بعض من الكل { والله بصير بما يعملون } وقد وقع هذا فى امة محمد (ص) والمقصود بالآية التعريض بهم، فى الكافى عن الصادق (ع) فى بيان وجه التعريض وحسبوا ان لا تكون فتنة قال حيث كان النبى (ص) بين اظهرهم فعموا وصموا حيث قبض رسول الله (ص) ثم تاب الله عليهم حيث قام امير المؤمنين (ع) ثم عموا وصموا الى الساعة، ويمكن بيان التعريض بوجه آخر وهو ان يقال: حسبوا ان لا تكون فتنة حيث تعاهدوا فى مكة فعموا وصموا عن دلائل صدق محمد (ص) ثم تاب الله عليهم حيث بايعوا عليا (ع) بالخلافة ثم عموا وصموا حيث نقضوا بيعته.
[5.72]
{ لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم } حيث قالوا بآلهة عيسى (ع) وحصروها فيه اما بالاتحاد كما هو زعم بعض او بالحلول كما هو زعم بعض، او بالفناء من نفسه والبقاء بالله وظهور الله فيه كما هو زعم آخرين، وبطلان الاتحاد والحلول لمن ذاق من رحيق التوحيد لا يحتاج الى مؤنة فانهما مسلتزمان للاثنينية والثانى للحق تعالى وهو محال وقد قيل:
حلول واتحاد اينجا محال است
كه دروحدت دوئى عين ضلال است
وبطلان الثالث ايضا لا يحتاج الى مؤنة باعتبار الحصر ولما كان أتباع ملة النصارى تفوهوا بهذا القول من غير تحقيق وتعمق وذهبوا الى التجسم المتوهم من ظاهره، حكم تعالى عليهم بالكفر وهذا كما مضى مذهب طائفة منهم تسمى باليعقوبية، ومضى ان محققيهم قالوا بان فيه جوهرا آلهيا وجوهرا آدميا وليس ههنا مقام تفصيل هذا المطلب وتحقيقه { وقال المسيح } الانسب ان يكون الجملة حالا بتقدير قد ليكون ابلغ فى تفضيحهم وليكون احتجاجا عليهم بقوله تعالى { يابني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم } يعنى انى مربوب مثلكم فاعبدوا من هو ربى كما انه ربكم { إنه من يشرك بالله } شيئا كائنا ما كان وهو مقول قول عيسى (ع) او ابتداء كلام من الله { فقد حرم الله عليه الجنة } لانه أخطأ طريقها وهو التوحيد { ومأواه النار } لان من أخطأ طريق الجنة سلك طريق النار لا محالة لعدم الواسطة ولكونه متحركا الى جهة من الجهات وخارجا من القوى الى الفعليات { وما للظالمين من أنصار } وضع المظهر موضع المضمر اشعارا بظلمه وبعلة الحكم فان الظالم كما لا يتصور له ولى يتولى اموره ويربيه كذلك لا يتصور له ناصر ينصره من عذاب الله فان النصير والولى هما النبى (ص) والولى (ع) وخلفاؤهما، والظلم عبارة عن الانصراف والاعراض عنهما وعن التوحيد، والمعرض لا يستحق القبول لانه لا اكراه فى الدين ومن لم يكن مقبولا لم يكن له نصرة ولا ولاية، واكتفى بذكر الانصار لانه اذا لم يكن له ناصر لم يكن له ولى بطريق اولى، او لانه يستعمل كل من النصير والولى فى الاعم منهما اذا انفرد، او هذا كان تعريضا بمن قال بعد ذلك فى الائمة (ع) مثل ما قالوه فى المسيح (ع).
[5.73]
{ لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة } اعلم، ان للنصارى كاليهود وكالمسلمين مذاهب مختلفة فى فروعهم واصولهم، فمنهم من قال بالاقانيم الثلاثة، الاب والابن وروح القدس، والاقنوم بمعنى الاصل وهؤلاء معظم النصارى يقولون: ان الاله ذات واحدة لا كثرة فيه وانه تشأن بشؤن ثلاثة بشأنى الابوة والبنوة وبشأن روح القدس، ولا ينفصم وحدته بتشأنه ويمنعون من القول بان الالهة ثلاثة وبان الله ثالث ثلاثة وقيل بالفارسية.
در سه آئينه شاهد ازلى
برتوا از روى تابناك افكند
سه نكردد بريشم اراو را
برنيان خوانى و حرير وبرند
لكن الاتباع لعدم تجاوزهم عن المحسوسات والكثرات اذا تفوهوا بمثل هذه المقالة لا يدركون منها غير الالهة الثلاثة، وان الله الذى هو اب باعتقادهم واحد من الثلاثة ولا يدركون منها ما يريد منها محققوهم من انه تعالى حقيقة واحدة مقومة لكل ممكن متجلية فى كل مظهر، واختصاص بعض المظاهر بالمظهرية انما هو لشدة ظهوره تعالى فيه، ان عيسى (ع) وروح القدس لما كان كل واحد منهما اتم مظهر له تعالى وكذا ما سمى بالاب سموهم باسم الاقانيم فرد الله تعالى عليهم مقالتهم التى يلزمها التحديد والتشبيه لله تعالى، وما ورد فى الآيات والاخبار من انه تعالى رابع ثلاثة انما هو للاشارة الى قيوميته تعالى لكل الاشياء وظهوره بكل مظهر ودخوله فى كل الاشياء بالممازجة ولا كدخول شيء فى شيء { وما من إله إلا إله واحد } هو الحقيقة الغيبية الظاهرة فى كل المظاهر { وإن لم ينتهوا عما يقولون } حتى يقول الاتباع بتقليد المتبوعين بالالهة الثلاثة فيكفروا من حيث لايعلمون { ليمسن الذين كفروا منهم } اى الذين قالوا ان الله هو المسيح والذين قالوا ان الله ثالث ثلاثة { عذاب أليم } يعنى انهم بقولهم على الله ما لا يجوز فى حقه ما لا يجوز فى حقه ممتازون بالعذاب الاليم، واما رؤساؤهم الذين ما قالوا على الله ما لا يجوز فى حقه ولم يكفروا مثل الاتباع من هذه الجهة فلهم عذاب ايضا بانكارهم نبوة محمد (ص) والقاء كلمة لا يدرك الاتباع المقصود منها.
[5.74]
{ أفلا يتوبون إلى الله } بعد ما علموا ان هذه الكلمة كفر واغواء للغير { ويستغفرونه والله غفور رحيم } حال للتعليل.
[5.75]
{ ما المسيح ابن مريم إلا رسول } لا آله كما قال الفرقة الاولى ولا واحد الالهة كما قال الفرقة الثانية { قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة } صدقت عن الاعوجاج قولا وفعلا وحالا، وصدقت بكلمات ربها وكتبه ورسله والدليل على انهما ليسا آلهين انهما { كانا يأكلان الطعام } فيشتركان معكم فى اخس احوالكم وهو الاحتياج الى الاكل، وهو كناية عن الاحتياج الى التخلى ومن كان محتاجا مبتلى بأخس الاحوال لا يصير آلها فى ارفع المقام { انظر كيف نبين لهم الآيات } يعنى انظر الى بياننا العجيب لآيات القرآن فى بيان حال عيسى (ع) وامه مناسبا لفهمهم وشأنهم بحيث لا يمكن لهم انكاره، أو انظر الى بياننا لآياتنا التى منها عيسى (ع) وامه (ع) بحيث يدركه كل احد ولا يبقى له ريب { ثم انظر أنى يؤفكون } تخليل ثم للتفاوت بين التعجبين يعنى انصرافهم عن الحق فى عيسى (ع) وامه (ع) بعد هذا البيان او بعد ما رأوا منهم وعلموا هذه الحالة الخسيسة اعجب من كل عجيب.
[5.76]
{ قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا } يعنى المسيح (ع) فانه بعد ما علم احتياجه الى اخس الاحوال وعدم مالكيته لدفع ضر تلك الحاجة عن نفسه يعلم انه لم يكن مالكا للضر والنفع لغيره فلم يكن اهلا لان يعبد والمقصود التعريض بالامة فى طاعة من لا يدفع ضرا عن نفسه { والله هو السميع } يعنى والحال ان سماع الحاجات وقضائها منحصر فيه ليس لغيره { العليم } والعلم بمقدار الحاجات وكيفية دفع المضار وجلب المنافع أيضا منحصر فيه.
[5.77]
{ قل يأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق } غلوا غير الحق وهو القول والاعتقاد فى الانبياء (ع) زئدا على مرتبة فهمكم او زائدا على مرتبتهم هذا للمتبوعين { ولا تتبعوا أهوآء قوم قد ضلوا من قبل } اى من قبلكم باستبدادهم فى الرأى من المبتدعين الماضين او الحاضرين وهذا للاتباع المقلدين { وأضلوا كثيرا } باستتباعهم اياهم فى رأيهم { وضلوا عن سوآء السبيل } السبيل المستوى الى طرفى الافراط والتفريط والتكرار باعتبار ان الاول الضلال عن احكام النبوة القالبية والثانى الضلال عن احكام الولاية القلبية وهذا تعريض بالامة فى ضلالهم عن احكام محمد (ص) واقواله وضلالهم عن ولاية على (ع) واتباعه.
[5.78]
{ لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم } استيناف واقع موقع التعليل، فى المجمع عن الباقر (ع): اما داود (ع) فانه لعن اهل ايلة لما اعتدوا فى سبتهم وكان اعتداؤهم فى زمانه فقال: اللهم البسهم اللعنه مثل الرداء على المنكبين ومثل المنطقة على الحقوين فمسخهم الله قردة، واما عيسى (ع) فانه لعن الذين انزلت عليهم المائدة ثم كفروا بعد ذلك فصاروا خنازير { ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } فلا تعصوا انتم ولا تعتدوا واسمعوا يا امة محمد (ص).
[5.79]
{ كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه } يعنى لا ينهى بعضهم بعضا او لا يرعوون وعن على (ع) لما وقع التقصير فى بنى اسرائل جعل الرجل يرى اخاه فى الذنب فينهاه فلا ينتهى فلا يمنعه ذلك من ان يكون اكيله وجليسه وشريبه حتى ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ونزل فيهم القرآن حيث يقول جل وعز: { لعن الذين كفروا } (الآية) وفيه دلالة على ذم المؤانسة مع اهل المعصية { لبئس ما كانوا يفعلون } من عدم نهى بعضهم بعضا قولا وفعلا وقلبا، او من عدم ارعوائهم عن الشر.
[5.80]
{ ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا } اما بيان حال الامة او بيان حال اهل الكتاب والتعريض بالامة والخطاب لمحمد (ص) او عام { لبئس ما قدمت لهم أنفسهم } المخصوص بالذم محذوف اى توليهم { أن سخط الله عليهم } بتقدير اللام او الباء او هو مخصوص { وفي العذاب هم خالدون } بسبب ذلك التولى، عن الباقر (ع) يتولون الملوك الجبارين ويزينون لهم اهواءهم ليصيبوا من دنياهم.
[5.81]
{ ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي } الحاضر اعنى محمدا (ص) على ان يكون بيان حال الامة او نبيهم على ان يكون بيان حال اهل الكتاب لكن الاول اولى لافراده { وما أنزل إليه } يعنى فى على (ع) او مطلقا والمقصود ما انزل فى على (ع) { ما اتخذوهم أوليآء } لمجانبة الايمان للكفر والتولى يقتضى المجانسة { ولكن كثيرا منهم فاسقون } خارجون عن الحق الذى هو الايمان.
[5.82]
{ لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا } لانهم لتوغلهم فى الدنيا وعدم توجههم الى الآخرة بسبب بعد زمان نبيهم واندراس شريعته واستبدال احكامه صارت احوالهم بعيدة عن احوال المؤمنين لتوجههم الى الآخرة وتلبسهم الاحكام الشرعية فلم يبق مجانسة بينهما بوجه من الوجوه، والعداوة ناشئة من عدم المجانسة كما ان المحبة ناشئة من المجانسة { ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا } وضع الظاهر موضع المضمر ليكون تصريحا بان ملاك عداوة اولئك ومحبة هؤلاء هو الايمان لا غير { الذين قالوا إنا نصارى } لم يقل النصارى لان هذا الاسم لاشتقاقه من النصرة يدل على انهم انصار الله ولو كانوا انصار الله لكانوا تابعى محمد (ص) كذا قيل، او لان التنصر يكون بالتدين بدين عيسى (ع) على شرائطها من البيعة مع خلفائه واخذ الميثاق منهم وهؤلاء انتحلوا التنصر كانتحال التشيع لاكثر الشيعة من غير القائلين بالائمة الاثنى عشر، واما اسم اليهود فانه يطلق عليهم لكونهم من نسل يهودا بن يعقوب او من اتباع اولاده الذين فيهم النبوة وان كان اتفق تدينهم بدين موسى (ع) { ذلك بأن منهم قسيسين } العلماء الذين يأمرونهم بأحكام الانجيل من العقائد والاحكام الفرعية { ورهبانا } الزهاد الذين تركوا الدنيا واشتغلوا بالعبادة وتحصيل العقبى، اعلم ان كل شريعة من لدن آدم (ع) كانت مشتملة على السياسات والعبادات القالبية وعلى العبادات والتهذيبات القلبية ولكل منهما كان اهل ورؤساء يبينها لمن اراد التوسل بها واتباع يعمل بها ويسمى رؤساء كل منهما فى كل ملة باسم خاص كالاحبار والرهبان فى ملة النصارى والموبد والهربد فى ملة العجم، والمجتهد والصوفى، او العالم والعارف او العالم والتقى فى ملة الاسلام، والمقصود ان النصارى بواسطة عدم بعد زمان نبيهم وعدم اندراس احكامهم وعدم انقطاع علمائهم الذين يأمرونهم بطلب الآخرة قالا وعدم انقطاع مرتضياتهم الذين يأمرونهم حالا طالبون للآخرة ومجانسون للمؤمنين فهم محبون لهم لمجانستهم { وأنهم لا يستكبرون } عن انقياد الحق.
[5.83]
{ وإذا سمعوا مآ أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق } لانهم كانوا طالبين للحق فاينما وجدوه عرفوه { يقولون } انقيادا للحق { ربنآ آمنا } بما انزل الى الرسول { فاكتبنا مع الشاهدين } بحقيته.
[5.84-85]
ويقولون { ما لنا لا نؤمن بالله } بعد معرفة الحق وطلبه { وما جآءنا من الحق } وقد كنا طالبين له ووجدناه { و } الحال انا { نطمع أن يدخلنا ربنا } جنته او محضره { مع القوم الصالحين فأثابهم الله بما قالوا } بلسان القال والحال او بلسان القال قرينا بالاعتقاد فانه عبادة لسانية وكمال الايمان باقرار اللسان منبئا عن الجنان { جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزآء المحسنين } وقد نقل ان نزول الآية فى النجاشى وبكائه حين قرأ جعفر بن أبى طالب (ع) وقت هجرته الى الحبشة عليه آيا من القرآن.
[5.86]
عطف باعبتار المعنى كأنه قال فالذين آمنوا وصدقوا بآياتنا اولئك اصحاب الجنة والذين كفروا الى آخرها وهو لبيان حال منافقى الامة او للتعريض بهم فان عليا (ع) اعظم الآيات.
[5.87]
{ يأيها الذين آمنوا } بالبيعة الخاصة الولوية على ان يكون النظر الى من نزلت فيه، فانهم كانوا ثلاثة منهم امير المؤمنين (ع) ولا يكون مرافقة على (ع) فى الارتياض الا لمن كان مثله داخلا فى قلبه الايمان سالكا الى الله رفيقا له فى الطريق، او بالبيعة العامة النبوية على ان يكون النظر الى التعميم وان كان النزول خاصا لان النهى عام للمسلمين { لا تحرموا } على انفسكم { طيبات مآ أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } اعلم، ان الانسان ذو مراتب عديدة بعضها فوق بعض الى ما لا نهاية له، والتكاليف الآلهية الورادة عليه ليست لمرتبة خاصة منه بل كما عرفت سابقا للمفاهيم الواردة فى التكاليف مصاديق متعددة بتعدد مراتب الانسان بعضها فوق بعض، فكلما ورد فى الشريعة المطهرة من الالفاظ فهى مقصودة من حيث مفاهيمها العامة باعتبار جميع مصاديقها بحيث لا يشذ عنها مصداق من المصاديق فالانسان بحسب مرتبته النباتية له محللات آلهية، وبحسب مرتبته الحيوانية اخرى، وبحسب الصدر اخرى، وبحسب القلب اخرى، وبحسب الروح اخرى، والتحريم الآلهى فى كل مرتبة بحسبه، وكذا تحريم الانسان على نفسه فالمحللات بحسب مرتبته الحيوانية والنباتية ما اباح الله له من المأكول والمشروب والملبوس والمركوب والمنكوح والمسكن والمنظور، وبحسب الصدر ما اباح الله له من الافعال الارادية والاعمال الشرعية والتدبيرات المعادية والمعاشية والاخلاق الجميلة والمكاشفات الصورية، وبحسب القلب ما اباح الله له من الاعمال القلبية والواردات الآلهية والعلوم اللدنية والمشاهدات المعنوية الكلية، وهكذا فى سائر المراتب، والطيبات من ذلك فى كل مرتبة ما تستلذه المدارك المختصة بتلك المرتبة، ومطلق المباح فى كل مرتبة طيب بالنسبة الى مباح المرتبة الدانية منه، وان الله تعالى يحب ان يؤخذ برخصه كما يحب ان يؤخذ بعزائمه، ولا يحب الشره والاعتداء فى رخصه بحيث يؤدى الى الانتقال الى ما هو حرام محظور باصل الشرع، او بحيث يؤدى الى صيرورة المباح حراما بعرض التجاوز عن حد الترخيص بالاكثار فيه كما لا يحب الامتناع عن رخصه، فمعنى الآية يا ايها الذين آمنوا لا تمتنعوا من الرخص ولا تحرموا بقسم وشبهة ولا بكسل ونحوه على انفسكم ما تستلذه المدارك بحسب كل مرتبة وقوة مما اباحه الله لكم، لان الله يحب ان يرى عبده مستلذا بما اباحه له كما يحب ان يراه مستلذا بعباداته ومناجاته، ولا تمتنعوا بالاكتفاء بمستلذات المرتبة الدانية عن مستلذات المرتبة العالية، فانه يحب ان يرى عبده مصرا على طلب مستلذات المرتبة العالية كما يحب ان يراه فى هذه الحالة معرضا عن مباحات المرتبة الدانية مكتفيا بضرورياتها وراجحاتها، ولا تعتدوا عما اباح الله الى ما حظره او فى المباح الى حد الحظر، والآية اشارة الى التوسط بين التفريط والافراط فى كل الامور من الافعال والطاعات والاخلاق والعقائد والسير الى الله فان المطلوب من السائر الى الله ان يكون واقعا بين افراط الجذب وتفريط السلوك.
[5.88]
{ وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا } فى كل مرتبة { واتقوا الله } فى الاعتداء عن حد الرخصة الى مرتبة الحظر على ان يكون الفقرتان مطابقتين للفقرتين السابقتين او فى الاعتداء وفى تحريم رخصه على ان يكون متعلق التقوى اعم من التحريم والاعتداء { الذي أنتم به مؤمنون } توصيفه تعالى بهذا الوصف للتهييج.
حكاية على (ع) وبلال وعثمان بن مظعون عند قوله كلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا
روى عن الصادق (ع) أن هذه الآية نزلت فى مولانا امير المؤمنين (ع) وبلال وعثمان بن مظعون، فاما امير المؤمنين (ع) فحلف ان لا ينام بالليل، واما بلال فانه حلف ان لا يفطر بالنهار ابدا، ونقل انه حلف ان لا يناجى ربه، واما عثمان بن مظعون فانه حلف ان لا ينكح ابدا، ومضى عليه مدة على ما نقل فدخلت امرأة عثمان على عائشة وكانت امرأة جميلة فقالت عائشة: ما لى اراك متعطلة؟ فقالت: ولم اتزين؟! فوالله ما قربنى زوجى منذ كذا وكذا، فانه قد ترهب ولبس المسوح وزهد فى الدنيا، فلما دخل رسول الله (ص) اخبرته عائشة بذلك، فخرج فنادى الصلوة جماعة فاجتمع الناس فصعد المنبر فحمد الله واثنى عليه ثم قال:
" ما بال اقوام يحرمون على انفسهم الطيبات انى انام بالليل وانكح وافطر بالنهار فمن رغب عن سنتى فليس منى "
، فقام هؤلاء فقالوا: يا رسول الله (ص) فقد حلفنا على ذلك فأنزل الله آيات الحلف الآتية، والاشكال اولا بان امثال هذه المعاتبات ونسبة التحريم والاعتداء والتقوى ولغو الايمان غير مناسبة لمقام على (ع) وثانيا بانه (ع) اما كان عالما بأن تحريم الحلال ان كان بالاستبداد والرأى كان من البدع والضلال، وان كان بالنذر وشبهه كما دل عليه الخبر كان مرجوحا غير مرضى لله تعالى ومع ذلك حرمه على نفسه، او كان جاهلا بذلك، وكلا الوجهين غير لائق بمقامه (ع) منقوض بقوله تعالى فى حق رسوله (ص)
يأيها النبي لم تحرم مآ أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك
[التحريم:1] والجواب الحلى لطالبى الآخرة والسالكين الى الله الذين بايعوا عليا (ع) بالولاية وتابعوه بقدم صدق واستشموا نفحات نشأته حال سلوكه ان يقال: ان السالك الى الله يتم سلوكه باستجماعه بين نشأتى الجذب والسلوك بمعنى توسطه بين تفريط السلوك الصرف وافراط الجذب الصرف، فانه ان كان فى نشأة السلوك فقط جمد طبعه ببرودة السلوك حتى يقف عن السير، وان كان فى نشأة الجذب فقط فنى بحرارة الجذب عن افعاله وصفاته وذاته بحيث لا يبقى منه اثر ولا خبر، وهو وان كان فى روح وراحة لكنه ناقص كمال النقص من حيث ان المطلوب منه حضوره بالعود لدى ربه مع جنوده وخدمه واتباعه وحشمه وهو طرح الكل وتسارع بوحدته، فالسالك الى الله تكميله مربوط بان يكون فى الجذب والسلوك منكسرا برودة سلوكه بحرارة جذبه فالجذب والسلوك كالليل والنهار او كالصيف والشتاء من حيث انهما يربيان المواليد بتضادهما فهما مع كونهما متنازعين متألفان متوافقان، اذا علمت ذلك فاعلم، ان السالك اذا وقع فى نشأة الجذب وشرب من شراب الشوق الزنجبيلى سكر وطرب ووجد بحيث لا يبقى فى نظره سوى الخدمة للمحبوب وكلما رآه منافيا للخدمة رآه ثقلا ووبالا على نفسه ومكروها لمولاه فيصمم فى طرحه ويعزم على ترك الاشتغال به وهو من كمال الطاعة لا انه ترك الطاعة كما يظن، فلا ضير ان يكون امير المؤمنين (ع) حال سلوكه وقع فى تلك النشأة وحرم على نفسه كلما يشغله عن الخدمة لكمال الاهتمام بالطاعة، ولما لم يكن تحصيل الكمال التام الا بالجمع بين النشأتين اسقاه محمد (ص) من شراب السلوك الكافورى ورده الى نشأة السلوك لانه كان مكملا مربيا له ولغيره ولذا قالوا: لا بد ان يكون للسالك شيخ والا فيوشك ان يقع فى الورطات المهلكة، ولا منقصة فى امثال هذه المعاتبات على الاحباب بل فيها من اللطف والترغيب فى الخدمة ما لا يخفى، وعلى (ع) كان عالما بان الكمال لا يحصل الا بالنشأتين لكنه يرى حين الجذب ان كلما يشغله عن الخدمة فهو مكروه المحبوب ومرجوح عنده فحلف على ترك المرجوح، او يقال: ان عليا (ع) (ع) لما كان شريكا للرسول (ص) فى تكميل السلاك لقوله: انت منى بمنزلة هارون من موسى (ع)، وكان له شأن الدلالة ولمحمد (ص) شأن الارشاد، والمرشد بنشأته النبوية شأنه تكميل السالك بحسب نشأة السلوك وان كان بنشأته الولوية وشأن الارشاد شأنه التكميل بحسب الجذب، والدليل بنشأته الولوية شأنه التكميل بحسب نشأة الجذب وان كان بنشأته النبوية، وشأن الدلالة شأن التكميل بحسب السلوك فالدليل بولايته يقرب السالك الى الحضور ويعلمه آداب الحضور وطريق العبودية من عدم الالتفات الى ما سوى المعبود وطرح جميع العوائق من طريقه، والمرشد بنبوته يبعده عن الحضور ويقربه الى السلوك ويرغبه فيه فهما فى فعلهما كالنشأتين متضادان متوافقان، فأمير المؤمنين (ع) لما رأى بلال وعثمان مستعدين لنشأة الجذب رغبهما الى تلك النشأة بطرح المستلذات وترك المألوفات وشاركهما فى ذلك ليستكمل بذلك شوقهما ويتم جذبهما، ولما مضى مدة ورأى الرسول (ص) ان عودهما الى السلوك اوفق وانفع لهما ردهما الى نشأة السلوك وعاتبهما بألطف عتاب، ولا يرد نقص على امير المؤمنين (ع)، ولما قالوا بعد عتابه (ص) قد حلفنا نزل.
[5.89]
{ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } وهو الذى يؤتى به للتأكيد فى الكلام كما هو عادة العوام { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } ما مصدرية وهو الموافق لقوله باللغو فى ايمانكم او موصولة والمعنى بالذى عقدتم الايمان عليه من الامور المحلوف عليها من حيث الحلف عليها اذا حنثتم حذف لانه معلوم ولكن جعل الله لكم لرفع المؤاخذة كفارة يسيرة ترحما عليكم { فكفارته } اى ما يستر اثمه او يزيله { إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم } فاذا اطعمتم عشرة من المساكين الذين هم عيالى جبرتم نقصان تعظيم اسمى واستحققتم رحمتى { أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد } بان لا يملك طعاما وكسوة ورقبة ولا ثمنا لها { فصيام ثلاثة أيام } لان الله يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم } وحنثتم { واحفظوا أيمانكم } بعدم بذلها لكل امر بتعظيم اسم الله وبعدم الحنث اذا بذلتموها وبالكفارة اذا حنثتم { كذلك يبين الله لكم آياته } اى آيات حدوده وشرائعه { لعلكم تشكرون } نعمة التعليم والتسهيل، اعلم ان اليمين اما من المؤكدات فى الكلام وهى المسماة باللغو واما مع قصد ونية لليمين فهى اما على ترك بر او فعل شر، وهى ايضا لغو لكفارتها فعل البر وترك الشر، او على فعل بر وترك شر وهى عزم يحفظ على متعلقها، واذا حنثت يكفر عنها بما ذكر، واما يمين غموس وهى التى تقع على منع حق امرء مسلم او اخذ حقه بغير حق وهى التى توجب النار، واما اليمين على دفع الادعاء الباطل او احقاق الحق فهى مشروعة لقطع الخصومات لكن كراهتها والاهتمام بعدم الاتيان بها تستنبط من الاخبار.
[5.90]
{ يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر } كل ما تقومر به { والأنصاب والأزلام } قد سبقا فى اول السورة { رجس } قذر تستكرهه العقول { من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون } اكد الحرمة باداة الحصر، واطلاق الرجس عليها وكونها من عمل الشيطان والامر بالاجتناب فانه يفيد التأكيد بالنسبة الى النهى عن الفعل والمقصود ههنا النهى عن الخمر والميسر، وقرنهما بالانصاب والازلام مبالغة فى حرمتها ولذلك لم يذكر فى بيان الغاية سواهما، وذكر غايتهما والمفسدة التى تترتب عليها مبالغة اخرى فى حرمتها فقال { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضآء في الخمر والميسر }.
[5.91]
{ إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضآء في الخمر والميسر } هذا بحسب الدنيا { ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة } وهذا بحسب الآخرة، وذكر الصلوة بعد الذكر من قبيل ذكر الخاص بعد العام للاشارة الى انهما صادان عما هو عماد الدين ليكون ابلغ فى المنع { فهل أنتم منتهون } اداء الامر بصورة الاستفهام لا الحكم تلطف بهم يعنى بعد ما ذكر من المفاسد والاوصاف فى الخمر والميسر ينبغى لكم ان تنتهوا ان تأملتم فيها.
[5.92]
{ وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول } فى خصوص النهى عن الاربعة المذكورة او فى كل ما أمرتم ونهيتم عنه، والعمدة فى الكل وغايته الامر بالولاية او فى الامر بالولاية مخصوصا فان الاطاعة فيه غاية جميع الطاعات ومستلزم لجميع الطاعات { واحذروا } عن عقوبة مخالفتهما { فإن توليتم } عنهما { فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين } فلا يرد من توليكم منقصة عليه وقد بلغ ما امر بتبليغه.
[5.93]
هذه الجمل فى مقام التعليل للامر بالاجتناب والطاعة، اعلم ان للانسان من اول تميزه الى آخر مراتبه تطورات ونشأت، وبحسب كل نشأة له اعمال وارادات وشرور وخيرات وللسالك الى الله من بدو سلوكه الى آخر مراتبه الغير المتناهية مقامات ومراحل واسفار ومنازل، والتقوى تارة تطلق على التحفظ عن كل ما يضر للانسان فى الحال او فى المآل وهو معناه اللغوى، وبهذا المعنى تكون قبل الاسلام وقبل الايمان ومعهما وبعدهما، وتارة تطلق على التحفظ عما يصرفه عن توجهه الى الايمان، وبهذا المعنى تكون مع الاسلام وقبل الايمان ومع الايمان لكن فى مرتبة الاسلام فانه ما لم يسلم لم يتصور له توجه واهتداء الى الايمان حتى يتصور صارف له عن الايمان وحفظ عن ذلك الصارف، والتقوى بهذا المعنى عبارة عن تحفظ النفس عن جملة المخالفات الشرعية، وتارة تطلق على ما يصرفه عن الطريق الموصل له الى غايته ويدخله فى الطريق الموصلة الى الجحيم، وبهذا المعنى لا تكون قبل الايمان لانه لم يكن حينئذ فى الطريق بل تكون مع الايمان الخاص الذى به يكون الوصول الى الطريق، والايمان قد يطلق على الاذعان وهو معناه اللغوى وقد يطلق على ما يحصل بالبيعة العامة وهو الايمان العام المسمى بالاسلام، وقد يطلق على ما يحصل بالبيعة الخاصة الولوية وهو الايمان الحقيقى، وقد يطلق على شهود ما كان موقنا به وهو الايمان الشهودى وقد سبق فى اول سورة البقرة تحقيق وتفصيل للايمان، والتقوى وصلاح العمل بخروج الانسان من امر نفسه فى العمل ودخوله تحت امر آمر آلهى، وفساده بدخوله تحت امر نفسه، والجناح بمعنى الحرج والاثم، والطعم كما يطلق على الاكل والشرب الظاهرين يطلق على مطلق الفعل ومطلق الادراك من الجزئية والكلية ففعل القوى المحركة اكلها، وادراك المدارك الجزئية والكلية اكلها، وكذلك تصرفات القوى العلامة لتهيؤ القوى العمالة اكلها، والانسان من اول تميزه نشأته نشأة الحيوان لا يدرى خيرا الا ما اقتضته القوى الحيوانية ولا شرا الا ما استكرهته ولا يتصور له التقوى سوى التقوى اللغوية، فاذا بلغ مقام المراهقة حصل له فى الجملة تميز الخير والشر الانسانيين وتعلق به زاجر آلهى باطنى بحيت يستعد لقبول الامر والنهى من زاجر بشرى، لكن لا يكلف لضعفه ويمرن لوجود الاستعداد والزاجر الباطنى ويتصور له التقوى بالمعنى الاول والثانى فى هذا المقام بمقدار تميزه الخير والشر الانسانيين، فاذا بلغ او ان التكليف وقوى التميز والاستعداد والزاجر الآلهى تعلق به التكليف من الله بواسطة النذر، وبقبوله التكليف بالبيعة والميثاق يحصل له الاسلام ويتصور له التقوى ايضا بالمعنى الاول والثانى، ولا يتصور له التقوى بالمعنى الثالث لعدم وصوله الى الطريق بعد، وفى هذا المقام يكلفه الملكف الآلهى بالتكاليف القالبية وينبهه على ان للانسان طريقا الى الغيب وله بحسب هذا الطريق تكاليف أخر ويدله على من يريه الطريق ويكلفه التكليفات الاخر اشارة او تصريحا، او يريه بنفسه الطريق فاذا ساعده التوفيق وتمسك بصاحب الطريق حتى قبله وكلفه بالبيعة والميثاق التكليفات القلبية صار مؤمنا بالايمان الخاص ومتمسكا بالطريق متقيا بالمعنى الثالث وسالكا الى الله وله فى سلوكه مراحل ومقامات وزكوة وصوم وصلوة وتروك وفناءات.
ففى المرتبة الاولى يرى من نفسه الفعل والترك وجملة صفاته فاذا ترقى وطرح بعض ما ليس له ويرى الفعل من الله ولا حول ولا قوة الا بالله صار فانيا من فعله باقيا بفعل الحق، فاذا ترقى وطرح بعضا آخر بحيث لا يرى من نفسه صفة صار فانيا من صفته باقيا بصفة الله، فاذا ترقى وطرح الكل بحيث لا يرى نفسه فى البين صار فانيا من ذاته وفى هذا المقام ان ابقاه الله صار باقيا بعد الفناء ببقاء الله وتم له السلوك وصار جامعا بين الفرق والجمع والوحدة والكثرة، وجعل العرفاء الشامخون بحسب الامهات أسفار السالك وسيره اربعة وسموها اسفارا اربعة: السفر الاول السير من النفس الى حدود القلب وهو سيره فى الاسلام وعلى غيره الطريق ويسمونه السفر من الخلق الى الحق، والثانى سيره من حدود القلب الى الله وهو سيره فى الايمان وعلى الطريق وبدلالة الشيخ المرشد وفى هذا السير يحصل الفناءات الثلاثة ويسمونه السفر من الحق فى الحق الى الحق، والثالث سيره بعد الفناء فى المراتب الآلهية من غير ذات وشعور بذات ويسمونه السفر بالحق فى الحق، والرابع سيره بالحق فى الخلق بعد صحوه وبقائه بالله ويسمونه السفر بالحق فى الخلق، اذا علمت ذلك فنقول: معنى الآية انه ليس على الذين بايعوا بالبيعة العامة النبوية وقبول الدعوة الظاهره وأسلموا بقبول الاحكام القالبية وتوجهوا من ديار الاسلام التى هى صدروهم الى ديار الايمان التى هى قلوبهم وعملوا الاعمال التى اخذوها من صاحب اسلامهم جناح فيما فعلوا وحصلوا من الافعال والعلوم، ولما كان المراد بالتقوى فى لسان الشارع هو المعنى الثانى والثالث دون الاول لم يقل تعالى شأنه: ليس على الذين اتقوا وآمنوا فى تلك المرتبة واقتصر على الايمان والعمل الصالح، لكن نفى الجناح بشرط ان اتقوا صوارفهم عن التوجه الى الايمان والترحل الى السفر الثانى والوصول الى الطريق، وجملة المخالفات الشرعية صوارفه عن هذا التوجه، وآمنوا بالبيعة الخاصة الولوية وقبول الدعوة الباطنة وعملوا الصالحات التى اخذوها من صاحب الطريق ثم اتقوا نسبة الافعال والصفات الى انفسهم وآمنوا شهودا بما آمنوا به غيابا، وفى هذا المقام يقع السالك فى ورطات الحلول والاتحاد والالحاد وسائر انواع الزندقة من الثنوية وعبادة الشيطان والرياضة بخلاف الشرائع الآلهية ومغلطة الارواح الخبيثة بالارواح الطيبة فانه مقام تحته مراتب غير متناهية وورطات غير محصورة واكثر ما فشا فى القلندرية من العقائد والاعمال نشأ من هذا المقام، والسالك فى هذه المرتبة لا يرى صفة ولا فعلا من نفسه ولذلك اسقط العمل الصالح ولم يذكره ثم اتقوا من رؤية ذواتهم وهذا هو الفناء التام والفناء الذاتى، وهى هذا المقام لا يكون لهم ذات بعد التقوى حتى يتصور لهم ايمان او عمل، والسالك فى هذا السفر لا نهاية لسيره ولا تعين لوجوده ولا نفسية له ويظهر منه الشطحيات التى لا تصح من غيره كما تظهر منه فى المقام السابق ايضا وكما لا يرى السالك فى هذا المقام لنفسه عينا ولا اثرا لا يرى لغيره عينا ولا اثرا، ومن هذا المقام ومن سابقه نشأت الوحدة الممنوعة وما يترتب عليها من العقائد الباطلة والاعمال الكاسدة فان ادركته العناية وافاق من فنائه وصار باقيا ببقاء الله صار محسنا بحسب الذات والصفات والافعال، ولذلك قال تعالى بعد ذكر التقوى واحسنوا واسقط الايمان والعمل جميعا، لانه بعد فنائه الذاتى وبقائه بالله صار ذاته وصفته وفعله حسنا واحسانا حقيقيا، واما قبل ذلك فانه لا يخلو من شوب سوئة واسائة بقدر بقاء نسبة الوجود الى نفسه قبل فنائه، وايضا قبل الفناء بقدر نسبة الوجود الى نفسه يكون مبغوضا لا محبوبا على الاطلاق وبعد الفناء وقبل البقاء بالله لا موضوع له حتى يحكم عليه بالمحبوبية والمبغوضية، وبعد البقاء بالله يصير محبوبا على الاطلاق ولذلك قال: { والله يحب المحسنين } فى آخر الآية.
[5.94-95]
{ يأيها الذين آمنوا } بقبول الدعوة الظاهرة اى اسلموا { ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم } يعنى فى احرامكم قيل: نزلت فى غزوة الحديبية جمع الله عليهم الصيد، وعن الصادق (ع) حشر عليهم الصيد فى كل مكان حتى دنا منهم { ليعلم الله من يخافه بالغيب } بترك الصيد مع سهولته بمحض النهى { فمن اعتدى بعد ذلك } الابتلاء والنهى { فله عذاب أليم يأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } عن الصادق (ع) اذا أحرمت فاتق قتل الدواب كلها الا الافعى والعقرب والفأرة، وذكر الوجه لكل وتفصيل ذلك موكول الى الفقه، والحرم جمع الحرام بمعنى المحرم او جمع الحرم بكسر الحاء وسكون الراء او جمع الحريم بمعنى المحرم بالحج او العمرة وبمعنى الداخل فى الحرم وكلا الوجهين صحيح لفظا ومعنى { ومن قتله منكم متعمدا فجزآء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم } فى اخبار كثيرة ان المراد ذو عدل وهو العدل الآلهى من الرسول (ص) والامام وتثنية ذوا عدل خطأ من الكتاب ولفظ الكتاب ذو عدل بدون الالف، ولما لم يرخص فى الشريعة الآلهية لشيء من القياس كان هذه الكلمة ذا عدل بالافراد وكان ذا عدل مختصا بالحاكم الآلهى حتى يسد باب القياس بالكلية، وان لم يكن كذلك جاز لمجوز القياس التمسك به فى جواز قياسه { هديا بالغ الكعبة } كيفية بلوغه الكعبة موكولة الى الفقه { أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما } كما فصل فى الفقه { ليذوق وبال أمره } وثقل هتكه لحرمة الحرم { عفا الله عما سلف } على زمان الحكم بحرمة قتل الصيد { ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام } عن الصادق (ع) فى محرم اصاب صيدا؟ - قال: عليه الكفارة، قيل فان اصاب آخر؟ - قال: فان اصاب آخر فليس عليه كفارة وهو ممن قال الله تعالى : { ومن عاد فينتقم الله } ، وفى معناه اخبار أخر، وعنه اذا اصاب المحرم الصيد خطأ فعليه الكفارة فان اصاب ثانية خطأ فعليه الكفارة ابدا اذا كان خطأ، فان اصابه متعمدا كان عليه الكفارة، فان اصابه ثانية متعمدا فهو ممن ينتقم الله منه ولم يكن عليه الكفارة، وعلى هذا فمعنى عفا الله عما سلف عفا عن الدفعة الاولى السابقة على الثانية.
[5.96]
{ أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة } مطلقا حال الاحرام وغيره والضمير فى طعامه للصيد او للبحر { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه تحشرون } فى مخالفة أمره ونهيه لان حشركم يكون اليه.
[5.97]
{ جعل الله } جملة مستأنفة فى مقام التعليل لتحريم صيد البر حين الاحرام لزيارة البيت او حين دخول الحرم الذى هو حريم البيت، وجعل بمعنى صير او بمعنى خلق { الكعبة } سمى الكعبة كعبة لتكعبه والعرب تسمى كل مربع ونات كعبا وكعبة { البيت الحرام } مفعول ثان او بدل من الكعبة والتوصيف بالحرام لحرمة هتكه بأخذ الصيد من حواليه واقتصاص الملتجى الى حريمه الذى هو الحرم { قياما للناس } مفعول ثان او حال من قام اذا اعتدل اى جعلها سبب اعتدال للناس او جعلها معتدلة لانتفاع الناس، او من قام المرأة اذا قام بشأنها وكفى امرها والمعنى جعلها كافية للناس او بمعنى القوام الذى هو ما يعاش به او بمعنى ملاك الامر وعماده يعنى جعلها عماد جملة الامور للناس فى معادهم ومعاشهم { والشهر الحرام } اى جنس الشهر الحرام وافراده اربعة ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب او الشهر الحرام المعهود اى شهر الحج وهو عطف على الكعبة سواء قدر توصيفه بكونه قياما للناس او لم يقدر { والهدي والقلائد } اى ذوات القلائد او القلائد انفسها وقد مضى ذكرها فى اول السورة، اعلم، ان جعل كعبة القلب بيت الله الحرام وسبب اعتدال للناس فى العالم الصغير وكافية لامورهم وما به تعيشهم وملاك أمرهم وعمادهم واضح وكذلك كون الشهر الحرام الذى هو الصدر وهدى القوى وقلائدها او ذوات القلائد منها ، وكون صاحب القلب وصاحب الصدر والطالبين للوصول اليهما قياما للناس لا خفاء فيه، وقد مضى فى اول السورة اشارة الى التأويل فيها وعند قوله: من دخله كان آمنا فى سورة آل عمران وكون كعبة الاحجار قياما للناس يظهر مما سبق منا من انها ظهور القلب ويجرى فيها كل ما يجرى فى القلب على انها يربح فيها تاجروها ويرزق ساكنوها ويؤمن ملتجئوها ويخلف نفقات زائريها ويستجاب دعاء الداعين فيها لمعاشهم ومعادهم، وبقاء اهل الارض تماما ببقائها فيهم وزيارة بعضهم لها كما أشير اليه فى الخبر، وكون الشهر الحرام قياما لما سبق من انه مظهر الصدر ومظهر صاحب الصدر وكلما يجرى فيه يجرى فيه على أنه شهر فراغه عن القتال وشهر اشتغال بمرمة المعاش والمعاد، وكون الهدى والقلائد قياما للناس لانهما مظاهر لطالبى العلم وهم بركات لاهل الارض على انه ينتفع بايعوها بثمنها واكلوها بلحومها واهبها { ذلك } يعنى جعل الكعبة التى هى فى بلد خال من الزراعات واسباب التجارات من سائر منافع البر والبحر وخال نواحيه القريبة والبعيده من الزراعات والتجارات سبب تعيش الناس وارباحهم الدنيوية والمنافع الغير المترقبة وهو مبتدء خبره قوله تعالى { لتعلموا } بذلك { أن الله يعلم ما في السماوات } من الاسباب الغيبية الروحانية والاسباب السماوية العلوية البعيدة { و } يعلم { ما في الأرض } من الاسباب الطبيعية الحسية القريبة لانكم بعدما رأيتم ارتزاق اهل هذا البلد الخالى من كل ما ينتفع به مع انتفاعهم وارباحهم الكثيرة، علمتم انه ليس الا بتسبيبات آلهية من دون استقلال الاسباب الطبيعية، بخلاف ما اذا كان الكعبة فى البلاد المعمورة الكثيرة الزراعات والتجارات فانه لا يعلم حينئذ ان ارزاق اهلها باسباب آلهية او اسباب طبيعية، بل يعتقد انها باسباب طبيعية كما عليه اصحاب الحس والطبيعيون والدهريون، واذا علمتم ان ارزاق الخلق وارباحهم ليست الا باسباب آلهية علمتم انه تعالى يعلم جميع الاسباب القريبة والبعيدة والروحانية والجسمانية والعلوية والسفلية وانه تعالى يقدر على توجيه الاسباب نحو هذا المسبب، ولم يقل لتعلموا ان الله يقدر لان القدرة سبب قريب من المسبب بخلاف العلم فكأنها تستفاد من حصول المسبب { و } لتعلموا { أن الله بكل شيء عليم } لان من علم الاسباب الخفية الروحانية والجلية الجسمانية وتوجيه تلك الاسباب نحو مسبب بعيد الحصول كان عالما بكل شيء من الجليل والحقير وهو تأكيد وتعميم بعد اطلاق وتخصيص.
[5.98]
{ اعلموا } بعد ما ذكر شمول علمه لكل شيء اقتضى المقام ترغيب المنحرفين عن على (ع) الى التوبة والرجوع اليه بسبب شمول غفرانه ورحمته وترهيب المنحرفين عنه بشدة عقابه واطلاعه على سرائرهم فقال اذا علمتم انه بكل شيء عليم من الاعلان والاسرار والضمائر فاعلموا { أن الله شديد العقاب } لمن تهاون فى حرمات الله واضمر فى حق على (ع) خلاف ما قلت لهم { وأن الله غفور } يغفر زلات من تهاون فى الحرمات وزلات من خالف عليا (ع) اذا تاب وعاد الى ما تهاون به والى على (ع) { رحيم } يتفضل عليه بسبب رحمته.
[5.99]
{ ما على الرسول } جواب سؤال مقدر كأنه قيل: اما يقدر الرسول (ص) الذى بين اظهرنا على دفع العقاب؟ او قيل: اما يقدر الرسول (ص) على ان يحملنا على الطاعة واستحقاق الرحمة فقال: ما على الرسول { إلا البلاغ } لا الحفظ من العقاب ولا الحمل على الطاعة وقد بلغ ما كان عليه تبليغه واعظمها واشرفها واساسها الولاية وقد بلغها على رؤس الاشهاد فى محضر نحو من سبعين الفا { والله يعلم ما تبدون } من الاقوال والافعال من الطاعة والمخالفة وتولى على (ع) والتولى عنه { وما تكتمون } من مكمونات نفوسكم التى لا تعلمونها ولا تستشعرون بها ومن عقائدكم ونياتكم وعزماتكم التى لا يعلمها غيركم، ومن اقوالكم وافعالكم التى تخفونها عن انسان آخر او تخفونها عن غير رفقائكم فاحذروا ان تقولوا او تفعلوا او تضمروا خلاف ما قال لكم محمد (ص) فى امر دينكم، او ما قاله فى حق على (ع).
[5.100-102]
{ قل } يا محمد (ص) لامتك { لا يستوي الخبيث والطيب } يعنى ذكرهم بهذه الكبرى الكلية البديهية حتى يكونوا على ذكر منها وعلى الحذر من الخبيث والرغبة فى الطيب حين عراهم خبيث او طيب من الاعمال والاخلاق والاوصاف والحيوان والانسان بان يقولوا هذا خبيث او طيب وكل خبيث مكروه وكل طيب مرغوب فيه، والمنظور هو المقصود من كل مقصود وهو ولاية على (ع) وولاية اعدائه فان طيبوبة على (ع) لا ينكره احد { ولو أعجبك } كلام من الله والخطاب لمحمد (ص) يعنى يا محمد (ص) قل لهم لا يستويان لو لم يعجبك ولو اعجبك { كثرة الخبيث } او جزء مفعول للقول والخطاب حينئذ لغير معين يعني قل لهم لا يستويان ولو أعجبكم كثرة الخبيث فان السنخية الغالبة فى وجود الاكثر مع الخبيث تقتضى اتباع الخبيث وكثرته، وعدم السنخية بين الخلق والطيب يقتضى عدم اتباعه وكون القلة فى جانبه { ف } لا تنظروا الى الكثرة ولا تغفلوا عن الطيبوبة و { اتقوا الله } فى ترك الطيب واتخاذ الخبيث { يأولي الألباب } فانكم المخاطبون المعتنى بكم لا غيركم فانهم ليس لهم تميز الطيب من الخبيث حتى يستحقوا الخطاب بترك الخبيث { لعلكم تفلحون يأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشيآء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم } يعنى ان تسألوا لا محالة عنها فحين ينزل القرآن نظهره عليكم فقوله حين ينزل القرآن متعلق بتبد، عن امير المؤمنين (ع) خطب رسول الله (ص) فقال:
" ان الله كتب عليكم الحج "
فقال عكاشة بن محصن وروى سراقة بن مالك: افى كل عام يا رسول الله (ص) فاعرض عنه حتى عاد مرتين او ثلاثا فقال رسول الله:
" ويحك وما يؤمنك ان اقول: نعم والله لو قلت: نعم لوجبت ولو وجبت ما استطعتم ولو تركتم كفرتم فاتركونى ما تركتم فانما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على انبيائهم فاذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، واذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه "
، فالمراد بالسؤال عن اشياء ان تبدلكم تسؤكم كثرة السؤال والمداقة فيما كلفوا به وقد ورد، ان بنى اسرائيل شددوا على انفسهم بكثرة السؤال والمداقة عن البقرة التى امروا بذبحها فشدد الله عليهم، وروى ان صفية بنت عبد المطلب مات ابن لها فأقلبت فقال عمر غطى قرطك فان قرابتك من رسول الله (ص) لا تنفعك شيئا فقالت: هل رأيت قرطا يا ابن اللخنأ، ثم دخلت على رسول الله (ص) وبكت وشكت فخرج رسول الله (ص) فنادى: الصلوة جامعة فاجتمع الناس، فقال:
" ما بال أقوام يزعمون ان قرابتى لا تنفع لو قد قمت المقام المحمود لشفعت فى خارجكم، لا يسألنى اليوم احد من ابوه الا اخبرته "
، فقام اليه رجل فقال من ابى يا رسول الله؟ - فقال: ابوك غير الذى تدعى له، ابوك فلان بن فلان، فقام آخر فقال: من ابى يا رسول الله؟ - قال: ابوك الذى تدعى له ثم قال رسول الله (ص) ما بال الذى يزعم ان قرابتى لا تنفع لا يسألنى عن ابيه، فقام اليه عمر فقال له اعوذ بالله يا رسول الله (ص) من غضب الله وغضب رسول الله اعف عنى عفا الله عنك، فأنزل الله الآية وعلى هذا فالمعنى لا تسألوا عن اشياء سترها الله عليكم من انسابكم ان تبد لكم تسؤكم، ويمكن التعيمم لكل ما كان ظهوره سبب الاساءة من التكاليف والانساب والاخلاق والاوصاف والاعمال من السائل ومن غيره { عفا الله عنها } صفة اخرى لاشياء اى لا تسألوا عن اشياء تركها الله ولم يبينها لكم او استيناف لاظهار العفو عن المسئلة التى سبقت { والله غفور حليم قد سألها قوم } اى الاشياء التى فى ظهورها الاساءة لكم { من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين } حيث كرهوها فكفروا بها ولم يقبلوها او كفروا برسلهم (ع) بسببها.
[5.103]
{ ما جعل الله } استيناف لبيان حال الكفار فى سننهم الردية يعنى ما شرع الله وما سن { من بحيرة ولا سآئبة ولا وصيلة ولا حام } عن الصادق (ع) ان اهل الجاهلية كانوا اذا ولدت الناقة ولدين فى بطن واحد قالوا وصلت فلا يستحلون ذبحها ولا أكلها، واذا ولدت عشرا جعلوها سائبة ولا يستحلون ظهرها ولا أكلها، والحام فحل الابل لم يكونوا يستحلونه وروى ان البحيرة الناقة اذا انتجت خمسة ابطن فان كان الخامس ذكرا نحروها فأكله الرجال والنساء وان كان الخامس انثى بحروا اذنها اى شقوها وكانت حراما على النساء، فأنزل الله عز وجل انه لم يحرم شيئا من ذلك وذكر غير ذلك فى تفسيرها { ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب } بنسبة التحريم اليه { وأكثرهم لا يعقلون } يعنى ان الاتباع المقلدين لا يعقلون شيئا من الصحة والفساد ولا من الافتراء وغيره حتى يتنبهوا ان هذا افتراء على الله فلا يقلدوهم.
[5.104-105]
{ وإذا قيل لهم تعالوا إلى مآ أنزل الله وإلى الرسول } من حدود الشرع { قالوا } اكتفاء بما اعتادوه وقلدوه من غير تعقل { حسبنا ما وجدنا عليه آباءنآ } يعنى لا حجة لهم سوى فعل آبائهم وهو افضح من الاسناد الى علمائهم { أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم } عليكم اسم فعل بمعنى الزموا وقرئ برفع انفسكم فهو ظرف خبره والمعنى الزموا انفسكم لا تتجاوزوها الى غيركم ما لم تصلحوها، فان الاشتغال بالغير قبل اصلاح النفس سفاهة ويصير سببا لفساد اخر مقتبس من الغير وسببا لاستحكام الفساد الحاصل فيصير ظلمات النفس مستحكمة متراكمة، فما دام الانسان يكون مبتلى فى نفسه بالفساد والمرض ينبغى ان يطلب من يطلع على امراضه ومفاسده فاذا وجده فليتعلم منه ما يصلح به فساده ويعالج به امراضه، فاذا تعلم ذلك فينبغى ان يشتغل عن كل شيء بنفسه ولا يفارق اصلاحها ما بقى الفساد فيها، وذلك الشخص اما نبى فيكون آمنوا بمعنى بايعوا على يد محمد (ص) او ولى فيكون بمعنى بايعوا على يد على (ع)، ويحتمل ان يكون اعم من النبى (ص) والولى (ع) فيكون آمنوا ايضا عاما، ولما علمت سابقا ان الولاية هى حقيقة كل ذى حقيقة ونفسية كل ذى نفس وهذا المعنى يظهر لمن آمن بعلى (ع) واتصل بملكوت وليه، فانه يرى ان ملكوت وليه مع انها انزل مراتب الولاية كانت حقيقته ونفسه وانه كان مظهرا لها تيسر لك تفسيرها بان تقول: عليكم امامكم ويكون آمنوا بمعنى آمنوا بالبيعة الخاصة الولوية، فان البيعة العامة لا تجعل البايع متوجها، الى قلبه ونفسه لعدم اتصالها بالقلب وما لم يتوجه الى قلبه لا يتيسر له الحضور عند امامه، وما لم يمكن له الحضور لم يؤمر بالملازمة، وبالملازمة يحصل له جميع الخيرات الدنيوية والاخروية، ولذا أمروا بتلك الملازمة والاعراض من الكل، وما روى فى المجمع يشير الى هذا المعنى، فانه روى فيه ان ابا تغلبة سأل رسول الله (ص) عن هذه الآية فقال:
" ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر فأذا رأيت دنيا مؤثرة وشحا مطاعا وهوى متبعا واعجاب كل ذى رأى برأيه فعليك بخويصة نفسك وذر عوامهم "
، فانه ليس المراد بهذه الخصوصية خصوصية النسب الصورية بل النسب الروحانية ولا شك ان امامه اخص هؤلاء الخواص { لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } يعنى اذا لم تهتدوا يضركم ضلال من ضل لسنخيتكم لهم واقتباسكم الفساد منهم { إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون } فمن يلازم امامه او نفسه فله جزاء ومن يراقب الناس وينظر الى مساويهم فله جزاء.
[5.106-108]
{ يا أيها الذين آمنوا } اى اسلموا فان الحكم الآتى من احكام الاسلام { شهادة بينكم } من حيث التحمل { إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان } اى شهادة اثنين { ذوا عدل منكم } ايها المسلمون { أو آخران من غيركم } من اهل الكتاب { إن أنتم ضربتم في الأرض } سافرتم { فأصابتكم مصيبة الموت } قاربكم الاجل ولم تجدوا منكم من يتحمل الشهادة { تحبسونهما } وقت الاداء اى تقفونهما { من بعد الصلاة } لتغليظ اليمين بشرف الوقت ولخوفهما من الافتضاح بين الناس ان حرفوا لاجتماع الناس حين الصلوة { فيقسمان بالله } اى الاخران من غيركم وذلك الحبس والحلف { إن ارتبتم } والا فلا، وهو جملة معترضة بين القسم والمقسم عليه ويجوز ان تكون من قول الحالفين ومن قبيل ترادف القسم والشرط وان يكون الجواب للقسم لتقدمه ولذلك لم يجزم { لا نشتري به ثمنا } عرضا من الدنيا { ولو كان } المقسم له { ذا قربى } لنا { ولا نكتم شهادة الله إنآ إذا لمن الآثمين فإن عثر } اى اطلع { على أنهما } اى الشاهدين من غيركم { استحقآ } استوجبا { إثما } بتحريف وخيانة { فآخران يقومان مقامهما } بامر الورثة الذين هم المشهود عليهم وقوله تعالى { من الذين استحق عليهم الأوليان } بيان لهذا المعنى اى من جانب الذين جنى باستحقاق الاثم عليهم الاحقان بالشهادة لكونهما اول من شهدا { فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينآ إنا إذا لمن الظالمين ذلك } التحليف الغليظ وقت احتمال الافتضاح باقامة آخرين مقامهما { أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجههآ أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم } اى ترجع ايمان على شهود الورثة وتقبل ايمان شهود الورثة وتكذب ايمانهم فيفتضحوا بتكذيب ايمانهم، ونسبة الخيانة اليهم وجمع الضمائر ليعم الشهود وقد ذكر فى تفسير الآية ونزولها اخبار فى الصافى وغيره { واتقوا الله } ايها الشهود فى تحريف الشهادة والمشهود عيلهم فى ردها بلا خيانة { واسمعوا } ما توعظون به سمع اجابة وقبول { والله لا يهدي القوم الفاسقين } الخارجين من امر الله.
[5.109]
{ يوم يجمع الله الرسل } ظرف لقوله لا يهدى اولا ذكر او ذكر مقدر او المقصود التعريض بمن لم يجب محمدا (ص) فى ولاية امير المؤمنين (ع) { فيقول ماذآ أجبتم } فى دعوتكم العامة او فى دعوتكم الخاصة الى خلفائكم وفسرت فى الخبر به، فعن الباقر (ع) ان لهذا تأويلا يقول: ماذا اجبتم فى اوصيائكم الذين خلفتموهم على اممكم فيقولون لا علم لنا بما فعلوا من بعدنا وقوله تعالى { قالوا لا علم لنآ إنك أنت علام الغيوب } يشير الى هذا لان نفى العلم بعد رحلتهم صحيح وفى زمان حيوتهم علموا من اجاب ومن لم يجب وكيف اجابوا.
[5.110-112]
{ إذ قال الله } اذكر او ذكر او هو بدل من يوم يجمع الله { يعيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا } يعنى فى جميع احوالك { وإذ علمتك الكتاب } اى النبوة { والحكمة } اى الولاية { والتوراة والإنجيل } صورتى النبوة { وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرىء الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني } تكرار باذنى لرفع توهم الآلهة فان ذلك ليس الا من جهة الآلهية { وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين وإذ أوحيت } وحى الهام لا وحى ارسال { إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون إذ قال الحواريون } لما كان المقصود تنبيه الامة على ما لا ينبغى لهم من مطالبة الآيات من الرسول (ص) او من امير المؤمنين (ع) وكان ما ذكر سابقا من نعم عيسى (ع) توطئة لهذا المقصد واشارة الى انهم محض هوى النفس سألوا المائدة والا كان فيما انعم الله به على عيسى (ع) غنية عن غيرها من الآيات غير الاسلوب واتى به من غير عطف حتى لا يتوهم انه كسابقه من النعم وقد سألوا رسول الله (ص) الآيات وبعد ما أتاهم بها كفروا وسألوا عليا (ع) وكفروا بها بعد الاتيان بها كما فى التواريخ والاخبار { يعيسى ابن مريم هل يستطيع ربك } كأن السؤال كان قبل ان يعرفوا معرفة تامة او المقصود الاستطاعة المطابقة للحكمة وقرئ هل تستطيع بالخطاب اى هل تستطيع سؤال ربك { أن ينزل علينا مآئدة من السمآء } المائدة الخوان عليه الطعام من ماد اذا تحرك او من مادة اذا اعطاه { قال اتقوا الله } من الاقتراح على الله { إن كنتم مؤمنين } به وبقدرته.
[5.113]
{ قالوا نريد أن نأكل منها } تمهيد عذر للسؤال { وتطمئن قلوبنا } لا كطلب ابراهيم (ع) اطمينان القلب بقرينة { ونعلم أن قد صدقتنا } فى ادعاء النبوة من قادر بليغ القدرة او كان مرادهم الاطمينان بالشهود مثل ابراهيم (ع) بعد اليقين العلمى ويكون المقصود من قوله ونعلم ان قد صدقتنا العلم الشهودى { ونكون عليها من الشاهدين } للغياب منا او من الحاضرين للاكل.
[5.114]
{ قال عيسى ابن مريم اللهم ربنآ } تكرار النداء حين الدعاء وظيفة الدعاة { أنزل علينا مآئدة من السمآء تكون لنا عيدا } اى يكون يوم نزولها يوم عيد، او تكون لنا سرورا لان السرور يعود وقتا بعد وقت { لأولنا وآخرنا } بدل تفصيلى يعنى للحاضرين ولمن لم يأت الى يوم القيامة او لجميعنا { وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين } من وسائط الرزق من افراد الانسان ومن الاسباب العلوية والارضية ومن القوى النباتية التى هى اقرب الوسائط للرزق الصورى ومن افراد الانسان من الاعداء والاحباب الذين كانوا اسباب كمال للعباد بالقهر واللطف ومن معلمى الحرف والصناعات ومن مكملى النفوس بالتعليم الحقيقى الروحانى ومن المدارك الظاهرة والباطنة الحيوانية والانسانية للرزق الحقيقى الروحانى.
[5.115]
{ قال الله } مجيبا لهم { إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين } نزول الآية وكيفية المائدة وكيفية اكلهم مذكورة فى المفصلات باختلاف فى الروايات من اراد فليرجع اليها.
[5.116]
{ وإذ قال الله } اتى بالماضى لتحقق وقوعه او لانه كان بالنسبة الى الرسول المخاطب ماضيا بحسب المقام { يعيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين } الخطاب لعيسى (ع) والمقصود تقريع امته وتبكيتهم والمنظور التعريض بامة محمد (ص) الذين قالوا بآلهية الائمة { من دون الله } والسر فى هذا التقييد فى كثير من امثال هذه الآية ان جعل الخلفاء مظاهر الهيته وآلهة بآلهيته كما ورد عنهم فى قوله:
وهو الذي في السمآء إله وفي الأرض إله
[الزخرف:84] انه كناية عن تسلط خلفائه لا ضير فيه ولا عقاب على قائليه وجعلهم او غيرهم آلهة مقابلة لله ومغايرة له كفر باعث للعتاب على قائليه { قال سبحانك ما يكون لي } ما ينبغى لى والتعبير بالمضارع للاشارة الى انه بعد كونه على اشرف الاحوال لا يليق بحاله التفوة بمثل هذا المقال فكيف قال وهو فى اخس الاحوال، كأنه قال لا يليق بحالى واقرارى بعبوديتك والخلوص فى طاعتك فى هذه الحالة { أن أقول ما ليس لي بحق } فكيف قلته فى اخس الاحوال { إن كنت قلته فقد علمته } لانك { تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك } هو من باب المشاكلة او المعنى ما فى ذاتك او هذه الكلمة كناية عما يخفى الانسان عن الغير من غير ملاحظة نفس وروح { إنك أنت علام الغيوب } تعليل للجملتين بمنطوقه ومفهومه.
[5.117]
{ ما قلت لهم إلا مآ أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم } ان تفسيرية بمنزلة اى تفسير للقول بجعل القول بمعنى الامر او تفسير لامرتنى بتقدير امر من القول بعد ان، والتقدير ما قلت لهم الا ما امرتنى به ان قل اعبدوا الله وحينئذ لا حاجة الى تكلف فى ذكر ربى وربكم بعد اعبدوا الله، او مصدرية بدلا او بيانا لما والقول بمعنى الامر او للضمير المجرور ولا يلزم فى البدل جواز طرح المبدل منه حتى يقال: يلزم منه بقاء الموصول بدون العائد، او ان تفسيرية تفسير لامرتنى من دون تقدير ويكون ذكر ربى وربكم حكاية لما قال لهم من عند نفسه منضما الى المحكى اشعارا بانه حين أمرهم بالعبادة اقر لنفسه بالعبودية وان اقرارهم بالربوبية له كان لاتباع الهوى لا بشبهة نشأت من قوله ويجوز ان يكون خبر مبتدء محذوف او مفعول فعل محذوف { وكنت عليهم شهيدا } مراقبا لهم على اعمالهم { ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد } تعميم بعد تخصيص دفعا لتوهم التخصيص.
[5.118]
{ إن تعذبهم فإنهم عبادك } تفعل بهم ما تشاء شروع فى الشفاعة باحسن وجه { وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز } لا مانع لك من المغفرة { الحكيم } تعلم بلطف علمك استحقاقهم لها وقدر استحقاقهم.
[5.119-120]
{ قال الله } انى اغفر للصادق منهم فى قوله غير متجاوز من حده وحد عيسى (ع) لان { هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيهآ أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه } وفى تقدم رضا العبد على رضا الله او رضا الله على رضا العبد ما مر عند قوله فتاب عليه انه هو التواب الرحيم وعند قوله فاذكرونى اذكركم من سورة البقرة { ذلك الفوز العظيم لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير }.
عن امير المؤمنين عليه السلام قال: كان القرآن ينسخ بعضها بعضا وانما يؤخذ من امر رسول الله (ص) بآخره وكان من آخر ما نزل عليه سورة المائدة فنسخت ما قبلها ولم ينسخها شيء، ولقد نزلت عليه وهو على بغلة شهباء وثقل عليه الوحى حتى وقفت وتدلى بطنها حتى رأيت سرتها تكاد تمس الارض وأغمى على رسول الله (ص) حتى وضع يده على ذؤابة شيبة بن وهب، ثم رفع ذلك عن رسول الله (ص) فقرأ علينا سورة المائدة فعمل رسول الله (ص) وعملنا. وعن الصادق (ع): نزلت المائدة كملا ونزلت معها سبعون الف الف ملك.
[6 - سورة الأنعام]
[6.1]
{ الحمد لله } قد مضى { الذي خلق السماوات والأرض } الخلق قد يطلق على مطلق الايجاد سواء كان مسبوقا بمدة ومادة وهو الخلق بالمعنى الاخص كالمواليد او مسبوقا بمادة دون المدة وهو الاختراع كالافلاك وما فى جوفها من العناصر، او لم يكن مسبوقا بشيء منها مع التعلق بالمادة وهو الانشاء كالنفوس، او بدونه وهو الابداع كالعقول، والجعل المتعدى لواحد بمعنى الخلق لكن الاغلب استعماله فيما له تعلق بمحل او شيء آخر عرضا كان او جوهرا كقوله
هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة
[الملك:23] لما فيه من شوب معنى التصيير، ولما كان النور والظلمة العرضيان متعلقين بالمحل ذكر الخلق بالمعنى الاعم فى ايجاد السماوات والارض والجعل فى ايجاد النور والظلمة، والسماء اسم لما له ارتفاع وتأثير فيما دونه والافلاك الطبيعية احد مصاديقها، فان العقول الطولية يعنى الملائكة المقربين والذين هم قيام لا ينظرون والعقول العرضية يعنى الملائكة الصافات صفا والنفوس الكلية المدبرات امرا والنفوس الجزئية الركع والسجد والاشباح المثالية ذوات الاجنحة كلها سماوات، والارض اسم لما فيه تسفل وقبول عن الغير فالارض الغبراء وعالم الطبع بسمائها وارضها والاشباح الظلمانية يعنى عالم الجنة والشياطين بل الاشباح النورية كلها ارض بالنسبة الى عالم الارواح لتسفلها وتأثرها عنه، والمادة الاولى المسماة بالهيولى والثانية المسماة بالجسم والثالثة المسماة بالعنصر والرابعة المسماة بالجماد والخامسة المسماة بالنبات والسادسة المسماة بالحيوان والسابعة المسماة بالبشر كلها اراض بالنسبة الى الصور والنفوس وكلها طبقات متراكمة ودركات متلاحمة فى وجود الانسان، والارض الغبراء ارض بالنسبة الى الافلاك ودركات العالم الظلمانى السفلى الذى فيه الجنة والشياطين ودركات الجحيم ودار المعذبين اراض بالنسبة الى عالم المثال، ومن الارض مثلهن اشارة الى ما ذكر من مراتب العالم السفلى او مراتب المواد وقد اطلق فى الاخبار السماء والارض على غير ما ذكر من الصفات والاخلاق وطبقات السماء باعتبار محيطيتها ومحاطيتها والكل راجع الى ما ذكر لهما من المفهوم وقد قيل بالفارسية:
آسمانها ست در ولايت جان
كار فرماى آسمان جهان
وفى الاخبار ما يدل على تعدد السماوات فى عالم الارواح ولتقدم السماوات شرفا ووجودا ورتبة وعلية من حيث النزول قدمها على الارض، وجمع السماوات وافراد الارض ههنا وفى اكثر الآيات للاشارة الى كثرة السماوات وقلة الارض وان الارض مع تعددها وكثرتها من حيث محاطيتها امر واحد وان طبقاتها متراكمة بحيث ان الدانية فانية فى العالية ومتحدة معها، وليست السماوات كذلك فانها كثيرة محيطة مستقلة غير متراكمة، بين كل سماء وسماء مسافة بعيدة، والنور اسم للظاهر بذاته والمظهر لغيره وهذا المعنى حقيقة حق حقيقة الوجود التى هى حقيقة الحق الاول تعالى شأنه، فانه ظاهر بذاته من غير علة وفاعل يظهره ومظهر لغيره من الانوار الحقيقية والعرضية وظلمات المهيات والحدود ونقائص الاعدام وطلسمات عالم الطبع وعالم الجنة والشياطين فالحق الاول تعالى احد مصاديق النور والمقصود ههنا غيره تعالى لتعلق الجعل به وليس الاول تعالى مجعولا والاولى بالنورية بعد الحق الاول تعالى الحق المضاف الذى هو فعل الاول تعالى وكلمته واضافته الاشراقية والحقيقة المحمدية (ص) والمشية التى خلق الاشياء بها وهو ايضا حقيقة واحدة بوحدة الحق الاول وهو ظهوره وتجليه الفعلى واسمه الاعظم وهو تجليه تعالى على الاشياء.
ولما كان الحق المضاف لا بشرط واللا بشرط يجتمع مع الف شرط كان متحدا مع الاشياء التى ظهر هو فيها ومقوما لها ومعها وليست الاشياء سواها والحق الاول من حيث فاعليته هو الحق المضاف، فان الفاعلية هى نفس الفعل ولولا الفعل لما كان الفاعلية والفعل بوحدته عين المنفعلات من حيث انها منفعلات فصح ما قيل ان بسيط الحقيقة كل الاشياء يعنى من حيث الفعل وصح ما نسب الى الفتوحات وهو قوله: سبحان من اظهر الاشياء وهو عينها، يعنى بحسب الفعل ومثال ذلك النفس حيث انها بوحدتها كل القوى فانها فى البصر عين البصر، وفى السمع عين السمع، وهكذا فى غيرها مع ذلك ما انثلم وحدتها وما تنزلت عن مرتبتها العالية الغيبية ولولا هذا الاتحاد والعنية لما صح نسبة فعل القوى اليها حقيقة كما انه لولا عينية الحق الاول مع الاشياء لما صح نسبة افعالها اليه حقيقة وكان قول القدرية صحيحا وقول الثنوية حقا، وهذا النور حقيقة واحدة ظلية مضيئة لسطوح المهيات والحدود والكثرة المترائاة انما هى بعرض المهيات ولا ينثلم بها وحدتها الذاتية كما ان النور العرضى الشمسى حقيقة واحدة وتكثره بتكثر السطوح لا ينثلم به وحدته، والظلمة عبارة عن عدم النور فهى خافية فى نفسها مخفية لغيرها وهذا شأن المهيات والحدود والاعدام التى نشأت من تنزل الوجود وضعفه، وكلما زاد التنزل والضعف ازدادت الحدود والمهيات والخفاء والاخفاء حتى اذا وصل الى عالم الطبع الذى اختفى فيه صفات الوجود، وقد علمت ان الكثرة بالذات للحدود وبالحدود يتميز الوجود كما ان بالسطوح تميز النور العرضى ولولاها لما ظهر، ولذلك قدم الظلمات مجموعا واخر النور مفردا عكس الاول فقال تعالى { وجعل الظلمات والنور } ولما كان الدهرية والطبيعية والقائلون بالبخت والاتفاق والقائلون بالاجزاء التى لا تتجزى وغيرهم من الفرق الملحدة قائلين بقدم العالم بصورته ومادته او بمادته فقط كانت الفقرة الاولى منعا لدعويهم، ولما كان اكثر الثنوية قائلين بقدم النور والظلمة وانها مبدءان للعالم وقد مضى وجه مغالطتهم فى اول سورة النساء عند قوله
إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة
[النساء: 17] ، كانت الفقرة الثانية منعا لدعويهم { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } فيه معنى التعجب، وتخلل ثم للاشارة الى استبعاد التسوية مع كونه خالقا للسماوات والظلمات والنور، ولما كان الايمان به ينفتح باب القلب وبانفتاحه يوقن بالله وصفاته وملائكته وكتبه ورسله، وبدون ذلك الانفتاح لا يمكن الايمان بالله ولذا اختص الايمان بمن بايع عليا (ع) وخلفائه ودخل البيعة فى قلبه ما به ينفتح بابه الى الملكوت كان الكفر هو ستر باب القلب وعدم انفتاحه بتلك البيعة فالكافر من لم يبايع عليا (ع) بالبيعة الخاصة الولوية، ولذلك فسر الكفر فى اكثر الآيات بالكفر بالولاية والكفر بعلى (ع) والرب المضاف كما ورد عنهم فى تفسير
وكان الكافر على ربه ظهيرا
[الفرقان:55] هو الرب فى الولاية والرب المطلق هو رب الارباب، والوجه فى ذلك ان الولاية هي اضافة الله الاشراقية الى الخلق فمعنى الآية بحسب المقصود ثم الذين كفروا بعلى (ع) بستر وجه القلب بترك بيعة على (ع) وعدم دخول الايمان فى قلوبهم بعلى (ع) يسوون سائر افراد البشر ويمكن تعلق بربهم بكفروا وكون يعدلون بمعنى يسوون او بمعنى يخرجون من الحق وبحسب التنزيل ثم الذين كفروا بالله بترك بيعة محمد (ص) وعدم قبول الاسلام او ثم الذين كفروا بالله بترك الاقرار بالله او بوحدانيته بربهم الذى هو رب الارباب يسوون الاصنام، وهذه الفقرة رد بحسب الظاهر على مشركى العرب وغيرهم من عابدى الوثن والعجل وغيرهما، وبحسب التأويل رد على كل من انحرف عن الولاية.
[6.2]
{ هو الذي خلقكم من طين } باعتبار مادتكم الاولى منع لمن ادعى الآلهية لنفسه او لغيره من افراد البشر { ثم قضى أجلا } اى حتم اجلا لا تخلف عنه { وأجل مسمى عنده } لا يطلع عليه احدا من ملائكته ورسله فانه علم استأثره لنفسه يقدم منه ما يشاء ويؤخر ما يشاء، واما العلم الذى يطلع عليه ملائكته ورسله فانه محتوم لا يكذب ملائكته ورسله والبداء والمحو والاثبات فى ذلك الاجل المسمى عنده، وتحقيق مسئلة البداء والمحو والاثبات والحكمة المودعة فيه من الترغيب فى الصلات والدعوات والتضرعات والصدقات وسائر العبادات، وسر استجابة الدعوات مع عدم تأثر العالى عن الدانى موكول الى محل آخر من هذا الكتاب { ثم أنتم تمترون } فيه معنى التعجب واستبعاد الامتراء بالنسبة الى الخالق.
[6.3]
{ وهو الله في السماوات وفي الأرض } اعلم، ان الله فيه معنى الآلهة والتصرف بل جميع الاضافات الممكنة من الخالق بالنسبة الى المخلوق فانه الاسم الجامع وامام ائمة الاسماء فاعتبر فيه معنى الوصف ولذلك جاز تعلق الظرف به، وبيان اعراب الآية ان لفظ هو مبتدء والله بدله او خبره وفى السماوات ظرف لغو متعلق بالله او بيعلم او ظرف مستقر خبر او خبر بعد خبر او حال، ويعلم الاتى خبر او خبر بعد خبر او حال مستأنف، وجملة هو الله عطف على جملة هو الذى خلقكم او حال وبعدما علم معنى معيته تعالى وقيوميته واحاطته بالاشياء يظهر معنى كونه آلها فى السماء وفى الارض، وهذا رد على من اشرك معه غيره كبعض الثنوية القائل بان اهرمن او الظلمة مخلوق الله لكنه شريك له فى الايجاد والشرور كلها منسوبة اليه، وكجمهور الهنود القائلين بان الامور موكولة الى الملائكة ويسمونهم باسماء، وكبعض الصابئين القائل بان الكواكب مخلوقة لله لكنها مدبرة للعالم دون الله، وكبعض المشركين القائل بان العجل والوثن (وغيرهما) شفعاء عند الله ولها التدبير والتصرف { يعلم سركم } من السجايا والنيات والعقائد وجملة المكمونات التى لم تظهر بعد فى وجودكم ولم تشعروا بها { وجهركم } من الاقوال والاحوال والالوان والاشكال والنسب والاموال { ويعلم ما تكسبون } لانفسكم من تبعة اعمالكم التى تعملونها بجوارحكم تقرير لآلهيته ووعد ووعيد للمحسن والمسيء منهم.
[6.4-5]
{ وما تأتيهم من آية من آيات ربهم } عطف على يعلم سركم على ان يكون مستأنفا او حالا او هو حال ابتداء كأنه قيل: ما حاله مع الخلق؟ - وما حال الخلق معه؟ - او عطف على انتم تمترون وعلى اى تقدير ففيه التفات من الخطاب الى الغيبة، واعظم الآيات امير المؤمنين (ع) والمقصود من الآيات ههنا اعم من الآيات التكوينية والتدوينية والآفاقية والانفسية { إلا كانوا عنها معرضين فقد كذبوا بالحق } الذى هو اعظم آياته وهو الولاية كا سبق وتكذيبهم للحق لتمرنهم على تكذيب مطلق الآيات { لما جآءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزءون } من الولاية.
[6.6]
{ ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن } فاتكلوا على حياتهم الداثرة الفانية واستبدوا بآرائهم الكاسدة وأعرضوا عن آياتنا، والقرن برهة كثيرة من الزمان او هو مدة عشرة او عشرين او ثلاثين او اربعين او خمسين او ستين او سبعين او ثمانين سنة، أو مائة او مائة وعشرين سنة، او اهل زمان واحد او امة بعد امة، او كل امة هلكت فلم يبق منهم احد { مكناهم في الأرض } بالصحة والقوه فى الاجسام والسعة فى الاموال والاولاد { ما لم نمكن لكم وأرسلنا السمآء } اى المطر والسحاب { عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم } يعنى هيئنا لهم اسباب الترفه والسعة والتنزه علاوة على تمكينهم فى الارض { فأهلكناهم بذنوبهم } يعنى ما صار تمكنهم حافظا لهم عن بأسنا ولا امداد نالهم واستدارجنا اياهم { وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين } تهديد بليغ لهم.
[6.7]
{ ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم } مكتفين بالرؤية لئلا يقولوا سكرت ابصارنا { لقال الذين كفروا } بالله او بك { إن هذآ إلا سحر مبين } لنهاية عتوهم وتمرنهم على الجحود.
[6.8-9]
{ وقالوا } عنادا ولجاجا { لولا أنزل عليه ملك } ان كان رسولا { ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر } امر حيوتهم او الامر بقبض ارواحهم يعنى انهم ضعفاء الابصار ليس لهم قوة الجمع بين الطرفين، والملك لا يدركه الا بصيرة باطنة اخروية لا البصر الظاهر الدنيوى فلو انزلنا ملكا حتى يروه لانسلخوا من ظواهرهم البشرية ولانقلب الدنيا آخرة والحيوة ممات فلقصورهم وضعفهم لم ننزل ملكا بحيث يرونه، ولاينافى هذا نزول الملك على الرسل (ع) لجمعهم بين الدنيا والآخرة كما مضى تحقيقه وكيفية مشاهدة الملك فى المنام واليقظة للرسل وسماع قوله للانبياء والمحدثين عند قوله
وإثمهمآ أكبر من نفعهما
[البقرة: 219] من سورة البقرة { ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا } جواب ثان او جواب لاقتراح ثان فانهم تارة قالوا: لولا انزل عليك ملك، وتارة قالوا: لو اراد الله ان يبعث الينا رسولا لا نزل ملكا { وللبسنا عليهم ما يلبسون } يعنى لو انزلنا ملكا اما جعلناه بصورة ملك ولم يقووا على ادراكه، او جعلناه بصورة رجل ولو جعلناه بصورة رجل لا وقعنا عليهم الالتباس والامتراء حتى يقولوا فيه ما قالوا فى الرسول البشرى، فالآية اشارة الى قياس استثنائى منفصل التالى مرفوعة بكلا شقيه ان كانت جوابا بكلا شقيه لسؤال واحد، او اشارة الى قياسين استثنائيين ان كانت جوابين لسؤالين منهم.
[6.10]
{ ولقد استهزىء برسل من قبلك } تسلية له (ص) { فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون } يعنى احاط بهم العذاب الذى كانوا به يستهزؤن، او وبال القوى الذى كانوا بسببه يستهزؤن.
[6.11]
{ قل سيروا في الأرض } اى سيروا فى الارض الظاهرة باقدامكم وفى ارض القرآن وتواريخ الامم الماضية بابصاركم، وفى ارض العالم الصغير ببصائركم { ثم انظروا } اى تفكروا، وتخليل ثم لان التفكر هو ترتيب المقدمات والانتقال منها الى النتائج وبالسير يحصل المقدمات وبعد حصول المقدمات يمكن التفكر { كيف كان عاقبة المكذبين } بالرسل (ع) فى شأن أنفسهم او فى شأن اوصيائهم او عاقبة المكذبين بأوصيائهم.
[6.12]
{ قل } للمكذبين والمقترحين { لمن ما في السماوات والأرض } الزاما لهم على الاقرار حتى يتنبهوا ان ليس لهم الاقتراح على المالك وانه يفعل ما يشاء ويرسل من يشاء { قل } انت من قبلهم ولا تنتظر جوابهم فانه لا جواب لهم سواه { لله كتب على نفسه الرحمة } فبرحمته لا يهملكم ويرسل اليكم الرسل ويرغبكم فى طاعته ويحذركم من مخالفته ويمهلكم فى معصيته { ليجمعنكم } قرنا بعد قرن الجملة الاولى وهذه اما جزء مقول القول او استيناف من الله، ويحتمل ان يكون هذه مستأنفة والاولى مقولة القول، ويحتمل ان يكون هذه بدلا من الرحمة لجواز تعلق الكتب بالجملة { إلى يوم القيامة لا ريب فيه } قد مضى نظيره { الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون } مستأنف لاستدراك ما يتوهم من انه لا ينبغى لاحد ان يبقى على الكفر بعد وضوح الامر كأنه قال لكن الذين خسروا انفسهم لا يؤمنون، ودخول الفاء فى الخبر وتخلل الضمير للدلالة على السببية والحصر والتأكيد، وقيل موضع الذين نصب على الذم او رفع على الخبرية اى انتم الذين خسروا انفسهم.
[6.13]
{ وله ما سكن في الليل والنهار } هذا ايضا يحتمل كونه مقولا للقول ومستأنفا يعنى قل لهم بعد ما قلت ان له ما سكن فى الامكنة له ما سكن فى الازمنة، وسكن من السكنى او السكون، ولما كان التجدد والانطباق على الزمان من خواص الطبيعيات التى هى المتحيزات كان ما سكن فى الليل والنهار يعنى ما دخل تحت الزمان بعينه هو ما سكن فى السماوات والارض اى ما انطبق على المكان وان عمم السماوات والارض بين مطلق الارواح والاشباح فالليل والنهار يعمان، ولما كان مملوكية الاشياء له مهتما بها اكد الاول بالثانى بتغيير العبارة ليتمكن فى نفوسهم { وهو السميع العليم } لا سمع الا بسمعه ولا علم الا بعلمه.
[6.14]
{ قل أغير الله أتخذ وليا } بعد انه مالك الكل { فاطر السماوات والأرض } التوصيف به للاشعار بالعلة { وهو يطعم ولا يطعم } علة اخرى للحكم { قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم } لا يسبقنى احد فى ظاهر الاسلام ولا فى باطنه لانى امرت تكوينا وتكليفا ان اكون خاتم الرسل وسابق الكل { و } قيل لى { لا تكونن من المشركين } او هو عطف على { قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم }.
[6.15]
تعريض بهم فانه ابلغ فى الانصاف والمقصود قطع اطماعهم عن اضلاله، عن الصادق (ع) ما ترك رسول الله (ص) انى اخاف ان عصيت ربى عذاب يوم عظيم، حتى نزلت سورة الفتح فلم يعد الى ذلك الكلام.
[6.16]
{ من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه } عن النبى (ص)
" والذى نفسى بيده ما من الناس احد يدخل الجنة بعمله، قالوا ولا انت يا رسول الله؟ - قال (ص): ولا انا الا أن تغمدنى الله برحمة منه وفضل "
{ وذلك الفوز المبين } مقول القول اومستأنف من الله.
[6.17]
{ وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو } عطف على قوله من يصرف (الى آخره) كأنه قال ان يصرف الله العذاب عنك يؤمئذ فقد رحمك { وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير } من اقامة السبب مقام الجزاء يعنى فلا مانع له.
[6.18]
{ وهو القاهر فوق عباده } كيفية قهره للعباد بفناء الكل تحت سطوته يستفاد مما مضى { وهو الحكيم } فى فعاله لا يفعل ما يفعل الا بحكمة { الخبير } بما يقتضى اختلاف التدبير وانواع التصرف فيهم.
[6.19-20]
{ قل أي شيء أكبر شهادة } توطئة لإشهاد الله يعنى انهم يقرون بأن الله أعظم وأصدق من كل شهيد فنبههم على ذلك ثم قال { قل الله شهيد بيني وبينكم } ويحتمل ان يكون الله مبتدء محذوف الخبر جوابا من قبلهم وشهيدا خبرا محذوف المبتدأ مستأنفا لبيان المقصود { وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ } فى اى مكان كان وفى اى زمان الى يوم القيامة يعنى لا نذركم وانذر من بلغه القرآن او من صار بالغا مبلغ الرجال وروى ان من بلغ معطوف على المستتر فى انذركم وترك التأكيد بالضمير المنفصل للفصل والمعنى لانذركم انا ومن بلغ من آل محمد (ص) ان يكون اماما كقوله تعالى،
قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني
[يوسف:108] { أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل } بعد ما وبخهم على شهادتهم ان مع الله آلهة اخرى { إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون الذين آتيناهم الكتاب } من اليهود والنصارى { يعرفونه } اى رسول الله (ص) بما ذكر لهم فى كتبهم من اوصافه او الذين آتيناهم الكتاب من امة محمد (ص) يعرفون محمدا (ص) بالصدق فى امر الولاية او يعرفون عليا (ع) بما شاهدوا منه من فضله وعلمه وصدقه وامانته { كما يعرفون أبنآءهم } مبالغة فى اثبات معرفتهم { الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون } استيناف جواب لسؤال مقدر او استدراك توهم متصور كأنه قيل افامنوا به او توهم انه ما بقى منهم كافر وتكرار الموصول لان كلا جواب او استدراك لما نشأ من امر غير منشأ الآخر، ويحتمل كون الثانى بدلا او مفعولا لمحذوف او خبرا لمبتدء.
[6.21]
{ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا } بادعاء خلافة الله لنفسه او بنسبة ما قاسه برأيه الى الله، او بتوهم ان الرسوم والعادات من الله، او بادعاء النيابة من الامام من غير إذن واجازة غفلة عن ان النيابة من الامام شفاعة عند الله للخلق ولا تكون الا باذن الله، او بكتابة كتاب النبوة بأيديهم ونسبته الى الله، او بكتب صورة القرآن بأيديهم ونسبته الى الله { أو كذب بآياته } التدوينية والتكوينية الآفاقية والانفسية واعظم الكل بل اصل الكل وحقيقته الانسان الكامل والاصل فيه على (ع) امير المؤمنين، ولفظ او ههنا لمنع الخلو فان اكثرهم جامعون بين الوصفين مع انه لو لم يكن لهم الا واحد منهما كفى { إنه لا يفلح الظالمون } كأنه قيل: فما حال الظالم حتى يكون من هو اظلم اشد فيها؟ فقال جوابا: انه لا يفلح الظالمون ولذا اكده استحسانا.
[6.22]
{ ويوم نحشرهم جميعا } واذكر او ذكرهم { ثم نقول للذين أشركوا } بالله فى الآلهة او اشركوا بولاية على (ع) ولاية غيره كذا ورد عنهم (ع) ههنا وفى اكثر موارد ذكر الشرك والكفر، والسر فى ذلك كما سبق مرارا ان معرفة الله وصفاته والايمان به لما كان موقوفا على فتح باب القلب وفتحه يتوقف على الولاية والبيعة الولوية التى هى الايمان وبها يدخل الايمان فى القلب وينفتح بابه، ولذا ورد بنا عرف الله، ومعرفة الله ان تعرف امام زمانك وغير ذلك بطريق الحصر كان الكفر والشرك هو عدم فتح باب القلب او عدم معرفة الامام او الكفر والاشراك بالامام والكفر بالرسالة يكون كفرا على كفر { أين شركآؤكم } من اصنامكم وغيرها التى جعلتموها بالمواضعة شركاء لله ويقال هذا تهكما بهم { الذين كنتم تزعمون } انهم شركاء لله او شركاء لعلى (ع).
[6.23]
{ ثم لم تكن فتنتهم } اى عذرهم للخلاص كما فى الخبر من: فتنت الذهب اذا اخلصته { إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين } يحلفون على كذبهم لله كما كانوا يحلفون فى الدنيا للناس.
[6.24]
من آلهتهم او من شركائهم فى الولاية، مضى الفعلين لتحقق وقوعهما كأنهما وقعا سواء كان الخطاب عاما او خاصا او بالنظر الى المخاطب المخصوص اعنى محمدا (ص) فانه ينظر ويرى ما لم يجيء فى سلسلة الزمان.
[6.25]
{ ومنهم من يستمع إليك } حين تتلوا عليهم آيات الكتاب او مناقب وصيك { وجعلنا على قلوبهم أكنة } جمع الكنان وهو ما يستر الشيء كراهة { أن يفقهوه } او لئلا يفقهوه { وفي آذانهم } اى اذان قلوبهم { وقرا } كراهة ان يسمعوه فان تتل عليهم كل آية فى رسالتك او خلافة وصيك لا يسمعوا { وإن يروا كل آية } من آياتنا العظمى ومعجزاتك { لا يؤمنوا بها } بسبب ازدياد قسوتهم وعنادهم فكيف يؤمنون بك او بوصيك وازدادت قسوتهم { حتى إذا جآءوك يجادلونك } فى نبوتك او خلافة وصيك { يقول الذين كفروا } بك او بوصيك { إن هذآ } القول الذى تسميه قول الله او ان هذا الذى تقوله فى ابن عمك { إلا أساطير الأولين } جمع اسطار جمع سطر او جمع اسطورة كناية عن اسمارهم وخرافاتهم.
[6.26-27]
{ وهم ينهون عنه } عن هذا او عنك بطريق الالتفات او عن على (ع) بطريق التورية { وينأون عنه } يعنى يمنعون الناس عنه ويتباعدون عنه { وإن يهلكون إلا أنفسهم } بالتباعد عنه { وما يشعرون ولو ترى إذ وقفوا على النار } قرئ ببناء المفعول والفاعل من وقف اذا قام او اقام او اطلع يعنى لو ترى اذ اقيموا او اطلعوا على النار لرأيت عجيبا فظيعا بحذف الجواب { فقالوا يليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا } لما رأوا من مقامك او مقام اوصيائك { ونكون من المؤمنين } بمحمد (ص) او بأمير المؤمنين (ع) وهذا الكلام والتمنى منهم يكون لدهشة الخوف لا لقائد الشوق والا لخلصوا وما اجيبوا بكلا وانها كلمة هو قائلها وامثال ذلك كما فى قوله تعالى
كلمآ أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها
[الحج: 22] يعنى ان كانوا يريدون الخروج منها من شوق لم يعيدوا فيها وقوله تعالى { بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل }.
[6.28]
{ بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل } دليل عليه فان المعنى ما حصل لهم حب وشوق الى على (ع) لان فطرتهم فطرة البغض له بل بدا لهم وبال نفاقهم فخافوا غاية الخوف فتمنوا الخلاص من الخوف لا الوصال من الشوق { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } لانه ذاتى والذاتى لا يتخلف بل قد يختفى بعارض فاذا زال العارض ظهر { وإنهم لكاذبون } فى ما يقولون من انهم إن ردوا لا يكذبوا ويؤمنوا لما عرفت انه ليس هذا التمنى من شوق ذاتى بل من امر عرضى يزول بزواله.
[6.29-30]
{ وقالوا } عطف على عادوا او عطف على يقول الذين كفروا والاختلاف بالمضى للاشارة الى ان ذلك قولهم قديما وجديدا، او استيناف لذم اخر وبيان عقوبة اخرى وهو انسب بما بعده من قوله ولو ترى اذ وقفوا على ربهم يعنى تكذيبهم بالبعث يقتضى احضارهم عند الله بأفضح حال وتكذيبهم بالآيات يقتضى دخولهم فى النار بأشد عذاب { إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ولو ترى إذ وقفوا على ربهم } كما يوقف العبد الجانى على مولاه للمؤاخذة والرب المضاف هو ربهم فى الولاية وهو امير المؤمنين (ع) وقد قال فى بعض كلامه (ع): واياب الخلق الى وحسابهم على، وقد مضى فى مطاوى ما سبق بيان عدم تجاوز الخلق عن المشية التى هى الولاية وانها مبدء الكل ومنتهاه { قال أليس هذا بالحق } تعييرا لهم على تكذيب البعث { قالوا بلى وربنا } لظهوره ولذا اكدوا الجواب بالقسم تأكيدا للازم الحكم الذى هو علمهم بالحكم { قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } بربكم الذى هو على (ع).
[6.31-32]
{ قد خسر الذين كذبوا بلقآء الله } فى مظاهره الولوية فان لقاءه تعالى اضافة بينه وبين عبده وحقيقة اضافاته تعالى هى اضافته الاشراقية التى هى الولاية المطلقة وهى على (ع) بعلويته { حتى إذا جآءتهم الساعة } ساعة الموت او ساعة القيامة او ظهور القائم (ع) يعنى ظهور الامام عند حضور الساعة وقد فسرت فى الاخبار بكل والكل راجع الى معنى واحد والتفاوت اعتبارى { بغتة } ولقوا الله بظهور على (ع) او ظهور القائم (ع) { قالوا يحسرتنا } جيئي فهذا اوان حضورك { على ما فرطنا } وقصرنا { فيها } فى الساعة ولقاء الرب عندها { وهم } حينئذ { يحملون أوزارهم } اثقالهم التى كسبوها فى الدنيا { على ظهورهم } لانه لا يزر اليوم وازر وزر آخر { ألا سآء ما يزرون وما الحياة الدنيآ إلا لعب ولهو } لا يليق بالحكيم ان يجعل مثلها غاية لفعله؛ واللعب ما كان له غاية خيالية، واللهو ما لم يكن له غاية، وهو عطف على { وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا } ، او على { أليس هذا بالحق } او على { بلى وربنا } ، او على { فذوقوا العذاب } ، او على { قد خسر الذين كذبوا } ، او على { يحسرتنا } ، او على { وهم يحملون أوزارهم } ، او حال متعلق بواحدة من الجمل السابقة { وللدار الآخرة خير للذين يتقون } واما الذين لا يتقون فى اشد دار لهم عذابا { أفلا تعقلون } انه لا يليق بالحكيم جعل الاولى غاية ويليق به جعل الثانية غاية فاطلبوها.
[6.33]
{ قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون } فى حقك بانه ساحر او مجنون او غير ذلك او فى حق خليفتك بان لا يردوا هذا الامر اليه وهو استيناف وتسلية للرسول (ص) ولا ينبغى لك ان تتحزن { فإنهم لا يكذبونك } من حيث انك بشر مثلهم فقد لبثت فيهم وما قالوا فيك الا خيرا وكنت معروفا فيهم بالصدق والامانة حتى لقبت بمحمد الامين { ولكن الظالمين } لانفسهم بتكذيب الآخرة ولقاء ربهم { بآيات الله يجحدون } يعنى انك بعد ما صرت رسولا وآية لنا كذبوك من هذه الحيثية ويرجع التكذيب من هذه الحيثية الى الله لا اليك، او انهم لا يكذبونك من حيث انت رسول من الله ولكنهم يكذبون عليا (ع) وتكذيبك فيما قلت فى حقه راجع الى تكذيب على (ع)، وقرئ لا يكذبونك من: اكذبه اذ وجده كاذبا، او نسبه الى الكذب او صيره كاذبا، اى لا يجدونك كاذبا او لا يأتون بامر يجعل صدقك كذبا؛ هكذا روى عنهم.
[6.34]
{ ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا } فتأس بهم واصبر ولا تحزن { ولا مبدل لكلمات الله } عطف باعتبار المعنى او جملة حالية كأنه قال: لا مانع من نصر الله ولا مبدل لكلمات الله اى مواعيده وآياته العظمى من الرسل واوصيائهم (ع)، او آياته بالقهرية من مظاهر الشرور فانه لا يقدر احد على تبديلهم عما هم عليه { ولقد جآءك من نبإ المرسلين } واقوامهم وان الغلبة بالاخرة لهم على اقوامهم لا لاقوامهم عليهم.
[6.35]
{ وإن كان كبر عليك إعراضهم } عنك او عن على (ع) { فإن استطعت أن تبتغي نفقا } جحرا او منفذا { في الأرض أو سلما في السمآء فتأتيهم بآية } من تحت الارض او من السماء وجوابه محذوف اى فافعل والمقصود التعريض بمنافقى امته والعتاب لهم واظهار انه (ص) محزون على تولى القوم عنه وعن على (ع)، او المقصود التعريض بمن هو حريص على اتيان الآية للمقترحين من موافقى امته { ولو شآء الله لجمعهم على الهدى } يعنى ان هداهم وضلالهم بمشية الله وما كان بمشية الله فالرضا به اولى من الحزن عليه { فلا تكونن من الجاهلين } ان الكل بمشية الله ولما توهم من هذا انهم مجبورون فى افعالهم ولا دخل لهم فى ضلالهم وهديهم رفع ذلك بان استعدادهم واستحقاقهم يقتضى تكل المشية فقال تعالى { إنما يستجيب الذين يسمعون }.
[6.36]
{ إنما يستجيب الذين يسمعون } يعنى الذين يستعدون للقبول فبقدر سببية القابل فى الفعل لهم سببية فى ضلالهم وهديهم ولما توهم من ان المستعد يجيب وغير المستعد لا يجيب انه لا ينبغى لغير المستعد دعوة ولا امر ولا نهى ولا يلزم عليه ذم ولوم فأجاب عنه وقال { والموتى } الذين لا استعداد لهم والمتوقفون فى مراقد طبعهم اذا جاهدوا { يبعثهم الله } من مراقد طبعهم { ثم إليه يرجعون } فيسمعون بعد التوجه اليه ويجيبون بعد السماع ليس الموت للموتى حتما ولا الحيوة للاحياء حتما.
[6.37]
ولا يشعرون قدرة الله على ذلك ولا يشعرون الآيات وان الله اجل من ان يقترح عليه شيء وعدم علمهم لكونهم موتى.
[6.38]
{ وما من دآبة في الأرض } توصيفه بوصف الجنس وكذا ما بعده للاشارة الى ارادة الجنس { ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم } مخلوق مرزوق مدبر والتناسخية يتوسلون بامثال هذا فى رواج مذهبهم والمقصود ذمهم على عدم العلم وان الحيوانات العجم مثلكم فى كل جهة وتميزكم عنها بالعلم والاشتداد فيه فاذا لم تكونوا تعلمون فلا تميز بينكم { ما فرطنا في الكتاب من شيء } اى فى اللوح المحفوظ الذى هذا القرآن صورته التامة فما فرط فيه ايضا من شيء وسائر الكتب صورته الناقصة ولذا كان مهيمنا على الكل ناسخا له، وهو من فرط الشيء بمعنى ضيعه واهلمه لا من فرط فى الشيء بمعناه حتى يكون فى الكتاب مفعوله ومن شيء مفعولا مطلقا بل فى الكتاب ظرف ومن شيء مفعول به، لان المقصود عدم اهمال شيء فى الكتاب بترك ثبته فيه وهو يستفاد صريحا اذا جعل من شيء مفعولا به، واما اذا جعل مفعولا مطلقا فلا يستفاد الا التزاما والمقصود انا كما احصيناكم فى الكتاب واحصينا ارزاقكم وآجالكم كذلك احصيناهم لا فرق بينكم الا بالعلم وعدمه { ثم إلى ربهم يحشرون } كما تحشرون.
[6.39]
{ والذين كذبوا بآياتنا } عطف على محذوف اى فالذين آمنوا بآياتنا وصدقوها خارجون من صمم الحيوانات وبكمها وظلماتها بامتيازهم بالعلم عنها، والذين كذبوا بآياتنا التدوينية والتكوينية الآفاقية وعلى (ع) اعظمها والانفسية والعقل اعظمها وهو مظهر على (ع) { صم وبكم } مثل سائر الدواب وليس الفرق بينهم الا بالايمان والعلم { في الظلمات } زائدا على سائر الدواب فانها غير خارجة من انوار نفوسها الضعيفة بخلاف الكافر بالولاية فانه يخرج من نوره القوى الذى هو نور النفس الانسانية وهو جهة العلم والايمان الى ظلمات الجهل الساذج ثم ظلمات الجهل المركب ثم ظلمات الاهوية الفاسدة ثم ظلمات الطبع ثم استدرك توهم ان فى ملكه، ما ليس بمشيته بقوله تعالى { من يشإ الله يضلله } ويجعله اصم وابكم وفى الظلمات { ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم } الصراط المستقيم كما سبق هو طريق الولاية وطريق القلب الى الله وهو الولاية التكوينية وصاحب الولاية طريق ايضا بمراتبه المنتهية الى الله والاصل فى صاحبى الولاية على (ع) وطريق القلب وطريق الولاية وصاحب الولاية متحدة والتغائر اعتبارى فصح تفسير الطريق المستقيم بالولاية وبعلى (ع) كلما وقع كما فسروه لنا، فالمعنى من يشأ الله يضلله عن الولاية ومن يشأ يجعله على ولاية على (ع).
[6.40]
{ قل أرأيتكم } هذه اللفظة لكثرة استعمالها صارت كالمثل فلا يتغير الضمير المرفوع بحسب حال المخاطب وقد يلحق صورة الضمير المنصوب بها وقد لا تلحق واذا لحقت يلحظ فيها كثيرا حال المخاطب وهى حرف خطاب او ضمير نصب تأكيد للضمير المرفوع او مفعول اول لرأيت واذا كانت حرفا للخطاب او تأكيدا للضمير المرفوع فمفعولا رأيت كانا محذوفين، او جملة الشرط والجزاء قائمة مقامهما معلقا عنها رأيت، او جملة غير الله تدعون معلقا عنها واذا كانت مفعولا اولا فالمفعول الثانى محذوف او هو جملة الشرط والجزاء او جملة غير الله تدعون معلقا عنها مفعولا واذا كانت اولا فالمفعول الثانى محذوف او هو جملة الشرط والجزاء او جملة غير الله تدعون معلقا عنها العامل ولما كان الاستفهام استخبارا او كانت هذه الكلمة غير باقية على صورتها ومعناها الاصيلين صار المقصود الاستخبار من مضمون ما بعدها من غير نظر الى مضمون نفسها فكأنه قال اخبرونى { إن أتاكم عذاب الله } فى الدنيا والآخرة او المنظور منه عذاب الدنيا فقط لاشعار الساعة بعذاب الآخرة { أو أتتكم الساعة } فسرت الساعة بساعة الموت وساعة ظهور القائم عجل الله فرجه وبساعة القيامة والكل صحيح اذا المقصود إتيان حالة لا يثبت فيه الخيال ويفر الهوى والآمال وهذه الحالة تكون فى كل من هذه { أغير الله تدعون } يعنى لا تدعون فى هذه الحال الا الله المتعال لان كل ما سواه مما هو متشبث الخيال ومعتمد الهوى والآمال ينسى ولا يبقى فى تلك الحالة الا الفطرة الانسانية المفطورة على دعاء الله وجواب الشرط محذوف او هو جملة اغير الله بحذف الفاء { إن كنتم صادقين } فى اشراك الاصنام او الكواكب فى الآلهة والجملة معترضة وجواب الشرط محذوف والتقدير ان كنتم صادقين فادعوا غير الله فى تلك الحال.
[6.41]
{ بل إياه تدعون } تصريح بمفهوم مخالفة قوله اغير الله تدعون { فيكشف ما تدعون إليه إن شآء } يعنى ليس اجابتكم حتما { وتنسون ما تشركون } يظن انه كان المناسب ان يقدم النسيان لكنه اخر النسيان وحذف مفعول تدعون للاشعار بان نسيان الشركاء كان بمرتبة كأنه نسى نسيانهم ايضا ولم يكن نسيانهم فى ذكر المتكلم وكان اهتمامهم بكشف الضر بحيث لم يبق فى نظرهم الله الذى يدعونه اليه.
[6.42]
{ ولقد أرسلنآ إلى أمم من قبلك } تسلية للرسول (ص) وتهديد للامة { فأخذناهم بالبأسآء } بالبأساء الداهية سواء كانت فى الحرب او فى غيرها { والضرآء } النقص فى الانفس والاموال، يعنى فى بدو ارسالهم ليتكسر سورة خيالهم وقوة اهويتهم حتى يقبلوهم بسهولة او بعد تكذيبهم وشدة تعاندهم حتى يرجعوا ويتوبوا { لعلهم يتضرعون } ويلتجئون الى رسلهم، اعلم، ان الانسان وقت الامن والصحة وسعة العيش خصوصا حين تشبب القوى الحيوانية يعد نفسه من اعز الخلق ولا يعد غيره فى شيء، ويظن انه احسن الخلق رأيا ويفرق نفسه على الاهوية والآمال، فاذا ابتلى ببلاء فى نفسه او اهله او ماله انكسر سورة انانيته وتضرع الى ربه والتجأ الى من يظن انه من قبل ربه، ولذلك كان تعالى اذا ارسل رسولا الى قوم ابتلاهم ببلية ليتجؤا الى الرسل ويقبلوا منهم.
[6.43]
{ فلولا إذ جآءهم بأسنا تضرعوا } اى فلولا تضرعوا اذ جاءهم بأسنا { ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون } استدراك باعتبار المعنى يعنى لا عذر لهم حينئذ فى ترك التضرع ولكن قست قلوبهم.
[6.44]
{ فلما نسوا ما ذكروا به } من البأساء والضراء بترك الاتعاظ بها { فتحنا عليهم أبواب كل شيء } من المأمولات والمهويات استدراجا لهم وامهالا { حتى إذا فرحوا بمآ أوتوا } مما يرونهم نعمة { أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون } الابلاس اليأس والتحير وقيل منه ابليس وقيل انه اعجمى.
[6.45]
{ فقطع دابر القوم الذين ظلموا } وضع المظهر موضع المضمر للاشعار بالعلة { والحمد لله } جملة لانشاء الحمد والشكر، او عطف على دابر القوم، او على قطع بمعنى بقى الحمد لله { رب العالمين } وفسرت الآية فى الخبر هكذا فلما نسوا ما ذكروا به من ولاية امير المؤمنين (ع) وورد ايضا انه فى ولد عباس.
[6.46]
{ قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم } فيسلب تميزكم كالمجانين { من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات } آيات قدرتنا وشواهدها { ثم هم يصدفون } يعرضون ولا يتأملون فيها.
[6.47-48]
{ قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة } من غير تقدم امارة { أو جهرة } مع تقدم امارته { هل يهلك إلا القوم الظالمون وما نرسل المرسلين إلا مبشرين } بشأنهم الولوى { ومنذرين } بشأنه النبوى { فمن آمن } بالايمان العام { وأصلح } بالايمان الخاص، او من آمن بالبيعة على يد على (ع) واصلح نفسه بالوفاء بالشروط التى اخذت عليه كما عرفت ان الاصلاح لا يمكن الا بدخول الايمان فى القلب وهو مسبب عن الايمان الخاص { فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } لما سبق ان الخوف والحزن من صفات النفس والمؤمن المصلح قد سافر من حدود النفس ودخل حدود القلب الذى من دخل فيه كان آمنا، ويتبدل خوفه بالخشية وحزنه بالاشتياق الذى يعبر عنه بالفارسية " بدرد " كما قيل:
قد سيانرا عشق هست ودرد نيست
درد راجز آدمى در خورد نيست
وغير الاسلوب لان الخوف منشأه امر خارج فكأنه من طوارى النفس والحزن منشأه القلب فهو من صفات النفس ولملاحظة توافق رؤس الاى وقد مضى تحقيق وتفصيل لهذه الآية فى اول البقرة.
[6.49]
{ والذين كذبوا } بلسان الحال او لسان القال { بآياتنا } واعظمها الولاية ومن تكذيبها يسرى التكذيب الى غيرها من الآيات { يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون } بالخروج عن حكم العقل ومظهره الذى هو النبى (ص) او الوصى.
[6.50]
{ قل لا أقول لكم عندي خزآئن الله } يعنى تنزل الى مقام البشرية ودارهم بحسب بشريتك وأظهر ما هو لازمها حتى يروك مثلهم فلا ينفروا عنك فقل: ليس عندى خزائن الله فتطالبونى بمال كثير { ولا أعلم الغيب } فتطالبونى بالاخبار المغيبات { ولا أقول لكم إني ملك } فتطالبونى بما يقدر الملك عليه من الصعود فى السماء واتيان كتاب منه وامثال ذلك { إن أتبع إلا ما يوحى إلي } فى كل باب من الاحكام والآيات التى يظهرها الله على يدى والاخبار بالمغيبات { قل هل يستوي الأعمى } عن النبوات وكيفيتها { والبصير } بها وبان النبى لا يجوز ان يكون غير البشر يجرى عليه كل ما يجرى على سائر افراده، الا انه يعلم بتعليم الله ما لا يعلمه غيره ويوحى اليه ولا يوحى الى غيره { أفلا تتفكرون } فى عدم التسوية حتى تخرجوا من ظلمة العمى الى نور البصر.
[6.51]
{ وأنذر به } اى بالله او بالقرآن او بعلى (ع) او بما يوحى اليك { الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم } المضاف الذى هو ربهم فى الولاية { ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع } الولى هو الشيخ فى الولاية والشفيع كالنصير هو الشيخ فى الدلالة، وبعبارة اخرى الولى هو معلم احكام القلب والشفيع هو معلم احكام القالب والاول شأن الولاية والثانى شأن النبوة ولما كان النبوة صورة الولاية وكل نبى له ولاية لا محالة وكذا كل ولى له خلافة للنبوة، فكل من النبى والولى يصح ان يكون شفيعا ووليا معا والضمير فى من دونه راجع الى ربهم { لعلهم يتقون } عما يصرفهم عن ربهم، اعلم ان الانسان فطرى التعلق وكلما انزجر مما تعلق به من الدنيا واهلها طلب التعلق بمن يطمئن اليه ويسلم له من جهة الآخرة، وكلما طلب ذلك التعلق والارادة والتقليد هيج شياطينه الجنية والانسية لتحذيره عن هذا الامر وتخويفه وصده فكلما هيج الشوق عزمه للطلب صده الشياطين عنه وخوفوه وقيل بالفارسية:
تو جو عزم دين كنى با اجتهاد
ديو بانكت بر زند اندر نهاد
كه مرو زينسو بينديش اى غوى
كه اسير رنج ودرويشى شوى
سالها او را ببانكى بنده
كار او اينست تا تو زنده
فمعنى الآية على هذا انذر بالقرآن الذى هو صورة الولاية التى اصلها والمتحقق بها امير المؤمنين (ع) الذين يريدون ويطلبون الحضور عند ربهم الذى هو على (ع) او خليفته ويريدون التعلق به والتقليد له بان يحشرهم الشيخ الدليل الذى هو كالنبى بالآداب المسنونة اليه، ويخافون بتخويفات الشياطين الانسية والجنية عن الحضور لديه والتعلق به، فانهم بكيد الشيطان قاعدون وبمحض انذارك يرتفع كيد الشيطان فان كيده كان ضعيفا، وانذرهم بأنه ليس لهم من دونه ولى يتولى امورهم ولا شفيع يشفع جرائمهم عند الله يعنى انذرهم بان ربهم فى الولاية له شأن النبوة والشفاعة وشأن الولاية والتربية، فهو حقيق بان يخاف من التولى عنه ولا يخاف من التوجه اليه لعلهم يتقون تخويفات الشياطين ولا يبالون بتهديداتهم ويقطعون سلاسل تهديداتهم ويحضرون عنده كالعاشق الذى لا يبالى بما قيل فيه وما عرض له.
[6.52]
{ ولا تطرد الذين يدعون ربهم } فى الولاية يعنى ادع الطالب للدين ولا تطرد الداخل فى الدين بقبول ولاية على (ع) والبيعة الولوية معه فانك بعثت لدعوة الخلق اليه لا لطردهم عنه او لا تطرد عن نفسك الذين يدعون ربهم فى الولاية { بالغداة والعشي } يعنى يدعون ذاته ويريدون الاتصال بملكوته بعد الاتصال بملكه، فان الدعاء قد يستعمل فى دعاء الشيء لامر اخر من نصرته واعانته وغيرهما وقد يستعمل فى دعاء ذات الشيء طلبا له من غير ارادة امر آخر منه وهذا هو معناه اذا استعمل مطلقا وهو المراد ههنا لاطلاقه ولقوله بيانا لهذا المرام { يريدون وجهه } يعنى لا يريدون من دعاء ربهم غير وجه الرب ووجه كل شيء هو ما به يتوجه الى شيء آخر، ولما كان الكل متوجها بحسب التكوين الى الله فما به توجههم الى الله هو ملكوتهم المثالية او ما فوقها بحسب مرتبة الداعى وهذا فى المربوب واما الرب فلما كان متوجها الى الخلق للتكميل كان وجهه الى الخلق ما به يتوجه اليهم وما به يتوجه الى الخلق هو ملكوته ايضا، وفى هذا دليل على ما قالت العرفاء العظام من ان السالك ينبغى ان يكون دائم الذكر، فان المراد بالغداة والعشى استغراق الازمنة ولذا لم يكتف الله تعالى فى الذكر بالاطلاق بل قيده بالكثرة فى اكثر ما وقع وبنبغى ان يكون دائم الفكر ودائم الحضور، فان الفكر والحضور فى لسانهم هو التفكر فى ملكوت الرب والحضور عنده وغاية تلقين الشيخ الذكر للمريد ودعاء المريد بالذكر المأخوذ هى حصول وجه الرب له والى هذا المعنى اشارت الآية فتذكر، وقد نقل عن الصادق (ع) وقت تكبيرة الاحرام تذكر رسول الله (ص) واجعل واحدا من الائمة نصب عينيك، ولهم على مرامهم شواهد كثيرة نقلية وعقلية وما كان قصدنا الى بيان مقصدهم { ما عليك من حسابهم من شيء } من حيث شأن نبوتك بل حسابهم على ربهم { وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين } عطف على تطردهم او جواب للنهى كما ان تطردهم جواب للنفى، يعنى ان حساب من دخل فى الولاية وطردهم ابقاءهم انما هو على شأنك الولوى لا على شأنك النبوى فلا تطردهم بشأنك النبوى الذى يراعى الكثرة ويربى كلا فى مرتبته ويحفظ لكل ذى شأن شأنه عن ارادة شهود الرب والاتصال بوجهه، ولا تطردهم ايضا بحسب الصورة بشأنك الحافظ للصورة عن مجلسك بطلب القوم طردهم فان شأنك النبوى يستدعى ان لا تقرب الفقراء الذين لا شأن لهم فى انظار اهل الدنيا اليك، وان لا تحضرهم فى المجلس العام النبوى، وقد ذكر فى شأن نزول الآية انها نزلت فى قوم من المسلمين مثل صهيب وخباب وبلال وعمار وغيرهم كانوا عند رسول الله (ص) فمر بهم ملأ من قريش فقالوا: يا محمد (ص) ارضيت بهؤلاء من قومك؟! أفنحن نكون تبعا لهم؟! هؤلاء الذين من الله عليهم؟! طردهم عنك فلعلك ان طردتهم اتبعناك، وقيل انه (ص) قبل منهم ان يطردهم من عنده حين وفود القوم عليه واراد ان يكتب لهم كتاب عهد بذلك، فنزلت الآية ونحى الكتاب وذكر غير ذلك فى المفصلات.
[6.53]
{ وكذلك } اى مثل ابتلاء اغنياء قومك بفقرائهم { فتنا بعضهم ببعض ليقولوا } حالا وقالا اى الذين لا استحقاق لهم للدين واردنا ان نصرفهم عنك او عن الولاية { أهؤلاء من الله عليهم من بيننآ } استهزاء بهم وتنفرا عنهم حتى لا يرغبوا فى الاسلام او فى الولاية ولا يؤذوا صاحب الدين بتزاحمهم بالاغراض الدنيوية له، فاللام للغاية لا لمحض العاقبة كما قيل { أليس الله بأعلم بالشاكرين } فما بالك تطردهم وما بالهم يستهزؤن ويطلبون طردهم والله تعالى يذكرهم بالشكر الذى هو ابتغاء وجه ربهم ثم بعد نهيه عن طردهم امره بتقريبهم والتلطف بهم بالتحية عليهم وبشارتهم بالغفران والرحمة فقال { وإذا جآءك الذين يؤمنون بآياتنا }
[6.54]
{ وإذا جآءك الذين يؤمنون بآياتنا } يعنى يؤمنون بالايمان الخاص الولوى فان من بايع عليا (ع) بالبيعة الولوية يؤمن بجملة الآيات وهم الذين يدعون ربهم فى جميع الاوقات والذين هم على صلوتهم دائمون وهم الذين لا يبتغون فى دعائهم الا الاتصال بملكوت ربهم والحضور عنده ولقاء وجهه { فقل سلام عليكم } تحية لهم وتلطفا بهم وقل لهم { كتب ربكم على نفسه الرحمة } بشارة لهم وتطييبا لنفوسهم وتأنيسا لهم الى ربهم { أنه من عمل منكم سوءا بجهالة } بيان لمنشأ السوء لا تقييد له، يعنى من عمل منكم سوء بالتنزل عن دار العلم الى دار الجهل وقبول حكومة الجهل فان الواقع لا يكون الا هكذا { ثم تاب من بعده } عن دار الجهل { وأصلح } نفسه بالدخول فى دار العلم { فأنه غفور رحيم } اى يغفر له ويرحمه لانه غفور رحيم فهو من اقامة السبب مقام الجزاء.
[6.55-57]
{ وكذلك نفصل الآيات } آيات الكتاب التدوينى فى بيان احوال الخلق واصنافهم وآيات الكتاب التكوينى من الاولياء والاشقياء واتباعهم بآيات الكتاب التدوينى لتستبين سبيل المطيعين حذفه لادعاء ظهوره كأنه لا حاجة له الى البيان من حيث انه المقصود من كل الاحكام { ولتستبين سبيل المجرمين قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع أهوآءكم } تنبيه على ان منشأ عبادتهم اهويتهم وقطع لاطماعهم وتأكيد لضلالتهم { قد ضللت إذا } اذا اتبعت اهواءكم وعبدت مدعواتكم { ومآ أنا من المهتدين قل إني على بينة من ربي } تسفيها لرأيهم وتعريضا بهم وانهم على اهويتهم وتقليدهم ولا بينة لهم والعاقل ينبغى ان يكون فى طريقه ودينه وجملة افعاله على بينة { وكذبتم به } بالقرآن او بعلى (ع) { ما عندي ما تستعجلون به } قيل اشارة الى ما قبل فأمطر علينا حجارة من السماء او ائتنا بعذاب اليم عند نصب على (ع) بالخلافة { إن الحكم إلا لله } وليس لى حكم فيما تستعجلون به { يقص الحق } يفصل الولاية كيف ما يقتضيه الحكمة والحكم لما سبق ان الولاية هى الحق وان كل ما سواها فحق بحقيتها { وهو خير الفاصلين } بين الحق ومن اتصل به والباطل ومن اتصل به.
[6.58]
{ قل لو أن عندي ما تستعجلون به } من العذاب { لقضي الأمر بيني وبينكم } لرفع النزاع بينى وبينكم باهلاكى اياكم { والله أعلم بالظالمين } فيه معنى الاستدراك يعنى لكن الامر الى الله وهو اعلم بالظالمين، روى عنهم (ع) ان ورود الآيات فى الولاية.
[6.59]
{ وعنده } ابتداء كلام من الله او جزء مفعول القول حالا كان او عطفا { مفاتح الغيب } جمع مفتح بالفتح بمعنى المخزن او مفتح بالكسر بمعنى المفتاح ولما نفى عن نفسه علم الغيب والقدرة على ما يستعجلون به اثبت مخازن الغيب او اسباب العلم به والتصرف فيه لله تعالى بطريق الحصر وعلى الاول فقوله { لا يعلمهآ إلا هو } يكون تأسيسا وعلى الثانى يكون تأكيدا، ولما حصر علم الغيب فيه تعالى عمم علمه بجملة المحسوسات الخارجة عن حد الاحصاء فقال { ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة } من اوراق شجرة الجسم او من اوراق شجرة العلم او من اوراق شجرة الولاية او من اوراق الشجرة الانسانية من النطف التى تقع فى الرحم ثم تسقط قبل ان تستهل { إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض } وقد عممت الحبة فى الخبر ويسهل عليك تعميمها { ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } اثبات المعلومية دون الثبوت بالنسبة الى الورقة الساقطة، ونسبة الثبوت فى الكتاب الى الاشياء الثابتة للاشعار بان الساقط ساقط عن الكتاب والثابت ثابت فى الكتاب، والكتاب المبين هو اللوح المحفوظ وصورته النبوة وصورتها القرآن الذى اعطاه محمدا (ص) والكل صورة الولاية التى اصلها وصاحبها أمير المؤمنين (ع) فعنده علم الكتاب الذى لا رطب ولا يابس الا فيه.
[6.60-61]
{ وهو الذي يتوفاكم بالليل } التوفى اخذ الشيء بتمام اجزائه والمراد منه هنا مطلق الاخذ وبعد ذكر احاطة علمه اراد ان يذكر احاطة آلهيته وربوبيته { ويعلم ما جرحتم } ما كسبتم { بالنهار ثم يبعثكم } من نومكم { فيه } فى النهار { ليقضى أجل مسمى } ليمضى مدة عمركم او الى ان يقضى ويختم غاية عمركم { ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون وهو القاهر فوق عباده } يحكم فيهم ما يشاء بلا مانع ولا يكتفى بقهره وتسلطه واحاطته { ويرسل عليكم حفظة } يحفظونكم من مردة الشياطين وهوام الارض وسائر الآفات ويحفظون اعمالكم بالكتب والثبت { حتى إذا جآء أحدكم الموت توفته رسلنا } وقد مضى بيان توفى الله والرسل والملائكة وملك الموت فى سورة النساء { وهم لا يفرطون } فلا يشذ عنهم شيء من قواه وجنوده وهو تأكيد لمفهوم توفته بحسب المعنى.
[6.62-65]
{ ثم ردوا إلى الله } كما جاؤا منه { مولاهم الحق ألا له الحكم } يومئذ او مطلقا { وهو أسرع الحاسبين قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر } يعنى الزمهم الاقرار { تدعونه تضرعا } جهرا { وخفية } سرا قائلين { لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون قل } تهديدا لهم { هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم } كما بعث على قوم لوط بامطار الاحجار { أو من تحت أرجلكم } كغرق فرعون وقومه وخسف قارون { أو يلبسكم } يخلطكم { شيعا } فرقا مختلفى المسلك متخالفى الاهواء كل فرقة مشايعة لامام { ويذيق بعضكم بأس بعض } بالمقاتلة والمدافعة والسرقة وقطع الطريق { انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون } آيات قدرتنا على التفضل على المؤمنين والانتقام من الكافرين عن الصادق (ع) من فوقكم من السلاطين الظلمة ومن تحت ارجلكم العبيد السوء ومن لا خير فيه، ويلبسكم شيعا يضرب بعضكم ببعض بما يلقيه بينكم من العداوة والعصبية ويذيق بعضكم بأس بعض هو سوء الجوار، وامثال هذا الخبر تريك طريق التعميم فى الآيات وفى الالفاظ بما امكن ووسع اللفظ.
[6.66]
{ وكذب به قومك } اى بكونه قادرا او بعلى (ع) او بالعذاب او بالقرآن الذى فيه ذكره { وهو الحق } المتحقق { قل لست عليكم بوكيل } حتى امنعكم من التكذيب وانما على التبليغ.
[6.67]
{ لكل نبإ مستقر } يعنى لكل خبر وقت وهو كالمثل فى العرب { وسوف تعلمون } اوان وقوعه.
[6.68]
{ وإذا رأيت الذين يخوضون } الخوض الامعان فى السير فى البر كان او فى البحر والاكثر استعماله فى الماء والمراد به ههنا الامعان فى سير النظر { في آياتنا } التدوينية والتكوينية واعظمها الولاية، وعن الباقر (ع) فى هذه الآية قال: الكلام فى الله والجدال فى القرآن قال منه القصاص { فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان } النهى عن القعود معهم { فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين } اشارة الى ان من يخوض فى الآيات يشتغل عن نفسه ومن اشتغل عن نفسه فهو ظالم على ان خوضه دليل عدم انقياده وهو ظلم آخر.
[6.69]
{ وما على الذين يتقون } الخوض فى الآيات وان اتفق جلوسهم نسيانا معهم { من حسابهم من شيء } مما يحاسبون عليه من قبائح اعمالهم { ولكن ذكرى } ولكن عليهم ان يذكروهم قبح الخوض ويمنعوهم منه بقدر ما يمكنهم { لعلهم يتقون } الخوض، فلا يذكروا الآيات بما فيه ازدراء ولا يقعوا فى ضلالته وعقوبته، عن الباقر (ع) فلما نزلت فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين قال المسلمون: كيف نصنع ان كان كلما استهزء المشركون قمنا وتركناهم فلا ندخل اذا المسجد الحرام ولا نطوف بالبيت الحرام...!؟ فأنزل الله تعالى: { وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء } امر بتذكيرهم وتبصيرهم ما استطاعوا.
[6.70-71]
{ وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا } اللعب ما لم يكن له غاية عقلية ولكن كان له غاية خيالية كلعب الاطفال، واللهو ما لم يكن له غاية عقلية ولا خيالية وان كان له غاية خفية كامضاء عادة مثلا، والمقصود عدم التعرض لمن اخذ دينه بخياله ولا يتصور له غاية سوى الغايات الخيالية الدنيوية من الجاه والمناصب او الصحة والسعة أوالتوافق مع الاقران او التفوق على الامثال او التنعم فى الآخرة والنجاة من العقوبة فيها، او القرب من الانبياء والائمة فى الجنة، او القرب من الله والاختصاص من بين الامثال بذلك القرب لانهم اخذوا صورة الدين للدنيا وجعلوا آلة الدين شركا للدنيا، وقوله تعالى { وغرتهم الحياة الدنيا } اشارة الى هذا { وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت } وذكرهم الولاية بالقرآن او ذكرهم بولاء على (ع) او بعلى (ع) كراهة ان تمنع نفس من موائد الآخرة بما كسبت من اعمالها لان كل نفس بما كسبت رهينة الا الذين تولوا امير المؤمنين (ع) { ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع } صفة بيانية لنفس، او استيناف فى موضع التعليل، والولى والشفيع قد مضى بيانهما { وإن تعدل كل عدل } وان تفد كل فداء { لا يؤخذ منهآ أولئك } المتخذون دينهم لعبا ولهوا { الذين أبسلوا بما كسبوا } استيناف فى موضع التعليل { لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون قل أندعوا من دون الله } تعريضا بهم ومداراة معهم { ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله } الى طريقه المستقيم الذى هو الولاية { كالذي استهوته الشياطين } اذهبته الجنة على غير طريق { في الأرض حيران } لا يدرى اين يذهب واين يذهب به { له أصحاب } لهذا المستوى رفقة يرحمونه و { يدعونه إلى الهدى } الى الطريق قائلين { ائتنا } ترحما عليه وهو لا يجيب لما خولط من مسيس الجن { قل } لهم ان مثلكم مثل هذا المستهوى فان الشياطين قد غلبت عليكم وسلبتكم عقولكم وانا واصحابى كرفقاء المستهوى ندعوكم الى الطريق المستقيم الذى هو ولاية على (ع) ونقول لكم: ان ولاية على (ع) هو هدى الله و { إن هدى الله هو الهدى } لا هدى سواه { وأمرنا لنسلم لرب العالمين } من جملة المقول يعنى قل امرنا لنسلم لرب العالمين اعراضا عنهم بعد اتمام الحجة عليهم او انصافا لهم فى اظهار الدعوى.
[6.72]
{ وأن أقيموا الصلاة } عطف على لنسلم وان تفسيرية، وقيل: عطف على نسلم بتقدير دخول اللام عليه وان مصدرية لكن دخول ان المصدرية على الانشاء قليل والخطاب فى قوله اقيموا يمنعه { واتقوه وهو الذي إليه تحشرون } جملة حالية او معطوفة على جملة ان هدى الله هو الهدى.
[6.73]
{ وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق } سماوات الارواح وارض الاشباح بسبب الحق الذى هو المشية التى هى ولاية على (ع) كما سبق تحقيقه او متلبسا بالحق، فان الولاية مع الكل ومتقوم بها الكل ولا يخلو منها الكل { ويوم يقول } عطف على منصوب اتقوه او على السماوات او على قل ان هدى الله بتقدير اذكر او ذكر، او خبر لقوله الحق والجملة عطف على جملة هو الذى اليه تحشرون، او ظرف متعلق بالحق او بعالم الغيب والمعنى قوله الحق او عالم الغيب يوم يقول للشيء الذى يريد ايجاده وانما حذفه لقصد التعميم مع الايجاز { كن } ذلك الشيء { فيكون } ويوجد ذلك الشيء بلا تأب ولا تأن، اعلم، ان اليوم كما يطلق على يوم عالم الطبع مقابل ليله كذلك يطلق على كل من مراتب العالم، فان كلا بالنسبة الى المرتبة التى دونها يوم المرتبة الدانية ليل بالنسبة اليها، ولما كان عالم الطبع عالم الاسباب بمعنى ان سنته تعالى جرت بان يوجد الاشياء فيه بالاسباب، كان موجوداته كأنها تتأبى عن الوجود بمحض قوله من دون تهية اسبابه والمكلفون فيه ايضا يتأبون عن قوله، ولما كان مراتب الآخرة بتمام موجوداتها غير مسبوقة بمادة ومدة وسائر الاسباب كان موجوداتها قائمة بمحض قوله موجودة بنفس امره فكان يوم يقول: كن؛ فيكون مختصا بايام الآخرة { قوله الحق } فاعل يكون والحق صفة القول او مبتدء وخبر او مبتدء ويوم يقول خبره والمعنى قوله الحق الذى هو المشية فانها جملة اضافاته الى الخلق او قوله حقيقة ثابتة هى عين فعله وليس صوتا يقرع ولا لفظا يسمع { وله الملك } الملك يطلق تارة على عالم الطبع مقابل الملكوت والجبروت، وتارة على ما يعم جملة الموجودات التى هى مملوكة له تعالى وهذا هو المراد ههنا، او اريد الاول على ان يكون المراد بقوله: له الملك؛ ان الملك يوم ينفخ فى الصور خالص له وفى غير ذلك يظن ان غيره له تصرف فيه ولذلك وهم الثنوية فقالوا: ان الظلمة مقابلة للنور، اواهرمن ليزدان، ولكل منهما تصرف فى الملك { يوم ينفخ في الصور } بدل من يوم يقول، او ظرف مستقر خبر لقوله الحق، او خبر بعد خبر لقوله، او لغو متعلق بقوله، او بالحق او بالظرف فى قوله له الملك او بعالم الغيب، والصور القرن الذى ينفخ فيه من صار بمعنى صوت { عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير } كالنتيجة للسابق.
[6.74-75]
{ وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر } قيل ليس بين النسابين اختلاف فى ان اسم ابى ابراهيم تارخ وهو موافق لما عليه الشيعة من ان آباء الانبياء (ع) مطهرون من الشرك وان ازر كان جده لامه او عمه { أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض } يعنى مثل ارائتنا ابراهيم بطلان الاصنام وضلالة قومه اريناه ملكوت السماوات والتعبير بالمستقبل لاحضاره لكونه من الامور الغريبة، والملكوت مبالغة فى المالك كالجبروت فى الجابر، والطاغوت فى الطاغى، ولما كان عالم الطبع لا جهة مالكية له بل ليس فيه الا المملوكية الصرفة لم يسم ملكوتا بل ملكا، وباطن عالم الطبع من عالم المثال فما فوقه يسمى ملكوتا لمالكيته وتصرفه بالنسبة الى ما دونه، وقد يطلق الملك على ما سوى الله وعلى المثال وعلى الرسالة وغير ذلك باعتبار مملوكيتها للحق الاول تعالى، والمراد بالملكوت ههنا عالم المثال او هو وما فوقه ان كان المراد بالاراءة اعم من الكشف الصورى، والمراد بالسماوات والارض هما الطبيعيان { وليكون من الموقنين } اى ليأنس ويقرب منا وليكون من الموقنين، والقمى عن الصادق (ع) كشط عن الارض ومن عليها وعن السماء ومن فيها، والملك الذى يحملها والعرش ومن عليه، وهو يدل على انه لم يكن كشفا صوريا فقط.
[6.76]
{ فلما جن عليه الليل } ستره بظلامه { رأى كوكبا } هو الزهرة كما فى الخبر { قال هذا ربي } هذا الكلام منه يحتمل ان يكون على سبيل المماشاة مع القوم باظهاره الدخول فى دينهم ثم الاستدلال بالافول والزوال على عدم تربيته بالاستقلال ليكون اقرب الى الدعوة والانصاف وابعد عن الشغب والاعتساف، ولا يلزم منه الكذب المحرم لانه كان فى مقام الاصلاح، او قصد تربيته بنحو تربية الكواكب للمواليد باذن الله وورى بحيث يظن انه اراد المعبود، او قصد الانكار وانه لا يصح ان يكون ربا لكنه ورى بصورة الاخبار وكان المقدر فى نفسه الاستفهام الانكارى، ويحتمل ان يكون على سبيل الاستفهام الانكارى للانكار على قومه لانهم كانوا ثلاثة اصناف: صنف يعبد الزهرة، وصنف يعبد القمر، وصنف يعبد الشمس، فأنكر على الثلاثة عبادتهم، ويحتمل ان يكون على سبيل الاخبار الاحتمالى الذى يصح لكل مستدل ان يخبر على سبيل الاحتمال عما أدى اليه دليله فى بادى الامر لانه كان فى اول خروجه من السرب الذى اخفته فيه امه ولما ظهر له بعد امعان النظر ان ما ادى اليه دليله فى بادى النظر لم يكن نتيجة صحيحة انكره وقال: ليس هذا مؤدى الدليل الصحيح، ومثل هذا ممدوح لكل من اراد التحقيق والخروج عن التقليد ولا يكون هذا شركا، وكل هذه مروى عنهم (ع) لان القرآن ذو وجوه والحمل على جملة الوجوه ما لم يؤد الى فساد ورد عنهم (ع) هذا ما يقتضيه التنزيل، واما بحسب التأويل فنقول: ان السالك ما دام يكون فى سرب نفسه المظلم ولم يخرج بالولادة الثانية الى فسحة عالم الملكوت يكون متحيرا لا يدرى من اين والى اين وفى اين، ثم اذا ادركته العناية الآلهية وخرج يسيرا من قعر سربه يطرؤ وعليه حالات واطوار وظلمات وانوار ومنيرات فربما يرى انوارا عجبية متلونة بالوان مختلفة، وربما يرى كواكب واقمارا وشموسا ويذهل عن التفكر واستعمال المقدمات فيظن فى بادى رؤيته كوكبا او قمرا او شمسا انه هو، فيصيح به جبرئيل العقل ويفيق من محوه وينظر الى افول المرئى وتغيره فيعلم انه ليس به، ولا ضير ان يكون حال ابراهيم (ع) فى بادى خروجه من سربه حال سائر السلاك فيحسب فى بادى رؤيته الكوكب انه هو، ثم ينظر بعقله الى زواله وتغيره فيرى انه ليس به ولا يلزم منه شرك ولا كفر لان تلك الانوار ظهورات نور الانوار، وقد يغلب حكم الظاهر على المظهر بحيث يظن ان المظهر هو الظاهر { فلمآ أفل قال لا أحب الآفلين } لما لم يجد فى نفسه داعيا قويا على التبرى ونفى الربوبية وكان غرضه المماشاة مع القوم باظهار الانصاف من نفسه حتى يدخل فى المجادلة الحسنة، نفى حب الآفل عن نفسه كناية خفية عن نفى الربوبية ولذلك لم يؤكده بشيء من المؤكدات.
[6.77]
لما قوى الداعى لنفى الربوبية فى نفسه ونبه القوم بالكناية الخفية على نفى ربوبيته مثل هذا كنى كناية اظهر من الاولى بنسبة الضلال الى نفسه اولا ليكون اقرب الى الانصاف بالكناية بقوله لئن لم يهدنى ربى، ونسبة التمكن فى الضلال صريحا ثانيا بقوله لا كونن من القوم الضالين واكد الحكم بمؤكدات عديدة.
[6.78]
{ فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذآ أكبر } تذكير الاشارة باعتبار الخبر ولتنزيه الرب عن سمة التأنيث { فلمآ أفلت قال يقوم إني بريء مما تشركون } بعد ما قوى الداعى وتم الحجة نادى القوم صريحا واظهر التبرى ونفى الربوبية صريحا واكد الحكم بان واسمية الجملة ثم لم يكتف به واظهر ربوبية الله الذى هو خالق الكل باخلاص الوجه له وصرح بنفى الاشراك به مؤكدا فقال: { إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا }.
[6.79-80]
{ إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا } خالصا { ومآ أنا من المشركين وحآجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان } فلا ينبغى لكم ان تحاجونى لانى على هداية وبينة وانتم على عمى وضلالة { ولا أخاف ما تشركون به } كأنهم كانوا يحاجونه بالتخويف من آلهتهم وبما اراهم الشيطان منهم من بعض ما لا يعتاد { إلا أن يشآء ربي شيئا } وحينئذ لا يكون خوفى منهم بل من ربى { وسع ربي كل شيء علما } فلا أخاف ان يصيبنى مكروه من غير علم ربى به { أفلا تتذكرون } بما اقول لكم من ان ربى خالق آلهتكم وان علمه محيط بالكل ولا قدرة ولا علم لالهتكم كما ان ربى له القدرة الكاملة والعلم الكامل.
[6.81]
{ وكيف أخاف مآ أشركتم } يعنى لا ينبغى لى ان اخاف ما اشركتم به بعد ما بان ان الشركاء عاجزون جاهلون وان ربى قادر عالم { ولا تخافون أنكم أشركتم بالله } يعنى ان هذا امر عجيب اى تخويفى من العاجز الجاهل مع عدم خوفكم من اشراككم الجاهل العاجز بالعالم القادر { ما لم ينزل به عليكم سلطانا } بيان لحال الشركاء لا انه قيد للاشراك او تقييد للاشراك باعتبار ان الشخص ما لم يخرج من بيت نفسه وسجن طبعه لا يمكنه الخروج عن الشرك بل ليس طاعته وتبعيته للانبياء والاولياء الا الاشراك بالله ورؤية الثانى له لكن هذا الاشراك مما نزل الله به سلطانا وحجة وهو طريق الى التوحيد ومجاز وقنطرة الى الحقيقة وقد سبق تحقيق ذلك { فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون } نبه على غباوتهم بان من له علم يميز بين الامن وغيره، وعدم تميزهم لعدم شعورهم.
[6.82]
{ الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك } كرر المسند اليه باسم الاشارة البعيدة احضارا لهم فى الذهن واشعارا بعظم شأنهم وتأكيدا للحكم وتمييزا لهم بحصر الامن والاهتداء فيهم { لهم الأمن وهم مهتدون } عن امير المؤمنين (ع) انه من تمام قول ابراهيم (ع) ويحتمل بحسب اللفظ ان يكون مستأنفا من الله، ونقل عن رسول الله (ص) ان المراد بالظلم ما قاله العبد الصالح
يبني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم
[لقمان: 13] ويستفاد من هذا الخبر ان المراد بالايمان الايمان الخاص الولوى الحاصل بالبيعة الخاصة وقبول الدعوة الباطنة وان تنكير الظلم للتفخيم، والنفى وارد على تفخيمه وليس من قبيل النكرة فى سياق النفى ليفيد العموم.
[6.83]
{ وتلك } التى ذكرناها من استدلال ابراهيم (ع) بالزوال والدثور وعدم القدرة والشعور على بطلان معبوداتهم وبعكسها على حقية معبوده { حجتنآ آتيناهآ إبراهيم على قومه } الهمناها باستعداده وقوة نفسه وقدسه { نرفع درجات من نشآء } ولما توهم انه يرفع درجات من يشاء سواء كان باستحقاق او بعدم استحقاق رفع ذلك الوهم حتى يتنزه عن ارادة جزافية غير مسبوقة بحكمة ومصلحة بقوله { إن ربك حكيم } لا يفعل الا عن حكمة واتقان للفعل { عليم } بقدر استحقاق كل وكيفيته وما يقتضيه.
[6.84]
{ ووهبنا له إسحاق ويعقوب } تعظيم له ببيان ما من به عليه { كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل } عن الباقر (ع) فى بيان اتصال الوصية من لدن آدم (ع) الى زمانه (ع) هديناهم لنجعل الوصية فى اهل بيتهم، وفيه اشعار بان هدايتهم امتنان من الله على محمد (ص) واهل بيته لانهم آباؤهم او اولاد آبائهم كما ان هداية نوح (ع) امتنان من الله على ابراهيم (ع) لكونه جده { ومن ذريته } عطف على ابراهيم والتقدير تلك حجتنا آتيناها ابراهيم (ع) وآتيناها بعضا من ذريته او عطف على اسحق او يعقوب، او عطف على نوحا، او عطف على وهبنا، او هدينا، بتقدير أرسلنا وهذا على ان يكون من التبعيضية واقعا موقع الاسم الخالص لقوة معنى البعضية فيها ويكون داود وسليمان (الى الاخر) بدلا تفصيليا والا فهو حال من داود وسليمان ويجرى حينئذ فى داود وسليمان الوجوه المذكورة فى عطف من ذريته والضمير المضاف اليه لابراهيم او لاسحق او ليعقوب، وعلى هذا كان المعدودون فى الآية الثالثة عطفا على نوحا لان لوطا ليس من ذرية ابراهيم (ع) وكذلك من ذكر فى الآية الثانية على ان يكون الياس هو ادريس جد نوح (ع) وعلى هذا لو كان الضمير لنوح (ع) لم يكن من فى الآية الثانية عطفا على داود، ويحتمل ان يكون الضمير لنوح (ع) لانه اقرب والامتنان بهداية ذريته على ابراهيم (ع) لان اكثرهم كانوا ذرية ابراهيم (ع) ومن لم يكن ذرية كان ذرية آبائه { داوود وسليمان وأيوب } بن اموص من اسباط عيصا بن اسحاق كذا قيل { ويوسف وموسى وهارون } لم يراع فى ذكر الانبياء الترتيب الوجودى ولا الترتيب الشرفى { وكذلك } الجزاء الذى جزينا ابراهيم (ع) من ايتاء الحجة ورفع الدرجات وجعل الانبياء من ذريته ومن فروع آبائه وهداية كثير من آبائه وذرياته { نجزي المحسنين } يعنى ان جزاءنا ابراهيم (ع) بما جزينا انما هو لكونه محسنا فكل من اتصف بصفة الاحسان نجزيه مثله.
[6.85]
{ وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس } قيل: هو ادريس، وقيل: هو من اسباط هرون اخى موسى (ع) { كل من الصالحين } استيناف واشارة الى استعدادهم واستحقاقهم وان هداية الله منوطة بالاستعداد من قبل القابل لا ان له ارادة جزافية.
[6.86]
{ وإسماعيل واليسع } بن اخطوب علم اعجمى ادخل عليه اللام كما يدخل فى بعض الاعلام { ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين } فى زمانهم.
[6.87]
{ ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم } عطف على كلا او نحوا وجعلت من التبعيضية لقوة معنى البعض فيها موقع الاسم { واجتبيناهم } عطف على فضلنا او هدينا { وهديناهم إلى صراط مستقيم } تكرار هديناهم لتعيين المهدى اليه، او المراد بالاول الاراءة وبالثانى الايصال او الاول هداية طريق النبوة والثانى هداية طريق الولاية والصراط المستقيم قد يراد به الولاية مطلقا سواء كانت قبولا ام تحققا، وقد يراد به الولاية الجامعة بين الكثرة والوحدة والجمع والفرق وهو المراد هنا والاصل فى الكل ولاية على (ع) وهى متحدة مع على (ع) ولذلك فسر قوله تعالى
وإن من شيعته لإبراهيم
[الصافات:83] بشيعة على (ع) مع رجوع الضمير ظاهرا الى نوح (ع).
[6.88]
{ ذلك } المذكورة من الهداية الى الصراط المستقيم الجامع بين طرفى الكثرة والوحدة { هدى الله } واسم الاشارة البعيدة واضافة الهدى الى الله اشعارا بتعظيمه او ذلك الذى هؤلاء الانبياء عليه هدى الله لا هدى غير الله { يهدي به من يشآء من عباده ولو أشركوا } اى هؤلاء مع علو شأنهم { لحبط عنهم ما كانوا يعملون } فيزول بسببه ما تفضلنا به عليهم فكيف بكم ان تشركوا بولاية على (ع).
[6.89]
{ أولئك الذين آتيناهم الكتاب } قد يراد به النبوة فانها انتقاش القلب بالاحكام الآلهية وقد يراد به الرسالة فانها انتقاش الصدر بالاحكام الآلهية والكتاب التدوينى صورة ذلك والمراد به هنا المعنى الثانى { والحكم } بمعنى الحكمة التى هي الدقة فى العلم المستتبع للاتقان فى العمل وهى مسببة عن الولاية والمراد بها هنا الولاية { والنبوة } يعنى انا تفضلنا عليهم بالمراتب الثلاث التى لا كمال اتم منها { فإن يكفر بها } اى بالمراتب الثلاث { هؤلاء } يعنى انهم مقرون بالمذكورين فان كان اقرارهم لاجل اتصافهم بتلك المراتب فينبغى ان يقروا بك ايضا لاتصافك بها، وان كان اقرارهم لاشخاصهم البشرية مع كفرهم بتلك المراتب ولذا كفروا بك فلا يضرونها شيئا { فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين } وهم اهل بيت محمد (ص) واتباعهم وقد قيل: انهم ابناء الفرس.
[6.90]
{ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } الهاء للسكت، امره تعالى مع كمال مرتبته وجلالة قدره بالاقتداء تعظيما لشأن الاقتداء وترغيبا للامة عليه فانه لا يمكن خروج نفس من ظلمات اهويتها ومضيق سجنها الا بالاقتداء والارادة التى هى التولى وقبول الولاية والانقياد لولى الامر ولذلك ورد: لو ان عبدا عبد الله تحت الميزاب سبعين خريفا قائما ليله صائما نهاره ولم يكن له ولاية ولى امره (وفى خبر) ولاية على بن ابى طالب لاكبه الله على منخريه فى النار، ونقل عن الصادق (ع): لا طريق للاكياس من المؤمنين اسلم من الاقتداء لانه المنهج الاوضح والمقصد الاصح، قال الله تعالى لأعز خلقه محمد (ص): { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } ، فلو كان لدين الله مسلك اقوم من الاقتداء لندب اولياءه وانبياءه اليه، ويجوز ان يكون الخطاب عاما لكل من يتأتى منه الخطاب { قل } لهؤلاء الكافرين برسالتك { لا أسألكم عليه } اى على التبليغ { أجرا } حتى يثقل عليكم فتكفروا برسالتى { إن هو إلا ذكرى } عظة { للعالمين } فمن شاء اتعظ ومن شاء كفر لكنهم لا يتعظون وجهلوا الله وقيوميته.
[6.91-92]
{ وما قدروا الله حق قدره } حتى يعلموا سعة رحمته وكمال حكمته ورأفته بخلقه وان الرسالة غاية لطف منه بالخلق { إذ قالوا مآ أنزل الله على بشر من شيء } وانكروا لطفه وحكمته فى ارسال الرسول { قل } لهم نقضا عليهم { من أنزل الكتاب الذي جآء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس } تجزئونه { تبدونها وتخفون كثيرا } يعنى انهم يبدون مالا يظهر فيه رسالتك ويخفون ما فيه رسالتك، وكذا يبدون ما يوافق هويتهم ويخفون ما لا يوافقها، وهو تعريض بأمته (ص) حيث يبدون بعده من الكتاب ما يوافق أهويتهم ويخفون ما لا يوافقها { وعلمتم } بذلك الكتاب { ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم } من احكام الشرع وآداب المعاش والمعاد { قل الله } ان لم يجيبوا لك وبهتوا لانهم لا جواب لهم سواه، ويحتمل ان يكون هذا مستأنفا غير مرتبط بالسؤال ويكون المقصود امره (ص) بالمداومة على ذكر الله حالا وقالا والاعراض عنهم { ثم ذرهم في خوضهم } فى ظلمات اهويتهم ولجج آمالهم بحيث لم يتمكنوا من تصديقك وداموا على تكذيبك { يلعبون وهذا كتاب أنزلناه } مثل كتاب موسى (ع) { مبارك } جعل فيه البركة لمن تعلمه وعمل به ودام على قراءته { مصدق الذي بين يديه } من الكتب التى قبله لتذكر به { ولتنذر أم القرى } مكة والصدر وصاحب الصدر { ومن حولها } من اهل الشرق والغرب فى الصغير والكبير ولما كان المراد بمن حولها من سكن الدنيا بالنسبة الى الملكوتين السفلى والعليا صح تفسيره بمن فى الارض { والذين يؤمنون بالآخرة } اى مذعنون بها { يؤمنون به } يعنى يذعنون بالكتاب وانه من الله وحق وصدق لانه صورة الآخرة ومن اذعن بالآخرة اشتاق اليها، ومن اشتاق اليها اذعن وصدق بكل ما فيه ذكرها، وليس فى الكتاب الا ذكرها، ومن اذعن بالآخرة والكتاب آمن بعلى (ع) لان الآخرة والكتاب صورتا على (ع) كما ان بشريته صورته، ومن آمن به صار مصليا حقيقة ومن صار مصليا حقيقة شغله لذة الصلوة عن كل لذة فهم لا يفارقونها { وهم على صلاتهم يحافظون } اضافه الصلوة اليهم للاشارة الى انه كان لكل صلوة مخصوصة هى روح صلوتهم القالبية المشتركة بين الكل.
[6.93]
{ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل مآ أنزل الله } نزول الآية مشهور وفى التفاسير مسطور، من انها فى عبد الله بن ابى سرح وانه قدم المدينة واسلم وكان له خط حسن وكان اذا نزل الوحى على رسول الله (ص) دعاه فيكتب ما يمليه رسول الله (ص) وكان يبدل الكلمة مكان كلمة بمعناها وكان رسول الله (ص) يقول
" هو واحد "
فارتد كافرا ولحق بمكة وهدر رسول الله (ص) يوم فتح مكة دمه وعثمان التمس العفو منه (ص) فصار من الطلقاء، لكن المقصود والتأويل فى اعداء على (ع) حيث ادعوا الخلافة لانفسهم ويجرى فى من نصب نفسه للمحاكمة بين الخلق او للفتيا وبيان احكامهم من غير نص واجازة من الرسول (ص) بلا واسطة أو بواسطة، فان حكم مثله وفتياه افتراء على الله ولو اصاب الحق فقد أخطأ وليتبوأ مقعده من النار وليست الاجازة الالهية باقل من الاجازة الشيطانية التى عليها مدار تأثيرات مناطرهم ونفخاتهم ولذلك ورد عنهم (ع): هذا مجلس لا يجلس فيه الا نبى او وصى او شقى، اشارة الى مجلس القضاء وليس الوصى الا من نص المنصوص عليه على وصايته، وكانت سلسلة الاجازة بين الفقهاء كثر الله امثالهم والعرفاء رضوان الله عليهم مضبوطة محفوظة وكان لهم كثير اهتمام بالاجازة وحفظها، حتى انهم كانوا لا يتكلمون بشيء من الاحكام ولا يحكمون على احد بل لا يقرأون شيئا من الادعية والاوراد من غير اجازة، وقد نقل العياشى عن الباقر (ع) فى تفسير الآية انه قال: من ادعى الامامة دون الامام { ولو ترى إذ الظالمون } للامام او لانفسهم بالافتراء على الله بقرينة ما يأتى من قوله بما كنتم تقولون على الله غير الحق، اشارة الى الافتراء وبقرينة { وكنتم عن آياته تستكبرون } اشارة الى الانحراف عن الاوصياء والظلم لهم، فالمعنى لو ترى اذ الظالمون للامام او لاتباعه او لانفسهم او للخلق بادعاء الامامة او الحكومة بين الناس والفتيا لهم من غير اجازة { في غمرات الموت } وشدائدها التى تغمر عقولهم وتدهشهم بحيث يغشى عليهم { والملائكة باسطوا أيديهم } لقبض ارواحهم قائلين { أخرجوا أنفسكم } غيظا عليهم { اليوم } متعلق باخرجوا او بتجزون والجملة جزؤ مقول الملائكة او استيناف من الله كأنه صرف الخطاب عن الرسول (ص) وخاطبهم بنفسه وقال اليوم { تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون } فالويل لمن اعرض عن المنصوصين وادعى الرأى والفتيا لنفسه من غير نص من المنصوصين.
[6.94]
{ ولقد جئتمونا فرادى } هو ايضا اما جزء قول الملائكة او من قول الله سواء جعل الجملة الاولى من الله او من الملائكة، والمراد بالفرادى الفرادى عن كل ما يظن انه له من العيال والاموال ومن القوى والفعليات وعن كل ما يظن انه شفيعه عند الله مما جعله شركاء الله او شركاء خلفائه { كما خلقناكم أول مرة } فرادى عن كل ذلك وهذا يدل على ما قاله العرفاء من تجدد الامثال فانه يدل على تعدد الخلق { وتركتم ما خولناكم } فى الدنيا من الاموال والعيال والقوى والفعليات { وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعآءكم } من الاصنام والكواكب وغيرها من المعبودات الباطنة وممن ادعى الخلافة من دون اذن واجازة وممن ادعى الرياسة والحكومة والفتيا من غير اجازة { الذين زعمتم أنهم فيكم شركآء } لله او لعلى (ع) { لقد تقطع بينكم } اى وصلكم على قراءة الرفع والبين من الاضداد وعلى قراءة النصب فالفاعل مضمر والبين ظرف { وضل عنكم ما كنتم تزعمون } انهم شركاء الولاية والخلافة او شركاء الله عن الصادق (ع): نزلت هذه الآية فى بنى امية وشركاؤهم ائمتهم ثم لما ذكر حال المنحرفين وظلمهم وعقوبتهم ذكر كيفية تدبيره للعالم وآيات قدرته وعلمه ليكون كالعلة للزوم كون الخلافة من الله المشار اليه بقوله وهو الذى جعل لكم النجوم (الآية) وحجة على المنحرفين عنها فقال { إن الله فالق الحب والنوى }.
[6.95]
{ إن الله فالق الحب والنوى } بالنجم والشجر او الاسلام من طينة طيبة والايمان من الاسلام والكفر من طينة خبيثة او الصدر المنشرح بالاسلام من طينة طيبة والقلب من ذلك الصدر والمنشرح بالكفر من طينة خبيثة، او طينة المؤمن مما يطرؤ عليها من السجين وطينة الكافر مما يعرضها من العليين، او العلم من العلماء والجهل من الجهلاء، او النور من المستنير والظلمة من المظلم فان الكل يسمى حبا ونوى باعتبار محبوبيته وبعده من الخير كما اشير اليه فى الاخبار { يخرج الحي من الميت } خبر بعد خبر واسقط العاطف ههنا وفى قوله فالق الاصباح واتى به فى قسيم كل وكذا فى قوله والنوى للاشارة الى ان كلا مع قسيمه كاف فى الدلالة على كمال قدرته وعلمه وحكمته وتدبيره لعباده، لان كلا من قوله يخرج الحى وفالق الاصباح كأنه كلام مستأنف غير مربوط بسابقه والمراد بالحى النامى من النبات والحيوان او ذو الحس والحركة من الحيوان بالميت غيره، او المراد به المسلم والمؤمن والعالم ومقابلوهم، والعدول عن الاسم الى الفعل المضارع للاشارة الى قلة الحى كأنه قلما يحصل اخراجه من الميت بخلاف الميت فانه بكثرته كأنه مستمر اخراجه { ومخرج الميت من الحي ذلكم } اتى باسم الاشارة البعيدة للاشارة الى عظمة من كان هذه صفته { الله } اى المستحق للآلهية لا ما تجعلونه آلها { فأنى تؤفكون } تصرفون وجملة ذلكم الله معترضة ان كان قوله { فالق الإصباح }.
[6.96]
{ فالق الإصباح } خبرا بعد خبر لان، او مستأنفة ان كان مستأنفا، او خبرا بعد خبر لذلكم { وجعل الليل سكنا } وقت راحة من سكن اليه اذا انس به واطمأن او وقت سكون عن الحركة وقرئ جاعل الليل وعلى قراءة جعل فالاختلاف بالاسم والفعل، كأنه للاشارة الى ان اقتضاء الليل السكون امر ذاتى له لا عرضى محتاج الى تجديد الجعل بتجديد الليل، بل جعله سكنا لازم لخلقته اولا بخلاف فلق الاصباح، والليل اعم من ليل اليوم وليل عالم الطبع وليل عالم الجنة وليل صروف الدهر من القحط والزلازل وكثرة القتل والنهب وكثرة الامراض وغيرها، وكل مرتبة من مراتب العالم الكبير او الصغير جهتها الدانية ليل بالنسبة الى جهتها العالية، هذا فى العالم الكبير وليل الطبع والنفس والجهل والشهوات والامراض والبلايا والاحزان فى الصغير { والشمس والقمر حسبانا } سببى حسبان للاوقات لتجاراتكم وزراعاتكم وديونكم ومواعيدكم وقد يعبر عن الولاية والنبوة وعن الولى والنبى بالشمس والقمر، والحسبان حينئذ يكون بمعنى المحاسب او ميزان الحساب فانهما شاهدان ومحاسبان على الجليل والقليل وهما اللذان يعبر عنهما الصوفية بالشيخ المرشد والشيخ الدليل فانهما فى اصطلاحهم اعم من الولى والنبى وخلفائهما والنبوة كالقمر تكسب النور من الولاية كالدليل من المرشد وقد يعبر بهما عن العقل الكلى والنفس الكلية وقد يعبر عن العقل الجزوى والنفس الجزوية او العقل الجزوى والقلب او آدم وحواء، كل ذلك فى العالم الصغير وعلى كل التقادير، فالحسبان بمعنى المحاسب او ميزان الحساب { ذلك تقدير العزيز العليم } لما كان المراد من هذه المقدمات تصوير تدبيره لمعاش الخلق بحيث لم يشذ شيء مما يحتاجون اليه فى المعاش حتى يكون برهانا قاطعا على عدم اهمالهم فيما يحتاجون اليه فى امر المعاد المشار اليه بقوله { وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها }.
[6.97]
{ وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها } واحضره باسم الاشارة وصرح بأنه تقديره ليكون كالمشاهد للسامع فيصير قوله وهو الذى جعل لكم النجوم لتهتدوا بها { في ظلمات البر والبحر } غنيا من الحجة، والنجوم ان كانت اعم من الشمس والقمر فذكرهما هناك لشأن الحسبان وههنا لشأن الاهتداء بهما، والنجوم فى عالم الكون معلوم وفى الصغير القوى والمدارك الجزئية والواردات الغيبية والالهامات القلبية والاذكار السنية وفى الكبير الائمة (ع) وخلفاؤهم والمراد بالظلمات الظلمات الصورية والمعنوية من ظلمات النفس وشبهاتها وزلاتها وضلالاتها وقد فسرت النجوم بآل محمد (ص) { قد فصلنا الآيات } آيات علمنا وقدرتنا وتدبيرنا للاشياء على طبق حكمتنا بنصب رئيس فى كل من مراتب العالم الكبير والصغير فى الكتاب التدوينى الآفاقى والانفسى، ليدل على وجوب رئيس منا فى اشرف اجزاء العالم الكبير وهو الانسان وليس تفصيلنا للآيات لكل ذى شعور بل للانسان ولا لكل فرقة منهم بل { لقوم يعلمون } فان غيرهم لا ينجع فيه تفصيل الآيات
وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون
[يوسف:105] والعلم قد يطلق بمعنى مطلق الادراك تصورا كان او تصديقا، وقد يطلق بمعنى العرفان وهو التصور الجزئى وقد يطلق بمعنى ادراك النسبة وهما كان او شكا او ظنا او علما عاديا او تقليديا او يقينا تحقيقيا، وقد يطلق على الاعتقاد الراجح ظنا كان او علما عاديا، او تقليدا، او يقينا، وقد يطلق على ما يقابل الظن من هذه الثلاثة وهذه ليست بمرادة وهو واضح، وقد يطلق على اليقين واليقين ان كان متعلقا بالامور المعاشية من غير توجه وارتباط بالآخرة كما قال تعالى
يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون
[الروم:7] فليس تفصيل الآيات لهذا العالم لانه لغفلته لا يدرك ذا الآية من الآيات بل ينفى عنه العلم وان كان متعلقا بالامور الاخروية من العقائد العقلية والاعمال القلبية والاخلاق النفسية والعبادات القالبية والاعمال المعاشية المؤدية الى اصلاح المعاد فاما ان لا يقارن العمل ولا يستخدم الخيال بل يستخدمه الخيال فى مآربه الكاسدة ومقاصده الفاسدة ويجعل آلة الدين شركا للدنيا سواء قارن صورة العمل كما فى المتعبدين المرائين او لا، كما فى المتهتكين الذين لا يبالون بما عملوا ولا بما قيل فيهم او قالوا، فهذا لا يسمى ايضا علما عند اهل الله لما فيه من عدم الاشتداد بل من عدم التوجه الى المعلوم، الا ترى الى قوله تعالى
ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون
[البقرة:102] كيف اثبت لهم هذا العلم ثم نفاه عنهم لما لم يعملوا بمقتضاه، واما ان يقارن العمل فيما له تعلق بالعمل ويقارن الاشتداد فيه وفيما لا تعلق له بالعمل بان يستخدم الخيال ويستتبع المدارك والقوى ثم الاعضاء فى مآربه العقلية، ويترقى القوى والاعضاء من حضيض التأبى الى اوج الانقياد والتسليم والعقل من مقام حصول صورة المعلوم عنده الى مقام حضوره، فان العلم يقتضى العمل فاذا قارن مقتضاه اشتد ولم يقف حتى يتحقق العالم بالمعلوم ويتحد العلم والعالم والمعلوم، فهذا العالم هو الذى يرى قدرة الله وعلمه وحكمته فى كل مقدور ولذا جعل تفصيل الآيات من فلق الحب الى جعل النجوم سببا للهداية لهذا العالم، وقد مضى تحقيق العلم ومراتبه فى سورة البقرة عند قوله تعالى
ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون
[البقرة: 102].
[6.98]
{ وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة } نفس آدم (ع) بحسب الجسم او نفس النبى (ص) بحسب الاسلام او نفس الولى (ع) بحسب الايمان او نفس الكل او رب النوع بحسب الحيوة الحيوانية وبحسب الحيوة الانسانية { فمستقر ومستودع } هذه الكلمة مجملة متشابهة من حيث اللفظ والمعنى والاعراب، قرئ مستقر بفتح القاف اسم مفعول من استقره اذا وجده قارا ساكنا، او من استقر اذا قر وسكن بمعنى مستقر فيه، او اسم مكان او مصدرا ميميا وهكذا الحال فى المستودع، وقرئ بكسر القاف اسم فاعل من استقر بمعنى قر والمعنى هو الذى انشأكم فمنكم قار ومنكم غير قار، او محل قرار ومحل عدم قرار، او لكم استقرار وعدم استقرار، او محل قرار زعدم قرار، او فيكم استقرار او عدم استقرار او محل قرار او قار وغير قار، والاصلاب والارحام والابدان والدنيا والبرازخ بوجه محل قرار وبوجه محل عدم قرار للنطف والنفوس والابدان، وبعد القيامة محل قرار على الاطلاق، والابدان والنفوس والصدور والقلوب محل قرار للحيوة الحيوانية والانسانية والاسلام والايمان والعلوم بوجه، ومحل عدم قرار بوجه { قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون } ولما كان الاستدلال بالانشاء من نفس والاستقرار والاستيداع على تدبيره وحكمته محتاجا الى استعمال نوع فطنة فوق العلم ذكر الفقه معه.
[6.99]
{ وهو الذي أنزل من السمآء } سماء الطبع وسماء الارواح والنبوة والولاية { مآء فأخرجنا } التفات اشعارا بان نزول الماء من السماء كأنه يكفيه الاسباب الطبيعية ولا حاجة له الى مباشر قريب سواها بخلاف اخراج النبات الاخضر الطرى من الحب الجماد اليابس فان له مباشرا قريبا مدبرا حكيما قديرا آلهيا سوى الاسباب الطبيعية { به نبات كل شيء } من انواع النبات او نمو كل شيء من انواع الحيوان بمعنى سبب نموه او نباتا مناسبا لكل نوع من انواع الحيوان ولرفع كل حاجة من انواع الحاجات { فأخرجنا منه } اى من النبات ورقا وغصنا { خضرا } وصف مثل اخضر او من اجل الماء زرعا ونباتا خضرا وعلى هذا يكون من عطف التفصيل على الاجمال { نخرج منه } اى من النبات او من الخضر او من اجل الماء { حبا متراكبا ومن النخل } خبر مقدم { من طلعها } بدل او من النخل عطف على نبات كل شيء باقامة من التبعيضية مقام الاسم او عطف على منه ومن طلعها خبر مقدم والجملة حال او مستأنفة { قنوان } اعذاق جمع قنو كصنوان جمع صنو { دانية } قريبة التناول { و } أخرجنا به او منه او نخرج منه { جنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها } فى الشكل والطعم واللون { وغير متشابه انظروا إلى ثمره } اى ثمر كل واحد { إذآ أثمر وينعه } اى نضجه حتى تعلموا ان لها مدبرا حكيما قديرا وان حالكم حالها { إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون } بالايمان العام او الخاص فان الايمان بوحدته كاف فى الاستدلال بالمذكورات وان لم يكن علم وفقه.
[6.100-101]
{ وجعلوا لله شركآء الجن } يدل من شركاء او مفعول اول ولله حال من شركاء وذلك لان بعضهم يجعلون ابليس ذا آلهة، وبعضهم قائلون بالظلمة كناية عن دار الجنة والشياطين، وبعضهم يعبدون الارواح الخبيثة التى هى الجنة والشياطين زعما منهم ان تلك الارواح هى الارواح التى كانت واسطة بين الله وبين الخلق وجميع المشركين سواء صرحوا بان معبوديهم الشياطين والجنة او لم يصرحوا بل عبدوا الشجر والصنم والكوكب وغيرها لا يعبدون الا الجن فى عبادتهم المعبودات الباطلة كما قال تعالى:
ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون
[سبأ:40و 41] والسر فى ذلك ان الجن من اتباع ابليس تزين لهم المعبودات الباطلة فيطيعونهم فى ذلك فيعبدون الجن من يحث لا يشعرون { وخلقهم } جملة حالية بتقدير قد او لا حاجة لها الى قد لورود الماضى حالا كثيرا وفصيحا بدون قد يعنى خلق الله الجن والمخلوق لا يكون معبودا كالخالق، ويحتمل ارجاع الضمير الى الجاعلين يعنى والخالق لهم لا يكون كغير الخالق لهم { وخرقوا له } جعلوا لله من عند انفسهم من غير حقيقة وبرهان { بنين وبنات } فقالوا نحن ابناء الله والمسيح ابن الله وعزير ابن الله والملئكة بنات الله وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا { بغير علم } منهم بذلك { سبحانه وتعالى عما يصفون بديع السماوات والأرض } خالقهما من غير سبق مادة ومدة لا من اصل خلق ولا على مثال سبق بدعه انشأه كابتدعه والبديع الحادث لازم ومتعد فسماوات الارواح وأراضى الاشباح كلها مخلوقة { أنى يكون له ولد } كيف يجوز ان يكون له ولد { ولم تكن له صاحبة } على مثاله شريكة له غير مخلوقة { وخلق كل شيء } فلم يلكن شيء صاحبته ولا ولده بل الكل مخلوق له { وهو بكل شيء عليم } فلا يحتاج الى ولد ووكيل فى استعلام حال بعض الاشياء.
[6.102]
{ ذلكم } الموصوف بالاوصاف المذكورة من قوله { إن الله فالق الحب } الى ههنا والاتيان باسم الاشارة البعيدة المشيرة الى الموصوف بتلك الاوصاف للتعظيم ولاحضارها فى الذهن وليكون اشارة الى علة انيته تعالى بطريق برهان الان والتكرار مع سابقه للتمكن فى الاذهان { الله } اى المسمى بالله الدائر على السنتكم والموصوف بهذه الاوصاف حقيقة وجودية فالمسمى بالله حقيقة متحققة { ربكم } اشارة الى قيوميته وربوبيته لخصوص نوع الانسان { لا إله إلا هو } نفى للشريك له فى الآلهة { خالق كل شيء } نفى للثانى عنه تعالى، فان كل ما يسمى شيئا فهو مخلوق له تعالى متعلق الوجود به تعالى وليس ثانيا له { فاعبدوه } يعنى بعد ما ثبت انيته وربوبيته، وان لا ثانى له فينبغى العبادة له فاعبدوه { وهو على كل شيء وكيل } حافظ لا حاجة له فى تدبير الاشياء الى وكيل وواسطة من ولد وغيره لاحاطته بالكل، ولما صار المقام مظنة ان يقال هل يدرك مع احاطته؟ - فقال جوابا: { لا تدركه الأبصار }.
[6.103]
{ لا تدركه الأبصار } لا ابصار العيون ولا ابصار القلوب لاحاطته وقصور المحاط عن ادراك المحيط، ولكن تدركه القلوب بحقيقة الايمان { وهو يدرك الأبصار } لان شأن المحيط ادراك المحاط { وهو اللطيف } لطفا يقصر عن ادراكه الابصار لقصورها { الخبير } بالاشياء ومنها الابصار ومثل هذا يسمى فى البديع بتشابه الاطراف.
[6.104-106]
{ قد جآءكم } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: اذا لم يدركه الابصار فهل يمكن ادراكه؟ - فقال: قد جاءكم { بصآئر } جمع البصيرة كالابصار جمع البصر والبصيرة للقلب كالبصر للبدن تطلق على قوة بها يدرك المعقولات وعلى ادراكها وعلى الحجج التى بها يكون ذلك الادراك وهذه هى المرادة بالبصائر ههنا، وهى اعم من الانبياء والاولياء ومعجزاتهم وكراماتهم وسيرهم واخلاقهم وكتبهم وشرائعهم، ومن البلايا والواردات والعبر والآيات التى تكون لخصوص الافراد او لعموم العباد، هذا فى الآفاق، واما فى الانفس فهى عبارة عن العقول والزواجر والنفوس والخواطر والالهامات والمنامات خصوصا الصادقات منها، فانها ادل دليل فى العالم الصغير على وجود الآخرة وبقائها ووجود كل جزء من اجزاء عالم الطبع فيها ماضياتها وآتياتها، وهذا هو الدليل الوافى لكل ذى بصيرة على بقاء الانفس بعد فناء الابدان فكل هذه بصائر { من ربكم فمن أبصر } بها من اسماء الله وصفاته ومن امور الآخرة { فلنفسه } ابصر { ومن عمي } عنها { فعليها } عمى { ومآ أنا عليكم بحفيظ } هذه حكاية قول النبى (ص) بتقدير القول او هى من الله لكنها اشارة الى ان حفظه تعالى وتدبيره للعباد موكول الى سبق الاستحقاق والاستعداد حتى لا يحتج عليه العباد { وكذلك } التصريف الذى صرفنا الآيات والحجج فى الالفاظ السهلة التناول بحسب المعنى { نصرف } متتاليات { الآيات } الآفاقية والانفسية فى العالم وفى النفوس وفى الالفاظ ليعمى فرقة وليبصر فرقة اخرى { وليقولوا } اى الفرقة العامية واللام للعاقبة { درست } قرئ درست ودارست معلوما بتاء الخطاب بمعنى قرأت وذاكرت وتعلمت، وقرئ درست بتاء التأنيث بفتح الراء وضمها ودارست بتاء التأنيث ودرست ببناء المجهول وتاء التأنيث ودرسن بنون جمع المؤنث ودارسات بجمع اسم الفاعل والكل من الدروس بمعنى الاندراس، ويجوز ان يكون درست مجهولا بمعنى قرئت، وقرئ درس معلوما بالغيبة بمعنى تعلم محمد هذه الآيات ودرس بكل من معنييه لازم ومتعد { ولنبينه لقوم يعلمون اتبع مآ أوحي إليك من ربك } لا اهواء المشركين { لا إله إلا هو } بيان للموحى او اعتراض للتعليل { وأعرض عن المشركين } ولا تبال بهم ولا تتبع اهواءهم ولا تحزن عليهم لشركهم والمقصود العمدة المشركون بالولاية.
[6.107]
حتى تحزن عليهم وانما انت منذر.
[6.108]
{ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله } عائد الموصول محذوف وفاعل يدعون راجع الى المشركين، والمقصود منه لا تسبوا الذين يدعوهم المنحرفون عن على (ع) ممن نصبوه اماما لهم حال كونهم بعضا من غير الله، وهذا النهى جار للمؤمنين الى انقراض العالم، او العائد فاعل يدعون ومفعوله محذوف، او من التبعيضية قائمة مقام المفعول { فيسبوا الله } اى يسبوا عليا (ع) فانه مظهر الله وسبه سب الله وسب الله لا يتصور الا فى مظاهره { عدوا } ظلما لعلى (ع) او تجاوزا عن الحق فى سب على (ع) { بغير علم } منهم انه مظهر الله ونقل عن الصادق (ع) انه سئل عن هذه الآية فقال: ارأيت احدا يسب الله؟ - فقيل: لا وكيف؟ - قال: من سب ولى الله فقد سب الله، وقد ورد عنهم بهذا المضمون اخبار كثيرة، وما ذكرنا كان خلاصة المقصود ولا يخفى التعميم لكل مشرك ومدعو غير الله ولكل نبى (ع) ووصى (ع) ولكل مؤمن { كذلك } مثل ارتضاء كل منكم ما تدعونه وعدم ارتضاء ما يدعوه غيره { زينا } من لدن آدم (ع) { لكل أمة } فرقة من الفرق المختلفة المحقة والمبطلة { عملهم } وقد سبق عند قوله تعالى، قل كل من عند الله، ان الفاعل فى الوجود مطلقا هو الحق تعالى وليس من الموجودات سوى الاستعداد والقبول وان فعله تعالى اما بلا واسطة او بوسائط وان مظاهر قهره تعالى من جملة وسائطه وان الشيطان من مظاهر قهره فصح نسبة التزيين اليه تعالى فى الاعمال السيئة والى الشيطان لانه المباشر القريب والى القوابل نحو نسبة الشيء الى القابل { ثم إلى ربهم مرجعهم } قد سبق ان الرب المضاف هو الولاية المطلقة وان مظهره الاتم على (ع) وان رجوع الكل الى الولاية التى هى فعله تعالى وظهوره لا الى الغيب المطلق فانه لا راجع هناك ولا رجوع { فينبئهم بما كانوا يعملون } من خير وشر.
[6.109]
{ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جآءتهم آية } مما اقترحوا { ليؤمنن بها } اى ليذعنن بالآية الجائية وانها من الله او ليؤمنن بمحمد (ص) بسبب تلك الآية وهذا حكاية قولهم الكاسد الناشى من تمحلات النفس فانها كالمرأة الخبيثة تكون دائمة فى الاعذار الفاسدة والفرار من قبول حكم الازواج واتهام غيرها بمأثمها { قل } يا محمد (ص) لهم او للمؤمنين الطامعين فى ايمانهم الطالبين منك الاتيان بمقترحاتهم { إنما الآيات عند الله } وليست عندى وباختيارى { وما يشعركم } ما استفهامية للاستفهام الانكارى والخطاب للمؤمنين الطالبين للاتيان بمقترحاتهم حرصا على ايمانهم، او للكافرين المقسمين بطريق الالتفات من الغيبة الى الخطاب، او ما نافية وفاعل يشعركم ضمير راجع الى الله وهو عطف على انما الآيات، او حال معمول لعند الله ومن جملة مقول القول، او عطف على اقسموا، او حال معمول لاقسموا ومن قول الله { أنهآ إذا جآءت } قرئ بفتح همزة ان معمولة مع ما بعدها ليشعركم بلا واسطة حرف، او بتقدير الباء او هى بمعنى لعل وقرئ بكسر الهمزة فتكون مستأنفة { لا يؤمنون } قرئ بالغيبة وبالخطاب ولفظة لا زائدة او اصلية.
[6.110]
{ ونقلب أفئدتهم وأبصارهم } عطف على لا يؤمنون عطف السبب على المسبب او عطف المسبب على السبب، والفؤاد يطلق على القلب اللحمانى وعلى النفس الانسانية وعلى اللطيفة السياره الانسانية وعلى القلب الذى هو مرتبة من مراتب الانسان وعلى الجهة الروحانية من الانسان اذا علمت ذلك، فاعلم، ان روحانية الانسان اى قلبه كبدنه خلق مستوى القامة رأسه من فوق وتقليبه عبارة عن تعلقه بمشتهيات الحيوان واستقامته عبارة عن تعلقه بما اقتضته انسانية الانسان، واستقامة الابصار عبارة عن ادراك ما يوافق الآخرة من كل ما يدركه البصر او البصيرة، وتقليبها سبب لادراك مقتضيات الحيوان والاحتجاب عن الاعتبار بالمدركات { كما لم يؤمنوا به } اى بما انزل من الآيات او بالقرآن او بالنبى (ص) { أول مرة } اى قبل اقتراحهم، او اول مرة نزول الآية او فى عالم الذر او اول الدعوة { ونذرهم في طغيانهم } متعلق بنذرهم او بقوله { يعمهون } اى يترددون فى الضلال ويتحيرون، قرئ نقلب ونذرهم بالتكلم وبالغيبة وقرئ تقلب مبنيا للمفعول بتاء التأنيث.
[6.111]
{ ولو أننا نزلنآ إليهم الملائكة } رد لاقتراحاتهم وردع للرسول (ص) وللمؤمنين عن ارادة الاتيان بشيء منها فانهم كما نقل قالوا يا محمد (ص) كان للانبياء الماضين آيات، فقال: اى شيء تحبون منها ان آتيكم به؟ - فقالوا: اجعل لنا الصفا ذهبا، وابعث لنا بعض موتانا نسألهم عنك، وأرنا الملائكة يشهدون لك، او ائتنا بالله والملائكة قبيلا، وسأل المسلمون الرسول (ص) ان يأتى لهم، فأراد الرسول (ص) ان يجيبهم فنزل جبرئيل (ع) وقال: ان سألت اجبت ولكن ان لم يؤمنوا عذبتهم وان شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم، فقال رسول الله (ص)
" بل يتوب تائبهم "
، فأنزل الله تعالى ولو اننا نزلنا عليهم الملائكة { وكلمهم الموتى } فى رسالتك { وحشرنا عليهم كل شيء قبلا } جمع القبيل بمعنى الكفيل او جمع قبيل هو جمع القبيلة بمعنى الجماعة من الناس او هو مصدر بمعنى المعاينة والمقابلة والمعنى انا لو جمعنا عليهم كل آية معاينة ومقابلة لهم، او لو جمعنا كل شيء من الله والملائكة وغيرهم كفلاء بما بشروا وانذروا او جماعات وحمل الجمع على كل شيء باعتبار عمومه { ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشآء الله } رد لسببية الاسباب الظاهرة للايمان واثبات بسببية المشية له وردع للمشركين والمؤمنين من نظرهم الى الواسطة وغفلتهم عن سببية المشية واقتراحهم وتمنيهم للآية، بان الوسائط ليست اسبابا، بل هى مظاهر لمشيته والسبب لكل مسبب هو المشية، فلو شاء الله لاتى كل نفس هديها من غير واسطة ولو لم يشأ لم تهتد وان كان لها كل واسطة { ولكن أكثرهم } اكثر المؤمنين او المشركين او الجميع { يجهلون } ان المشية هى السبب للايمان لا الآية المقترحة والمتمناة، ولذا يقترحون ويتمنون او الفعل منسى المفعول والمعنى اكثرهم جهلاء.
[6.112]
{ وكذلك } اى كما جعلنا لك عدوا من قومك { جعلنا لكل نبي عدوا } يعنى لا تحزن على معادات قومك فان سنتنا على وفق حكمتنا جرت بجعل العدو للكل نبى ليكون تكميلا لهم واصلاحا لامتهم وسببا لامتياز المنافق منهم عن الموافق واظهارا لفضائلهم على السنة حسادهم، فان فضل المحسود كثيرا يظهر على لسان الحاسد واحتجاجا على طالبى الدين بمعاداة المعاندين، فان معاند الانبياء لا يظهر بمعاداته الا اتباعه الهوى وارادة الدنيا وادباره عن الآخرة، لان الانبياء لا يعارضون احدا فى امور الدنيا بل يدعون الناس فى كمال الشفقة الى الآخرة، وهذا تسلية للرسول (ص) وسائر المؤمنين، والعدو ضد الصديق يستوى فيه الواحد والكثير والمذكر والمؤنث ولذا ابدل عنه الجمع { شياطين الإنس والجن } اعلم، ان الانسان وجملة عالم الطبع واقع بين العالمين العلوى والسفلى كما سبق ولاهل كل من العالمين جهة تسلط وتصرف فى الانسان، وعالم الطبع والعالم السفلى مهوى الشياطين والجن ودار الاشقياء وجحيمهم، والعالم العلوى القريب من عالم الطبع مقر الملائكة ذوى الاجنحة دون المقربين، فان عالمهم اعلى من ذلك والانسان قابل لتصرف اهل العالمين وله امكان التوجه الى كليهما، فمن توجه بسوء اختياره الى السفلى وقبل تصرف الشياطين والجنة وتمكن فى ذلك القبول ولم يبق له جهة استعداد قبول تصرف الملائكة صار مظهرا للشياطين ومتحققا بهم بحيث لم يكن فى وجوده الا الشيطان وكان فعله فعله وامره امره وخلقه خلقه وقوله قوله كما قيل بالفارسى:
جون برى غالب شود بر آدمى
كم شود از مرد وصف مردمى
هرجه كويد او برى كفته بود
زين سرى نه زان سرى كفته بود
وان كان مع ذلك باقيا عليه بعض اوصاف الانسان كان شيطان الانس وان لم يكن كان شيطان الجن، ويحتمل ان يكون المراد بشياطين الجن، الجنة التى تؤذى من طريق الباطن وعلى اى تقدير فالمقصود التعريض بالحبتر والزريق كما فى الخبر، ومن توجه بتوفيق الله الى العالم العلوى وقبل تصرف اهله وتمكن فى ذلك بحيث لم يبق له استعداد تصرف الشيطان صار مظهرا للملائكة بل لله وكان فعله وقوله وخلقه ظهور افعال الملائكة واقوالهم واخلاقهم كما قيل:
جون برى را اين دم وقانون بود
كرد كارآن يرى خود جون بود
يس خداوند برى وآدمى
از يرى كى باشدش آخر كمى
وعن الصادق (ع): من لم يجعله الله من اهل صفة الحق فاولئك شياطين الانس والجن { يوحي } اى يلقى او يوحى من طريق الباطن شياطين الجن الى شياطين الانس { بعضهم إلى بعض زخرف القول } حسن القول الكاذب بتمويهه { غرورا } وحى غرور او للغرور او غارا { ولو شآء ربك ما فعلوه } فلا تبتئس بما فعلوا فانه بمشيتنا وفيه مصالح وحكم لكم { فذرهم } من غير تعرض لهم بالرد والقبول { وما يفترون } ليقولوا ما يريدون حتى يجرى حكمنا ومصالحنا.
[6.113]
{ ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة } عطف على محذوف كما ذكرنا او عطف على غرورا { وليرضوه وليقترفوا } يكتسبوا { ما هم مقترفون } حتى يتميزوا من المؤمنين ويخلصوا ايمان المؤمنين بايذائهم اياهم.
[6.114]
{ أفغير الله أبتغي حكما } بتقدير قل او بتقدير قال او يقول او يقال جوابا لسؤال مقدر { وهو الذي أنزل إليكم الكتاب } القرآن او النبوة { مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك } يعنى الذين آتيناهم النبوة بتسليم احكامها وقبولها وآتيناهم كتاب النبوة فى صورة كتاب سماوى كأهل الكتابين يعلمون ان القرآن او كتاب نبوتك او ولايتك فانهما روح القرآن منزل من ربك { بالحق } متلبسا بالحق الذى هو الولاية او بسببه او معه { فلا تكونن من الممترين } وهو من قبيل اياك أعنى واسمعى يا جارة.
[6.115]
{ وتمت كلمة ربك } كلمة الرب هى المشية التى هى الولاية المطلقة، وتماميتها بظهورها بنحو الاطلاق فى هذا العالم، وظهورها كذلك ما كان الا بمحمد (ص) وعلى (ع) فان سائر الانبياء والاولياء ولايتهم مقيدة جزئية مقتبسة من ولاية على (ع) التى هى المطلقة الكلية { صدقا } من حيث الصدق او صادقة فان الولاية ما لم تخرج من التقيد والتحدد لم يتم صدقها { وعدلا } العدل ضد الجور وهو اعطاء كل ذى حق حقه كما ان الجور منع المستحق من حقه وبمعنى الاستقامة ضد الاعوجاج وبمعنى التوسط فى الامور ويصح اعتباره بكل من معانيه { لا مبدل لكلماته } فلا تبال بما يقولون ولا تبتئس بما يكذبون { وهو السميع } لما يقولون فى على (ع) والقادر على منعهم من امضاء ما يقولون واظهار ما يريدون { العليم } بحال كل واستحقاقه.
[6.116]
{ وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله } لان الاكثر منكوسوا الرؤس منحرفون عن الولاية التى هى سبيل الله الى عالم السفل الذى هو عالم الشياطين والارواح الخبيثة واطاعتهم تؤدى الى الانحراف الى ما توجهوا اليه، وهو تعريض بالامة وانما قال اكثر من فى الارض لان الانسان ثلاثة اصناف: صنف عرجوا من ارض الطبع الى سماء الارواح، وشأنهم الطاعة والانقياد لصاحب الرسالة والولاية الكلية لا الاستقلال والمطاعية، وصنف وقفوا فى ارض الطبع لكن لهم التهيؤ والاستعداد للعروج الى عالم الارواح فهم وان كانوا فى ارض الطبع لكن موافقتهم لا تصير سببا للضلال عن التوجه الى عالم الارواح، وصنف واقفون فى ارض الطبع منكوسون الى السفل متوجهون الى عالم الشياطين وهم اكثر من فى الارض، وطاعتهم وموافقتهم توجب الانحراف عن الولاية { إن يتبعون إلا الظن } الظن من صفات النفس فان علومها وان كانت يقينية وادراكاتها غير ظنية فهى ظنون وليست بعلوم لما مضى مرارا ان العلم هو الذى يكون وجهه الى العلو ويكون فى الاشتداد وعلم النفس الغير المطيعة يكون وجهه الى السفل ويكون فى التنزل، فالمعنى ما يتبعون الا الادراكات النفسانية التى هى مبادى الآراء الردية والاهواء الخبيثه، وايضا لما كان علوم النفوس مغايرة لمعولماتها وجائزة الانفكاك عنها كان حكمها حكم الظنون فى مغايرتها لمظنوناتها وجواز انفكاكها عنها { وإن هم إلا يخرصون } الخرص التقدير والكذب والظن وهو المراد هنا يعنى لا يتبعون الا الظن وليس لهم علم اصلا حتى يتصور منهم امكان متابعة العلم، لانهم فى مرتبة النفس المنكوسة لا يتجاوزون عنها فلا يكون لهم علم.
[6.117]
فالمتبع هو ما قاله الرب لا ما قالوه من نسبة الضلال والاهتداء الى الناس بظنونهم فلا تبالوا بما قالوا ولا بما حرموا واحلوا وائتمروا بأمور ربكم.
[6.118]
{ فكلوا مما ذكر اسم الله عليه } ولا تبالوا بما قالوا من انكم تأكلون ما قتلتم بأيدكم ولا تأكلون ما قتله الله من الانعام، وبعد ما علمت ان الاكل أعم من فعل القوى والاعضاء وصفات النفس وادراك المدارك الظاهرة والباطنة والعقائد العقلانية، وان الاصل فى اسم الله هو الولاية وانها الاسم الاعظم وان لا اسم الا وهو ظل لذلك الاسم الاعظم، وان عليا (ع) هو مظهره الاتم ولذا ورد عنه: لا اسم اعظم منى، امكنك تعميم الاكل فى كل فعل وقول واكل وشرب وادراك وخاطر وعلم ومعرفة واعتقاد وكشف وشهود وعيان، فان الكل اكل بالنسبة الى القوى التى هى مبدأه، وكذا امكنك تعميم اسم الله فى الاسم القولى والقلبى المتصلين بصورته الملكوتية التى تسمى فكرا وسكينة وحضورا وذكرا حقيقيا فى لسانهم، فكل ما فعل مع الحضور عند الاسم الاعظم وتذكره بصورته الملكوتية فهو حلال ولا وزر معه ولا وبال، ومع تذكر الاسم الاعظم بما قلنا لا يقع منه ما هو مكروه الاسم الاعظم ومكروهه مكروه الله فلا يقع منه حرام خارج عن السنة ولذا قيل:
" كفر كيرد ملتى ملت شود "
ومع عدم ذكر الله لا بالقول ولا بالقلب ولا بالفكر كلما فعل وان مباحا كان حراما كما قيل:
" هر جه كيرد علتى علت شود "
وعن الصادق (ع) فى حديث ذكر الانهار انه قال: فما سقت واستقت فهو لنا وما كان لنا فهو لشيعتنا، وليس لعدونا منه شيء الا ما غصب عليه، وان ولينا لفى اوسع فيما بين ذه وذه مشيرا الى السماء والارض ثم تلا: قل هى للذين آمنوا فى الحيوة الدنيا المغصوبين عليها خالصة لهم يوم القيامة بلا غصب، وقد ورد: ولى على (ع) لا يأكل الا الحلال كما قيل:
كر بكيرد خون جهان رامال مال
كى خورد مرد خدا الا حلال
{ إن كنتم بآياته مؤمنين } واعظم الآيات محمد (ص) وعلى (ع) وهو شرط تهييج على نفى التحرج عن فعل ذكر اسم الله عليه وعدم الاعتناء بقول اصحاب التخمين والظن، او تقييد لاباحة ما ذكر اسم الله عليه.
[6.119]
{ وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه } اى فائدة لكم فى ان لا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه { وقد } اباحه لكم { فصل لكم ما حرم عليكم } بالذات مما سبق فى اول سورة المائدة فى آية تحريم الدم والميتة (الى آخرها) وما حرم عليكم بالعرض من الصيد حين الاحرام وما لم يذكر اسم الله عليه وما ذكر اسم غير الله عليه، وقرئ فصل بالبناء للفاعل وحرم بالبناء للمفعول، وقرئ فيهما بالبناء للفاعل وبالبناء للمفعول { إلا ما اضطررتم إليه } استثناء من المستتر فى حرم او من المقدر بعده عائد للموصول { وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم } عطف على ما حرم باعتبار جواز تعليق الفعل الغير القلبى او بتضمين فصل معنى اعلم او حال متعلق باجزاء جملة ما لكم ان لا تأكلوا (الى آخرها) او باجزاء جملة قد فصل (الى آخرها) { إن ربك هو أعلم بالمعتدين } استيناف جواب للسؤال عن علمه تعالى بهم ووضع الظاهر موضع المضمر للاشعار بأنهم فى اضلالهم معتدون وانه تعالى كما يعلمهم يعلم اعتداءهم وتجاوزهم عن حدود الله وقد أخبركم بتجاوزهم فلا تبالوا بما قالوا فى حرمة الذبيحة والميتة وحليتهما وائتمروا بأمر الله.
[6.120]
{ وذروا ظاهر الإثم وباطنه } من قبيل اضافة الصنف الى النوع او اضافة جهتى الشيء الواحد اليه او جزئى الشيء المركب اليه.
اعلم، ان الانسان اعنى اللطيفة السيارة الانسانية واقع بين عالمى النور والظلمة والاطلاق والتقييد والوحدة والكثرة والملائكة والجنة، ووجوده يكون دائما فى الخروج من القوة الى الفعل مثل سائر الكائنات، وهذا معنى قولهم: الكون فى الترقى فاذا كان افعاله واقواله وعلومه وعقائده وخطراته وخيالاته ناشئة من توجهه الى عالم النور، او قرينة لذلك التوجه كان خروجه من القوة الى فعلية النور ومن التقييد الى الاطلاق ومن الظلمة الى النور وكانت هذه منه طاعة ومرضية وعبادة، واذا كانت تلك ناشئة من توجهه الى عالم الظلمة او قرينة لغفلته عن الله تعالى وعن عالم النور كان خروجه من القوة الى فعلية الظلمة ومن الاطلاق الى التقييد ومن النور الى الظلمة، وكانت هذه منه اثما وذنبا ومعصية سواء كانت بصورة الطاعات او لم تكن، والى هذا اشارة الصادق (ع) بقوله: من كان ذاكرا لله على الحقيقة فهو مطيع ومن كان غافلا عنه فهو عاص، والطاعة علامة الهداية والمعصية علامة الضلالة واصلهما من الذكر والغفلة وقوله تعالى:
الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور
[البقرة:257] (الى آخر الآية) اشارة الى ان الايمان يقتضى التوجه الى عالم النور، وذلك التوجه يقتضى الخروج من القوة الى فعلية النور، والكفر بعكس ذلك، وان الانسان اذا تمكن من التوجه الى عالم الظلمة صار متجوهرا بالظلمة واصلا لكل الظلمات ومتحققا بالاثم واصلا لكل الآثام، واذا تمكن فى التوجه الى عالم النور صار متجوهرا بالنور واصلا لكل الانوار بعد نور الانوار، ولذلك كان محمد (ص) وعلى (ع) اصلا لكل حسن واليهما يرجع حسن كل حسن، واذا لم يتمكن فى شيء منهما فاما ان ينضم بتوجهه الفطرى الى التوجه الاختيارى بالبيعة العامة او الخاصة الصحيحة او الفاسدة او لا ينضم، وكل من الثلاثة ما صدر منه من حيث التوجه الفطرى او الاختيارى الى عالم النور كان حسنا وصوابا، وما صدر منه من حيث التوجه الى عالم الظلمة كان اثما وذنبا، اذا عرفت هذا، فصح تفسير ظاهر الاثم بمخالفة على وباطنه بالنفاق معه وبالزنا الظاهر والزنا الخفى وبنكاح زوجة الأب والزنا وبأعمال الجوارح السيئة والعقائد والرذائل والخيالات والخطرات والعزمات والنيات، وباتباع مخالفى على (ع) والمنافقين معه وبالسيئات الشرعية وصور الحسنات الشرعية الفاسدة، والمقصود منه النهى عن متابعة المخالفين والمنافقين وعن ارتكاب ما ينشأ عن متابعتهما كائنا ما كان كما ان المقصود مما يأتى الامر بمتابعة محمد (ص) وعلى(ع) المشار اليه بقوله تعالى فمن كان ميتا فأحييناه (الآية) { إن الذين يكسبون الإثم } يحصلون ما ينشأ من متابعتهما { سيجزون بما كانوا يقترفون } الاقتراف الاكتساب او فعل الاثم وهو فى موضع تعليل للاول.
[6.121]
{ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } تصريح بالمفهوم تسجيلا وتأكيدا { وإنه لفسق } يعنى ما لم يذكر اسم الله عليه خارج عن الحق كائنا ما كان وهو عطف على محذوف، والتقدير انه اثم او حرام او مثل ذلك وانه لفسق او حال { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليآئهم } من الكفار { ليجادلوكم وإن أطعتموهم } فى قولهم انكم تأكلون ما تقتلون بأنفسكم ولا تأكلون ما قتله الله وان اطعتموهم مطلقا فى هذا او غيره { إنكم } بتقدير الفاء وانما حسن حذفه لكون الشرط ماضيا مضعفا لحكم الشرط { لمشركون } فان الاشراك هو طاعة غير من نصبه الله للطاعة، والمقصود ان شياطين الجن ليوحون الى اوليائهم ليجادلوكم فى على (ع) او شياطين الانس ليوحون الى اتباعهم ليجادلوكم فى على (ع) باظهار ما يرى انها مثالب لعلى (ع ) وان اطعتموهم صرتم مشركين بالله بواسطة الاشراك فى الولاية.
[6.122]
{ أو من كان ميتا } عن الحيوة الانسانية وان كان حيا بالحيوة الحيوانية { فأحييناه } بالحيوة الانسانية بقبول الدعوة النبوية والبيعة العامة او باستعداد قبول الولاية واستحقاق البيعة الخاصة { وجعلنا له نورا } اماما او ايتماما بامام منا { يمشي به } بسببه او معه { في الناس كمن مثله } المثل بالتحريك والمثل بالكسر والمثيل كامير الشبيه، والمثل بالتحريك الحجة والحديث والصفة والمعنى كمن هو شبيه من احييناه حال كونه { في الظلمات } او كمن شبيهه ثابت فى الظلمات او كمن حديثه او صفته ثابتة فى الظلمات، او كمن صفته البقاء فى الظلمات سواء كان حيا بالحيوة الانسانية وقبول الدعوة النبوية ولم يكن له نور او لم يكن حيا فضلا عن النور { ليس بخارج منها } عن الباقر (ع) الميت الذى لا يعرف هذا الشأن يعنى هذا الامر، واقول: المراد به الولاية اى الدعوة الباطنة وقبولها والبيعة لها وقال (ع) جعلنا له نورا اماما يأتم به يعنى على بن ابى طالب (ع) كمن مثله فى الظلمات قال (ع) بيده هذا الخلق الذين لا يعرفون شيئا، وبهذا المضمون اخبار كثيرة، ويستفاد من هذا الخبر ان المراد بالميت غير العارف بأمر الولاية سواء كان عارفا بامر النبوة او لم يكن، والحيوة معرفة امر الولاية بقبول الدعوة الباطنة فانه لا يتصور معرفة هذا الامر الا بالبيعة الخاصة الولوية وقبول الدعوة الولوية، والمراد بالنور اما نفس قبول الدعوة والبيعة او الامام الظاهر عليه بشريته، او المراد بالنور الامر الداخل فى القلب بالبيعة الخاصة او المراد به ملكوت الامام الظاهر على السالك فانه به يحصل معرفة الامام بالنورانية { كذلك } التزيين الذى زينا لمن مثله فى الظلمات { زين للكافرين ما كانوا يعملون } فى ظلمات جهالاتهم محجوبين عن امر الولاية وضالين عنه.
[6.123]
{ وكذلك } اى مثل ما جعلنا فى قريتك اكابر مجرميها { جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها } لتخليص المؤمنين وتميز المنافقين عنهم { وما يمكرون } فى مكر الانبياء والمؤمنين { إلا بأنفسهم } لانهم فى مكرهم يخرجون اولا انفسهم من حد الاعتدال والتوجه الى كمالها الى حد التفريط والتوجه الى نقصانها { وما يشعرون } ان المكر فى الحقيقة بأنفسهم.
[6.124-126]
{ وإذا جآءتهم آية } بيان لمكرهم او تعنت آخر لهم { قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل مآ أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته } وهذا رد عليهم بان الرسالة ليست بالآية ولا بالنسب والحسب والمال بل بعلم الله بمحله وصلاح محله وبمشيته وحيث مفعول به ليعلم المقدر، او بتقدير افعل التفضل بمعنى اسم الفاعل لعدم جواز تعدية اسم التفضيل الى المفعول به { سيصيب الذين أجرموا صغار } فى الدنيا اى ذلة وهو ان كما اصابهم يوم بدر ويوم فتح مكة { عند الله } اى عند مظاهره او فى الآخرة عنده { وعذاب شديد } فى الآخرة { بما كانوا يمكرون فمن يرد الله أن يهديه } الى الرسالة التى جعلها حيث يشاء { يشرح صدره للإسلام } الصدر محل الاسلام ومحل قبول الرسالة واحكامها باعتبار وجهه الى القلب كما انه محل الكفر وقبول احكام الشيطان باعتبار وجهه الى الحيوانية والطبع، وشرحه عبارة عن استعداده لقبول احكام كل من الطرفين بجهتيه فشرحه للاسلام كمال استعداده لقبول ما يرد عليه مما يوجهه الى القلب، وشرحه للكفر عبارة عن كمال استعداده لقبول ما يرد عليه مما يوجهه الى الشيطان والى اهويتها، وارادة الله للهداية والاضلال مسبوقة بحسن استعداد العبد واختياره او سوء استعداده واختياره فلا جبر كما انه لا تفويض، وقد سبق تحقيق هذا المطلب فى سورة البقرة عند قوله
ولكن الله يفعل ما يريد
[البقرة: 253] ولما كان شرح الصدر للاسلام عبارة عن توجه النفس الى القلب وانصرافها عن جهة الدنيا ورد عن النبى (ص)
" حين سئل: هل لذلك ما امارة يعرف بها؟ - انه قال: نعم، الانابة الى دار الخلود، والتجافى عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت "
{ ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا } عن قبول ما يوجهه الى جهة القلب، والضيق الذى بقى له منفذ والحرج وقرء بكسر الحاء الذى لا منفذ فيه كما فى الخبر { كأنما يصعد في السمآء } فى قبول الرسالة والاسلام { كذلك } كما يجعل الشك والضيق على من يريد ان يضله { يجعل الله الرجس } بكسر الراء وفتحها وكسر الجيم وبالتحريك القذر والمأثم وكل ما استقذر من العمل والشك والعقاب { على الذين لا يؤمنون وهذا } الذى ذكر من جعل صدر بعض منشرحا للاسلام وبعض ضيقا { صراط ربك } سنة ربك { مستقيما } غير منحرف فى الارادتين عن ميزان الاستعدادين فان الارادتين بقدر استعدادهما واستحقاقهما، او هذا الذى انت عليه من الولاية التى هى روح نبوتك ورسالتك صراط ربك مستقيما فانه لا افراط فيها ولا تفريط { قد فصلنا الآيات } التدوينية فى بيان الآيات التكوينية الواردة فى صدور الناس بحسب استعداداتهم المختلفة او الآيات التكوينية مطلقة بالآيات التدوينية { لقوم يذكرون } يتذكرون اشارة الى ان الذاكر بااللسان فقط لا يتنبه لتلك الآيات بل الذاكر باللسان والراجع الى الجنان يتنبه لها فان الانسان ما لم يرجع الى باطنه ولم ينظر ببصيرته الى حالاته الواردة عليه لا يميز بين ضيق الصدر وشرحه او بين مطلق الآيات العلوية والسفلية، والراجع الى نفسه يميز بين الواردات فيتوب عما يؤذيه وينيب الى ما ينفعه فيكون { لهم دار السلام عند ربهم }
[6.127]
{ لهم دار السلام عند ربهم } اى دار السلامة عن الآفات او دار الله التى اعطاها اياهم { وهو وليهم } لما انقطعوا عن غيره وتوسلوا به { بما كانوا يعملون } من الفرار عما يبعدهم والعمل بما يقربهم.
[6.128]
{ ويوم يحشرهم جميعا } بتقدير اذكرا واذكر او نقول والضمير للثقلين { يامعشر الجن قد استكثرتم من الإنس } استكثره الماء اراد منه ماء كثيرا واستكثر من الشيء رغب فى الكثير منه والمعنى طلبتم كثيرا منهم او رغبتم فى الكثير منهم فجعلتموهم من سنخكم او اتباعكم { وقال أوليآؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض } استتماع الانس من الجن باتباعهم فى الالتذاذ بالشهوات واستمتاع الجن من الانس بحصول مرادهم منهم من اغوائهم وتمكنهم منهم فى الامر والنهى قالواها تحسرا واعترافا { وبلغنآ أجلنا الذي أجلت لنا } من القيامة او من امد الحياة { قال } الله لهم { النار مثواكم خالدين فيهآ إلا ما شآء الله } قبل دخول النار حتى لا ينافى مادة العامل فى الاستثناء او الا ما شاء لمن يشاء بناء على خروج بعض من النار، وبعض من قال بانقطاع العذاب لكل احد تمسك بامثال هذه الآية من النقليات بعد التوسل بالعقليات { إن ربك حكيم } فى عقوبة المعاقب لا يظلم احدا { عليم } بقدر استحقاقه.
[6.129]
{ وكذلك } مثل ما نولى بعض الانس بعض الجن فى الدنيا او فى القيامة { نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون } بالسنخية التى يكسبونها باعمالهم السيئة اى نصرف وجوه بعض الى بعض ونتركهم ونصرف وجوههم عن اوليائى، او المعنى نولى بعض الظالمين بعضا للانتقام منهم كما اشير اليه فى الخبر.
[6.130]
{ يامعشر الجن والإنس } بتقدير القول حالا او مستأنفا { ألم يأتكم رسل منكم } من وجودكم فى عالمكم الصغير او من سنخكم فى العالم الكبير وهو توبيخ لهم، وقد ورد ان الله قد بعث من الجن رسولا اليهم، ورسالة رسولنا (ص) كان الى الانس والجن كما ورد فى الاخبار { يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقآء يومكم هذا قالوا } اعترافا بتقصيرهم { شهدنا على أنفسنا } لما لم يجدوا مفرا اقروا { وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين } عطف على قالوا.
[6.131]
{ ذلك } اى ارسال الرسل وقص الآيات والانذار من يوم القيامة { أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم } منه من دون اتمام الحجة او بظلمهم لانفسهم او لغيرهم { وأهلها غافلون } غير متذكرين لثواب وعقاب.
[6.132]
{ ولكل } من افراد الجن والانس محسنا كان او مسيئا او من اصناف المحسن والمسيء او من جنس المحسن وجنس المسيء { درجات } فى العلو والعالم العلوى وفى النزول والعالم السفلى، والدرجة بالضم والسكون وبالتحريك وكهمزة المرقاة واذا اعتبر فيها الارتقاء كان تسمية دركات المسيء بالدرجات من باب التغليب او باعتبارها من الاسفل فان الاسفل بالنسبة الى ما فوقه درجة { مما عملوا } اى هى عبارة مما عملوا على تجسم الاعمال او ناشئة مما عملوا، وما موصولة او موصوفة او مصدرية { وما ربك بغافل عما يعملون } قرئ بالخطاب وبالغيبة والمقصود ان درجات اعمال العباد ظاهرة عنده وهو غير غافل عنها فيرفع كلا وينزل بقدر درجات اعماله ودركاتها.
[6.133]
{ وربك الغني ذو الرحمة } جمع بين المتقابلين من صفاته من القهر واللطف والتنزيه والتشبيه وعدا ووعيدا { إن يشأ يذهبكم } باقتضاء غناه وعدم حاجته لكن يبقيكم مدة لتستكملوا فيها باقتضاء رحمته { ويستخلف من بعدكم ما يشآء } الاتيان بما للاشارة الى كمال قدرته بحيث لو اراد ان يستخلف منكم غير ذوى العقول كان قادرا فضلا عمن هو من سنخكم وباعدادكم نطفهم ومادتهم لقبول صورة الانسان { كمآ أنشأكم من ذرية قوم آخرين } فى زيادة الذرية اشارة الى ان هذا كان مستمرا.
[6.134]
{ إن ما توعدون لآت } لما لم يقتض الشرط وضع المقدم صار المقام مظنة السؤال عن وقوع المقدم فاجاب بان ما توعدون من مشية الاذهاب والاستخلاف واقع { ومآ أنتم بمعجزين } له عن الاذهاب.
[6.135]
{ قل } تهديدا لهم { ياقوم اعملوا على مكانتكم } قرئ مكاناتكم حيثما وقع اى حال كونكم ثابتين على مقامكم ومكانكم فى الكفر او مشتملين على غايه تمكنكم فان المكانة كالمكان بمعنى المقام او من التمكن بمعنى الاستطاعة { إني عامل } على مرتبتى فى التوحيد والاسلام { فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار } اما استفهام علق الفعل عنه، او استفهام منقطع عن سابقه، او موصول مفعول لتعلمون وعلى اى تقدير فالمقصود بقرينة المقام انكم سوف تعلمون ان لنا عاقبة الدار ولذا علله بقوله { إنه لا يفلح الظالمون } كأنه قال لانكم ظالمون ولا عاقبة محمودة للظالم او هو من قول الله تعليلا للامر اى قل لهم ذلك لانهم ظالمون والظالم لا يفلح بحجة.
[6.136]
{ وجعلوا لله } بيان لظلمهم وعطف باعبتار المعنى اى انهم ظلموا او جعلوا لله { مما ذرأ } اى خلق { من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم } من غير حجة وسلطان { وهذا لشركآئنا } يعنى اصنامهم { فما كان لشركآئهم فلا يصل إلى الله } لان الوصول الى الله لا يكون الا اذا كان الصدور ايضا من الله وليس لهم لطيفة آلهية تصير سببا لان يكون الصدور من الله { وما كان لله فهو يصل إلى شركآئهم } لما ذكر { سآء ما يحكمون } بتشريك المخلوق للخالق وجعل النصيب من المخلوق للخالق من غير امر منه، روى انهم كانوا يعينون شيئا من حرث ونتاج لله ويصرفونه الى الصبيان والمساكين وشيئا منهما لآلهتهم وينفقونه على سدنتها ويذبحون عندها، ثم ان رأوا ما عينوا لله ازكى بدلوه بما لآلهتهم، وان رأوا ما لآلهتهم ازكى تركوه لها حبا لآلهتهم واعتلوا لذلك بان الله غنى. اعلم، ان فى الانسان لطيفة آلهية تسمى عقلا وعقل المعاش طليعة منه وهو المتصرف والحاكم من الله فى وجوده، ولطيفة شيطانية تتصرف فيه وتحكم عليه والاول هو الاله فى العالم الصغير والثانى هو الشيطان فى العالم الصغير، والانسان واقع بين الحاكمين والغرض من تكليف الانسان بالاعمال الشرعية خلاصه من حكومة الشيطان ودخوله تحت حكومة الله وخلوص حكومته، فمن أخلص نفسه لقبول حكومة الله فهو مؤمن موحد ومن اخلص نفسه لحكومة الشيطان فهو كافر بل هو شيطان مريد، ومن أشرك بين الحكومتين فهو مشرك موزع لجملة اعماله ومكاسبه عليهما، ولما كان الله تعالى شأنه أغنى الشركاء فما كان لشريكه فلا يصل الى الله، وما كان لله فهو يصل الى شريكه، لان الشيطان ما دام له حكومة ما فى وجود الانسان فكلما عمل لله يداخله الشيطان قبل العمل اوحينه او بعده من مداخل خفية، حتى يجعل نفسه شريكا للطيفة الآلهية، ولما كان الله أغنى الشركاء يترك ما جعل ما بشراكة غيره الى الشريك فما كان خالصا للشريك كان له وما كان لله يدعه الله للشريك، وفى لفظ ذرأ اشارة الى كمال سفاهتهم حيث جعلوا لله مما خلقه نصيبا له والخالق اقوى مالك لمخلوقه.
[6.137]
{ وكذلك } اى مثل تزيين جعل النصيب لله من مخلوقاته { زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركآؤهم } وهم الذين كانوا يرتكبون قتل اولادهم او وأدهم للعار او لخوف العيلة او للاصنام وقرئ زين مجهولا وقتل بالرفع واولادهم بالنصب وشركاؤهم بالجر بناء على توسط المفعول بين المضاف والمضاف اليه ، وقرئ زين مجهولا وقتل بالرفع واولادهم بالجر وشركاؤهم بالرفع على ان يكون شركاؤهم فاعل القتل، وقرئ زين معلوما وقتل بالنصب واولادهم بالجر وشركاؤهم بالرفع، وحينئذ يكون فاعل زين ضميرا راجعا الى الله وشركاؤهم فاعلا للمصدر او شركاؤهم فاعل زين وفاعل المصدر محذوف يعنى المشركين او شركاؤهم متنازع فيه لزين وللمصدر، وتعميم القتل والاولاد والشركاء لما فى الكبير والصغير يناسب كون شركاؤهم فاعلا للمصدر او متنازعا فيه { ليردوهم } ليهلكوهم بالاغواء عن الحيوة الانسانية { وليلبسوا عليهم } ليخلطوا عليهم { دينهم } الفطرى الذى كانوا عليه بحسب الفطرة من التوجه الى الآخرة والتوحيد او طريقتهم التى كانوا عليها، آلهية كانت او شيطانية حتى لا يستقيموا على تلك الطريقة التى يسمونها دينا { ولو شآء الله ما فعلوه } تسلية للرسول (ص) بصرف نظره عن صورة افعالهم الى السبب الاصلى لها، حتى لا يضيق صدره بما فعلوا ولا يتحسر عليهم { فذرهم وما يفترون } تسكين له (ص) عن تعب الدعوة والاهتمام بمنعهم من شنائع اعمالهم.
[6.138-139]
{ وقالوا } بيان لظلم آخر منهم { هذه } الانعام والحرث { أنعام وحرث حجر } الحجر بتثليث الحاء المنع والحرام { لا يطعمهآ إلا من نشآء } يعنى من نشاء بالمواضعة التى بيننا وفيه تعيير لهم، بان حكمهم ليس الا بمقتضى اهويتهم كانوا يمنعون غير خدام الاصنام من اكلها { بزعمهم } متعلق بقالوا يعنى قالوه بزعمهم من غير حجة من الله { وأنعام حرمت ظهورها } يعنى البحيرة والسائبة والوصيلة والحام { وأنعام } عطف على انعام اى قالوا هذه انعام لا ينبغى ان يذكر اسم الله عليها، او ابتداء كلام من الله والجملة معطوفة على قالوا اى لهم انعام وانعام اخر { لا يذكرون اسم الله عليها } فى الذبح والنحر او لا يحجون عليها يحرمون ذكر اسم الله بالتلبية عليها { افترآء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون وقالوا } وجه آخر لظلمهم وانحرافهم عن الحق واستبدادهم برأيهم من غير حجة { ما في بطون هذه الأنعام خالصة } قرئ بالتأنيث والتذكير مرفوعا ومنصوبا فى كلا الحالين، والتأنيث باعتبار معنى ما، وهى الاجنة، او التاء فيه للمبالغة او هو مصدر كالعافية { لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركآء } كانوا يحرمون الجنين الذى يخرجونه من بطون الانعام المفصلة السابقة حيا على النساء فاذا كان ميتا يأكله الرجال والنساء على السواء، وقيل: المراد بما فى بطونها البانها، وقيل: المراد الالبان والاجنة كلتاهما { سيجزيهم وصفهم } اى جزاء وصفهم هذا او نفس وصفهم على تجسم الاعمال { إنه حكيم } يعطى حق كل ذى حق من الخير والشر { عليم } بمقادير استحقاقاتهم.
[6.140]
{ قد خسر الذين قتلوا أولادهم } تصريح بخسرانهم وضلالهم التلويح تأكيدا وتفضيحا، قيل: كانوا يقتلون الاولاد للاصنام ويقتلون بناتهم مخافة العار والسبى والعيلة { سفها بغير علم } بان الله رازق لاولادهم وانه خالقهم لمصلحة النظام { وحرموا ما رزقهم الله } من الانعام السالفة على انفسهم او على غيرهم من النساء او حرموا ما رزقهم الله من الاولاد فانهم نعمة ايضا رزقهم الله { افترآء على الله } صرح هنا بالافتراء تأكيدا لما سلف { قد ضلوا وما كانوا مهتدين } الى امر الحق تعالى وابتغاء رضاه.
[6.141]
{ وهو الذي أنشأ جنات } مشتملات على الاشجار المثمرة من الكروم وغيرها { معروشات } مرفوعات على اصولها كالاشجار التى لها اصول او على ما يحملها كالكروم التى تحمل على غيرها { وغير معروشات } كالتى تلقى على وجه الارض من الكروم { والنخل والزرع مختلفا أكله } اكل ذلك المذكور من الاثمار والحبوب والبقول فى الشكل واللون والطعم والرائحة والنوع والجنس مع اتفاقها فى الارض والماء { والزيتون والرمان متشابها } فى المذكروات { وغير متشابه } قائلا { كلوا من ثمره } على ألسنة الانبياء (ع) والاولياء (ع) ترخيصا لكم فى التصرف قبل اخراج حقوقه او قائلا بلسان الحال حيث اباحه لكم { إذآ أثمر } والمراد بالثمر مطلق ما يحصل منها من المنافع حتى يدخل فيه ثمر الزرع { وآتوا حقه يوم حصاده } اى حقه المفروض بناء على وجوب الاداء اول وقت الامكان او حقه المسنون من التصدقات على السائلين وهكذا فسرت فى الاخبار، فعن الصادق: (ع) فى الزرع حقان حق تؤخذ به وحق تعطيه، اما الذى تؤخذ به فالعشر ونصف العشر، واما الذى تعطيه فقول الله تعالى عز وجل: { وآتوا حقه يوم حصاده } فالضغث تعطيه ثم الضغث حتى تفرغ ويؤيد كون المراد هو الحق المسنون قوله تعالى { ولا تسرفوا } فان المفروض لا يتصور السرف فيه بخلاف المسنون { إنه لا يحب المسرفين } عن الرضا (ع) انه سئل عن هذه الآية فقال كان ابى يقول: من الاسراف فى الحصاد والجذاذ ان يتصدق الرجل بكيفيه جميعا، وكان ابى اذا حضر شيئا من هذا فرأى احدا من غلمانه يتصدق بكفيه صاح به: اعط بيد واحدة.
[6.142-143]
{ و } أنشأ { من الأنعام حمولة } ما يحمل الاثقال { وفرشا } من شعرها وصوفها ووبرها قائلا { كلوا مما رزقكم الله } من لحومها والبانها ولا تحرموا شيئا مما اباحه الله لكم منها { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } بالاسراف فيما اباحه الله لكم والتجاوز الى تحريم ما احله الله وتحليل ما حرمه منها وقد سبق فى سورة البقرة تحقيق وتفصيل لخطوات الشيطان والآية تكون كسابقها اشارة الى التوسط بين الافراط والتفريط { إنه لكم عدو مبين ثمانية أزواج من الضأن اثنين } الاهلى والوحشى { ومن المعز اثنين } كذلك { قل ءآلذكرين } من الجنسين { حرم } الله { أم الأنثيين } من الجنسين { أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين } اى الجنين من الجنسين ذكرا كان او انثى { نبئوني بعلم } لا بظن وهوى وخديعة من النفس او بما به يحصل العلم بان الله حرم شيئا من ذلك او بأمر معلوم مقطوع به لكم { إن كنتم صادقين } فى دعويكم حرمة شيء من ذلك.
[6.144]
{ ومن الإبل اثنين } العراب والبخاتى { ومن البقر اثنين } الاهلى والوحشى { قل ءآلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين } والمقصود انكار تحريم شيء منها والزمهم ان قولهم بحرمة الذكور منها تارة والاناث اخرى والاجنة اخرى كما سبق ليس عن علم وحجة بل محض تخمين وظن من انفسهم { أم كنتم شهدآء } حاضرين { إذ وصاكم الله بهذا } يعنى امثال ذلك اما ان يعلم ببرهان فيمكن اعلام الغير بذلك البرهان، او يعلم بشهود وسماع حتى يكون من علم وان لم يكن اعلام الغير به، ولما لم يكن لكم برهان ولا شهود لم يكن حكمكم هذا الا محض افتراء على الله فلفظة ام وان كانت منقطعة لكنها معادلة لقوله نبئونى بعلم باعتبار المعنى يعنى الكم برهان ام كنتم شهداء { فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا } تقريع على ما تقدم باعتبار ثبوت الافتراء او جزاء لشرط مقدر بهذا الاعتبار، يعنى اذا لم يكن لكم برهان وعلم كما دل عليه نبؤنى بعلم ولم تكونوا شهداء كما دل عليه قوله ام كنتم شهداء فانتم مفترون ولا اظلم ممن افترى على الله فهو اشارة الى نتيجة قياس مستفاد من سابقه والى قياس اخر منتج اى انتم لا علم لكم ولا شهود، وكل من لا علم له ولا شهود فى قوله فهو مفتر، وكل مفتر لا اظلم منه فانتم لا اظلم منكم { ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين } وهذا الذى ذكر من تفسير الازواج بما ذكر هو الذى ورد فى الاخبار ولما امر الله تعالى نبيه (ص) بالسؤال عن حرمة شيء من الازواج وعن البرهان عليها او الشهود بها امره ان يجيب، بان طريق العلم اما برهان او شهود وهما منتفيان عنكم كما سبق واما وحى بتوسط سفراء الله وملائكته او تقليد لصاحب الوحى وانتم اهله وانا اهل ذلك الوحى ومدع له، لا انتم لعدم ادعائكم ذلك واعترافكم بانكم لستم اهلا للوحى فقال { قل }.
[6.145]
{ قل } لهم { لا أجد في مآ أوحي إلي محرما } من هذه الازواج كما تزعمون ان بعضها محرم على بعض كما سبق { على طاعم يطعمه } وبهذا التفسير يندفع عن هذه الاشكال بان المحرمات كثيرة وما ذكر هنا اقل قليل منها، واما ما ذكر فى البقرة فقد سبق هناك ما يندفع به الاشكال عن الآيتين { إلا أن يكون } اى الا فى حال ان يكون الطعام { ميتة } خرج عنها مقتول الكلاب المعلمة والمقتول بآلة الصيد على ما فصل فى الفقه لانه فى حكم المذبوح { أو دما مسفوحا } مصبوبا لا البقية التى تبقى فى لحوم الذبائح وهو مجمل تفصيله موكول الى بيانهم وقد فصل فى الفقه { أو لحم خنزير فإنه رجس } بين وجه الحرمة فيه لان كونه رجسا مخفى على آكليه بخلاف سابقيه او الضمير راجع الى المجموع باعتبار المذكور { أو فسقا أهل لغير الله به } سمى المذبوح للاصنام فسقا مبالغة وقوله اهل لغير الله به بيان لعلة كونه فسقا { فمن اضطر } الى اكل شيء من ذلك { غير باغ } على الامام { ولا عاد } حد الرخصة وقد مضى فى سورة البقرة تفصيل لهذه الآية { فإن ربك غفور رحيم } لا يؤاخذه ويرحمه بترخصه فى الاكل حفظا لنفسه.
[6.146]
{ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر } من الدواب والطيور ذكر التحريم على اليهود بطريق الحصر عقيب هذه الآية وتعقيبه بكونه جزاء لبغيهم للمن على امة محمد (ص) ولتهديدهم يؤيد الاشكال بلزوم حلية ذبيحة كل نوع من الحيوان { ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهمآ إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايآ } اى ما تعلق بالامعاء { أو ما اختلط بعظم ذلك } التحريم { جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون } فى الاخبار.
[6.147]
{ فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه } لانه لا مانع له من انفاذه { عن القوم المجرمين } جمع بين شأنى اللطف والقهر والارجاء والتخويف والوعد والوعيد تعليما لمحمد (ص) واوصيائه (ع) طريق الدعوة وتكميلا له فيها وتثبيتا له فى الدعوة بين جهتى الرضا والسخط، فانه لا يتم الدعوة الا بهما، فالمعنى فان كذبوك فلا تخرج عن التوسط وعدهم رحمة الرب باضافة الرب اليهم اظهارا للطف بهم وقل ربكم ذو رحمة واسعة فيرحمكم ولا يؤاخذكم بجهالاتكم، ولكن اذا اراد مؤاخذتكم فلا راد لمؤاخذته فاحذروها.
[6.148]
{ سيقول الذين أشركوا } لرفع القبح عن اشراكهم بل لتحسينه بعد ان عجزوا عن الحجة { لو شآء الله مآ أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء } كما هو ديدن النفس والمرأة الفاحشة فانهما لا ترضيان بنسبة السوء الى انفسهما بل تحسنان القبيح بما امكن، فاذا عجزتا عن ذلك تنسبانه بالتسبيب الى غيرهما من الشيطان والقرين ومشية الله وهو كذب محض، فان الشيطان والقرين ليس لهما الا الاعداد، والمشية وان كانت فاعلة او سببا للفعل لكن الفاعل ما دام يرى نفسه فى البين ليس له نسبة الفعل الى المشية او تعليقه عليها ولو نسب لا ينبغى الغفلة عن استعداد القابل وبهذا يرتفع التناقض المترائى بين تكذيبهم فى قولهم هذا وبين تعليق ذلك على المشية فى قوله ولو شاء الله لهديكم { كذلك كذب الذين من قبلهم } اى مثل تكذيبهم اياك بتعليق الاشراك والتحريم على المشية دون نسبته الى انفسهم كذب الذين من قبلهم انبياءهم (ع) { حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنآ } يعنى ليس عندكم برهان على دعويكم يمكنكم الاحتجاج به على الغير، واطلاق العلم على البرهان من قبيل اطلاق المسبب على السبب، او لان البرهان هو العلم الذى يحصل به علم اخر ولما كان البرهان هو الذى يمكن اعلام الغير به قال فتخرجوه لنا فنفى بهذا عنهم البرهان وبقوله ان تتبعون (الى آخره) نفى علمهم مطلقا، يعنى لا برهان لكم ولا شهود ولا سماع عن صادق او وحى وبقوله قل هلم شهداء كم نفى صحة تقليدهم لان التحدى بمثل هذا يدل على عدم شاهد لهم يصح الاعتماد عليه { إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون } يعنى لا علم لكم فى انفسكم بمدعاكم كما لا برهان لكم لاعلام غيركم، ذمهم اولا على اتباع الظن فى اعمالهم، وثانيا على ان شأنهم الخرص والتخمين لا العلم واليقين، والعاقل لا يقف على الظن والتخمين بل يتعمل فى تحصيل العلم واليقين وما لم يحصل اليقين يقف عن العمل الا اذا اضطر فيحتاط لا انه يتبع الظن فيعمل ويفتى بظنه من غير اذن واجازة ولا يحصل اليقين الا بالبيان والبرهان، او بادراك مدارك الحيوان، او بالوحى والعيان، او بتلقيد صاحب الوحى وخليفة الرحمن، فمن ظن ان الظن مطلقا والاستحسان طريق حكم الله او المخطئ له اجر والمصيب له اجران فقد أخطأ طريق الجنان وسلك طريق النيران فمن فسر القرآن برأيه واحكام الله نزول القرآن فليتبوء مقعده من النيران، واما الخاصة فظنونهم قائمة مقام العلم بل نقول ظنونهم اشرف واعلى من العلم فقد حققنا سابقا ان اجازة المجيز اذا كانت الاجازة الصحيحة بلغت الى المجاز تجعل ظن المجاز اشرف من علم غيره لان العلم بدون الاجازة لا اثر فى قول قائله والظن مع الاجازة يؤثر وليس الاجازة الآهلية بأقل من الاجازة الشيطانية، والحال ان المرتاضين بالاعمال الشيطانية ان تعلموا تعلما صحيحا مع تصحيح الالفاظ جميع المناطر لم يؤثر شيء منها ما لم يجزه صاحب الاجازة، واذا اجازه صاحب الاجازة يؤثر قوله ولو كان مغلوطا، فالاجازة تجعل المغلوط اشرف من الصحيح وهكذا الحال فى الاجازة الآلهية ولما نفى البرهان عنهم فى تعليق الاشراك والتحريم على مشية الله المفهوم من مفهوم الشرط، فان المراد بقرينة المقام من هذا الشرط الدلالة على تعلق الاشراك بمشية الله وان كان بحسب اللغة أعم، ونسب تكذيب النبى (ص) اليهم بذلك التعليق مشعرا بذمهم فيه واوهم ذلك نفى تعليق الافعال على المشية امر نبيه (ص) بان يقول لهم: ان البرهان منحصر فى الله وفيمن اخذ عن الله تمهيدا لتعليق الافعال على مشية الله رفعا لتوهم عدم سببية المشية الناشى عما سبق فقال تعالى { قل فلله الحجة البالغة }.
[6.149]
{ قل فلله الحجة البالغة } فى كل ما قال وما فعل { فلو شآء لهداكم أجمعين } فله الحجة فى صدق هذا القول وقد اظهرها لى يعنى لى الحجة فى تعليق اشراككم وتحريمكم على مشية المفهوم من مفهوم قولكم لو شاء الله ما اشركنا لا لكم وله الحجة فى ترك تلك المشية ومشية ضده، اعلم، ان مشية الله وهى اضافته الاشراقية التى بها وجود كل ذى وجود كالرحمة والارادة عامة وهى التى بها وجود كل ذى وجود امكانى بكمالاته الاولوية والثانوية فى سلسلة النزول والصعود مثل الرحمة الرحمنية وخاصة، وهى التى بها وجود الكمالات الثانوية للمكلفين فى سلسة الصعود مثل الرحمة الرحيمية وتسمى بالرضا والمحبة
ولا يرضى لعباده الكفر
[الزمر:7]
يحبهم ويحبونه
[المائدة:54] اشارة اليها فالمشية العامة لها السببية لكل ذات وفعل وصفة لكن الفاعل ما لم يخرج عن حد نفسه ولم ينظر الى مشية الله بنور بصيرته ويرى نفسه فاعل فعله كما يشعر به قولهم ما اشركنا بنسبة الاشراك الى انفسهم ما صح له نسبة الفعل او تعليقه على المشية وكان مذموما كاذبا فى نسبة فعله الى المشية، وبهذا ايضا يصح ذمهم فى قولهم لو شاء الله ما اشركنا بتعليق عدم الاشراك اى الاهتداء على المشية مع اثبات هذا التعليق بقوله
ولو شآء لهداكم أجمعين
[النحل:9] وكذلك المشية الخاصة لها السببية فى الافعال التكليفية الصالحة، فلو ارادوا تلك المشية فالجمع بين ذمهم على قولهم واثبات قولهم بمثل ما ذكر فى المشية العامة ولما ابطل قولهم ذلك بعدم البرهان وعدم علمهم فى انفسهم اراد ان يبطل علمهم التقليدى ايضا باستحضار الرؤساء الذين قلدوهم والزمهم جهلهم وضلالتهم حتى يتبين لهم ان تقليدهم فاسد، وان التقليد يصح اذا كان تقليدا لمن نصبه الله للتقليد كالانبياء واوصيائهم وغيرهم كائنا من كان لا ينفك عن الهوى وتقليده اتباع للهوى فقال { قل }.
[6.150]
{ قل } لهم ايها العاجزون عن البرهان والقاصرون عن العلم { هلم شهدآءكم } اى رؤساءكم الذين تقلدونهم { الذين يشهدون أن الله حرم هذا } حتى اظهر لكم جهلهم واتباعهم للهوى { فإن شهدوا } بذلك { فلا تشهد معهم ولا تتبع أهوآء الذين كذبوا بآياتنا } وضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على ان شهادتهم ناشئة عن اتباع الهوى لانهم موصوفون بتكذيب آيات الله والمكذبون بآيات الله ولا يكونون الا صاحبى الاهوية النفسانية { والذين لا يؤمنون بالآخرة } وصف آخر باعث لاتباع الهوى { وهم بربهم يعدلون } اى يسوون غيره به وصفهم باوصاف ثلاثة كل واحد منها يكفى فى رد شهادتهم.
[6.151]
{ قل } بعد عجزهم عن العلم واقامة البرهان والزامهم فساد تقليدهم لرؤسائهم { تعالوا } الى فانى منصوب من الله { أتل ما حرم ربكم عليكم } حتى تقلدونى تقليدا صحيحا { ألا تشركوا به شيئا } اعراب اجزاء الآية ان ما فيما حرم مصدرية او موصوفة او موصولة او استفهامية وعليكم ظرف متعلق بحرم او باتل او بهما او ابتداء كلام، وان فى ان لا تشركوا مصدرية ولا نافية او ناهية والنهى اوفق بما يأتى من عطف الامر عليه، وهو اما بتقدير اللام او خبر مبتدء محذوف اى المتلو او المحرم ان لا تشركوا واذا قدر المحرم مبتدء كان لا زائدة او هو مفعول فعل محذوف، اى اعنى ان لا تشركوا او عليكم خبر مقدم وان لا تشركوا مبتدء، او عليكم اسم فعل والا تشركوا منصوب به، او ان لا تشركوا مفعول اتل على ان يكون ما فى ما حرم مصدرية او هو بدل مما وابداله مما باعتبار حرمة الاشراك، او يكون لا زائدة او لفظة ان تفسيرية والجملة تفسير لاتل او لحرم وتفسيره لحرم باعتبار الاشراك، او ان لا تشركوا مفعول لوصيكم الله وهذا اوفق بقوله { وبالوالدين إحسانا } وعلى الوجوه السابقة فالتقدير احسنوا بالوالدين وللاهتمام بالوالدين اسقط الفعل ايهاما لعطفه على الجار والمجرور ليتوهم ان المعنى ان لا تشركوا بالوالدين احسانا، واتى بالمصدر للاشعار بان المقدر احسنوا واتى به موضع لا تسيئوا فانه الموافق لسابقه ولاحقه للدلالة على الاهتمام بالاحسان اليهما وعدم الاكتفاء بترك الاساءة، والوالدان اعم من الصورى والروحانى { ولا تقتلوا أولادكم من إملاق } بالوءد وغيره { نحن نرزقكم وإياهم } فلا تخشوا الفقر { ولا تقربوا الفواحش } ما استقبحه العقل واستكرهه الشرع { ما ظهر منها } كالتى شاعت وصارت سيرة بينكم، كنكاح زوجة الاب وعبادة الاصنام وغيرها من السنن الرذيلة التى لا يرتضيها العقل ولم - تثبت فى شريعة آلهية، والنهى عن القرب مبالغة فى النهى عن الفعل { وما بطن } كالزنا وكل ما لم يصر شائعا وسيرة بينكم من المستقبحات العقلية والشرعية او المراد بما ظهر ما ظهر قبحه كالزنا واللواط لا ما ظهر ذاته كنكاح زوجة الاب وبما بطن ما بطن قبحه كنكاح زوجة الاب، او المراد بما ظهر ما ظهر منها على الاعضاء وبما بطن ما بطن فى النفوس كالرذائل النفسانية والخطرات السيئة والخيالات الفاسدة والعقائد الكاذبة، او المراد بالفواحش الزنا فقط اواعم منه ومما كان مثله فى القبح فى الانظار كاللواط وهذا اوفق بترتيب المعاصى كما لا يخفى على من تأمل فى الفقرات الثلاث، ولذا ورد تفسيرها فى الاخبار بالزنا ومثله، اعلم، ان ظلم الانسان وعصيانه اما ظلم لنفسه او ظلم لغيره، وظلم الغير اما مسر الى ذات الغير او الى ماله، واعظم مراتب ظلم النفس الزنا، واعظم مراتب ظلم ذات الغير ازهاق روحه، واعظم مراتب ظلم مال الغير أخذ مال اليتيم عدوانا، وبالفقرات الثلاث المصدرة باداة النهى اشار تعالى شأنه الى هذه الثلاثة { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } ذكر خاص بعد العام للاهتمام به كما ان ما سبق على ذكر الفواحش كان ذكر خاص قبل العام لذلك بناء على تعميم الفواحش، واما اذا كان الفواحش خاصة بالزنا واللواط كان ذكر قتل الاولاد مقدما على الكل، وعدم الاكتفاء بذكر قتل النفس للاهتمام بوأد الاولاد وقتلهم وللتشديد فى حرمته { ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون } قبحه وسوء عاقبته فتتركونه.
[6.152]
{ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } اى بالنية التى هى احسن وهى نية حفظ ماله ونفسه وانماء ماله { حتى يبلغ أشده } جمع الشد بالفتح كفلس وافلس او الشدة كالنعمة والانعم او مفرد، وعلى جمعيته فالمقصود الاشارة الى قوة جميع قواه البدنية والنفسانية وهو البلوغ الشرعى الذى فيه قوة قواه البدنية والنفسانية بكمال تميزه ودركه الخير والشر البدنيين والنفسانيين { وأوفوا الكيل والميزان بالقسط } المراد بهما المعروفان وقد مضى فى بيان الميزان ما يمكنك التعميم به وكذا فى سائر فقرات الآية، والتقييد بالقسط اما للتأكيد او للمنع من اعطاء الزيادة على قدر الاستحباب فانه كالتبذير الممنوع او مورث لجهالة المكيل والموزون المفسدة للمعاملة ولذا جاء بقوله { لا نكلف نفسا إلا وسعها } معترضا فان القسط الحقيقى فى الايفاء هو اداء تمام ما حقه ان يؤدى بحيث لا يزيد ولا ينقص حبة وهو امر ليس فى وسع البشر { وإذا قلتم } فى حكومة اذا حكمكم الناس او فى شهادة او اصلاح او نصح او ترحم او سخط او معاش او معاد او واجب او مباح بألسنتكم او بسائر اعضائكم او بقواكم العلامة او العمالة { فاعدلوا } توسطوا بين الافراط والتفريط فى الاقوال والاحوال والافعال، والتأدية بصورة الشرط وبلفظ اذا والمضى للاشارة الى ان القول غير مأمور به لكن الانسان لا يخلو عن قول ما خصوصا على التعميم المذكور ويكون مأمورا بالتوسط فى القول { ولو كان ذا قربى } جسمانيا او روحانيا فى العالم الكبير او الصغير { وبعهد الله أوفوا } تقديم المعمول للاهتمام به ولشرافته ولابراز العلة للامر قبل الاتيان به لقصد الحصر او للحصر ايضا بناء على ان الوفاء بسائر العهود من شراط عهد الله، اعلم، ان العهد والعقد والميثاق والبيعة مع الله فى عرف اهل الله اذا اطلقت يراد بها البيعة العامة النبوية او البيعة الخاصة الولوية، وبالاولى يحصل الاسلام وبالثانية يحصل الايمان وتسمى تلك البيعة بيعة ومبايعة، لان البائع بتلك البيعة يبيع نفسه وماله بثمن هو الجنة كما قال تعالى:
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة
[التوبة:111] وتسمى عهدا ومعاهدة لتعهد البائع والمشترى القيام بما عليهما وعقدا لانعقاد يد البائع على يد المشترى وميثاقا لاستحكام ذلك العهد بتقبل الشروط من الطرفين ووثوق كل بالاخر بذلك العقد، ولما كان المشترى منصوبا من الله ووكيلا منه فى تلك المبايعة صح نسبتها الى الله
إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم
[الفتح:10]،
إن الله اشترى من المؤمنين
[التوبة:111]،
ومن أوفى بعهده من الله
[التوبة:111]،
وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل
[البقرة:83]
وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم
[البقرة:40]، وغير ذلك من الآيات والاخبار الدالة على نسبة هذه الى الله { ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون } التذكر هو الالتفات الى المعلوم والاستشعار به بعد الغفلة عنه او مطلقا وهو من صفات العقل كما أن الغفله من صفات النفس ولذا اخره عن قوله تعقلون وكرر ذلك للاشارة الى مراتب المعاصى وان بعضها لا يصدر عن العاقل، وبعضها لا يصدر عن المتذكر وان كان قد يصدر عن العاقل الغافل، وبعضها لا يصدر عن المتقى وان كان قد يصدر عن العاقل المتذكر والمراد بالتقوى فى قوله { لعلكم تتقون } ، هو التقوى الحقيقية التى هى الرجوع عن طرق النفس المعوجة واتباع ائمة الجور الى طريق القلب واتباع الامام الحق، والعاقل المتذكر ما لم يصل الى الامام الحق لا يمكنه الرجوع الى طريق القلب ولذا اقتصر هناك على اتباع الصراط المستقيم.
[6.153]
{ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه } قرئ بفتح همزة ان وتشديد النون او تخفيفه مخففة من المثقلة وحينئذ تكون مع بعدها عطفا على ان لا تشركوا واعتبار الحرمة فيه باعتبار ترك المتابعة، او تكون بتقدير اللام متعلقا بقوله اتبعوه وقرئ بكسر همزة ان فتكون عطفا على تعالوا، وقرئ صراط ربك وصراط ربكم وهذا اشارة الى المستفاد مما ذكر من قوله ان لا تشركوا الى اخر الآيات وهو التوسط بين الافراط والتفريط فى الفعل والقول وهو صراط الولاية، او هو اشارة اولا الى طريق الولاية الذى كان معهودا عنده { ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } اصله تتفرق حذف تاء المضارعة والفعل منصوب بان بعد الفاء والباء للتعدية والمعنى لا تتبعوا السبل فان تتفرق بكم اى تفرقكم وتزيل اجتماعكم واتحادكم فى الصراط، ولما كان التوسط بين الافراط والتفريط لا يحصل الا بالولاية بل كان هو الولاية والولاية من شؤن الولى بل هى الولى صح تفسيره بالولاية وبمحمد (ص) وبعلى (ع) كما ورد فى الاخبار، ولما كان الانحراف عن التوسط والميل الى الافراط والتفريط لا يحصل الا باتباع الهوى بل هو اتباع الهوى والهوى ليس الا من شؤن اعداء اهل البيت صح تفسير اتباع السبل بمحبة اعدائهم { ذلكم } التوسط { وصاكم به لعلكم تتقون } السبل المتفرقة فان التقوى الحقيقية هى الاحتراز عن الطرق المنحرفة والثبات على الصراط المستقيم.
[6.154]
{ ثم آتينا موسى الكتاب } كتاب النبوة او التوراة التى هى صورة النبوة والعطف باعتبار المعنى كأنه قال هذا ما آتينا محمدا (ص) ثم آتينا موسى الكتاب والعطف ثم باعتبار الاخبارين والاعلامين او باعتبار تفاوت الخبرين فى الشرف باعتبار موضوعيهما ويحتمل العطف على جملة ذلكم وصيكم به لكنه بعيد عن الفصاحة لعدم المناسبة بينهما، واما العطف على وصيكم كما قيل فبعيد غاية البعد لعدم ظهور الرابط لمبتدء المعطوف عليه { تماما } من غير نقص فيه او تماما للنعمة وهو حال او مفعول مطلق او تعليل { على الذي أحسن } صار ذا حسن او جعل عمله حسنا وبأحد هذين المعنيين ورد تفسيره بان تعبد الله كأنك تراه او احسن الى الغير ومنع اساءته عنهم، اعلم، ان الحسن المطلق منحصر فى الولاية المطلقة التى صاحبها على (ع) بعد محمد (ص) وحسن غيرها من الذوات والصفات والافعال باعتبار اتصاله بها، وتفاوت الحسن فى الاشياء باعتبار تفاوتها فى القرب والبعد عنها، فالطالب للولاية يكون فى نفسه حسنا وافعاله التى تصدر عن طلبه تكون حسنة، والقابل لها يكون احسن وأفعاله التى تصدر عن جهة ذلك القبول أحسن من افعال الطالب، والقابل المشاهد لصورة الولى والناظر الى ملكوته احسن من القابل الغائب عن المشاهدة، وتلك المشاهدة هى التى تسمى عند الصوفية بالفكر وتمثل صورة الشيخ والنظر الى صورته أحسن من جميع افعاله والمتحقق بحقيقة الولاية وافعاله احسن من القابل المشاهد وافعاله { وتفصيلا لكل شيء } اعلم، انه تعالى وصف كتاب موسى (ع) بكونه تماما وتفصيلا لكل شيء ههنا وقال فى سورة الاعراف:
وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء
[الأعراف:145] وهذا يدل على انه تعالى جعل فى كتاب رسالته كل شيء مشتملا على كل شيء وكل شيء مظهرا تاما ومرآة كاملة لكل شيء، وقد قال بعض الصوفية: كل شيء فى كل شيء لكن ليس لكل احد ان ينظر كل شيء فى كل شيء، ولهذا قال: وكتبنا لموسى وما كان لغيره ذلك، ولما كان موسى (ع) بعد نبينا (ص) وبعد ابراهيم (ع) اوسع نظرا من حيث النظر الى الكثرات ومراتب كل ومباديه وغاياته، وصف كتابه المنزل عليه بأنه كتب له فيه من كل شيء تفصيلا لكل شيء، بمعنى أنه تعالى جعل لوح صدر موسى (ع) بحيث اذا انتقش فيه شيء من الاشياء انتقش فيه جميع مباديه الى مبدء المبادى وجميع غاياته الى غاية الغايات، وانتقش جميع لوازم المبادى والغايات، واذا انتقش جميع المبادى والغايات ولوازمها فى شيء لم يبق شيء الا انتقش، فيه لان الموجودات كلها متلازمات اذا الكل معاليل علة واحدة { وهدى ورحمة لعلهم } اى بنى اسرائيل { بلقآء ربهم يؤمنون } ان كان المراد بربهم الرب المطلق فالمراد باللقاء لقاء جزائه وحسابه وحسابه، وان كان المراد به الرب المضاف وهو ربهم فى الولاية فالمراد باللقاء لقاء ملكوت ذلك الرب وهو ادنى مراتب اللقاء والمعرفة بالنورانية وفوقه لقاء جبروته بمراتبها، يعنى آتينا موسى الكتاب للدعوة الظاهرة حتى يستعدوا بقبول تلك الدعوة الباطنة، ويستعدوا بقبول تلك الدعوة لفتح باب القلب ويشاهدوا بفتح باب القلب صورة ولى الامر بملكوته، وهو لقاء ربهم الذى هو ولى امرهم وبهذا اللقاء يحصل الفوز بالروح والراحة والامن والامان والسلامة من حوادث الزمان والنجاة من مضيق المكان؛ والى هذا اللقاء اشار من قال:
كرد شهنشاه عشق درحرم دل ظهور
قد زميان برفراشت رايت الله نور
وقد فسر السكينة فى الاخبار بما يدل على ظهور ملكوت ولى الامر فى القلب حيث ورد، انها ريح تفوح من الجنة لها وجه كوجه الانسان، فان الملكوت من الجنة، وكونها ذات وجه كوجه الانسان يدل على انها من الذوات الجوهرية الملكوتية لكونها من الجنة لا ما يفهم من لفظ الريح، ويسمى فى عرف الصوفية ظهور ملكوت ولى الامر على قلب الانسان بالسكينة كما يسمى بالفكر والحضور، وهذا اللقاء هو المراد بما يقولون: لا بد للسالك ان يجعل صورة المرشد نصب عينيه، يعنى ينبغى ان يصفو نفسه بالعبادات حتى يظهر فى قلبه ولى امره فيكون مع الصادق معية حقيقية لا ما يتوهم من ظاهر اللفظ من انه لا بد ان يتعمل ويتصور صورة مخلوقة له مردودة اليه، وقد ورد منهم، وقت تكبيرة الاحرام تذكر رسول الله (ص) واجعل واحدا من الائمة نصب عينيك؛ وعلى هذا كان المراد بالايمان ههنا الايمان الشهودى لا الايمان بالغيب .
[6.155]
{ وهذا كتاب أنزلناه مبارك } كثير الخير والنفع لان البركة الزيادة والنماء فى الخير وهو كلمة جامعة لكل ما ذكر فى وصف كتاب موسى (ع) مع شيء زائد وهو تعميم البركة لكل ما يتصور فيه البركة، وفى لفظ انزلنا دون آتينا دلالة على شرافة هذا الكتاب كأن كتاب موسى (ع) كان من سنخ هذا العالم فآتاه الله، والقرآن كان فى مقام اعلى من هذا العالم فأنزل الله الى هذا العالم السفلى وآتاه محمدا (ص) { فاتبعوه } حتى تفوزوا من اتباعه بولى امركم واتباعه فان فيه حجته وباتباعه تفوزون بفتح باب القلب وبفتحه نزول الرحمة من الله وادنى مراتب حقيقة الرحمة هو ملكوت ولى الامر { واتقوا } مخالفة ما فيه { لعلكم ترحمون } بلقاء ملكوت ولى امركم فان دار الشياطين هى حقيقة سخط الله والدنيا هى مظهر رحمته وسخطه معا والملكوت العليا هى حقيقة رحمته المتجوهرة وكذا الجبروت والمشية، وفى الاقتصار على لفظ ترحمون هنا والاتيان بقوله بلقاء ربكم تؤمنون هناك دلالة على شرافة هذا الكتاب كما لا يخفى.
[6.156-158]
{ أن تقولوا } يعنى انزلنا الكتاب كراهة ان تقولوا بعد ذلك او فى القيامة او لئلا تقولوا كذلك او كراهة هذا القول الواقع منكم على سبيل الاستمرار. اعلم، ان مثل هذه العبارة كثيرة فى الكتاب والسنة وجارية على السنة العرف والمقصود من مثلها ان هذا القول كان واقعا منكم وصار وقوع هذا القول سببا لانزال الكتاب لكراهتنا وقوع هذا القول منكم ولئلا يصدر مثله بعد منكم، ولما كان صدور هذا القول سببا لكراهته، وكراهته لهذا القول الصادر سببا لانزال الكتاب، وانزال الكتاب سببا لمنع هذا القول صح تفسيره بكراهة ان تقولوا، وبقولهم لئلا تقولوا، ولكن لا حاجة الى تقدير الكراهة او تقدير لا وعلى هذا كان المعنى انزلنا الكتاب لكثرة ما كنتم تقولون اظهارا للعذر فى تقصيركم فى العبادات وتحسرا على كونكم اميين { إنمآ أنزل الكتاب على طآئفتين من قبلنا } والاتيان باداة القصر لشهرة الكتابين واهلهما عندهم كأنهم كانوا لا يعرفون اهل ملة وكتاب غيرهما { وإن كنا } ان مخففة من المثقلة { عن دراستهم } قراءتهم وبيانهم للكتابين { لغافلين أو تقولوا } او للتوزيع يعنى كان بعضهم يقولون ذلك وبعضهم هذا { لو أنآ أنزل علينا الكتاب لكنآ أهدى منهم } لانا احد ذهنا وادق فهما، وهذا هو ديدن النسوان لانهن لا يرضين بنسبة النقص الى انفسهن ويعتذرون بالاعذار الكاذبة ويفتخرن باستعداد الكمالات وقواها حين فقدانها على المتصف بها ويتحسرن على الفانية بالتمنيات والتعليق على الفائتات { فقد جآءكم } جواب لشرط مقدر، اى ان كنتم صادقين فقد جاءكم { بينة من ربكم } كتاب هو حجة واضحة على كل شيء من صدق النبى (ص) ونبوته والاحكام التى هى معالم الهداية { وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله } التدوينية والتكوينية واعظمها على (ع) فان الآيات التدوينية تدل على التكوينية وتكذيبها مؤد الى تكذيبها، وهو تعريض بانهم كذبوا بآيات الله بعد وضوحها ولا اظلم منهم { وصدف عنها } اعرض او منع لكن الثانى اولى للتأسيس يعنى ضل واضل { سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون هل ينظرون } ما ينتظرون { إلا أن تأتيهم الملائكة } لقبض ارواحهم او لعذابهم حين الموت { أو يأتي ربك } فى الولاية وهو علوية محمد (ص) ووجهة ولايته كما قال (ع): يا حار همدان من يمت يرنى { أو يأتي بعض آيات ربك } كأشياع على (ع) الذين هم آياته تعالى، وتفسير الآيات فى الاخبار بالعذاب فى دار الدنيا لا ينفى كونها عند الموت قبل الارتحال من الدنيا ولا ينافى التفسير باشياع على (ع) لان العذاب آية على (ع) النازلة واشياعه آياته العالية { يوم يأتي بعض آيات ربك } يعنى حين معاينة الموت { لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا } هو اشد آية على اهل الايمان خصوصا على من لا يراقب جهة ايمانه الذى هو ذكره وفكره، وقد فسرت الآيات فى هذه الآية بالائمة (ع) وبطلوع الشمس من مغربها وبخروج الدجال وبظهور القائم (ع) وبخروج دابة الارض، ولا ينافي ما ذكرنا { قل انتظروا } احدى الثلاث { إنا منتظرون } لها فان لنا بذلك الفوز ولكم الويل.
[6.159]
{ إن الذين فرقوا دينهم } الدين يقال لكل سيره وسنة، الناس على دين ملوكهم، وعلى السيرة الشرعية الآلهية، اليوم اكملت لكم دينكم، وللجزاء مالك يوم الدين، ويطلق على الاسلام والعادة والعبادة والطاعة والذل والحساب والقهر والاستعلاء والملك والحكم والتدبير والتوحيد وجميع ما يتعبد الله به، والملة والخدمة والاحسان وعلى غير ذلك من المعانى، والتحقيق ان حقيقة الدين هى الطريق من القلب الى الله والسير الى ذلك الطريق او عليه ويسمى بالطريقة وهما الولاية التكوينية المعبر عنها بالحبل من الله، والولاية التكليفية المعبر عنها بالحبل من الناس وبالولاية التكليفية ينفتح باب ذلك الطريق وصاحب الولاية المطلقة هو على (ع) وهو متحد مع الولاية المطلقة، والولايات المقيدة اظلال من هذه الولاية ولذلك صار على (ع) خاتم الولاية وكل الانبياء (ع) والاولياء (ع) يكونون تحت لوائه، وكلما يسمى دينا من الشرائع الآلهية فانما يسمى دينا لاتصاله بالولاية وارتباطه بحقيقة الدين، وتسمية السيرة الغير الآلهية بالدين من باب المشاكلة مع السيرة الآلهية فعلى قراءة فرقوا، فالمعنى ان الذين فرقوا دينهم الذى هو ما وصل اليهم من طريق القلب بالولاية التكوينية من فيض العقل على الاهوية الفاسدة او ما وصل اليهم من هذا الطريق بالولاية التكليفية من الايمان الذى دخل فى قلوبهم على الاغراض الكاسدة والمهام المتبددة، فان الانسان اذا صار مقبلا على النفس والدنيا كان يفرق كلما يصل اليه من جهة الآخرة على جهات النفس ونعم ما قيل:
انصتوا يعنى كه آبت را بلاغ
هين تلف كم كن كه لب خشك است باغ
او المعنى فرقوا دينهم وبعضوه بان آمنوا ببعض وكفروا ببعض، او المعنى افترقوا فى دينهم بان اختار كل منهم دينا غير دين الآخر، كما ورد من افتراق الامة على ثلاث وسبعين فرقة، وقرئ فارقوا دينهم اى فارقوا ولايتهم التكوينية من الغفلة التامة عن طريق القلب او فارقوا ولايتهم التكليفية بالهجرة والغفلة عن ذكرهم الذى دخل فى قلوبهم او فارقوا عليا (ع) كما علمت، وكما ورد فى الخبر ان الآية فارقوا دينهم وان المراد المفارقة عن على (ع) { وكانوا شيعا } متفرقة يشيع كل منهم هوى او غرضا او اماما باطلا او يصير كل منهم مشايعا لاهوية عديدة او اغراض عديدة او ائمة عديدة بجعل كل واحد كأنه فرق مختلفة كما قال تعالى:
ضرب الله مثلا رجلا فيه شركآء متشاكسون
[الزمر:29] وكما قيل بالفارسية: " ترا يكدل دادم كه دران يك دلبر كيرى نه آنكه آن يكدل راصد باره كنى وهربارهء را دنبال مهمى آواره " { لست منهم في شيء } اى لست متمكنا منهم فى شيء من التمكن فان تمكنك اما بتمكن صورتك الملكوتية فى قلوبهم، او بتمكن الذكر الذى اخذوا منك بالولاية التكليفية فى قلوبهم، او بتمكن الانقياد الذى اخذوه منك بالبيعة العامة فى صدورهم فان الكل من شؤنك ونازلتك، او لست من شفاعتهم فى شيء، او لست من مسائلتهم ومحاسبتهم او عذابهم فى شيء، او لست من مجانستهم فى شيء ومرجع الكل الى تمكنه (ص) فى قلوبهم باحد الوجوه المذكورة، ولفظة منهم خبر لست او حال مقدم من شيء، وكلمة من بيانية او ابتدائية او تبعيضية { إنمآ أمرهم إلى الله } لانك لست ولى امرهم بانحرافهم عنك فامرهم وحكمهم مفوض او راجع الى الله { ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون } فى تفرقهم فيجازيهم على حسبه.
[6.160]
{ من جآء بالحسنة فله عشر أمثالها } الحسنة وصف من الحسن والتاء فيه للنقل من الوصفية الى الاسمية، فانها صارت اسما لاشياء مخصوصة ورد عن الشريعة حسنها او للتأنيث فى الاصل بتقدير الخصلة الحسنة، وحقيقة الحسن هى الولاية المطلقة وهى على (ع) بعلويته والنبوات واحكامها القالبية والولايات الجزئية واحكامها القلبية اظلال الولاية المطلقة وقبول النبوات والولايات ايضا ظلها، وكل فعل وقول وخلق كان من جهة الولاية كان حسنا بحسنها لكونه ظلها ايضا، ويعلم السيئة بالمقايسة الى الحسنة فاصل السيئة اتباع النفس المعبر عنه بولاية اعداء آل محمد ومخالفيهم. واعلم، ان الانسان مفطور على السير الى الآخرة ودار النعيم وحيازة درجاتها، فاذا فرض عمل يعينه على سيره وعمل آخر مثل هذا العمل يقسره على الحركة الى الجحيم والى خلاف فطرته، فاذا كان تحريك العمل الى جهة خلاف الفطرة درجة مثلا كان تحريك العمل الموافق للفطرة ازيد من تحريك العمل المخالف للفطرة بمراتب عديدة، واقلها عشر درجات واكثرها لا حد لها بتفاوت استعداد الاشخاص وهذا نظير تحريك الحجر هابطا وصاعدا بقوة واحدة، فان الهابط يكون اسرع حركة من الصاعد { ومن جآء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم } اى المحسنون والمسيئون { لا يظلمون } بنقص الجزاء وتضعيف العقاب.
[6.161]
{ قل } لهم موادعة وتعريضا بنصحهم بابلغ وجه { إنني هداني ربي } فلا حاجة لى اليكم ولا تعرض لى بكم فانتم وشأنكم { إلى صراط مستقيم } هو صراط القلب وهو الولاية التكوينية وبالولاية التكليفية الحاصلة بالبيعة الخاصة الولوية ينفتح صراط القلب، وهما ظهور الولاية المطلقة ونازلتها والولاية المطلقة متحدة مع على (ع) وعلويته، فصح تفسير الصراط بالولاية تارة وبعلى (ع) اخرى { دينا قيما } الدين قد مضى قبيل هذا تحقيقه، والقيم الدين الذى لا اعوجاج له { ملة إبراهيم } اظهار لنصحهم بان دينه دين ابراهيم الذى لا اختلاف لهم فى حقيته { حنيفا } الحنيف المستقيم والصحيح الميل الى الاسلام الثابت عليه وكل من حج او كان على دين ابراهيم (ع) وهو حال من مفعول هدانى او صفة دينا او حال منه او من المستتر فى قيما او من ملة ابراهيم (ع)، والتذكير باعتبار معنى الملة وهو الدين او من ابراهيم على ضعف جعل الحال من المضاف اليه من دون كون المضاف عاملا، او فى حكم السقوط { وما كان من المشركين } عطف على حنيفا او حال من المستتر فيه او حال بعد حال بناء على ان حنيفا حال من ابراهيم (ع) وهو تعريض بانهم مخالفون لابراهيم (ع) فى شركهم فهم مبطلون لان ابراهيم (ع) كان محقا بالاتفاق.
[6.162-163]
{ قل } بعد نفى الشرك الصورى عن نفسك نفيا للشرك المعنوى تأكيدا لنفى الشرك الصورى { إن صلاتي ونسكي } تعميم بعد تخصيص اهتماما بالخاص فانه عمود الدين واصل كل نسك { ومحياي ومماتي } يعنى ان افعالى التكليفية الاختيارية واوصافى التكوينية الالهية خالصة من شوب مداخلة النفس والشيطان { لله رب العالمين لا شريك له } تعميم بعد تخصيص وتأكيد لما يفهم التزاما فانه اذا لم يكن فى افعاله واوصافه شريك لله لم يكن فى وجوده شريك لله، واذا لم يكن فى وجوده شريك لله لم ير فى العالم شريكا لله، لان رؤية الشريك فى العالم يقتضى السنخية بين الرائى والمرئى الذى هو العالم الذى فيه شريك، والسنخية تقتضى الشريك لله فى وجوده وكون الشريك فى وجوده يقتضى الشريك فى صفاته { وبذلك أمرت } تعريض بهم بان شركهم غير مبتن على امر { وأنا أول المسلمين } لان كل من أخلص ذاته وصفاته وافعاله وجميع ماله لله تعالى، فهو مقدم على الكل وخاتم سلسلة الصعود واقرب الصاعدين اليه، وهو اول من اقر فى الذر بالوحدانية كما ورد فى الخبر ولانه اول من اتصف بدين الاسلام.
[6.164]
{ قل } لهم انكارا لابتغاء غير الله ربا مع اقامة الدليل على ذلك الانكار بان غيره مربوب تعريضا بمن اخذ غيره ربا { أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء } وغيره مربوب فما حالكم اذا انحرفتم عن الرب وجعلتم المربوب ربا { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } هذا مما استعمل فيه سلب الايجاب الكلى فى السلب الكلى ومثله كثير فى الآيات والاخبار واستعمال العرب، والمقصود ان ابتغاء غير الله ربا مع كونه مربوبا وبال لا محالة ولا يمكننى طرح هذا الوبال على غيرى، لأنه لا تكسب كل نفس ما تكسب مما هو وبال الا عليها يعنى كسبكم الوبال باتخاذ غير الرب ربا وبال عليكم { و } لا يمكن غيرى ان يحمل وبالى عنى لانه { لا تزر وازرة وزر أخرى } هذه مجادلة بالتى هى أحسن بحيث لا يورث شغبا ولجاجا للخصم حيث نسب ابتغاء غير الله ربا الى نفسه وذكر مفاسده وعرض بهم { ثم إلى ربكم مرجعكم } يوم القيامة نسب الرجوع اليهم دون نفسه تنبيها على التعريض بحيث لا يمكنهم رده { فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون } وهو الدين الذى فرقتموه على اهويتكم او اختلفتم فى بطلانه وحقيته، وفيه تعريض بالامة كأنه قال فتنبهوا يا امة محمد (ص) فلا تختلفوا بعده فى الدين الذى أتمه بولاية على (ع).
[6.165]
{ وهو الذي جعلكم خلائف الأرض } عطف على قوله هو رب كل شيء او حال معمول لواحدة من الجمل السابقة وتعليل آخر لانكار ابتغاء غيره ربا وبيان لكيفية ربوبيته بما فيه غاية الانعام على طريق الحصر، يعنى هو الذى جعلكم خلائف الارض لا غيره الذى هو مربوب والمقصود انه جعلكم خلائفه فى ارض العالم الكبير بان اعطاكم قوة التميز والتصرف فيها باى نحو شئتم واباح لكم التصرف فيها، وفى ارض العالم الصغير بان مكنكم فيها وجعل لكم فيها كل ما جعل لنفسه من الجنود والحشم وسخرها لكم مثل تسخرها لنفسه، وهذه هى غاية الانعام حيث خلقكم على مثاله { ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم } ايها المرفوعون { في مآ آتاكم } من جاهكم ومالكم وقواكم وبسطكم واحتياج غير المرفوعين اليكم كيف تعاملون مع انفسكم ومع الله باداء الشكر وصرف النعمة فى وجهها ومع المحتاجين بايصال حقوقهم اليهم، فعلى هذا كان الخطاب للمرفوعين، او يكون الخطاب للمرفوعين وغيرهم جميعا، فان المحتاج مبتلى بحاجته كما ان المرفوع مبتلى بالمحتاج { إن ربك سريع العقاب } استيناف من الله وخطاب لمحمد (ص) او خطاب عام وجواب لسؤال مقدر كأنه قيل: ما يريد بالابتلاء؟ - فقال: يريد عقوبة المسيء ورحمة المحسن منهم لان ربك سريع العقاب، وتقديم العقاب لقصد ختم السورة بالرحمة رحمة بهم { وإنه لغفور رحيم } عن الصادق (ع) ان سورة الانعام نزلت جملة واحدة شيعها سبعون الف ملك حتى نزلت على محمد (ص) فعظموها وبجلوها فان اسم الله فيها فى سبعين موضعا، ولو يعلم الناس ما فى قراءتها ما تركوها وكفى به فضلا.
[7 - سورة الأعراف]
[7.1]
قد مضى فى اول البقرة، انه فى حال المحو والغشى وانقلاب الدنيا الى الآخرة يرى الانسان ويشاهد من الحقائق فيعبر له عما يشاهده بالحروف المقطعة ويفهم من تلك ما يشاهد من الحقائق، ثم بعد الافاقة لا يمكنه القاء تلك الحقائق على الغير وافهامها اياه فضلا عن التعبير عنها بتلك الحروف وافهامها بها، واذا القى تلك الحروف على غيره مشيرا الى تلك الحقائق لا يمكن له تفسيرها الا بما يناسبها كالمنامات وتعبيراتها، فان المناسبات التى تذكر للغير كالمناسبات التى يراها النائم من الحقائق فى المنام، فان حال الخلق بالنسبة الى الحقائق كالحال النائم بالنسبة اليها من غير فرق، لان الخلق نائمون عن الحقائق ولذلك اختلف الاخبار فى تفاسيرها وتحير الخلق فى فهمها والتعبير عنها وقد ذكر فى تفسيرها وجوه عديدة متخالفة متناسبة فى الاخبار والتفاسير؛ والكل راجع الى ما ذكرنا من التعبير عن تلك الحقائق بما يناسبها وتفسيرها بحسب صورة تلك الحروف من حيث الخواص والاعداد والفوائد المترتبة عليها والاشارات المستنبطة منها، كقيام قائم من ولد هاشم عند انقضاء مدة مقطعات اول كل سورة منها، وانقضاء ملك بنى امية عند انقضاء المص كما ورد فى الاخبار لا ينافى ما ذكرنا، فانها مما يستنبط من اعتبار حروفها ولا ينافى ذلك اعتبار حقائقها.
[7.2]
{ كتاب } قد عرفت الفرق بين الكتاب والكلام وان العالم بوجه كتابه وبوجه كلامه تعالى، وان الانسان مختصر من هذا الكتاب، والقرآن ظهوره بصورة الحروف والاصوات ونزوله فى لباس النقوش والكتاب ترحما على العباد، فان الانسان لما تنزل الى مقام التجسم واحتاج فى ادراكه الى مدارك الحيوان انعم الله عليه بتنزيل تلك الحقائق فى صورة الحروف والعبارة، او النقوش والكتابة لتناسب مداركه النازلة ونعم ما قيل:
جون نهاد آن آب وكل برسر كلاه
كشت آن اسماء جانى ورسياه
كه نقاب حرف دم درخود كشيد
تا شود برآب وكل معنى يديد
وان الرسالة والنبوة ليست الا التحقق بحقائق العالم فهما ايضا مراتب العالم وقد عرفت ايضا ان الكل ظهور الولاية التى هى فعل الحق وتجليه الفعلى وانها مبدء الكل وصورته وغايته، فان كانت فواتح السور عبارة عن مراتب العالم الصغير او مراتب النبوة او الرسالة او الولاية او مراتب وجوده (ص) كما ورد، انها اسماء للنبى (ص ) او كان المراد بها القرآن او السور المفتتحة بها، كما فصل ذلك فى اول البقرة فلفظ كتاب خبر عن المص او خبر مبتدء محذوف، او مبتدء خبر محذوف، او مبتدء موصوف متضمن لمعنى الشرط وخبره قوله فلا يكن او لتنذر ويجرى فيه وجوه اخر كما سبق { أنزل إليك } صفة لكتاب، او خبر بعد خبر، او استيناف لبيان الغرض منه ولما كان المقصود ترتب النهى عن وجود الحرج على نزول الكتاب المعلوم الذى هو اصل كل النعم وحقيقتها قال تعالى { فلا يكن في صدرك حرج منه } قبل تمام الكلام بذكر الغاية ولو اخره لاوهم ترتبه على غايته وهى الانذار { لتنذر به } المنحرفين والكفار بالله او بالولاية او بما فى الكتاب { وذكرى } لتذكر تذكيرا فانه اسم للتذكير وقائم مقام الفعل وعطف على لتنذر او على تنذر او هو بنفسه عطف على تنذر لانه بتأويل الانذار او على كتاب او على انزل بتأويل معنى الوصف، او خبر مبتدء محذوف { للمؤمنين } بالله بالايمان العام الذى هو البيعة على يدك وهو الايمان بك، او بالايمان الخاص الذى هو البيعة الولوية وهو الايمان بالولاية، ثم صرف الخطاب عنه (ص) الى قومه (ص) فقال { اتبعوا مآ أنزل إليكم من ربكم }.
[7.3]
{ اتبعوا مآ أنزل إليكم من ربكم } من الكتاب الذى هو صورة الولاية التى كانت متحدة مع على (ع) بقرينة قوله { ولا تتبعوا من دونه } اى من دون ما انزل فانه ظاهر اللفظ { أوليآء } من شياطين الانس الذين ما نزل اليكم من ربكم فيهم شيء { قليلا ما تذكرون } تحسر عليهم لقلة تذكرهم.
[7.4]
{ وكم من قرية أهلكناها فجآءها بأسنا } من قبيل عطف التفصيل على الاجمال او بتقدير اردنا اهلاكها { بياتا } وقت غفلة وراحة { أو هم قآئلون } فى النهار وهو ايضا وقت دعة وراحة.
[7.5]
{ فما كان دعواهم } اى استغنائهم او ادعاؤهم حين نزول العذاب على سبيل التهكم يعنى ان دعويهم قبل ذلك ان آلهتهم شفعاؤهم وان الآلهة تدفع عنهم الضرر وتجلب اليهم النفع فيتبدل تلك الدعوى وما كان دعويهم { إذ جآءهم بأسنآ إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين } الا الاعتراف بالظلم.
[7.6]
{ فلنسألن الذين أرسل إليهم } من امم الانبياء عن كيفية تبليغ الرسل واجابتهم لهم واطاعتهم اياهم { ولنسألن المرسلين } عن تبليغهم وكيفية اجابة اممهم.
[7.7]
{ فلنقصن عليهم } على الرسل والمرسل اليهم { بعلم } يعنى ان المقصود من سؤالهم تذكيرهم بما وقع منهم وتبكيت المخالف منهم، والا فنحن نعلم جميع ذلك ونقص عليهم تمام ما وقع منهم { وما كنا غآئبين } عنهم حين فعلوا ما فعلوا، اتى بما يوافق مقام التهديد متدرجا من الادنى الى الاعلى.
[7.8]
{ والوزن يومئذ الحق } الوزن تعيين قدر الشيء ووزن كل شيء بحسبه وكذا ميزانه، وتبادر تحديد الاجسام الثقيلة من لفظ الوزن وما به يوزن الاجسام الثقيلة من الميزان بسبب شيوعه بين العامة والا فلا اختصاص له بها فميزان الاجسام الثقيلة هو ذو الكفتين والقبان والكيل وميزان المتكممات القارة الشبر والذرع والفرسخ، وميزان الغير القارة الساعات والايام والشهور والاعوام، وميزان المغشوش من الفلزات وغيره المحك والنار، وميزان الاعمال صحيحها وسقيمها العقل، ولا سيما العقل الكامل اعنى النبى (ص) والولى (ع)، وما أسسنا لتحديد الافعال والاقوال والاحوال والعقائد وسائر العلوم فميزان الاعمال القالبية المعاشية هو العقل الجزئى المدبر لدفع الضر وجلب النفع، وميزان المعادية منها هو الاتصال بالنبى (ع) بالكيفية المخصوصة المقررة عندهم بالبيعة العامة النبوية وصدورها من جهة ذلك الاتصال من تصرفات الخيال والشيطان، وثقل هذا الميزان باتصال الاعمال بالنبى (ع) او خليفته وجذبها اياه الى جهة عاملها او جذبها عاملها الى النبى (ع) او خليفته وخفتها بانقطاعها عن هذا الميزان وعدم جذبها اياه الى عاملها، ولما كان لكل من صفحتى النفس العمالة والعلامة جهتان سفلية وعلوية، شيطانية وملكية فلا غر وفى ظهورهما يوم العرض بصورة ذى الكفتين ويظهر مثل تلك فى الآخرة، لانه كما سبق كل ما وجد فى النفس والعالم الصغير يظهر مثله فى العالم الكبير فى الآخرة فلا وجه لانكار بعض ظهور ذى الكفتين ووزن الاعمال به، وكذلك ميزان الاعمال القلبية هو الاتصال بالإمام بالكيفية المقررة والبيعة الخاصة الولوية وصدورها من جهة ذلك الاتصال وثقلها باتصالها وخفتها بانقطاعها مطلقا او حين العمل بالغفلة عن الاتصال، وبتفاوت الاتصال بالشدة والضعف يتفاوت الاعمال فى الثقل فالمتصل بالصورة البشرية اقل ثقلا، والمتصل بملكوت الامام تعملا اكثر ثقلا، والمتصل بملكوته من غير تعمل اكثر ثقلا، والمتصل بجبروته بمراتبها اكثر ثقلا، والمتحقق به هو الثقيل المطلق، فلكل عمل موازين عديدة من بشرية النبى (ص) او الامام (ع)، وقوله وفعله وملكوته وجبروته، ولكل مراتب عديدة، وكل مرتبة ميزان الاعمال المتصل بتلك المرتبة، هذا اذا اريد بالحق معناه الوصفى اللغوى اى الثابت المحقق، واما اذا اريد معناه العرفى اى الحق المضاف والولاية المطلقة ولذا جيء به معرفا باللام مشيرا الى الحق المعهود، فالمعنى ان الوزن يعنى الميزان يومئذ الولاية ولما كان للولاية مراتب كما ان لعلى (ع) مراتب بحسب بشريته وملكوته وجبروته وحقيته، وكما ان للعالم مراتب بحسب ملكوته السفلى وملكه وملكوته العليا وجبروته بمراتب كل منها، وكل مرتبة منها ميزان لما يناسبها ويوافقها قال تعالى { فمن ثقلت موازينه } بصيغة الجمع ووجه الثقل والخفة قد عرفت { فأولئك هم المفلحون } فان الفلاح بالانجذاب الى العلو والمتصل منجذب الى العلو بخلاف المنقطع فانه قد ينجذب الى السفل وهو الجحيم.
[7.9]
{ ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم } باهمال قوة الاتصال والاستعداد له التى اعطاها الله تعالى بضاعة لهم { بما كانوا بآياتنا يظلمون } بعدم الاتصال بالآيات القرآنية والنبوية والولوية بمراتبها والانفسية وظلمها عبارة عن جحودها كما فى الخبر يعنى عدم الاتصال بها بالكيفية المخصوصة وعدم التوجه اليها وعدم السير اليها، فان الظلم منع الحق عن المستحق وقوة قبول الولاية والتوجه اليها والسير اليها والحضور عند صاحبها والفناء فيه حق الامام، وبما ذكرنا فى كيفية الوزن والميزان يرتفع الاختلاف عن الاخبار مع غاية اختلافها.
[7.10]
{ ولقد مكناكم في الأرض } الطبيعية او ارض البدن او ارض القرآن والسير والاخبار لان تؤدوا الحقوق الى مستحقيها { وجعلنا لكم فيها معايش } لابدانكم وارواحكم { قليلا ما تشكرون } باداء الحق الذى هو استعداد الاتصال والقبول من عقل او نبى او وصى اليه.
[7.11]
{ ولقد خلقناكم } تعداد للنعم وقبح الكفران بها { ثم صورناكم } يعنى خلقنا اباكم آدم (ع) بجمع ترابه الذى هو بمنزلة النطفة، ثم صورناه بعد اربعين صباحا كذا قيل، او خلقناكم بالقاء نطفكم فى الارحام، ثم بعد مضى زمان صورناكم بالصورة الجسمانية من امتياز العين والانف واليد والرجل والحسن والقبيح والقصير والطويل وغير ذلك، وبالصورة الروحانية من الاخلاق الحسنة والسيئة والسعادة والشقاوة، والى هذا أشير فى الخبر ولا ينافى ذلك قوله تعالى { ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } فان ذرارى آدم (ع) بعد نزول اللطيفة الآدمية الى ارض البدن وهبوطها على صفا نفسها وهبوط حواء على مروتها اللتين هما جهتا النفس العليا والسفلى، يصيرون مثل آدم ابى البشر ويؤمر البشر ويؤمر الملائكة الذين هم موكلون عليهم بالسجود لتلك اللطيفة، فيسجدون وينقادون لها غير ابليس الواهمة فانه ما لم يكسر سورة كبريائه واستعلائه بالرياضات الشرعية والعبادات القالبية والقلبية لا يسلم لآدم (ع) ولا ينقاد له، وشيطانى اسلم على يدى، اشارة الى ما ذكرنا { فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين } لم يقل لم يسجد اشارة الى ان فطرته كانت فطرة العتو والاستكبار وانه لم يكن من سنخ الساجدين ولا يمكنه السجود الا بتبديلها، ولذا ورد، انه لم يكن من المأمورين بالسجود وأدخل نفسه فى المأمورين.
[7.12]
{ قال ما منعك ألا تسجد } اى ما منعك مضطرا الى ان لا تسجد او لا زائدة وتزاد لا للتأكيد خصوصا بعد المنع { إذ أمرتك قال أنا خير منه } يعنى حملنى على ترك السجدة كونى خيرا منه وخيرتنى منه بخيرية مادتى لانك { خلقتني من نار وخلقته من طين } والنار علوية شفيفة سريعة الاثر منيرة مبدلة كل ما اتصل اليها بسرعة، والطين خلافها، وفى خبر: ان اول من قاس ابليس، وفى خبر: ان اول معصية ظهرت الانانية من ابليس اللعين، وأقسم بعزته لا يقيس أحد فى دينه الا قرنه مع عدوه ابليس فى اسفل درك من النار، وفى خبر آخر: كذب ابليس ما خلقه الله الا من طين قال الله الذى جعل لكم من الشجر الاخضر نارا، قد خلقه الله من تلك النار ومن تلك الشجرة والشجرة اصلها من طين.
[7.13]
{ قال فاهبط منها } من السماء { فما يكون لك أن تتكبر فيها } فان المحل الرفيع لمن تواضع لله { فاخرج إنك من الصاغرين } الاذلاء.
[7.14]
{ قال } بعد ما علم انه لا يعود الى السماء محله اسفل السافلين { أنظرني } أمهلنى { إلى يوم يبعثون } فلا تعجل فى عقوبتى واماتتى.
[7.15]
انظره ابتلاء لعباده وتمييزا للطيب منهم عن الخبيث.
[7.16]
{ قال فبمآ أغويتني } نسب الاغواء الى الله كما هو عادة المتأنفين من نسبة القبيح الى أنفسهم والغالب فى ذلك هى النسوان { لأقعدن لهم صراطك المستقيم } مترصدا لاغوائهم كما يترصد قطاع الطريق للفرصة من المارة، والصراط المستقيم هو صراط القلب وهو الولاية التكوينية والتكليفية.
[7.17]
{ ثم لآتينهم من بين أيديهم } من جهة تزيين المشتهيات الاخروية واتعابهم فى العمل لاجلها { ومن خلفهم } من جهة المشتهيات الدنيوية { وعن أيمانهم } بتزيين الاعمال الدينية بحيث يستلذها ويعجب بها فيفسدها { وعن شمآئلهم } بتزيين الاعمال القبيحة بحيث يعدون قبائحهم حسنات ويباهون بمعاصيهم وملاهيهم ومقصوده منه، تصوير المخاصمة معهم بكل ما يتصور المخاصمة به من الخصمين من المباغتة من كل جهة ولذلك لم يذكر من فوقهم ومن تحتهم، فانه لا يتصور للعدو الصورى الاتيان منهما ولان جهة الفوق جهة الرحمة الالهية ولا يتصور نزول الشيطان منها، وجهة التحت هى جهة المواد من العنصرية والجمادية والنباتية والحيوانية يعنى مقام الحيوان الخارج عن حد الانسان، لا المشتهيات الحيوانية التى هى تحت الانسانية ومتحدة معها والانسان بالطبع نافر منها كل النفرة متوحش كل التوحش لا يمكن اغواؤه من تلك الجهة، والاتيان فى الاولين بحرف الابتداء وفى الاخيرين بحرف المجاوزة لتصوير تلك المخاصمة بصورة المخاصمة الصورية، فان الخصم الآتى من القدام متوجه الى خصمه غير متجاوز عن جهة قدامه، وكذا الآتى من الخلف يباغت الخصم من خلفه لكن الآتى من احد الجانبين يتجاوز عنه ويباغته، او ينصرف المأتى اليه بوجهه الى الآتى من احد جانبيه فى الاغلب { ولا تجد أكثرهم شاكرين } لغفلتهم عن الانعام وابتهاجهم بنفس النعمة او بصرف النعمة التى انعمت عليهم فى غير وجهها بتلبيسى عليهم وجهها.
[7.18-19]
{ قال اخرج منها } من السماء { مذءوما } مذموما { مدحورا } مطرودا { لمن تبعك منهم } أقسم مقابلة لقسمه وتأكيدا { لأملأن جهنم منكم أجمعين ويا آدم } قال يا آدم { اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين } قد سبق فى سورة البقرة.
[7.20]
{ فوسوس لهما الشيطان } فعل الوسوسة وهى الصوت الخفى فى الاصل ثم غلب على ما يلقى الشيطان فى النفوس من الخواطر الخفية السيئة او المؤدية الى السوء، وان كان المراد ظاهر ما ورد فى الاخبار من انه اختفى بين لحيتى الحية وأظهر النصح لهما بلسان ظاهرى وسمعاه بالسمع الظاهر، فالمقصود انه اظهر النصح لهما بصوت خفى اظهارا لهما انه محض الترحم والشفقة لهما مبالغة فى الغرور، فان الرحمة والشفقة تقتضيان اخفاء الصوت لا الاجهار به، والاتيان باللام للاشارة الى انه نصح نافع لهما { ليبدي لهما } اللام للعاقبة او للغاية على انه كان عالما بان قرب الشجر مورث لان يبدى لهما { ما ووري عنهما من سوءاتهما } وقد ورد ان المراد كان بالسوأة هو العورة وكانت قبل ذلك مختفية غير ظاهرة على انفسهما ولا على غيرهما ولكن اذا اريد بالشجرة شجرة النفس فانها مجمع تمام الرذائل والخصائل، وبه يجمع بين ما ورد فى تفسيرها مع اختلافها وتضادها كما سبق، وبآدم الروح المنفوخة فى جسده التى هى طليعة العقل، وبحواء جهتها السفلى التى خلقت من جانبها الايسر، كان المراد بوسوسة الشيطان الخطرات التى تقرب الانسان الى المشتهيات النفسانية وبسؤاتهما الرذائل المكمونة والاهواء الفاسدة والآراء الكاسدة التى تظهر بعد الاختلاط بالنفس ومشتهياتها، والمراد من ورق الجنة ما اقتضاه العقل من الحياء والتقوى فانهما من اوراق الجنة، وبهما وبسائر صفات العقل يستر المساوى ولا يتجاهر الانسان بها الا ان يهلك العقل ويخرج من الجنة وحكومة العقل، ونداء الرب عبارة عن نداء العقل فى وجود الانسان بالتوبيخ على ما يصدر عنه مما فيه نقصه { وقال ما نهاكما ربكما } عطف على وسوس وتفصيل لها { عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين } كأنهما استشعرا ان ليس فى جبلتهما ما فى الملك ولا ما يقتضى الخلود واستشعرا ما فى الملكية والخلود من الكمال بالنسبة الى المخلوق المركب من طباع العناصر، فاشتاقا الى الوصفين فقال لهما: ان الاكل من الشجرة مورث للوصفين وان الله كره لكما الوصفين ولذلك نهاكما عن الاكل.
[7.21-22]
{ وقاسمهمآ } كأنهما لم يعتمدا على قوله وطلبا منه البينة والقسم وعهدا قبول قوله ولذا أتى بلفظ قاسم { إني لكما لمن الناصحين فدلاهما } اى اهبطهما مع تعلق منهما بمقامها العلوى { بغرور } بمعنى المصدر او بمعنى ما يغر به من القسم الكذب وغيره { فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة } قد مضى البيان { وناداهما ربهمآ ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكمآ إن الشيطآن لكما عدو مبين } تقريع وتوبيخ لهما على ارتكاب النهى والاغترار بقول العدو حتى يتنبها على نقصهما ويستدركاه بالتوبة ولذلك ابتدرا بالاعتراف والاستغفار.
[7.23-24]
{ قالا ربنا ظلمنآ أنفسنا.. } قد سبق الآية فى سورة البقرة.
[7.25]
{ قال فيها } فى ارض العالم الكبير والصغير { تحيون } بالحيوة الحيوانية او بالحيوة الانسانية { وفيها تموتون } بالموتين { ومنها تخرجون } فان السعادة والشقاوة تحصلان فى الدنيا وفى غلاف الطبع وليس خروج الانسان وانتقاله الى الجنان او النيران، الا من جهة المادة والقوة التى هى ارضية الدنيا والطبع لا من جهة الصورة وفعليتها التى هى سماويتها بوجه.
[7.26]
{ يابني آدم } خطاب منه تعالى لبنى آدم (ع) اعتناء بهم وتعدادا لنعمهم { قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا } يعنى خلقنا لكم ما يستر بشرتكم ويقيكم من الحر والبرد وما يستر عوراتكم البشرية عن الانظار، وما تتجملون به من الملبوس الفاخر فان الريش هو ما يتجمل به، وريش الطائر جماله والوصفان قد يجتمعان فى واحد، ويطلق الريش على متاع البيت وعلى ما يعيش الانسان به وعلى سعته ومكنته ونزولهما بحسب نزول اسباب مادتهما من الامطار والآثار من تأثيرات الكواكب وحركات الافلاك، ونزول اسباب تحصيل صورتهما من التميز وقوة التدبير، واذا اريد باللباس ما يستر العورات المعنوية من الافعال الحميدة والصفات الجميلة ويؤيده قوله { ولباس التقوى ذلك خير } فنزوله واضح، واضافة اللباس الى التقوى من قبل اضافة العام الى الخاص، او اضافة المسبب الى السبب، او اضافة المشبه به الى المشبه، فان التقوى وان كان مفهومها راجعا الى العدم لكن لها حقيقة وجودية بها يحصل التنزه عن الرذائل من الافعال والاوصاف وبالتنزه تحصل الخصائل التى بها تستر العورات المعنوية والنقائص النفسانية ويحصل التجملات الانسانية، وفى الخبر: واما لباس التقوى فالعفاف ان العفيف لا يبدو له عورة وان كان عاريا من الثوب، والفاجر بادى العورة وان كان كاسيا من الثياب، وتخلل اسم الاشارة بين المبتدء والخبر للاهتمام بذلك اللباس وتصوير الامر المعنوى متمثلا حاضرا وقرئ لباس التقوى بالنصب عطفا على لباسا { ذلك من آيات الله } اى انزال اللباس مع شدة حاجتكم اليه، او كون لباس التقوى خيرا بحيث لا يخفى عليكم او لباس التقوى، فان ذلك كله من آيات علمه وحكمته وقدرته { لعلهم يذكرون } صرف الخطاب عنهم بطريق الالتفات وهو غاية لانزال اللباس او لجعل ذلك من آياته.
[7.27]
{ يابني آدم } نداء آخر لهم بعد ذكر نعمة ستر عوراتهم لنهيهم عما يزيل تلك النعمة { لا يفتننكم الشيطان } بتزيين شجرة النفس وثمرة مشتهياتها وايلاعكم بها فيزيل عنكم تلك النعمة من فتن الى النساء، على صيغة المفعول اذا اولع بهن واراد الفجور { كمآ أخرج أبويكم } بالافتتان بشجرة النفس { من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهمآ إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم } لانهم من اهل الملكوت السفلى ولا يراهم البشر ببصره الملكى بل ببصيرته الملكوتية والجملة تعليل للتحذير والتذكير المستفاد من النهى تأكيدا له، ولما كان هناك مظنة سؤال ان لا يمكن الخلاص لاحد من فتنته لعداوته وخفائه وخفاء مخايل عداوته فلم يكن فائدة للنهى والتحذير عنه، قال تعالى جوابا ان وجه الخلاص منه الايمان بالآخرة والخروج من الرسوم والعادة ، لانا لم نجعل للشياطين تصرفا وتسلطا على من هذه صفته { إنا جعلنا الشياطين أوليآء للذين لا يؤمنون } لتخليتنا بينهم وبينهم بعدم محافظة الملائكة.
[7.28]
{ وإذا فعلوا فاحشة قالوا } لسانا او حالا { وجدنا عليهآ آباءنا } يعنى اعتمدوا واطمأنوا على ما اعتادوه، ونسبوا عاداتهم الى الله كما هو شأن عامة الناس { و } قالوا { الله أمرنا بها قل } ردا لهم فى نسبة العادات الى الله { إن الله لا يأمر بالفحشآء } ليس المراد بالفحشاء ما يستقبحه العقل والشرع بحسب الصورة، بل المراد ما صدر عن النفس لغايات نفسانية سواء كان صورته صورة ما قرره الشرع او نهى عنه، فالصلوة رياء او لقصد الجاه او المال او حفظ مال او عرض او دم فاحشة { أتقولون على الله ما لا تعلمون } فى الخبر انه لا يزعم احد ان الله يأمر بالزنا وشرب الخمر وشيء من هذه المحارم، بل هذا فى ائمة الجوار ادعوا ان الله أمرهم بالايتمام بقوم لم يأمرهم الله بالايتمام بهم، وهو يؤيد ما ذكرنا من تفسير الفحشاء وكذا يؤيده قوله { قل أمر ربي بالقسط }.
[7.29]
{ قل أمر ربي بالقسط } فان القسط هو توسط النفس فى الافعال والاقوال والاحوال والاخلاق والعقائد بين تفريط النفس عن الاغراض العقلية وافراطها فيها بحيث يؤدى الى ما نهى عنه كالاغراض الدنيوية { وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد } وهذا يؤيد ما ذكر فى الخبر فى تفسير الفحشاء، واقامة الوجه صرفه عن الانحراف الى ما ينبغى ان يتوجه اليه من قبلته، وقبلة وجه البدن اشرف بقاع الارض، وقبلة وجه النفس القلب، وقبلة وجه القلب الروح، وقبلة الروح هى الولاية المطلقة، وقبلة الكل هى خليفة الله، والمسجد ايضا يعم المساجد الطينية والمساجد الروحانية من القلب والروح والولاية المطلقة والايام المتبركة والساعات الشريفة من كل يوم، والمساجد الحقيقية البشرية الذين هم خلفاء الله فى ارضه وبيوته لخلقه واصل الكل هو خليفة الله الاعظم اعنى عليا (ع) وجمع الوجوه بجمع الكثرة مضافا مفيدا للاستغراق والاتيان بكلمة كل فى جانب المسجد للاشارة الى تعميم الوجه والمسجد وقد فسر المسجد ههنا فى الخبر بالائمة (ع) { وادعوه } اى ادعوا ربى او ادعوا المسجد وهو عطف على اقيموا كما ان اقيموا عطف على امر ربى ليكون مقولا لقل، او عطف على امر بتقدير قال ليكون مقولا لقول الله تعالى والمعنى، ادعوا ربى او المسجد بتصفية بيوت قلوبكم عما يمنعه من دخولها واستيلائه عليها ثم باستدعاء دخوله بالسنة قالكم وحالكم واستعدادكم، فان قلب المؤمن من عرش الرحمن وبيت الله الذى اذن ان يرفع كما قيل:
هركه خواهد نشينى با خدا
كو نشيند در حضور اوليا
وكما قيل:
مسجدى كو اندرون اولياست
سجده كاه جملة است آنجا خداست
لكن لا يدخله الا بعد تصفيته عما لا يليق به تعالى وقد سبق فى سورة البقرة عند قوله تعالى:
ومن أظلم ممن منع مساجد الله
[البقرة: 114] (الى آخرها) تحقيق للمسجد { مخلصين له الدين } اى طريق الدعوة من الاغراض والاهواء خارجين من ارادتكم واختياركم كالميت بين يدى الغسال مؤتمرين بأمر؛ موتوا قبل ان تموتوا: فانه { كما بدأكم } من غير ارادة منكم واختيار وغرض وهوى { تعودون } فمن أراد العود اليه فليخرج من جميع ما ينسب الى نفسه والا فسيعيده الملائكة الغلاظ كاعادة العبد الجانى الآبق الى مولاه للمؤاخذة، او المعنى ادعوه متضرعين منتظرين للورود عليه مخلصين له الطاعة والعبادة لانه كما بدأكم تعودون اليه فيجازيكم على طاعاتكم وعلى اى تقدير يكون قوله كما بدأكم تعودون فى مقام التعليل.
[7.30]
{ فريقا هدى } جملة حالية او مستأنفة لبيان حال العباد حين العود كما فى الخبر او مطلقا ترغيبا وتحذيرا { وفريقا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أوليآء من دون الله } تعليل لحقية الضلالة والمراد بالشياطين شياطين الجن فى تزيين الاهواء والمشتهيات وشياطين الانس فى تزيين باطلهم بصورة الحق من ائمة الجور واظلالهم { ويحسبون أنهم مهتدون } فى اتباع العادات والاهواء واستنباط احكام الله بالآراء والاستبداد بالظنون المستنبطة من الاقيسة والاستحسانات، واخذ احكام الله ممن لم يؤمروا بالاخذ منهم والايتمام بهم، والتحاكم الى من أمر الله ان يكفروا به والعمل بما لم يأخذوا ممن امروا ان يأخذوا منه ممن نص الله ورسوله (ع) عليه، وبالجملة كل من لم يكن منصوصا من الله ولا من رسوله (ص) ولا اوصيائه (ع) خصوصا ولا عموما ولا آخذا من المنصوص عليه كذلك فقوله وفعله وحاله كلها ضلالة، سواء استبد برأيه او اخذ من غير المنصوص عليه سواء كان ذلك الغير من ائمة الجور والمستبدين بالآراء او من المتقلدين للعلماء والآباء، وسواء كان المأخوذ موافقا لصور احكام الله اولا، وسواء كان من العادات والرسوم اولا، ثم بعد التنبيه على وجوب اقامة الوجوه عند كل مسجد واخلاص الدين لله صرف الخطاب عنه (ص) الى الخلق فقال: { يابني آدم خذوا زينتكم }.
[7.31]
{ يابني آدم خذوا زينتكم } ما به جمالكم من طهارة الابدان من الاخباث والاحداث والثياب الجميلة الطيبة وتحسين شعور رؤسكم ولحاكم بالمشط، وغيره مما يتزين به من الادهان والخضاب، ومن الافعال الحميدة والاقوال الفصيحة المفصحة عن أمور الآخرة ومن محبة ذوى القربى والعقائد الصحيحة، ومن الاحوال والاخلاق الجميلة والمكاشفات الصحيحة والمشاهدات القلبية والمعاينات الروحية { عند كل مسجد } وقد سبق بيان المسجد ووجه دخول لفظ العموم عليه وان اصل الكل هو خليفة الله فى الارض، وقد فسر الزينة والمسجد فى هذه الآية وفى غيرها بما ذكرنا من اراد الاطلاع على ما ورد عن المعصومين (ع) فليرجع الى الكافى والصافى وغيرهما { وكلوا واشربوا } فان التزين والاكل والشرب مباحة لكم ولا تنافى اقامة الوجوه عند المساجد بل تقويكم على ذلك، ولا يخفى تعميم الاكل والشرب كالزينة { و } لكن { لا تسرفوا } بالافراط فى التزين بحيث يمنعكم من اقامة الوجوه لاشتغال نفوسكم بتحصيلها وتحصيل ثمنها وحفظها عن التدنس وبالافراط فى الاكل والشرب وفى طيبوبة المأكول والمشروب لتضرركم بالزيادة على قدر اشتهائكم فى ابدانكم ونفوسكم وكسالتكم واشتغالكم { إنه لا يحب المسرفين } فى اى شيء كان لان الاسراف يجرى فى جملة الافعال والاقوال والاحوال، كما ورد فى جواب من قال: افى الوضوء اسراف؟ - من قوله (ع): نعم فى الوضوء اسراف ولو كنت على نهر، فان استعمال القوى والاعضاء فى كل فعل زائدا على تحصيل حقيقة ذلك الفعل واجبا كان ام مندوبا ام مباحا وزائدا على تحصيل كمالاته اسراف، هذا بحسب التنزيل، واما بحسب التأويل والباطن فالاسراف فى الاكل والشرب واللبس بانه يكون كل منها بغلبة النفس على العقل والغفلة عن الامر والنهى، فانه اسراف استحصال النفس فى مشتهياتها حتى تصير غالبة على العقل والامر الآلهى.
[7.32]
{ قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده } كأنهم كانوا يعدون ترك التزين وترك الطيب من المأكول والمشروب من لوازم العبادة وطلب الآخرة، فأمرهم اولا بالتزين والاكل والشرب، وثانيا بانكار تحريمه تأكيدا، والتوصيف بالاخراج لعباده اشارة الى ان الزينة اولا وبالذات لمن صار عبدا له، ولغيره بتبعيته لا انه حرام عليه لعبادته { والطيبات من الرزق } البدنى النباتى والحيوانى والانسانى ومن الرزق الروحانى من ارزاق النفوس والقلوب والارواح { قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا } اعلم، ان الدنيا والآخرة خلقتا لخليفة الله بالذات وهذا احد وجوه قوله: لولاك لما خلقت الافلاك، فمن اتصل به بالاتصال التقليدى الذى هو قبول الدعوة الظاهرة وقبول ما اخذ عليه بالبيعة العامة وعقد يده على يد الخليفة بالمعاهدة الاسلامية، او اتصل به بالاتصال الايتامى الذى هو قبول الدعوة الباطنة وقبول ما اخذ عليه بالبيعة الخاصة وعقد يده على يد الخليفة بالمعاهدة الايمانية، فدخل الايمان الذى هو صورة نازلة من الخليفة فى نازل مراتب قلبه الذى هو الصدر، ثم دخل صورة اخرى له ملكوتية فى مرتبة اخرى من قلبه هى اعلى من تلك المرتبة، وهكذا الى ان يتحقق بحقيقة الخليفة فهما كانتا له بقدر اتصاله ويرث من الخليفة بحسبه، ومن لم يتصل به بشي من الاتصال فهما عليه حرامان واذا ملك شيئا من الدنيا مما غلب عليه كان مغصوبا فى يده، ولذلك قال: { هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا } ، من غير تقييد بالخلوص من يد الغير يعنى سواء غلب عليها غيرهم او لم يغلب عليها، ولما لم يمكن غلبة الغير عليها فى الآخرة قال { خالصة يوم القيامة } قرئ خالصة بالرفع وبالنصب واعراب الآية ان هى مبتدء وللذين آمنوا خبره، او حال وفى الحيوة الدنيا خبر، او خبر بعد خبر، او حال عن فاعل آمنوا، او عن المستتر فى الظرف، او ظرف لغو متعلق بآمنوا، او بقوله للذين آمنوا، او بعامل من افعال الخصوص حال، او خبر بعد خبر، او خبر ابتداء اى مغصوب عليها فى الحيوة الدنيا، وخالصة على قراءة الرفع خبر هى، او خبر بعد خبر، او خبر مبتدء محذوف، وعلى قراءة النصب حال من واحد من العوامل السابقة، وعن الصادق (ع) بعد ان ذكر انهار الارض فما سقت واستقت فهو لنا وما كان لنا فهو لشيعتنا وليس لعدونا منه شيء الا ما غصب، وان ولينا لفى اوسع مما بين ذه وذه، يعنى مما بين السماء والارض ثم تلا هذه الآية: قل هى للذين آمنوا فى الحيوة الدنيا المغصوبين عليها خالصة لهم يوم القيامة بلا غصب، وفى قوله تعالى
اليوم أحل لكم الطيبات
[المائدة:5] بعد قوله:
اليوم يئس الذين كفروا من دينكم
[المائدة:3] وبعد قوله:
اليوم أكملت لكم دينكم
[المائدة:3] اشارة الى ذلك { كذلك نفصل الآيات } اى الآيات التكوينية من استحقاق كل لما يحق له واعطاء كل ذى حق حقه بالآيات التدوينية { لقوم يعلمون } يشتدون فى السلوك الى الآخرة ويزدادون فى علمهم، فان العلم هو ما كان متعلقا بالآخرة مع ازدياد واشتداد وكل ادراك لم يتعلق بالآخرة او كان متعلقا بها لكن لم يكن له اشتداد بل كان واقفا او منكوسا بواسطة الاغراض الدنيوية لا يسمى علما عند اهل الله بل جهلا، واذا اطلق عليه اسم العلم من باب المشاكلة والموافقة لمخاطباتهم، فقلما ينفك عما يشعر بذمه او ينفى اسم العلم عنه
ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون
[البقرة:102]،
يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون
[الروم:7]
ذلك مبلغهم من العلم
، [النجم:30] وقد سماه اشباه الناس عالما { إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون } ، ولذلك سموا شيعتهم الذين بايعوهم بالبيعة الخاصة الولوية الذين دخل الايمان فى قلوبهم علماء وعرفاء: شيعتنا العلماء، شيعتنا العرفاء، بطريق الحصر، فمن لم يكن سالكا الى الآخرة وسائرا الى الله بقدم الايتمام بامام حق منصوص من الله وان بلغ ما بلغ فى علومه الحكمية وظنونه الفرعية لا يسمى عالما وهو لا ينتفع بتفصيل الآيات، لان نظره الى الآيات من حيث انفسها، او من حيث جهاتها الدنيويه لا من حيث انها آيات دالات على الله وعلى امور الآخرة، كما نقل عن الصادق (ع) انه قال لابى حنيفة فى جملة كلامه: وما اراك تعرف من كتابه حرفا، ومن توسل بهم بالايتمام بالبيعة الولوية وان لم يكن قرأ حروف التهجى فهو عالم عارف وهو المنتفع بالآيات وتفصيلها، لان نظره الى الاشياء الآفاقية والانفسية من حيث صدورها عن الله ودلالتها عليها، ولما اباح لهم الاكل والشرب واكد ذلك باختصاص الزينة وطيبات الرزق بهم اراد ان يأمر نبيه (ص) ببيان المحرمات بالذات والموجبات لحرمة المباحات بالعرض، ليتبين الطيب من غير الطيب فقال تعالى { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون }.
[7.33]
فذكر تعالى بطريق الحصر خمسة اشياء راجعة الى ثلاثة هى اصول المحرمات، اعلم، ان الله خلق الانسان من نطفة ضعيفة غير حافظة لصورتها واودع فيها لطيفة سيارة سالكة الى الله بقدم الصدق على الطريق المستوى والخط المستقيم عن الجمادية التى هى انزل مراتب المواليد الى النباتية ثم منها الى الحيوانية، ثم الى البشرية التى هى ملكوت بين الملكوتين السفلية التى هى دار الشياطين والجنة وسجن المتكبرين والمعذبين من الآدميين، والعلوية التى هى دار الملائكة ذوى الاجنحة ودار السعداء واصحاب اليمين، فاذا استحكم علمه بعلمه وشعوره بشعوره وتقوى ارادته واختياره وتميزه بين الخير والشر الحقيقيين، استعد لقبول التكليف والدعوة النبوية، فان ساعده التوفيق وتداركه الدعوة النبوية وقبل تلك الدعوة وانقاد تحت حكم الداعى صار مسلما ومشرفا على التوحيد الحقيقى والايمان وقبول الدعوة الباطنة الولوية، ويسمى حينئذ مؤمنا وموحدا باعتبار اشرافه على الايمان والتوحيد، وان لم يتدراكه الدعوة العامة او لم يقبلها او لم يعمل على مقتضاها حتى ابطل استعداده القريب للدعوة الخاصة واختفى طريق القلب واماراته وطريق التوحيد وعلاماته، او لم يبطل استعداده القريب لقبول الدعوة الخاصة وبقى له استعداد قريب لذلك لكن لم يخرج تلك القوة واستعداد الى الفعل بعد وتوجه تارة الى ما اقتضاه استعداده وطلب ما يدله على طريق القلب ويخرجه من القوة الى الفعل، وتارة الى ما اقتضته نفسه واهويتها من مشتهيات الحيوانية لم يكن حينئذ مؤمنا موحدا لا حقيقة ولا مجازا، بل كان كافرا اذا لم يبق له استعداد قريب، سواء اقر بدين وكتاب ونبى وسمى مسلما ومؤمنا ام لم يقر وسمى كافرا، او كان مشركا اذا بقى له استعداد سواء أشرك بالله فى الظاهر صنما وكوكبا وغيرهما ام لا، وسواء اقر بدين ونبى ام لا، وسواء بايع نبيا او وليا بالبيعة العامة او الخاصة ام لا، وسواء اتصل او اعتقد بائمة الجور ومظاهر الشياطين ام لا، وبهذا المعنى فسر الكفر والشرك فى الآيات بالكفر بالولاية والشرك بالولاية وهذان غير الكفر والشرك الظاهرين لجواز اتصاف المسلم والمؤمن بهما، والكافر بهذا المعنى مطيع للنفس والشيطان، وافعاله ليست الا من طاعتهما وهكذا اخلاقه، وهى اما متناهية فى القبح بحيث يعدها الشرع والعقل والعرف قبيحه، كالزنا واللواط والسبعية المفرطة والشره المفرط مما يستقبحه كل احد ويستخفى فاعله حين الفعل من الناس حتى من امثاله وتسمى بالفواحش، وافعاله الجوارح التى كانت كذلك هى الفواحش الظاهرة ورذائل النفس هى الفواحش الباطنة، وقد يسمى بعض افعال الجوارح بالباطنة اذا صارت عادة بحيث لا يستخفى فاعلها عن الخلق، كنكاح زوجة الاب الذى كان فى الجاهلية وكنكاح المحارم الذى كان بين الهنود، وكالتجسس والغيبة والتهمة والتنابز بالالقاب مع انها اشد من نكاح المحارم التى شاعت بين المسلمين، لان كونها فاحشة مختف عن انظار امثال فاعلها، وقد يفسر الفاحشة الباطنة بالتى يستخفى فاعلها كالزنا واللواط والظاهرة بالتى لا يستخفى كنكاح زوجة الاب عكس ما ذكر وله وجه، او غير متناهية فى القبح بحيث لا يعدها العقول الجزئية من امثاله قبيحة ولا يستخفى فاعلها من امثاله وهو الاثم كشرب الخمر والنبيذ، او بحيث يعدها العقول الجزئية من امثاله خيرا ومدحا لفاعله ويباهى فاعلها باعلانها كالحكومات والقضاوات الغير الشرعية التى هى مثال القضاوات الشرعية وسائر المناصب الشيطانية التى يتمناها امثاله من الجهلة، وبعبارة اخرى اما تظهر افعاله واخلاقه بصورة افعال النساء او بصورة افعال الخناثى او بصورة افعال الرجال، وبعبارة اخرى فاعلها فى الانظار الجزئية المخطئة اما ذو انوثة او ذو خنوثة او ذو ذكورة، والى هذا الثلاثة اشير بالفواحش والاثم والبغى وحاصل الحصر، ان الانسان اما كافر او مشرك بالكفر والشرك الحقيقيين او مؤمن، والكافر جميع ما يصدر عنه محرم عليه قولا او فعلا او خلقا لانها تابعة للكفر المحرم وهى تنقسم الى ثلاثة اقسام و اكتفى عن ذكر الكفر بما ذكر لاستلزامها اياه وشمولها المحرمات المشرك والمؤمن من حيث الكفر، والمشرك له جهة كفر وجهة ايمان، وآثاره من حيث الكفر ملحقة بآثار الكفر ومن حيث الايمان بالايمان، والمؤمن آثاره من حيث الايمان حلال له الا نسبة القول الى الله من غير علم على التفصيل الاتى، ولما كان المراد بالبغى مطلق التبسط والحكومة والرياسة، قيده تعالى بقوله بغير الحق من: بغى بغيا، استطال ولا حاجة الى جعل القيد بيانيا خلافا للظاهر وقيد الاشراك بما لم ينزل به سلطانا، اشارة الى ان المراد بالشرك بالله الشرك بالولاية والشرك بالولاية التكوينية اما بمرمة المعاش او تلذذ النفس وهما ان كانا من جهة امر آلهى لم يكونا اشراكا بالله ما لم ينزل به سلطانا، والشرك بالولاية التكليفية ان كان باشراك من امر الامام (ع) باتباعه لم يكن اشراكا بالله ما لم ينزل به سلطانا، وليس الشرك بالله حالا وشهودا الا الاشراك بالولايتين، فالتقييد هناك ايضا فى محله ولا حاجة الى التكلفات التى ارتكبوها، والموحد الحقيقى او المشرف على التوحيد اما يكون قوله وفعله وخلقه واعتقاده من حيث توحيده او لم تكن من حيث توحيده وايمانه فما كان من حيث الايمان فهو حلال:
كفر كيرد ملتى ملت شود
وما لم يكن من حيث الايمان فهو ملحق بافعال الكافر واخلاقه لكن المؤمن قد يجرى على لسانه بقوة محبته، او لوجدانه وشهوده، او لاعتياده السابق من سهولة الخطب فى القول ما لم يأخذه من عالم وقته ولم يتيقنه من شهوده ووجدانه، او تيقنه لكن لم يكن موافقا لحاله، او لم يكن موافقا لحال السامع بحسب الوقت والمكان فنهى الله تعالى عن ذلك، وان كان من حيث ايمانه فعلى هذا كان تقدير قوله تعالى: مالا تعلمون مالا تعلمون عينه او وقته او مستمعه او موافقته لحاكم، ولما كانت ائمة الجور متحققة بتلك المحرمات وصارت تلك المحرمات ذاتية لهم صح تفسيرها بائمة الجور وفسر فى بعض الاخبار بالسلاطين من بنى امية وسائر ولاة الجور، ونقل عن الصادق (ع)، ان القرآن له ظهر وبطن فجميع ما حرم الله فى القرآن هو الظاهر والباطن من ذلك ائمة الجور، وجميع ما احل الله فى الكتاب هو الظاهر والباطن من ذلك ائمة الحق.
والسر فى ذلك ما قلنا من ان ائمة الجور هم المتحققون المتجوهرون بجميع المحرمات، وائمة الحق (ع) هم المتحققون المتجوهرون بجميع المحللات، وعنه (ع) فى بيان { أن تقولوا على الله ما لا تعلمون }: اياك وخصلتين فيهما هلكت من هلك؛ اياك ان تفتى الناس برأيك وتدين بما لا تعلم، وفى رواية ان تدين الله بالباطل وتفتى الناس بما لا تعلم. والغرض ان الاعتقاد والفتيا اذا لم يكونا بوحى او تحديث ولا بتقليد صاحب وحى وتحديث فهما قول على الله بما لا يعلم، فالويل ثم الويل لمن استبد برأيه فى دينه من غير اخذ من اهله ولمن افتى الناس من غير علم واخذ من صاحب وحى وتحديث حيث قرنه الله بالكافر والمشرك.
[7.34]
{ ولكل أمة أجل } كأنه قال فكل من المؤمنين ومرتكبى الفواحش والاثم والبغى والمشرك والقائل على الله ما لا يعلم امة قاصدة جهة من جهات الآخرة وليس لواحدة منهم البقاء فلا يتكلوا على قلائل ايامهم لان لكل امة اجلا { فإذا جآء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } اى اذا قدر وعين مجئ اخر وقتهم للموت او مدة عمرهم لا يتأخرون اقصر وقت ولا يتقدمون لخروج ذلك عن اختيارهم، اولا يطلبون التأخر والتقدم لعدم علمهم بذلك الوقت، او لعلمهم بانه خارج عن اختيارهم او اذا قارن مجئ اجلهم لا يطلبون ذلك لدهشتهم وهو عيد وتمهيد لقوله تعالى { يابني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي }.
[7.35]
{ يابني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي } التكوينية بالآيات التدوينية { فمن اتقى } مخالفة الآيات التدوينية بترك العمل بها ومخالفة الآيات التكوينية الآفاقية والانفسية بترك الاتعاظ بها والاعراض عنها والآيات العظيمة الذين هم الانبياء (ع) والاولياء (ع) بترك اتباعهم وتكذيبهم والاستهزاء بهم { وأصلح } بالاتصال بالآيات العظمى بالبيعة العامة والخاصة بالاتعاظ بالآيات الصغرى { فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } قد مضى هذه الآية فى اول البقرة وفى سورة الانعام مفصلا.
[7.36]
{ والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنهآ } بترك امتثالها والاتعاظ بها والاتصال بها باحدى البيعتين { أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } وقد اختلف القرينتان فى لفظ الموصول ودخول الفاء وعدمه والنفى وعدمه وتكرار المبتدأ باسم الاشارة وعدمه، والوجه فى ذلك الاشارة الى اتحاد نفوس المتقين والاختلاف والفرقة فى المكذبين والاشارة الى لزوم الخبر للصلة فى الاولى دون الثانية لعدم تخلف وعده تعالى دون وعيده، ولو جعل من شرطية كان ابلغ فى ذلك المعنى وذلك أتى فى الاولى بمن المشتركة بين الشرط والموصول واحضار المبتدأ بوصفه المذكور له تفظيعا لحال المكذبين وتحذيرا عن مثل حالهم مع قصد حصر صحابة النار فيهم بخلاف الاولى، فانه لم يقصد فيها حصر لما سبق من جواز تخلف الوعيد ودخول المكذبين الجنان ورفع الخوف والحزن عنهم، ووجه الاختلاف بنفى ضد المستحق فى الاولى واثبات المستحق فى الثانية كون المقام مقام الوعيد والانذار، فان ذكر المحرمات توعيد لمرتكبيها لا وعد لتاركيها لان الفضل لمن امتثل الامر لا لمن ترك المنهى ولذا لم يكتف بقوله فمن اتقى واضاف اليه اصلح فى جانب الوعد، وكذا الاخبار بانقضاء الامد وفناء البسطة واتيان الرسل بعد تلك الانذارات توعيد للمكذبين، ولكون المقام للانذار بسط فى جانب الوعيد دون الوعد والمناسب لمقام الوعيد نفى الخوف والحزن عن غير المستحق واثبات العقوبات للمتسحق.
[7.37]
{ فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا } اتى بفاء التفريع والاستفهام الانكارى اشارة الى استنباطه مما سبق وتأكيدا لا ظلمية المفترى، فان مفهومه وان كان لنفى اظلمية الغير من المفترى لكن المقصود اثبات اظلمية المفضل عليه والمراد بالمفترى ائمة الجور ورؤساء الضلالة الذين لم يكونوا اهلا للرياسة ويدعون الخلافة وهم اشد ظلما ممن كذب بآياته فقط، والقائل على الله ما لا يعلم أخف ظلما منهما فانه لا ينافى تصديق الآيات كما سبق { أو كذب بآياته } لانه قد سبق انه المستحق لصحابة النار والمراد بالمكذب بالآيات تابع ائمة الجور والمقصود من الآيات اعظمها وغايتها التى هى الولاية ومن المفترين والمكذبين منافقوا الامة الذين قبلوا الدعوة الظاهرة وبايعوا محمدا (ص) بيعة اسلامية بقرينة قوله: { أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب } لان المراد بالكتاب الكتاب المعهود المفسر بكتاب النبوة، ولما كان لقبول الدعوة الظاهرة والاحكام القالبية الاسلامية شرافة واثر فمن قبل وعمل ولم يكن له نصيب من الآخرة يناله اثر ذلك العمل والحظ الموعود فى الدنيا حتى يخرج من الدنيا وليس له حق على الله، من كان يريد ثواب الدنيا باسلامه وقبول احكامه يؤته منها وماله فى الآخرة نصيب { حتى إذا جآءتهم رسلنا يتوفونهم } بقبض ارواحهم حال من الفاعل او المفعول او كليهما او مستأنف جواب لسؤال مقدر، او هى جواب اذا وقوله و { قالوا } حال او مستأنف، او عطف على جاءتهم او يتوفونهم يعنى قال الرسل تقريعا لهم { أين ما كنتم تدعون من دون الله } بالاعراض عن خلفائه ومظاهره الولوية ودعوة غيرهم من مظاهر قهره واعوان اعدائه ممن ادعى الخلافة فى مقابل اوصيائه انبيائه (ع) { قالوا ضلوا عنا } قالوا ذلك لانهم كانوا اصحاب الخيال والكثرات ودعوتهم لائمة الجور كانت من جهة الحدود والتعينات وحين المحاسبة وظهور الوحدة لا يبقى حد وتعين ويرون انهم كانوا ساترين فى تلك الدعوة جهة الوحدة والولاية { وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين } لوجهة القلب والولاية.
[7.38]
{ قال } الله { ادخلوا } بعد عودهم عن الوحدة الى مقر الكثرة حال كونكم { في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس } الذين كانوا من سنخكم داعين لمن لم يؤذنوا فى دعوتهم { في النار } ظرف الدخول، ويحتمل ان يكون فى امم ظرف الدخول وفى النار بدلا منه بدل الاشتمال، او حالا من سابقه { كلما دخلت أمة لعنت أختها } اما المتألفون والمتحابون منهم فلظهور ان مجالسة بعضهم ومؤانسته ومحادثته منعتهم من الايمان بخلفاء الله واتباع اوليائه، واما الاجانب وغير المعروفين فلاستحقاقهم اللعن مثلهم وهذا بعينه ديدن اهل الدنيا فانهم وقت الدعة والراحة احباء، ووقت الشدة والبلاء اعداء، ويلعن بعضهم بعضا خصوصا النسوان ومن كان على طباعهن من الرجال، والجملة اما حال من فاعل ادخلوا او من امم او من فاعل خلت او الجن والانس او من النار والكل بتقدير العائد او معترضة ذما للامم { حتى إذا اداركوا فيها جميعا } يعنى لحق التابعون للمتبوعين فى الدرك الاسفل { قالت أخراهم } التابعون اللاحقون { لأولاهم } المتبوعين يعنى فى حقهم { ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار } لضلالهم واضلالهم { قال لكل ضعف } باعتبار قوتى العلامة والعمالة او باعتبار تجسم العمل فى النفس واستتباعه لمثله فى الجحيم او باعتبار الضلالة واهمال التميز، او باعتبار صفحتى كل من العلامة والعمالة { ولكن لا تعلمون } ان لكل ضعفا لخفائه وخفاء سببه عليكم.
[7.39]
{ وقالت أولاهم لأخراهم } مخاطبين لهم { فما كان لكم علينا من فضل } لاستحقاقكم الضعف جاؤا بالفاء تفريعا لقولهم على قول الله لاثبات قولهم { فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون } اما من قول الله تقريعا وتهكما، او من قول الرؤساء.
[7.40]
{ إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها } قد مضى تفصيل فى مثلها { لا تفتح لهم أبواب السمآء } سماء الارواح لان بابها القلب وفتحه بالولاية التكليفية وقد كذبوا بها { ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط } تعليق على ما لا يكون، او المراد ان انانياتهم مانعة من دخول الجنة فلا يدخلونها ما دام جمل انانياتهم باقية فاذا ذاب انانياتهم دخلوها { وكذلك نجزي المجرمين } اما من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر ابداء لوصف آخر لهم مشعر بالذم واظهارا لاستحقاق العقاب من جهة اخرى، او المراد بالمجرمين غير المكذبين وهكذا الحال فى قوله نجزى الظالمين.
[7.41-42]
{ لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش } حال او استيناف لبيان حالهم، والغواشى جمع الغاشى بمعنى المغمى، او جمع الغاشية بمعنى الغطاء او الاغماء، وفى لفظ مهاد وغواش بمعنى الاستار تهكم بهم { وكذلك نجزي الظالمين والذين آمنوا وعملوا الصالحات } قد مضى مثله، وان المراد بالايمان ان كان الاسلام الحاصل بالبيعة النبوية وقبول الدعوة الظاهرة فالمراد بعمل الصالحات الايمان الخاص الحاصل بالبيعة الولوية وقبول الدعوة الباطنة ودخول الايمان فى القلب وتوابعه من الاعمال القلبية المستتبعة للاعمال القالبية، وان كان المراد به الايمان الخاص فالمراد بعمل الصالحات مستتبعات هذا الايمان، ولما جاء بالصالحات معرفة بلام الاستغراق واوهم الاتيان بجميع الصالحات وليس فى وسع افراد البشر الاتيان بجميع الصالحات استدركه بقوله { لا نكلف نفسا إلا وسعها } معترضا بين المبتدء وخبره { أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } تكرار المبتدء باسم الاشارة اولا وبالضمير ثانيا لتأكيد الحكم واحضار المبتدء بوصفه المذكور وتفخيما لشأنهم بالاشارة البعيدة وتثبيتا لهم فى الاذهان بالتكرار.
[7.43]
{ ونزعنا } فى الدنيا او فى الجنة { ما في صدورهم من غل } الغل بالكسر الحقد وتشبيه الغل بالثوب واستعمال النزع فيه استعارة تخييلية وترشيح للاستعارة، والمقصود انه تعالى يطهر صدور المؤمنين من موجبات الغل من الكدورات الدنيوية والصفات الرذيلة النفسانية حتى تصفو صدورهم من الحقد والحسد، خصوصا بالنسبة الى اخوانهم المؤمنين وكذا من العجب والرياء والشك والشرك الخفى فلا يبقى فى صدروهم الا الود الخالص والصدق التام { تجري من تحتهم الأنهار } الجملة حالية او مستأنفة جواب لسؤال مقدر او خبر بعد خبر { و } بعد ما صارت صدورهم مصفاة مما يؤذيهم ومقامهم مأمنا عما لا يلائمهم ومجالسوهم فارغين مما يسوؤهم { قالوا } تبجحا وشكرا { الحمد لله الذي هدانا لهذا } المقام او هذا الفضل والمراد بالهداية الايصال الى المطلوب او الى طريق المطلوب مع تهية اسباب سلوكه { وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جآءت رسل ربنا بالحق } قالوا ذلك لانهم كانوا مؤمنين بالغيب غير مشاهدين فلما شاهدوا ما آمنوا به فرحوا بما شاهدوا او اظهروه لغاية السرور { ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون } يعنى ما كنتم تعملون سبب من طرف القابل لا انه سبب فاعلى. اعلم، ان الانسان بانسانيته له قوة الوصول الى الجنان وبفطرته له النسبة الى العقل الكلى ومظهره الذى هو النبى (ص) والولى (ع) وبتلك النسبة يصح نسبة الابوة والبنوة بينهما تكوينا ويصح نسبة الاخوة بين كل الاناسى تكوينا، فاذا اتصل هذه النسبة بالنسبة التكليفية بالبيعة العامة النبوية او الخاصة الولوية تقوى تلك النسبة وظهرت بحيث يصير الولد والدا والوالد ولدا، وبتلك النسبة وقدر ظهورها يرث الولد من والده بعضا من ملكه او جميع ممالكه واذا لم يتصل النسبة التكوينية بالنسبة التكليفية لا بالبيعة ولا حال الاحتضار انقطعت لا محالة، واذا انقطعت نسبته عن الوالد الذى هو العقل الكلى ومظهره لم يرث منه شيئا وورثه ما كان ينبغى ان يرثه هو اخوه المناسب له فى بعض الجهات فصح ان يقال اورثتموها من الله او من العقل او من مظهر العقل، وصح ان يقال اورثتموها من اهل الجحيم كما يصح ان يقال: اهل الجحيم اورثوا منازل اهل الجنة من الجحيم وقد مضى تحقيق الايراث وكيفيته.
[7.44]
{ ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار } اظهارا للنعمة تبجحا وتقريعا لاصحاب النار { أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم فأذن مؤذن } من الله { بينهم } والمؤذن هو صاحب مرتبة الجمع وهو الذى على الاعراف ولذا فسر بأمير المؤمنين (ع) وقال: انا ذلك المؤذن { أن لعنة الله على الظالمين } ولما كان الظلم الحقيقى هو ستر وجهة القلب التى هى الولاية التكوينية، ثم الاباء عن الولاية التكليفية التى بها يفتح باب القلب ويوضح طريقه الى الله، وبهذين الظلمين ينسد طريق القوى المستعدة للاتصال الى صاحب الولاية وهى باتصالها بصاحب الولاية تصير من عترة الرسول تكوينا، فسد طريقها ظلم عليها وظلم على العترة بوجه وظلم على صاحب الولاية بوجه، ثم جحود الولاية ثم الاستهزاء بصاحب الولاية ثم سد طريق العباد عن الولاية وذلك ايضا ظلم على عترة محمد (ص) بالوجوه السابقة، فسر الظلم فى الكتاب بالظلم على آل محمد (ص) ووصف الظالمين بقوله { الذين يصدون }.
[7.45]
{ الذين يصدون } اى يعرضون او يمنعون { عن سبيل الله } تفسيرا للظلم { ويبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون } فان سبيل الله هو وجهة القلب تكوينا وولاية الامام الذى هو المتحقق بتلك الوجهة تكليفا، والكفر بالآخرة هو الكفر بالولاية التكوينية والتكليفية او مسبب عنه.
[7.46]
{ وبينهما } اى الفريقين او الجنة والنار { حجاب } والمراد بالحجاب البرزخ الاخروى الذى هو واسطة بين الملكوتين ولا بد لاهل كل من العبور عليه، كما ان المراد بالسور فى قوله فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب هو هذا البرزخ، وتحقيق كون الدنيا برزخا والبرزخ الاخروى واسطة بين الملكوتين وكون الملكوت السفلى ظلا ظلمانيا للدنيا والملكوت العليا عكسا نورانيا لها، وبعد الخلاص من عالم الطبع لا بد من عبور كل على البرزخ الاخروى الذى هو بوجه جهنم، كم ان عالم الطبع ايضا بوجه جهنم، والبرزخ الاخروى هو الحجاب الذى ظاهره يلى الملكوت السفلى من قبله عذاب الملكوت السفلى وباطنه الذى يلى الملكوت العليا فيه الرحمة التى هى نعم الجنان الصورية ثم نعم الجنان المجردة عن الصورة والتقدر قد مضى اجمالا وسيجيء فى سورة الحديد { وعلى الأعراف } اى اعراف الحجاب جمع العرف وهو ما ارتفع من الارض ومنه عرف الديك وعرف الفرس والمعنى على اعالى الحجاب { رجال } مخصوصون وهم الذين ادركوا البقاء بعد الفناء ووصلوا الى مقام الجمع وردوا من الحضور الى الخلق لتكميلهم وهم الانبياء (ع) والاولياء (ع)، فانهم بعد ردهم يقفون بملكوتهم على البرزخ لكن على جهاته التى فيها الرحمة وهى اعاليه حتى يمكنهم الاحاطة والاتصال بالملك والملكوتين، لانهم بشأنهم الجبروتى اجل شأنا من ان يراقبوا الكثرة لان العالى لا التفات له الى الدانى بالذات وبشأنهم الملكى لاسعة لهم ولا احاطة حتى يتيسر لهم المراقبة واعطاء كل ذى حق حقه، بل بشأنهم الملكوتى الذى يتنزلون به عن الملكوت العليا الى اعالى البرزخ فيراقبون اهل الملك والملكوت العليا والسفلى ويعطون كلا حقه، ولما كان النبوات والولايات الجزئية اظلالا من الولاية الكلية وكان المتحقق بالولاية الكلية عليا واولاده الطاهرين، صح تفسير الرجال بهم وحصرهم فيهم ولما كان البرزخ مرتبة من مراتبهم وشأنا من شؤنهم قال على (ع): نحن الاعراف ولما كان جهة البرزخ العليا جهة يعرف بها كل من عليها غيره من اهل الملك والملكوتين وكانت سبيل معرفة الله لغير من عليها صح قولهم (ع): نحن على الاعراف، نعرف انصارنا بسيماهم، ونحن الاعراف الذين لا يعرف الله عز وجل الا بسبيل معرفتنا، ونحن الاعراف يوقفنا الله عز وجل يوم القيامة على الصراط فلا يدخل الجنة الا من عرفنا وعرفناه، ولا يدخل النار الا من انكرنا وانكرناه، ولما كان المراد بالاعراف اعالى البرزخ صح تفسير اصحاب الاعراف بالذين هم اصحاب البرزخ من الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم، فانهم اصحاب البرزخ وكون صحابتهم للاعراف غير كون صحابة الذين على الاعراف فانهم مالكون للاعراف بوجه ومتحققون بها بوجه، بخلاف الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم فانهم (ع) واقفون فى البرزخ وتحت الاعراف للحساب { يعرفون كلا } من اهل الجنة والنار { بسيماهم } بالعلامة التى هى على ظواهرهم من سرائرهم، فالضمير راجع الى كلا لا الى الرجال { ونادوا } الضمير راجع الى اصحاب الاعراف من شيعة على (ع) الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم كأنهم ذكروا بالالتزام ذكر الاعراف { أصحاب الجنة } الذين تجاوزوا البرزخ وصحبوا الجنة { أن سلام عليكم } تحية لهم ورجاء للوصول اليهم { لم يدخلوها وهم يطمعون } الدخول.
[7.47-48]
{ وإذا صرفت أبصارهم تلقآء أصحاب النار } كان ابصارهم وانظارهم بالاصالة الى اصحاب الجنة { قالوا } تعوذا والتجاء الى على (ع) { ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ونادى أصحاب الأعراف } الذين هم على الاعراف { رجالا } من اهل النار { يعرفونهم بسيماهم قالوا مآ أغنى عنكم } يعنى ما اغنى الله عن عذابكم هذا بحسب مفهومه اللغوى والمقصود ما دفع عنكم العذاب { جمعكم وما كنتم تستكبرون } ما موصولة او مصدرية.
[7.49]
{ أهؤلاء } اشارة الى اصحابهم الذين معهم فى الاعراف الذين يطمعون دخول الجنة ولم يدخلوها بعد لاختلاطهم السيئات بالحسنات { الذين أقسمتم } فى الدنيا { لا ينالهم الله برحمة } قالوها تقريعا وشماتة ثم صرفوا الخطاب عن اصحاب النار الى اصحابهم الذين معهم فى الاعراف وقالوا لهم فى حال شهود اصحاب النار لازدياد تحسرهم { ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون } وبما ذكرنا يمكن الجمع بين جميع ما ورد فى الاخبار فى بيان الاعراف واصحاب الاعراف وكيفية وقوفهم على الاعراف مع كثرتها واختلافها.
[7.50]
{ ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من المآء } لان الحجاب الذى بينهما مانع من الوصول لا من الرؤية اذا شاء الله { أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين } الساترين وجهة القلب التى هى الطريق الى الله.
[7.51]
{ الذين اتخذوا دينهم } الذى أخذوها من صاحب الدين اى الاسلام الذى اخذوها من النبى (ص) بالبيعة والميثاق او صورة الاسلام التى انتحلوها من دون اخذها من صاحبها والوقوف على شرائعها { لهوا ولعبا } غير مغيى بغاية او مغيى بغاية خيالية نفسانية راجعة الى دنياهم لانهم سدوا الطريق الى الله وابطلوا استعداد سيرهم بواسطة الاسلام الى الطريق فلا غاية لاسلامهم او لنحلتهم الاسلام سوى ما تصوروه من الغايات الراجعة الى الدنيا ولذا قال تعالى { وغرتهم الحياة الدنيا } تعليلا لاخذ دينهم لهوا ولعبا { فاليوم ننساهم } يعنى لا نلتفت اليهم وهذا على طريقة مخاطباتهم حيث يقولون نسينا فلان يعنى لا يلتفت الينا ولا يذكرنا بعطية { كما نسوا لقآء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون } وكان كانوا.
[7.52]
{ ولقد جئناهم بكتاب } اى كتاب النبوة { فصلناه على علم } متعلق بجئنا او بفصلناه او متنازع فيه لهما على اخذ مثل معنى الايراد فى المجيء والتفصيل اى اوردناه على علمهم بحقية الكتاب او الرسول (ص)، او هو حال عن فاعل جئنا او فصلنا او عن مفعول جئناهم او عن كتاب { هدى ورحمة لقوم يؤمنون } بالايمان العام لتوجهم الى وجهة القلب وتهيؤهم لقبول الولاية التكليفية او بالايمان الخاص لكونهم على الطريق وانارة كتاب النبوة الذى كان الكتاب التدوينى صورته طريقهم فيسرعون فى السير او المراد بكتاب فصلناه مكتوب مفروض عظيم وهو الولاية التى هى غاية النبوة، لان جميع النبوات والكتب التدوينية لتنبيه الخلق عليها واعدادهم لقبولها ولذلك جاء به مفردا منكرا مشيرا الى عظمته.
[7.53]
{ هل ينظرون } ما ينتظرون { إلا تأويله } ما يؤل الكتاب اليه او تأويلنا وارجاعنا ذلك الكتاب الى حقيقته التى هى مقام الولاية التى هى روحه واصله ومرجعه { يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه } ضمير المفعول راجع الى دينهم او الى لقاء يومهم هذا او الى كتاب فصلناه او الى تأويله ومآل الكل واحد والمعنى يقول الذين نسوا حقيقة الدين او الكتاب يعنى تركوها مع الاسشعار بها، فان النسيان قد يستعمل فى الترك، او غفلوا عنها بعد الاستشعار والتذكر بها او لم يستشعروا بها ولم يتذكروا بها فانها كانت معلومة مشهودة وبعد تنزل الانسان الى هذا البنيان صارت منسية وجميع الشرائع والعبادات والرياضات لان يتذكروا ما نسوه من حقيقة الدين واتخذوا صورته للاغراض الدنيوية { من قبل } من قبل اتيان التأويل تحسرا واقرارا بحقيته { قد جآءت رسل ربنا بالحق } وبالولاية التى كانت حقا او بالرسالة الحقة وقد اعرضنا عنه ظلما على انفسنا { فهل لنا من شفعآء } اليوم { فيشفعوا لنآ } عند ربنا فى الولاية الذى هو ولى امرنا او عند رب الارباب { أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم } بصرف دينهم الذى هو اعظم بضاعة لهم فى الاغراض الفانية { وضل عنهم ما كانوا يفترون } اشراكه بالله وشفاعته عند الله من الاصنام والكواكب ورؤساء الضلالة، والمنظور هو العجل وسامريه ووجه ضلال مفترياتهم انهم كانوا ينظرون اليها من حيث حدودها وتعيناتها، لانهم كانوا جعلوها مسميات ويفنى كل شيء حينئذ من حيث الحدود من حيث كونه مسمى لفناء التعينات والحدود حين ظهور الولاية التى هى الوحدة الحقة الظلية كما سبق.
[7.54]
{ إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام } اعلم، ان فعل الله تعالى لا يتقيد بالزمان وقد قالوا: ان الافعال المنسوبة الى الله منسلخة عن الزمان فان المحيط كما لا يحاط ذاته بالزمان لا يحاط فعله بالزمان، وان ايام الله محيطة بالايام الزمانية ومقادير ايام الله متفاوتة بحسب تفاوت مراتب فعله فقد تتقدر بالف سنة وقد تتقدر بخمسين الف سنة، وان السماوات فى عرف اهل الله عبارة عن عوالم الارواح المجردة عن المادة وعن التقدر، والارض عبارة عن عوالم الاشباح مادية كانت او مجردة عن المادة كعالمى المثال ومنها سماوات عالم الطبع لتقدرها وتعلقها بالمادة، وان مراتب الممكنات التى هى مخلوقات الله وفيها تتحقق السماوات والارض بوجه ست وبوجه ثلاث صائرة بحسب النزول والصعود ستا وهى مرتبة المقربين المهيمين الذين هم قيام لا ينظرون، ومرتبة الصافات صفا ويعبر عن الصنفين بالعقول الطولية والعقول العرضية المسماة بارباب الانواع فى لسان حكماء الفرس، ومرتبة المدبرات امرا ومرتبة الركع والسجد، ومرتبة المتقدرات المجردة عن المادة، ومرتبة الماديات وخلقة السماوات والارض وتماميتها فى تلك المراتب الست، واذا اريد بالسماوات والارض سماوات عالم الطبع وارضه فخلقتها بوجودها الطبيعى وان كانت فى عالم الطبع لكنها بوجودها العلمى موجودة فى المراتب العالية عليه وهذه هي الايام الستة الربوبية التى خلقت السماوات والارض فيها، وتلك المراتب مع المشية التى هى عرش الرحمن بوجه وكرسيه بوجه تصير سبعا نزولا، وباعتبار صعودها تصير مثانى وهذه هى السبع المثانى التى اعطاها الله محمدا (ص)، ولما كان المتحقق بتلك المراتب نزولا وصعودا منحصرا فى الائمة (ع)، لانهم المتحققون بها على الاطلاق وغيرهم متحققون بها بتحققهم قالوا: نحن السبع المثانى التى اعطاها محمدا (ص) بطريق الحصر، ثم لما كان عرش الرحمن الذى هو المشية التى هى الحق المخلوق به اضافته الاشراقية المأخوذة لا بشرط وكان بهذا الاعتبار متحدا مع جميع الاشياء، بل كان حقيقة كل ذى حقيقة وكان باعتبار كونه اضافة ومأخوذا لا بشرط لا تحقق له الا بتحقق جميع ما ينضاف اليه ولا يتم الا بما ينضاف اليه، قال بعد ذكر خلق السماوات والارض التى هى جملة الاشياء { ثم استوى على العرش } معطوفا بكلمة التراخى، لان الاستواء فى العرف هو الجلوس على العرش ولا يتم هذا المعنى الا بتمامية العرش وليس تمامية العرش الا بتمامية السماوات والارض، ولذا فسروا الاستواء لنا باستواء نسبته الى الجليل والدقيق، ولما كانت المشية اضافته الحقيقية الى الاشياء كانت ذات جهتين جهة الى المضاف وجهة الى المضاف اليه، وباعتبار جهتها الى المضاف تسمى عرشا ولذا يطلق عليها هذا الاسم حين تنسب الى الله، وباعتبار جهتها الى المضاف اليه تسمى كرسيا ولذا يطلق عليها هذا الاسم حين تنسب الى الاشياء وسع كرسيه السماوات والارض، وورد ان جميع الاشياء فى الكرسى والكرسى فى العرش، ووجه كون الكرسى فى العرش ان الجهة المنسوبة الى المضاف محيطة بالجهة المنسوبة الى المضاف اليه، وقد يسمى عقل الكل بالعرش ونفس الكل بالكرسى لكونهما مظهرى الجهتين، وقد يسمى الفلك المحيط عرشا والفلك المكوكب كرسيا لكونهما مظهرى هذين المظهرين { يغشي الليل النهار } يغطى بليل الزمان نهار الزمان، وبليل عالم الطبع نهار عالم الارواح، وبليل الملكوت السفلى نهار الملكوت العليا، وبليل طبع الانسان نهار روحه، وبليل جهله نهار علمه، وبليل شهواته وسخطاته نهار رغباته ومرضاته، وبليل رذائله نهار خصائله، وبليل اسقامه نهار صحته، وبليل ضعفه نهار قوته وهكذا { يطلبه } يتعقبه كالطالب له { حثيثا } وفى استعمال الطلب والحث هناك دليل على التعميم وكان المناسب ان يقول: ويكشف النهار الليل او يغشى النهار الليل، ولكنه تعالى تركه اشارة الى اصالة النهار وعرضية الليل ولو قال ذلك لأوهم اصالتها وان تقابلهما تقابل الوجوديين { والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره } قرئ بنصب الشمس والقمر والنجوم ومسخرات، وقرئ برفعها فهى معطوفة على السماوات على قراءة النصب فيها، او على خلق بتقدير جعل، او على يغشى بتقدير يجعل وعلى قراءة الرفع فيها فهى مبتدء وخبر { ألا له الخلق والأمر } فذلكة لما سبق ولذا أتى باداة التنبيه فانه لما ذكر انه خالق سماوات الارواح واراضى الاشباح وانه المستوى القاهر على العرش الذى هو جملة عالمى الامر والخلق، ثم ذكر تدبيره للعوالم باغشاء الليل النهار على وفق حكمته البالغة، فانه بهذا الاغشاء يتم تربية المواليد ولا سيما غايتها التى هى الانسان، فان الانسان بقالبه وقلبه تستكمل بتضاد الليل والنهار وتعاقبهما بجميع معانيهما وتسخير الشمس والقمر والنجوم الذى به يتم نظام العالم وينتظم معاش بنى آدم، استفيد منه مبدئيته لعالمى الخلق والامر ومالكيته لهما فنبه على المستفاد واتى باللام الدالة على المبدئية والمالكية والمنتهائية، مشيرا الى الاختصاص المؤكد بتقديم الظرف ثم مدح نفسه بكثرة الخيرات مؤكدا بربوبية العالم بقوله { تبارك الله رب العالمين } ثم فرع عليه الامر بالدعاء والتضرع، فان من لا شأن له سوى المخلوقية والمربوبية لا ينبغى له الخروج عن التعلق والدعاء والتضرع عند ربه الذى هو مالك الكل وصاحب الخيرات الكثيرة بقوله { ادعوا ربكم }.
[7.55]
{ ادعوا ربكم } كأنه قال اذا كنتم كذلك فادعوا ربكم، والدعاء يستعمل فى طلب ذات المدعو وفى طلب امر آخر منه كأن المدعو فى الحقيقة هو ذلك الامر، والمدعو مطلوب من باب المقدمة وكلما اطلق الدعاء كان المطلوب ذات المدعو لا امرا غيره الا اذا قامت قرينة على ان المطلوب غيره، والمطلوب هناك ذات المدعو كأنه قال انه حاضر عليكم فى تدبير اموركم وانتم غائبون عنه فادعوه الى بيوت قلوبكم حتى تحضروا عنده بخروجكم عن غيبتكم؛ وهو مشعر بما قالت الصوفية من الفكر والحضور { تضرعا وخفية } مصدر ان لادعوا من غير مادته فان التضرع والخفية عبارة عن نوعى الدعاء ما يظهر على اللسان وما لا يظهر، فان التضرع ملازم للظهور على اللسان او ما يجهر به وما لا يجهر به فان التضرع قلما يخلو عن جهر او بتقدير المصدر اى دعاء تضرع وخفية، او حالان بكون المصدر بمعنى المشتق او بتقدير مضاف اى ذوى تضرع، ولا استبعاد فى ان يقال: المراد بالتضرع هو الدعاء مع الشعور به سواء كان بلسان القالب او بلسان القلب، وبالخفية هو الدعاء بلسان الحال والاستعداد من غير استشعار به فان الخفية الحقيقية هى التى لا يستشعر الداعى بها، وتعلق الامر والتكليف بها باعتبار مقدماتها التى هى بشعوره واختياره، او يقال: المراد بالتضرع هو الدعاء بلسان القالب وبالخفية هو الدعاء بلسان القلب شاعرا بهما؛ وهما اللذان يسميان فى عرف الصوفية بالذكر الجلى والذكر الخفى { إنه لا يحب المعتدين } المتكبرين المستنكفين عن الدعاء المتجاوزين مرتبتهم وشأنهم، لانه من لا يدعو الله من العباد فقد تجاوز عن شأن عبوديته، او المراد بالمعتدين المتجاوزون فى الدعاء حد الدعاء وشأن الداعى من التضرع والانكسار او حد الوسط بالاجهار بالصوت فى الدعاء، او حد الوسط بين الترك والاصرار فانه ورد: انه ما زال المظلوم يدعو على الظالم حتى يصير ظالما.
[7.56]
{ ولا تفسدوا في الأرض } اعلم، ان الانسان ما لم يبلغ حد الرشد والتكليف شأنه شأن البهائم فى طلب المشتهيات بأى نحو اتفق ودفع المولمات كذلك وليس له شأن الايتمار والانقياد الا لمن يخاف منه على بدنه، وليس له شأن الاصلاح فى ارض العالم الصغير ولا فى ارض العالم الكبير، فاذا بلغ وحصل له العقل حصل له شأنية الايتمار والاصلاح فى ارضى العالمين فى الجملة، فان ساعده التوفيق ودعاه الدعاة الآلهيون دعوة عامة ظاهرة وقبل منهم وانقاد لهم بالبيعة العامة النبوية وصار مسلما كمل له شأنية الاصلاح وحصل له الانقياد فى الجملة، فان زاد توفيقه ودعاه الدعاة الآلهيون دعوة خاصة باطنة وقبل منهم وبايع معهم البيعة الخاصة الولوية وتم له الانقياد، فاما ان يلتحق بملكوت الداعى ويحصل له حالة الحضور معه وهو المصلح الحقيقى فى العالمين، واما ان يطلب الالتحاق وشأنه دعاء ربه والتضرع والالتجاء اليه فى غيبته حتى يلتحق به وهو المصلح فى الجملة، وان خذله الله بعد حصول العقل وشأنية الاصلاح ولم يطلب الاسلام، او طلب ودخل فيه ولم يطلب الايمان، او طلب ودخل فيه ولم يكن يدعو ربه ولم يطلب الالتحاق بملكوته صار مفسدا فى العالمين فكأنه قال: ادعو ربكم ولا تتركوا الدعاء فتفسدوا فى الارض { بعد إصلاحها } بالقوة لحصول العقل او بالفعل بالاسلام والايمان وهكذا فى بواقى الاقسام فقوله: ولا تفسدوا فى الارض، من قبيل اقامة المسبب مقام السبب كأنه قال: لا تتركوا الدعاء والالتجاء والتضرع عليه فتفسدوا فى الارضين بعد شأنية اصلاحهما او بعد فعلية اصلاحهما ولكون هذا الدعاء هو غاية كل عبادة وطاعة كرره بذكر جهة اخرى من جهات الدعاء فقال { وادعوه خوفا وطمعا } مصدر ان او حالان كما سبق والمعنى خوفا من فراقه وعدم اجابته وطمعا فى لقائه واجابته، وسائر الوجوه المحتملة راجعة الى هذا، او ضعيفة بحسب مقام دعوة الرب؛ كخوف سخطه وخوف عقابه وخوف رده وخوف عدله خوف ميزانه وخوف خذلاته والخوف من جلاله فان من استشعر فى حضور الملوك جلالهم اسشعر خوفا وهيبة فى نفسه من غير استشعار بسبب لتلك الهيبة، واستعمال الطمع للاشارة الى ان الانسان لا بد وان يكون مترقبا للقاء الرب ورحمته من غير نظر الى حصول اسبابه من قبله او من قبل الله فان فعل الله لا يناط بالاسباب، لان الطمع هو ترقب حصول الشيء من غير تهية سبب لحصوله بخلاف الرجاء ولما اوهم ذكر الطمع قرينة للخوف ترجيح جانب الرجاء وعدم الاناطة بسبب وشرط واستواء نسبة الرحمة الى الكل بحسب القابل كما هو كذلك بحسب الفاعل، رفع ذلك بقوله { إن رحمت الله قريب من المحسنين } تعليلا للخوف والطمع، يعنى ان رحمته من جهة الفاعل وان كانت مستوية النسبة الى الكل غير موقوفة على سبب وشرط لكنها من جهة القابل متفاوتة النسبة فليخف غير المحسن ولا يتكل على عموم رحمته واستواء نسبتها وليطمع المحسن وليجد فى طلب لقائه، وتذكير قريب بتأويل الرحمة بالرحم او بتشبيهه بالفعيل بمعنى المفعول.
[7.57]
{ وهو الذي يرسل الرياح بشرا } قرء بالنون وبالباء جمعا للنشور والبشير وبالضمتين على الاصل وباسكان العين تخفيفا وبالفتح كالنصر مصدرا وهو عطف على قوله، ان ربكم الله الذى خلق السماوات، وهو لبيان الاعادة بطريق التمثيل كما ان الاول لبيان الابداء والتدبير { بين يدي رحمته } يعنى المطر، فانه يسمى بالرحمة فى العرف ولا يخفى تعميم الرياح والرحمة وان كان التمثيل بحسب ظاهر التنزيل { حتى إذآ أقلت سحابا ثقالا } بالاجزاء الرشية المائية، جمع الوصف وافراد الضمير فى { سقناه } باعتبار معنى الجنس ولفظه { لبلد } اليه او لسقيه او لاحيائه { ميت فأنزلنا } فى ذلك البلد الميت { به المآء } اى بالسحاب او الضمير راجع الى البلد والباء بمعنى فى { فأخرجنا به } بالماء او بالسحاب او بالبلد { من كل الثمرات كذلك } اى كما ترون من نشر الرياح وحمل السحاب وسوقه الى البلد الميت واحيائه باخراج الثمرات { نخرج الموتى } عن الحيوة الحيوانية او عن الحيوة الحقيقية الانسانية بنشر الرياح المختلفة وسوق سحاب الرحمة باعداد الرياح المختلفه من الاستحالات والانقلابات والانتقالات والبلايا والامتحانات، وتهييج الشهوات وايذاء السخطات ووسوسة الشياطين الجنية والانسية، واذا هم الذى عاهدناهم عليه بقولنا
ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا
[ آل عمران: 186] حتى ينزعجوا عن قبر الطبع الجمادى او النفس النباتية او النفس الحيوانية ويحيوا بالحيوة الانسانية ويخرج فى ارض وجودهم كل الثمرات الآلهية { لعلكم تذكرون } غاية للممثل به او للمثل او للتمثيل.
[7.58]
{ والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه } كأنه استدراك لما توهم من تساوى البلاد فى خروج النبات منها وتساوى الاموات فى كيفية الاحياء وحالة الحيوة، كأنه قال ولكن البلد الطيب يخرج نباته باذن ربه يعنى يخرج جميع ما يمكن ان ينبت فيه، فانه المستفاد منه بحسب مخاطبات العرف خصوصا مع اضافة النبات المشعرة بالعموم ومع المقابلة مع قرينة وهو قوله { والذي خبث } بالنسبة الى الاراضى الصالحة بسبب كونه سبخة { لا يخرج } نباته { إلا نكدا } قليل المقدار عديم النفع { كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون } نعمنا الظاهرة والباطنة وان كان بصورة الرياح المختلفة والابتلاءات والنقمات، فان تصريف امثال هذه الآيات لمن عرف انها نعم لا لمن رآها نقما ولا يشكر بل يكفر بسببها، فان كفره وكفرانه ليس غاية لفعلنا بل هو مترتب عليه بالعرض، ونقل انه قال عمرو بن العاص للحسين بن على عليهما السلام: ما بال لحاكم اوفر من لحانا؟ فقرأ هذه الآية، وامثال هذا التفسير للآيات تدل على جواز تعميمها فى كل ما يمكن ان تصدق عليه حقيقة او مجازا.
[7.59]
{ لقد أرسلنا نوحا إلى قومه } بعد ذكر الابداء والتربية والتدبير والاعادة بالتمثيل ذكر تعالى ارسال الرسل ليكونوا على ذكر منه فلا يستغربوا رسالة البشر، وذكر قصصهم مع اقوامهم وما قالوا لهم وما فعل بالمقر والمنكر منهم تسلية للمؤمنين وتهديدا للمنكرين المكذبين { فقال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } امرهم بالتوحيد وعبادة ذلك الواحد كما هو ديدن جميع الانبياء { إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم } ان تتركوا عبادته وتوحيده.
[7.60]
{ قال الملأ من قومه } اى المترفون والرؤساء، فان الاتباع لا شأن لهم الا القبول والتقليد وعدم اتباعهم للانبياء لان نظرهم الى الدنيا وكان المترفون فى نظرهم اجل شأنا من الانبياء { إنا لنراك في ضلال مبين } لما رأوه مخالفا لسيرتهم المحبوبة الدنيوية التى يحسبونها احسن ما يكون فان كل حزب بما لديهم فرحون، ولذا اكدوه بتأكيدات.
[7.61-62]
{ قال ياقوم ليس بي ضلالة } داراهم بنفى معتقدهم ولذا لم يؤكده مثل تأكيداتهم { ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم } اتى باللام اشارة الى خلوص النصح عن شوب الخديعة { وأعلم من الله } يعنى من صفاته وتدبيره او بافاضة الله { ما لا تعلمون } بلغ اولا رسالته مع تعقيبه بالانذار ولما كذبوه بابداء اعتقاد ضد الرسالة وهو الضلالة نفى معتقدهم واثبت دعواه مع لازمها الذى هو التبليغ، ثم عقبها بما لاينبغى رده من النصح والعلم بما ليس لهم علم به مداراة معهم واظهارا للرأفة بهم.
[7.63]
{ أوعجبتم } اى اكذبتم وعجبتم يعنى لا ينبغى التعجب منكم { أن جآءكم ذكر من ربكم } اى ما به تذكركم للآخرة { على رجل منكم } ابدل الرسالة التى فيها الشقاق والعناد بلازمها الذى فيه صلاحهم وهو تذكرهم بعواقب امورهم واضافه الى الرب المضاف اليهم حتى يكون اقرب الى النصح والقبول، ثم عقبه بغايات ثلاث مترتبة منسوبة الى الرسول والمرسل اليهم والمرسل وفى الكل صلاحهم ونفعهم لابداء ان دعواه الرسالة ليست الا محض نفعهم حتى يكون ابعد من الشغب، فقال { لينذركم } عما انتم عليه مما ليس فيه الا الشر والسوء { ولتتقوا } عما فيه فسادكم بالتوجه والرغبة فيما فيه صلاحكم { ولعلكم ترحمون } من ربكم وهو حسن العاقبة.
[7.64]
{ فكذبوه } مع انه لم يبق لهم عذر فى تكذيبهم { فأنجيناه والذين معه } من المؤمنين { في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنآ إنهم كانوا قوما عمين } ولم يبق لهم بصيرة حتى نترقب استبصارهم ولا نؤاخذهم.
[7.65-68]
{ وإلى عاد أخاهم هودا } المراد اخوة العشيرة والقبيلة الا اخوة الدين { قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة } تسفيه العقل فى الانظار اقبح من نسبة الضلالة { وإنا لنظنك من الكاذبين قال ياقوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين } كأنه كان معروفا بينهم بالامانة ولذا توسل به.
[7.69]
{ أو عجبتم أن جآءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفآء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بصطة } ذكرهم بنعم الله عليهم بعد تذكيرهم ضمنا بنقم الله على قوم نوح تخويفا لهم من زوالها بأحسن وجه { فاذكروا آلآء الله } تعميم بعد تخصيص تأكيدا { لعلكم تفلحون } عن الصادق (ع) انه قال: اتدرى ما آلاء الله؟ - قيل: لا، قال: هى اعظم نعم الله على خلقه وهى ولايتنا.
[7.70]
{ قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده.. } جعلوا لغاية سفههم مقلدات آبائهم علوما قطعية ولذلك تحدوا بما ذكر.
[7.71-72]
{ قال قد وقع عليكم من ربكم رجس } اى عذاب اتى بقد والماضى تحقيقا لتحققه، او للاشارة الى ان ما هم عليه من السفاهة والضلالة والمجادلة مع رسول الله (ص) عذاب اليم، لكنهم لا يدركون ألمه لكون مداركهم خدرة { وغضب } اخر الغضب مع انه بالتقديم اولى لتقدمه ذاتا وشرفا، لانه لا يظهر الا بالرجس المسبب عنه فالرجس اسبق ظهورا منه { أتجدلونني في أسمآء سميتموهآ أنتم وآبآؤكم } اعلم، ان الاسم ما يدل على شيء آخر بحيث لا يكون حين الدلالة على المسمى منظورا اليه ومقصودا ومحكوما عليه بشيء، سواء كان ذلك الدال لفظا او نقشا او مفهوما ذهنيا او ذاتا خارجيا مثل لفظ زيد، فانه اسم للذات المعينة المخصوصة واذا اريد دلالته على تلك الذات فى قولنا: جاء زيد، لم يكن ذلك اللفظ منظورا اليه ولا محكوما عليه هذا الاعتبار، بل النظر والقصد الى تلك الذات بحيث يكون اللفظ مغفولا عنه، وبهذا الاعتبار هو اسم للذات ولا يحكم عليه بشيء من الاحكام، واذا اعتبر هذا اللفظ من حيث اعتباره فى نفسه مع قطع النظر عن اعتبار دلالته على المسمى بل من حيث انه مركب عن حروف ثلاثة متحرك الاول ساكن الاوسط يصير حينئذ محكوما عليه ومنظورا اليه ومسمى باسم اللفظ والموضوع والاسم المقابل للفعل، وهذان الاعتباران كما هما ثابتان للالفاظ الدالة والاسماء اللفظية كذلك ثابتان لكل ما يدل على غيره من الذوات، ثم اعلم، ان جميع الاشياء من الذاوات النورية الملكية والظلمانية الطبيعية والشيطانية آثار صنعه تعالى ودوال وحدته وعلمه وقدرته ومظاهر جوده ولطفه وقهره، وهى بهذا الاعتبار اسماؤه ولا حكم لها ولا اسم ولا رسم وليست مسميات وهى بهذا الاعتبار قضاؤه؛ والرضا بها واجب وعبادتها عبادة الله ومحبتها محبة الله لانها غير منظورات ولا مقصودات بهذا الاعتبار، واذا جعلت منظورا اليها ومحكوما عليها ومسميات باسمائها الخاصة كانت بهذا الاعتبار مقابلات له تعالى وثوانى ولم تكن دوال ذاته وعلمه وقدرته بل كانت حينئذ مدلولات ومسميات ومقتضيات، والنظر اليها وعبادتها والرضا بها كفر وشرك والناظر ملوم ومذموم، وبهذا الاعتبار ورد: الرضا بالكفر كفر. ثم اعلم، ان الانسان ما لم يخرج من بيت نفسه ولم يهاجر الى رسول صدره ولم يتوجه الى نبى قلبه باعانة ولى امره لا يمكن له النظر الى الاشياء من حيث انها دوال ذاته تعالى بل لا يرى فى الوجود الا الاشياء المتكثرة المقابلة للوحدة مستقلات مدولات مسميات وان كانت بحسب الواقع ونفس الامر متعلقات صرفة غير مستقلات لا حكم لها اصلا، لكنها فى نظر المتوطن فى بيت نفسه وبلد طبعه لا شأن لها الا المباينة والاستقلال وعدم التعلق والدلالة على شيء، لكنه لما كان مأمورا بالخروج من هذا البيت وحج بيت الله القلب والطوف به بل الاقامة عنده ثم الوصول الى ربه والحضور لديه، ولا يمكنه الخروج الا باعانة معاون خارجى ورفاقة رفيق بشرى وكلما فرض معاونا له ليس فى نظره الا محكوما عليه ومتسقلا ومسمى غير دال على الله وغير اسم له، جعل الله تعالى له معاونا يعينه على خروجه وامره باتباعه ونصب له حجة على جواز النظر اليه والاخذ منه والتضرع لديه وان كان فى نظره مسمى ومحكوما عليه ومستقلا، فكونه مطاعا ومتبوعا ومعبودا عبادة الطاعة مع كونه ثانيا لله ومقابلا ومسمى ومحكوما عليه فى نظره مما انزل الله به حجة وسلطانا وليس الناظر اليه مذموما وملوما ولا كافرا ومشركا، اذا علمت ذلك فمعنى الآية لا ينبغى لكم المجادلة مع الرسول فى تصحيح اسماء لا حكم لها وليست مسميات ومستقلات بل متعلقات صرفة وروابط محضة جعلتموها انتم وآباؤكم مسميات بمقتضى وقوفكم فى رساتيق انفسكم، والحال انها { ما نزل الله بها } اى معها او فيها او بسببها { من سلطان } اى سلطنة او حجة وبرهان من هذه الحيثية اى كونها مسميات ومنظورا حتى يرفع اللوم عنكم ويتبدل شرككم بالنظر الى الحجة بالتوحيد بوجه ما { فانتظروا } امر الله فى حقكم وحقى { إني معكم من المنتظرين فأنجيناه والذين } آمنوا { معه برحمة منا } التقييد به تنبيه على انه لا يجوز لاحد النظر الى عمله والاتكال عليه، فان العمل ليس له الا اعداد القابل للقبول واما فعل الفاعل فغير مسبب عنه كما مر مرارا { وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا } تكليفا { وما كانوا مؤمنين } تكوينا او كلاهما عامان او خاصان بمعنى واحد، والثانى تأكيد للاول ومعنى قطع الدابر الاستيصال وعدم بقاء عقب لهم، وورد ان هودا (ع) وصالحا (ع) وشعيبا (ع) واسمعيل (ع) ونبينا (ص) كانوا يتكلمون بالعربية.
[7.73-78]
{ وإلى ثمود أخاهم صالحا } ثمود اسم قبيلة مسماة باسم ابيهم ثمود من اولاد سام بن نوح (ع) وصالح (ع) كان من اولاده، او ثمود اسم قرية صغيرة على ساحل البحر لا تكمل اربعين بيتا كما فى الخبر { قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جآءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية } هذه ناقة الله مبتدء وخبر مستأنف لبيان البينة ولكم حال عن ناقة الله، او عن آية، او خبر بعد خبر، وآية حال مترادفة، او متداخلة، او منفردة، او ناقة الله بدل من هذه، او عطف بيان ولكم خبر وآية حال من المستتر فيه { فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم واذكروا } تذكير للنعم بعد التهديد من النقم { إذ جعلكم خلفآء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال } التى هى خزنتها { بيوتا فاذكروا آلآء الله } تعميم بعد تخصيص { ولا تعثوا في الأرض مفسدين قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا } دينا او مالا او حالا او جسما { لمن آمن منهم } بدل من قوله للذين بدل الكل ان كان المراد الاستضعاف فى الدين والطريقة، او بدل البعض ان كان المراد مطلق الاستضعاف { أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه } استهزؤوا بهم { قالوا } فى جوابهم من غير مبالاة باستهزائهم زائدا على الجواب الذى هو الاقرار برسالته بالانقياد لما ارسل به والطاعة له { إنا بمآ أرسل به مؤمنون قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون فعقروا الناقة } بتحريك بعضهم ورضا بعض وعقر بعض { وعتوا عن أمر ربهم } على لسان صالح وهو قوله فذروها تأكل فى ارض الله او عن مطلق امره على لسان نبيه ولم يطيعوه فى شيء منه، او عن امر ربهم الذى هو العقل وحكمه فانه امر تكوينى { وقالوا } تجريا على الرب ورسوله { ياصالح ائتنا بما تعدنآ إن كنت من المرسلين فأخذتهم الرجفة } الزلزلة ولا ينافيها قوله تعالى فاخذتهم الصيحة كما فى سورتى هود والحجر لان الزلزلة كانت مسببة عن الصيحة { فأصبحوا في دارهم جاثمين } ملزقين بالارض والجثوم اللزوم بالمكان.
[7.79]
{ فتولى عنهم } بعد ما ابصرهم صرعى، والاتيان بالمضارع فى قوله ولكن لا تحبون الناصحين لتصوير المضى حالا احضارا له واشارة الى ان هذا كان ديدنهم كأنه لا ينفك عنهم حتى بعد الموت، او المعنى فتولى عنهم بعد اتمام الحجة عليهم والاتيان به مصدرا بالفاء بعد ذكر اهلاكهم لانه تفصيل لسبب الاهلاك ومن قبيل عطف التفصيل على الاجمال { وقال } تحسرا او تبريا { ياقوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين } قصة صالح وناقته وكيفية خروجها باقتراحهم عن الجبل ومتاركته مع قومه وكيفية عقر الناقة واهلاكهم مذكورة فى المفصلات.
[7.80-81]
{ ولوطا } عطف على نوحا ولوط (ع) كان ابن خالة ابراهيم (ع) وكانت سارة زوجة ابراهيم (ع) اخت لوط وخرج ابراهيم (ع) من بلاد نمرود الى الشام ومعه لوط وسارة وخلف لوطا بادنى الشامات للدعوة وذهب هو الى اعلى الشامات { إذ قال لقومه } فى الدعوة والمعاشرة لا فى النسب والملة { أتأتون الفاحشة } المعهودة وهى اتيان الرجال والاعراض عن النساء { ما سبقكم بها من أحد من العالمين إنكم لتأتون الرجال شهوة } صرح بما كنى عنه اولا تفضيحا وتوبيخا ولذلك اتى به مؤكدا بتوكيدات توكيدا للتوبيخ { من دون النسآء بل أنتم قوم مسرفون } يعنى لستم عادلين بل انتم قوم مسرفون، فهو من قبيل العطف باعتبار المعنى.
[7.82]
{ وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم } يعنى ما كان لهم جواب يصلح لمقابلة محاجته ونصحه ولذا عدلوا عن المحاجة اللسانية الى المغالبة القالبية وعللوه بما هو دليل صحة نصحه، فقالوا { إنهم أناس يتطهرون } من الفواحش وامثال افعالنا.
[7.83-84]
{ فأنجيناه } بعد اتمام الحجة عليهم { وأهله إلا امرأته } فانها كانت تسر الكفر وتوالى اهل القرية { كانت من الغابرين وأمطرنا عليهم مطرا } عجيبا وهو امطار الحجر { فانظر } يا محمد (ص) او يا من يمكن منه النظر { كيف كان عاقبة المجرمين } فى الخبر ان لوطا (ع) لبث فى قومه ثلاثين سنة وكان نازلا فيهم ولم يكن منهم يدعوهم الى الله وينهاهم عن الفواحش ويحثهم على الطاعة، فلم يجيبوه ولم يطيعوه وكانوا لا يتطهرون من الجنابة بخلاء اشحاء على الطعام فاعقبهم البخل الداء الذى لادواء له فى فروجهم، وذلك انهم كانوا على طريق السيارة الى الشام ومصر وكان ينزل بهم الضيفان فدعاهم البخل الى ان كانوا اذا نزل بهم الضيف فضحوه، وانما فعلوا ذلك لينكل النازلة عليهم من غير شهوة لهم الى ذلك فأوردهم بالبخل هذا الداء حتى صاروا يطلبونه من الرجال ويعطون عليه الجعل، وكان لوط (ع) سخيا كريما يقرى الضيف اذا نزل بهم فنهوه عن ذلك، فقالوا لا تقر ضيفانا تنزل بك فانك ان فعلت فضحنا ضيفك فكان لوط (ع) اذا نزل به الضيف كتم امره مخافة ان يفضحه قومه وذلك انه لم يكن للوط (ع) عشيرة فيهم.
[7.85]
{ وإلى مدين أخاهم شعيبا } نقل انهم كانوا اولاد مدين بن ابراهيم (ع) وشعيب كان منهم وسموا باسم جدهم وسميت قريتهم به ايضا وهى لا تكمل اربعين بيتا { قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جآءتكم بينة من ربكم } والبينة هى محاجته الواضحة التى لا يمكنهم ردها لانها كانت مما يرتضيها كل ذى شعور خال عن اللجاج، فان معرفة الرسول برسالته اولى من معرفته بالمعجزة او معجزة كانت له مثل معجزة صالح ولكن لم تذكر لنا { فأوفوا الكيل والميزان } يعنى بعد اتيان البينة لا عذر لكم فى عدم قبول قولى فتقبلوه واوفوا الكيل والميزان والايفاء اداء تمام ما حقه ان يؤدى والمراد ايفاء ما يتقدر بالكيل والوزن نسب اليهما لاستلزام نقصان المكيل نقصان الكيل وكذا الموزون وما يوزن به كما نسب النقص اليهما فى محل اخر، ولا يخفى عليك تعميم الكيل والميزان للمحسوس منها وغيره من الانبياء والاولياء واخلاقهما وسننهما وآدابهما ومن الكتب السماوية والشرائع الآلهية، وهكذا التعميم فى العالم الكبير والصغير { ولا تبخسوا الناس أشياءهم } اما تأكيد لايفاء الكيل والميزان على ان يكون المراد بالاشياء هى المكيلات والموزونات او يكون المراد بالمكيل والموزون هو مطلق الاشياء بناء على تعميم الكيل والميزان، فانه ما من شيء جسمانى او غير جسمانى الا يمكن فيه تحديد او تعميم بعد تخصيص على ان يكون المراد بالمكيل والموزون المتقدرين بالآلة المخصوصة، او تأسيس وتفصيل مع سابقة لكيفية المعاشرة على ان يكون المراد ببخس الناس اشياءهم اخذ الزيادة عن الحق منهم، او تخصيص بعد تعميم بناء على تعميم الكيل والوزن حتى يكون اعم من المعاملة مع الناس ومن المعاملة مع الله ويكون شاملا لجميع الاشياء وتخصيص البخس بالناس او بينهما عموم من وجه بناء على تخصيص الكيل والميزان بما يتقدر بهما سواء كان المعاملة مع الله او مع الناس وتعميم الاشياء وتخصيص البخس بالناس { ولا تفسدوا في الأرض } تعميم بعد تخصيص كسابقه او تأسيس على ان يكون المراد بالافساد اهراق الدماء والقاء العداوة بين العباد والاسر والنهب والتعدى عليهم ومنع جميع الحقوق من اهلها واعطائها لغير اهلها، او على ان يكون المراد بالافساد هو منع العباد من طريق الآخرة وهو طريق الولاية فيكون قوله: { ولا تقعدوا بكل صراط توعدون } تفسيرا له، والمراد بالارض اعم من ارض العالم الصغير والعالم الكبير { بعد إصلاحها } بالعقل فى الصغير وبالانبياء واوصيائهم فى الكبير، والمراد بهذا القيد بيان ان الواقع هكذا والاشعار بغاية قبح الافساد لا التقييد به { ذلكم } المذكور من الايفاء وترك البخس والافساد { خير لكم } مما تزعمونه خيرا من جلب النفع بالتطفيف والافساد، او المراد مطلق الفضل لا التفضيل فانه كثيرا ما يستعمل من غير ارادة التفضيل { إن كنتم مؤمنين } معتقدين بالله والآخرة شرط تهييج بناء على كون ايمانهم بالله مقطوعا به للمتكلم والمخاطب بحسب اقرارهم، او شرط تقييد بناء على كونه مشكوكا فيه او منزلا منزلة المشكوك سواء قدر الجزاء موافقا لاوفوا (الى آخره) او موافقا لقوله: ذلكم خير لكم وعلى التقييد يكون بمفهومه تهديدا لهم يعنى ان لم تكونوا مؤمنين فافعلوا ما شئتم او فليس ذلكم خيرا لكم بل لم يكن حينئذ فرق بينه وبين ضده لكم.
[7.86]
{ ولا تقعدوا بكل صراط توعدون } اخره عن قوله: ذلكم خير لكم اشارة الى عدم تسويته مع ما سبق فى القبح وانه لا يتصور فيه خير نفسانى ايضا وانه اقبح الاشياء للمؤمنين وغيره، وقيل فى نزوله: انهم كانوا يقعدون فى الطريق يتوعدون من اراد شعيبا ومن آمن به ويلقون الشبهات على الخلق باظهار اعوجاج دينه واختلال طريقه كما كان ديدن الخلق كذلك قديما وجديدا خصوصا فى زماننا هذا، او المقصود نهيهم من القعود فى طرق النفوس كالشيطان وصد سبيلهم الى الله والى خلفائه { وتصدون } عطف على توعدون { عن سبيل الله من آمن به } اى بالله يعنى تصدون من أيقن بالله عن سبيل الله التى هى قبول النبوة بالبيعة العامة او تصدون من آمن بالله بقبول الدعوة العامة وبالبيعة النبوية عن سبيل الله التى هى قبول الولاية بالبيعة الخاصة { وتبغونها عوجا } تطلبون لسبيل الله اعوجاجا حتى تظهروه على الخلق وتصدونهم عنها او تبغونها من حيث عوجها او تبغونها حال كونها معوجة يعنى ان كانت معوجة تطلبونها بخلاف ما اذا كانت مستقيمة لاعوجاجكم { واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم } بعد ما امرهم ونهاهم بضد فعلهم ذكرهم نعمة الله التى هم فيها من البركة فى النسل او فى المال ليكسر به سورة غضبهم حتى يستعدوا لقبول نصحه بتذكر النعمة وشكرها { وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين } ذكرهم النعمة التى هى اثر رحمته تعالى والنقمة اللاحقة لامثالهم بسبب الافساد التى هى اثر غضبه جمعا بين اللطف والقهر والتبشير والانذار كما هو وظيفة الدعوة والنصح.
[7.87]
{ وإن كان طآئفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطآئفة لم يؤمنوا } الاتيان باداة الشك اما للتجاهل او لشك المخاطب { فاصبروا } فانتظروا؛ الخطاب لمجموع الطائفتين وعدا للمؤمنين ووعيدا للكافرين { حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين } اما فى الدنيا بنصرة المحق على المبطل او فى الآخرة بانعام المحق والانتقام من المبطل.
[7.88]
{ قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يشعيب والذين آمنوا معك من قريتنآ } بعد العجز عن المحاجة والحجة اجابوه بالتخويف كما هو شأن اهل الزمان من المبادرة الى التهديد بالقتل ونحوه عند العجز عن الحجة { أو لتعودن في ملتنا } لما كان اعتقادهم ان شعيبا كان على ملتهم ثم خرج منها وادعى النبوة اعزازا لنفسه قالوا: لتعودن، او كان (ع) قبل التكليف مستنا بظاهر سننهم ثم خرج منها حين الرشد او حين اظهار النبوة او غلب جانب اتباعه فى اطلاق العود، عليه او العود بمعنى الصيرورة من الافعال الناقصة، وعلى اى تقدير لا يلزم منه ان يكون (ع) على ملة باطلة حتى يرد ان الانبياء (ع) معصومون عن الخطاء والشرك { قال أولو كنا كارهين } تعيدوننا فى ملتكم يعنى ان الدخول فى الملة حقيقة لا يكون الا عن اعتقاد بصحتها، ولا يقع الاعتقاد بصحة ملة الا من حجة، ولا حجة لكم على صحتها بل لى الحجة على بطلانها فكيف يتصور لى الدخول فى ملتكتم مع كراهتى للدخول فيها.
[7.89-90]
{ قد افترينا على الله كذبا } مصدر تأكيدى او الكلام مبتن على تجريد الافتراء من مفهوم الكذب { إن عدنا في ملتكم } يعنى ان عدنا فى ملتكم يلزمنا الافتراء على الله وهو الذى افر منه واذمكم عليه، ولزوم الافتراء اما باعتبار ادعاء النبوة من الله، او باعتبار تصحيح ملتهم مع انها عند الله باطلة، او باعتبار ابطال ملتهم قبل العود فانه يلزم عند العود فيها افتراء ابطالها، او باعتبار ابطال ملته بعد الدخول او باعتبار الكل { بعد إذ نجانا الله منها } وفى اتيان نجينا دون اخرجنا دلالة على انه (ع) لم يكن على ملتهم، ولما كان المفهوم من قولهم او لتعودن فى ملتنا بحسب المقام تهديدهم باجبار العود لم يكتف فى الجواب بقوله اولو كنا كارهين واتى بما يدل على انهم لا يقدرون على الاجبار الا اذا شاء الله ليكون ردا عليهم واظهارا لدعوى التوحيد بوجه آخر فقال { وما يكون لنآ } يعنى ما يمكن لنا فلا يمكن لكم اجبارنا ايضا { أن نعود فيهآ إلا أن يشآء الله ربنا } التوصيف للاشارة الى ان له التصرف والتعريض بعدم جواز تصرف الكفار فى وجودهم ليصير كالعلة لتعلق العود على المشية { وسع ربنا كل شيء علما } كرر ربنا لازدياد تمكن ربوبيته والجملة اما حال من الله او مستأنفة جوابا لسؤال محتمل او للمدح { على الله توكلنا } وضع الظاهر موضع المضمر تمكينا له بالآلهية فى النفوس واشعارا بعلة الحكم { ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق } التجأ الى الله واستغاث منه بعد ما حاج قومه وأجابهم بما أجابهم ولم ينجع فيهم، والفتح بمعنى القضاء او بمعنى الفصل او من الفتح الذى يستعمل فى الامور الصعبة { وأنت خير الفاتحين وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون } فى الدنيا بعدم عزتكم فى الخلق وعدم حسن معاشرتهم معكم، وفى الآخرة باستحقاقكم العذاب لضلالتكم وعدم شفيع لكم لانحرافكم عن الاصنام وامثالها، وعن السيرة التى شاهدناها من آبائنا وكنا عليها واعتدناها وما تضررنا بها.
[7.91]
{ فأخذتهم الرجفة } الزلزلة ولا ينافى هذا ما فى سورة هود من قوله تعالى واخذت الذين ظلموا الصيحة فى حق قوم شعيب لان الزلزلة قلما تنفك عن الصيحة { فأصبحوا في دارهم جاثمين } جثم الانسان من باب ضرب ونصر لزم مكانه فلم يبرح او وقع على صدره او تلبد بالارض.
[7.92]
{ الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها } اى فى الدار سواء اريد منها القرية او الدور، والمعنى المنزل ووضع الموصول موضع المضمر اشعارا بعلة الحكم وذما لهم بهذا الوصف وتمكينا له فى الاذهان ليكون عبرة ولذلك كرره وقال { الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين } وهو رد لقولهم لئن اتبعتم شعيبا انكم اذا لخاسرون ولكونه ردا عليهم جاء بضمير الفصل للاشارة الى الحصر الاضافى.
[7.93]
{ فتولى عنهم } بعد اهلاكهم او قبل اهلاكهم، واتيان الفاء للترتيب فى الاخبار لا فى التحقق { وقال يقوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين } اى كيف احزن عليهم لهلاكهم مع كفرهم او كيف ادعو لهم ولا ادعو عليهم.
[7.94]
{ ومآ أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأسآء } البأساء الشدة والفقر والشدة فى الحرب { والضرآء } فى الاموال والانفس { لعلهم يضرعون } اعلم، ان المانع من قبول النبوة والانقياد تحت احكام القالب وكذا من قبول الولاية والانقياد تحت احكام القلب هو استبداد الانسان بالرأى واستقلاله فى الأمر وظن عدم احتياجه الى غيره، وكل ذلك من صفات النفس والخيال، وهذه هى المانعة من ظهور حقية المحق وبطلان المبطل، ولما كان تمامية الدعوة بوجود الداعى ودعوته واستعداد القابل واستحقاقه وانتفاء المانع ومنعه فاذا اراد الله تعالى هداية قوم ودعوتهم الى الحق، سواء كان ذلك فى العالم الكبير او الصغير بعث اليهم من يدعوهم اليه ليتحقق الدعوة واخذ المدعوين بالبأساء والضراء، ليستعدوا بذلك ويرتفع المانع من قبول دعوة الداعى والحاجب من ظهور حقيته وليتضرعوا ويلتجؤا بترك الاستبداد والانانية حتى يستحقوا بذلك رحمة الله وقبول دعوت الداعى.
[7.95]
{ ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة } يعنى عادتنا الابتلاء تارة بالسيئات وتارة بالحسنات ليتم حجتنا ودعوتنا ولم نجعلهم مسلوبى الاختيار فى قبول الدعوة فانه فى اجبارهم لا يحصل المطلوب من امتياز السعيد عن الشقى وعمارة الدارين { حتى عفوا } محوا عن قلوبهم آثار البأساء والضراء والمهما او محوا تضرعهم والتجاءهم وازادوا فى المال والاولاد او زادوا فى العلم فبطروا { وقالوا } حالا او قالا { قد مس آباءنا الضرآء والسرآء } يعنى ان الضراء والسراء من عادة الدهر قالوا ذلك للتلويح بانه لا ينبغى ترك التمتع ولا الالتجاء والتضرع { فأخذناهم بغتة } من غير تقديم امارات { وهم لا يشعرون } لعدم تقدم الامارات.
[7.96]
{ ولو أن أهل القرى } قرى العالم الكبير او قرى العالم الصغير { آمنوا } بالبيعة العامة { واتقوا } بالبيعة الخاصة فان التقوى الحقيقية لايمكن حصولها الا بالولاية الحاصلة بالبيعة الخاصة، لان حقيقة التقوى كما سبق هى التحرز عن الطريق المعوجة النفس التى توصل السالك الى ملكوت السفلى، وبعبارة اخرى هى التحرز عن السلوك الى الملكوت السفلى ودار الجنة ولا يمكن ذلك التحرز الا بامتياز الطريق المستقيم الذى يوصل سالكه الى الملكوت العليا وسلوك ذلك الطريق، ولا يحصل الامتياز الا بالولاية الحاصلة بالبيعة الخاصة وقبول الدعوة الباطنة لان بها انفتاح باب القلب الى الملكوت العليا وظهور طريقه اليها الذى هو الطريق المستقيم، وللاشارة الى هذا المعنى اخر التقوى ههنا عن الايمان وان كانت بمعنى آخر مقدمة على الايمان، او المعنى، لو ان اهل القرى آمنوا بالايمان الخاص الحاصل بالبيعة الخاصة الولوية واتقوا ما ينافى ايمانه الداخل فى قلبه من الفعلية الحاصلة فى قلب المؤمن من قبول الولاية ومن الذكر المأخوذ من صاحبه ومن الفكر الحاصل من مداومة الذكر الذى هو ملكوت الامام وصورته المثالية التى تظهر على قلب المؤمن السالك ويشاهدها فى مرآة صدره؛ هذا فى الكبير، واما فى الصغير فالمعنى لو ان اهل القرى آمنوا واذعنوا بحكومة العقل ولا سيما العقل المنقاد لولى الامر واطاعوه فى حكومته واتقوا من مخالفة احكامه { لفتحنا عليهم بركات من السمآء والأرض } اعلم، ان الانسان بحسب التحليل الاول ينحل الى جزء روحانى سماوى وجزء جمسانى ارضى، وله بحسب كل جزء حاجات وطلبات وملائمات ومنافرات وهما اللتان يعبر عنهما بالخيرات والشرور، والبركة هى الزيادة والكثرة فى الخيرات فاذا آمن الانسان وانقاد لكثر خيراته الجسمانية الحاصلة من الارض وخيراته الروحانية الحاصلة من السماء، وايضا كثر خيراته الروحانية والجسمانية من اعتناق سماوات الطبع مع ارض الطبع، ومن اعتناق سماوات الارواح مع اراضى الاشباح النورية والظلمانية ذلك تقدير العزيز العليم { ولكن كذبوا } الرسل (ع) واوصياءهم والعقل وحكمه { فأخذناهم } اى عاقبناهم { بما كانوا يكسبون } من نتائج اعمالهم وتكذيبهم.
[7.97]
{ أفأمن أهل القرى } اما بتقدير معطوف بين الهمزة والفاء اى الم يؤمنوا بعد ذلك فأمنوا، او هو على التقديم والتأخير معطوف على اخذناهم بتقدير القول والتقدير فيقال بعد ذلك: آآمن اهل القرى { أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نآئمون } والمقصود من اهل القرى المكذبون لمحمد (ص) والواقفون من الايمان به.
[7.98]
{ أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى } وقت ارتفاع الشمس { وهم يلعبون } لما كان المقام مقام التهديد كرر اهل القرى ولفظ بأسنا جريا على ما عليه العرف فى المخاطبات فانهم كثيرا ما يكررون الالفاظ من شدة الغيظ او لتمكين التهديد.
[7.99]
{ أفأمنوا مكر الله } اتى بالفاء لتفاوت ما بين البأس حين الغفلة والمكر بخلاف بأس الليل وبأس الضحى، فان اتيان عذاب الله اما مع تقدم امارات له او من غير تقدم امارات وهو البأس بغتة حين النوم او حين اللعب او مع تقدم امارات ضده وهو المسمى بالاستدراج والمكر لشباهته بمكر المخلوق { فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون } بنقص عقولهم التى هى بضاعتهم فان العاقل حين تجدد النعمة يحتمل النقمة بالنعمة فيخاف عاقبتها بخلاف الجاهل فان نظره الى صورة النعمة لا يتجاوزها الى احتمال اندراج النقمة فيها.
[7.100]
{ أولم يهد } قرئ بالنون وبالغيبة وعلى هذا القراءة فالفاعل ضمير المصدر اى الم يقع الهدى او ضمير أخذ المكذبين بما كانوا يكسبون، او الفاعل قوله ان لو نشاء اصبناهم يعنى الم يهد قدرتنا على الاصابة ان شئنا، بمعنى علمهم بقدرتنا من ملاحظة حال الماضين { للذين يرثون الأرض } اللام للتقوية او لتضمين يهد معنى يبين اى الم يبين للذين يرثون الارض { من بعد أهلهآ } او من اهلاكنا اهل الارض { أن لو نشآء } اى انه لو نشاء وهو مفعول ثان ليهد او فاعل كما ذكر { أصبناهم بذنوبهم } كما سمعوا وشاهدوا من الماضين { ونطبع على قلوبهم } عطف على اصبناهم او على الم يهد فان الاستفهام التوبيحى يقرر ما بعده نفيا كان او اثباتا كأنه قيل: ما يهتدون الى طريق الآخرة والتوحيد ونطبع او هو مستأنف بمعنى ولكن نطبع على قلوبهم { فهم لا يسمعون } الخبر.
[7.101]
{ تلك القرى نقص عليك من أنبآئها } بعض انبائها { ولقد جآءتهم رسلهم } استخدام فى الضمير او المراد بالقرى اهلها مجازا { بالبينات } باحكام الرسالات او الحجج والمعجزات الواضحات { فما كانوا ليؤمنوا } دخول كان فى مثله تأكيد النفى { بما كذبوا من قبل } من احكام العقل والنبوة التكوينية، فان من انقاد للعقل قبل ظهور دعوة النبى يقبل دعوة النبى ومن كذب العقل يكذب النبى لا محالة لان النبى عقل بوجه والعقل نبى بوجه، او بما كذبوا فى الذر كما فى الاخبار، وبعد التحقيق يرجع التكذيب فى الذر والتكذيب بالعقل الى امر واحد { كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين } يعنى كما طبع الله على قلوب اهل هذه القرى حتى لا يؤمنوا مع ظهور الحق يطبع الله على قلوب جملة الكافرين.
[7.102]
{ وما وجدنا لأكثرهم من عهد } بمنزلة التعليل للطبع والمراد بالعهد هو العهد مع النبى (ص) او الولى وبعبارة اخرى هو عقد الاسلام او الايمان، او المراد بالعهد هو الفعلية الحاصلة من عقد البيعة يعنى ما عاهدوا او عاهدوا وأبطلوا؛ ولا ينافى ذلك ما ورد فى الاخبار من تفسير العهد بوفاء العهد الحاصل فى الذر فان المراد بالوفاء بالعهد فى الذر هو قبول النبوة او الولاية { وإن وجدنآ } انه وجدنا { أكثرهم لفاسقين } خارجين من حكومة العقل، فان الفسق هو الخروج من تحت حكم الله سواء كان على لسان النبى الخارجى او الباطنى وبعد تفسير العهد بما ذكر فالاولى تفسيره بالخروج من حكومة النبى الباطنى موافقا لما سبق فى تفسير قوله: فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل.
[7.103]
{ ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنآ } التسع { إلى فرعون وملئه فظلموا بها } يعنى ظلموها لانهم وضعوا موضع الاقرار بما ينبغى الاقرار به لوضوحه وظهوره الكفر به، ولذا بدل الكفر بالظلم وعداه بالباء على تضمين معنى الكفر، او مثل معنى الالصاق، او ظلموا موسى بسبب الآيات التى هى اسباب الطاعة فيكون اشارة الى نهاية وقاحتهم وظلمهم { فانظر كيف كان عاقبة المفسدين } من اغراق فرعون وملائه واهلاك الامم السابقة بما اهلكوا به.
[7.104-105]
{ وقال موسى يفرعون إني رسول من رب العالمين } اليكم { حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق } كان القياس ان يجعل ان لا اقول على الله الا الحق مرفوعا بحقيق ويجعل مدخول على هو المتكلم كما قرئ به، لكنه قلب مجازا للمبالغة فى الصدق كأنه امر متجوهر والمتكلم من اوصافه، او للاشارة الى ما هو حقيقة الامر من اصالة الوجود واعتبارية المهيات فان الانسان على المذهب الحق نحو من الوجود متحدد بالحدود المتعينة وصفات الوجود متحدة معه والتغاير فى مفهومها فقط، والحدود امور اعتبارية عدمية لا حقيقة لها والوجودات الامكانية لا استقلال لها ولا انانية بل هى متعلقات محضة وفقراء الى الله والله هو الغنى، والانانية التى هى عبارة عن الاستقلال انما هى باعتبار الحدود العدمية فهى من اعتبارات الانسان وتابعة لحقيقته لا انها حقيقته فهى تابعة لصدقه الذى هو حقيقته، فصح ان يقال انا حقيق على الصدق بهذا الاعتبار كما يصح ان يقال حقيق ان لا اقول على الله الا الحق على بتشديد الياء باعتبار ملاحظة مفهومى الانانية والصدق وبهذا الاعتبار قيل: حق القضايا التى تنعقد بين الممكنات ان يجعل الموضوع نحوا من الوجود والمحمول مهية من المهيات فيقال: الوجود انسان مثلا، لان الانسانية التى هى عبارة عن حد الوجود عرض تابع للوجود والوجود متبوع، وقيل فيه بتضمين حقيق معنى حريص وكون على بمعنى الباء وغير ذلك من الوجوه، وقرئ بوجوه أخر غير ما ذكر ايضا، ولما كانت الدعاوى العظيمة من شأنها ان لا يسامح فيها ولا تسع الا ببينة وشاهد بادر اليها قبل مطالبتها فقال { قد جئتكم ببينة من ربكم } فاقلبوا قولى ولا تخالفوا { فأرسل معي بني إسرائيل } ولما كان صحة الدعوى وسقمها منوطة بالبينة طالبها منه ولم يتعرض لغيرها.
[7.106-110]
{ قال إن كنت جئت بآية فأت بهآ إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضآء للناظرين قال الملأ من قوم فرعون } اى من خواصهم خطابا للملأ الاخرى حوله من غير الخواص ولعل فرعون شاركهم فى هذا القول بقرينة قوله فماذا تأمرون فلا ينافيه ما فى الشعراء من قوله تعالى: قال للملأ حوله ويحتمل ان يكون قوله تعالى: يريد ان يخرجكم مستأنفا من فرعون وان يكون هذا مع ما فى الشعراء فى مجلسين { إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون } وتشيرون.
[7.111-113]
{ قالوا } قالت الخواص او الملأ حوله غير الخواص { أرجه وأخاه } من الارجاء بمعنى التأخير يعنى اخر امرهما حتى يمكن لك التدبير، قرئ ارجئه على الاصل بسكون الهمزة وضم الهاء، وارجئه بسكون الهمزة وكسر الهاء على خلاف القياس، وارجهى من ارجيت بكسر الهاء مع الاشباع، وارجه بكسر الهاء بدون الاشباع وارجه بسكون الهاء مع الاشباع وارجه بكسر الهاء بدون الاشباع وارجه بسكون الهاء تشبيها له بالواو والياء الضمير من كما قيل، او تشبيها لهاء الضمير بهاء السكت او اجراء للوصل مجرى الوقف { وأرسل في المدآئن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم وجآء السحرة فرعون } يعنى فأرسل وحشروا وجاؤا فرعون { قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين } وقرئ بهمز واحد على المعاهدة والميثاق.
[7.114-115]
{ قال نعم وإنكم لمن المقربين قالوا يموسى إمآ أن تلقي } يعنى ابتداء { وإمآ أن نكون نحن الملقين } خيروه اظهارا للادب او الجلادة وعدم المبالاة بما يقابل سحرهم، لكن لرغبتهم فى الالقاء ابتداء غيروا النظم واكدوا الجملة وان ذكروا القاءهم مؤخرا جلادة او مراعاة للادب.
[7.116]
{ قال ألقوا } قدمهم على نفسه كرما ومقابلة لادبهم بترجيحهم على نفسه وقلة مبالاة بسحرهم { فلمآ ألقوا سحروا أعين الناس } السحر يقال لكل علم وعمل خفى مدركه ومأخذه سواء كان بتمزيج القوى الروحانية والطبيعية او بالتصرف فى القوى الطبيعية فقط، ويقال لتمزيج القوى الروحانية والطبيعية واحداث آثار خارجة عن مجرى العادة ومنه التصرف فى المدارك البشرية بحيث يرى ويسمع ما لا حقيقة له، وكأنهم سحروا بتسخير الروحانيات الخبيثة وتمزيجها مع القوى الطبيعية واحداث آثار خارجة عن العادة ولذا قال سحروا اعين الناس، فما نقل: انهم القوا حبالا وعصيا مجوفة مملوة من الزيبق؛ ان كان صحيحا كان احد جزئى سحرهم من القوى الطبيعية والا لم يكن لنسبة السحر الى اعين الناس حينئذ وجه { واسترهبوهم وجآءوا بسحر عظيم } نقل ان الساحة التى القوا سحرهم فيها كانت ميلا فى ميل وملاؤا الوادى من الحبال والخشب الطوال المتحركة كأنها افاع عظيمة ولذلك اوجس فى نفسه خيفة موسى (ع).
[7.117]
{ وأوحينآ إلى موسى.. } من الافك بمعنى الصرف وقلب الشيء عن وجهه نقل، انها لما تلقفت حبالهم وعصيهم وابتلعتها باسرها اقبلت على الحاضرين فهربوا وازدحموا حتى هلكت جمع كثير منهم، ثم اخذها موسى (ع) فصارت عصا فأيقن السحرة انها لو لم تكن آلهية لبقى حبالهم وعصيهم واعترفوا برسالة موسى (ع) ونقل، انهم قبل الموعد آمنوا بموسى (ع) خفية واظهروا ايمانهم يوم الموعد.
[7.118-120]
{ فوقع الحق } اى ثبت { وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا } اى قوم فرعون والسحرة جميعا او قوم فرعون { هنالك وانقلبوا صاغرين وألقي السحرة ساجدين } كأنهم القاهم ملق من شدة اضطرابهم كأنه لم يبق لهم تماسك.
[7.121-123]
{ قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون } بينوا المجمل بالابدال منه { قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة } اى مدينة مصر { لتخرجوا منهآ أهلها } المالكين لها المتصرفين فيها وهم القبطية { فسوف تعلمون } تهديد لهم.
[7.124]
{ لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف } اليد من جانب والرجل من جانب آخر { ثم لأصلبنكم أجمعين } تعذيبا وتفضيحا لكم وعبرة لغيركم توعيد وتغليظ.
[7.125]
{ قالوا } اظهارا لعدم مبالاتهم بتوعيده { إنآ إلى ربنا منقلبون } فالموت والقتل كان خيرا لنا فتهديدك بالقتل بشارة لنا لا تهديد كما زعمت، وفى قولهم: لا ضير انا الى ربنا منقلبون؛ اشارة الى هذا، او المقصود انا نحن وانتم الى ربنا منقلبون آخر الامر فيجازى كلا بحسب عمله وفى قولهم { وما تنقم منآ إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جآءتنا }.
[7.126]
{ وما تنقم منآ إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جآءتنا } اشعار بهذا المعنى يعنى نحن وانتم راجعون الى الله والحال ان انتقامكم منا ليس الا بسبب ايماننا بربنا فانتم اولى بالخوف منا فيكون تهديدا لهم، ولما اظهروا عدم مبالاتهم بتهديده خافوا من عدم ثباتهم وصبرهم على القطع والصلب فتضرعوا الى الله تعالى واستغاثوا وقالوا { ربنآ أفرغ علينا صبرا } عظيما ولذلك قالوا افرغ اشارة الى كثرته تشبيها له بالماء الكثير ونكروا صبرا { وتوفنا مسلمين } لنبيك مسلمين لقضائك، نقل انه فعل بهم ما أوعدهم ونقل، انه لم يتيسر له.
[7.127]
{ وقال الملأ من قوم فرعون } بعد ظهور امر موسى (ع) وقوته لفرعون { أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض } ارض مصر بتغيير الخلق ودعائهم الى مخالفتك وترك دينك وترك العبادة لك { ويذرك } اى عبادتك او سلطنتك { وآلهتك } اصنامك التى تعبدها او الاصنام التى صنعتها لان يعبدوها ليتقربوا بها اليك كما قيل: انه صنع لهم اصناما ليعبدوها للتقرب اليه، وقرئ وآلهتك مصدرا بمعنى عبادتك { قال } جوابا لهم { سنقتل أبنآءهم ونستحيي نسآءهم وإنا فوقهم قاهرون } قاله اظهارا لتسلطه وتسكينا لقومه مع خوفه من موسى (ع) ولما وصل ذلك الخبر الى موسى (ع) وقومه ورأى فزعهم من تهديده.
[7.128]
{ قال موسى لقومه } تسلية لهم ووعدا { استعينوا بالله } بالتضرع عليه والالتجاء اليه { واصبروا } على يسير اذاه { إن الأرض لله } فى موضع التعليل { يورثها من يشآء من عباده } لا لفرعون وقومه حتى يفعلوا فيها ما يشاؤن فالتجؤا اليه واسئلوا منه وخافوا منه لا من غيره { والعاقبة } الحسنى التى هى الآخرة ودار الكرامة { للمتقين } الجزع عند الشدائد، وعد وتذكير لما وعدهم من اهلاك القبط وتسليطهم على مصر فى الدنيا ومن الجنان فى الآخرة.
[7.129-130]
{ قالوا } تضجرا بوعده وعدم انجازه { أوذينا من قبل أن تأتينا } متسلين بوعد مجيئك { ومن بعد ما جئتنا } فبم نتسلى بعد مجيئك { قال } بعد تضجرهم بوعده { عسى ربكم } اتى بكلمة الترجى وصرح بهم بعد ما وعدهم بالقطع وعرض بهم خوفا من انكارهم وردهم وتسلية لهم تصريحا { أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض } ارض مصر { فينظر كيف تعملون ولقد أخذنآ آل فرعون بالسنين } السنة غلبت على عام القحط ولذا اطلق السنين { ونقص من الثمرات } بعاهات اخرى غير الجدب { لعلهم يذكرون } ان الخصب والسعة بقدرة الله لا باختيارهم فيؤمنوا برسله ولا يجحدوه، فان المانع من قبول الحق هو قوة الخيال وجولانه فى الخواطر وعند الشدائد يضعف الخيال ولا يمنع من تذكر الحق وقبوله.
[7.131]
{ فإذا جآءتهم الحسنة قالوا لنا هذه } بيان لغاية سفاهتهم ووخامة رأيهم حيث عقبوا ما غايته التذكر وقبول الحق بالتأنف وجحوده، وفى الاتيان باذا ومضى الفعل وتعريف الحسنة اشارة لطيفة الى كثرة الحسنة بحيث لا ينكر تحققها ومعهوديتها لكثرة دورانها بخلاف قرينتها فانها لندورها كأنها مشكوك فيها ولم تتحقق وان تحقق فرد منها فكأنها امر منكور غير معهود ولذلك اتى بان واستقبال الفعل وتنكير السيئة فقال { وإن تصبهم سيئة } والمراد بالحسنة ههنا ما يعدونه اهل الحس حسنة من الصحة والخصب وسعة المال وبالسيئة ما يقابلها { يطيروا بموسى ومن معه } كانوا اذا استقبلهم طائر وقتما ارادوا مهما فان طار الى اليمين او الى اليسار تفألوا وتشأموا كما قيل (وقيل: كانوا يتشأمون بالبارح وهو الذى يأتى من قبل الشمال ويتبركون بالسابح وهو الذى يأتى من قبل اليمن) والاسم منه الطيرة والطائر ثم غلب التطير، ومشتقاته فى التشأم كالتفأل فى التيمن، ثم استعمل التطير فى كلما يتشأم به وكان رؤساؤهم جعلوا ما به التفأل والتشأم من امارات الخير والشر ثم عده جهلاؤهم من اسبابهما ولذلك قال فى الرد عليهم { ألا إنما طائرهم عند الله } يعنى سبب خيرهم وشرهم عند الله { ولكن أكثرهم لا يعلمون } ان سبب الخير والشر عند الله وان الفاعل هو الله وان ليس للخلق الا القبول وليس ما يعدونه سبب الخير او الشر الا امارة ان كان من الامارات.
[7.132-135]
{ وقالوا } زيادة فى الوقاحة { مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها } لتتصرف فينا وتغيرنا عما نحن عليه بتصرفات خفية عنا { فما نحن لك بمؤمنين فأرسلنا عليهم الطوفان } ما يطوف بهم من الماء وفسر بالطاعون { والجراد والقمل } هو صغار الجراد التى لا جناح لها او صغار الذر او دويبة صغيرة لها جناح احمر او دواب كالقردان، وتفسيره بقمل الناس بعيد لان قمل الناس مفتوح الفاء مخفف العين كما قرئ به، وحينئذ يكون المراد به القمل المعروف { والضفادع والدم آيات مفصلات } واضحات او منفصلات اذ كان بين كل آية وآية سنة، وامتداد كل منها كان اسبوعا { فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين ولما وقع عليهم الرجز } العذاب فيكون عبارة عن الآيات المذكورة ويكون الكلام بيانا لوقاحة اخرى لهم وعدم ثباتهم على عهدهم، او المراد به الثلج كما نسب الى الرضا (ع) وكانوا لم يعهدوا مثله قبله { قالوا يموسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرآئيل فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون } كما هو ديدن ارباب النفوس التى هى كالخبيثات من النساء.
[7.136]
{ فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم } من عطف التفصيل على الاجمال او بتضمين انتقمنا معنى اردنا { بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين } من حيث انها آيات ولذلك كذبوا بها فيكون من العطف للتعليل، ورد فى الخبر: ان السحرة لما سجدوا لموسى (ع) وآمن به الناس قال هامان لفرعون: ان الناس قد آمنوا بموسى (ع) فانظر من دخل فى دينه فاحبسه فحبس كل من آمن به من بنى اسرائيل فجاء اليه موسى (ع) فقال له: خل عن بنى اسرائيل؛ فلم يفعل، فأنزل الله عليهم فى تلك السنة الطوفان فخرب دورهم ومساكنهم حتى خرجوا الى البرية وضربوا الخيام، فقال فرعون لموسى (ع): ادع حتى يكف عنا الطوفان حتى اخلى عن بنى اسرائيل واصحابك، فدعا موسى (ع) ربه فكف عنهم الطوفان وهم فرعون ان يخلى عن بنى اسرائيل فقال هامان: ان خليت عن بنى اسرائيل غلبك موسى (ع) وازال ملكك فقبل منه ولم يخل عن بنى اسرائيل، فانزل الله عليهم فى السنة الثانية الجراد فجردت كل شيء كان لهم من النبت والشجر حتى كانت تجرد شعرهم ولحيتهم، فجزع فرعون لذلك جزعا شديدا وقال: يا موسى ادع ربك ان يكف عنا الجراد حتى اخلى عن بنى اسرائيل واصحابك، فدعا موسى ربه فكف عنهم الجراد فلم يدعه هامان ان يخلى عن بنى اسرائيل، فأنزل الله عليهم فى السنة الثالثة القمل فذهبت زروعهم واصابتهم مجاعة شديدة؛ فقال مقالته السالفة فكشف عنهم القمل وقال: اول ما خلق الله القمل فى ذلك الزمان فأرسل عليهم بعد ذلك الضفادع فكانت تكون فى طعامهم وشرابهم ويقال: انها تخرج من ادبارهم وآذانهم وآنافهم فجزعوا وقالوا مثل مقالتهم الاولى ولم يفوا؛ فحول الله عليهم النيل دما فكان القبطى رآه دما والاسرائيلى ماء، والقبطى يشربه دما والاسرائيلى ماء، فيقول القبطى للاسرائيلى: خذ الماء فى فمك وصبه فى فى فكان اذا صبه فى فمه يحول دما، فجزعوا وقالوا كما قالوا؛ ولم يفوا فأرسل الله تعالى عليهم الرجز وهو الثلج فماتوا وجزعوا واصابهم ما لم يعهدوه فشكف عنهم الثلج فخلى عن بنى اسرائيل فاجتمعوا وخرج موسى (ع) من مصر واجتمع اليه من كان هرب من فرعون وبلغ فرعون ذلك فقال هامان: قد نهيتك ان تخلى عن بنى اسرائيل فقد استجمعوا اليه فجزع فرعون وبعث فى المدائن حاشرين وخرج فى طلب موسى (ع) فغرق فى اليم.
[7.137]
{ وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها } يعنى مشارق ملك مصر ومغاربها او ملك مصر والشام { التي باركنا فيها } بكثرة النعم من الحبوب والثمار وغيرها { وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرآئيل } عدته الحسنى بايراث الارض بقوله تعالى:
ونجعلهم الوارثين
[القصص:5]، اعلم، ان الكلمة غير مختصة بالحروف المركبة الحاصلة من تقاطع الهواء التنفسى مع مخارج الحروف الموضوعة لمعنى من المعانى بل كل ما دل على غيره من الكلمات العينية فهو كلمة، بل التحقيق ان الحق المضاف الذى هو المشية التى هى نفس الرحمن واضافته الاشراقية والرب المضاف باعتبار تعلقه بالمخارج الحقيقية التى هى الاعيان الثابتة والمهيات الاعتبارية كلمته تعالى باعتبار وحدته وكلماته باعتبار تعدده فان له فى نفسه وحدة حقيقية ظلية وباعتبار المهيات كثرة اعتبارية، ونحن الكلمات التامات، كما ورد عنهم عليهم السلام بهذا الاعتبار، وتسمية المشية بنفس الرحمن باعتبار تطابق العالم الصغير والكبير وتلك الكلمة باعتبارها فى نفسها تامة، وباعتبار ظهورها على غيرها توصف بالتمام وعدمه، وظهورها تامة بان تظهر بصورة الولاية والنبوة والرسالة، وتماميتها حينئذ كانت اضافية، وتماميتها الحقيقية اذا كانت بصورة الولاية المطلقة فيصير صاحبها خاتم الولاية، وبصورة النبوة المطلقة والرسالة المطلقة فيصير صاحبهما خاتم النبوة والرسالة كما فى محمد (ص ) وعلى (ع)، وتمامية النبوة والرسالة الناقصة تمامية اضافية ان تظهر بجميع ما من شأنه ان تظهر به من قبول احكامها وانجاز مواعيدها وترتب فوائدها، ومن جملة تمامية نبوة موسى (ع) ظهورها باتمام مواعيدها ورفع موانع رواجها من منع فرعون وقومه، والتوصيف بالحسنى للاشارة الى ان كلماته باعتبارها فى انفسها تتفاوت وتتصف بالحسن والاحسنية وان كان كلها باعتبار اضافتها اليه تعالى حسنة غير متصفة بعدم الحسن، وبعدما عرفت ان الرب المضاف هو الولاية المتحقق بمطلقها على (ع) وان الرسالات والنبوات والولايات الجزئية هى مراتب الولاية المطلقة وتنزلاتها وان النبوة المطلقة والرسالة المطلقة ايضا ظهور الولاية المطلقة وتحت تربيتها، علمت جواز تفسير الرب بعلى (ع) والكلمة بموسى (ع) او برسالته ونبوته { بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه } من الاصنام وعبادتها والصنائع الدقيقة وآلاتها والابنية الرفيعة وزخارفها { وما كانوا يعرشون } من كروم الجنان والقصور والرفيعة، وقوله دمرنا عطف على تمت او على صبروا، وكون التدمير سببا لتمامية الكلمة لما فيه من الدلالة على القدرة والرسالة والعبرة لسالكى الآخرة.
[7.138]
{ وجاوزنا ببني إسرآئيل البحر } بعد مهلك فرعون وايراث الارض لدعوة العمالقة وقتالهم { فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم } اى على عبادتها { قالوا يموسى اجعل لنآ إلها كما لهم آلهة } بيان لسفاهة رأيهم وانهم لما استراحوا من فرعون وقومه تركوا الانقياد واظهروا الاستبداد لغاية حمقهم وجهلم { قال إنكم قوم تجهلون } ذمهم اولا على استبدادهم لجهلهم ثم بين لهم فساد عمل القوم وبطلانه فقال { إن هؤلاء متبر ما هم فيه }
[7.139]
{ إن هؤلاء متبر ما هم فيه } من الاحوال والاخلاق والعقائد يعنى منكسر منقطع عما ينبغى الاتصال به من النبوة والولاية المتصلة بالآخرة الباقية { وباطل ما كانوا يعملون } فاسد ولا اثر له ولا فائدة مترتبة عليه.
[7.140]
{ قال أغير الله أبغيكم إلها } كرر قال اهتماما بما بعده فانه المقصود وغيره كان توطئة له فان انكار ابتغاء غير الله آلها كناية عن ابتغاء الله آلها لكون المقام مقام ابتغاء الآله { وهو فضلكم على العالمين } فى زمانكم ببعثة الرسل منكم وخلاصكم من اعدائكم وانقيادكم للرسل.
[7.141]
{ وإذ أنجيناكم من آل فرعون } عطف على قوله { أغير الله أبغيكم إلها } بتقدير اذكروا اى قال موسى (ع) اذكروا اذا انجنياكم، ونسبة الانجاء الى نفسه مع الله لكونه سببا او عطف على اورثنا بتقدير قلنا اذكروا اذا انجيناكم فيكون خطابا من الله معكم وتذكيرا لهم بالنعمة العظيمة التى هى الخلاص من شدة عذاب آل فرعون { يسومونكم } يكلفونكم { سوء العذاب } والجملة مستأنفة جواب لسؤال مقدر او حال { يقتلون أبنآءكم } بدل من الاولى بدل التفصيل من الاجمال او مسأنفة او حال مترادفة، او متداخلة { ويستحيون نسآءكم } يستبقون بناتكم للاسترقاق او يفتشون حياء نساءكم اى فروجهن لتجسس العيب كالاماء، او تجسس الحمل وقد سبق فى اول سورة البقرة تفصيله { وفي ذلكم بلاء } ابتلاء ومحنة { من ربكم } على ايدى اعدائه { عظيم } وتفسير البلاء بالنعمة وجعل الانجاء مشارا اليه بعيد.
[7.142-143]
{ وواعدنا موسى ثلاثين ليلة } وهى شهر ذى القعدة كما نقل لاعطاء كتاب فيه بيان كل شيء { وأتممناها بعشر } من ذى الحجة لسواك استاك آخر الثلاثين قبل الافطار { فتم ميقات ربه } لاعطاء الكتاب { أربعين ليلة وقال موسى } حين خرج من بين قومه للميقات { لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ولما جآء موسى لميقاتنا وكلمه ربه } التفات من التكلم الى الغيبة اشارة الى ان التكلم صدر من مقام ظهوره الذى هو الولاية المطلقة المتحقق بها على (ع) كما ان المتكلم مع محمد (ص) ليلة المعراج كان عليا (ع)، ولما سمع موسى (ع) كلامه تعالى اشتد شوقه والتهب حرارة طلبه ولم يتمالك، فطلب وسأل ما ليس له من الشهود والرؤية مع انه كان بعد فى الحد والغيبة وباقيا عليه الانانية وليس شأن المحدود ادراك المطلق ورؤيته، فان من شرائط الرؤية والادراك صيرورة الرائى سنخا للمرئى او المرئى سنخا للرائى والا فلا يقع الرؤية ولا يحصل المشاهدة؛ الا ترى ان النفس فى مشاهدة الاجسام محتاجة الى آلة جسمانية وقوة جرمانية وتلك القوة الجسمانية محتاجة الى تدريد الصورة من المادة لتجردها نحوا من التجرد، فلما لم يتمالك { قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني } فانك غير خارج من حدودك ولو شاهدتنى بحودك لفنيت فليس لك شأن رؤية المطلق { ولكن انظر إلى الجبل } جبل الحجر او جبل انانيتك { فإن استقر } الجبل لتجلى نور من انوار المطلق { مكانه فسوف تراني } مع جبل حدك وانيتك { فلما تجلى ربه } الذى هو المطلق المضاف لا المطلق المطلق { للجبل جعله } الله او الرب او التجلى { دكا } متفتتا متلاشيا { وخر موسى } لاندكاك انيته { صعقا فلمآ أفاق قال سبحانك } عن سؤالى عن مثلك ما ليس لى { تبت إليك } من سؤالى { وأنا أول المؤمنين } بأنك لا ترى لمثلى.
اعلم، ان الادراك حقيقة مشككة ذات مراتب متفاوتة فى الشدة والضعف، ولكل مرتبة من مراتبه اسم خاص وشرائط خاصة لحصولها مثلا ادراك زيد تصورا جزئيا مرتبة منه ادراكه بالبصر ويسمى رؤية، ومرتبة منه ادراكه بالخيال ويسمى تخيلا، ومرتبة منه ادراكه بالعين المثالية فى المنام ويسمى رؤيا، ومرتبة ادراكه بالعين المثالية بالكشف الصورى فى عالم المثال ويسمى كشفا صوريا وشهودا؛ والكل ادراك النفس الانسانية لشخص زيد بحيث لا يمكن لاحد ان يقول: ان زيدا بشخصه غير مدرك فى مرتبة من تلك المراتب والتفاضل بين تلك الادراكات بديهى وجدانى، فان ادراك الخيال اضعف انواع الادراك واقواها الادراك بالرؤية والادراك شهودا بالعين المثالى، وكما يسمى الادراك البصرى رؤية يسمى الادراك الكشفى رؤية كما لا يخفى، هذا فى التصورات والادراكات الجزئية وهكذا الحال فى التصديقات والادراكات الكلية، فان الحكم بكون الامير فى البلد قد يدرك توهما، وقد يدرك شكا وظنا، وقد يدرك علما عاديا وتقليديا ويقينيا برهانيا ويقينيا شهوديا والتفاضل بينها غير مخفى واقواها واتمها واشدها هو العلم الشهودى ويسمى هذا العلم الشهودى فى ذلك التصديق الشخصى رؤية باعتبار، كما يسمى علما وشهودا وعيانا وتصديقا باعتبارات اخر، وعلم من ذلك ان الرؤية غير مختصة بالرؤية البصرية المشروطة بمقابلة المرئى للرائى او بحكم المقابلة كالرؤية فى المرآة والماء وبتوسط جسم مشف وعدم القرب المفرط والبعد المفرط وعدم آفة فى العين وعمدتها التفات النفس الى الالة وفعلها، فان الادراك البصرى صفة النفس لكن فى مقامها النازل ومرتبة الباصرة بل مقولة على ادراك عين الخيال فى عالم المثال كرؤية المكاشفين والنائمين الرائين الرؤيا الصادقة، وعلى ادراك عين الخيال فى عالم الخيال كرؤية المسرسمين والمبرسمين والنائمين الرائين الرؤيا الكاذبة، فانه لا يشك احد من هؤلاء ولا ممن اطلع على عالمهم وكيفية ادراكهم ان مدركاتهم مرئيات حقيقة وانه لا يصح سلب الرؤية عنها.
فالرؤية فى المدركات المتقدرة الجزئية عبارة عن قوه الادراك وشدته بحيث لا يتصور ادراك اتم واقوى منه سواء كان بالآلة المخصوصة ام بغيرها، وسواء كان المدرك مصاحبا للمادة ام غير مصاحب، فصح اطلاق الرؤية على المتقدر المجرد عن المادة كما يصح اطلاقها على المتقدر المادى ولا اختصاص له بالمادى، وهذا التفاضل يجرى فى المدركات العقلية المجردة عن المادة والتقدر، فان العقول الكلية والملائكة المقربين قد يتوهم وجودها ثم يشتد هذا التوهم فيصير شكا ثم ظنا ثم علما عاديا وتقليديا ثم علما يقينيا برهانيا، فاذا اشتد هذا العلم بحيث يخلص العالم من المادة وغواشيها ويرفعه عن العالمين ويوصله الى المجردات حتى يشاهدها ويلحق بها صار ادراكه اشد ما يتصور وعلمه عيانا، فان شئت فسم هذا العلم العيانى رؤية فانه لا مانع من اطلاق الرؤية بهذا المعنى عليه بل حقيقة الرؤية وهى الانكشاف التام الذى لا يتصور فوقه انكشاف، وادراك هنا اتم واقوى من الانكشاف بآلة البصر وقد عرفت ان لا مدخلية لخصوص آلة البصر فى الرؤية؛ وهكذا الحال فى الحق الاول تعالى شأنه وصفاته. ثم اعلم ان المعلوم المدرك فى اى عالم كان لا بد وان يكون المدرك لذلك المعلوم بذاته او بآلاته، ووسائط دركه من سنخ ذلك العالم للزوم نحو من الاتصال او نحو من الاتحاد بين المدرك والمدرك كما قرر فى الحكميات والفلسفة الاولى؛ الا ترى ان المدركات المادية التى هى من عالم المادة لا تدرك الا بآلات مادية كالحواس الخمس الظاهرة، والمدركات الخيالية والمثالية التى هى من سنخ عالم المثال لا ترك الا بالحواس الباطنة التى هى ارفع من عالم المادة، والمعقولات التى هى ارفع من العالمين لا تدرك الا بقوة ليست من سنخ عالم المادة ولا من سنخ عالم المثال فاذا اريد ادراك العقول لا بد وان يرتفع المدرك عن العالمين ويصير عقلا مجردا عن المادة والتقدر او يتنزل العقول عن عالمها العقلى وتتمثل بصور متقدرة حتى تدرك بالمدارك المثالية ما فى نزول الملائكة على الانبياء، فما لم يرتفع الدانى او لم يتنزل العالى لا يمكن ادارك الدانى للعالى، فاذا سأل الدانى فى دنوه بلسان حاله او قاله رؤية العالى فى علوه فجوابه العتاب على هذا السؤال والمنع من مسؤله والزجر على مأموله لسؤاله ما ليس له ان يسأل.
ثم اعلم ان الانسان من اول استقراره فى الرحم جماد بالفعل وله قوة الانسانية ولما كان ضعيفا غير قابل لقبول اثر العقل جعل البارى تعالى نفس الام واسطة فى فيضان نور العقل عليه حتى اذا استكمل بحيث يستعد لقبول فيض العقل بلا واسطة يتولد وليس له حينئذ من اثر العقل الا فعلية المدارك الحيوانية الظاهرة فيتدرج فى الاستكمال بفيض العقل حتى يتحقق فيه طليعة ضعيفة من اشراق العقل، فيدرك البديهيات الاولية الكلية التى من شأنها ان يكون مدركها العقل فيتدرج فى الاستكمال ويتقوى تلك الطليعة حتى يمكنه اكتساب الكليات فيتدرج فى ذلك حتى يعاين مكتسباته فيتدرج حتى يتحقق بها وصار عالما علميا مضاهيا للعالم العينى بل عالما غيبيا محيطا بالعالم العينى، وحينئذ يصير مطلقا عن قيوده خارجا من حجبه وحدوده وله استعداد شهود الحق الاول تعالى لكن اشتداده وترقيه الى زمان البلوغ وهو زمان الاستبداد بالرأى والاستقلال فى الاختيار، وبعبارة اخرى الى زمان يمكنه ادراك خيره وشره الاخرويين كان على الصراط المستقيم بأسباب آلهية لا مدخل للعبد فيها ولا اختيار له ولذا: قيل كن مع الله كما كنت حتى كان معك كما كان، واذا وصل الى مقام البلوغ وكله الله الى اختياره ونبهه على خيره وشره على ألسنة خلفائه الظاهرة والباطنة واعانه على اختياره الخير وخذله فى اختياره الشر، فان ساعده التوفيق وتداركه جذبة من جذبات الرحمن وهى خير من عبادة الثقلين استراح من تعب السلوك ورفع القلم عنه وصار من الشيعة الذين رفع القلم عنهم، وان وكله الله الى نفسه وخذله باختياره الشقاء التحق بالشياطين، وان وفقه الله للسلوك اليه باختياره الخير والتقوى من الشر، فاما ان يسلك بقدم نفسه ويتعب نفسه فى السلوك اليه، وبعبارة اخرى اما ان يعبد الله مع بقاء حكم النفس عليه وفى قيود انانيته ويسمى تقربه حينئذ بقرب النوافل وهذا وان اتعب نفسه فى السلوك والعبادة وجاهد غاية المجاهدة لم يكن له شأنية المشاهدة والمواصلة وليس له الا الفرقة والمباعدة، او يسلك الى الله ويعبد الله من غير بقاء حكم النفس واثرها عليه ويسمى تقربه بقرب الفرائض وهذا لخروجه من حدود نفسه وقيودها وارتفاعه عن حجاب انيته له شأنية المواصلة والمشاهد بل يصير هو الشاهد والمشهود فى كل شاهد ومشهود، والبصير والمبصر والسميع والمسموع، والاول وان كان مستريحا من تعب السلوك ملتذا بلذة الشهود والها فى المحبوب ليس له كمال مقام الجمع والتجمل بالاعوان والجنود، والثانى وان كان له جمعية وسعة وتجمل ليست له لذة المشاهدة والسرور الاتم فهما ناقصان كل بوجه، والثالث له الكمال الاتم والسرور الابهى والجمال الاجمل لجمعه بين كمال الشهود والتجمل بالاعوان والجنود، وله الخلافة الكبرى والرياسة العظمى؛ اذا عرفت ذلك فقس قوله تعالى: { ولما جآء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني }؛ الى قوله
سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنآ إنه هو السميع البصير
[الإسراء:1] حتى تعرف مقام محمد (ص) فى العبادة والسلوك ومقام موسى (ع) وتعرف ان موسى (ع) سلك بقدم نفسه لا بربه ولذلك كان مستحقا لجواب لن ترانى، وان محمدا (ص) سار باسراء ربه لا بسير نفسه، وان محمدا (ص) هو السميع لكل مسموع فى مرتبته والبصير لكل مبصر فضلا عن نعمة مشاهدة ربه ورؤية آياته الكبرى كما هو الظاهر من آخر الآية فان الظاهر عدم الالتفات فى آخر الآية وتطابق ضمير انه هو السميع مع ضمير لنريه. ولما كان المتبارد الى فهم العامة من الرؤية رؤية البصر وهى ممتنعة فى حقه تعالى وكان حقيقة الرؤية فى حقه تعالى غير ممنوعة اختلفت الاخبار فى نفى الرؤية عنه تعالى واثباتها له وبما ذكرنا من التحقيق يجمع بين متخالفات الاخبار فى باب رؤية الحق تعالى وعدمها وفى تفسير هذه الآية ومن اراد الاطلاع عليها فليرجع الى الكافى والصافى.
[7.144]
{ قال } الله تعالى بعد ما اندك جبل انيته ومات عن انانيته ثم احياه الله بحيوة اخرى غير الحيوة الاولى واستحق اعطاء كتاب النبوة { يموسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي } يعنى بما به الرسالة ولذا جمعه وهو اسفار التوارة او احكام التوارة { وبكلامي } اى بشرافة كونك كليما لي { فخذ مآ آتيتك } من التوارة او احكام الرسالة اطلق الاخذ هنا وقيده فيما بعد وفى قصة يحيى وفى قصة رفع الجبل فوق بنى اسرائيل بقوله بقوة للاشارة الى عدم الحاجة اليها هنا لقوة الآخذ وعدم حاجة المأخوذ الى قوة وللاشارة الى قوة المأخوذ وضعف الآخذ فى قصة يحيى وقصة بنى اسرائيل { وكن من الشاكرين } بصرفه لاهله ومنعه من غير اهله، وروى ان سؤال الرؤية كان يوم عرفة واعطاء التوارة يوم النحر.
[7.145]
{ وكتبنا له في الألواح من كل شيء } ما يسمى شيئا { موعظة } فان فى كل شيء جهة وعظ ونصح للخير كما ان فيه جهة كثرة وحجاب عن الخير فكتبنا من كل شيء جهة وعظ فى الواح التوارة او فى الواح نفسه النبوية { وتفصيلا لكل شيء } عطف على مجموع من كل شيء موعظة لا على موعظة فقط او هو عطف على موعظة، والمعنى وكتبنا له فى الالواح من كل شيء تفصيلا لكل شيء، فان البصير المرتفع عن عالم الطبع بل عن عالم المثال يرى كل شيء فى كل شيء لكون الكل فى ذلك العالم مرائى متعاكسات يترائى كل شيء فى ذلك العالم فى كل شيء بل نقول: ظاهر الآية كون تفصيلا معطوفا على موعظة والقيود المتقدمة على المعطوف عليه معتبرة فى المعطوف بحكم العطف وقد اشتهر عن الصوفية انهم يقولون: كل شيء فى كل شيء { فخذها بقوة } اى قائلين فخذ الالواح التى فيها الموعظة وتفصيل كل شيء، او خذ الموعظة وتفصيل كل شيء، او مجموع الالواح والموعظة والتفصيل ولاخذ تفصيل كل شيء من كل شيء ههنا فى المأخوذ اضاف قوله بقوة { وأمر قومك } بأخذ الالواح والموعظة او بأخذ احسنها او بأى امر كان { يأخذوا بأحسنها } فى حذف متعلق الامر وجزم الجواب ايهام سببية امره (ع) باى امر كان لاخذ قومه بأحسنها، كأنه بامره وتوجهه اليهم يؤثر فيهم اثرا يفتح بصيرتهم بحيث يميزون بين الاحسن وغير الاحسن، وكل انسان مفطور على اخذ الاحسن اذا عرفه وفى امثال قوله تعالى لنبينا (ص):
قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله
[الجاثية: 14] وقوله تعالى:
قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم
[النور: 30] دلالة على قوة نفس نبينا (ص) بالنسبة الى موسى (ع) لايهامه ان محض تخاطبه (ص) مع المؤمنين امرا كان او نهيا او حكاية وقصة يؤثر فيهم بحيث يصير سببا لما ذكر بعده من افعالهم الحسنة بخلاف موسى (ع)، فانه ان امر اثر والا فلا. ولما كان القوم غير جامعة لجملة المراتب لضيقهم وعدم سعتهم بل كل من كان منهم فى مرتبة لم يكن يجرى عليه حكم المرتبة العالية او الدانية لضيقه وكان الحسن والاحسن فى حقه حكم تلك المرتبة وكان حكم المرتبة العالية او الدانية فى حقه قبيحا امره (ع) ان يامر قومه ان يأخذوا احسن العظة او احسن الالواح باعتبار ما فيها من الاحكام التى هى موعظته تعالى، فان الاحكام فيها كالقرآن متكثرة مترتبة بحسب تكثر المراتب كالانتقام وكظم الغيظ والعفو عن المسيء والاحسان اليه، فان الاحكام الاربعة مذكورة فى القرآن لكن هى مترتبة حسب مراتب الانسان ويختلف احسنها بحسب اختلاف الاشخاص فى مراتب العبودية، فان الواقع فى جهنام النفس لا يرتضى من المسيء بالانتقام بمثل اساءته بل لا يرتضى باضعافها فالاحسن فى حقه الانتقام بمثل اعتدائه كما قال
فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم
[البقرة:194]، ومن خرج من تلك الجهنام فالاحسن فى حقه كظم الغيظ وترك الانتقام ولكن لا يتصور فى حقه الصفح واخراج رين الاساءة من صدره، والاحسن فى حق من خرج من حدود النفس وتوجه الى حدود القلب الصفح وتطهير القلب من رين الاساءة ولا يتصور فى حقه الاحسان، وفى حق الداخل فى بيت الله الذى من دخله كان آمنا وهو القلب كان الاحسن الاحسان فالمراد باحسنها احسن ما يتصور ويمكن فى حقهم، هذا اذا كان المراد بالاحسن الاحسن الاضافى وان اريد بالاحسن الاحسن المطلق فليخصص قومه بخواصه؛ هذا على ظاهر مفهوم اللفظ والا فالمراد به الولاية فانها العظة الحسنى والحكم الاحسن حقيقة والمعنى انك لسعة وجودك واستقلالك فى جميع المراتب مأمور باخذ جميع الاحكام فى جميع المراتب، ولكن قومك لضيقهم وعدم استقلال رأيهم مأمورون بأخذ الاحسن منها وهى الولاية حتى يحصل لهم بتبعية وليهم سعة واستقلال فى رأيهم فيستحقوا بذلك الامر بأخذ الجميع وبأحد المعنيين ورد قوله تعالى
واتبعوا أحسن مآ أنزل إليكم من ربكم
[الزمر: 55] ولما صار المقام مظنة ان يقال: ما لمن خرج من الانقياد ولم يأخذ حكم الالواح وعظة؟ - قال جوابا { سأوريكم دار الفاسقين } وجزائهم والخطاب لموسى (ع) وقومه او لمحمد (ص) وقومه، ثم صار المقام مظنة ان يقال: ما سبب خروج الفاسق ومن المخرج له؟ ايخرج بنفسه ام يخرجه غيره؟ - فقال { سأصرف }.
[7.146-147]
{ سأصرف } البتة على ان يكون السين للتأكيد او سأظهر يوم القيامة ان انصراف المنصرف كان بسبب تكبره بغير الحق، ولما كان الاهتمام ببيان سبب الانصراف لا الصارف لم يقل: انا اصرف بتقديم المسند اليه تقوية للحكم او حصرا { عن آياتي } التدوينية التى هى احكام نظام المعاش وحسن المعاد وظهور الآيات التكوينية او عن الآيات التكوينية الآفاقية والانفسية واعظمها الآيات العظمى او عن الجميع { الذين يتكبرون في الأرض } يظهرون الكبر او ينتحلون الكبر { بغير الحق } فان التكبر بأمره مع المتكبر صدقة، والتكبر بكبريائه تعالى كبرياء الحق وهما لا يمنعان من انقياد الآيات { وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها } من عطف المسبب على السبب لتكبرهم المانع من الاذعان بآياتى { وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا } لادبارهم بتكبرهم عن سبيل الرشد { وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا } لاقبالهم على الغى، والمراد بسبيل الرشد والغى الاعمال والاخلاق الموصلة اليهما بل نقول: للنفس طريق الى العقل وهو الرشد وطرق عديدة الى الجهل وهى الغى، والنفس برزخ واقع بينهما والاعمال والاخلاق الحسنة من لوازم طريقها الى العقل، وضدها من لوازم طرقها الى الجهل { ذلك } التكبر الذى هو سبب الكل او ذلك المذكور من الصرف والتكبر وعدم الايمان بالآيات وعدم اتخاذ سبيل الرشد واتخاذ سبيل الغى { بأنهم كذبوا بآياتنا } فان سبب الكل التكذيب بآياتنا العظمى او مطلق الآيات { وكانوا عنها } من حيث انها آيات { غافلين والذين كذبوا بآياتنا ولقآء الآخرة حبطت أعمالهم } عطف على مدخول ان وهو على صورة قياس اقترانى من الشكل الاول وصورته هكذا: ذلك بانهم كذبوا بآياتنا وكل من كذب بآياتنا حبطت اعمالهم فلا ينتفعون بها حتى يقربهم الى سبيل الرشد والانقياد للآيات { هل يجزون إلا ما كانوا يعملون } كأنه قيل: حبط الاعمال لا يشبه العدل، فقال: ليس حبط الاعمال الا جزاء اعمالهم.
[7.148]
{ واتخذ قوم موسى من بعده } من بعد ذهابه الى الميقات تعريض بامة محمد (ص) يعنى لا تتخذوا انتم من بعد محمد (ص) عجلا معبودا { من حليهم عجلا جسدا } وفى ابدال جسدا رفع ايهام انه كان عجلا حقيقة { له خوار } روى عن الباقر (ع) ان فيما ناجى موسى (ع) ربه ان قال: يا رب هذا السامرى صنع العجل فالخوار من صنعه؟ - قال: فاوحى الله اليه يا موسى (ع) ان تلك فتنتى فلا تفحص عنها، وعن الصادق (ع) قال: يا رب ومن اخار الصنم؟ فقال الله تعالى: يا موسى انا آخرته، فقال موسى (ع):
إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشآء وتهدي من تشآء
[الأعراف: 155]، وعن النبى (ص):
" رحم الله اخى موسى ليس المخبر كالمعاين ولقد اخبره الله تعالى بفتنة قومه ولقد عرف ان ما اخبره ربه حق وانه على ذلك لمتمسك بما فى يديه فرجع الى قومه ورءآهم فغضب والقى الالواح "
{ ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا } تقريع باعتبار ترك التفكر { اتخذوه } صفة سبيلا اى لا يهديهم سبيلا جعلوه سبيلا الى الله او مستأنف اى اتخذوا العجل آلها { وكانوا ظالمين } فى ذلك الاتخاذ او من قبيل عطف السبب.
[7.149-150]
{ ولما سقط في أيديهم } هذا مثل فى العرب والعجم جميعا كناية عن غاية الندم والتحسر والعجز عن دفع ما يتحسر على وروده يعنى ندموا وعجزوا عن رفع بلية عبادة العجل { ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا } اعترافا بالذنب وتضرعا { لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني } خلفه قام مقامه وعمل فى خلفه، وما نكرة موصوفة، او معرفة موصولة، او معرفة تامة، واذا كانت معرفة تامة كان خلفتمونى حالا، وعلى اى تقدير فالعائد محذوف والمعنى بئس الذى خلفتمونى فيه عبادة العجل فعبادة العجل مخصوصة بالذم ومحذوفة، ويجوز ان يكون ما مصدرية ويكون المعنى: بئس الخلافة خلافتكم لى حيث عبدتم العجل وتركتم امر ربكم، ويجوز ان يكون الخطاب لهارون ولمن بقى معه ولم يعبد العجل ويكون المعنى: بئس الذى خلفتمونى فيه من السكوت عن نهى العابدين والمعاشرة معهم { من بعدي أعجلتم أمر ربكم } اسبقتم امر ربكم باتباعى وانتظار الكتاب السماوى وتركتموه ورائكم، وتعدية عجلتم بنفسه لتضمين مثل معنى السبق او المعنى اسبقتم فى عبادة العجل امر ربكم فعبدتم العجل من دون امر منه او المعنى اسبقتم امر الرب بانتظار اربعين ليلة فما لبثتم انقضاء الوعد { وألقى الألواح } من شدة الغيظ لله فتكسر بعضه ورفع بعضه وبقى بعضه كما روى { وأخذ برأس أخيه يجره إليه } لانه لم يفارقهم ولم يلحق بموسى (ع) بعد ما نهاهم فلم ينتهوا { قال ابن أم } نسبة الى الام استعطافا لان بنى ام واحدة اقرب مودة من بنى اب واحد وكان اخاه من اب وام وكان اكبر من موسى (ع) بثلاث سنين { إن القوم استضعفوني } اعتذر عن تقصيره المترائى فى منع القوم من عبادة العجل { وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعدآء } من غير تقصير لى { ولا تجعلني مع القوم الظالمين } فى نسبة التقصير الى وجعلى مثهلم.
[7.151]
{ قال } بعد الافاقة من غضبه { رب اغفر لي ولأخي } فيما فرط منى فى حقه ومنه فى حق القوم { وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين } ولما فرغ من الاستغفار وطلب الرحمة صار المقام مقام ان يسأل الله: ما لمن عبد العجل؟ - فقال تعالى جوابا لسؤاله المقدر: { إن الذين اتخذوا العجل }.
[7.152]
{ إن الذين اتخذوا العجل } معبودا { سينالهم غضب من ربهم } فى الآخرة { وذلة في الحياة الدنيا } بقتلهم انفسهم { وكذلك } الجزاء من الغضب والذلة { نجزي المفترين } فتنبهوا يا امة محمد (ص) ولا تفتروا او لا تأخذوا العجل والسامرى خليفة بعد محمد (ص) والافتراء اعم مما وقع قولا او فعلا او حالا او اعتقادا، ولما توهم ان المفترى جزاؤه ما ذكر مطلقا وصار سببا ليأس اهل المعاصى سيما على تعميم الافتراء استدركه بقوله { والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها }.
[7.153-154]
{ والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها } بالتوبة العامة النبوية والبيعة الظاهرة ان لم يكونوا من اهل البيعة الظاهرة او بالتوبة الخاصة الولوية والبيعة الباطنة ان كانوا من اهل البيعة الظاهرة او استغفروا بينهم وبين الله وندموا على معاصيهم { وآمنوا } بقبول الميثاق العام واحكامه، او الميثاق الخاص واحكامه، او بالبيعة الخاصة الولوية ان كان المراد بالتوبة التوبة العامة او اذعنوا بالله ان كان المراد من التوبة الاستغفار بينهم وبين الله { إن ربك من بعدها } من بعد السيئات او التوبة { لغفور رحيم ولما سكت عن موسى الغضب } استعار السكوت للسكون او شبه الغضب بالامر استعارة تخييلية { أخذ الألواح } الباقية بعد القائها وانكسار بعض وارتفاع بعض وبقاء بعض { وفي نسختها } ما نسخ منها بالكسر والرفع او ما نسخ وكتب فى الالواح الباقية { هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون } فانهم المنتفعون بالمواعظ دون من استمعها سماع الاسمار.
[7.155-156]
{ واختار موسى قومه } من قومه { سبعين رجلا لميقاتنا } روى عن الرضا (ع) انه سئل: كيف يجوز ان يكون كليم الله موسى (ع) بن عمران لا يعلم ان الله لا يجوز عليه الرؤية حتى يسئله هذا السؤال؟ - فقال: ان كليم الله علم ان الله منزه عن ان يرى بالابصار ولكنه لما كلمه الله وقربه نجيا رجع الى قومه فأخبرهم ان الله كلمه وقربه وناجاه، فقالوا: لن نؤمن لك حتى نسمع كلامه كما سمعته وكان القوم سبعمائة الف فاختار منهم سبعين الفا ثم اختار منهم سبعة الآف ثم اختار منهم سبعمائة ثم اختار منهم سبعين رجلا لميقات ربه، فخرج الى طور سيناء فاقامهم فى صفح الجبل وصعد موسى (ع) الى الطور وسأل الله ان يكلمه ويسمعهم كلامه وكلمه الله وسمعوا كلامه من فوق واسفل ويمين وشمال ووراء وامام، لان الله احدثه فى الشجرة ثم جعله منبعثا منها حتى سمعوه من جميع الوجوه، فقالوا: لن نؤمن بان هذا الذى سمعناه كلام الله حتى نرى الله جهرة، فلما قالوا هذا القوم العظيم واستكبروا وعتوا بعث الله عليهم صاعقة فاخذتهم الصاعقة بظلمهم فماتوا، فقال موسى (ع): يا رب ما اقول لبنى اسرائيل اذا رجعت اليهم وقالوا انك ذهبت بهم فقتلهم لانك لم تكن صادقا فيما ادعيت من مناجاة الله اياك؟! فأحياهم وبعثهم معه، فقالوا: انك لو سألت الله ان يريك تنظر اليه لاجابك فتخبر كيف هو ونعرفه حق معرفته فقال موسى (ع): يا قوم ان الله لا يرى بالابصار ولا كيفية له وانما يعرف بآياته ويعلم باعلامه، فقالوا: لن نؤمن لك حتى تسأله فقال موسى (ع) يا رب انك قد سمعت مقالة بنى اسرائيل وانت اعلم بصلاحهم فاوحى الله اليه: يا موسى (ع) سلنى ما سألوك فلم اؤاخذك بجهلهم، فعند ذلك قال موسى (ع): رب ارنى انظر اليك قال لن ترانى ولكن انظر الى الجبل فان استقر مكانه وهو يهوى فسوف ترانى فلما تجلى ربه للجبل بآية من آياته جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت اليك وانا اول المؤمنين { فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت } اهلاكنا { أهلكتهم من قبل وإياي } يعنى من قبل وعدى بنى اسرائيل باسماع كلامك واتيانى بهم الى ميقاتك حتى لا يتهمونى بالكذب واهلاك من جئت بهم الى ميقاتك { أتهلكنا بما فعل السفهآء منآ } من الجرأة على طلب الرؤية { إن هي إلا فتنتك } ان العجل وخواره الا فتنتك على ان يكون مقطوعا من سابقه على ما روى ان الله اخبره بضلال قومه بالعجل، فقال: يا رب ان كان السامرى صنعه فمن أخاره؟ - فقال: انا، فقال: ان هى الا فتنتك، او على ان يكون السبعون المختارون من عبدة العجل اختارهم ليمقات التوبة فاخذتهم الرجفة لهيبة الله، او المعنى ان اسماعهم لكلامك حتى طمعوا فى سؤال الرؤية الا فتنتك او ان الرجفة منك الا فتنتك، وتأنيث الضمير على الوجوه السابقه لمراعاة الخبر { تضل بها من تشآء وتهدي من تشآء أنت ولينا } المتصرف فى امورنا { فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة } لما كان الحسن الحقيقى هو الولاية فكل ما كان مرتبطا بالولاية من علم وخلق وفعل فهو حسن بحسنها، والسير على طريق الولاية ايضا حسن بحسنها، وتسهيل السير بقوة الولاية ورفع موانع السير وقلة الامتحانات فى الطريق والذكر المأخوذ من الامام والاتصال بملكوت الامام كلها حسن بحسنها، والتاء فى الحسنة للنقل فتفسيرها بالولاية وبالطاعة وبتوفيقها وبتسيهل السير ورفع موانع السير وتقليل الامتحانات ودوام الذكر وتمثل صورة الشيخ كلها صحيح { وفي الآخرة } ايضا حسنة والحسنة فى الآخرة هو شهود الحق تعالى فى مظاهره بمراتبها: ونعم ما قال المولوى قدس سره بالفارسى فى تفسير الحسنة فى الدنيا والآخرة:
راه را برسا جو بستان كن لطيف
مقصد ما باش هم تو اى شريف
{ إنا هدنآ إليك } من هاد يهود اذا رجع { قال } جوابا له: ان لى سخطا ورضى وعذابا ورحمة ولكل اهل، فلى ان اعذب من كان اهلا للعذاب، وارحم من كان اهلا للرحمة { عذابي أصيب به من أشآء } ولما لم يكن المعصية سببا للعذاب على الاطلاق لم يقل من عصانى { ورحمتي } الرحمانية { وسعت كل شيء } لانها صفة الوجود والوجود قد احاط بكل موجود فى الدنيا والآخرة { فسأكتبها } اى الرحمة الرحيمية بطريق الاستخدام { للذين يتقون } المحرمات التى اصلها اتباع ائمة الجور الذى اصله اتباع اهواء النفس { ويؤتون الزكاة } حقوق المال الحلال وفضول التمتعات المحللة والالتذاذات المباحة المأمور بها بان يتمتع ويلتذ ويقلل منها تدريجا وقوة القوى العلامة والعمالة بصرفها فى قضاء حقوق الاخوان وعبادة الرحمن { والذين هم بآياتنا يؤمنون } وهذه صفات مترتبة فان التقوى بهذا المعنى مقدمة على الزكاة، والزكاة التى هى تضعيف قوى النفس مقدمة على ادراك كون الآية التدوينية او التكوينية آية، والايمان بها بعد درك كونها آية وللاشارة الى ان الايمان هو المقصد الاسنى كرر الموصول.
[7.157-158]
{ الذين يتبعون الرسول النبي } ابدل عن الموصول الاول او الثانى للاشارة الى ان الوصف الجامع للاوصاف الثلاثة هو اتباع الرسول { الأمي } المنسوب الى ام القرى كما فى الروايات او المنسوب الى الام لكونه لم يكتب ولم يقرأ ولم يحصل شيئا من الكمالات الانسانية مثل زمان ولادته من امه { الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل } باسمه ونعته وانصاره ومبعثه ومهاجره كما فى الروايات، فان الانبياء (ع) ولا سيما موسى (ع) وعيسى (ع) بشروا به اممهم واثبتوا خبره فى كتبهم { يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر } حال من فاعل يجدونه او مفعوله او كليهما او المستتر فى مكتوبا بتضمين مثل معنى الاتصاف اى حال كونه يتصف بالامر لهم بالمعروف او مستأنفة جواب لسؤال مقدر او نائب فاعل لمكتوبا، واصل المعروف على (ع) ثم ولايته ثم التخلق باخلاقه ثم العلم المأخوذ منه ثم العمل بالمأخوذ، ثم النبى (ص) ثم اتباعه ثم العلم المأخوذ منه ثم العمل بالمأخوذ وهكذا المنكر مقابلوا على (ع) وهذا هو الدليل التام على صدق الرسول (ص) فى رسالته، فان المعروف والمنكر معلوم اجمالا لكل احد اذا خلى وطبعه وترك الهوى واتباعه كما فى حديث؛ اعرفوا الله بالله، والرسول بالرسالة، واولى الامر بالامر بالمعروف والنهى عن المنكر { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبآئث } اصل الطيبات على (ع) الى ما تستطيبه الطباع وتستلذه، واصل الخباثت من كان مقابلا لعلى (ع) الى ما تستكرهه الطباع وتستقذره، ومعنى احلال الطيبات وتحريم الخباثت اذا حملت على معانيها الظاهرة ظاهر، واذا حملت على معانيها التأويلية فمعناهما تسهيل طريق اخذ الطيبات وسد طريق الوصول الى الخبائث { ويضع عنهم إصرهم } الاصر الثقل والمراد منه ثقل التكاليف، فان للتكاليف فى بدو الامر ثقلا عظيما بحيث لا يكاد يتحمله المكلف فاذا اخذها من الرسول (ص) او خلفائه يتبدل ثقلها بالنشاط والسرور، وكما يتبدل ثقلها بالنشاط يتبدل ثقيلها ايضا بالخفيف الذى دون طاقة المكلف فى امة محمد (ص) كما فى الاخبار التى ورد فى تنزيل الآية { والأغلال التي كانت عليهم } الناشئة من الاهوية المختلفة المتكثرة المانعة لحركة المكلف نحو ولى امره فان لكل سلسلة تمنعه من الحركة لكن الانسان ما دام فى الدنيا لا يشاهدها الا من فتح الله عينيه وصار من اهل الآخرة وهو بعد فى الدنيا { فالذين آمنوا به } بالبيعة العامة وقبول الدعوة الظاهرة { وعزروه } عظموه بمنع الاغيار من ايذائه وبمنع الاهوية الفاسدة والخيالات الكاسدة من الغلبة على اتباعه وامتثال اوامره ونواهيه، وبعبارة اخرى بالتبرى عما يخالف امره ونهيه، فان امر محمد (ص) هو نازلة محمد (ص) وظهوره فى المرتبة النازلة وتعظيم امره (ص) ومنع الاهوية المانعة من امتثاله تعظيم له ومنع عنه { ونصروه } بنصرة امره ودوام الاتصال به حتى يلحق امره القالبى بامر الولى الذى هو وارد على القلب، وبعبارة اخرى بالتولى له فان التعزير كناية عن التبرى والنصرة عن التولى الذين يعبر عنهما تارة بالزكوة والصلوة، وتارة بالتقوى والايمان، وتارة بالتبرى والتولى والمفاهيم الظاهرة من تلك الالفاظ بحسب التنزيل لا حاجة لها الى البيان { واتبعوا النور الذي أنزل معه } النور هو الولاية ولذلك فسر بعلى (ع) فانه الاصل فيها ويعبر عنها بالنور لان النور هو الظاهر بالذات والمظهر للغير، والولاة هى التى يفتح بها عين القلب فيظهر به الصحيح من الاعمال والاحوال والاخلاق والعقائد من سقيمها، وبه ايضا يظهر دناءة الدنيا وشرافة الآخرة، واتباع الولاية هو آخر مراتب التكاليف القالبية وهو المقصود من البيعة العامة النبوية التى يعبر عنها بالاسلام وهو ما به ارتضاء الاسلام وما به تمامية نعمة الاسلام وهو اسنى اركان الاسلام واشرفها وهو الذى ليس وراءه مطلب سواه، فان جميع المراتب التى تتصور للانسان فى سلوكه مراتب الولاية والمراد بمعية النور لمحمد (ص) معيته القيومية، فان الولاية روح النبوة وقوامها ولذلك قال (ص):
" يا على كنت مع كل بنى سرا ومعى جهرا "
{ أولئك } تكرير المبتدء باسم الاشارة البعيدة تعظيم لهم وتصوير لهم باوصافهم الشريفة الجليلة وحصر للفلاح الحقيقى فيهم { هم المفلحون قل } يعنى بعد ما اظهرنا اوصافك وما به صدق رسالتك فأظهر رسالتك عليهم وقل { يأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا } لا اختصاص لرسالتى بقوم دون قوم { الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت } ذكر اوصافا ثلاثة لله مشيرا الى مبتدئيته ومرجعيته ومدبريته والى توحيد آلهيته والى انه الفاعل للحياوة والممات، ردا بها على الدهرية القائلة بان العالم لا مبدأ له، والثنوية القائلة بان مدبر العالم مبدءان قديمان مستقلان، النور والظلمة او يزدان واهريمن، والثنوية القائلة بان مبدء العالم هو الله واهريمن خلق من فكر سيئ ليزدان ولكن خالق الخير ومنه الحيوة يزدان وخالق الشر ومنه الموت اهريمن { فآمنوا بالله ورسوله } مقول قول النبى (ص) او قول الله تعالى بصرف الخطاب الى الناس والتفريع على قول النبى (ص) والمراد بالايمان هنا الايمان العام بقرينة قوله لعلكم تهتدون { النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته } التكوينيه والتدوينية المعبر عنه بالايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله التى هى اشار الى مراتب العالم من الملائكة المقربين والصافات صفا والمدبرات امرا والملائكة الركع والسجد وذوى الاجنحة مثنى وثلث ورباع التى مقامها الملكوت العليا وعالم الخلق والملكوت السفلى التى هى دار الجنة والشياطين وسجن الاشقياء والمذنبين؛ هذا بحسب النزول، وقد يعبر عنها بمراتب الولاية والنبوة التى يعبر عنها بمائة واربعة وعشرين الف نبى وبمائة واربعة وعشرين الف وصى كما فى الاخبار وهذا بحسب الصعود، والمراد بايمانه (ص) بكلمات الله ليس الايمان بالغيب ولا الايمان الشهودى بل الايمان التحققى المعبر عنه بحق اليقين فانه (ص) المتحقق بجميع المراتب والكلمات { واتبعوه } بامتثال اوامره { لعلكم تهتدون } الى الولاية جعل الايمان بالنبى (ص) واتباعه هداية الى الايمان بعلى (ع) وقبول ولايته (ع) كما فى قوله تعالى:
قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان
[الحجرات:17] اى لولاية على (ع)، فان الايمان المقابل للاسلام هو ولاية على (ع) بالبيعة الخاصة والميثاق المخصوص كما فى اخبارنا؛ ان الايمان هو معرفة هذا الامر او ولاية على (ع) او الدخول فى امرهم.
[7.159]
{ ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق } قد عرفت ان الحق الاضافى هو الولاية المطلقة والمتحقق بها هو على (ع) { وبه يعدلون } من العدل مقابل الجور وقد ورد فى الاخبار، ان هذه الامة قوم من وراء الصين بينهم وبين الصين وادحار من الرمل لم يغيروا ولم يبدلوا ليس لاحدهم مال دون صاحبه، يمطرون بالليل ويضحون بالنهار ويزرعون، لا يصل اليهم منا احد ولا يصل منهم الينا وهم على الحق.
[7.160-161]
{ وقطعناهم } اى قوم موسى (ع) اى فرقناهم فرقة فرقة { اثنتي عشرة أسباطا } السبط القبيلة من اليهود وولد الولد قيل لا يثنى ولا يجمع وجمع بعد اثنتى عشرة لانه جعله بدلا لا تميزا، او هو تميز بجعل كل واحدة من الفرق اسباطا، او بتقدير موصوف مفرد مثل الفرقة والقبيلة ويؤيد جعله تميزا باحد هذين الوجهين تأنيث اثنتى عشرة { أمما } بدل او صفة وسمى اولاد يعقوب (ع) بالاسباط لانهم كانوا اثنتى عشرة قبيلة كلهم من اولاد ابنائه الذين كانوا اثنى عشر، كما سمى اولاد اسمعيل قبائل (ع) { وأوحينآ إلى موسى إذ استسقاه قومه } فى التيه { أن اضرب بعصاك الحجر } فضرب { فانبجست منه اثنتا عشرة عينا } بعدد القبائل حتى لا يقع بينهم نزاع فى الورد { قد علم كل أناس } اى فرقة من الاسباط { مشربهم وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى } المن الترنجبين او العسل، والسلوى طائر يسمى بالسمانى قائلين { كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا } فى مظاهرنا وخلفائنا بترك القناعة والاستبدار بالذى هو ادنى { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون وإذ قيل } عطف على اذ استسقيه او عطف على اضرب بعصاك او على آمنوا او على اتبعوا بتقدير اذكرا وذكروا واذكروا، اذ قيل { لهم اسكنوا هذه القرية } بيت المقدس { وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين } على مغفرة الخطيئات.
[7.162]
{ فبدل الذين ظلموا منهم قولا.. } مضى الآيات وتفسيرها مفصلا فى اول البقرة.
[7.163]
{ وسئلهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر } حتى تذكرهم سوء عاقبة اهلها لسوء صنيعتهم حتى يكون نصب اعينهم وتذكرة لقومك { إذ يعدون في السبت } هو بدل من القرية نحو بدل الاشتمال والمعنى اسئلهم عن حال اهل القرية عن وقت عدوهم والاتيان بالمضارع مع ارادة المضى للاشارة الى استمرارهم عليه كانوا يتجاوزون حدود الله فى السبت، فان السبت كان عيدهم وكان له حرمة عندهم وكان الاحد عيدا للنصارى كما كان الجمعة عيدا لمحمد (ص)، ومن هذا ادعى الصابئون ان انبياء العرب كانوا يعبدون الكواكب، فقالوا ان محمدا (ص) كان يعبد الزهرة ولذا اختار من الدنيا النساء والطيب لانهما كانتا منسوبتين الى الزهرة واختار من الايام الجمعة لانها منسوبة اليها، وكان موسى (ع) يعبد الزحل ولذا اختار السبت، وعيسى (ع) يعبد الشمس ولذا اختار الاحد { إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم } وكانوا منهيين عن الصيد يوم السبت { شرعا } ظاهرة قريبة التناول ابتلاء لهم { ويوم لا يسبتون لا تأتيهم } كانوا مشتاقين الى الصيد منتظرين تمام الاسبوع ولم يتيسر لهم فاذا كان يوم سبتهم وكانوا ممنوعين من الصيد لحرمته وللعبادة فيه تأتيهم الحيتان ظاهرة قريبة بحيث لا يمكنهم الصبر عن الصيد؛ أعاذنا الله من امتحانه وابتلائه { كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون } يعنى ان هذا الابتلاء كان بسبب فسقهم وعصيانهم، والاتيان بالمستقبل لاحضار الماضى او المراد انا كما بلوناهم سابقا نبلوهم فيما يأتى، او المراد كذلك نبلو امتك.
[7.164]
{ وإذا قالت } عطف على اذ يعدون او على اذ تأتيهم والمعنى اذ يعدون اذ قالت { أمة منهم } من الناهين الواعظين او من الساكتين الغير الواعظين او من العاصين قالوا استهزاء او اعتقادا { لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون } يعنى انهم وان كانوا منهمكين فى الفسوق والعصيان لكنا نؤدى فى موعظتنا ما علينا من النهى عن المنكر والترحم على العبادة باحتمال القبول وباحتمال نجاتهم من العذاب.
[7.165]
{ فلما نسوا ما ذكروا به } تركوا ما ذكرهم الواعظون من التحذير من العذاب او ما ذكرهم الله من حرمة السبت وحرمة الصيد فيه { أنجينا الذين ينهون عن السوء } يعنى الواعظين لانهم ما كانوا راضين بفعلهم ولا ساكتين عن نهيهم { وأخذنا الذين ظلموا } انفسهم بترك ما عليهم وارتكاب ما ليس لهم فى السبت { بعذاب بئيس } شديد { بما كانوا يفسقون } بسبب فسقهم الذى هو سبب من جهة القابل لا الفاعل.
[7.166]
{ فلما عتوا عن ما نهوا عنه } من عطف التفصيل على الاجمال { قلنا لهم كونوا قردة خاسئين } مطرودين عن كل خير، عن على بن الحسين (ع) انه قال: كان هؤلآء قوم يسكنون على شاطئ بحر نهاهم الله تعالى وانبياؤه (ع) عن اصطياد السمك فى يوم السبت فتوصلوا الى حيلة ليحلوا بها لانفسهم ما حرم الله، فخدوا اخاديد وعملوا طرقا تؤدى الى حياض يتهيئ للحيتان الدخول فيها من تلك الطرق ولا يتهيئ لها الخروج اذا همت بالخروج، فجائت الحيتان يوم السبت جارية على امان لها فدخلت الاخاديد وحصلت فى الحياض والغدران، فلما كانت عشية اليوم همت بالرجوع منها الى اللجج لتأمن من صائدها، فرامت الرجوع فلم تقدر وبقيت ليلها فى مكان يتهيئ اخذها بلا اصطياد لاسترسالها فيه وعجزها عن الامتناع لمنع المكان لها، وكانوا يأخذون يوم الاحد يقولون: ما اصطدنا فى السبت انما اصطدنا فى الاحد، وكذب اعداء الله بل كانوا آخذين لها باخاديدهم التى عملوها يوم السبت، حتى كثر من ذلك مالهم وثراهم وتلقموا بالنساء وغيرهن لاتساع ايديهم به، وكانوا فى المدينة نيفا وثمانين الفا فعل هذا منهم سبعون الفا انكر عليهم الباقون كما قص الله،
وسئلهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر
{ الأعراف: 163 } وذلك ان طائفة منهم وعظوهم وزجروهم ومن عذاب الله خوفوهم ومن انتقامه وشدائد بأسه حذروهم فأجابوهم من وعظهم: لم تعظون قوما الله مهلكهم بذنوبهم هلاك الاصطلام او معذبهم عذابا شديدا، اجاب القائلون هذا معذرة الى ربكم هذا القول منا لهم معذرة الى ربكم اذا كلفنا الامر بالمعروف والنهى عن المنكر فنحن ننهى عن المنكر ليعلم ربنا مخالفتنا لهم وكراهتنا لفعلهم قالوا ولعلهم يتقون، ونعظهم ايضا لعلهم ينجع فيهم المواعظ فيتقوا هذه الموبقة ويحذروا عقوبتها، قال الله تعالى فلما عتوا حادوا واعرضوا وتكبروا عن قبول الزجر عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين، مبعدين من الخير مبغضين، فلما نظر العشرة الالاف والنيف ان السبعين الفا لا يقبلون لو اعظهم ولا يخافون بتخويفهم اياهم وتحذيرهم لهم اعتزلوهم الى قرية اخرى وانتقلوا الى قرية من قراهم، وقالوا نكره ان ينزل بهم عذاب الله ونحن فى خلالهم، فأمسوا ليلة فمسخهم الله كلهم قردة وبقى باب المدينة مغلقا لا يخرج منه احد ولا يدخله احد، وتسامع بذلك اهل القرى فقصدوهم وسموا حيطان البلد فاطلعوا عليهم فاذا هم كلهم رجالهم ونساؤهم قردة يموج بعضهم فى بعض، يعرف هؤلاء الناظرون معارفهم وقراباتهم وخلطائهم يقول المطلع لبعضهم: انت فلان وانت فلانة فتدمع عينه ويومى برأسه او بفمه بلا او نعم؛ فما زالوا كذلك ثلاثة ايام ثم بعث الله تعالى مطرا وريحا فحرفهم الى البحر وما بقى مسخ بعد ثلاثة ايام؛ وانما الذين ترون من هذه المصورات بصورها فانما هى اشباهها لا هى بأعيانها ولا من نسلها.
[7.167]
{ وإذ تأذن ربك } عطف على اذ يعدون او على اذ تأتيهم او على اذ قالت امة او عطف على اسئلهم بتقدير اذكر او ذكر وتأذن واذن من باب التفعيل واذنه من الثلاثى المجرد واذن به بمعنى اعلم وكثر استعمال اذن مخفف العين بمعنى علم واباح ورخص وجاء تأذن بمعنى اقسم { ليبعثن عليهم } على العادين يوم السبت او على اليهود مطلقا بفعل العادين { إلى يوم القيامة من يسومهم } يكلفهم { سوء العذاب } بالقتل والاذلال بالجزية والاجلاء كما فعل بخت نصر ومن بعده ومحمد (ص) { إن ربك لسريع العقاب } فلا ينبغى الاغترار بحلمه { وإنه لغفور رحيم } لمن ارعوى عن غيه وتاب اليه.
[7.168]
{ وقطعناهم في الأرض أمما } متفرقين بحيث لا يخلو مملكة منهم والاغلب انهم اذلاء عند غير مذهبهم { منهم الصالحون } جملة مستأنفة او وصفية او حالية ومنهم مبتدء سواء كان من اسما او قائما مقام الموصوف المبتدء او خبر مقدم { ومنهم دون ذلك } منهم مبتدء كما سبق او منهم خبر مقدم والمبتدء محذوف اى منهم ناس دون ذلك اى منحطون عن الصلاح سواء لم يكونوا كافرين او كانوا كافرين، ويكون المراد بقوله فخلف من بعدهم خلف انهم صاروا بعد جميعا كافرين او المراد بمن دون ذلك من لم يبلغ درجة الكفر { وبلوناهم بالحسنات } السعة والدعة والامن والصحة { والسيئات } ضد ذلك المذكور { لعلهم يرجعون } من غيهم كما هو ديدننا فى هداية من اردنا هدايته.
[7.169]
{ فخلف من بعدهم خلف } ذوو شر على ما قيل انه بالتسكين لذوى الشرور وبالتحريك لذوى الخيرات، وهو تعريض بامة محمد (ص) حيث كانوا فى عهده اما صالحين واما دون ذلك وبعده صاروا آخذين بعرض مغترين بغرور النفس مع انه (ص) اخذ عليهم الميثاق بان لا يستبدوا بآرائهم ولا يقولوا على الله الا الحق ولا يفارقوا الكتاب وعترته (ص) { ورثوا الكتاب } اى كتاب النبوة واحكامها او التورية على تنزيله وظاهره { يأخذون عرض هذا الأدنى } من الدنو او الدنائة يعنى العرض الذى هو عبارة عن متاع الدنيا فانه عارض وزائل لا محالة والجملة اما صفة بعد صفة والاختلاف مع الاولى للاشارة الى استمرارهم فيه، او حال من خلف لاختصاصه بالصفة، او من فاعل ورثوا، او جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: ما فعلوا بوراثة الكتاب؟ - فقال: يأخذون وعلى اى تقدير فالمقصود ذمهم على انهم جعلوا الكتاب الذى هو سبب لاخذ النعيم الابدى والفوز بخير دار البقاء وسيلة لعرض الدنيا الزائل لحمقهم، فان اسناد الاخذ الى الخلف المقيد بوراثة الكتاب يشعر باعتبار الحيثية؛ فالويل ثم الويل لمن انتحل الاحكام النبوية وجعلها وسيلة الى الاعراض الدنيوية كاكثر العامة الذين ادعوا العلم والفقاهة وانتحلوا الشرع والوراثة { ويقولون سيغفر لنا } فان النفس فى توسلها الى مشتهياتها تستدعى وجها لاطمينانها فيها فتارة تقول: لا ثواب ولا عقاب ولا آخرة ان هى الا حيوتنا الدنيا، وتارة تقول: ان الله كريم، وتارة تقول: ليس العذاب الا اياما معدودة، وتارة تقول: من انتسب الى نبى (ع) لا يعذب ولو جاء بذنوب اهل الدنيا، وتارة تقول: محب على (ع) لا يدخل النار وحب على (ع) حسنة لا تضر معها سيئة ولا تدرى انها كلها غرور ما توهمته انتسابا الى نبى او محبة لعلى (ع) انتساب الى الشيطان ومحبة له؛ اعاذنا الله من شبهات انفنسنا { وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه } يعنى ليس قولهم سيغفر لنا الا عن غرور النفس فان راجى المغفرة يرعوى عما ينافيها { ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق } يعنى ان وراثة الكتاب تستدعىالخوف من الله لا الاغترار به فان ميثاق الكتاب أي العهود التى تؤخذ عليهم بالبيعة العامة النبوية ان لا يغتروا بالدنيا ولا يقولوا على الله الا الحق { ودرسوا } تعلموا وتعاهدوا { ما فيه } من الوعد والوعيد { والدار الآخرة خير للذين يتقون } يعنى ان الافتتان باعراض الدنيا يتصور لغفلتهم عن مفاسدها وسكوتنا عن بيانها وقد بيناها ونبهناهم عليها، او لرجحانها على متاع الآخرة وليس كذلك، او للحمق وعدم العقل واليه اشار بقوله { أفلا تعقلون } او لان التمسك باحكام الكتاب والاتعاظ بمواعظها يصير ضائعا عندنا.
[7.170]
{ والذين يمسكون بالكتاب } اى كتاب النبوة الاسلامية { وأقاموا الصلاة } بالبيعة الولوية { إنا لا نضيع أجر المصلحين } وضع الظاهر موضع المضمر اشارة الى ان التمسك بالكتاب والولاية مصلح لا محالة فعلى هذا قوله تعالى والدار الآخرة (الى أخرها) جملة حالية والذين يمسكون بالكتاب عطف عليه والاحتمالات الاخر فى تركيبها بعيدة عن سوق الكلام.
[7.171]
{ وإذ نتقنا الجبل } رفعناه بالقلع { فوقهم كأنه ظلة } سقف يظللهم { وظنوا أنه واقع بهم } استعمال الظن مع انهم كانوا متيقنين لوقوعه لكونه معلقا وليس من عادة الاثقال ان تقف معلقة لانهم كانوا اصحاب النفس وليس من صفة النفس الا الظن وان كان متيقنة او لانهم لما علموا انه كان باعجاز احتملوا ان يقف باعجاز ايضا ولا يقع عليهم { خذوا مآ آتيناكم بقوة } على تقدير القول يعنى قائلين خذوا التوارة واحكامها بقوة وعزم من قلوبكم وامتثلوا احكامها بقوة من ابدانكم { واذكروا ما فيه } من العبر والاحكام { لعلكم تتقون } موبقات النفس، عن الصادق (ع) لما انزل الله التوارة على بنى اسرائيل لم يقبلوه فرفع الله عليهم جبل طور سيناء فقال لهم موسى (ع) ان لم تقبلوا وقع عليكم الجبل فقبلوه وطأطأوا رؤسهم وقد مضى فى سورة البقرة.
[7.172-173]
{ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } وقرئ ذرياتهم، اعلم، ان آدم قد يقال على آدم ابى البشر وقد يقال على معنى موجود فى كل بشر وقد يقال على معنى اعم منهما وبهذا المعنى يقال: آدم الملكى، وآدم الملكوتى وآدم الجبروتى، وآدم اللاهوتى، وبهذا المعنى ورد فى بعض خطب مولانا أمير المؤمنين (ع): انا آدم الاول، وذلك لان كل ما فى عالم الطبع وعالم الكثرة فله صورة ومثال بنحو الكثرة والتفصيل فى عالم المثال بحيث لو رآه راء لقال: هو هو بعينه من غير فرق وتميز وله حقيقة فى عالم العقول العرضية وارباب الانواع وله حقائق فى عوالم العقول الطولية بنحو اتم وابسط مما فى هذا العالم ويعبر عما فى تلك العوالم بالذر، وكل ما وجد فى ما فوق عالم الطبع فكله علم وشعور وسمع بصر ونطق ، بخلاف ما فى هذا العالم فان شعوره وسمعه وبصره ونطقه بآلات متمايزة ليس فى موضع السمع بصر ولا فى موضع البصر سمع ونطق. ثم اعلم، ان المراتب النازلة كل بالنسبة الى ما فوقه رقائق وذرار وظهور له بنحو الكثرة والتفصيل لكنه فى عين التفصيل اخفى منه واضعف والعالى فى عين اجماله اتم واشد واظهر واحق بالاسم المطلق عليه، فآدم اللاهوتى الذى يعبر بالحقيقة المحمدية (ص) والحق المخلوق به والاضافة الاشراقية اشد ظهورا واحق باسم آدم من آدم الجبروتى وهكذا الى آدم الناسوتى وبنو آدم فى كل مقام هم المنتسبون اليه بلا واسطة مثلا بنو آدم اللاهوتى ما فى عالم العقول الطولية من التعينات الآدمية، وبنو آدم الجبروتى ما فى العقول العرضية وبنو آدم فى تلك المرتبة الصور المثالية، وبنو آدم المثالى الملكوتى الصور الملكية البشرية، وبنوا آدم البشرى المنسوبون اليه بلا واسطة او بواسطة، وبنو آدم فى العالم الصغير المدارك والقوى البشرية وذرية بنى آدم فى كل مرتبة ما يليق بتلك المرتبة كما لا يخفى على البصير، والتعبير بظهر بنى آدم دون ظهر آدم كما فى الاخبار، لان آدم اللاهوتى لبساطته ووحدته له وحدة حقة ظلية لا يتصور فيه كثرة حتى يتصور له ذرار ولا جهة وجهة حتى يتصور له ظهر وبطن وايضا الاقتصار على ظهر آدم يوهم الاختصاص بآدم ابى البشر ولما كان سلسلة النزول بمنطوق صحيحة ما ورد: ان الله خلق العقل ثم قال له: أقبل اى الى الدنيا والدار السفلى؛ فأقبل، متوجها عن الحق الاول تعالى الى العالم الاسفل كان المنظور اليه والمترائى فيه فى كل مرتبة هو ظهرها، وايضا لما كان كل مرتبة بالنسبة الى دانيها ظهوره بنحو اتم واشد قال: من ظهور بنى آدم بخلاف سلسلة الصعود فانها بحكم قوله ثم قال له: أدبر اى عن الدنيا فأدبر كان المنظور فيه منها هو البطن منها، وايضا كل دان بالنسبة الى العالى بطن ومحل اختفاء ولذا اطلق البطن فى سلسلة الصعود اخرجناكم من بطون امهاتكم؛ والسعيد سعيد فى بطن امه، والتعبير بأخذنا فى النزول واخرجنا فى الصعود لا يخفى وجهه { وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنآ } وبعد ما علمت ان الاشياء كلها خصوصا ما فوق عالم الطبع بالنسبة الى الله تعالى كلها علم وشعور وسمع وبصر ونطق لا يبقى لك التأمل فى ان الاشهاد والاسماع والاقرار كلها على حقائقها اللغوية بل الاحق بحقائقها هو ما فيما فوق عالم الطبع ولا حاجة لك الى تأويلات المفسرين وتكلفاتهم ومجازاتهم { أن تقولوا } كراهة ان تقولوا { يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنمآ أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون } يعنى اشهدناكم وحملناكم على الاقرار هناك لكي تستقلوا بالتكليف وتتنبهوا بالربوبية فلا تكونوا غافلين ههنا ولا تابعين ولا معلقين سوء فعالكم على غيركم.
[7.174]
{ وكذلك } التفصيل بالقول وبالفعل { نفصل الآيات } التكوينية فى مراتب التكوين وفى كتاب التدوين { ولعلهم يرجعون } عطف على كذلك نفصل الآيات وسوغ عطف الانشاء على الخبر تضمنها للتعليل كأنه قال: لذلك تفصل الآيات لرجوعهم.
[7.175]
{ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا } النبوية على لسان نبينا (ص)، او آياتنا الولوية على لسان خليفته، او آياتنا الآفاقية الغير النبوية والغير الولوية، او آياتنا الانفسية التى شاهدها وادراك حيثية كونها آيات من الآيات المنذرة والمبشرة الجارية على السنة خلفائنا والواردة عليه مما ليس بقدرته واختياره والواقعة فى المنامات والواقعات والمنبهة من اختلاف الحالات، والغرض من التلاوة عليهم تذكيرهم بسوء عاقبة المنسلخ حتى يتذكروا ويكونوا على حذر فلا ينسخلوا عن الآيات النبوية والاحكام الشرعية ولا يعرضوا عن خليفته محمد (ص) والمنصوب بعده لهدايتهم، ونزول الآية فى بلعم بن باعورا كما فى اخبارنا او احد علماء بنى اسرائيل او امية بن ابى الصلت رجا لكثرة علمه واطلاعه على الكتب السماوية ان يكون هو النبى الموعود فلما بعث محمد (ص) حسده وكفر به كما قيل { فانسلخ منها } بترك العمل بمقتضاها والغفلة عنها { فأتبعه الشيطان } جعله تابعا لنفسه بعد انسلاخه من الآيات التى هى الشهب المتبعة للشيطان والتفسير بلحقه وادركه ايضا مناسب لهذا المقام، مثله فى قوله تعالى فاتبعه شهاب ثاقب بمعنى لحقه وادركه وقد جاء فى اللغة بمعنى جعله تابعا { فكان } اى صار والتعبير بكان للاشارة الى تمكنه فى الغواية كما ان لفظة { من الغاوين } ايضا كذلك.
[7.176]
{ ولو شئنا لرفعناه بها } بالآيات ولما توهم من لفظة انسلخ منها ولفظة فأتبعه الشيطان انه لا دخل لله ومشيته فى الانسلاخ واتباع الشيطان استدرك ذلك الوهم وقال: ان مشيتنا هى السبب الفاعلى وما من قبله هو السبب القابلى والسبب الفاعلى وان كان تاما لكنه لم يقع جزافا بل بحسب استعداد القابل وما استعد المنسلخ للارتفاع { ولكنه أخلد إلى الأرض } ارض الطبع وبعدها الى ارض الطين لقضاء مشتهيات عنها { واتبع هواه } من قبيل عطف السبب على المسبب فشئنا غوايته وضلاله فأضللناه { فمثله } بعد ما اخلد الى الارض فى شدة تعبه وكثرة حركته لتحصيل مأموله من الارض لتسكين حرارة حرصه وعدم الانتفاع فى تسكين الحرص { كمثل الكلب } الذى وقع فى الحر الشديد فلهث وأخرج لسانه وفتح فاه لكثرة التنفس لتسكين حرارة القلب ولم ينفعه ذلك بل يضاعف حرارته لكثرة وصول الهواء الحار الى قلبه فقوله { إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث } فى موضع حال مقيدة للكلب باخس احواله، روى عن الرضا (ع) انه اعطى بلعم بن باعوراء الاسم الاعظم وكان يدعو به فيستجيب له، فمال الى فرعون فلما مر فرعون فى طلب موسى (ع) واصحابه قال لبلعم: ادع الله على موسى (ع) واصحابه ليحبسه علينا، فركب حمارته ليمر فى طلب موسى (ع) فامتنعت عليه حمارته فأقبل يضربها فأنطقها الله عز وجل فقالت: ويلك على ماذا تضربنى؟! اتريد ان اجيء معك لتدعو على نبى لله وقوم مؤمنين! - فلم يزل يضربها حتى قتلها وانسلخ الاسم الاعظم من لسانه، ونسب الى الرواية ان قومه سألوه ان يدعو على موسى (ع) ومن معه، فقال: كيف ادعو على من معه الملائكة فألحوا عليه حتى دعا عليهم فبقوا فى التيه، ونقل انه لما دعا على موسى (ع) خرج لسانه فوقع على صدره وجعل يلهث كالكلب { ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا } اشارة الى التعميم فكل مكذب بآيات الله هذا مثله { فاقصص القصص } على اليهود وغيرهم كما عرفت ان المقصود تنبيه امة محمد (ص) { لعلهم يتفكرون } فى مآل افعالهم واحوالهم.
[7.177]
{ سآء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا } التكرار للمبالغة فى ذمهم وللتطويل المناسب لمقام التهديد { وأنفسهم كانوا يظلمون } كأنه توهم متوهم مما رأى من تشديد الله عليهم أنهم ظلموا الآيات بالتكذيب فقال: ما ظلموا (الآيات) ولكن انفسهم كانوا يظلمون وأسقط المعطوف عليه لاستفادته من الحصر المستفاد من تقديم المفعول.
[7.178]
{ من يهد الله فهو المهتدي.. } استدراك لما توهم من نسبة الاخلاد الى الارض واتباع الهوى والتكذيب اليهم من ان الافعال منسوبة اليهم، نسبة الفعل الى الفاعل واختلاف القرينتين بالافراد والجمع وتكرار المبتدأ وعدمه لكون المقام مقام التهديد ومناسب مقام التهديد الاكتفاء فى جانب الوعد والرحمة بأقل ما يكتفى به، وتعجيل الانتقال الى المهددين والتغليظ والتطويل فيهم وللاشارة الى اتحاد المهتدين واختلاف الضالين.
[7.179]
{ ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس } ولرفع توهم الجبر وتوهم ان لا مدخل للعبد فى ذلك كما يدل عليه ذرأنا قال: فعلنا ليس اجبارا منا بل { لهم قلوب لا يفقهون بها } فبعدم استعدادهم وعدم استحقاقهم ادخلناهم جهنم، ولما كان التفقه عبارة عن علم دينى يتوسل به الى علم آخر كما مضى ولم يكن علومهم وان كانت كثيرة دقيقة باعثة لترقيهم فى طريق القلب والآخرة نفى الفقه عن قلوبهم { ولهم أعين لا يبصرون بها } من الاشياء ما يدل على الله ومبدئيته ومعاديته فى عين حدتها { ولهم آذان لا يسمعون بهآ } من الاشياء والاصوات ما ينفعهم فى آخرتهم فى عين حدتها فى سماع الاصوات ولا يسمعون اصوات الاشياء التى تنادى كلا ليلا ونهارا ان: لا تقم فى دار طبعك، ولا تنم فى مسبعك، واستعد من يومك لغدك { أولئك كالأنعام } فى عدم التفقه واشتداد العلم وفى عدم ابصار ما ينبغى ان يبصر من المبصرات، وعدم سماع ما ينبغى ان يسمع من المسموعات، بل مداركهم موقوفة على درك اسباب التعيش فى الآجل وان كانت فى اعلى مرتبة الدرك كاكثر الفلاسفة المنكرين للرسالة المعتقدين ان الرسول هو العقل واحكامه هى الشريعة، كما ان مدارك الانعام موقوفة على درك النافع والضار فى الآجل { بل هم أضل } لان ضلال الانعام بالنسبة الى الانسان ضلال والا فهو بالنسبة الى مقامها هداية فهى باقية على هدايتها التكوينية، وايضا ضلالها لا يتخطى بها عن مقامها الى ما يوذيها ويؤلهما { أولئك هم الغافلون } تكرار اسم الاشارة البعيدة لتحقيرهم ولتطويل التغليظ عليهم كما هو المناسب لمقام الذم والجملة تأكيد للاولى باعتبار لازم معناها ولذا لم يأت بالعاطف وأتى بها مؤكدة محصورة، والمقصود ان الغفلة محصورة على الغافل عن دلالة الاشياء على ما هى موضوعة بالوضع الآلهى له لا الغافل عن الجهات الدنيوية، ولا الغافل عن الشعور بالشعور حين مشاهدة شخص او سماع لفظ مع عدم الالتفات الى الرؤية والى مدلول المسموع فان هذا الغافل لا يستضر بغفلته وان استضر فى جهة دنيويته فليس ضررا يعتنى به بخلاف الغافل عن جهة دلالة الاشياء وجذبها الى الآخرة فانه يتضرر بها البتة ضررا خارجا عن التهديد.
[7.180]
{ ولله الأسمآء الحسنى } الجملة حال من فاعل الافعال الثلاثة على سبيل التنازع وقوله اولئك كالانعام معترضة جوابا لسؤال مقدر او انشاء لذمهم بها، والتقييد بهذه الجملة للدلالة على غاية مذمتهم لان المعقول والمبصر والمسموع اذا لم يكن له جهة سوى المظهرية والاسميه لله ومع ذلك لم ير الرائى منه ما هو مرئى فيه ومدلول له، كان ذلك منه غاية العمى والغفلة بخلاف ما اذا كان ذا جهتين، والمعنى لهم قلوب لا يفقهون من معقولاتهم ومدركاتهم المعقولات الاخر الاخروية الآلهية ولا ينتقلون منها الى ما يتراءى فيها من الصفات الالهية والحال ان اكثرها وهى الاسماء الحسنى لا جهة لها سوى اراءة الله، لانها مختصة بالله ليس فيها دلالة على غيره وهم يدركون بها غيره لغاية عماهم، ثم اعلم، انه لا اختصاص لاسم الاسم بالاسماء اللفظية ولا بالمفاهيم الذهنية ولا بما دل بالمواضعة، بل يطلق حقيقة على الموجودات العينية لان حقيقة الاسم ما يحكى عن الغير لفظيا كان او ذهنيا او عينيا، كما ورد عنهم: نحن الاسماء الحسنى، وانا الاسم الاعظم ولا اسم لله اكبر منى، وحسن الاسم اما بحسن دلالته او بحسن مدلوله او بحسنه فى نفسه مع قطع النظر عن حيثية اسميته ودلالته، كالمرآة فان حسنها قد يكون بحسن اراءتها او بحسن المرئى منها او بحسنها فى نفسها فالموجودات العينية والمعقولات الذهنية والاسماء اللفظية كلها اسماء لله كما قرر فى محله:
وفى كل شيء له آية
تدل على انه واحد
وكلها حسنة باعتبار دلالتها على الله لكنها متفاوتة فى الدلالة وفى انفسها وبهذا الاعتبار توصف بالاحسنية فالعقول التى هى بشراشرها تحكى عن الله وصفاته واسمائه وهم الملائكة المقربون احسن من النفوس باعتبار دلالتها وباعتبارها فى انفسها، والنفوس التى يعبر عنها بالمدبرات امرا لتجردها عن المادة والتقدر احسن من الاشباح النورية، وهى لتجردها عن المادة احسن الماديات وهى احسن من اهل الملكوت السفلى التى هى دار الشياطين والجنة وفيها جحيم الاشقياء، لكن الماديات والسفليات لاحتجابها بحجب المادة ولوازمها وانظلامها بظلمة المادة كأنها لا دلالة لها على الله ولا حسن لها فى انفسها لو سميتها بالاسماء الغير الحسنة او الغير الحسنى، لكان حقا هذا بحسب سلسلة النزول واما بحسب سلسلة الصعود فخاتم الانبياء (ص) اسم احسن بالجهات الثلاثة لا احسن منه ثم خاتم الاولياء (ع) ثم سائر الانبياء (ع) والاولياء (ع) على تفاوت مراتبهم، فالمعنى ولله خاصة الاسماء التى لا دلالة لها على غيره وهى احسن من غيرها فى انفسها { فادعوه بها } ولما كان الامر بدعائه تعالى مفروعا عنه مسلما عندهم بحيث ما بقى لاحد شك فى انه مأمور بدعائه تعالى كان الغرض من تفريعه على تخصيص الاسماء الحسنى به تخصيصه بها اعتبارا لمفهوم القيد فى مثل هذا المقام فكأنه قال فادعوا الله بالاسماء الحسنى لا بغيرها من الاسماء التى لا حسن فيها او ليست بأحسن ، ولما كان الاسماء اللفظية الآلهية كلها متساوية فى انفسها وفى دلالتها، لان الدلالة وضعية فى كلها والمدلول فى الكل هو الله واسماؤه وصفاته فلا يتصور فيها التفاوت بالحسن وعدمه والاحسنية وعدمها فليست هى مقصودة منها، والاسماء النزولية التى مقامها فوق مقام البشر، لما لم يمكن التوسل بها للبشر لارتفاعها عن مقام البشر وعدم سنخية البشر لها فهى ايضا ليست مقصودة لعدم جواز الامر من الله بالتوسل بغير الممكن، فبقى ان يكون المقصود الامر بدعائه بتوسط الاسماء البشرية الصعودية فكأنه قال تعالى بعد اعتبار مفهوم القيد: فادعوه باسمائه الحسنى من افراد البشر التى هى ببشريتها سنخكم ويمكن لكم التوسل بها من الانبياء (ع) والاولياء (ع) وخاتم الكل والحاضر فى زمانكم محمد (ص) وعلى (ع)، فادعوه بهما كما فسر قوله تعالى: ادعوا الله او ادعوا الرحمن بهما؛ ولا تدعوه باسمائه الغير الحسنى من الاشقياء وائمة الجور وخاتم الكل والحاضر فى زمانكم مقابلوا محمد (ص) وعلى (ع) وعلى هذا فقوله تعالى { وذروا الذين يلحدون في أسمآئه } كان بيانا لمفهوم القيد وتأكيدا له ان كان معناه واتركوا دعاء الله بالذين يلحدون فى اسمائه الحسنى ان جعل الاضافة للعهد او فى مطلق اسمائه ان جعلت للاستغراق، وان كان معناه اعرضوا عن الذين يلحدون فى اسمائه ولا تنظروا اليهم والى الحادهم كان تأسيسا يعنى لا توسلوا بهم حسب مفهوم القيد ولا تنظروا اليهم والى الحادهم بل اجعلوهم كالمعدومات، والمراد بالالحاد فى الاسماء العدول عنها من حيث انها اسماء والعدول بها عن اسميتها لله وقوله { سيجزون ما كانوا يعملون } يناسب المعنى الثانى لقوله وذروا الذين يلحدون.
[7.181]
{ وممن خلقنآ أمة يهدون بالحق } قد عرفت مما مضى ان الحق المضاف هو الولاية والنبوة والرسالة صورتها { وبه يعدلون } من العدالة او يسوون الاشياء الغير المتعادلة من قوى انفسهم فى مملكة وجودهم او من غيرها فى خارج وجودهم وقد فسر هذه الآية فى اخبار عديدة بآل محمد (ص) وأتباعهم وهو قرينة قوله تعالى: ولقد ذرأنا لجهنم وكان المناسب للمعادلة ان يقول وخلقنا للجنة امة يهدون، ولكن لما كان المقام مقام الوعيد دون الوعد ناسب تطويل الوعيد والاجمال فى الوعد ولذا بسط فى الوعيد بذكر الاوصاف العديدة لاصحاب جهنم، واكتفى بهذا القدر لاصحاب الجنة وانتقل الى التهديد والوعيد وهو معطوف على جملة ذرأنا باعتبار مناسبة المعنى كأنه قال: وممن خلقنا امة يستحقون الجحيم، وهذه المقابلة تدل على ان قوله: { ولله الأسمآء الحسنى } من متعلقات الجمل السابقة.
[7.182]
{ والذين كذبوا.. } الاستدراج الاستصعاد او الاستنزال درجة بعد درجة والمراد به هنا الاستنزال، عن الصادق (ع) اذا أراد الله بعبد خيرا فأذنب ذنبا اتبعه بنقمة ويذكره الاستغفار، واذا اراد بعبد شرا فأذنب ذنبا فاتبعه بنعمة لينسيه الاستغفار ويتمادى بها وهو قول الله عز وجل: سنستدرحم من حيث لا يعلمون بالنعم عند المعاصى.
[7.183]
{ وأملي لهم } من املى له امهله، او من املاه الله متعه فيكون دخول اللام للتقوية وللاشعار باختصاص الاملاء بهم { إن كيدي متين } يعنى ما ظاهره الاحسان وباطنه الاستدراج والاساءة من الاناسى ضعيف ومنى متين بحيث لا يعلم به اصلا.
[7.184]
{ أولم يتفكروا } ءانكروا محمدا (ص) ولم يتفكروا { ما بصاحبهم من جنة } كما يقولون انه لمجنون { إن هو إلا نذير مبين } ظاهر او مظهر ان انذاره من الله.
[7.185]
{ أولم ينظروا } عطف على قوله او لم يتفكروا او على مقدر اى اوقفوا عن النظر ولم ينظروا { في ملكوت السماوات والأرض } ملكوت كل شيء باطنه لان الملكوت مبالغة فى المالكية وباطن كل شيء مالك لظاهره كباطن الانسان المسخر لظاهره بحيث لا يتمكن من عدم طاعته، وباطن السماوات المسخر لاجرامها فى حركاتها المتناسقة وملكوت الارض مثالها فى عالم المثال وهو عالم الملكوت الاعلى، والمقصود من النظر فى ملكوتهما النظر فى دقائق الحكم المودعة فى حركاتها المتناسقة المنتظمة المترتب عليها كليات نظام العالم وجزئياته التى لا يشك العاقل فى انها ليست من اجرامها من غير علم وشعور، بل لها مسخر عالم شاعر حكيم واذا عرف الانسان ذلك من السماوات والارض لم يتوقف فى معرفة الآخرة ومعرفة الله وصفاته ومعرفة المعاد ، وورد الامر بالنظر فى السماوات والارض وآياتهما وآيات الآفاق والانفس ليؤدى بالناظر الى مدبرهما ومسخرهما وملكوتهما { وما خلق الله من شيء } مما يطلق عليه اسم الشيء كائنا ما كان فان فى كل شيء آية قدرته وحكمته { وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم } او لم ينظروا فى انه عسى ان يكون قد اقترب اجلهم فيستعدوا له فيميزوا بين ما ينفعهم حين الاجل وبين ما يضرهم، فان تذكر الموت يعين على التميز بين الحق والباطل وعلى رفع الغشاوة والعمه عن البصيرة { فبأي حديث بعده } بعد الاجل { يؤمنون } ولا حديث بعده ولا ينفع نفسا ايمانها لم تكن آمنت من قبل.
[7.186]
{ من يضلل الله فلا هادي له } جواب لسؤال ناش مما سبق كأنه قيل: فما بالهم لا يؤمنون بعد وضوح الحق وتيقن الموت؟! { ويذرهم في طغيانهم يعمهون } يتحيرون.
[7.187]
{ يسألونك عن الساعة } قد فسر الساعة فى رواياتنا بالقيامة وبظهور القائم عجل الله فرجه وبوقت الموت والكل فى العالم الصغير راجع الى معنى واحد وهو اول وقت الموت، فانه من مات قامت قيامته ويظهر القائم من آل محمد (ص) حين الموت على المؤمن والكافر وكذا فى العالم الكبير، فان الانسان بعد طى البرازخ سعيدا كان او شقيا تقوم قيامته الكبرى وله اماتة اخرى ويظهر القائم حينئذ ظهورا اتم من الظهور الاول ويحاسب الناس ويدخل اهل الجنة فى الجنة واهل النار فى النار، وقوله تعالى:
أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين
[غافر:11]؛ اشارة الى هاتين الاماتتين وهذين الاحيائين ولذا قدم امتنا والساعة بكلا معنييه من الامور التى لم يطلع الله عليها احدا من ملائكته المقربين وانبيائه المرسلين (ع) واوليائه الكملين، فلا يعلمها الا الله ويقدم منها ما يشاء ويؤخر فمن ادعى علمها فهو كذاب وقد ورد لعن الله الموقتين، بل التحقيق ان الساعة خارجة من الوقت واقعة فوق الوقت ليس لها وقت زمانى بل هى من الملكوت والزمان من الملك وتحديد الملكوت بالملك من غاية الجهل ولذا نسب الله تعالى الى عدم العلم والجهل من سأل عنها { أيان مرساها } وقوعها سؤال عن توقيت الساعة { قل إنما علمها عند ربي } لانه استأثره لنفسه { لا يجليها لوقتهآ } لا يظهرها فى وقتها { إلا هو ثقلت في السماوات والأرض } لان صغريها وكبريها ترفع الحدود والتعينات وتميت الانيات وتظهر الحق وتبيد الباطل وليست السماوات والارض وأهلهما الا التعينات والانيات الباطلة ولا ثقل اثقل مما يرفع الشيء ولا يبقى له اثرا { لا تأتيكم إلا بغتة } من غير تقدم اثر وعلامة { يسألونك كأنك حفي عنها } يعنى يلحون فى السؤال عنك كأنك ملح علينا فى السؤال عنها { قل إنما علمها عند الله } تأكيد فى الرد عليهم { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } انها مما ليس يبذلها الله لغيره وانها فوق الوقت لا يمكن توقيتها بوقت.
[7.188]
{ قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا } فلا يكون لى الاطلاع على الغيوب وهو تبرء من الانانية واقرار بالعجز والعبودية، كما هو شأن العارف بالربوبية وكناية عن نفى علم الغيب عن نفسه مطلقا اشارة الى العجز فى قوته العمالة والجهل فى قوته العلامة بحسب التنزل الى مقام البشرية وما كان يظهر منه القدرة والعلم بالغيوب، فانما هو بحسب جنبته الملكوتية التى هى من عالم الربوبية { إلا ما شآء الله } ان يملكنى على ظاهره ويعلمنى على معناه المكنى { ولو كنت أعلم الغيب } تصريح بالنفى المكنى تأكيدا وتحقيق له بالبرهان الحسى على زعمهم فانهم لا يرون خيرا الا ما زعموه خيرا من الاعراض الدنيوية { لاستكثرت من الخير } السعة فى المال والصحة والسلامة { وما مسني السوء } الآفة فى المال وفى الانفس { إن أنا إلا نذير } للكافرين بقرينة المقابلة مع بشير، وتقييده بالمؤمنين او مطلقا كما هو ظاهره لكن المؤمنين من الجهات النفسانية التى تؤدى الى الكفر وللكفار من كفرهم { وبشير لقوم يؤمنون } نفى لجملة الشؤن عن نفسه واثبات للانذار والتبشير الذين هما بأمر الله كأنه قال: ليس لى شأن الا امر الله وهو غاية التوحيد فعلا وصفة، ولما كان هذا منه (ص) توحيدا عقبه تعالى شأنه باشراك آدم وحواء فى مخلوقه الذى لا ينبغى الاشراك فيه اشراكا فى الآلهة، وهو ينافى توحيد اله العالم الذى هو دون توحيد الافعال والصفات ابداء لفضله (ص) وتقديما لذم اولادهما فى الشرك فى العبودية الذى هو اقبح من الشرك فى الآلهة ومستلزم له فقال { هو الذي خلقكم من نفس واحدة }.
[7.189-190]
{ هو الذي خلقكم من نفس واحدة } منا منه سبحانه بنعمة الوجود اثباتا لتوحيده فى العبادة ولذا وبخهم على الاشراك معللا بان ما جعلوه شريكا لا يخلق شيئا { وجعل منها زوجها ليسكن إليها } اذاراءاها من سنخها، وتذكير ضمير يسكن بلحاظ المعنى ويجوز ان يراد بنفس واحدة، حواء ويكون معنى جعل منها زوجها جعل من سنخها زوجها وهما آدم (ع) وحواء (ع) فى العالم الكبير والجهتان العقلانية والنفسانية للانسان اللتان هما نازلتا العقل فى العالم الصغير { فلما تغشاها حملت حملا خفيفا } لا يظهر اثر ثقله { فمرت به } استمرت مع الحمل { فلمآ أثقلت } صارت ذات ثقل { دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا } فى النفس والبدن { لنكونن من الشاكرين فلمآ آتاهما صالحا } منة اخرى عليهما { جعلا له شركآء فيمآ آتاهما } بدلا النعمة بالكفران والوعد بالخلف. اعلم، ان للاشراك بالله مراتب عديدة: الاول، الاشراك به فى وجوب وجوده كاشراك اكثر الثنوية القائلين بان للعالم مبدئين قديمين مسميين بالنور والظلمة او يزدان واهريمن، والثانى، الاشراك فى الالهة كاشراك بعض الثنوية القائل بان القديم والواجب الوجود واحد والظلمة او اهريمن مخلوق منه لكن له الآلهة فى العالم وان الشرور كلها منه لا من الله، والثالث، الاشراك فى العبادة كاشراك اكثر الصابئين واشراك الوثنيين والعجليين وغيرهم ممن يعبد غير الله من مخلوقاته تقربا بها الى الله، والرابع، الاشراك فى الوجود كاشراك معظم الناس الا من شذ الذين لا يرون فى الوجود الا الموجودات المتكثرة المتقابلة كل من الآخر والكل مع الله، والخامس، الاشراك فى الطاعة كاشراك من اشرك فى طاعة الانبياء (ع) والاولياء (ع) وخلفائهما طاعة غيرهم من ائمة الجور وعلماء السوء والسلاطين والامراء والحكام، والسادس، الاشراك فى المحبة كاشراك من اشراك فى محبة الله ومحبة خلفائه محبة غيره وكاشراك من اشرك فى المحبة بان كان مصدرها آلهيا ونفسانيا او غايتها آلهيا ونفسانية، والسابع، الاشراك فى الولاية وهى اشدها واعظمها بان اشرك مع ولى الامر او نبى الوقت غيره فى البيعة الخاصة الولوية او العامة النبوية او اذعن بنبوة من ليس بنبى او بولاية من ليس له الولاية، فقوله تعالى: { وما يؤمن أكثرهم بالله الا وهم مشركون } ، المقصود منه احد المعانى السابقة غير الثلاثة الاول وكل هذه المعانى غير الكفر بالله فى كل مرتبة فانه يقتضى قطع النظر عن الله واستبداد النظر الى غيره، وما يجرى فى اهل العالم الكبير يجرى فى اهل العالم الصغير من غير فرق، ومعانى الاشراك غير الثلاثة الاول وغير المعنى الاخير يجوز اعتبارها ههنا ان كان المراد ان آدم وحواء حقيقة جعلا له شركاء كما فى الخبر وانما شركهما شرك طاعة وليس شرك عبادة، وفى حديث: جعلا للحارث نصيبا فى خلق الله ويناسب الشرك فى المحبة بأحد معانيه وقوله تعالى:
وشاركهم في الأموال والأولاد
[الإسراء:64] يناسب هذا الشرك والشرك فى الطاعة، وان كان المراد ان اولاد آدم (ع) جعلوا له شركاء فيما آتاهم والنسبة الى آدم (ع) وحواء كانت مجازا كما فى الخبر، ويؤيده قوله تعالى { فتعالى الله عما يشركون } بصيغة الجمع امكن اعتبار جميع اقسام الشرك ونسبة الشرك الى اولادهما اما بطريق المجاز فى الحذف بان يكون فاعل جعلا اولادهما، لكنه حذف واقيم المضاف اليه مقامه او بطريق المجاز فى الحكم بان يكون المحكوم عليه الاولاد لكنه نسب اليهما باعتبار ان الاتباع والاولاد كالاجزاء او النسبة الى الاولاد باعتبار ان يراد الجنس من لفظ صالحا وحينئذ يشمل الذكور والاناث، وضمير جعلا يرجعنا الى صالحا باعتبار الصنفين كما فى الخبر، ولما علم من السابق ان الله خالق والخالق لا يساوى المخلوق اتى بالفاء الدال على التسبيب والتفريع فقال { فتعالى الله عما يشركون } عن الذى يشركون او عن اشراكهم.
[7.191]
{ أيشركون ما لا.. } توبيخ بوجه آخر فان الاول باعتبار ان الخالق المنعم شأنه ان يوحد ولا ينظر معه الى غيره من غير اعتبار وصف للشريك وهذا باعتبار ان ما لا يخلق بل هو مخلوق لا ينبغى ان يجعل شريكا للخالق.
[7.192-193]
{ ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم } ذكر اوصافه مترتبة فى الذم من الاخس فالاخس كما هو طريقة المبالغة فى الذم وعلى هذا فمعنى ان تدعوهم الى الهدى الى ان تهدوهم انتم فضلا عن انهم يهدونكم { سوآء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون } يعنى ما يجعل شريكا للخالق ينبغى ان يكون خالقا فان لم يكن خالقا فلا اقل من ان يكون مخلوقا فان كان مخلوقا فلا اقل من ان يكون ناصرا لعابديهم، فان لم ينصروا عابديهم فلينصروا انفسهم فان لم ينصروا انفسهم فليتبعوكم فى الدعوة الى الهدى فان لم يتبعوكم فليميزوا بين الداعى وغيره، فان انتفى ذلك كله فليس اشراكه الا محض حمق المشرك وسفاهته.
[7.194-195]
{ إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم } والمعبود لا اقل من ان لا يكون عبدا { فادعوهم فليستجيبوا لكم } ولا اقل من السماع والاستجابة { إن كنتم صادقين ألهم أرجل يمشون بهآ } ولا اقل من ان يمشى مثلكم { أم لهم أيد يبطشون بهآ أم لهم أعين يبصرون بهآ أم لهم آذان يسمعون بها قل } بعد اتمام التوبيخ والتفضيح تحديا { ادعوا شركآءكم ثم كيدون فلا تنظرون } فانى لا ابالى بكم وبشركائكم بعد غاية ضعفكم وضعف شركائكم وقوة ربى وحفظه ونصرته.
[7.196-197]
{ إن وليي الله الذي نزل الكتاب } فى موضع التعليل والمراد بالكتاب كما عرفت الكتاب المعهود المعروف وهو كتاب النبوة والقرآن صورته { وهو يتولى الصالحين والذين تدعون من دونه } لما كان التحدى باعتبار قوة الله وضعف الشركاء علله بهما فقوله الذين تدعون من دونه عطف على مدخول ان { لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون } والتكرار باعتبار التعليل ومطلوبية التكرار فى مقام المبالغة فى الذم.
[7.198-199]
{ وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك } صرف الخطاب منهم الى محمد (ص) اشعارا بانهم بعد ما ظهر وقاحتهم وسفاهتهم لا ينبغى التخاطب معهم { وهم لا يبصرون خذ العفو } شبه العفو بالوحشى الشارد لتعسر الاتصاف به ثم استعمل الاخذ فيها استعارة تخييلية وترشيحا لها والمراد منه اعم من الصفح فانهما كالفقراء والمساكين اذا اجتمعا افترقا، واذا افترقا اجتمعا { وأمر بالعرف } ولما لم يكن النظر إلى خصوص المعفو عنه والمأمور بالمعروف اسقط المفعول بخلاف الاعراض فانه مختص بالجاهل ولذا قيده فقال { وأعرض عن الجاهلين } وقد فسر العفو فى الخبر بالميسور من الافعال والاخلاق وبالوسط من الاموال وهو من سعة وجوه القرآن، اعلم ان هذه الثلاث امهات اخلاق المعاشرة ونتائج امهات الاخلاق الجميلة النفسيته فان المعاشر اما معاند مسيء، واما محب مقبل، واما جاهل غير معاند وغير مقبل، وجميع آداب حسن المعاشرة مع المعاند مطوية فى ترك مقابلة اساءته بالانتقام وهو العفو وتخلية القلب من تذكر سوء صنيعته وهو الصفح وهما من نتائج الشجاعة والعفة والحكمة التى هى من امهات الخصائل، فان الجبان لا يمكنه ترك الانتقام وان منع جبنه عن الانتقام فلا يمكنه الصفح، والمتهور لا يترك الانتقام البتة والعفيف يمنعه عفته عن مطاوعة النفس بخلاف الشره، والحكيم يرى ان فى ترك الانتقام راحة فى العاجل ودرجة فى الآجل وكسرا لسورة عناد المعاند وجذبا للمحبة والعدالة التى هى احدى امهات الخصائل ايضا تقتضى ذلك، فان اجمال العدالة اعطاء كل ذى حق حقه وحق النفس مطاوعتها للعقل وحق المسيء اصلاحه حتى يترك الاساءة لا انتقامه حتى يزيد فى الاساءة، وآداب المعاشرة مع المقبل المحب مطوية فى ارادة خيره فى كل حال وارادة خيره بان لا يتركه ونفسه بل يعرفه معروفه ويأمره به وهو من نتائج الحكمة والعدالة، وآداب المعاشرة مع الجاهل الغير القابل للخير عدم معارضته وترك محادثته بخيره وهو من نتائج الحكمة والعدالة ايضا وفى الخبر: امر الله نبيه بمكارم الاخلاق وليس فى القرآن آية اجمع لمكارم الاخلاق منها.
[7.200]
{ وإما ينزغنك من الشيطان نزغ } ان يغريك او يوسوسك من الشيطان مغر او موسوس او اغراء او وسوسة حتى تحركك على انتقام المسيء وترك نصح المحب ومعارضة الجاهل { فاستعذ بالله إنه سميع } لاستعاذتك او لنزغ الشيطان وان كان خفيا فى القلب { عليم } بعاقبة ما يأمرك به اوبكيفية دفع نزغ الشيطان.
[7.201]
{ إن الذين اتقوا } ارادوا التقوى من نزغ الشيطان او اتقوا موالاة الشيطان او اتقوا تقوى حقيقية حاصلة بولاية على (ع) والبيعة الخاصة الولوية وعلى اى معنى فهو فى موضع تعليل للامر بالاستعاذة { إذا مسهم طائف } خطرة وسوسة لان الانسان قلما ينفك منها فكأنها طائفة بهم ودائرة معهم او طائف وشيطان من قبل ابليس الابالسة او خيال من الطيف بمعنى الخيال { من الشيطان تذكروا } اوامره تعالى ونواهيه، او تذكروا سوء عاقبة الطائف، او تذكروا المأخوذ من ولى امرهم، او تذكروا بالفكر الحاصل من الذكر المأخوذ الذى هو مثال شيخه { فإذا هم مبصرون } سوء عاقبة الطائف او ان الطائف من الشيطان او جذب الطائف الى السفل السجين او انه شيطان يوسوسه من قبل ابليس.
[7.202]
{ وإخوانهم } اى والحال ان اخوان الذين اتقوا واخوان الشياطين من الانس { يمدونهم في الغي } من المد بمعنى الجذب او من المدد وقرئ يمدونهم من الامداد يعنى يغرونهم على مخالفة الامر والمقصود الاشارة الى قوة التذكر بحيث يمنع صاحبه من الغى وان كان شيطان الجن يغويه وشياطين الانس تجذبه او تعينه فى غيه { ثم لا يقصرون } لا يمسكون من الجذب او الامداد.
[7.203]
{ وإذا لم تأتهم بآية } من مقترحاتهم او بآية من القرآن فى احكامهم عند مسألتهم { قالوا } اى المقترحون او المتقون حرصا على اجابة الكفار الى مقترحاتهم طمعا فى ايمانهم { لولا اجتبيتها } لولا اخترت الآية المقترحة { قل إنمآ أتبع ما يوحى إلي من ربي } ولست اختار من قبل نفسى آية ومعجزة من مقرتحاتكم او آية فى احكامكم { هذا } القرآن او هذا المذكور من قوله واتل عليهم وهو من جملة المقول له (ص) او مستأنف من الله { بصآئر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } صفة للمجموع.
[7.204-205]
{ وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا } يعنى اذا قرأ الامام الموثوق به فى الصلاة القرآن اى الحمد والسورة وانتم مؤتمون به كما فى بعض الاخبار، او اذا قرأ الامام موثوقا به او غير موثوق به فى الصلاة وانتم مؤتمون به، او اذا قرئ القرآن مطلقا سواء كان القارى اماما او غيرا امام وسواء كنتم مؤتمين او غير مؤتمين، وسواء كان القارى مصليا او غير مصل، وسواء كنتم مصلين او غير مصلين كما فى بعض الاخبار، ووجه الجمع بين الاخبار المبالغة فى وجوب انصات المستمع فى الصلاة مؤتما حال كون القارى اماما موثوقا به وعدم المبالغة فى الوجوب فى غير الصورة المذكورة، او الوجوب فى الصورة المذكورة والاستحباب فى غير الصورة المذكورة كما عليه اصحاب الفتيا، ووجه اختلاف الاخبار فى باب من ائتم بالمخالف بالنهى عن القراءة والامر به اختلاف احوال الاشخاص فى امكان اخفاء القراءة عن المخالفين وعدمه { لعلكم ترحمون واذكر ربك } المضاف او المطلق عطف على قوله تعالى: { قل إنمآ أتبع ما يوحى إلي } ، او مستأنف والامر له (ص) بحيث يشمل امته او الخطاب عام ويصح عطفه على استمعوا او على استعذ بالله، او على خذ العفو { في نفسك } يعنى دون لسانك فانه المتبادر، ومقتضى المقابلة مع قوله ودون الجهر من القول، وهو اشارة الى الذكر الخفى الذى هو مصطلح الصوفية ولذا قدمه والمراد بالذكر اعم من الذكر النقشى المثالى المأخوذ عن ولى الامر ومن الذكر التمثالى المثالي الذى يعبر عنه بالفكر والحضور، هو تصور مثال الشيخ عند الذاكر وهو أبلغ فى الذكر من النقشى المثالى وهو ابلغ من اللسانى الغير المجهور وهو أبلغ من المجهور، ويجوز ان يراد بالذكر فى النفس مطلق تذكر الرب او تذكر امره ونهيه عند كل فعال، وقد سبق تفصيل الذكر واقسامه وفضيلة كل قسم منه فى اول البقرة عند قوله فاذكروني اذكركم { تضرعا وخيفة } ذكر تضرع او مصدران من غير لفظ الفعل على ان يكون المراد من كل من التضرع والخيفة احد انواع الذكر او متضرعا وخائفا، ويحتمل ان يكون قوله تضرعا وخيفة مفعولا له حصوليا او تحصيليا يعنى ان الرجاء والخوف من لوازم وجود الانسان، او من لوازم وجودك وهما يسلتزمان الذكر او الرجاء والخوف بمنزلة جناحى المؤمن لا يمكنه السير بدونهما وهما لا يحصلان الا بذكر الرب فاذكره لتحصيلهما والمقصود من التضرع الرجاء بقرينة مقابلة الخوف فان التضرع والابتهال والالتجاء من متفرعات الرجاء والمقصود نفى الغرور بالله ونفى اليأس من رحمة الله والوقوع بين الخوف والرجاء اللذين هما من صفات المؤمنين { ودون الجهر من القول } يعنى باللسان من غير جهر وهو اشارة الى الذكر الجلى الذى هو من مصطلحات الصوفية واما الذكر اللسانى المجهور كما هو شأن القراء والقصاص والعوام فقد ورد مذمته ولم يكن من سنة الصوفية، فقد ورد عن مولينا ومقتدانا ومن به رجاءنا وعاجلنا وآجلنا امير المؤمنين (ع) ورغم انف المعاندين، من ذكر الله فى السر فقد ذكر الله كثيرا ان المنافقين كانوا يذكرون الله علانية ولا يذكرونه فى السر فقال الله تعالى:
يرآءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا
[النساء:142] { بالغدو والآصال } فى جملة او قاتك فانه قد يستعمل الغداة والعشى ومرادفاتهما فى لسان العرب والعجم فى استغراق الاوقات، او المراد هذان الوقتان لشرافتهما على سائر الاوقات وفراغة الانسان من مشاغله الدنيوية والضرويات البدنية والالتذاذات النفسية غالبا فى هذين الوقتين { ولا تكن من الغافلين } المنهمكين فى الغفلة ولم يقل: ولا تغفل، كما هو طريقة المشاكلة فى المقابلة لان الانسان قلما ينفك عن حدوث الغفلة.
[7.206]
{ إن الذين عند ربك } فى موضع التعليل للامر والنهى والمراد من حصل له الحضور عنده من الانبياء (ع) والرسل (ع) وخلفائهم فى سلسلة الصعود والملائكة المقربين فى سلسلة النزول { لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه } على سبيل الاستمرار { وله يسجدون } استمرارا فان اردت اللحوق بهم والاتصاف بصفاتهم فلا تغفل عن ذكره.
[8 - سورة الأنفال]
[8.1]
{ يسألونك عن الأنفال } جمع النفل وهو الزيادة وقد فسرت فى بعض الاخبار بما هو مختص بالرسول (ص) والامام (ع) مما لا يوجف عليه بخيل ولا ركاب وبطون الاودية والآجام والاراضى الموات والمعادن وميراث من لا وارث له وغير ذلك مما لا شركة لغيره فيه، وفسرت فى بعض آخر بالغنائم التى فيها الخمس للرسول والبقية للمقاتلين، وورد انها نزلت فى غنائم بدر حين اختلفوا فيها وتنازعوا وتشاجروا { قل الأنفال لله والرسول } لا شراكة لغير الرسول فيها فان فسرت بالغنائم فهى منسوخة بآية التخميس وان فسرت بغير الغنائم فهى ثابتة { فاتقوا الله } ولا تطمعوا فيها ولا تختلفوا ولا تشاجروا ولا تريدوا اصلاح امر الله ورسوله فانهم كانوا يوم بدر ثلاثة اصناف: صنف اغاروا على الغنائم، وصنف تخلفوا عند رسول الله (ص)، وصنف ذهبوا فى طلب العدو، وكان المال قليلا والناس كثيرا وبعضهم ضعفاء وبعضهم اقوياء وكانت اول غنيمة أخذوها فتكلموا فيها وفى كيفية قسمتها وتنازعوا فى ذلك { وأصلحوا ذات بينكم } ما بينكم لا ما بين الله والرسول (ص) وبينكم فانه ليس اصلاحه اليكم وذات هى التى بمعنى الصاحبة ثم استعملت فى مثل ذات الصدور وذات بينكم بمعنى ما فى الصدور وما بينكم لمصاحبة ما فى الصدور وكذا ما فى البين لهما { وأطيعوا الله ورسوله } ولا تكلموا فيما امره اليهما { إن كنتم مؤمنين } فان الايمان يقتضى تسليم امر الله وتكلمكم فى امر الله ورسوله (ص) يورث الشك فى ايمانكم.
[8.2]
{ إنما المؤمنون } تعليل لما يفهم من الشرط من الشك فى ايمانهم او جواب لسؤال ناش من الشرط كأنه قال قائل: ان كان هؤلاء مشكوكا فى ايمانهم فمن المؤمن الذى لا يشك فى ايمانه؟ - فقال: انما المؤمنون { الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } لذكره { وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا } لكون قلوبهم خالية عن رين الاهوية فيؤثر ذكر الله وآياته فيها وقد مضى ان الايمان له مراتب ودرجات وانه يزداد وينقص { وعلى ربهم يتوكلون } عطف على جملة الشرط والجزاء الواقعة صلة لعدم تقيده بحين دون حين وللاشارة الى ان التوكل لا بد وان يصلح آنا فآنا اتى بالمضارع دون الماضى.
[8.3]
{ الذين يقيمون الصلاة.. } اشارة الى وصفى الايمان من التولى المعبر عنه بالصلاة والتبرى المعبر عنه بالزكاة، والانفاق وهما اساسا جملة الاعمال الصالحة البدنية وهو بدل من الموصول او مبتدء مستأنف وخبره الجملة الآتية او هو خبر مبتدء محذوف جوابا لسؤال مقدر.
[8.4]
{ أولئك } الموصوفون بما ذكر، والاتيان باسم الاشارة البعيدة لاحضارهم بالاوصاف المذكورة ليكون كالتعليل للحكم وتعظيما لهم { هم المؤمنون حقا } ضمير الفصل وتعريف المسند للحصر والتأكيد، يعنى ان هؤلآء الذين قرنوا بين صورة الايمان العام التى هى البيعة مع النبى (ص) بالبيعة العامة وحقيقته التى تظهر بآثاره المذكورة التى هى تأثر القلوب من آثار من آمنوا به وهو من لوازم المحبة التى هى من لوازم صفاته الجمالية والاقرار به وتفويض الامور اليه الذى هو من آثار صفاته الجلالية، هم المؤمنون الذين لا يشك فى ايمانهم لا البايعون بالبيعة العامة فقط من غير التحقق بحقيقته فان ايمانهم مشكوك فيه { لهم درجات عند ربهم } خبر بعد خبر او حال او استيناف جوابا لسؤال مقدر { ومغفرة ورزق كريم } ذكر اوصافا ثلاثة لهم هى امهات ما يطلبه الانسان، الاول سعة المقام ولوازمها وللاشارة الى ان الدرجات ليست مغايرة لذواتهم بل هى شؤنهم وسعة ذواتهم قال تعالى فى آية اخرى؛ هم درجات، والثانى ستر المساوى وما يلحقه منها، والثالث وجدان ما يحتاج اليه.
[8.5]
{ كمآ أخرجك ربك من بيتك بالحق } بالغاية الحقة الثابتة وهو اعلاء الدين واعزاز الؤمنين وانهزام المشركين او متلبسا بالحق الذى هو الولاية او متسببا عن الحق الذى هو الولاية وهو كلام مستأنف لبيان ضعف يقينهم كما ان ما سبق ايضا كان لبيان ضعف يقينهم، والمراد بالاخراج الاخراج من مكة او من المدينة لعير قريش وغزو بدر فانهم كرهوا خروجه لعدم عدتهم وهو متعلق بقوله: يجادلونك يعنى كما كرهوا ان اخرجك ربك من بيتك بالحق يكرهون القتال مجادلين فيه كأنما يساقون حين الذهاب الى القتال الى الموت، والاحتمالات الاخر فى تركيبه بعيدة من سوق الكلام فانه مسوق لتمثيل حالهم فى كراهة القتال جهلا بعاقبته بحالهم فى كراهة الخروج جهلا بعاقبته وفى الاخبار اشارة الى انه منقطع عما قبله منزل وحده { وإن فريقا من المؤمنين لكارهون } الجملة حالية.
[8.6]
{ يجادلونك في الحق } الذى يستتبع غاية حقه متحققة وهو القتال الذى به ارتفع امر المؤمنين وتقووا بالغلبة واخذ الغنيمة وهو قتال البدر { بعدما تبين } الحق باعلام الرسول ان الغلبة لهم ومشاهدة صدق اخباره فى موارد عديدة { كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون } اى الى الموت وذلك انه اخبرهم الرسول (ص) بعير قريش وان الله وعدهم عير قريش فخرجوا من المدينة، ثم اخبرهم ان قريشا خرجوا لحماية العير وان الله وعده النصرة على قريش فكرهوا معارضة قريش لقلة عددهم وعددهم فجادلوه فى ذلك لضعف يقينهم.
[8.7]
{ وإذ يعدكم الله } عطف على بعد ما تبين او بتقدير اذكروا عطف على جملة كما اخرجك (الى آخر الآية) فانه فى معنى اذكروا وقت خروجكم ومجادلتكم كأنه قال: اذكروا اذ أخرج الله نبيه (ص) من بيته وكراهتكم له والحال ان فيما كرهتموه اعلاء كلمتكم واذكروا اذ يعدكم الله { إحدى الطائفتين أنها لكم } وتكرهون قريشا { وتودون أن غير ذات الشوكة } السلاح { تكون لكم } وهو العير فانه لم يكن فيها كثرة عدد ولا كثرة سلاح بخلاف قريش فان عددهم كان قريبا من الالف وكلهم شاكى السلاح { ويريد الله أن يحق الحق } يثبته ويظهره { بكلماته } بخلفائه واتباعهم { ويقطع دابر الكافرين } بالاستيصال بحيث لا يبقى منهم اثر ولا عقب.
[8.8-9]
{ ليحق الحق ويبطل الباطل } يعنى ان نفس احقاق الحق هو المطلوب منه لا امر آخر فهو من قبيل ما كان الفعل مطلوبا لنفسه لا مقدمة لامر آخر فكأنه قال: يريد الله ان يحق الحق لنفس احقاق الحق { ولو كره المجرمون إذ تستغيثون ربكم } ظرف لقوله يريد الله او لقوله كره المجرمون او بدل من قوله اذ يعدكم احدى الطائفتين بدل الاشتمال فان الوعد كان فى المدينة والاستغاثة حين القتال ومشاهدة قلتهم وعدم عدتهم وكثرة العدو عدة وعدة { فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين } بعضهم بعضا او مردفين لكم من اردفه اذا تبعه.
[8.10-11]
{ وما جعله الله } اى الامداد { إلا بشرى } اى لكم بانجاز الوعد بالنصر { ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله } ولكنكم لضعف يقينكم وتوكلكم لا تنظرون الا الى الاسباب ولذا اجرى النصر بتوسط الاسباب { إن الله عزيز حكيم إذ يغشيكم النعاس أمنة منه } ظرف لقوله استجاب او لممدكم او لمردفين او لجعله الله او لتطمئن او لقوله من عند الله على الانفراد او على سبيل التنازع، ويحتمل ابداله من قوله اذ يعدكم وقوله اذا تستغيثون بدل اشتمال { وينزل عليكم من السمآء مآء ليطهركم به } من الحدث والخبث { ويذهب عنكم رجز الشيطان } الجنابة او وسوسته وتخويفه عن العطش، روى انهم نزلوا فى كئيب اعفر تسوخ فيه الاقدام على غير ماء فناموا فاحتلم اكثرهم وقد غلب المشركون على الماء فوسوس اليهم الشيطان وقال: كيف تنصرون وقد غلبتم على الماء وانتم تصلون محدثين وتزعمون انكم اولياء الله وفيكم رسوله فأشفقوا، فأنزل المطر فمطروا ليلا حتى جرى الوادى واتخذوا الحياض على غدوته وسقوا الركاب واغتسلوا وتوضأوا وتلبد الرمل الذى بينهم وبين العدو حتى ثبتت عليه الاقدام وزالت الوسوسة { وليربط على قلوبكم } لما كان ربط القلوب تنزيلا من اشرف خصائل الانسان والمرابطة تأويلا من آخر مقامات السلاك كرر اللام اشارة الى انه مغاير مع سابقيه شرفا ورتبة والمعنى وليربط المحبة على قلوبكم او ليربط الولاية الحقيقية التى هى مثال النبى او الولى على قلوبكم { ويثبت به } اى بالمطر تنزيلا وبالربط تأويلا { الأقدام } البدنية على التراب لتلبده وعلى الدين لوصولكم الى مطلوبكم.
[8.12]
{ إذ يوحي ربك إلى الملائكة } يجوز ان يكون ظرفا لكل من الافعال المذكورة من قوله يغشيكم الى قوله يثبت به الاقدام منفردا او على سبيل التنازع، ويجوز ان يكون بدلا من اذا الاولى ومن اذ الثانية والثالثة { أني معكم فثبتوا الذين آمنوا } يعنى لست مخالفكم فى التثبيت حتى لا يتيسر لكم التثبيت { سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب } اعانة لكم فى التثبيت حتى يتم لكم امره { فاضربوا فوق الأعناق } حتى اطرقوا رؤسهم او فاقطعوا رؤسهم { واضربوا منهم كل بنان } رؤس الاصابع، وتكرار اضربوا واضافة لفظة فوق من التطويل المطلوب فى مقام اشتداد الغضب وتنزيل ضرب البنان واضح وتأويله عبارة عن ضرب بنان نفوسهم الخبيثة التى بها يثلمون دين الاسلام وعقائد ضعفاء المسلمين.
[8.13-14]
{ ذلك } التشديد الشديد عليهم { بأنهم شآقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب ذلكم } ايها الكافرون فهو التفات وهو من باب الاشتغال وتخلل الفاء بتقدير اما او توهمها وهو مبتدء محذوف الخبر اى ذلكم لكم او مفعول فعل محذوف اى خذوا ذلكم او هو اسم فعل بمعنى خذوا لغلبة استعماله بعد حذف الفعل فى هذا المعنى { فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار } شأن نزول الآية وقصة بدر مذكور فى الاخبار ويكفى منها للاطلاع عليها ما فى الصافى.
[8.15-16]
{ يآأيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا } كثيرا، والزحف العسكر لانهم يزحفون اى يدبون { فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ } يوم اذ لقيتم الذين كفروا زحفا { دبره إلا متحرفا لقتال } طالبا حرفا من محل القتال للتمكن من المقاتلة او للاحتيال مع العدو ليتخيل انه انهزم ليكيد بالعدو { أو متحيزا إلى فئة } للاستغاثة بهم { فقد بآء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير } هذه احدى الكبائر التى توعد عليها النار وهو المسمى بالفرار من الزحف، ولما ذكر المؤمنين نصرة الملائكة ومعيته تعالى للملائكة وامره لهم بالضرب فوق الاعناق وضرب كل بنان وتوهم ان المؤمنين لا دخل لهم فى القتال وفرارهم وثباتهم ومجاهدتهم وقعودهم متساوية استدرك ذلك التوهم، بان فعل الملائكة لا يظهر الا بالمظاهر البشرية فانتم وان لم تكونوا فاعلين حقيقة لكنكم مظاهر فعل الملائكة فاذا لقيتم الذين كفروا فلا تولوهم الادبار حتى يجرى قدر الله وفعل الملائكة بتوسطكم ثم اثبت مقتضى نصره بالملائكة وامره اياهم بالقتل والضرب فقال: اذا كان القتل بالملائكة والنصرة بهم.
[8.17]
{ ف } انتم { لم تقتلوهم ولكن الله قتلهم } ثم صرف الخطاب الى نبيه (ص) وقال { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } اعلم، ان حق هذه العبارة التى هى فى مقام قصر القلب او الافراد ان يقال: فانتم لم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما انت رميت ولكن الله رمى، ثم حق القرينتين ان تكونا متوافقتين وقد اختلفتا فى اداة النفى وذكر المفعول وحذفه ومضى الفعل ومضارعته واثباته لمن نفى عنه وعدمه؛ والوجه فى ذلك ان الانسان له وجهة آلهية بها فاعليته ووجهة نفسية بها ينسب الافعال الى نفسه وقد يرتفع عنه بالرياضات والمجاهدات اذا كان سالكا الى الله وجهته النفسية بحيث لا يرى من نفسه اثرا فى البين ولا يرى فى الوجود الا الله ووجهته، فحينئذ يصح سلب الافعال عنه حقيقة وفى نظره ايضا لانه لا يرى لنفسه وجودا ولا اثرا، ويسمى هذا المقام فى اصطلاحهم مقام الفناء، فاذا صحا من فنائه وغشوته صار باقيا بالله لا بنفسه يعنى يرى للوجود مراتب ولكن لا يرى للحدود وجودا فيرى وجوده مرتبة من وجود الله لا مباينا لوجود الله، فحينئذ يرى لمرتبة نفسه وجودا هو وجود الله فى تلك المرتبة وهو المسمى بالبقاء بالله، فيصح منه نسبة الوجود الى نفسه ونسبة اثر الوجود اليها حسب استشعاره لمراتب الوجود لكن نسبة اثر الوجود حينئذ غير النسبة التى كانت قبل الفناء، وان لم يصح من فنائه فلم يكن نسبة للفعل اليه فى نظره لانه لا يرى فى الوجود الا الله ولا يرى الفعل الا من الله، وقد يذهل عن وجهته النفسية باسباب خارجة وعوارض طارية كغلبة الخوف والغضب والفرح وغير ذلك، وحينئذ لا يستشعر بنفسه ولا بفعل نفسه ولا يصح نسبة الفعل اليه فى نظره كمن يرى فى حال اشتغاله من كان فى مقابله ولا يستشعر برؤيته بل ينفى الرؤية عن نفسه؛ اذا تقرر هذا فنقول: ان المؤمنين فى حال القتال ذهلوا عن انفسهم لغلبة الدهشة عليهم بحيث لم يستشعروا بأنفسهم ولا بفعل أنفسهم بل كانت الملائكة تقلبهم وتوقع الحركة فيهم وتظهر صورة القتال على ايديهم فلو قال تعالى: انتم لم تقتلوهم كان اثباتا لنفسية لهم ونفيا للفعل عنهم، وكذا لو قال: اذ قتلتموهم كان اثباتا للفعل والنفسية جميعا لهم، والحال انه لم يكن فى نظرهم نفسية لأنفسهم ولا فعل وايضا لو قال: ما قتلتموهم، كان اشعارا بنفسية ما لهم حيث صرح بالفاعل بخلاف لم تقتلوهم، فان الواو وان كان ضميرا لكنه مشترك بين الغائب والحاضر وحرف الاعراب فكأنه غير مصرح بالفاعل، والرسول (ص) لما كان له نفسية بنفسية الله وبقاء ببقاء الله اتى بالماضى المصرح بالفعل ثم اثبت له الفعل المنفى ولم يقدم المسند اليه ههنا لانه يقتضى المقابلة لله او المشاركة معه وكلاهما منتف فى الواقع وفى نظره (ص)، لان نفسيته لم تكن الا بنفسية الله ومنه يظهر وجه اختلاف اداتى النفى ايضا.
واما وجه الاختلاف بذكر المفعول وحذفه فهو ان القتل ظهر على ايديهم وبحسب اقتضاء ظهوره فى المظاهر البشرية وصل الى المقتولين بخلاف الرمى، فانه وان ظهر على يده (ص) اذروى انه (ص) اخذ كفا من الحصا بوحى من الله وقرأ:
" شاهت الوجوه للحى القيوم "
، ورماه فلم يبق احد الا اشتغل بعينه لكن القوة القسرية المودعة فى الحصا من المظهر البشرى لم تقتض سعة كف من الحصا نحوا من الف رجل ولا انحرافها الى كل فى كل ناحية، فالرمى كان منه بحسب مظهريته والايصال الى المشركين لم يكن منه لا حقيقة ولا بحسب مظهريته فأسقط المفعول هنا اشعارا بان اصل الرمى ظهر على يده ولكن الايصال الى المشركين لم يجر على يده { وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا } اتى بالعاطف مع ان المقصود ان الله قتل ورمى ليبلى المؤمنين لان المقصود من الاول نفى القتل والرمى عنهم ولثباته لنفسه تعالى مع قطع النظر عن السبب والغاية ولو اتى بالقيد لا وهم ان المراد نفى الفعل عنهم مقيدا بالغاية المخصوصة واثباته كذلك، مع انه لم يكن المقصود الا نفى اصل الفعل واثباته فهو معطوف على قوله لكن الله قتلهم ورماهم بتقدير قتلهم او خبر مقدم لقوله ذلكم والمعنى انه قتلهم ورماهم لينعم على المؤمنين نعمة حسنة من الغنيمة واعلاء الكلمة، او المعنى ليختبر المؤمنين من قبله اختبارا حسنا لا تعب فيه ولا انحراف عن الحق يعتريه ابتلاهم بمجاهدة الاعداء مع قلة عددهم وكثرة العدو، وكونه اختبارا وامتحانا واضح، وكونه حسنا لحسن عاقبته بحصول قوة القلب لهم وقوة الايمان مع الغلبة واعلاء الكلمة والغنيمة الوافرة وفداء الاسرى، ولعل هذا كان اوفق بسياق العبارة ومعانى اللغة فان الابلاء والبلاء بمعنى الاختبار كثير الاستعمال وبمعنى الانعام لم يذكره بعض اللغويين { إن الله سميع } لدعاء النبى (ص) واستغاثة المؤمنين { عليم } بما يصلحهم من الانعام وعدمه او ان الله سميع لمقالتهم للنبى (ص) وكراهة المقاتلة عليم بما هو صلاحهم من الجهاد مع العدو ومعارضة العير والغارة عليهم.
[8.18]
{ ذلكم } البلاء او القتل والرمى وهو مبتدأ مؤخر او خبر مبتدء محذوف { وأن الله موهن كيد الكافرين } عطف على يبلى او على ذلكم.
[8.19]
{ إن تستفتحوا } ايها الكافرون على ان يكون الخطاب لمشركى مكة كما قيل: انهم وقت الخروج من مكة لغزو بدر تعلقوا بأستار الكعبة وطلبوا الفتح والنصرة على محمد (ص) ونقل ايضا ان ابا جهل استفتح يوم بدر وطلب النصرة من الله وقيل الخطاب للمؤمنين { فقد جآءكم الفتح } تهكما { وإن تنتهوا } عن معاداة الرسول (ص) وجحوده { فهو خير لكم } يعنى هو المختار وليس المقصود اعتبار التفضيل، او التفضيل مقصود بالنسبة الى اعتقادهم { وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئا } اى اغناء او ضرا كما لم تغن هذه الكثرة { ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين } الجملة حالية على قراءة ان بالكسر، وعلى قراءة ان بالفتح فهى معطوفة على شيئا يعنى لن تغنى عنكم فئتكم ضرا ولا كون الله مع المؤمنين الذى هو سبب هزيمتكم وضركم.
[8.20]
{ يأيها الذين آمنوا } بعد ما ذكر معيته للمؤمنين ونصرتهم بالملائكة ناداهم تلطفا بهم وترغيبا لهم فى طاعة الرسول (ص) التى هى ملاك الايمان وتحذيرا عن مخالفته التى هى تنافى الايمان { أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون } تلك المواعظ ومعية الله ونصرته، ولما كان طاعة الله بطاعة الرسول (ص) لم يكرر الفعل وافرد الضمير المجرور.
[8.21]
{ ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا } سماع لفظ كالحيوان { وهم لا يسمعون } سماع المعنى كالانسان.
[8.22]
{ إن شر الدواب عند الله الصم } عن المقصود { البكم } عن التنطق بالحق المقصود من السماع { الذين لا يعقلون } المقصود من اشارات المسموع.
[8.23]
{ ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم } هذه الشرطية لانتفاء الثانى لانتفاء الاول كما هو اكثر موارد استعمال لو لغة وليست لمحض بيان الملازمة بين التالى والمقدم كما هو طريقة استعمال المنطقيين { ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون } هذه الشرطية لبيان الملازمة بين التالى والمقدم الذى هو ضد ملزوم التالى مع الاشعار بتحقق ملزومه الواقعى مبالغة فى تحقق التالى مثل: لو لم يخف الله لم يعصه، فليست القضيتان على طريقة استعمال الشرطيات فى المنطق واقيستها حيث يظن انهما صورة قياس اقترانى من الشكل الاول، ولو سلم فالكبرى مهملة غير منتجة فالبحث بانه قياس من الشكل الاول وينتج: لو علم الله فيهم خيرا لتولوا، ساقط من اصله، ولو سلم صحة القياس فالنتيجة صحيحة من قبيل: لو لم يخف الله لم يعصه.
[8.24-25]
{ يأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } بالحياة الانسانية وهو الايمان الخاص الحاصل بالولاية التى هى سبب دخول الايمان فى القلب الذى هو سبب حياة القلب، فالمعنى اذا داعكم الرسول (ص) لولاية على (ع) ودعاؤه دعاء الله فاستجيبوه، وقد فسر فى الاخبار بولاية على (ع) والسر فى ذلك ان حياة الانسان بانفتاح باب قلبه الى دار الحيوان ووصول اثر الحياة من تلك الدار اليه وهو الايمان الداخل فى القلب، وانتفاح باب القلب ووصول اثر الحياة اليه لا يتصور الا بالولاية التى هى الاتصال بولى الامر الذى هو الحى بالحياة الاخروية وباعطاء اثر الحياة بنفخته فى القلب بتلقين الذكر الذى هو سبب انفتاح بابه { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } اى يصير حائلا بين المرء ونفسه فان اراد سعادة المرء يمنع من وصول اثر عصيانها اليه لئلا يقوده الى النار، وان اراد شقاوته يمنع من وصول اثر طاعتها اليه لئلا يقوده الى الجنة، او يصير حائلا بين المرء وقلبه الذى به خيراته وحيوته الحقيقية فيمنع ان شاء من وصول اثر الحياة الانسانية اليه، او يصير حائلا بينه وبين النفس لئلا يعلم ان الحق باطل والباطل حق، او يصير حائلا بين المرء حين اشتهى شيئا من مشتهياته وبين قلبه الذى فطر على الحق حتى لا يخرج المشتهيات المرء عن الحق الى الباطل او يصير حائلا بين المرء ونفسه اى مشتهياتها، فلا يدع المرء ان يتبع متشهيات النفس او يوقع الحالات بين المرء وقلبه يعنى بيده تسخير الاحوال او يتردد بين المرء وقلبه فيعلم خفيات احوالهما او يتردد بين المرء وقلبه فيوصل الحياة الابدية الى المستجيب ويمنعها من غير المستجيب، والمقصود على كل المعانى التحذير عن ترك الاستجابة والترغيب فى الاستجابة، وفى الاخبار تصريح بالبعض وتلويح الى البعض الآخر { وأنه إليه تحشرون واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خآصة } لا تصيبن صفة لفتنة فان المقصود التحذير عن فتنة مخصوصة مقيدة لا فتنة ما، ولا الفتنة المطلقة فان الاولى لا يتعلق بها غرض والثانية يناسبها التعريف باللام، ولا تصيبن منفى مؤكد بالنون يجبر شذوذ تأكيده بالنون بمطلوبية المبالغة فيه او منهى مقدر بالقول، وفيه وجوه اخر بعيدة عن اللفظ غير متعلق بها غرض معنوى. اعلم، ان الظلم عبارة عن منع الحق عن المستحق وايصاله الى غير المستحق وهذا المعنى لا اختصاص له بشيء وشخص دون شخص وحق دون حق، فمنع الاطفال والنسوان والاراذل عن مشتهياتهم ظلم بوجه وان كان عدلا بوجه ولذا ورد ثلاثة ان لم تظلموهن ظلموك: النساء والصبيان والسفلة، ومنع النفس وقواها عن مشتهياتها ظلم بوجه وبالنسبة اليها وان كان بالنسبة الى اللطيفة الانسانية عدلا " ظلم بين كز عدلها كوميبرد " ومنع النفس من حكومة العقل والانقياد تحت امره ظلم، ومنعها من الانقياد تحت حكومة نبى الوقت بالبيعة العامة ظلم، وحقيقة الظلم واصله وملاكه هو منع اللطيفة الانسانية من قبول الولاية وبواسطته يتحقق حقيقة الظلم فى كل ظلم، ولولاه لم يكن الظلم ظلما، وان كان بصورة الظلم كقتل محمد (ص) ونهبه واجلائه كثيرا من مخالفيه وكقتل على (ع) الناكثين والمارقين والقاسطين ولكونه بصورة الظلم حملوه على الظلم وقالوا وفعلوا ما فعلوا حتى قتلوه، ولولا الولاية لم يكن عدل وان كان الخالى عن الولاية بصورة العدل كفعل معاوية وعدله فى الامة، والمقصود من الذين ظلموهم الذين كانوا من امة محمد (ص) وبايعوا بالبيعة العامة بقرينة قوله منكم خطابا للامة وظلموا بمنع الاسلام عن حقه الذى هو الهداية الى الايمان وترك مودة ذوى القربى التى هى غاية التبليغ، والبيعة كأن غيره من الخطايا لا تعد ظلما منهم وايضا التقييد بقوله منكم واعتبار حيثية القيد يشعر به، فالظلم الذى هو بعد الدخول تحت حكومة النبى (ص) من حيث هو بعد الدخول المذكور ليس الا منع اللطيفة السيارة الانسانية عن الدخول تحت حكم ولى الامر بالبيعة الخاصة التى بها يدخل الايمان فى القلب وبها يتحقق حقيقة العدل فى كل عدل وبها ينفتح باب القلب الى الملكوت، وبها يمكن السير على الطريق المستقيم الى الله، والمراد بالفتنة المقيدة هو الانحراف عن ولى الوقت فان من كان واقفا على البيعة العامة كان ظالما على اللطيفة الانسانية والفتنة المصيبة لهم هو الوقوف والانحراف عن البيعة الخاصة مع ولى الوقت الذى هو على (ع) وهى الفتنة المجاوزة عنهم الى المبتاعين بالبيعة الخاصة مع محمد (ص) بعد رحلته والمبتاعين بالبيعة الخاصة مع على (ع) بعد رحلته والى المبتاعين بالبيعة الخاصة مع الحسن (ع) بعد رحلته وهكذا الى انقراض العالم.
وتفسير الفتنة بما يصل اثره الى غيره الفاعل كالغيبة والبدعة وغيرهما يناسب ظاهر التنزيل واللفظ لكن ليست هى المقصوده؛ وقد ورد فى الاخبار الاشعار بما ذكرنا غاية الامر انها داخلة تحت الآية من باب سعة وجوه القرآن { واعلموا أن الله شديد العقاب } فاتقوا مطلق الفتنة خصوصا الفتنة المذكورة التى هى اصل كل الفتن.
[8.26]
{ واذكروا إذ أنتم قليل } من حيث العدد او من حيث المال ولفظ قليل قد يفرد وقد يجمع { مستضعفون في الأرض } تذكير لهم بنعمه والمراد ضعفهم قبل المهاجرة { تخافون أن يتخطفكم الناس } من قريش { فآواكم } الى المدينة { وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات } من الغنائم وغيرها { لعلكم تشكرون } وجعل الخطاب للعرب تماما وجعل ضعفهم ذلتهم عند الروم والعجم بعيد جدا.
[8.27]
{ يأيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم } ان كان نزوله فى ابى لبابة بن عبد المنذر الانصارى فى غزوة بنى قريظة ومشورتهم له فى نزولهم على حكم سعد بن معاذ كما قرره الرسول (ص) وقوله لهم: ان تنزلوا على حكمه تقتلوا، كما فى الاخبار فالمقصود عام والمراد بخيانة الله والرسول (ص) هو خلاف ما أظهر للرسول (ص) فى البيعة والميثاق من عدم مخالفته ظاهرا وباطنا وارادة خير المؤمنين كذلك، والمراد بالامانات اما الامانات التكوينية التى اصلها واسسها وملاكها الامانة المعروضة على السماوات والارض، التى هى اللطيفة السيارة الانسانية المستتبعة لتمام القوى الانسانية المستلزمة لتمام التكاليف الشرعية النبوية والاصلية الولوية الحاصلة منها تمام المراتب الانسانية، او الامانات التكليفية الولوية القلبية من الذكر المأخوذ من ولى الامر وسائر ما يؤخذ، او الامانات التكليفية النبوية المأخوذة من نبى الوقت من الاعمال القالبية الشرعية، وتخونوا اما معطوف على المنهى فيكون كل نهيا مستقلا او بتقدير ان بعد الواو بمعنى مع فيكون مشعرا بمعية الثانى للاول معية المسبب للسبب { وأنتم تعلمون } اى تشعرون غير غافلين ووجه التقييد بالحال الاشارة الى ان الانسان قلما ينفك عن غفلة عما امر به وانه خيانة بوجه ما، لكنه غير مضيق عليه وغير مشدد عليه مثل عدم الغفلة، ولما كان الخيانة كثيرا ما تقع بسبب الاموال والاولاد فان الانسان يدع دينه لاولاده عقبه بذم الاموال والاولاد فقال { واعلموا أنمآ أموالكم وأولادكم فتنة }.
[8.28]
{ واعلموا أنمآ أموالكم وأولادكم فتنة } امتحان لكم من الله هل تشغلون بها عن اماناتكم ام تثبتون معها على اماناتكم فمن شغل بها خلص شقاوته ومن ثبت على اماناته استحق اجرا عظيما لخلوص سعادته { وأن الله عنده أجر عظيم } لمن ثبت وخلص عن الفتنة سالما، او المعنى واعلموا انما اموالكم واولادكم فتنة وفساد لكم فلا تغتروا بها وان الله عنده اجر عظيم فاطلبوه منه بترك الاشتغال بالاموال والاولاد.
[8.29]
{ يا أيها الذين آمنوا } بالايمان العام { إن تتقوا الله } فى مخالفة الرسول (ص) { يجعل لكم فرقانا } نورا فارقا بين الحق والباطل وهو نور الولاية، فالمراد بالتقوى هى التقوى المتقدمة على الايمان الخاص، او ان تتقوا الله فى الانحراف عن الطريق المستقيم الى الطرق النفسانية المعوجة بالولاية والايمان الخاص الداخل فى القلب بالبيعة الخاصة الولوية فان حقيقة التقوى وهى التحفظ عن الانحراف الى الطرق النفسانية لا تحصل الا بالوصول الى الطريق الى الله بالولاية، يجعل لكم فرقانا وتميزا بين الحقائق وحدودها واصيلها واعتباريها فالمراد بالتقوى التقوى الحقيقية الحاصلة بالايمان الخاص. اعلم، ان حقيقة التقوى وهى التحفظ عن اتباع النفس فى الصغير وعن اتباع اصل الشرور واظلاله فى الكبير لا تحصل الا باتباع العقل فى الصغير وباتباع على (ع) فى الكبير واتباع العقل ايضا لا يحصل الا باتباع على (ع) وقبول ولايته بالايمان الخاص، لان الانسان ما لم يدخل فى الولاية ولم يدخل الايمان فى قلبه لا ينفتح باب قلبه وكل ما فعل باعتقاده من آثار التقوى كان صدوره من نفسه وغايته راجعة الى نفسه، فما تصوره انه كان تقوى لم يكن تقوى، واذا قبل الولاية بشرائطها المقررة عندهم انفتح باب قلبه واقبل الى الوحدة وادبر عن الكثرة وحصل له امتثال امر الله بالاقبال عن الكثرة، فكلما فعل من هذه الجهة كان تقوى من طرق النفس والكثرة مغيى بالوحدة، فكلما قرأ آية من آيات الايمان هو القرآن رقى درجة من درجات الايمان وهى درجات الجنان، وكلما رقى درجة من درجات الايمان حصل له نور به يبصر الكثرات واعتباريتها والوحدة واصلتها حتى اذا وصل الى آخر مراتب التقوى وهو الفناء الذاتى والتقوى الحقيقية حصل له آخر مراتب الفرقان وهو الحشر الى اسم الرحمن والمالكية لما سوى الرحمن وكأنه للاشارة الى حصول الفرقان بتدريج الارتقاء اتى بالمضارع الدال على الحصول بالتدريج، او المراد تنتهوا فى تقوى الله بالفناء من انفسكم يجعل لكم فرقانا حاصلا بالحشر الى الرحمن وهذا الفرقان هو النبوة او الرسالة او الخلافة { ويكفر عنكم سيئاتكم } التى تحتاج الى التعمل فى الزوال التى هى الحدود الظلمانية والتعينات التى هى مساوى الانسان اذ بعد حصول الفرقان لا يرى الا مراتب الوجود التى هى مراتب النور لا حدوده التى هى مراتب الظلمات التى بعضها فوق بعض { ويغفر لكم } مساويكم التى لا تنفك عن الانسان وهى تبعة المراتب ونقائصها { والله ذو الفضل العظيم } من قبيل اقامة السبب مقام المسبب اى ويتفضل عليكم لان الله ذو الفضل العظيم ذكر اوصافا اربعة: النور الفارق، وتكفير المساوى، وازالتها بواسطة النور وغفران الصغائر، والفضل العظيم الذى لا يحد ولا يوصف.
[8.30]
{ وإذ يمكر بك } واذكروا وذكر اذ يمكر بك { الذين كفروا } تذكير لما انعم عليه من النجاة مع غاية مكر قريش حين اجتمعوا وتشاوروا فى دار الندوة واجتمع رأيهم على قتله بالاتفاق حتى يكون من كل قبيلة رجل فيتفرق دمه على القبائل ولا يتيسر لبنى هاشم القصاص، وقصتهم مذكورة فى الصافى وغيره { ليثبتوك } بالحبس { أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون } واذ يمكرون بأى نحو يتصور فهو معطوف على يمكر او هو عطف باعتبار المعنى كأنه قيل: مكروا ومكر الله ويمكرون فى الحال { ويمكر الله } بأخذهم من حيث لا يعلمون او هو استنياف { والله خير الماكرين } من حيث لا يمكن الاطلاع على سبب اخذه لغاية خفائه من حيث لا يتخلف المقصود من مكره.
[8.31]
{ وإذا تتلى عليهم آياتنا } عطف على يمكرون { قالوا قد سمعنا } استهزاء { لو نشآء لقلنا مثل هذا } قيل قائله النضر بن الحارث بن كلدة الذى قتل يوم بدر بعد اسره على يد على (ع) { إن هذآ إلا أساطير الأولين } اسمار الاولين فانه يكنى بالاساطير عنها.
[8.32-33]
{ وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السمآء أو ائتنا بعذاب أليم } قيل: قائله كان بمكة قبل الهجرة حين ادعى النبى (ص) النبوة ووعد قريشا انهم يملكون بتصديقه (ص) ملوك الارض وقائله كان النضر او ابا جهل، وقيل: قائله ابو جهل يوم بدر، وقيل: قائله كان بغدير خم، وقيل: بمدينة بعد غدير خم { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } يعنى ان لهم امانين من عذاب الله انت والاستغفار، فما دمت فيهم لم يعذبهم، وما داموا استغفروا ايضا لم يعذبهم، وتكرار الفعل واختلافهما فى الخبر للاشارة الى ان كلا منهما امان بالاستقلال والاول اتم واقوى فان الاتيان بلام الجحود فى خبر كان للمبالغة.
[8.34]
{ وما لهم ألا يعذبهم الله } يعنى ان امهال الله اياهم ليس بسبب من انفسهم بل ليس من قبل انفسهم الا استحقاق العذاب { وهم يصدون عن المسجد الحرام } يعنى يمنعون الناس عن البقعة المخصوصة او عن نبوة النبى (ص) ويمنعون الناس فى العالم الصغير عن الدخول فى المسجد الحرام الذى هو الصدر المتصل بالقلب او يعرضون، وعلى هذا ان كان النزول خاصا فالمقصود عام يشمل الامة المنافقة المنحرفة الى انقراض العالم { وما كانوا أوليآءه } كما يفتخرون بأنهم اولياء البيت وكما افتخروا بأنهم اولياء محمد (ص) وغصبوا حق على (ع) { إن أوليآؤه إلا المتقون } بالتقوى العامة او الخاصة { ولكن أكثرهم لا يعلمون } معنى ولاية البيت وان ولاية البيت مخصوصة بمن اتقى عن الشرك واتباع النفس وهواها.
[8.35-36]
{ وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكآء وتصدية } المكاء الصفير، والتصدية التصفيق كانوا يطوفون بالبيت عراة يشبكون بين اصابعهم ويصفرون ويصفقون وكانوا يفعلون اذا قرأ رسول الله (ص) فى صلوته يخلطون عليه { فذوقوا العذاب } بالقتل والاسر يوم بدر او بالنار فى الآخرة { بما كنتم تكفرون إن الذين كفروا ينفقون أموالهم } يستمرون على الانفاق. اعلم، انه لا اختصاص للمال بالاعراض الدنيوية بل يعمها والقوى البدنية والقوى النفسانية بل هى اولى بكونها مالا من الاعراض لان نسبة المملوكية هنا حقيقية وهناك اعتبارية صرفة لا حقيقة لها، والانسان ما لم يخرج من هذا البنيان شغله اكتساب المال الصورى والمعنوى وانفاقه، فان كان متوجها الى الله يصدق عليه انه ينفق فى سبيل الله اى حال كونه فى سبيله او فى حفظ سبيله وتقويته وان كان متوجها الى الملكوت السفلى يصدق عليه انه ينفق فى سبيل الطاغوت بمعنييه ويصدق عليه انه ينفق لصد الناس عن المسجد الحرام وعن سبيل الله صورة ومعنى، ولصد القوى والمدارك عن التوجه الى القلب فالكافرون شغلهم الانفاق مستمرا { ليصدوا عن سبيل الله } اى سبيل الحج او النبى (ص) او الولى (ع) او الصدر المنشرح بالاسلام او القلب { فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة } لعدم عوض للمنفق بل لنقصان ذواتهم بالانفاق { ثم يغلبون } ظاهرا وباطنا ان كان نزول الآية فى قريش حين خروجهم لغزو بدر وانفاقهم فى ذلك كما ورد فى الخبر فلا ينافى عمومها { والذين كفروا } تكرار الموصول للتفضيح والاشارة الى علة الحكم { إلى جهنم يحشرون } يعنى كما ان شغلهم الانفاق للصد كذلك سلوكهم ليس الا الى جهنم، لان شغلهم الانفاق فى سبيل الطاغوت فسلوكهم على سبيل الطاغوت وهو سبيل جهنم، وفعلنا ان نحشرهم آنا فآنا حشرا بعد حشر الى جهنم وغاية هذا الفعل كراهة اختلاط المؤمن والكافر وتميز الكافر من المؤمن، هذا فى الكبير، واما فى الصغير فالقوى الحيوانية البهيمية والسبعية والقوى الشيطانية اللاتى شأنها الكفر بالعقل تنفق قوتها لصد سائر القوى عن سبيل العقل وهو سبيل الله وهى متوجهة الى السفل الذى هو دار الشياطين والجنة، وفيه جهنم فتحشر الى جهنم آنا فآنا وفى الخبر اشارة الى التعميم وذلك الحشر.
[8.37]
{ ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض } لضيق السفل وعدم سعته { فيركمه جميعا } فيجعله متراكما متداقا { فيجعله في جهنم } بعد انتهاء حشره وتراكمه { أولئك هم الخاسرون } فى موضع التعليل والاتيان بالمسند اليه باسم الاشارة موضع الضمير لاحضار حالهم الفظيعة اشعارا بعلة الحكم، وتعريف المسند وضمير الفصل للتأكيد والحصر.
[8.38]
{ قل للذين كفروا } مخاطبا لهم قولى { إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } او مضمون ان ينتهوا يغفر لهم او قل فى حقهم فالعبارة على ما هو حقها، والمراد بالكفر الكفر بالله او بالنبى (ص) او بالولى (ع) او بالولاية التكوينية التى هى وجهة القلب وطريق الآخرة، ولذا ورد عن الباقر (ع) انه قال له رجل: انى كنت عاملا لبنى امية فاصبت مالا كثيرا فظننت ان ذلك لا يحل لى فسألت عن ذلك فقيل لى: ان اهلك ومالك وكل شيء لك فهو حرام فقال (ع): ليس كما قالوا لك، قال فلى توبة؟ - قال (ع): نعم، توبتك فى كتاب الله قل للذين كفروا وان ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف، فعده (ع) من الكافرين حيث كفر بالولاية التكليفية او التكوينية { وإن يعودوا } الى ما كانوا فيه من الكفر باحد معانيه ولوازمه من معاداة الرسول (ص) ومقاتلته مضت معاداتهم على نبينا (ص) ولم يبق عليه شينها وبقى عليهم عقوبتها { فقد مضت سنة الأولين } الذين كفروا وعادوا انبيائهم (ع) او المعنى ان يعودوا الى ما هم فيه فليتوقعوا عذابنا وانتقامنا كما انتقمنا عمن سلف ولا اختفاء فى انتقامنا عن السالفين فقد مضت سنة الاولين وصارت اسمارا بحيث لم يبق احد الا وقد سمعها.
[8.39]
{ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } فساد من الشرك ولوازمه { ويكون الدين كله لله } ولا يكون لكل دين او اديان وكان بعضه للشيطان كالاديان الباطلة وبعضه لله كدينك، هذا فى الصغير ظاهر، واما فى الكبير فقد ورد انه لم يجئ تأويل هذه الآية بعد ان رسول الله (ص) رخص لهم لحاجته وحاجة اصحابه فلو قد جاء تأويلها لم يقبل منهم ولكنهم يقتلون حتى يوحدوا الله وحتى لا يكون شرك { فإن انتهوا } عن الكفر { فإن الله بما يعملون } من الانتهاء والاسلام { بصير } فيجازيهم على حسبه.
[8.40]
{ وإن تولوا } عن الاسلام { فاعلموا أن الله مولاكم } فلا تحزنوا ولا تضيقوا صدرا من توليهم { نعم المولى } المتولى اموركم وتربيتكم { ونعم النصير }.
[8.41]
{ واعلموا أنما غنمتم من شيء } اسم الغنيمة قد غلبت على ما كان يؤخذ من الكفار بالقهر والغلبة حين القتال والا فهى اسم لكل ما استفاد الانسان من اى وجه كان واى شيء كان، فعن الصادق (ع): هى والله الافادة يوما بيوم { فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } وقد فسر ذوى القربى بالامام من آل محمد (ص) فانه ذو القربى حقيقة وفسر الثلاثة الاخيرة بمن كان من قرابات الرسول (ص) جعل ذلك لهم بدلا عن الزكاة التى هى اوساخ الناس تشريفا لهم { إن كنتم آمنتم بالله } جزاؤه محذوف اى فأعطوا خمسه فانه عبادة مالية هى احد ركنى العبادة الذين هما الصلاة والزكاة { ومآ أنزلنا } اى بما انزلنا { على عبدنا } من احكام العبادات المالية والبدنية ومن جملتها حكم الخمس او من الملائكة المنزلين { يوم الفرقان } يوم بدر لظهور الحق عن الباطل والفرق بينهما فيه وهو متعلق بآمنتم او بانزلنا { يوم التقى الجمعان } لظهور دلائل صدق النبوة بظهور نصرة الحق بالملائكة او بظهور نزول الملائكة وجنود الله للنصرة ولذا فسر ما انزلنا بانزال الملائكة والنصرة فى ذلك اليوم تذكيرا لهم بدلائل صدق النبوة وقدرة الله على نصرهم حتى لا يشمئزوا عن امره باعطاء ما لهم ثقة بامداده واعطائه ولذا قال { والله على كل شيء قدير } تعميما بعد تخصيص وهو عطف على ما هو المقصود كأنه قال فالله قادر على الامداد ونصرة القليل على الكثير فلا تخافوا من كثرة العدو وقلتكم والله على كل شيء قدير فلا تخافوا من قلة ما فى اليد والانفاق فانه قادر على اعطائكم.
[8.42]
{ إذ أنتم بالعدوة الدنيا } بدل من يوم الفرقان او ظرف لالتقى او لقدير والعدوة مثلثة شط الوادى { وهم بالعدوة القصوى } والمراد الدنيا من المدينة والقصوى منها { والركب أسفل منكم } يعنى عبر قريش والمراد تذكيرهم بقوة المشركين وشدة اهتمامهم بالقتال لحفظ العير واستظهارهم بمن كان فى العير وهم ابو سفيان واصحابه وكون مكانهم اثبت للاقدام ومكان المؤمنين يسوخ فيه الاقدام حتى لا يبقى لهم شك فى ان غلبتهم لم تكن الا بنصرة الله ولذا قيل: كان غزوة بدر من ادل الدلائل على نبوة نبينا (ص) { و } الحال انكم لغاية ضعفكم وقوة اعداءكم { لو تواعدتم } للقتال معهم { لاختلفتم في الميعاد ولكن } ثبتكم على القتال على هذه الحال ولم يدعكم حتى تفروا { ليقضي الله أمرا كان مفعولا } اى حقيقا بان يفعل او مفعولا فى الذر من اعلاء كلمته واعزاز دينه واذلال اعدائه، او هلاك الهالك عن بينة او انزال الملائكة واظهار دلائل النبوة { ليهلك } بدل عن قوله ليقضى الله على ان يكون المراد بالامر المفعول اتمام الحجة واهلاك الهالك وحياة الحى بعدها او متعلق يقضى والمراد الهلاك الصورى او المعنوى { من هلك عن بينة } بعد بينة او متجاوزا عن بينة هى اعزاز المؤمنين وغلبتهم فى مقام لا يظن الا ذلتهم ومغلوبيتهم ولم يكن ذلك الا بنزول الملائكة وامدادهم بحيث لم يخف على احد من الطرفين { ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع } لاستغاثتكم فيجيبكم { عليم } بصدروكم وخفياتها من الخوف والاضطراب وما يصلحها من التثبيت والامداد او لسميع بمقال الهالك والحى عليم بحاله، عطف باعتبار المعنى كأنه قال: ان الله يقضى او ان الله يهلك وان الله لسميع او هو استيناف.
[8.43]
{ إذ يريكهم الله في منامك قليلا } لتخبر اصحابك بقلتهم ليجترؤا على القتال وهو متعلق بمتعلق ليقضى او بدل من، اذ انتم بالعدوة الدنيا او بدل ثان من يوم الفرقان او متعلق بعليم { ولو أراكهم كثيرا } فاخبرت اصحابك { لفشلتم } جبنتم { ولتنازعتم في الأمر } امر القتال لانحراف آراء اكثركم عن القتال { ولكن الله سلم } نفوسكم عن الفشل والتنازع { إنه عليم بذات الصدور } بالخفيات التى تصاحب الصدور فيدبر امركم عن علم بما لا تعلمون، نقل ان المخاطبة للرسول (ص) والمعنى لاصحابه يعنى أرى اصحابه المشركين قليلا فى منامهم، وعن الباقر (ع): كان ابليس يوم بدر يقلل المسلمين فى اعين الكفار ويكثر الكفار فى اعين الناس فشد عليه جبرئيل (ع) بالسيف فهرب منه.
[8.44]
{ وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا } تصديقا لرؤيا الرسول (ص) وتشجيعا لكم { ويقللكم في أعينهم } لئلا يفروا من القتال فيقع ما اراده الله من القتال ونصرة المؤمنين واعلاء كلمتهم، نقل عن ابن مسعود انه قال: لقد قللوا فى اعيننا حتى قلت لرجل الى جنبى، اتراهم سبعين؟ - قال: اراهم مائة، فأسرنا رجلا منهم فقلنا: كم كنتم؟ - قال: الفا ، وقلل المؤمنون فى اعين الكفار حتى قال قائل منهم: انما هم اكلة جزور، هذا كان قبل المقاتلة واما حين المقاتلة فقد رأوا المؤمنين مثليهم رأى العين { ليقضي الله أمرا كان مفعولا } كرره تأكيدا واشعارا بان لا غرض من الامر بالقتال وتدبير امر المقاتلين من رؤيا القلة ورؤية القليل وتشجيع المؤمنين وتثبيتهم الا قضاء ما فى اللوح وامضاءه من اظهار دينه على الاديان { وإلى الله ترجع الأمور } كما ان منه تدبيرها وصدورها ثم بعد ما اظهر ان النصر من عنده وان الظاهر ايضا منه وشجع المؤمنين وثبتهم قال { يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة }.
[8.45]
{ يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة } من المشركين والكفار للقتال فان اللقاء غلب فى القتال { فاثبتوا واذكروا الله كثيرا } ثقة بنصره واستضهارا بذكره فان القلب يطمئن عن الاضطراب والخوف بذكره { لعلكم تفلحون } بالظفر على الاعداء.
[8.46-47]
{ وأطيعوا الله ورسوله } فيما يأمركم به فى امر القتال وغيره { ولا تنازعوا } باختلاف الآراء { فتفشلوا } تضعفوا عن القتال { وتذهب ريحكم } عظمكم فى نظر الاعداء شبهت العظمة المعنوية بالريح الداخلة تحت الثياب التى بها تعظم جثة الانسان، او بالانتفاخ والانتقاش الذى يكون للسباع حين ثوران الغضب وهو مثل دائر فى العرب والعجم { واصبروا } على الجهاد { إن الله مع الصابرين ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم } يعنى قريشا حين خرجوا مع آلات اللهو { بطرا ورئآء الناس } ليثنوا عليهم بالشجاعة والشوكة فانهم أخرجوا معهم القيان والخمور وآلات اللهو { ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط } فلا يخفى عليه اعمالكم ولا نياتكم.
[8.48]
{ وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم } عطف على اذ انتم بالعدوة او اذ يريكهم الله، او اذ يريكموهم على جواز عدة معطوفات كلا على سابقه { وقال لا غالب لكم اليوم من الناس } وكان تزيينه باذن الله ليقضى الله امرا كان مفعولا { وإني جار لكم } مجير لكم او مجاور تمثل لهم بصورة شخص بشرى يقال له سراقة كما فى الخبر، او اوقع فى روعهم ذلك وسوس اليهم ان الثبات على الاصنام وحفظ دينهم امر آلهى وهو مجيرهم ويحفظهم { فلما ترآءت الفئتان نكص على عقبيه } رجع القهقرى وهو مثل يضرب لمن خاب من مأموله ورجع عن طلبه { وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون } يعنى الملائكة { إني أخاف الله والله شديد العقاب } من كلامه او من كلام الله عطفا على قال، فى الخبر: ان ابليس كان فى صف المشركين آخذا بيد الحارث بن هشام فنكص على عقبيه فقال له الحارث: يا سراقة اتخذلنا على هذه الحال؟ - فقال: انى ارى مالا ترون، فقال: والله ما ترى الا جواسيس يثرب، فدفع فى صدر الحارث وانطق وانهرم الناس، فلما قدموا مكة قال الناس: هزم سراقة فقال: والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغنى هزيمتكم فقالوا: انك اتيتنا يوم كذا فحلف لهم فلما أسلموا علموا ان ذلك كان الشيطان.
[8.49]
{ إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض } ممن اسلم ظاهرا متعلق بواحد من الافعال السابقة او بدل من اذ زين لهم الشيطان { غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله } عز وغلب { فإن الله عزيز } لا يغلب من يتوكل عليه { حكيم } يفعل بحكمته ما هو صلاح عباده من تجرئة القليل على الكثير وغلبتهم ليظهر حقية دينهم.
[8.50]
{ ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا } لو للتمنى لأنه كثيرا ما يستعمل ليت فى امثال تلك القضايا ولا مانع من جعل لو بمعناها مع انه غنى عن تقدير الجواب ولو جعل لو للشرط فالجواب محذوف اى لرأيت امرا فظيعا والخطاب لمحمد (ص) او عام والمراد توفيهم يوم بدر او عام { الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم } يعم الضرب جميع اطرافهم او المراد الوجوه والاستاه كما فى الخبر لان الله حيى ويكنى { و } يقولون { ذوقوا عذاب الحريق } او يقول الله: ذوقوا عذاب الحريق فى الدنيا او فى الآخرة.
[8.51]
{ ذلك بما قدمت أيديكم } من قول الله او الملائكة { وأن الله ليس بظلام للعبيد } عطف على ما قدمت والمقصود نفى سببية ظلمه تعالى وحق العبارة حينئذ ان يقول لا بان الله ظلام للعبيد لكنها لما كانت موهمة لنسبة الظلم اليه تعالى ونفى سببيته للعقوبة اداه بصورة نفى الظلم وسببية النفى للعقوبة فانه كثيرا ما يؤتى باداة التسبيب ويراد نفى السببية كما يقال: فلان بنفسه يفعل كذا ويراد لا بسبب فهو نفى لنسبة الظلم اليه تعالى صريحا وبسبية الظلم فحوى لا انه بيان لسببية عدم الظلم خصوصا على قاعدة ان الاعدام لا سبية لها لشيء وما يقال: عدم الشرط سبب لعدم المشروط فهو بالمقايسة الى الملكات، والظلام من صيغ النسب كتمار لا من صيغ المبالغة.
[8.52-53]
{ كدأب آل فرعون } اى ما هم عليه من الكفر والمعاصى المستتبعة للعقوبة كدأب آل فرعون ان هو متعلق بقوله يتوفى والتشبيه تمثيلى والدأب الخصلة والسنة التى اعتادها وداوم عليها صاحبها { والذين من قبلهم } كاقوام الانبياء (ع) السلف { كفروا بآيات الله } استيناف جوابا للسؤال المقدر عن دأبهم كأنه قيل: ما كان دأبهم؟ وما فعل بهم؟ { فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب ذلك } العقاب عقيب الكفر والعصيان بان عادة الله جرت بان يغير النعمة عقيب تغيير صاحب النعمة حاله فحق العبارة ان يقال بان الله يغير ما بقوم من نعمة بتغييرهم احوالهم لكنه قال { بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } افادة للحصر مع هذا المعنى ونفى التغيير عنه لا التصريح بنسبة التغيير اليه ابتداء { وأن الله سميع عليم } فيسمع مقالتهم السوءى ويعلم تغييرهم حسن أحوالهم فيجرى عادته بتغير نعمته.
[8.54]
{ كدأب آل فرعون } يعنى ذلك التغيير المستتبع لتغييرنا النعمة المنعمة كدأب آل فرعون والتكرار للتأكيد ومطلوبية التكرار حين الغضب { والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم } ولكون التكرار للمبالغة ولابداء اشتداد الغضب بالغ وبدل كفروا بكذبوا { فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنآ آل فرعون وكل كانوا ظالمين } وهذا من مطلوبية التطويل والتفضيح فى مقام الغضب.
[8.55]
{ إن شر الدواب.. } هذا ايضا من التفضيح والتغليظ والتطويل فى مقام الغضب مثل ما بعده.
[8.56]
{ الذين عاهدت منهم } قد فسروا ببنى قريظة فالمراد بالمعاهدة عهد المتاركة وفسروا ايضا بمنافقى اصحابه فالمراد بالمعاهدة عهد البيعة والاولى التعميم { ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون } سخط الله او لا يتقون بأكسك وبأس المؤمنين.
[8.57]
{ فإما تثقفنهم في الحرب } ان كان المراد منافقى الامة فجريان الامر على يد على (ع) { فشرد بهم } بقلتهم والنكاية فيهم { من خلفهم } من سائر الكفار بان يتسامعوا بشدة بأسك بقتل المقاتلين فلا يطمعوا فى مقاتلتك وهو امر بشدة نكايتهم على ابلغ وجه { لعلهم } اى من خلف المقاتلين { يذكرون } صدق نبوتك وشدة بأسك.
[8.58]
{ وإما تخافن } زيادة ما على اداة الشرط هنا وفى سابقه ولحوق نون التأكيد للمبالغة فى لزوم الجزاء { من قوم } معاهدين بقرينة عهدعم قوله ثم ينقضون عهدهم فى كل مرة { خيانة } فى العهد بنقضه بان يلوح لك اثر المخالفة ونقض العهد، نقل انها نزلت فى معاوية لما خان امير المؤمنين (ع) وهو مما قلنا انه مما جرى على يد على (ع) { فانبذ إليهم } عهدهم ولا تراعه مشتملا { على سوآء } اى استواء معهم او حالة مساوية لحالهم فى نقض العهد فانه منك غير مذموم بعد ابتدائهم بنقض العهد { إن الله لا يحب الخائنين } تعليل للامر بنبذ العهد يعنى ان الخائنين لا جهة محبة لهم حتى تراعيها ولا تنقض عهدك معهم.
[8.59]
{ ولا يحسبن الذين كفروا } وضع المظهر موضع المضمر تصريحا بكفرهم وتفظيعا لهم { سبقوا } فاتوا عنا او غلبوا ولعله كان انسب لانه لرفع الخوف عنهم لمناقضة عهدهم { إنهم لا يعجزون } لا يفوتون او لا يغلبون من اعجزه اذا فاته او جعله عاجزا، وقرء لا يحسبن بالغيبة وان بالفتح ووجوه الاعراب لا يخفى على البصير بالعربية.
[8.60]
{ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة } مما به قوتكم وشوكتهم من الخيلاء بين الصفين فان التكبر ممدوح فى القتال ومن سلاح وغيره، وورد فى الخبر ان منها الخضاب بالسواد { ومن رباط الخيل } من عطف الخاص على العام اذ الرباط مصدر بمعنى المربوط او جمع ربيط غلب على الخيل التى تربط للجهاد { ترهبون به } بما استطعتم من القوة { عدو الله وعدوكم } اى الذين تخافون خياتهم والاتيان بالمظهر للاشعار بالعلة وذكر وصف آخر للتفظيع { وآخرين من دونهم } من دون من تخافون خيانتهم من الكفرة الذين لا عهد بينهم وبينكم او تخافون منهم نقض عهدكم { لا تعلمونهم } خائنين كمنافقى الامة الذين اظهروا الاسلام واخفوا النفاق او لا تعلمونهم بأعيانهم حيث غابوا عنكم كالعجم والروم والشام { الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم } فلا تخافوا من الفقر وتهيؤا بما استطعتم من القوة فى سبيل الله { وأنتم لا تظلمون } بنقص شيء مما انفقتم.
[8.61]
{ وإن جنحوا للسلم } اى الصلح والدخول فى الاسلام أو الدخول فى الايمان كما عن الصادق (ع) انه الدخول فى امرنا { فاجنح لها } فان قتالك ليس الا مقدمة الصلح والسلم بمعنى الصلح يؤنث سماعا { وتوكل على الله } ولا تخف من خديعتهم بالصلح فان الله عاصمك { إنه هو السميع } لكل ما قالوا فيك فيدبر ما فيه صلاحك { العليم } يعلم نياتهم وعاقبة امرك وامرهم فلا يفوته شيء ولا يسبقه شيء.
[8.62-63]
{ وإن يريدوا أن يخدعوك } بالصلح بان ارادوا اطفاء نائرة القتال بالصلح حتى يتهيؤا القتال ويضع اصحابك اسلحة القتال فيباغتوكم فلا تخف { فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره } فى موضع التعليل على الاستياف البيانى والمراد نصره بالملائكة { وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم } قلوب المؤمنين فيقدر ان يؤلف بينكم وبين الخائنين ان ارادوا بالصلح الخيانة { لو أنفقت ما في الأرض جميعا مآ ألفت بين قلوبهم } فان تصريف القلوب بيده لا بيدك البشرية ولا بيدك النبوية { ولكن الله ألف بينهم } قيل: نزلت فى الانصار فان الاوس والخزرج كان بينهم مقاتلة ودماء وتؤالفوا وتحابوا بالاسلام { إنه عزيز } لا يمنعه من مراده شيء { حكيم } يفعل بحكمته ما فيه صلاح عباده.
[8.64]
{ يأيها النبي... } كرره مقدمة للامر بالتحريض ولان التكرار مرغوب فيه فى مقام الامتنان واظهار المحبة والاحسان.
[8.65]
{ يأيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين } لنصرة الله { وإن يكن منكم مئة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون } فلا يثبتون ثبات من آمن بالله وعلم ان النصر بيد الله والظفر من الله .
[8.66]
{ الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا } هذه الآية نزلت بعد ما كثر المؤمنون ولذا ورد انها ناسخة لما قبلها { فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين } والمراد بالضعف الضعف فى القلوب لافى الابدان حتى ينافى كثرتهم.
[8.67]
{ ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } جواب لاصحابه (ص) حين سألوه ان لا يقتل الاسرى ويأخذ منهم الفداء والمقصود من الاثخان كثرة القتل من اثخن فى العدو اذا غلب واكثر الجرح فيهم { تريدون } بأخذ الفداء { عرض الدنيا والله يريد الآخرة } لكم بان يكون جهادكم غير مشوب بالاغراض الدنيوية بل خالصا للآخرة { والله عزيز } غالب لا يخاف من ذلة نبيه على فرض اخذ الفداء من الاسرى فهو لاستدراك توهم خوف الضعف والمغلوبية { حكيم } يأمر بالقتل لمصالح يعلمها.
[8.68-69]
{ لولا كتاب من الله سبق } اى حكم سبق فى اللوح من اباحة الفداء واعزاز المؤمنين او ابقاءهم الى اجل موعود حتى يعز دين الله بهم وهو تهديد وردع عن مثل ما فعلوا ببدر فى باب اخذ الفداء من الاسرى واصروا على ذلك مع انكار الرسول (ص) حتى رضوا بقتل عدد الاسرى ومن يأخذون منه الفداء من المؤمنين فى عام قابل { لمسكم فيمآ أخذتم } من الفدية او فيما فعلتم من الاصرار على اخذ الفدية { عذاب عظيم فكلوا } اى اذا كان سبق كتاب فى اباحة الفداء واعزازكم فكلوا { مما غنمتم } من الفداء فانه غنيمة او هو اباحة للغنيمة كأنهم أمسكوا عنها وترددوا فى اباحتها اى اذا كان سبق كتاب فى اباحة الفداء واعزازكم واعلاء كلمتكم فلا تتحرجوا من الغنيمة وكلوا منها { حلالا طيبا واتقوا الله } فى السرف فيها، او فى الخيانة فيها، او فى مخالفته (ص) فيها وارضوا فيها بما اعطاكم الرسول (ص) { إن الله غفور } اذ غفر تجريكم على الاصرار فى الفدية { رحيم } اذ رحمكم باباحة الغنيمة والفدية.
[8.70]
{ يأيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى } اسرى بدر او العباس وعقيل بان ابى طالب ونوفل بن الحارث خاصة كما ورد فى الخبر ان الآية نزلت فى العباس وعقيل ونوفل وقصتهم وقصة غزو بدر مسطورة فى الصافى مبسوطة { إن يعلم الله في قلوبكم خيرا } رغبة وميلا فى الايمان { يؤتكم خيرا ممآ أخذ منكم } من الغنيمة فى الغزو ومن الفداء بعد الاسر { ويغفر لكم والله غفور } فيغفر لكم ما صدر منكم من معاداة الرسول (ص) { رحيم } فيؤتيكم خيرا مما اخذ منكم فحق العبارة ان يقول لكم ويؤتكم خيرا فان المغفرة وهى ستر المساوى مقدمة على الرحمة والانعام لكن لما كان المقام مقام الاهتمام باتيان العوض لما فاتهم قدمه.
[8.71]
{ وإن يريدوا خيانتك } عطف من الله على مقول الرسول باعتبار المعنى وملاحظة نفس المحكى مع قطع النظر عن كونه حكاية ومثله كثير كأنه قال: ان يعلم الله فى قلوبهم خيرا يؤتهم خيرا مما اخذ منهم وان يريدوا خيانتك فلا غرو فيه { فقد خانوا الله من قبل } اى من قبل ارادة خيانتك بمخالفة حكم العقل الذى هو رسولهم الباطنى فأمكن المؤمنين منهم فليحذروا من امكان المؤمنين ثانيا منهم وقد فسر هكذا وان يريدوا خيانتك فى على (ع) فلا غرو فيه فقد خانوا الله فيك من قبل { فأمكن منهم } فلا تحزن لذلك فانه يمكن عليا (ع) واصحابه منهم { والله عليم } بارادة كل مريد { حكيم } يدبر امرك وامر الخائنين على وفق حكمته.
[8.72-73]
{ إن الذين آمنوا } بالايمان العام بقبول الدعوة الظاهرة والبيعة العامة { وهاجروا } من دار الشرك الى مدينة الرسول (ص) { وجاهدوا } مع اعداء الرسول (ص) { بأموالهم } ببذلها على أنفسهم وعلى المجاهدين فى الجهاد { وأنفسهم } ببذلها بالقتل فى سبيل الله حالكونهم { في سبيل الله } او فى حفظ سبيل الله وهو النبوة او فى تحصيل سبيل الله وهو الولاية، او المعنى ان الذين آمنوا بالايمان العام من افراد الانسان فى العالم الكبير ومن اولاد آدم الذين هم القوى الانسانية فى العالم الصغير وهاجروا من اوطان شركهم النفسانية الى مدينة صدورهم التى هى مدنية رسولهم الباطنى، وجاهدوا فى سبيل الله الذى هو سبيل القلب بأموالهم الحقيقية التى هى قواهم ومداركهم بتضعيفها بالرياضات والمجاهدات، او المعنى ان الذين آمنوا بالايمان الخاص بالبيعة الخاصة وهاجروا من اوطان شركهم الى مدن صدورهم وجاهدوا بأموالهم الحقيقية وأنفسهم حال كونهم فى سبيل الله وهو طريق الولاية الموصلة لسالكها الى الفناء فى الله او فى حفظ سبيل الله وكل المعانى لكونها مترتبة متصاعدة طولية لا عرضية مرادة من غير لزوم استعمال اللفظ فى اكثر من معنى كما مر مرارا { والذين آووا ونصروا } هم الانصار الصورية بحسب المعنى الاول وبحسب المعانى الاخر من يليق بها { أولئك بعضهم أوليآء بعض } اولياء المحبة اداه بصورة الخبر اشارة الى ان ولاية المحبة لازمة لهم او اولياء الميراث كما ورد فى الاخبار وورد انها منسوخة بآية اولوا الارحكام بعضهم اولى ببعض { والذين آمنوا } بالبيعة العامة او بالبيعة الخاصة { ولم يهاجروا } من دار الشرك الصورية او من دار الشرك النفسانية { ما لكم من ولايتهم من شيء } لانهم لم يقرنوا وصلهم الصورى الحاصل بالبيعة الصورية بالوصل المعنوى بالخروج فى طريق الخليفة الصورية او الباطنية فلم يتصلوا معنى بكم ولا بمن اتصلتم به فلا ولاية ولا اتصال بينكم وبينهم فلا توارث ولا موادة بينكم وبينهم { حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين } لافى الامور الدنيوية اعتبارا لمفهوم القيد { فعليكم النصر } لان وصلتهم الصورية لها حرمة وعليكم بها حق لهم { إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق } فان الميثاق وان كان حقه وحرمته ادون من البيعة والاسلام لكن هو ايضا وصلة بنحو ولها حرمة ولا قوة للوصلة الاسلامية من دون اقترانها بالوصلة المعنوية بحيث تفوق تلك الوصلة { والله بما تعملون } من موالاة من امرتم بموالاته وترك موالاة من امرتم بترك موالاته { بصير والذين كفروا } بترك البيعة النبوية او الولوية { بعضهم أوليآء بعض } بحكم السنخية والمجانسة والا فهم كالكلاب الضارية يعض بعضها بعضا، نعم اذا رأت غير جنسها اتفقت وحملت مجتمعة عليه:
متحد جانهاى شيران خداست
جان كركان وسكان ازهم جداست
{ إلا تفعلوه تكن فتنة } يعنى ما ذكرنا من الموالاة وتركها انما هو لصلاح نظام المعاش مؤديا الى نظام المعاد لانه يورث الاتحاد فى الآراء، وفى ترك موالاة المؤمنين المهاجرين وموالاة الكفار وان كانوا ارحاما يحصل اختلاف الآراء وبه يحصل فساد نظام المعاش وفى فساد للناقصين فساد نظام المعاد فالمراد بالفتنة اختلاف الآراء المستتبع للفاسد { في الأرض } ارض العالم الكبير وارض العالم الصغير { وفساد كبير } لتجرى الكفار باختلاف آرائكم عليكم واطلاعهم بموالاتكم على ما يمكنهم الغلبة به عليكم.
[8.74]
{ والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا } كرره بلفظه احضارا لهم بمديحتهم واشعارا بعلة الحكم { لهم مغفرة ورزق كريم } علوى لا كالارزاق الارضية التى فى تحصيلها كلفة ومشقة وحال الارتزاق فيها زحمة وبعد الارتزاق حاجة الى المدافعة.
[8.75]
{ والذين آمنوا من بعد } يعنى من ايمانكم وهجرتكم { وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم } ويجب موالاتهم كموالاتكم { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } فى مكتوبة فى اللوح وهو نسخ للتوارث بالهجرة والنصرة { إن الله بكل شيء عليم } فيحكم تارة بالتوارث بالهجرة وتارة بالرحم لمصلحة يعلمها ويأمركم بموالاة انفسكم وترك موالاة الكفار ايضا لمصلحة.
[9 - سورة التوبة]
[9.1]
{ برآءة من الله ورسوله.. } هذه من المصادر النائبة عن افعالها واصلها برء الله ورسوله براءة من الذين عاهدتم ثم حذف الفعل واقيم المصدر مقامه ووصل الفاعل بحرف الجر صفة له، نظيره ما يقولون زعما منهم وخلافا لهم فانهما اصلهما زعموا وخالفوا وابدل لفظة من بلفظة اى اشعارا بتضمين معنى الوصول او تقديره، ثم عدل من نصب براءة الى الرفع مبالغة وتأكيدا وقد قرئ بالنصب على اصله وعلى هذا فهى مبتدء مخصص بالصفة وخبره الى الذين عاهدتم ويحتمل ان يكون خبرا لمبتدء محذوف ومن الله والى الذين عاهدتم صفتين له اى براءة ناشئة من الله واصلة الى الذين عاهدتم، او هذه براءة واصله من الله الى الذين عاهدتم ونسب المعاهدة الى المسلمين لانها مع كونها من رسول الله (ص) كانت لمصلحة المسلمين فكأنها كانت منهم، ونسب البراءة الى الله والرسول مخاطبا للمسلمين اشارة الى وجوبها عليهم والذين عاهدتم وان كان عاما لكنه مخصص بالناقضين بقرينة الاستثناء الآتى، فالنظر فى انه كيف يجوز نقض العهد من الرسول (ص)؟ ساقط من اصله.
[9.2-3]
{ فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } اعلام وامهال نصفا ورجاء ان يتوبوا والمراد باربعة اشهر عشرون من ذى الحجة الى عاشر ربيع الثانى، ونقل ان فتح مكة كان فى الثامن من الهجرة ونزول سورة براءة فى العام التاسع وحجة الوداع فى العاشر واتفق مفسروا العامة والخاصة انه بعث رسول الله (ص) ابا بكر اميرا على الموسم فقالت الخاصة: بعثه بسورة براءة ثم نزل عليه الوحى ان لا يؤدى عنك الا رجل منك فبعث عليا (ع) فلحق بأبى بكر واخذ سورة براءة منه وقالت العامة: نزل براءة بعد بعثه (ص) ابا بكر فبعث بعده عليا (ع) فقيل له (ص) فى ذلك فقال:
" لا يؤدى الا رجل منى "
وتفصيل فصته مذكورة فى كتب الفريقين { واعلموا أنكم غير معجزي الله } تهديد لهم بان الامهال لا ينفعهم { وأن الله مخزي الكافرين وأذان من الله ورسوله } هذا نظير براءة من الله فى نيابة المصدر عن الفعل والعدول الى الرفع { إلى الناس } وهذا من التكرار المطلوب فى مقام التهديد والغضب { يوم الحج الأكبر } سمى يوم النحر بالحج الاكبر فى مقابل العمرة، او لان فى يوم النحر معظم افعال الحج، او لانه كان سنة حج فيها المسلمون والمشركون { أن الله بريء من المشركين ورسوله } اى بان الله ورسوله عطف على المستتر فى بريء وقرء بالنصب عطفا على اسم ان { فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله } هذا ايضا من التكرير المطلوب فى مقام التهديد { وبشر الذين كفروا بعذاب أليم } من قبيل استعمال الضد فى الضد تهكما.
[9.4]
{ إلا الذين عاهدتم من المشركين } استثناء من المشركين لبيان بقاء عهد غير الناكثين { ثم لم ينقصوكم شيئا } من شروط العهد { ولم يظاهروا عليكم أحدا } فان نقض الشروط ومظاهرة العدو نقض فعلى { فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين } من نقض العهد بلا سبب.
[9.5]
{ فإذا انسلخ الأشهر الحرم } هى اشهر السياحة التى جعلها الله حرما لامان المشركين { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } من حل وحرم { وخذوهم } بالاسر { واحصروهم } عن المسجد الحرام { واقعدوا لهم كل مرصد } لئلا يبسطوا فى البلاد { فإن تابوا } بالتوبة النبوية { وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة } بانقياد احكام الاسلام { فخلوا سبيلهم } لانهم حينئذ يكونون امثالكم ولهم مالكم وعليهم ما عليكم { إن الله غفور } يغفر ما صدر عنهم بالتوبة { رحيم } برحمهم بالاسلام واقامة احكامه.
[9.6]
{ وإن أحد من المشركين استجارك } من شر المؤمنين او من غيرهم طلبا للامان فى الدنيا { فأجره } فان التوجه اليك وان كان للدنيا له حرمة فلا تهتكها كما ان لنحلة الاسلام بواسطة التشابه بالاسلام وانقياد احكامه لها حرمة وغاية الاجارة سماع كلام الله وفيه حصول المقصود من ارسالك { حتى يسمع كلام الله } فان فى سماع كلام الله كسرا لسورة عنادهم واستمالة لهم الى الحق ومقاتلتك ليس الا لذلك { ثم أبلغه مأمنه } بعد ارادة العود الى وطنه بان لا يتعرض احد من المسلمين له حتى يبلغ بامان منك وحافظ من المسلمين ان احتاج اليه الى وطنه او المكان الذى هو مأمنه { ذلك } الالجاء حين الالتجاء وابلاغ المأمن حفظا لحرمة التوجه اليك وان كان لاغراض دنيوية وانتظار سماع كلام الله { بأنهم قوم لا يعلمون } لاشتداد جهلهم بحيث ستر جهة علمهم الذى هم مفطورون عليها وبسماع كلام الله يضعف جهة جهلهم ويظهر جهة علمهم فيرجى منهم قبول قولك بعد ظهور جهة علمهم.
[9.7-8]
{ كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله } استفهام انكارى فى معنى النفى وفيه معنى التعجب اى لا يكون للمشركين عهد عند الله وهو جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: كيف يصح الغدر ونقض العهد؟- فقال ليس لهم عهد { إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين } عن نقص العهد { كيف وإن يظهروا عليكم } تكرار كيف لمناسبة مقام الذم والسخط { لا يرقبوا فيكم إلا } قرابة او حلفا وعهدا { ولا ذمة } عهدا على التفسير الاول لألا او حقا فى ذمتهم على التفسير الثانى { يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم } عما يقولون بافواههم { وأكثرهم فاسقون } خارجون عن حكومة العقل وحكومة خليفة الله وذكر الاكثر لان بعض الكفار لهم حالة انقياد لطاعة العقل ان نبههم منبه.
[9.9]
{ اشتروا بآيات الله } استيناف فى موضع التعليل لفسقهم والآيات اعم من الآيات التكوينية النفسانية والآفاقية والتدوينية { ثمنا قليلا } من الاعراض الدنيوية والاغراض الفاسدة والتمتعات الفانية { فصدوا عن سبيله } اعرضوا او منعوا عن سبيله التكوينى وهو سبيل العقل فى العالم الصغير او عن سبيله التكليفى وهو النبوة او الولاية { إنهم سآء ما كانوا يعملون } من اشتراء الآيات والصد عن السبيل فان وباله لا يرجى غفرانه.
[9.10]
{ لا يرقبون في مؤمن } التكرار باعتبار مطلوبية التكرار فى مقام الذم والسخط { إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون } الكاملون فى الاعتداء.
[9.11-12]
{ فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين } التكرار هنا ايضا من التكرار المطلوب { ونفصل الآيات } التكوينية بالآيات التدوينية { لقوم يعلمون وإن نكثوا أيمانهم } جمع اليمين بمعنى العهد لان العهد ينعقد باليمين او لان العهد شبيه باليمين بمعنى الحلف { من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر } وضع المظهر موضع المضمر اشعارا بوصف ذم لهم { إنهم لا أيمان لهم } فان الايمان اذا لم تقترن بالوفاء كان وجودها كالعدم { لعلهم ينتهون } عن الكفر والغدر فى الايمان، اعلم، ان تنزيل الآيات فى المشركين بالله وتأويلها فى المشركين بالولاية فان كل من بايع محمدا (ص) اخذ عليه ان لا يخالف قوله فكل من خالف قوله فى على (ع) نكث عهده ويمينه كاصحاب السامرى وعجله وكاصحاب الصفين وكل من بايع عليا (ع) ثم خالفه كاصحاب الجمل والنهروان فقد نكث عهده ويمينه لكن القتال ما وقع الا مع اصحاب الجمل والصفين والنهروان وفى الاخبار ورد تفسيرها بحسب التأويل بالمشركين بالولاية.
[9.13]
{ ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم } تحريص على القتال وتكرير للحكم بلفظ آخر لاقتضاء مقام الغضب له { وهموا بإخراج الرسول } قبل الايمان فان مشركى مكة قبل المعاهدة والحلف مع الرسول (ص) هموا باخراجه عام الهجرة فان المشاورة والهمة باخراجه كانت عام الهجرة قبل الهجرة كما مضى حكاية مشاورتهم فى دار الندوة والمعاهدة والايمان كانت عام الحديبية وعام فتح مكة { وهم بدءوكم أول مرة } بالمعاداة ومقابلة البادى بالمقاتلة كان جزاء عمله لا تعدى فيها { أتخشونهم } لا ينبغى لكم ان تخشوهم مع كونكم مؤمنين بالله مستظهرين به تجرئة لهم { فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين } شرط تهييج فان ايمانهم العام محقق وهو يقتضى الاستظهار به وعدم الخوف من غيره والخوف من سخطه.
[9.14-15]
{ قاتلوهم } تكرار باعتبار اقتضاء السخط ولبيان العلل المختلفة والغايات المترتبة فان قوله: فقاتلوا ائمة الكفر؛ معلل بأنهم لا ايمان لهم وقوله: { ألا تقاتلون قوما نكثوا }؛ الذى هو فى معنى قاتلوا معلل بنكث الايمان وهمة اخراج الرسول والبدأة فى القتال، وقوله قاتلوهم مغيى بتعذيبهم على ايدى المؤمنين والعمدة مطلوبية التكرار لاقتضاء مقام السخط له { يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم } ذكر غايات خمس: الاول - تعذيبهم بالنسبة الى من يقتل ويجرح، ونسب التعذيب الى ايدى المؤمنين للاشارة الى ان ايديهم كما انها اجزاء لهم ومنسوبة اليهم كذلك هى آلات لفعله تعالى وواسطة اثره، والثانى - اخزاؤهم بالاذلال واتلاف المال بالنسبة الى من سلم من القتل والجرح وهما راجعان الى الكفار، والثالث - ظهور نصرته وغلبة المؤمنين عليهم فانه لولا المقاتلة لم يظهر النصرة، والرابع - شفاء صدور المؤمنين واستعمال الشفاء والتشفى منتسبين الى الصدور وباعتبار الالم الذى يصل اليها من اعتداء المعتدى، والخامس - اذهاب غيظ قلوبهم وغيظ القلوب عبارة عما يحمل الانسان على ارادة الانتقام وهو ناش من الم القلوب، وهذه الثلاثة بالنسبة الى المؤمنين ونسبة الشفاء واذهاب غيظ القلوب الى قوم من المؤمنين للاشارة الى ان بعض المؤمنين لا يتألمون من اعتداء المشركين بل يرون اعتداءهم سائقا لهم الى ربهم، كما ان مرافقه مولاهم قائدة لهم وقوله بالفارسية " دربلاهم ميجشم لذات او " اشارة الى هذا { ويتوب الله على من يشآء } اداه مرفوعا بصورة الاستيناف للاشارة الى عدم لزومه للمقاتلة كسوابقه لكن اتى باداة العطف مشعرا بانه ايضا قد يترتب على المقاتلة { والله عليم } بالغايات المترتبة على المقاتلة ولذا يأمركم بها { حكيم } لا يأمركم الا بما فيه صلاحكم وصلاح اعداءكم.
[9.16]
{ أم حسبتم أن تتركوا } على فراغكم ولا تؤمروا بالمقاتلة { ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم } اى جهاد المجاهدين فان فى الاتيان بالموصول ايماء الى اعتبار حيثية الصفة ولما كان لعلمه تعالى مراتب وبعض مراتبه مع الحادث وفى مرتبة الحادث وان كانت بالنسبة اليه تعالى قديمة واجبة بقدمه ووجوبه تعالى صح نفى العلم عنه باعتبار نفى حدوث الحادث، او الفعل مضمن معنى الظهور اى ولما يظهر علمه بالذين جاهدوا منكم، او نسبة نفى العلم اليه تعالى باعتبار مظاهره اى لما يعلم النبى الذى هو مظهر الله { ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة } عطف على جاهدوا والوليجة الجماعة التى يكون الشخص مراودا لهم ومستظهرا بهم وخاصتك من الرجال ومن تتخذه معتمدا عليه من غير اهلك واللصيق بالشخص الذى لا ينفك عنه، والمراد بالمؤمنين الائمة كما فى الاخبار لانهم الكاملون فى الايمان ولانهم الاصل فيه وايمان غيرهم فرع ايمانهم، ولانهم يجعلون الناس فى امان الله بالبيعة معهم ويجيز الله امانهم، ويجوز تعميم المؤمنين، وفسر الوليجة فى الاخبار بالبطانة وبمن يقام دون ولى الامر { والله خبير بما تعملون } فيعلم المجاهد، وآخذ الرسول (ص) والمؤمنين وليجة، ويعلم القاعد، والآخذ غير الله ورسوله والمؤمنين وليجة، وهو ترغيب فى المجاهدة والاعتماد على الله وتهديد عن القعود والاعتماد على غير الله.
[9.17-19]
{ ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله } استيناف لرد مفاخرة المشركين بعمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج وحجابة البيت وفك العناة كما فسر فى الاخبار، وفيه ايضا ردع للمؤمنين عما يتخاطروا به من عدم جواز مقاتلة المشركين مع كونهم مباشرين لتلك الاعمال السنية والمناصب الشريفة، والمقصود انه ليس الاعتبار بمشاكلة صورة اعمال الابرار وان صدرت من الاشرار بل الاعتبار بمصدر الاعمال فتعميرهم فى الحقيقة تخريب لمسجد القلب حيث يراؤن ويفتخرون به، وسقايتهم صد متعطشى مملكتهم عن ماء الحيوة حيث يعجبون به، وحجابتهم حجابة الشيطان لبيته الذى هو بيت النفس، وفك العناة اسر لاحرار قواهم وصد لهم عن الرجوع الى مولاهم، { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله } يعنى بالايمان بالله ومساجد الله هى الصدور المنشرحة بالاسلام والقلوب المستنيرة بنور الايمان وعمارتها بالاسلام والايمان؛ ولذا قال اشارة الى هذا البيان { شاهدين على أنفسهم بالكفر } حالا حيث يعملون اعمال الكفر وقالا حيث يقولون ما يلزم الكفر من عدم الاعتقاد بالبعث والحساب وبارسال الرسول وانزال الكتاب وغير ذلك مما يستلزم الكفر وعدم المعرفة بالله { أولئك حبطت أعمالهم } فلا يباهوا بصور اعمالهم ولا تنظروا ايها المؤمنون الى صورها لانها ساقطة بل هى كالاجساد الميتة التى توذى حاملها { وفي النار هم خالدون إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة } لاغيرهم فهو تأكيد للنفى السابق بمفهومه ولما كان عمارة المساجد الصورية مع الاتصاف بالشرك تخريبا للمساجد الحقيقية التى هى القلوب واربابها وكان حكم التخريب غالبا وحكم العبارة مغلوبا كأنها لم تكن، وكان الايمان بالله واليوم الآخر الذى هو كمال القوة النظرية فى اعتقاد المبدء والمعاد وقد اندرج فيه جميع المعارف الراجعة الى المبدء والمعاد واقام الصلاة وايتاء الزكاة اللذان هما كمال القوة العملية، وهما اصلان لجميع النسك والعبادات عمارة للمسجد الحقيقى الذى هو القلب وصاحبه وصار حكمها غالبا بحيث تنسب الى المساجد الصورية وان لم تكن فيها عمارة قال بطريق الحصر: انما يعمر مساجد الله آتيا بالجمع المضاف المفيد للعموم وبمن الموصولة المفيدة للعموم، مع ان اكثر المؤمنين لم يعمروا مسجدا قط ولو صحح بتضمين يعمر معنى يصح فالتأدية بهذه الصورة للاشارة الى هذا المعنى { ولم يخش إلا الله } تعريض بالضعفاء من المؤمنين { فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن } اى كمعمل من آمن او هو بتقدير مضاف فى جانب المسند اليه وهو خطاب للمشركين او للمؤمنين او للجميع { بالله واليوم الآخر } وهو كمال العلم { وجاهد في سبيل الله } وهو اجمال الصلاة والزكاة اللتين هما كمال العمل، والتكرار باعتبار مطلوبيته فى مقام الذم والمدح { لا يستوون عند الله } بحسب العلم والعمل اى الحال التى هم عليه { والله لا يهدي القوم الظالمين } فلا يستوون بحسب الغاية ايضا لان الله يهدى المؤمين، ووضع الظاهر موضع المضمر اشعارا بذم لهم وبعلة عدم هدايتهم.
[9.20]
{ الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله } تكرار الاوصاف باعتبار اقتضاء مقام المدح { وأولئك } الموصوفون بتلك الاوصاف العظيمة { هم الفائزون } لا غيرهم.
[9.21-22]
{ يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان } تفصيل لفوزهم، والرحمة هنا محمد (ص) ونبوته لانها صورة الولاية التى هى الرحمة، والرضوان على (ع) وولايته، والتنكير للتفخيم { وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيهآ أبدا إن الله عنده أجر عظيم } كأنه استكثر ما ذكر فقال تعالى: هذا فى جنب ما عند الله لهم قليل فهو استيناف جواب لسؤال مقدر.
[9.23]
{ يأيها الذين آمنوا } بالايمان العام { لا تتخذوا آبآءكم وإخوانكم أوليآء إن استحبوا الكفر على الإيمان } فان نسبة الايمان قطعت النسبة الجسمانية فهى مقدمة على نسبة القرابة الجسمانية، ونقل عن الباقر (ع) ان الكفر فى الباطن فى هذه الآية ولاية مخالفى على (ع) والايمان ولاية على بن ابى طالب (ع)؛ وعلى هذا فليعم الايمان الايمان الخاص، ومعلوم ان احكام الايمان العام جارية فى الايمان الخاص بل هو اولى بها من الايمان العام { ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون } حيث وضع ولايته فى غير موضعها وظلم نفسه بالصرف عن جهة الايمان الى جهة الكفر.
[9.24]
{ قل إن كان آباؤكم وأبنآؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونهآ } ذكر اصول مشتهيات النفس { أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله } اعلم، ان الانسان واقع بين النفس والعقل ومقتضيات النفس هى الاعراض الدنيوية المعدودة واصولها فى الآية ومقتضيات العقل الامور الاخروية الباقية والانزجار عن الاعراض الفانية ورفضها الا من باب المقدمة، والمبتلى بالنفس ومقتضياتها واقع فى جهنامها ولا محالة يكون سبيله الى السجين ودار الشياطين، والمتنعم بالعقل ومقتضياته واقع فى طرف الآخرة ولا محالة يكون سبيله الى الجنان ونعيمها، فمن غلب عليه حب الاعراض فليعالج نفسه وليتضرع الى ربه حتى لا يكون ممن اوعده الله بقوله { فتربصوا حتى يأتي الله بأمره } من ازهاق الروح وحضور الموت فانه حينئذ ينكشف له انه كان فى جهنام النفس وسبيله الى السجين { والله لا يهدي القوم الفاسقين } يعنى ان اختيار الاعراض الفانية على الامور الباقية فسق والفاسق لا يهديه الله الى سبيل الجنان فوضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على فسقهم وعلة تهديدهم، روى انه لما آذن امير المؤمنين (ع) بمكة ان لا يدخل المسجد الحرام مشرك بعد ذلك العام جزعت قريش جزعا شديدا وقالوا: ذهبت تجارتنا وضاع عيالنا وخربت دورنا فأنزل الله تعالى قل ان كان اباؤكم (الآية).
[9.25]
{ لقد نصركم الله في مواطن كثيرة } فليرجح طالب الاعراض الفانية محبة الله ورسوله حتى يحصل مأموله روى ان المواطن كانت ثمانين وهى مواقع الحرب { ويوم حنين } من قبيل ذكر الخاص بعد العام وسبب غزوة حنين وهو واد بين مكة والطائف ان رسول الله (ص) حين خرج لفتح مكة اظهر انه يريد هوازن، وبلغ الخبر اليه (ص) فجمع القبائل ووعدهم النصر والغنيمة فجمع اثنى عشر الفا وخرج من مكة يستقبلهم، فقال ابو بكر معجبا لن نغلب اليوم فلما التقى الفريقان فى وادى حنين وهو واد له انحدار بعيد انهزم المسلمون هزيمة فاحشة ثم نصرهم الله بالملائكة فأخذوا غنائم وافرة واسارى كثيرة بلغ عدد الاسارى ستة آلاف، ولما لم يخف نصرة الله فى ذلك اليوم على احد حتى على المشركين حيث قال بعض اساراهم: اين الخيل البلق؟! والرجال عليهم ثياب بيض؟ - وكان الغنائم والاسارى اكثر ما يكون؛ خصه الله بالذكر { إذ أعجبتكم كثرتكم } قد مضى ان المعجب كان ابور بكر وقد ساء مقالته رسول الله (ص) { فلم تغن عنكم شيئا } من الاغناء او شيئا من بأس الاعداء فان الكثرة اذا لم تكن قرينة للنصرة لاتنفع، والنصرة هى المغنية سواء كانت قرينة للكثرة او للقلة { وضاقت عليكم الأرض } حين غلبتم وانهزمتم { بما رحبت ثم وليتم مدبرين } عن رسول الله (ص) وعن الجهاد.
[9.26]
{ ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } يعنى بعد ما صرتم مغلوبين وعلمتم ان الكثرة وتهية الاسباب لا تغنى ولا تصير سببا للغلبة انزل الله سكينته التى هى سبب اطماينانكم وقوة قلوبكم، والسكينة على ما فسرت فى الاخبار من، انها ريح تفوح من الجنة لها وجه كوجه الانسان، تناسب ما فسرها به الصوفية الصافية من انها صورة ملكوتية تظهر على صدر الانسان متصورة للاتباع بصورة الشيخ المرشد وللمتبوعين بصورة مناسبة لهم تسمى بالملك او بجبرئيل بحسب تفاوت مراتبهم، وحين تمثل صورة الشيخ او الملك يصير ملكوت المتمثل له غالبة وملكه مغلوبا وحينيئذ يكون له الغلبة على النفس واهويتها وعلى الملك ومن وقع فيه، لانه مؤيد بالسكينة التى هى من سنخ الملك وجاذبة للملائكة ولذا قال بعد انزال السكينة { وأنزل جنودا لم تروها } وقد مضى تحقيق السكينة، فى سورة البقرة عند قوله تعالى: ان آية ملكه ان يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم { وعذب الذين كفروا } بالقتل والاسر ونهب الاموال { وذلك جزآء الكافرين } تعريض بالامة حيث كانوا يكفرون بعد محمد (ص) بالولاية، وقصة حنين مذكورة فى المفصلات مفصلة من أراد فليرجع اليها.
[9.27]
{ ثم يتوب الله من بعد ذلك } التعذيب { على من يشآء } يعنى لا تنظروا اليهم بعد التعذيب بنظر التحقير لامكان تدارك رحمته تعالى لهم لانهم عباد الله وصنائعه { والله غفور رحيم } قد يؤاخذ عباده اصلاحا لهم كما قد يؤاخذ نقمة لهم والا فمغفرته ورحمته سابقة.
[9.28]
{ يأيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس } ابداء حكم آخر { فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة } بسبب قلة تجارتكم لمنع المشركين عن التردد الى بلدتكم فثقوا بالله وارجوا فضله { فسوف يغنيكم الله من فضله إن شآء } التعليق على المشية لقطع الاغترار بالوعد ولانه لم يكن لكلهم وقد انجز وعده بعد اجلاء المشركين بتبسط اهل المدنية ومكة على سائر البلاد وبعد ذلك بتوجه اهل الشرق والغرب اليها { إن الله عليم } بعواقب اوامره ونواهيه { حكيم } لا يأمر ولا ينهى الا لمصلحة وحكمة.
[9.29]
{ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } بعد ما اظهر حكم المشركين واجلاءهم ومقاتلتهم بتاكيد وتغليظ بين حكم اهل الكتاب ولم يصدره بالنداء اشارة الى التفاوت بينهم وبين المشركين فى التغليظ { ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب } لفظ من للتبعيض { حتى يعطوا الجزية } ما يقرر ويقضى من جزى دينه اذا قضاه { عن يد } عن قوة وبطش منكم وهذا مثل سائر فى العرب والعجم يقول العاجز الذليل تحت يد غيره: افرعن يده، كما يقول العجم " فرار كردم از دست فلانكس " وهذا المعنى هو المناسب للمقام ولتنكير لفظ اليد، وقد ذكر له معان اخر مثل: منقادين، وعن غنى، وعن انعام، وعن يدهم لا يد غيرهم { وهم صاغرون } اذلاء وحكم الجزية واهلها مذكور فى المفصلات من التفاسير والكتب الفقهية.
[9.30]
{ وقالت اليهود } اما استيناف على القول بمجيء الواو للاستيناف، او عطف باعتبار المعنى فان تعليق الامر بالمقاتلة على الموصول للاشعار بعلة الحكم فكأنه قال: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله من جهة انهم لم يؤمنوا وقالوا { عزير ابن الله } ووضع الظاهر موضع المضمر لارادة التفصيل وتعيين قائل كل قول، اعلم، ان القائلين عزير ابن الله، والمسيح ابن الله، ونحن ابناء الله، لم يريدوا بتلك الكلمة ما يفهم منها بحسب الظاهر من التوليد والتجسيم واثبات الزوج لله بل ارادوا بيان النسبة الروحانية بهذه الكلمة وقالوا من حصل له القرب من الله بحيث يأخذ الاحكام والآداب منه تعالى بلا وساطة بشر فهو ابن الله، وكذا من انتسب الى الله بواسطة الاتصال بنبى او ولى فهو ابن الله بيانا لشدة القرب او لصحة الانتساب ولا شك فى صحة هذا المعنى، ولكنها ممنوعة فى حقه تعالى لايهامها معناها الظاهر والتجسيم والتوليد كما حمل الاتباع هذه الكلمة على ظاهرها وقالوها بمعناها الظاهر، ولا شك ان معناها الظاهر كفر وفرية، ولهذا حكاها تعالى شأنه عنهم ذما لهم { وقالت النصارى المسيح ابن الله } نقل انه كان يقول: وان ابى يقول كذا، وثبت هذا المعنى فى الانجيل { ذلك قولهم بأفواههم } لا اعتقاد لهم به بأى معنى كان فان الاعتقاد بهذا المعنى يقتضى العمل بمقتضاه وهو عدم التخلف عن قول من نسبوه بالنبوه الى الله وليس كذلك مثل قوله تعالى
يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم
[آل عمران:167] { يضاهئون قول الذين كفروا } اى يضاهى قولهم قول الذين كفروا، بحذف المضاف واقامة المضاف اليه مقامه، المضاهاة فى عدم كون قول كل عن اصل وعدم موافقته للاعتقاد وكون كل ناشئا من محض التخيل من غير حجة عليه كقول المجنون، والمراد بالذين كفروا { من قبل } اما اليهود على ان يكون المراد بهم النصارى، او مطلق الكفار { قاتلهم الله } باعدهم الله ولعنهم وكثيرا ما يستعمل فى هذا المعنى فى العرف، ونقل عن على (ع) انه بمعنى لعنهم الله { أنى يؤفكون } عن الحق.
[9.31]
{ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم } قد مضى ان الاحبار علماء الملة والرهبان علماء الدين والطريقة { أربابا من دون الله } يطلق الرب على المطاع وهو الرب فى الطاعة، وعلى المعبود وهو الرب فى العبادة، وعلى المدبر فى الوجود وهو الرب فى الوجود وبقائه، وعلى الخالق وهو الرب فى الايجاد والمقصود من الرب ههنا هو الرب فى الطاعة حيث قالوا لهم: هذا حلال وهذا حرام، وهذا من التوراة والانجيل، فسمعوا منهم من غير حجة، والناس غير العلماء الآلهيين منهم لا بد لهم من رب بشرى يطيعونه لعدم بصيرتهم بأمر دينهم وبأمر دنياهم على وجه لا يضرهم فى عقباهم وذلك الرب المطاع اما منصوب من الله فقوله قول من الله وقول الله، وطاعته طاعة الله، وربوبيته ربوبية الله، واما غير منصوب من الله فهو غير الله وهو ناش من غير الله وطاعته غير طاعة الله فقوله من دون الله تقييد للارباب يعنى اربابا ناشين من دون الله من حيث ربوبيتهم، او اربابا هم بعض من غير الله على ان يكون من للابتداء او للتبعيض { والمسيح ابن مريم } عطف على احبارهم يعنى اتخذوا المسيح بن مريم ربا فى العبادة ولذا جاء به بعد تمام حكم المعطوف عليه واخره عن الاحبار ليكون ترقيا الى الابلغ فى الذم، ان قلت: ان المسيح منصوب من الله فهو رب من الله ولاذم فى اتخاذه ربا؟! فالجواب ان ربوبيته فى الطاعة من حيث انه من الله ممدوحة واما ربوبيته فى العبادة كما تفهم من قولهم انه آله او انه ابن الله، او انه ثالث ثلاثة وكذا ربوبيته فى الطاعة من حيث انه مستقل فى الربوبية فهى مذمومة واشراك بالله { ومآ أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا } غير مركب فى ذاته وغير متعدد فى الوجود فطاعة الرسل ان كانت من حيث انهم رسل الله طاعة الله وطاعتهم لا من تلك الحيثية ليست طاعة الله { لا إله إلا هو } صفة بعد صفة او حال او مستأنف والمقصود منه حصر الآلهة فيه كأنه قال: { ومآ أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا } محصورا فيه الآلهة { سبحانه عما يشركون } فى الطاعة والولاية كاشراك الاحبار والرهبان او فى الطاعة والعبادة والآلهة جميعا كاشراك المسيح وهو تعريض بالامة حيث اشركوا فى الولاية والطاعة من لم ينصبه الله وللاشارة الى التعريض قال تعالى { يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم }.
[9.32]
{ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم } بالمضارع والا فالمناسب لحال اليهود والنصارى ان يقول: ارادوا مثل اتخذوا بالماضى والمراد بنور الله على (ع) فانها نور يظهر به الحق ويتميز به السعيد عن الشقى، والمراد بالاطفاء بالافواه القاء الشبهات والاحاديث الموضوعات والتحريف فى الكتاب للتدليس على الجهال شبه ذلك بالنفخ فى السراج وفى الاخبار ما يدل على التعريض المذكور { ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون } بالله وبالرسالة بحسب التنزيل او بالولاية بحسب المراد.
[9.33]
{ هو الذي أرسل رسوله } اما استيناف منقطع عما سبق لابداء حكم آخر قطعا لاطماع المشركين فى ابطال رسالة محمد (ص) وعلى هذا فاضافة الرسول للعهد، واما استيناف فى موضع التعليل لقوله { ويأبى الله إلا أن يتم نوره } اى رسالة رسوله وعلى هذا فاضافة الرسول (ص)، اما لتعريف الجنس وتعميمه او لتعريف العهد وفيه ايضا قطع لاطماع المشركين، والمراد بالرسول اما معنى عام للرسل (ع) واوصيائهم (ع) فانهم رسل من الله بواسطة الرسل، او معنى خاص بالرسل الاصطلاحية الذين اوحى اليهم بشرع وتبليغه، او المراد محمد (ص) وعلى التقديرين الاخيرين فالمقصود سراية الحكم الى اتباعهم او اتباعه، اما من باب الفرعية والتبعية واما لانهم اجزاء الرسل بحسب سعتهم الولوية واما لانهم مظاهر الرسل بحسب صدروهم وقلوبهم وعقولهم، فيصح تفسير الآية بخروج القائم عجل الله فرجه وانها مما لم يأت تأويلها وانه (ع) اذا ظهر ظهر على الاديان كلها { بالهدى } بما به الهدى وهو الاحكام القالبية الشرعية كما اشير الى تسمية الاسلام واحكامها بالهدى فى قوله تعالى:
بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان
[الحجرات:17] { ودين الحق } دين الحق هو طريق الحق وهو الولاية والايمان الخاص الحاصل بالبيعة الباطنة الولوية وبعبارة اخرى الهدى هو الاسلام ودين الحق هو الايمان وقد فسر دين الحق بولاية على (ع) فى اخبارنا، فعن الكاظم (ع) فى هذه الآية والآية السابقة: هو الذى امر رسوله بالولاية لوصيه والولاية هى دين الحق ليظهره على جميع الاديان عند قيام القائم (ع) والله متم ولاية القائم ولو كره الكافرون بولاية على (ع) قيل: هذا تنزيل؟ - قال: نعم هذا الحرف تنزيل واما غيره فتأويل { ليظهره على الدين كله } اتى بالمفرد المستغرق بقرينة التأكيد بالكل دون الجمع روما للاختصار واشعارا بان الاديان الباطلة مع كثرتها ونهاية فرقتها متحدة فى الغاية وهى الانتهاء الى السجين والملكوت السفلى { ولو كره المشركون } بالله او بالرسالة او بالولاية.
[9.34]
{ يأيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل } اتى بالنداء ومؤكدات الجملة من ان واللام واسمية الجملة اما للاشعار بأن شأنهم التحفظ عن اموال الناس بحيث ينبغى ان ينكر هذا منهم او يردد فى وقوعه منهم حتى يكون ابلغ فى الذم والتفضيح، او لتأكيد لازم الحكم الذى هو المقصود منه من ذمهم وتفضيحهم وتنفير الناس منهم ومن اقوالهم { ويصدون عن سبيل الله } عن النبى (ص) او عن الولى (ع) والمقصود التعريض بأمة محمد (ص) ومن يأتى بعده بصورة الاحبار والرهبان من المتسمين بالعلماء والفقهاء بالصوفية والعرفاء الذين لا فقه لهم سوى ما يحصل به الاعراض والاغراض ولا معرفة لهم ولا تصوف سوى الدلق والحلق { والذين يكنزون الذهب والفضة } اما عطف على ليأكلون ووجه حسنه مع الاختلاف بالاسمية والفعلية الاشعار بان الذين يكنزون الذهب مشهور ذمهم بحيث لا ينكر وان الاحبار والرهبان هم الذين يكنزون وقد اشتهر ذمهم فلا تبالوا بقولهم، واما عطف على اسم ان عطف المفرد او عطف على جملة ان مع اسمها وخبرها بتقدير مبتدء او بتقدير خبر او مستأنف بجعل الذين مبتدء وقوله فبشرهم خبرا له وقد مر ان ما يسمونه واو الاستيناف هو واو العطف بلحاظ المعنى { ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم } دخول الفاء فى الخبر على كونه خبرا لكون المبتدء فى معنى الشرط.
[9.35]
{ يوم يحمى } يوقد النار { عليها } على الذهب والفضة وضمير المؤنث باعتبار معنى الجمعية والكثرة فيهما { في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم } ذكر تعالى اشرف الاجزاء واقواها اشارة الى شمول الكى او لانهم ارادوا بالكنز الوجاهة ونعامة فراش الجنبين والظهر مقولا لهم { هذا } الذى تكوون به { ما كنزتم } او هذا الكى غاية ما كنزتم وهو ضد ما اردتم { لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون } اى وباله قد اختلف الاخبار فى حقيقة الكنز وفى قدر يصدق عليه الكنز وفى مال يصدق عليه وقد ذكرت الاخبار فى المفصلات، وتحقيق الحق فيه موافقا لاشارات الاخبار ان الانسان له مراتب كثيرة وحكمه وحاله فى كل مرتبة مخالف لحاله فى غيرها، مثلا الواقع فى جهنام النفس الذى لا يرى الخير الا ما اقتضته نفسه ولا يرى الا الاسباب وكان محجوبا عن الله وتسبيبه، فكلما جمع مالا لا يكون ذلك منه الا محض حب المال او محض الاتكال فى المعاش عليه مع عدم الوثوق بالله والتوكل عليه، وهذا المال منه كنز قليلا كان او كثيرا تحت الارض كان اوفوقها مؤدى زكوته او غير مؤدى، بل هو شرك بالله وكفر وصاحبه وثنى وذلك المال صنمه، وان توجه من جهنام النفس الى الملكوت العليا ولا محالة يكون منزجرا عن النفس وجهنامها لكنه ما لم يخرج منها يكون مقيدا مبتلى بمقتضياتها وسلاسل شهواتها، فان جمع فى حال التوجه والانزجار متوكلا به على الله مصداقا لما قيل فى مضمون الصحيحة النبوية: (مثنوى) " باتو كل زانوى اشتربيند " معينا به على خروجه وعلى معيشته لم يكن كنزا، لانه حينئذ يؤدى حقوقه الواجبة والمندوبة حيث يريد الخروج من تحت امر نفسه والدخول تحت امر ربه، وان جمع فى حال التقييد بالنفس ومشتهياتها ولا محالة يكون محجوبا من الله والتوكل عليه كان كنزا ادى حقوقه او لم يؤد، وان خرج من تلك الجهنام الى الجانب الايمن من طور الصدر كان له الحالتان ايضا لكن تقيده بسلاسل شهواتها يكون اضعف، وان خرج من بيت نفسه الخراب الى بيت قلبه المعمور فهو ايضا ذو وجهين وله الحالان، وان دخل بيت قلبه فقد دخل دار الامان وفى حقه قيل:
كف كيرد ملتى ملت شود
فميزان الكنز وعدمه حال الانسان لا حال المال وقدره، فالفقير المحب للدنيا مكتنز، والغنى المنزجر غير مكتنز، والكنز عبارة عن محبة الدنيا المدخرة فى بيت القلب اعتمادا عليها ووثوقا لها لا المال المكتنز تحت التراب.
[9.36-37]
{ إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا } استيناف لابداء ذم اخر للمشركين وعلة اخرى لمقاتلتهم اعلم، ان الايام والشهور الزمانية التى ههنا صور للدهر والدهر صورة للسرمد، والكل ظهور سير شمس الحقيقة فى بروجها الستة النزولية والستة الصعودية وغروبها فى افق كرة ارض الطبع وطلوعها منه وظهور الكل علينا بهذا الزمان الذى يعبر عنه باليوم والليل والشهر والعام، فهذه الايام والاشهر لها حقائق متمايزة فى مراتب الملكوت والجبروت وتلك الحقائق لها آثار وخواص ورقائق فى هذه، وما قاله الانبياء (ع) واصحاب الوحى والتحديث من خواصها وما جربه المجربون منها عشر من اعشار خواصها، وما يترتب عليها مثل ما قالوا من خواص ايام الاسبوع او ايام الشهور، ومثل ما قالوا من خواص الشهور ولما جعل المشركون كالطبيعيين واكثر العوام ما سمعوه منها كالاسمار ولم يستمعوه بسمع الحقيقة والاعتبار بل قالوا: ان الايام متشابهة والاشهر متوافقة لا تمايز بينها فى الحقيقة وان ما قيل فيها من التمايز والخواص محض اعتبار لا حقيقة له قال تعالى ردا عليهم، ان عدة الشهور عند الله كما انها عندكم اثنى عشر شهرا يعنى ما عندكم من اثنى عشرا قمرية فى كل عام تقريبا وشمسية فى كل عام حقيقة انما هى رقائق للحقائق التى عندنا، وكل منها مظهر لحقيقة من تلك الحقائق ولكل خواص وآثار ليست لغيره ولذا أتى بالتميز التأكيدى لاسم العدد تمكينا فى القلوب ولم يكتف بقوله عند الله وقال { في كتاب الله } اى مكتوب الله او الكتاب المبين الذى هو العقل او اللوح المحفوظ { يوم خلق السماوات والأرض } يعنى قبل استقرارها عندكم وبعد ما بين ان حقائقها عند الله مؤكدا هذا المعنى بالقيود الثلاثة بين بعض خواصها بقوله { منهآ أربعة حرم } ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ثم أكد حرمتها بقوله { ذلك الدين القيم } الذى لا عوج فيه يعنى اعتقاد حرمتها والتصديق بها هو الطريق القويم الذى كانت الانبياء عليه فمن عدل عنه كان خارجا عن طريق الانبياء { فلا تظلموا فيهن أنفسكم } بان يقتل بعضكم بعضا وينهب ويأسر، او فلا تظلموا فيهن انفسكم بالاعتداء فيهن بهتك حرمتها بالمقاتلة فيها وارتكاب سائر ما لاينبغى { وقاتلوا المشركين كآفة } فى غير تلك الاشهر لانهم هتكوا حرمتها بالنسيء بقرينة انما النسيء زيادة فى الكفر وفى تلك الاشهر حيث بدؤكم بالقتال فيها بقرينة { كما يقاتلونكم كآفة } واتقوا هتك حرمة تلك الاشهر { واعلموا أن الله مع المتقين إنما النسيء زيادة في الكفر } استيناف فى موضع التعليل للامر بالمقاتلة والمراد بالنسيء تأخير حرمة الشهر الحرام الى شهر آخر وتحليل المقاتلة فى ذلك الشهر الحرام كانوا اذا جاء الشهر الحرام ولم يريدوا ترك المقاتلة فيه يقولون: هذا الشهر كسائر الاشهر فنقاتل فيه ونترك القتال فى شهر آخر، وكونه زيادة فى الكفر لانه بعد الكفر بالله بواسطة الكفر بالرسول تبديل لاحكام الله المقررة عنده المكتوبة فى كتبه العالية قبل خلق هذا العالم { يضل به الذين كفروا } حيث يخرجون من الطريق القويم المستقيم بالخروج منه { يحلونه } اى النسيء او الشهر الحرام المنسي { عاما } بيان لضلالتهم { ويحرمونه عاما ليواطئوا } يوافقوا { عدة ما حرم الله } عدد الاشهر التى حرمها الله { فيحلوا } بالنسيء { ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم } جواب لسؤال مقدر { والله لا يهدي القوم الكافرين } الى الطريق القويم ولذا احلوا ما حرم وحرموا ما احل وزين لهم القبائح.
[9.38]
{ يأيها الذين آمنوا } بالايمان العام او بالايمان الخاص { ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله } اى الجهاد الصورى او فى طلب الولاية او فى طريق القلب بالجهاد الباطنى والذكر والفكر ورفض الهوى وترك مأمول النفس { اثاقلتم إلى الأرض } ارض التراب او ارض الطبع او اراض النفس، ونزول الآية فى غزوة تبوك، وسبب غزوة تبوك على ما نقل ان رسول الله (ص) كتب كتابا الى بعض حكام ممالك الشام وأرسل حارث بن عمر والازدى، ولما وصل الحارث الى موتة من قرى بلقاء من اعمال الشام ومنها الى بيت المقدس مرحلتان، قتله شرحيل بن عمرو الغسانى احد امراء القيصر فوصل الخبر الى رسول الله (ص) فهيا سرية موتة وجعل زيد بن حارثة اميرا عليهم وقال حين الوداع:
" ان قتل زيد فالامير جعفر بن أبى طالب، وان قتل جعفر فالامير عبد الله بن رواحة، وان قتل عبد الله فالامير من ارتضاه المسلمون "
، وكان يهودى حاضرا فسمع مقالته فقال: يا ابا القاسم ان كنت صادقا فى نبوتك فكل من عينته للامارة فلا بد من ان يقتل، لان انبياء بنى اسرائيل اذا وجهوا عسكرا الى قتال الاعداء وعينوا جمعا للامارة هكذا قتلوا جميعا، فتوجه زيد مع العكسر الى المقصد وبعد المقابلة مع الاعداء والمقاتلة قتل الذين سماهم الرسول (ص) للامارة، وروى انه ما افلت من اهل الاسلام الا قليل، وروى ان كثيرا منهم بقوا وغيروا بعد يوم المقاتلة اوضاعهم فتوهم شرحيل وظن وصول المدد الى اهل الاسلام وارتحل وصار متحصنا، ورجع اهل الاسلام سالمين الى المدينة، وكان ذلك فى العام الثامن من الهجرة وفى هذا العام كان فتح مكة وغزوة حنين مع بنى هوازن، ثم لما دخل العام التاسع من الهجرة ورد عير الشام المدينة واشاعوا فيها ان سلطان الروم جمع الجنود يريد غزو المدينة، وان هرقل قد سار بجنود عظيمة وجلب معهم غسان وجذام وبهراء وقد قدم عساكره البلقاء ونزل هو حمص، فأمر رسول الله (ص) اصحابه بالتهيؤ الى تبوك وهى من بلاد البلقاء، وبعث الى القبائل حوله والى مكة والى كل من اسلم وحثهم على الجهاد وامر اهل الجدة ان يعينوا من لا قوة له على الخروج، روى ان ابا بكر عرض جمع امواله، وان عمر بذل نصف امواله، وان عثمان جهز مائتى ابل، وقيل: ثلاثمائة ابل، وبذل ألف دينار وعبد الرحمن بن عوف بذل اربعين وقية من الذهب وأربعة آلاف درهم، وهكذا بذل كل بقدر همته وسعته وبلغ عسكره (ص) الى ثلاثين الفا، وقيل: الى اربعين الفا، ولما كانت تلك الغزوة صعبة لبعد السفر وشدة القيظ وكثرة جنود الاعداء تقاعد بعض عن الحركة والغزو فنزل: { يأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا } (الآيات)، وسار الرسول (ص) بالعسكر فى غاية المحنة والمشقة فى شدة حرارة الهواء وقلة الماء حتى نزل بعين تبوك وكانت عينه قليلة الماء فغسل (ص) يده ووجهه بمائها فنبع الماء منها بحيث أخذ جميع العسكر منه باعجازه (ص) ومكث (ص) فى ذلك الموضع عدة ايام، فصح عنده (ص) ان خبر خروج عسكر الروم كان كذبا فشاور الاصحاب فى الرجوع ورجع من هناك، وبعث (ص) خالد بن الوليد مع اربعمائة وعشرين فارسا ليغير على دومة الجندل، وبعد وصولهم الى نواحى دومة الجندل فى الليل وجدوا اكيدر حاكمها مع اخيه حسان ومعدود من خدمه فى طلب الصيد فقاتلوهم وقتلوا حسانا واسروا اكيدر وانهزم قليل منهم، ودخلوا الحصار وتحصنوا مع اخيه الاخر مصاد فقال الخالد لأكيدر: لا اقتلك وأذهب بك الى رسول الله (ص) ان امرت أخاك واهل القلعة ان يفتحوا باب الحصار ويسلموا الينا الف ابل وسبعمائة برد واربعمائة سنان واشترط لك ان آخذ حكومة دومة الجندل لك من رسول الله (ص)، فقبل اكيدر وصالح وأرسل الى اخيه مصاد ان: افتح باب الحصار وهيئ مال الصلح، وبعد اخذ مال الصلح رجع خالد ومعه أكيدر وأخوه مصاد ودخلوا المدينة سالمين غانمين { أرضيتم بالحياة الدنيا } استفهام توبيخ { من الآخرة } بدل الآخرة { فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل } الفاء للسببية باعتبار انكار الرضا بالحياة الدنيا.
[9.39]
{ إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم } بعد اهلاككم تهديد ووعيد بعد توبيخ وتقريع { ولا تضروه شيئا } بهلاككم او بتقاعدكم او بمكركم وهو اظهار للغنى عنهم وعدم الحاجة اليهم، والضمير المفعول اما لله او للرسول (ص) بقرينة المقام ولتوافق ضمير ان لا تنصروه { والله على كل شيء قدير } يقدر على نصرة رسوله بدون امدادكم وعلى اهلاككم واستبدالكم قوما غيركم.
[9.40]
{ إلا تنصروه فقد نصره الله } تذكير لهم بنصرته له (ص) حين لم يكن له معاون حتى يتحقق عندهم نصرته بدونهم استمالة لقلوبهم { إذ أخرجه الذين كفروا } حين شاوروا فى امره بالاجلاء والحبس والقتل فى دار الندوة كما سبق { ثاني اثنين } يعنى لم يكن معه الا رجل واحد وهو ابو بكر { إذ هما في الغار } غار ثور وهو جبل فى يمنى مكة على مسيرة ساعة { إذ يقول لصاحبه لا تحزن } والاتيان بالمضارع للاشارة الى انه كرر هذا القول لعدم سكونه عن اضطرابه { إن الله معنا } ومن كان معه لا يغلب فلا تحزن من اطلاع الاعداء وغلبتهم، روى عن الباقر (ع) ان رسول الله (ص) اقبل يقول لابى بكر فى الغار: اسكن فان الله معنا وقد أخذته الرعدة ولا يسكن فلما رأى رسول الله (ص ) حاله قال له: اتريد ان اريك اصحابى من الانصار فى مجالسهم يتحدثون؟ واريك جعفرا واصحابه فى البحر يغوصون؟ - قال: نعم فمسح رسول الله (ص) بيده على وجهه فنظر الى الانصار يتحدثون، والى جعفر واصحابه فى البحر يغوصون، فأضمر تلك الساعة انه ساحر { فأنزل الله سكينته عليه } السكينة كما فى الخبر ريح تفوح من الجنة لها وجه كوجه الانسان، وهى كما مضى قبيل هذا وفى سورة البقرة على ما حققها الصوفية صورة ملكوتية ملكية آلهية تظهر بصورة احب الاشياء على صدر السالك الى الله وأحب الاشياء الى السالك هو شيخه المرشد ووليه القائد، وتسمى عندهم بالسكينة والفكر والحضور وهى السلطان النصير والطمأنينة واليها أشير بقوله تعالى
ألا بذكر الله تطمئن القلوب
[الرعد:28]
ولذكر الله أكبر
[العنكبوت:45] وهى النور فى قوله
الله نور السماوات والأرض
[النور:35]، وبها يحصل معرفة على (ع) بالنوارنية، وهى ظهور القائم عجل الله فرجه فى العالم الصغير وبها استنارة سماوات روحه واراضى نفسه وطبعه كما قال تعالى:
وأشرقت الأرض بنور ربها
[الزمر:69]، وهى الاسم الاعظم والكلمة التى هى اتم، وهى حقيقة الرحمة والهدى والفتح والنصرة والصراط المستقيم والطريق القويم والسبيل الى الله والفوز والنجاح، وغير ذلك من الاسماء الحسنى التى لا حد لها واشير اليها فى الآيات والاخبار، ولذلك كان تمام اهتمام المشايخ فى تلقين الذكر الخفى القلبى او الجلى اللسانى بتحصيل هذا المقام للسلاك وكانوا يأمرونهم بالفكر الذى هو هذا تعملا حتى تظهر وتنزل تلك السكينة من غير تعمل وروية، ولا مقام لبشرية الانسان نبيا كان او وليا او تابعا لهما اشرف من هذا المقام كما قال فى مقام الامتنان فى هذه السورة: ثم انزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين فى غزوة حنين التى كانت فى الثامن من الهجرة وحين كمال النبوة وتبليغ الرسالة، اذا عرفت هذا فاعلم، ان العامة جعلوا هذه الآية دالة على فضيلة أبى بكر حيث كان اول من هاجر وذكر بمصاحبته للرسول (ص) ولا دلالة فى الآية على فضيلة له ان لم يكن دلالة على ذمه، فان الصحابة البشرية قد كانت للمشركين والكفار والمنافقين المرتدين بل الفضيلة فى الصحابة الملكوتية التى هى ظهور ملكوت الصاحب على ملكوت الصاحب، وفى الآية دلالة على عدمها حيث خاطبه (ص)، بلا تحزن، فان الصحابة الملكوتية مانعة من الحزن باعثة على السكون والوقار، وايضا هى دالة على عدم حصولها له بعد هذا الخطاب حيث افرد الضمير المجرور فهو اما راجع الى النبى (ص) او الى ابى بكر، ورجوعه الى ابى بكر وان كان يتراءى انه مناسب لاضطرابه ورعدته لكنه يسلتزم تفكيك الضمير فى قوله وايده بجنود ويستلزم اما عدم نزول السكينة على النبى (ص) وهو مستلزم لافضلية ابى بكر او عدم الاعتناء بذكر النبى (ص) وهو ايضا كذلك او عدم الحاجة الى ذكره وليس به، لان الحاجة فى مقام اظهار النعمة على الاحباب ماسة الى ذكر مثل هذه النعمة العظيمة التى لا نعمة اعظم منها فى مقام البشرية كما سبق من ذكره (ص) بهذه النعمة بعد الثامن من الهجرة وكمال النبوة، ولو سلم صحة رجوعه الى ابى بكر كانت الآية من المتشابهات التى لا يستدل بها على منقبه تثبت بها الامامة؛ هذا اذا كان عطفا على اخرجه، واما اذا كان عطفا على قد نصره الله من قبيل عطف التفصيل على الاجمال فلا يحتمل عود الضمير الى ابى بكر { وأيده بجنود لم تروها } اى لم تقووا على رؤيتها ان كان المراد بالجنود السكينة ومحافظة الملائكة فى الغار واغماء الكفار عنه بنسج العنكبوت وبيض الحمامة وانبات الشجر على فم الغار او لم تقع رؤية منكم لها ان كان المراد مطلق جنود الملائكة فى غزواته { وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا } الكلمة كما مر مرارا تشمل الكلمات اللفظية والكلمات التكوينية من العقول والارواح وعالم المثال والقوى البشرية والحيوانية والنباتية والاخلاق والاحوال والافعال فى العالم الصغير، وهى ان كانت منتسبة الى الولاية التى هى كلمة الله الحقيقية بلا واسطة او الى من انتسب الى الولاية فهى كلمات الله ، لان كلمة الله الحقيقية هى المشية التى يعبر عنها بالحق المخلوق به، والاضافة الاشراقية والحقيقة المحمدية وعلوية على (ع) وهى الولاية المطلقة، وكلما كان منتسبا اليها كان كلمة الله، وكلما كان كلمة الله كانت عليا بعلو الله وكان العلو ذاتيا لها لا عرضيا محتاجا الى الجعل والتسبيب، ولذا أتى بالجملة الثانية مرفوعة المبتدأ مستأنفة او معطوفة على الجملة الفعلية او حالا عن فاعل جعل او مفعوله، او المستتر فى السفلى مؤكدة باسمية الجملة وضمير الفصل وتعريف المسند الدال على الحصر الذى هو تأكيد لا منصوبة عطفا على مدخول جعل، وان لم تكن منتسبة الى الولاية فان كانت منتسبة الى الشيطان بان كان صاحبها متمكنا فى تبعية الشيطان بحيث لا يكون مدخل ومخرج فى وجوه الا للشيطان، فهى كلمات الشيطان والسفلية ذاتية لها، وان لم تكن كذلك بان لم يكن صاحبها متمكنا فى تبعية الشيطان ولا منتسبا الى الله والولاية، فهى ليست كلمات الله ولا كلمات الشيطان بل هى منتسبة الى ما هو الغالب الظاهر من احوال صاحبه كالاسلام والايمان والمحبة والرضا والسخط والشرك والكفر، وهى بذاتها لا سفلى ولا عليا بل محتاجة الى جعل فى ذلك، ولذلك اتى بالجعل فى الجملة الاولى من غير التأكيد بضمير الفصل { والله عزيز } لن يغلب حتى يتصور السفلية لكلمته { حكيم } لا يتطرق الخلل الى ما كان منتسبا اليه حتى يتصور طر والسفلية لكلمته فالعطف من قبيل عطف السبب.
[9.41]
{ انفروا خفافا وثقالا } شبانا وشيوخا او مجردين عن الخدم والحشم والسلاح ومثقلين بها او ناشطين وغير ناشطين فى العالم الكبير او فى العالم الصغير امرهم بالجهاد بعد التوبيخ بقوله: ما لكم اذا قيل لكم انفروا، وبقوله ارضيتم بالحياة الدنيا، والتهديد بقوله الا تنفروا يعذبكم الله، والترغيب بتذكير نصرته لنبيه (ص) وتأييده له (ص) حتى يكون اوقع فى القلوب وابعد من الانكار { وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون } الامور وعواقبها.
[9.42]
{ لو كان عرضا قريبا } غنيمة قريبة الوصول { وسفرا قاصدا } متوسطا غير بعيد { لاتبعوك } بيان لسبب تخلفهم وتثبطهم وان المانع لهم والباعث على العذر الكاذب هو بعد السفر وكثرة المشقة { ولكن بعدت عليهم الشقة } الشقة بالضم وبالكسر الناحية يقصدها المسافر والسفر البعيدة والمشقة وتعدية بعدت بعلى لتضمينه معنى ثقلت { وسيحلفون بالله } بعد رجوعكم اليهم { لو استطعنا لخرجنا معكم } يعنى ما كان لنا استطاعة للخروج فلم نخرج، اخبر نبيه (ص) انهم سيعتذرون بعدم الاستطاعة كذبا وهو اخبار عن المستقبل { يهلكون أنفسهم } استيناف جوابا لسؤال مقدر اى ما لهم فى هذا العذر والمقصود؛ انهم بعد التخلف ان اعترفوا بتقصيرهم وتابوا أحيوا أنفسهم لبقاء استعداد الحياة لكنهم بالعذر الكاذب أبطلوا استعدادهم للحياة وأهلكوا انفسهم من صورة الحياة بالتخلف، ومن استعدادها بعدم التوبة والعذر الكاذب { والله يعلم إنهم لكاذبون } بالغ فى تأكيد تكذيبهم بان واسمية الجملة واللام مبدوا بعلم الله الذى هو بمنزلة القسم.
[9.43]
{ عفا الله عنك لم أذنت لهم } اى لمطلق المستأذنين فى القعود { حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين } فى الاعتذار وهذا فى الحقيقة عتاب وتوبيخ للمستأذنين بغير عذر على طريقة: اياك اعنى واسمعى يا جارة، وهذا من ألطف طرق مخاطبة ذوى الحظر يعاتبون مقربيهم ويريدون غيرهم تعريضا واسقاطا لذلك الغير عن شأنية المخاطبة والمشافهة وبدء قبل التوبيخ والمعاتبة بالعفو تلطفا به.
[9.44]
{ لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا } عن ان يجاهدوا، او كراهة ان يجاهدوا، او فى ان يجاهدوا فضلا عن ان يسأذنوك فى التخلف عن ان يجاهدوا { بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين } وضع الظاهر موضع المضمر اشعارا بان المؤمنين هم المتقون وهو وعد لهم بان عملهم لا يعزب عنه.
[9.45]
{ إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم } فى تصديقهم بنبوتك { فهم في ريبهم يترددون } يتحيرون ويقفون عن السير الى الله، ولذا قال مولانا ومن به رجاؤنا فى عاجلنا وآجلنا امير المؤمنين (ع): من تردد فى الريب سبقه الاولون وادركه الآخرون ووطئته سنابك الشياطين.
[9.46]
{ ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة } لامكن لهم تهية عدته وما يحتاج اليه، او هيؤا له اسبابه تهية، فعدة اما مفعول به او مفعول مطلق من غير لفظ الفعل وعلى التقديرين يكون تكذيبا لنفيهم الاستطاعة عن انفسهم { ولكن كره الله انبعاثهم } لما توهم من اسناد الافعال السابقة اليهم انهم مستقلون فى افعالهم استدرك ذلك الوهم بسببية كراهته تعالى للخروج وان عدم خروجهم وعدم ارادتهم له مسبب عن كراهته تعالى له لا انهم مستقلون { فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين } لما كان هذا القول من الله حقيقة وكان قائله ومن ظهر على لسانه ظاهرا وباطنا متعددا مختلفا ولم يكن لخصوصية الفاعل مدخلية فى المقصود من ذمهم اسقط الفاعل فان هذا القول قد قاله باطنا ملائكة الله والشياطين، وظاهرا رسول الله (ص) حين اذن لهم فى القعود، واخوانهم من الانس حين خوفوهم عن قتال الروم وبعد السفر وشدة القيظ.
[9.47]
{ لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا } مستأنف جوابا لسؤال مقدر كأنه قيل: ولم كره الله انبعاثهم؟ - فقال: لانهم لو خرجوا ما زادوا على ما انتم عليه الا فسادا بالتجبين والنميمة والهرب من الزحف حتى يتقوى قلوب اعداءكم بهربهم { ولأوضعوا خلالكم } وضع البعير او وضع اسرع فى السير، واوضعه حمله على السرعة فعلى الاول فالمعنى انهم لو خرجوا فيكم أسرعوا خلالكم بالافساد والنميمة والتخويف او أسرعوا بالهرب، وعلى الثانى لو خرجوا فيكم حملوا ركائبهم على السرعة بالافساد والنميمة والتخويف خلالكم او حملوا امثالهم على السرعة فى الفرار { يبغونكم الفتنة } حال من فاعل اوضعوا او مستأنف لتكرار الذم الذى هو مطلوب فى المقام { وفيكم سماعون لهم } عطف على يبغونكم او حال من فاعله او مفعوله والمعنى ان فيكم سماعين لاقوالهم الفاسدة المفسدة او سماعين لاقوالكم لان ينقلوها اليهم { والله عليم بالظالمين } وضع الظاهر موضع ضمير السماعين اشارة الى صفة ذم لهم ووعيدا لهم، او موضع ضمير المتقاعدين اشعارا بذم آخر لهم ووعيدا لهم، واشارة الى ان كراهته تعالى لانبعاثهم ليس جزافا وبلا سبب انما هو بسبب ظلمهم، فيكون استدراكا لوهم متوهم يتوهم ان كراهته تعالى انبعاثهم يكون نحو اجبار لهم على القعود، كما ان قوله لكن كره الله انبعاثهم كان استداركا لما يتوهم من استقلالهم فى افعالهم فليسوا مستقلين فى الفعال ولا مجبورين فيها.
[9.48]
{ لقد ابتغوا الفتنة من قبل } قبل تلك الغزوة فى غزوة احد وغيرها من الغزوات من تجبين اصحابك وتدبير الفرار وتسليمك الى اعدائك { وقلبوا لك الأمور } امور الغزو بان دبروا خلاف ما امرت ودبرت { حتى جآء الحق } فى كل ما دبروا وهو تأييدك ونصرتك على وفق ما أمرت ودبرت { وظهر أمر الله } اعلم، ان الحق المضاف هو المشية التى هى الحق المخلوق به وكل حق حق بالاتصال به وكل باطل باطل بالانصراف عنه، وان امر الله هو عالم المجردات الذى ليس فيه الا امر الله لضعف الاثنينية بحيث لايتصور هناك امر وآمر ومأمور وايتمار، وكل من كان من افراد البشر متصلا بهذا العالم متحدا به فهو ايضا امر الله وكل ما صدر منه من هذه الحيثية فهو ايضا امر الله، ولما كان خليفة الله نبيا كان ام وليا ذا وجهين، وجه الى الله وبه يأخذ من الله، ووجه الى الخلق وبه يوصل ما يأخذ من الله الى الخلق؛ ويعبر عن وجهه الى الله بالحق والوحدة والولاية، وعن وجهه الى الخلق بالامر والكثرة والخلق والنبوة والرسالة، والولاية بمعنى تدبير الخلق من جهة الباطن والخلافة بمعنى تدبيرهم من جهة الظاهر فالولاية بالمعنى الاول روح الولاية بالمعنى الثانى، وكذا روح النبوة والرسالة والخلافة فالفرق بين الحق والامر كالفرق بين المطلق والمقيد والروح والجسد والولاية والنبوة، فالحق هو الولاية فى العالم الكبير ومظهرها الاتم على (ع) والامر النبوة ومظهرها الاتم محمد (ص) والنبوة عالم يغلب عليها الولاية والاتصال بالوحدة لم يظهر غلبتها فى العالم الكبير، فمجيء الحق يعنى غلبة الولاية على النبوة سبب لغلبة النبوة على الكثرات ولذا قدم مجيء الحق، كما ان اعانة على (ع) ومجيئه فى الغزوات كان سببا لغلبة محمد (ص)، فالمعنى حتى جاء الولاية وغلب الوحدة وظهر النبوة وغلبت { وهم } اى المقلبون { كارهون } توهين لهم وتسلية للرسول (ص) والمؤمنين على تخلفهم.
[9.49]
{ ومنهم من يقول ائذن لي } حكاية لقول بعضهم توهينا وذما له { ولا تفتني } لا توقعنى فى الفساد والافتتان بنساء الروم كما روى انه (ص) رغب بعضا فى الجهاد فى غزوة تبوك فقال: يا رسول الله والله ان قومى يعلمون انه ليس فيهم اشد عجبا بالنساء منى واخاف ان خرجت معك ان لا اصبر اذا رأيت بنات الروم فلا تفتنى، او فلا تفتنى بضياع المال والعيال، او فلا تفتنى بالامر بالخروج وتخلفى عنك ومخالفتى لامرك، او فلا تفتنى بضياع البدن بالحركة فى الحر { ألا في الفتنة سقطوا } يعنى ان رغبتهم عن الخروج وعن امتثال أمرك ومصاحبتك هى فتنة عظيمة لنفوسهم تهلكهم عن الحياة الانسانية الابدية وقد وقعوا فيها ولا يمكنهم الخروج عنها، ولذلك اتى باداة الاستفتاح وقدم المجرور واستعمل السقوط { وإن جهنم لمحيطة بالكافرين } حال عن فاعل سقطوا او عطف على جملة فى الفتنة سقطوا، ولما كان هذا الحكم من شأنه ان ينكر فى بادى النظر اتى بالمؤكدات الثلاثة ووضع المظهر موضع المضمر اشارة الى علة الحكمين وابداء لذم آخر لهم، اعلم، ان عالم الطبع واقع بين العالمين الملكوت العليا والملكوت السفلى، والانسان الذى هو خلاصة عالم الطبع ايضا واقع بين هاتين الملكوتين ولهما التصرف فى هذا العالم وفى بنى آدم، لكن تصرف الملكوت العليا فى الخيرات والوجودات والجذب الى عالم الخيرات ومعدن النور، وتصرف الملكوت السفلى فى الشرور والاعدام والجذب الى عالم الظلمة ومعدن الشرور، والملكوت العليا عالم نورانى لا ظلمة فيها والملكوت السفلى عالم ظلمانى لا نور فيها؛ والحاكم فى الاولى هو الله وفى الثانية هو الشيطان ومن هنا وهم الثنوية حيث انسلخ مرتاضوهم عن الطبع واغشيته واتصلوا بالمجردات فشاهدوا العالمين، فقال من لم يشاهد حكومة الملكوت العليا على السفلى: انهما قديمان حاكمان على العالم، وقال من شاهد ايجاد العليا للسفلى: ان السفلى حادثة لكن لها التصرف والحكومة بالاستقلال على العالم، وقال من شاهد ان فى كل من العالمين حاكما وله الحكومة على عالمه وعلى عالم الطبع، ان للعالم آلهين: يزدان واهريمن، وقال بعض: ان كلا قديم، وقال بعض: ان اهريمن مخلوق حادث والملكوت السفلى دار الشياطين وسجن اهل الشقاء وفيها النار والجحيم وكل ما ورد فى الشريعة من عذاب الاشقياء والكافرين ومن الحيات والعقارب والزقوم والحميم، والانسان الواقع بين العالمين اذا توجه الى تلك الملكوت باتباع الشياطين واختيار النفس وشهواتها، ما لم يتمكن فى هذا الاتباع كان على شفير جهنم وشفا جرف هذا الوادى، واذا تمكن فى هذا الاتباع بحيث لم يبق له حالة رادعة صار داخلا فى هذا العالم وواقعا فى مقام يحيط به لهب جهنم وكان جهنم محيطة به باعتبار جمراتها ولهباتها كما قال تعالى: وان جهنم لمحيطة بالكافرين.
[9.50]
{ إن تصبك حسنة } غنيمة وغلبة فى تلك الغزوة { تسؤهم } استيناف فى موضع التعليل يعنى انهم احاط بهم الحسد الذى هو من آثار السجين واشتعال نار الجحيم واحاطته دليل احاطة جهنم بهم { وإن تصبك مصيبة } قتل او جرح او انهزام { يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل } اى الامر الذى هو لائق بنا وبجودة رأينا من التخلف عما فيه الهلاك والاغترار بما لا حقيقة له من نصرة الله وملائكته { ويتولوا } عنك وعن المؤمنين { وهم فرحون } بما أصابك لاقتضاء الحسد ذلك.
[9.51]
{ قل } لقومك تسلية لهم حين المصيبة عن المصيبة وعن شماتة القاعدين او قل للمتخلفين ردا لهم فى فرحهم باصابة المصيبة وفى قولهم قد اخذنا أمرنا { لن يصيبنآ إلا ما كتب الله لنا } وما كتب الا ما فيه صلاحنا { هو مولانا } استيناف فى موضع التعليل { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } عطف على قل فهو من كلام الحق او على ما بعده فهو مقول القول، والفاء اما على تقدير اما او توهمه، او زائدة، او عاطفة على محذوف حذف واقيم معمول ما بعده مقامه اصلاحا للفظ ومثله فى تقديم معمول ما بعد الفاء عليها لاصلاح اللفظ قولك واما على الله فليتوكلوا او الاصل ليتذكر المؤمنون فليتوكلوا على الله وبعد حذف المعطوف عليه واقامة معمول ما بعد الفاء مقامه اظهر فاعل المعطوف لعدم تقدم ذكر المرجع.
[9.52]
{ قل } تسلية لقومك وردعا للمتخلفين الفرحين { هل تربصون بنآ إلا إحدى الحسنيين } الظفر والغنيمة او القتل والجنة { ونحن نتربص بكم } احدى السوئتين { أن يصيبكم الله بعذاب من عنده } بالقتل والبلايا الشديدة من دون واسطة بشر { أو بأيدينا } بالقتل والاسر والتعذيب بأيدينا { فتربصوا إنا معكم متربصون } فى الخبر فى تفسير الا احدى الحسينين اما موت فى طاعة الله او ادراك ظهور امام.
[9.53]
{ قل أنفقوا طوعا أو كرها } تزييف لاعمالهم القالبية كما ان سابقه تزييف لخواطرهم القلبية الناشئة عن رذائلهم النفسية والمقصود التهكم بهم والتسوية من الانفاق بالطوع والانفاق بالاكراه وليس الامر على حقيقته { لن يتقبل منكم } استيناف فى موضع التعليل { إنكم كنتم قوما فاسقين } تعليل لعدم القبول.
[9.54-55]
{ وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله } عطف باعتبار المقصود، فان المقصود من امره (ص) اظهار عدم قبول نفقاتهم فكأنه تعالى قال لا يقبل منهم نفقاتهم التى انفقوها طوعا او كرها وما منعهم ان تقبل نفقاتهم (الى الآخر) يعنى ان كفرهم بالله منعهم من قبول نفقاتهم فان الاعمال كلها قبولها بالايمان بالله { ولا يأتون الصلاة } القالبية اظهارا لاحكام الاسلام { إلا وهم كسالى } لعدم نشاطهم بالاعمال الاخروية لكفرهم { ولا ينفقون إلا وهم كارهون فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم } الخطاب للنبى (ص) والمعنى على، اياك اعنى واسمعى يا جارة، او الخطاب عام لكل من يتأتى منه الخطاب { إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا } فى موضع تعليل للنهى { وتزهق أنفسهم وهم كافرون } الزهوق والخروج بصعوبة، اعلم، ان النفوس البشرية لما كانت سفلية ترى الخير فى الجهات الدنيوية وان لا خير سواها وهى محصورة فيما اقتضته قوتاها الشهوية والغضبية، وما اقتضته الشهوية اما محبوب لها من غير شعور منها بغاية له او محبوب لها لغيره، والاول كالاولاد فان النفوس مفطورة على محبتهم غير شاعرة بغاية لتلك المحبة، والثانى كالاموال فانها محبوبة لغايات عديدة هى محبوبة لها بذاتها، كالمأكول والمشروب والملبوس والمسكون والمنكوحة والمركوب والحشمة والخدم والجاه والعرض وجذب القلوب والصيت والثناء وغير ذلك، وقد يصير كثرة المال محبوبة لذاتها اذا غلب الحرص وأعمى صاحبه حتى انه يقتر فى ما اقتضته الشهوية حفظا للمال وحبا له، كما انه قد يصير الاولاد محبوبة لغيرها، وما اقتضته الغضبية هو التبسط فى البلاد والتسلط على العباد وارادة الانتقام وسهولته وانقياد الخلق وطاعتهم وسياسة من خرج منهم من الطاعة ويتولد من هذه المذكورات جملة الرذائل ويختفى بسببها جملة الخصائل ويتوسل اليها كلها بكثرة المال والاعوان واقوى الاعوان الاولاد، واما الشيطنة فانها فى مقتضياتها خادمة للشهوية والغضبية بوجه فمن رأته صاحب كثرة الاموال والاولاد حسبته صاحب خيرات كثيرة واعجبتها كثرة امواله واولاده وتمنت ان تكون لها هذه، ولم تدرأنها شاغلة له عن العلو والتوجه الى الله متعبة له فى جمعها وحفظها مولمة له بخوف تلفها وحين تلفها؛ ولذلك اقتصر على ذكر الاولاد والاموال ونهى نبيه (ص) تعريضا بامته عن الاعجاب بها كصاحب النفوس السفلية معللا بعذاب الدنيا والخروج الى الآخرة مع الكفر الموجب لعذاب الآخرة.
[9.56]
{ ويحلفون بالله } عطف بلحاظ المعنى فان المقصود من السابق انهم خارجون عن المسلمين غير متصفين بصفاتهم وكأنه قال حين قال: وما منعهم ان تقبل منهم نفقاتهم لم يكونوا على صفة المسلمين مقبولى النفقات ويحلفون بالله { إنهم لمنكم وما هم منكم } تكذيب لهم فى حلفهم { ولكنهم قوم يفرقون } يخافونكم على اموالهم وانفسهم.
[9.57]
{ لو يجدون ملجئا } حصنا يتحصنون فيه او سلطانا يتقوون به وهو جواب سؤال اقتضاه تكذيبهم { أو مغارات } فى الجبال { أو مدخلا } اسرابا فى الارض { لولوا إليه } وأعرضوا عنكم وما انتحلوا صورة الاسلام { وهم يجمحون } يسرعون اليه.
[9.58]
{ ومنهم من يلمزك } يعيبك { في الصدقات } فى قسمتها وجمعها وحفظها للايصال الى مستحقها { فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون } لاتباعهم لك فى الاغراض الفاسدة والاعراض الكاسدة لا لامر الدين والآخرة، وقد ذكر شأن نزولها فى الاخبار وانها نزلت حين لمز الاغنياء رسول الله (ص) فى تقسيم الصدقات على الفقراء، وورد ان اهل هذه الآية اكثر من ثلثى الناس، والتحقيق ان كل من غلب حبه للدنيا على حبه للآخرة فهو من اهل هذه الآية واغلب الناس ليس لهم حب للآخرة وأغلب من كان له حب الآخرة حبه للدنيا غالب على حبه للآخرة.
[9.59]
{ ولو أنهم رضوا مآ آتاهم الله } من الغنى والفقر والاولاد والعقم والعزة والذلة والصحة والسقم والامن والخوف وغير ذلك مما ليس بيد العبد، او المراد ما آتاهم الله من الصدقات والغنائم على يد رسوله (ص) فان الكلام فيها فيكون ذكر الله اشارة الى ان اعطاء محمد (ص) اعطاء الله وانه لا يفعل من عند نفسه وهو تعظيم لشأنه (ص) { ورسوله } من الغنائم والصدقات فان الرضا بقضاء الله اذا قضى ما لا يلائم يهون امره واذا قضى ما يلائم يورث الشكر ويجلب المزيد، والرضا بما أعطاه الرسول (ص) قليلا كان او كثيرا يورث المحبة له والتوجه اليه والاتباع له وفى الكل خير الدنيا والآخرة وعدم الرضا يورث اضدادها { وقالوا حسبنا الله } منقطعين من الكل اليه متوكلين عليه راجين من فضله { سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنآ إلى الله راغبون } فى موضع التعليل.
[9.60]
{ إنما الصدقات للفقرآء والمساكين } المسكين كما مضى اسوء حالا من الفقير وهما اذا اجتمعا افترقا واذا افترقا اجتمعا، والفقر من لايقدر بالفعل او بالقوة على قوت سنته { والعاملين عليها } اجرة لعملهم { والمؤلفة قلوبهم } فانهم معدون لحفظ ثغور المسلمين او مستمالون لاستماع آيات القرآن واحكام المسلمين حتى يعرفوا ان محمدا (ص) رسول الله { وفي الرقاب } العبيد تحت الشدة او المكاتب العاجز عن اداء مال الكتابة او ما يلزم المسلمين من الكفارات ولم يقدروا على ادائها { والغارمين } الذين لم يستدينوا فى ما لم يأذن به الله { وفي سبيل الله } الجهاد او هو والحج او كل سبيل خير { وابن السبيل } المسافر فى سفر مباح لا يقدر بالفعل ولا بالقوة ولو بالاستدانة على مؤنة سفره الى وطنه { فريضة من الله } فرض الله فريضة { والله عليم } بموارد الصدقات { حكيم } فى تسنينها وتخصيص مواردها.
[9.61]
{ ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن } يقبل كل ما يسمع من اى قائل اتفق { قل } هو { أذن خير لكم } يسمع كل ما فيه صلاحكم وان لم تعلموا ان فيه صلاحكم { يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين } اما مقول قوله (ص) او مستأنف من الله والمقصود بيان حاله او تعليل كونه اذن خير، اعلم، ان للسالك الى الله ايمانا بالله فى مقام الوحدة والتوجه اليه عن الكثرة وفى هذا الايمان لا توجه له الى الكثرة لا بخير ولا بشر، وايمانا فى مقام الكثرة والتوجه اليها بالله وفى هذا المقام له نحو تصرف فى الكثرة اما بخير اذا كان المتوجه اليه ممن يقبل التصرف بالخير كجملة اجزاء العالم سوى الاشقياء من بنى آدم، واما بشر اذا كان المتوجه اليه ممن يصير الخير فى وجوده شرا، لان الشر ليس من المتصرف فى الكثرة بالذات بل تصرفه يصير بواسطة القابل شرا، فقوله يؤمن بالله اشارة الى الايمان الاول وقوله يؤمن للمؤمنين اشارة الى الايمان الثانى، والمعنى يؤمن بالله فى مقام الكثرة يعنى يصدق الكل فان كلا فى مقامه مسخر لله ومظهر له وما يظهر منه فى الحقيقة ظهور فعل الله لكنه بحسب المظاهر يصير فى بعض شرا وفى بعض خيرا ولا ينتفع بهذا الايمان من محمد (ص) الا المؤمنون، لانه كان بحسب هذا الايمان نافعا للكل لكن يصير ذلك النفع فى بعض القوابل ضرا وشرا، وبما ذكر يظهر صحة الاخبار ووجه الجمع بينها والى ما ذكر اشار بقوله { ورحمة } عطفا على اذن خير وما بينهما اعتراض { للذين آمنوا منكم } بالايمان العام او الخاص وكان ارادة الايمان الخاص انسب بالمقام، لانه اشير الى مطلق الانتفاع الذى هو عام لجملة المسلمين الذين بايعوه بالبيعة العامة بقوله اذن خير لكم وبقوله يؤمن للمؤمنين، ولان الخطاب كان لعامة المسلمين والمؤمن منهم لا يكون الا مؤمنا خاصا، ولان خصوص الرحمة الرحيمية بقرينة ذكرها بعد الانتفاع المطلق الذى هو مطلق الرحمة الرحيمية مختص بالمبتاعين بالبيعة الخاصة الولوية التى هى الايمان حقيقة وكان الانسب بالمقابلة ان يقول تعالى وسخط للذين لم يؤمنوا واوذوا رسول الله (ص) لكنه عدل الى قوله { والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم } جملة معطوفة على الجملة السابقة تبرئة له (ص) من نسبة السوء والعذاب اليه لما عرفت ان ليس منه الا الرحمة والنفع لكنها بحسب القابل تصير ضرا وشرا.
[9.62-65]
{ يحلفون بالله لكم } اى المؤذون يعنى اذا قال المؤمنون للمنافقين المؤذين لم تؤذون رسول الله (ص) وتلمزونه وتنمون عليه يحلفون بالله لهم وهو استيناف لبيان حالهم، وانهم بعد ايذائهم يعتذرون بالمعاذير الكاذبة ويحلفون على كذبهم ومقصودهم ارضاؤكم لا ارضاء الله ورسوله، فهم ينافقون بعد الايذاء حيث يظهرون ما فى قلوبهم مطوية على خلافه ويكذبون ويحلفون على الكذب وينصرفون عن الله ورسوله (ص) فهم فى هذا الاعتذار واقعون فى رذائل اربع كل منها بوحدتها مهلكة { ليرضوكم } لعدم ايمانهم بالله ورسوله (ص) بل لمحض المماشاة معكم { والله ورسوله أحق أن يرضوه } توحيد الضمير باعتبار بان رضى الله لا يظهر ولا يتيسر الوصول اليه الا برضى الرسول { إن كانوا مؤمنين } يعنى ان الايمان يقتضى ارضاء الله ورسوله (ص) وان كان بسخط جميع الخلق { ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله } من يخاصم الله ورسوله (ص) { فأن له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون } نزلت فى المنافقين المتخلفين عن غزوة تبوك حين تحدثوا ان محمدا (ص) يزعم ان حرب الروم كحرب غيرهم لا يرجع منهم احد وقال بعضهم استهزاء: نحذر ان يخبر الله بذلك، وورد انها نزلت فى اصحاب العقبة كمنواله فى العقبة ليقتلوه وقالوا: ان فطن بنا قلنا انما كنا نخوض ونلعب وان لم يتفطن قتلناه وقصته مذكورة فى المفصلات.
[9.66]
{ لا تعتذروا } بالاعذار الكاذبة استيناف من الله ردعا لهم { قد كفرتم } صرتم كافرين { بعد إيمانكم } بالتوبة على يد محمد (ص) والبيعة معه بالبيعة العامة { إن نعف عن طآئفة منكم } بعد توبتها { نعذب طآئفة بأنهم كانوا مجرمين } لعدم توبتهم او لانجرار كفرهم الملى الى الكفر الفطرى الذى لا يقبل التوبة معه وعلى قراءة يعف ويعذب بالغيبة يحتمل ان يكون من جملة قول الرسول (ص).
[9.67]
{ المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض } ليسوا منكم كما ادعوا والجملة خبر عن المنافقون او حال عن المنافقون والمنافقات او معترضة { يأمرون بالمنكر } قالا وحالا وجودا فى عالمهم الصغير والعالم الكبير لانهم متصورون بصور المنكرات وكل يعمل على شاكلته فكل امرء متصور بصورة المنكر يأمر على وفق صورته بالمنكر ولم يكن له شأن سوى الامر بالمنكر لكون شاكلته المنكر وان كان صورة امره امرا بالمعروف ولذلك أتى بالمضارع الدال على الاستمرار التجددى { وينهون عن المعروف } لانهم ينأون عنه والنائى عن الشيء الغير المتصور به ينهى عنه لا محالة { ويقبضون أيديهم } الظاهرة عن الانفاق ابتغاء رضى الله حرصا بالمال غير معتقد بالاجر والعوض من الله وعن البيعة مع النبى (ص) والولى (ع) وايديهم الباطنة عن التوسل بذيل النبوة والولاية، وعن التبتل الى الله والتضرع عنده، وعن الامتداد الى الخيرات الكثيرة الروحانية، وعن انفاق اموالهم الباطنة التى هى القوى البدنية والاخلاق النفسية الرذيلة التى فى انفاقها الوعد بالمائة الى سبعمائة والله يضاعف لمن يشاء { نسوا الله } جواب لسؤال ناش عن ذكر اوصافهم الذميمة التى تقتضى السؤال عن علتها او عن وصف آخر ذميم لهم فهو فى مضوع التعليل او بيان حال آخر ذميم لهم والنسيان هو الغفلة عن المعلوم بحيث يزول عن خزانته ويحتاج الى مشاهدة جديدة ان كان من المشاهدات، او كسب جديد ان كان من الكسبيات بخلاف السهو، فانه الغفلة عنه بحيث لا يزول عن الخزانة ولا يحتاج الى سبب جديد بل يستحضر بأدنى تأمل فالفرق بينهما بالشدة والضعف، ولما كان معرفة الله فطرية لكل احد بل لكل موجود والانسان بمجاهداته ورياضاته او بافكاره وانظاره يستكشف ذلك المعلوم الفطرى وبتدنساته ومعاصيه يستر ذلك المعلوم الفطرى استعمل النسيان ومن باب المشاكلة قال تعالى { فنسيهم } مجازا اى تركهم وأسقطهم عن نظره وافاضة رحمته { إن المنافقين هم الفاسقون } تعليل او بيان ذم آخر ووضع المظهر موضع المضمر للتكرار المطلوب فى مقام السخط ولذا غلظ عليهم بالتأكيدات الاربعة؛ ان واسمية الجملة وضمير الفصل وتعريف المسند، وللتفظيع وللاشارة الى علة الحكم واسقط المنافقات تغليبا ولعدم المبالاة بهن.
[9.68]
{ وعد الله المنافقين والمنافقات } وضع الظاهر موضع المضمر لما مر والتصريح بالمنافقات لدفع توهم عدم كونهن محكوما عليهن بما ذكر ولمطلوبية التطويل فى مقام التغليظ ولذلك بسط فى الاخبار عن حالهم { والكفار } عطف للعام على الخاص ان جعل الكفر اعم من النفاق والا عطف للمغاير على المغاير { نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم } عذابا وايلاما { ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم } تالله لقد شدد عليهم بذكر اوصاف سبعة؛ وعد النار واضافتها الى جهنم والخلود فيها وكفايتها لهم يعنى لا يتصور فوقها عقوبة ولعنهم واختصاصهم بالعذاب واتصاف العذاب بالدوام.
[9.69]
{ كالذين من قبلكم } حال من واحدة من الجمل السابقة او متعلق بواحد من الافعال السابقة او مستأنف خبر مبتدء محذوف اى انتم مثل الذين من قبلكم فى نفاقهم واستمتاعهم وحبط اعمالهم وخسرانهم فهو التفات من الغيبة الى الخطاب وتفظيع آخر لهم بتشبيههم بمن هو مثل عندهم فى الفظاعة، والتعنت تنشيطا للسامعين الى الاستماع { كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا } استيناف او حال من الموصول او من المستتر فى الظرف والمقصود بيان قوة اسباب الخوض فى الشهوات فيهم ليكون غاية تفظيع لهم فان الخوض فى الشهوات من الفقير اقبح فاذا كانوا مع ضعفهم فى اسباب الخوض فى الشهوات مثل السابقين الذين كانوا اقوى منهم فى اسباب الخوض فى الشهوات كانوا اقبح منهم { فاستمتعوا بخلاقهم } نصيبهم من الشهوات { فاستمتعتم بخلاقكم } مثلهم مع انكم كنتم أضعف منهم وأقل مالا واولادا، ولما لم يعلم من السابق ان اللاحقين استمتعوا مثل السابقين صريحا وكان التطويل مناسبا قال { كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم } فى الشهوات والملاهى { كالذي خاضوا } كالخوض الذى خاضوا او كالذين خاضوا بجعل الذى بمعنى الذين لارادة الجنس منه { أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة } اشارة الى السابقين وتعريض باللاحقين بانهم اولى منهم بحبط الاعمال لضعفهم فى اسباب الشهوات وخوضهم مع ذلك فيها مثلهم، او اشارة الى السابقين واللاحقين بصرف الخطاب الى محمد (ص)، او اشارة الى اللاحقين لان الكلام فيهم والاتيان باسم الاشارة البعيدة لتأكيد الحكم وتصويرهم باوصافهم الفظيعة وتبعيدهم عن مرتبة التخاطب كما ان تكراره فى قوله { وأولئك هم الخاسرون } والاتيان بضمير الفصل وتعريف المسند كان لذلك وللحصر.
[9.70]
{ ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم } استفهام انكارى لتقريعهم على اشتغالهم بالملاهى مع وصول خبر السابقين اليهم { قوم نوح } أغرقوا بالطوفان { وعاد } قوم هود (ع) اقتصر على اسمهم اختصارا اهلكوا بالريح { وثمود } قوم صالح (ع) { وقوم إبراهيم } ولما لم يكن لهم اسم خاص قال قوم ابراهيم (ع) اهلكوا بالبعوضة { وأصحاب مدين } قوم شعيب (ع) اهلكوا بالنار { والمؤتفكات } اهل المؤتفكات وهم قوم لوط سميت قراهم بالمؤتفكات اى المنقلبات لانقلابها بهم بجعل عاليها سافلها كذا فى الخبر عن الصادق (ع) { أتتهم } اى المذكورين كلهم { رسلهم بالبينات } بالاحكام الواضحات من احكام الرسالة او بالمعجزات { فما كان الله ليظلمهم } بالاهلاك بما ذكر لاتمامه الحجة عليهم بالرسل والبينات وتخلل كان مع لام الجحود للمبالغة فى نفى الظلم عنه تعالى وقد مضى انه لنفى المبالغة فى الظلم وهو اعم من المبالغة فى نفى الظلم لكنه فى العرف يستعمل فى المبالغة فى نفى الظلم { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } لانهم بانصرافهم بعد وضوح الحجة وتكذيبهم عرضوها للعقاب الدائم وتقديم المفعول للحصر لتوهم انهم بتكذيبهم ظلموا الانبياء (ع) وتخلل كان للاشارة الى استمرار الظلم بحيث كأنه صار طبيعة لهم.
[9.71]
{ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أوليآء بعض } هذا فى مقابله قوله: المنافقون والمنافقات (الآية) وغير الاسلوب تنشيطا للسامع واشارة الى ان لا ولاية حقيقة بين الكفار والمنافقين وما يتراءى بحسب الصورة انه ولاية فهو عداوة حقيقة الاخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو، والى ان المنافقين من حيث نفاقهم ينشأ بعضهم من بعض، بخلاف المؤمنين فانهم من حيث ايمانهم ينشأون كلهم من صاحب الايمان وهو النبى (ص) او الولى (ع) وان كان ازدياد ايمانهم ناشئا لبعضهم من بعض { يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } فى مقابل يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف { ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة } فى مقابل يقبضون ايديهم، ولما كان اليد اعم من اليد الصورية والمعنوية وقبضها اعم من القبض عن الاعطاء والقبض عن الابتهال وجذب الخيرات الاخروية والتفضلات الآلهية ويعبر عن ضد الاول بالاعطاء، وايتاء الزكاة اعم من الاعطاء من الاموال والابدان والقوى الشهوية والغضبية والمحركة وعن ضد الاخير بالصلاة بمراتبها، اتى فى مقابلة قبض اليد بالصلاة والزكاة جميعا افادة لبسط اليد مع تفصيله لاظهار مدائح المؤمنين { ويطيعون الله ورسوله } فى مقابل نسوا الله وضد نسيان الله تذكر الله ولازمة المقصود منه اطاعته فى اوامره ونواهيه واطاعته فى اوامره ونواهيه لا تتصور الا باطاعة رسوله (ص) فظهر وجه العدول عن يذكرون الله والاختلاف بالمضى والمضارعة للاشارة الى ان النسيان منهم قد وقع من غير تجدد، فان تجدده يستلزم التذكر بخلاف الطاعة من المؤمنين فانها مستمرة التجدد منهم { أولئك سيرحمهم الله } فى مقابل: ان المنافقين هم الفاسقون، وظاهر المقابلة يقتضى ان يقول: ان المؤمنين هم العادلون، او هم المرحومون، او يقول هناك: اولئك سيعذبهم لكن لما كان السورة والآية لتوعيد اهل الوعيد ووعد المؤمنين وكل ما ذكر فيها كان لتقريع اهل الوعيد ولزيادة حسرتهم والمناسب لمقام الغضب والوعيد التسجيل بالوعيد والتغليظ بالتأكيد والتطويل، وكان النفاق اصل جملة الشرور والفسوق ومورث جملة العقوبات وكان نسبة الغضب الى الله بالعرض ونسبة الرحمة اليه بالذات، وكان المناسب لمقام الوعد التسامح فيه والاتيان بعسى ولعل واداة التسويف، والايمان وان كان اساس جملة الخيرات لكن قد ينفك الخيرات عنه كما قال
أو كسبت في إيمانها خيرا
[الأنعام:158] اتى فى الاول بجملة اسمية مؤكدة بالمؤكدات الاربعة مفيدة للتسجيل غير مصرحة بنسبة الغضب اليه، وفى الثانى بجملة مصدرة باسم الاشارة البعيدة تفخيما واحضارا للاوصاف المذكورة للمؤمنين مختتمة بالجملة الفعلية المصدرة باداة التسويف المصرحة بنسبة الرحمة اليه تعالى { إن الله عزيز } لا يعجز عن انجاز وعده ووعيده ولا يمنعه منه مانع { حكيم } لا يعد الا على وفق حكمته التى تقتضى الاعطاء والمنع بحسب القابليات.
[9.72]
{ وعد الله المؤمنين والمؤمنات } فى مقابل وعد الله المنافقين (الى آخرها) { جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن } اى جنات الاقامة وهى منتهى مراتب الجنان التى لا يتجاوز عنها بخلاف سائر مراتبها، فانها يتجاوز عنها وهى مقام آل محمد (ص) واتباعهم { ورضوان من الله أكبر } لما كان وعد الخير منبئا عن الرضا فكأنه قال: فلهم رضوان من الله ورضوان من الله اكبر من كل ذلك، او المقصود ان هذا النوع من الموعود اكبر من غير التفات الى التفضيل { ذلك } الرضوان { هو الفوز العظيم } اعلم، ان اعلى مقامات السالكين الى الله هو مقام الرضا كما سبق ولذا لم يذكره تعالى فى الاغلب الا وعقبه بما يدل على تفخيمه.
[9.73]
{ يأيها النبي جاهد الكفار } بالجهاد الصورى والقتال بنفسك { والمنافقين } بمظاهرك واوصيائك فانه لم يقاتل المنافقين ومن هنا علم وجه تأخير المنافقين هنا مع ان المقام للتغليظ على المنافقين وذكر الكفار لمحض بيان مساواة المنافقين لهم لذم آخر للمنافقين، ولذا اخر الكفار فى الآية السابقة او جاهد الكفار والمنافقين فى العالم الكبير والصغير بنفسك او باوصيائك او باتباعك المؤمنين، فان المؤمنين ايضا مأمورون بالجهاد مع كفار وجودهم ومنافقيه بالقتال الصورى والمعنوى وبالمحاجة والمجادلة الحسنة وبالمداراة وحسن العشرة وبادخالهم تحت سلطنتك واخذ الجزية والزام الفرائض والحدود على منافقى امتك، فما ورد فى الاخبار فى تفسير الآية مع اختلافها غير مختلف معنى { واغلظ عليهم ومأواهم جهنم } اما جملة دعائية او ذمية فلا اشكال فى عطفها على الانشاء ولا فى عطف ما بعدها عليها ايضا، او جملة خبرية وحينئذ فالعطف اما بتوهم جملة معطوف عليها او بتقديرها باعتبار المعنى، فان الامر بالقتال والغلظة مشعر بانهم لا خير فيهم فكأنه قال انهم لا خير فيهم ومأويهم جهنم والتعاطف بين غير المتناسبين بحسب اللفظ والمفهوم المطابقى بلحاظ المقصود، والمعنى الالتزامى كثير شائع فى كلامهم، ومن جوز عطف الانشاء على الخبر وبالعكس نظر الى ظاهر ما ورد فى الكتاب وظاهر ما رأى فى كلامهم مع الغفلة عن اللطائف المندرجة فى العطف والقطع الملحوظة للفصحاء فى كلامهم { وبئس المصير } ان كان الاولى ذمية او دعائية فلا اشكال فى العطف وان كانت خبرية فالعطف بلحاظ ذم مستفاد منها.
[9.74]
{ يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر } قابل حلفهم بالحلف المستفاد من اللام { وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا } نزلت فى الذين تحالفوا وتعاهدوا فى مكة بعد ان علموا ان محمدا (ص) يريد ان يجعل الخلافة لعلى (ع) على ان لا يردوا هذا الامر فى بنى هاشم او فى الذين قالوا بغدير خم: الا ترون عينيه كأنهما عينا مجنون، او فى الذين تحالفوا على قتله فى العقبة بعد رجوعهم من تبوك والكل مروى { وما نقموا } اى ما كافئوا بالعقوبة او ما كرهوا او ما انكروا { إلا أن أغناهم الله } مستثنى مفرغ عن مفعول به عام او علة عامة اى ما نقموا منهم لشيء الا لاغناء الله لان الانسان ليطغى ان رآه استغنى او ما نقموا منهم شيئا الا اغناءهم الله { ورسوله من فضله } من قبيل قول الشاعر:
ولا عيب فيهم غير ان سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب
{ فإن يتوبوا } عن النفاق ولوازمه { يك خيرا لهم وإن يتولوا } عن التوبة او عن الرسول (ص) { يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير } قد مضى مرارا ان الولى هو النبى (ص) او خليفته او المجاز منه بلا واسطة او بواسطة من جهة تربية القلب وتعليم احكامه والنصير كل واحد منهم من جهة الرسالة وتربية القالب.
[9.75]
{ ومنهم من عاهد الله... } نزولها فى
" ثعلبة بن حاطب من اصحاب رسول الله (ص) كان محتاجا وسأل رسول الله (ص) ان يغنيه الله فقال له: يا ثعلبة قليل تؤدى شكره خير من كثير لا تطيقه فقال: والذي بعثك بالحق لئن رزقنى لاعطين كل ذى حق حقه، فدعا له فاتخذ غنما وكثر غنمه حتى ضاقت بها المدنية فنزل واديا وانقطع عن الجمعة والجماعة وخدمة الرسول (ص)، فبعث رسول الله (ص) المصدق فأبى عن الصدقة وبخل "
، لكنها جارية فى كل من كان مثله وهم اكثر اهل الارض.
[9.76]
{ فلمآ آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا } عن عهدهم { وهم معرضون } عن الله ورسوله (ص).
[9.77]
{ فأعقبهم } البخل والتولى { نفاقا في قلوبهم } لا فى السنتهم وصدورهم فقط، او المراد بالقلوب نفوسهم { إلى يوم يلقونه بمآ أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون } اعلم، ان الصدق والكذب كالحق والباطل كما يجريان فى الاقوال اللسانية والعلوم النفسانية يجريان فى الافعال والاخلاق والاحوال، فكما ان القول اخبار عن الواقع وصدقه باعتبار مطابقة نسبته للواقع وكذبه بعدم مطابقتها له كذلك فعل الانسان الجارى على جوارحه باعتبار نسبته الى صورته ينبئ عن انه صادر عن انسانيته وغايته استكمال انسانيته، فكلما كان هذا الاخبار مطابقا للواقع بمعنى كون الفعل صادرا عن الانسانية وراجعا الى استكمال الانسانية فالفعل صدق والفاعل صادق، وكلما لم يكن هذا الاخبار مطابقا للواقع بمعنى ان الفعل الجارى على صورة الانسان لم يكن صادرا عن الانسانية، بل عن البهيمية او السبعية او الشيطانية كان الفعل كذبا وفاعله كاذبا وهكذا الحال فى الاخلاق والاحوال، ويجرى ايضا هذا الاعتبار فى الاقوال والعلوم فانها ان كانت صادرة عن الانسانية وراجعة الى استكمالها فهى صادقة بهذا الاعتبار، وان لم يكن كذلك فهى كاذبة وان كانت صادقة باعتبارها فى انفسها، والمعتبر عند اهل الله فى الصدق والكذب فى الاقوال والعلوم هو اعتبار المبدء والمرجع دون الواقع فقط، ولذا ورد عنهم (ع): من فسر القرآن برأيه يعنى بحيثية شيطانيته لا بحيثية انسانية واصاب الحق فقد أخطأ، وورد نفى العلم عمن لم يكن عمله متوجها الى حيثية انسانيته وآخرته من غير اعتبار مطابقته وعدم مطابقته كما قال تعالى:
ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون
[البقرة:102]، فقد نفى العلم عنهم مع اثباته لهم مطابقا لما فى نفس الامر حيث كان الواقع كما علموا، لكن لما لم يكن علمهم متوجها الى جهة استكمال الانسانية نفاه عنهم واثبت الجهل لهم بنفى العلم عنهم، اذا تقرر هذا فاعلم، ان الانسان له مراتب ولكل مرتبة منها درجات فهو ما دام فى مرتبة نفسه فاذا كان فى درجة النفس الامارة فكل ما يصدر عنه فهو كذب، واذا ترقى من هذه الدرجة ووقع فى درجة النفس اللوامة فقد يكون ما يصدر عنه صادقا وقد يكون كاذبا، واذا ترقى الى درجة النفس المطمئنة ولا يكون هذا الترقى الا اذا تمكن فى مرتبة القلب فكل ما يصدر عنه يكون صادقا، فالمنافق الواقع فى درجة النفس الامارة لا يكون منه الا الكذب ويصير الكذب سجية له ولذلك اتى بالماضى فى قوله بما اخلفوا الله وبالمضارع الدال على الاستمرار التجددى فى الكذب مع تخلل كان الدال على ان مدخوله صار سجية.
[9.78]
{ ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم } خفايا امورهم من خطراتهم وخيالاتهم واخلاقهم واحوالهم { ونجواهم } ما يظهر على الستنهم بحيث يخفى على غيرهم، او المراد بالسر الاخلاق والاحوال الموجودة ومكمونات النفس التى لم توجد بالفعل بعد وبالنجوى ما ظهر على اللسان بطريق الخفية وما ظهر على النفوس من الخطرات والخيالات شيطانية كانت او رحمانية، والاستفهام للتوبيخ والتقريع { وأن الله علام الغيوب } من ذكر العام بعد الخاص تحقيقا للخاص وتأكيدا له.
[9.79]
{ الذين يلمزون } يعيبون { المطوعين } المعطين للصدقات المستحبة او المعطين للصدقات مطلقا المبالغين المعتنين بها { من المؤمنين في الصدقات } متعلق بيلمزون او بالمطوعين او بهما على سبيل التنازع وهو اما خبر مبتدء محذوف، او مبتدء خبر محذوف، او مبتدء خبره فيسخرون او سخر الله منهم او قوله استغفر لهم او قوله ان تستغفر لهم (الآية) او بدل من قوله من عاهد الله وقوله تعالى لم يعلموا (الى آخر الآية) معترضة { والذين لا يجدون إلا جهدهم } الا قدر تعبهم فى التحصيل والطلب فيتصدقون بما يتعبون انفسهم فى تحصيله، وقد ذكر فى نزوله ان سالم بن عمير الانصارى جاء بصاع من تمر فقال: يا رسول الله (ص) كنت اجرت نفسى ليلتى بصاعين من تمر فجئت بصاع اليك وتركت صاعا لعيالى، وذكر فى نزوله ايضا ان عليا آجر نفسه فأتى باجرته الى النبى (ص) فلمزه المنافقون { فيسخرون منهم سخر الله منهم } استعمال السخرية فى الحق تعالى من باب المشاكلة اللفظية والمشابهة المعنوية وهى اما دعائية فيكون عطف قوله { ولهم عذاب أليم } لكونه ايضا دعائيا او باعتبار الاخبار اللازم لذلك الدعاء كأنه قال لهم سخط الله ولهم عذاب اليم، او خبرية فلا اشكال فى العطف.
[9.80]
{ استغفر لهم أو لا تستغفر لهم } الامر والنهى ههنا للتسوية غير منظور منهما حقيقة الامر والنهى، ولفظة او للتخيير على ما روى
" انه (ص) قال فى جواب من قال: اما نهاك ربك عن الاستغفار للمنافقين؟ - حين صلى على ميت عبد الله بن ابى: ان الله خيرنى "
{ إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم } وهذا عتاب له باياك اعنى واسمعى يا جارة، وعتاب المقربين تعريضا بمن استحق العتاب فى الحقيقة تقريب لهم واهانة بالمستحقين حيث اسقطهم عن درجة الخطاب والعتاب ولذا لم يقل: لم يجب الله لك بل قال لن يغفر الله لهم حيث لم يتوجه العتاب اليه (ص) والاشكال بان استغفاره (ص) مجاب لا محالة لان غيره اذا توسل به الى الله اجابه فكيف اذا استغفر هو لم يجبه ولن يغفر للمستغفر له؛ مدفوع بان المراد المبالغة فى عدم استحقاقهم للمغفرة بحيث لو فرض استغفار الرسول (ص) الذى لا ينفك الاجابة عنه لهم لما غفر لهم، ومثل هذا كثير فى كلامهم حيث يعلقون نفى الجزاء على امر مستلزم لتحقق الجزاء مبالغة فى عدم تحققه، واستعمال السبعين لاستعماله كثيرا فى معنى الكثرة لكونه من مراتب الاعداد التامة كالسبعة والسبعمائة ولذا يأتون بالواو بعد السبعة ويسمونه واو الثمانية او للاشارة الى مراتبه السبعين مبالغة فى عدم استحقاقهم للمغفرة { ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله } تدارك لما يتوهم من عدم قبول مسئلته واستغفاره بان عدم المغفرة لهم ليس لعدم استحقاقك للاجابة بل لعدم استحقاقهم للمغفرة { والله لا يهدي القوم الفاسقين } وضع الظاهر موضع المضمر للاشارة الى ذم آخر وعلة الحكم.
[9.81]
{ فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله } جواب سؤال عن حالهم او عن علة التغليظ عليهم وعدم مغفرتهم، وتدارك آخر لتوهم عدم قبول استغفار الرسول (ص) وخلاف رسول الله (ص) اما ظرف لمقعدهم ان كان بمعنى العقب، او مفعول له لفرح او المخلفون، او مقعدهم، على التنازع او على الانفراد { وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر } يعنى انهم لغاية شقاوتهم جمعوا بين التخلف والفرح به وكراهة الجهاد ومنع غيرهم منه { قل نار جهنم أشد حرا } فان كان الحر يتقى فنار جهنم احق ان تتقى { لو كانوا يفقهون } لما اختاروا حر الآخرة على حر الدنيا، والفقه كما مر هو ادراك الاغراض والغايات خصوصا الغايات الآلهية من الاشياء والاقوال لا ادراك المفاهيم من الالفاظ فقط كما ظن، ولذا فسر بأنه طلب علم ديني يتوسل به الى علم آخر، وبعبارة اخرى الفقه هو الادراك الذى يحرك الانسان من حضيض نفسه الى اوج عقله ومن دنياه الى آخرته وتفسيره بالعلم بالمسائل الدينية الفرعية عن ادلتها التفصيلية محض مواضعة اصطلاحية، واما فى الشريعة فهو باق على معناه وعدم تسمية علم الله والملائكة بالفقه لعدم تصور استعداد له تعالى ولا للملائكة حتى يتصور الترقى، بل كل ما كان هناك بالامكان العام فهو بالفعل، وعدم تسمية علوم الانبياء بالفقه لتبدل استعدادهم بالفعلية لا لما قالوا من ان علومهم ليست من ادلتها التفصيلية والحاصل ان الاشتداد والتدرج فى طريق الانسانية مأخوذ فى مفهوم الفقه فكلما كان الادراك كذلك كان فقها وما لم يكن كذلك لم يكن فقها، فلو فرض نبى يكون له حالة اشتداد في علمه كان علمه من هذه الجهة فقها.
[9.82]
{ فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا } جواب شرط متوهم او مقدر والامر اما على حقيقته والمراد منه الامر بالتوبة سواء كان الضحك والبكاء على حقيقتهما او مجازين عن السرور والغم، وحينئذ فذكر الضحك للاشارة الى ان الانسان لا ينفك عن ضحك ما فليقل التائب منه، او مجاز عن تحتم ما يؤل اليه امرهم فهو أمر فى معنى الاخبار، وذكر الضحك للاشارة الى ما هم عليه فى بقية عمرهم ولذا قدمه وقيده بالقلة { جزآء بما كانوا يكسبون } تدراكا لاعمالهم السيئة على المعنى الاول وعقوبة عليها على المعنى الثانى، وقوله بما كانوا اما متعلق بجزاء او بالامر استقلالا او على سبيل التنازع.
[9.83]
{ فإن رجعك الله } من غزو الروم { إلى طآئفة منهم } من المتخلفين بلا عذر بان ابقاهم الله الى زمان رجوعك { فاستأذنوك للخروج } الى غزو آخر { فقل لن تخرجوا معي أبدا } اخبار فى معنى النهى للاشعار بان سجيتهم مقتضية لعدم الخروج { ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة } يعنى قبل ذلك والمراد القعود عن غزوة تبوك { فاقعدوا } امر للتهكم { مع الخالفين } يعنى النساء والصبيان فانكم صرتم مثلهم يتخلفكم اولا فليس لكم شأنية الجهاد وقابلية المعية مع المجاهدين.
[9.84]
{ ولا تصل على أحد منهم مات أبدا } فان صلوتك سكن لهم وليس لهم استعداد صلوتك والمراد صلوت الاموات او الاعم { ولا تقم على قبره } للدعاء عليه { إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون } نقل انه (ص) عاد عبد الله بن ابى واستغفر له وشيع جنازته وصلى عليه وقام على قبره؛ كل ذلك باستدعاء ابنه الذى كان مؤمنا خالصا فأنكر عمر عليه (ص) وقال: او لم ينهك ربك عن ذلك؟ - وكره ذلك رسول الله (ص) وأجابه بما ظهر منه الكراهة.
[9.85]
{ ولا تعجبك أموالهم } لا { وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون } قد مر تفسيره، وتكريره للتأكيد، لان كثرة الاموال والاولاد فى انظار اهل الحس معجب لا محالة فالنهى عنه مطلوب فيه التأكيد ولان التكرار مطلوب فى مقام التشديد.
[9.86-88]
{ وإذآ أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين } لعذر وهو ذم آخر لهم حيث انهم لدناءتهم وتعلق قلوبهم بدنياهم وزخارفها كالنساء يستأذنونك للقعود ولذا قال { رضوا بأن يكونوا مع الخوالف } جمع الخالفة يعنى انهم لدناءتهم رضوا بان يعدوا فى النساء، واستعمال الخوالف فى النساء والمخلفون فى الرجال لاستعدادهم للخروج وعدم استعدادهن له { وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون } حيث لا يدركون ادراكا يؤدى بهم الى الاغراض والغايات وان كانوا فى غاية الفطانة والمداقة فى امور الدنيا والادراكات الخيالية بحيث يعدون فى انظار اهل الحس علماء حكماء، والا فليعلموا الغرض من الجهاد وان فيه خير الدنيا والآخرة، باستكمال النفس فى الدنيا بالصفات الحسنة من الشجاعة والسخاوة وعدم الاعتناء بالدنيا وحيوتها، وباستجماع الغنائم مع ما وعدوا من اجور الآخرة، وليس فى التخلف الا الاتصاف بصفات النساء والركون الى الدنيا وقطع الطمع عن العقبى ولما ذم الاموال والاولاد توهم انها مذمومة على كل حال، والحال ان كثرة الاموال والاولاد تكون فى المؤمنين ولما ذم القاعدين عن الجهاد توهم انه فى المؤمنين يكون من يكره الخروج ويحب القعود فاستدرك ذلك بقوله { لكن الرسول والذين آمنوا معه } الذين هم اولوا الطول الحقيقى { جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك } العظماء { لهم } خاصة { الخيرات } النفسانية والبدنية من استكمال النفوس بالخصائل واخراجها من الرذائل واستجماع الغنيمة مع النصرة والطول مع الاواد والصيت والثناء { وأولئك هم المفلحون } تكرار اسم الاشارة للتمكين وتصويرهم باوصافهم المذكورة ليكون كالعلة ولاختصاص كل من المسندين على حياله.
[9.89-91]
{ أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها } جواب لسؤال عن حالهم و { ذلك الفوز العظيم وجآء المعذرون } عن عذر فى الامر اذا قصر فيه وكأنه كان فى الاصل بمعنى بالغ فى ابداء العذر لامر قصر فيه، او من اعتذار اذا بالغ فى ابداء العذر ولم يكن المبالغة فى ابداء العذر الا لامر يتراءى التقصير فيه وقرء المعذرون من باب الافعال بمعنى المعذرون من باب التفعيل { من الأعراب } الاعراب الذين لا يسكنون العمران ويعيشون فى البادية جمع لا واحد له كما قيل، او جمع للعرب خصص ببعض افراده والعرب بالضم وبالتحريك الذين يسكنون العمران او هو اعم { ليؤذن لهم } فى القعود حيث لا يتفقهون معنى الايمان وانه يقتضى التسليم { وقعد الذين كذبوا الله ورسوله } فى البيعة الاسلامية حيث شرط عليهم ان لا يتخلفوا قول الرسول وان يكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، فقبلوه ولم يطيعوا الرسول (ص) بعد فى امره ولم يوافقوا المسلمين فيما عليهم { سيصيب الذين كفروا منهم } لا الذين بقوا على اسلامهم وتصديق الرسول (ص) كبعض الاعراب حيث لم يكن استيذانهم وتخلفهم لانكار الرسالة بل لعدم تفقه الغرض من الاسلام وكبعض القاعدين لطلب الراحة وعدم تحمل التعب لا لانكار الرسالة { عذاب أليم ليس على الضعفآء } جواب لسؤال اقتضاه السابق كأنه قيل: هل على المعذورين حرج فى التخلف؟ - فان التشديد والتغليظ على المتخلفين وكثرة ذمهم يقتضى الترديد فى حال المعذورين والسؤال عنها { ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج } فى تخلفهم عن الغزو { إذا نصحوا لله ورسوله } خلصوا او اظهروا خير غيرهم ورغبوه فيه خالصا مترحما { ما على المحسنين من سبيل } فى موضع التعليل يعنى ان المتخلف لعذر بشرط النصح مجاهد ومحسن، وما على المحسنين من سبيل للوم والذم والعتاب فى الدنيا { والله غفور } لمن اساء فكيف بمن أحسن { رحيم } فلا سبيل عليهم بالعقوبة فى الآخرة.
[9.92]
{ ولا على الذين إذا مآ أتوك لتحملهم } حيث يجدون ما ينفقون ويقوون فى ابدانهم لكن لا طاقة لهم بالذهاب معك راجلين ولا قدرة لهم على الحمولة ويسئلونك الحمولة { قلت لا أجد مآ أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون } الدمع واقع موقع التميز والتميز قد يجر بمن وقد ينصب، او فى الكلام قلب والاصل والدمع يفيض من اعينهم قلب للمبالغة فى كثرة الدمع، او من للتعليل والمعنى على المبالغة كأن اعينهم من كثرة الدمع تذاب وتفيض.
[9.93]
{ إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنيآء } بدنا ومالا { رضوا بأن يكونوا مع الخوالف } التكرار لمطلوبية التطويل والتأكيد والتكرير فى مقام التغليظ { وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون } قد اخذ فى مصداق العلم الاشتداد والتأدية الى علم آخر اخروى كما أخذ ذلك فى مفهوم الفقه ولذا يثبت وينفى عن موضوع واحد باعتبار مفهومه العرفى ومصداقه الحقيقى، فالعلم والفقه مختلفان مفهوما متحدان مصداقا فهذا ايضا تكرار لما ذكر.
[9.94-96]
{ يعتذرون إليكم } يبالغون فى ايتاء العذر اليكم وابدائه لكم من غير حصول عذر لهم بقرينة الرد عليهم وان كان الاعتذار اعم من ابداء العذر من غير عذر او مع عذر وهو اخبار بما سيقع { إذا رجعتم إليهم } من غزوتكم هذه وهى غزوة تبوك { قل } فى جوابهم بعد رجوعك واعتذارهم { لا تعتذروا } لا تبدوا العذر من غير حقيقة { لن نؤمن لكم } اى لن نصدقكم { قد نبأنا الله من أخباركم } ومنه اعتذاركم هذا بالكواذب ولما كان اعتذارهم للتدليس على النبى (ص) واصحابه جميعا ضم اصحابه الى نفسه واتى بلفظ المتكلم مع الغير { وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة } وضع الظاهر موضع المضمر للتهديد وانه لا يخفى عليه شيء من اعمالكم تأكيدا لما قبله { فينبئكم بما كنتم تعملون سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم } اخبار عنهم قبل وقوعه ايضا { لتعرضوا عنهم } ولا تخاطبوهم بما وقع منهم ولا تعاتبوهم بل تكونوا توافقونهم وترافقوهم كسائر المؤمنين { فأعرضوا عنهم } لا عن خطابهم وعتابهم فقط بل عن معاشرتهم وموافقتهم { إنهم رجس } بحسب اصل ذواتهم فلا يقبلون الطهارة حتى يؤذن لكم فى عتباهم او فى مرافقتهم باحتمال اصلاحهم { ومأواهم جهنم جزآء بما كانوا يكسبون يحلفون لكم لترضوا عنهم } بدل من الاول نحو بدل الاشتمال، او تأكيد نحو التأكيد المعنوى حيث ان الغرض من الاعراض الاعراض عن المعاتبة والملامة المقارن للرضا غالبا، ولذا عقب الامر بالاعراض بقوله انهم رجس للاشارة الى ان الامر ليس لما قصدوه من الرضا وترك السخط، بل لعدم شأنيتهم للمعاتبة والملامة { فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين } نهى عن الرضا بألطف وجه وابلغه كأنه قال: فان ترضوا كان رضاكم مخالفا لرضا الله والايمان يقتضى ان يكون رضاكم تبعا لرضا الله فلا ترضوا عنهم لان الله لا يرضى عن القوم الفاسقين، ووضع الظاهر موضع المضمر اشارة الى ذم آخر واشعارا بعلة الحكم.
[9.97]
{ الأعراب } الاعراب فى اهل البدو كالعرب بالضم والتحريك فى اهل البلاد كما سبق لكنهما قد يعتبران فى العالم الصغير فيطلق الاعراب على الواقف فى تيه النفس الامارة والعرب على الساكن فى عمران النفس المطمئنة ومدينة القلب، ولذا سموا فى الاخبار اعداء اهل البيت اعرابيين وان كانوا قرشيين او مكيين او مدنيين؛ وسموا شيعتهم عربيين وان كانوا من اهل البدو واقصى بلاد الهند { أشد كفرا ونفاقا } لقسوة قلوبهم وغلظة نفوسهم وعدم سماعهم لما يقربهم الى الحق ويرغبهم فى الآخرة وعدم تفطنهم بما خلقوا له { وأجدر ألا يعلموا حدود مآ أنزل الله على رسوله } لعدم سماعهم لها وعدم تفطنهم لمقصود المسموع وعدم اقتضاء حالهم لحفظ ما يتفطنون به، والمراد بالحدود اما الاحكام من العبادات والمعاملات او الغايات المقصودة من احكامه وآدابه وقصصه ومواعظه { والله عليم حكيم } عطف على جملة الاعراب اشد كفرا ونفاقا والجامع بين المتعاطفين هو تقابل مسنديهما فان المراد بالحكمة هنا هو الحكمة العملية التى هى الاتقان فى العمل والمداقة فيه المستلزمة للمداقة فى العلم ويعبر عنها بالفارسية به " خورده كارى، وخورده بينى " والكفر والنفاق ناش عن عدم المداقة فى العلم والعمل فبين ملزوم الكفر والحكمة تقابل السلب والايجاب وهو الجامع، وبين العلم وعدمه ايضا كذلك، والمعنى ان الاعراب فى طرف والله ومظاهره فى طرف آخر، فبينهما مباينة تامة فلا يتفضل الله عليهم ولا يتوجهون اليه والمراد بالاعراب ظاهرا ما عرفت وتأويلا منافقوا الامة فقوله والله عليم حكيم ذم آخر لهم حيث يشير الى بعدهم عن الله وكان الموافق تأخير الكفر والنفاق او تقديم الحكمة ليكون المتعاطفان على ترتيب واحد، لكن لما كان الكفر والنفاق سببا للجهل الخاص المأخوذ فى المعطوف عليه وان كانا مسببين عن الجهل المطلق، والحكمة بهذا المعنى مسببة عن العلم المطلق المأخوذ فى المعطوف ، عكس الترتيب مراعاة للترتيب بين مسندى كل.
[9.98]
{ ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق } فى الجهاد وعلى فقراء المسلمين من الحقوق المفروضة او الغير المفروضة { مغرما } خسرانا بلا عوض لعدم اعتقاده بالله وبالآخرة وبالاجر والعوض من الله { ويتربص بكم الدوائر } الحوادث المقلبة عليكم الامور، سميت دوائر لدورانها على البشر لكن استعمالها فيما فيه شر { عليهم دآئرة السوء } اخبار عن حالهم التى هم عليها فى الآخرة لكن اداه بصورة الواقع لتحقق وقوعه، او عن حالهم التى هم عليها فى الدنيا اشارة الى غرور الشيطان ودواعى النفس التى كلها مهلكات، او دعاء عليهم ولما لم ينفك دعاء الله عن تحقق المدعو به فهو مستلزم للاخبار والاضافة الى السوء هنا دون الاول ولحرمة المؤمنين واهانة المنافقين { والله سميع عليم } والجامع ههنا هو لازم المعطوف عليه ومتعلق المعطوف المقدر كأنه قال: ومن الاعراب من يتخذ ما ينفق مغرما فيقول قد وقعت فى محذور مع محمد (ص) ويتربص بكم الدوائر فيضمر هلاككم وخلاصه والله سميع لقوله عليم بنيته وهو تهديد للاعراب وتسلية للمؤمنين.
[9.99]
{ ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله } لما كان قوله الاعراب اشد كفرا مقدمة للتفصيل الذى بعده حكم فيه على الجنس للاشعار بانه سجيتهم ولازمهم، ليكون مذمومهم اشد ذما وممدوحهم ابلغ مدحا، وكرر لفظ الاعراب ليكون تصويرا لهم بما وصفوا به من السجية الخبيثة ليكون فى الذم والمدح أبلغ { وصلوات الرسول } سبب دعواته لانه (ص) كان يدعو للمصدق بحسب الامر الآلهى بقوله: اللهم صل عليه { ألا إنها قربة لهم } لما صار المقام مظنة السؤال عن انها قربة ام لا؟ وهل يكون سببا لصلوات الرسول (ص)؟ وهل يجاب الرسول (ص) فى حقهم ام لا؟ اتى بالجملة المذكورة مقطوعة عن سابقها مؤكدة مصدرة باداة الاستفتاح { سيدخلهم الله في رحمته } تصديق بسبية انفاقهم لدعاء الرسول (ص) واجابة الله له (ص) فى حقهم، والسين اما للتأكيد او للتسويف { إن الله غفور رحيم } تعليل لتأكيد الوعد وتحقيقه.
[9.100-101]
{ والسابقون الأولون } عطف على من يؤمن بالله اى ومن الاعراب السابقون فضلا عن كون من يؤمن بالله منهم وعلى هذا فينبغى ان يراد بالاعراب الواقف فى بيداء النفس لا اهل البد وفقط، حتى يصح كون السابقين بلام الاستغراق منهم ويكون الآية حنيئذ اشارة الى ان من كان فى تيه النفس لا ينبغى ان ينظر اليه نظر الحقارة،
كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم
[النساء:94]:
هيج كافر را بخوارى سنكريد
كه مسلمان مردنش باشد اميد
والتوصيف للتأكيد ورفع توهم ارادة السبق فى صورة الاسلام او الهجرة او الاحتشام او الجنود او الغزو او القتال فقط، وللاشارة الى ارادة السبق فى السلوك الى الله وفى مراتب عبوديته فانه السبق حقيقة او السابقون الاولون مبتدء وخبر فيكون من عطف الجملة، والمعنى ان السابقين هم الاولون فى درجات القرب او مبتدء خبره من المهاجرين او رضى الله عنهم فيكون ايضا من عطف الجملة والتوصيف بالاولون لما ذكر { من المهاجرين } الذين هاجروا من مكة الى المدينة لمحض خدمة الرسول (ص) او من مطلق اوطانهم اليها { والأنصار } الذين نصروه بعد الهجرة، وقد ورد فى الخبر، ان المهاجر من هجر السيئات، وفى خبر: لا يقع اسم الهجرة الا بمعرفة الحجة، وعلى هذا فالمراد بالمهاجرين من هجر دار نفسه المشركة الى مدينة الرسول التى هى القلب، ولما كان الزمان منطويا فى مكان النفس والقلب فلا اعتناء بالهجر المكانى ولا بسبقه الزمانى فلا يلزم ان يكون كل مهاجر صحابى بمحض الهجرة المكانية وسبقه فيها مهاجرا فضلا عن ان يكون سابقا فى الهجرة، والمراد بالانصار الساكنون فى مدينة القلب المتوجهون الى عمران النفس المطمئنة واللوامة المبلغون الناشرون احكام نبى القلب الى اهل بدو النفس الامارة وعمران النفس المطمئنة واللوامة { والذين اتبعوهم بإحسان } عطف على السابقون او على الاولون او على المهاجرين او مبتدء وخبر والجملة عطف على السابق والاحسان ضد الاساءة قد يعتبر بالنسبة الى خارج وجود الفاعل فيقال احسن الى الخلق او الى زيد وقد يعتبر بالنسبة الى ماله من الحال والفعل فيحذف المفعول فيقال: احسن زيدا وهو محسن بمعنى صار فى حاله او فعله ذا حسن والحسن الحقيقى قد مر مرارا انه الولاية، وكل حال او فعل ينسب اليها يكون حسنا وان لم ير ظاهره حسنا، وكل ما لم يكن منسوبا اليها فهو قبيح وان كان ظاهره حسنا، والمراد بالاحسان هنا هو جعل الحال والفعل متصلا بالنبوة والولاية والمعنى والذين اتبعوهم باسلام وايمان { رضي الله عنهم ورضوا عنه } قد مضى كيفية رضوان الله ورضا العباد فى سورة البقرة فى بيان توابيته تعالى { وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيهآ أبدا ذلك الفوز العظيم وممن حولكم من الأعراب } خبر مقدم { منافقون } مبتدء مؤخر والجملة عطف على جملة من الاعراب من يتخذ والمعنى من الاعراب من دخل فى الاسلام مكرها ويتخذ ما ينفق (الى الآخر) ومنهم من دخل طوعا لكنه اخذ الاسلام بهوى النفس واشار اليه بقوله ممن حولكم فانه يدل على انه يتملق لكم ويرضى عنكم او ممن حولكم مبتدء ومن الاعراب خبره ومنافقون خبر بعد خبر او مستأنف او حال بتقدير مبتدء، او منافقون خبر ومن الاعراب حال { ومن أهل المدينة } عطف على ممن حولكم او على من الاعراب او مبتدء وما بعده خبره والجملة عطف على سابقها { مردوا على النفاق } تمرنوا عليه واعتادوه مستأنف او خبر من اهل المدنية على جواز قيام من التبعيضية مقام الاسم او حال بتقدير قد { لا تعلمهم } استيناف او حال او خبر وهو اخبار للمؤمنين بحال المنافقين باياك أعنى واسمعى يا جارة، حتى يكونوا على حذر ممن يحتملون نفاقه واعلام لهم بمهارتهم فى نفاقهم { نحن نعلمهم } خبر او مستأنف او حال متداخلة او مترادفة { سنعذبهم مرتين } مرة على كفرهم ومرة على اظهارهم الاسلام نفاقا او مرة بنزعهم عن آمالهم ومتمنياتهم ومرة بمشاهدة ما اعد لهم فى الآخرة { ثم يردون إلى عذاب عظيم } فى القيامة.
[9.102]
{ وآخرون اعترفوا بذنوبهم } عطف على مردوا او على منافقون او على من الاعراب او على من يؤمن بالله او اخرون مبتدء واعترفوا خبره والجملة عطف على سابقتها { خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا } نزولها فى ابى لبابة بن عبد المنذر حين شاوره بنو قريظة فى النزول على حكم سعد بن معاذ وقد مضى عند قوله لا تخونوا الله من سورة الانفال لكن معناها عام فى كل مؤمن احدث ذنبا فى ايمانه واعترف به { عسى الله أن يتوب عليهم } عسى من الله واجب وانما يأتى تعالى شأنه بادوات الترجى والتسويف جريا على عادة الملوك والاكابر فى مواعيدهم { إن الله غفور رحيم } وقد ورد ان وحشيا منهم وورد ايضا انهم قوم اجترحوا ذنوبا مثل قتل حمزة وجعفر الطيار ثم تابوا وذكر ايضا ان من قتل مؤمنا لم يوفق للتوبة.
[9.103]
{ خذ } بنفسك او بعمالك وهو جواب لما ينبغى ان يسأل عنه محمد (ص) كأنه قال: فما افعل بالمنافقين والذين خلطو عملا صالحا وآخر سيئا؟ فقال تعالى: خذ { من أموالهم صدقة } والامر هنا للوجوب كما ورد انها وردت فى فرض الزكاة وقد نزلت فى شهر رمضان وامر (ص) مناديه ان ينادى فى الناس بفرض الزكاة، ومنه يعلم ان وجوب الاخذ عليه يستلزم وجوب الاعطاء عليهم، وهل يجب عليهم الايصال الى يده او يد نائبه كما يستفاد ذلك ايضا من وجوب الاخذ عليه، وورد بذلك الاخبار وافتى به بعضهم او لا يجب بل لهم الاختيار فى الايصال اليه (ص) والاعطاء الى من شاؤا من المستحقين؟ والحق ان ليس لهم الاعطاء الا الى الرسول (ص) او نوابه وخلفائه، او من اذنوا لهم من المستحقين والتفصيل موكول الى الكتب الفقهية { تطهرهم } صفة لصدقة او مستأنف وهو اما خطاب له (ص) او مسند الى ضمير الصدقة، وعلى الاول يكون المجرور فى قوله { وتزكيهم بها } متنازعا فيه، والمراد بالتزكية هنا الانماء فى المال والبركة لا التطهير ليكون تأسيسا واشارة الى ان الصدقة توجب البركة فى المال ليكون ترغيبا لهم فيها { وصل عليهم } وادع لهم بطلب الرحمة عليهم حين الاخذ او بلفظ الصلاة كما ورد
" انه اذا اتى النبى (ص) قوم بصدقتهم قال: اللهم صل عليهم "
، او مطلقا حيث استحقوا بتزكية المال دعاءك حين التصدق وبعده بانواع الدعاء للدنيا والآخرة { إن صلوتك سكن لهم } سبب سكونهم واطمينانهم ونكر السكن للاشارة الى انه نوع سوى ما يعرفه الناس، فان الزوج سكن والمال والمسكن والاولاد كلها سكن وكذا ذكر الله سكن لكن كلها لا يخلوا عن نوع اضطراب ومداخلة للشيطان بخلاف توجهه (ص) وعنايته ودعائه، فانه يفر منه الشيطان ولا يبقى له مداخلة فلا يبقى للساكن شيء من الاضطراب، مثل السكينة القلبية النازلة من الله فى قلب المؤمن { والله سميع عليم } عطف على مدخول ان او على ان مع اسمها وخبرها وعلى كلا التقديرين يستفاد منه التعليل.
[9.104]
{ ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات } ترغيب لهم فى التصدق وذكر التوبة لمشاركتها للصدقة فى قبوله تعالى على ايدى خلفائه ولانها مقدمة للصدقة ولذا قدمها فان من لم يتب الى الله لا يمكنه التصدق حقيقة. اعلم، ان التوبة هى رجوع الشخص عما لا ينبغى الى الله سواء كان الرجوع من جهة الباطن الى مظهر الله الباطنى الذى هو القلب، او من جهة الظاهر الى مظهره الذى هو النبى (ص) او الامام (ع) او خلفاؤهما، ولهذا الرجوع وقبول التوبة بهذا المعنى اعمال ومواثيق مقررة كانت جارية بينهم من لدن آدم (ع)، وان كانوا لشرافتها والضنة بها كتموها من غير اهلها ومحوا اثرها من صدور من اطلع عليها ورجع عنها لئلا تبتذل كسائر رسوم الملة، والمستعمل فى الكتاب والسنة فى الاغلب هو التوبة بهذا المعنى والقابل لهذه التوبة هو النبى (ص) او خليفته كما ان الآخذ للصدقة ايضا هو النبى (ص) او خليفته (ع)، لكنه لما كان مظهرا لله وفانيا ببشريته فيه خصوصا وقت قبول التوبة واخذ الصدقة نسب قبول التوبة واخذ الصدقة الى نفسه بطريق الحصر بمعنى عدم انفراد الغير ولامشاركته له تعالى فيه، هذا اذا كان الآخذ للصدقة والقابل للتوبة خلفاؤه تعالى، واما اذا كان الآخذ للصدقة غيرهم كالفقراء السائلين الآخذين للصدقات المندوبة او المفروضة فالاخذ وان لم يكن آلهيا لكن المتصدق بنيته الآلهية التى هى شرط فى اطلاق اسم الصدقة على ما يعطى يصير آلهيا ومظهرا لله وبصيرورته مظهرا لله يجذب اللطيفة الآلهية فى الآخذ وان لم يصر الآخذ شاعرا به، ولذا ورد تقبيل يد الامام او الآخذ او السائل وتقبيل المعطى يد نفسه وتقبيل الخير بعد الرد من يد السائل ووجه الكل قد علم مما ذكر { وأن الله هو التواب } كثير المراجعة على العباد بالعفو والتوفيق وقبول توبتهم { الرحيم } للعباد وقد مضى تحقيق التوبة ومعنى توابيته فى اول البقرة فى مثل هذه الآية.
[9.105]
{ وقل اعملوا } تهديد بعد ترغيب { فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } الخالصون للايمان المتحققون به وهم خلفاء الله بعد رسوله (ص) والا فاكثر المؤمنين الناقصين لا اطلاع لهم على اعمال الغير، ولذلك ورد بطريق الحصر ان المراد بالمؤمنين على بن ابى طالب (ع) او الائمة (ع)، فان اعمال العباد تعرض صباحا ومساء فى الدنيا على من جعله الله شهيدا على الخلق فاحذروا من ان يعرض منكم ما اذا شوهد يسؤكم وما اذا عرض على امامكم يسؤه كما فى الاخبار، والسين للتأكيد لا للتسويف او للتسويف او للتسويف بتضمين يرى معنى يظهر رؤية الله لاعمالهم { وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون } ويجازيكم عليه ان خيرا فخير وان شرا فشر.
[9.106]
{ وآخرون مرجون } عطف على آخرون اعترفوا او على ما عطف عليه آخرون اعترفوا، ولما كان نزول قوله آخرون اعترفوا فى ابى لبابة بن عبد المنذر، وكان بعد قبول توبته تصدق بتمام ماله وابى رسول الله (ص) عن اخذ تمام ماله، وقال يكفيك الثلث ان تتصدق به، وكان نزول قوله خذ من اموالهم صدقة فى اخذ صدقته جاء به معترضا بين المعطوف والمعطوف عليه والارجاء التأخير، يعنى انهم مؤخرون من غير تنجيز بالمغفرة او العذاب لكونهم واقعين بعد بين الملكوت العليا التى هى دار الرحمة والملكوت السفلى التى هى دار العذاب من غير حكم عليهم بكونهم من اهل احدى الملكوتين. اعلم، ان الانسان بعد البلوغ اما قادر بحسب قوته العمالة والعلامة على طلب الدين والاستشعار بخيره وشره الانسانيين اولا، والثانى هو المستضعف والاول اما متصل بنبى (ص) او امام (ع) بالبيعة العامة او الخاصة اولا، والثانى اما منكر لله او لنبى وقته وهو الكافر المحكوم عليه بالعذاب، او متحير واقف هو المرجى لأمر الله، والاول اما موافق اتصاله ولسانه لجنانه بحسب قوته العلامة اولا، والثانى هو المنافق المحكوم عليه بالعذاب سواء كان دخوله وبيعته اكراها او طوعا، والاول اما موافق علمه لعلمه ولا يخالف بحسب قوته العمالة تبعيته وعهده اولا، والاول هو المؤمن المحكوم عليه بالرحمة والثانى هو الخالط للعمل السيئ بالعمل الصالح الذى على الله ان يعفو عنه، فآخرون مرجون { لأمر الله } اى لحكمه الذى هو من عالم امره { إما يعذبهم } حين خروجهم من الدنيا بلحوقهم بدار العذاب بواسطة غلبة الحكم السفلى عليهم { وإما يتوب عليهم } بلحوقهم بدار الرحمة بواسطة غلبة الحكم العلوى عليهم { والله عليم } باستعدادهم واستحقاقهم لكل من التوبة والعذاب { حكيم } لطيف فى علمه لا يعزب عنه قدر شعر وشعيرة من استعدادهم واستحقاقهم متقن لطيف فى عمله يجازى كلا بسحب عمله ولو كان بقدر شعيرة وشعرة.
[9.107-108]
{ والذين اتخذوا مسجدا } عطف على منافقون او كل من معطوفيه او على مرجون من قبيل عطف اوصاف موصوف واحد، او عطف المتغايرين او مبتدء خبر محذوف او خبر متبدء محذوف او مفعول فعل محذوف، روى ان بنى عمرو بن عوف بنوا مسجد قبا وصلى فيه رسول الله (ص) فحسدهم اخوتهم بنو غنم بن عوف، فبنوا مسجد الضرار وارادوا ان يحتالوا بذلك فيفرقوا المؤمنين ويوقعوا الشك فى قلوبهم، بان يدعوا ابا عامر الراهب من الشام ليعظهم ويذكر وهن دين الاسلام ليشك المسلمون ويضطربوا فى دينهم، فأخبر الله تعالى نبيه (ص) بذلك، فدعوا رسول الله (ص) ليصلى فى مسجدهم فأبى واعتذر بأنى على جناح سفر حين ارادة غزوة تبوك، وبعد مارجع من تبوك امر بهدمه واحراقه وجعله كناسة يلقى فيه الجيف وقصته مذكورة بتفصيلها فى المفصلات وما فى الصافى يكفى للتبصر { ضرارا وكفرا } لحصول الكفر او لتحصيل ازدياد الكفر { وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا } ترقبا { لمن حارب الله ورسوله من قبل } يعنى ابا عامر الراهب، نقل انه كان قد ترهب فى الجاهلية ولبس المسوح فلما قدم النبى (ص) المدينة حسده وحزب عليه ثم هرب بعد فتح مكة وخرج الى الروم وتنصر، وانه كان يقاتل رسول الله (ص) فى غزواته الى ان هرب الى الشام ليأتى من قيصر بجنود يحارب بهم رسول الله (ص) ومات بقنسرين { وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى } الا الارادة الحسنى او العاقبة الحسنى او الخصلة الحسنى { والله يشهد إنهم لكاذبون لا تقم فيه أبدا } اى للصلاة فان القيام لكثرة استعماله فى القيام للصلاة يتبادر منه الصلاة { لمسجد أسس على التقوى } اعلم، انه كما ان للبناء سقفا واساسا ومقرا يقوم الاساس عليه كذلك لكل عمل صورة واساس ومقر يقوم الاساس عليه، فسقف العمل هو صورته التى هو عليها، واساسه هو نية العامل، ومقره هو شأنه الذى يقتضى تلك النية، فبالنية يوجد العمل ومن شأن العامل ينشأ النية وعليه تستقر والعمل مبتن على النية والنية قائمة على شاكلة العامل قل كل يعمل على شاكلته والعمل ظهور النية والنية ظهور الشاكلة لكن يخفى ذلك الظهور على العميان مع ظهوره لاصحاب البصائر، والعلم بمبنى العمل احد وجوه العلم بتأويل القرآن، فمن كان شاكلته التقوى من مقتضيات النفس صارت نيته آلهية ومن كان كذلك كان عمله مبتنيا على نية آلهية قائمة على شاكلة التقوى، واذا كان العمل مبتنيا على نية آلهية كان العمل آلهيا لظهور تلك النية فى العمل ولذلك او لكون قلب عاملها الواقف لها بيت الله يسمى المساجد بيوت الله مع شركتها لسائر الابنية فى موادها وصورها وبقاعها وعامل بنائها، وقد مضى تحقيق معنى المسجد فى سورة البقرة عند قوله تعالى: ومن اظلم ممن منع مساجد الله { من أول يوم } من ايام تأسيسها يعنى مسجد قبا { أحق أن تقوم فيه } للصلاة من مسجد اسس على النفاق لانه بمظهريته لنية المتقى مجانس لك { فيه رجال يحبون أن يتطهروا } من الارجاس الباطنة والانجاس الظاهرة { والله يحب المطهرين } روى
" عن النبى (ص) انه قال لأهل قبا: ماذا تفعلون فى طهركم فان الله قد احسن عليكم الثناء؟ - قالوا نغسل اثر الغائط، قال: فأنزل الله فيكم: والله يحب المطهرين ".
[9.109]
{ أفمن أسس بنيانه } بنيان وجوده { على تقوى من الله ورضوان خير } من الله عطف على محذوف مستفاد من سابقه والهمزة والفاء على التقديم والتأخير او على تقدير المعطوف عليه بينهما تقديره امسجد اسس على التقوى خير ام مسجد اسس على النفاق فامن اسس بنيانه او فمن اسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير { أم من أسس بنيانه على شفا جرف } الجرف جانب الوادى الذى تجرفه السيول وتذهب بتراب اصله فتنشق والشفا شفيره { هار } اصله هائر وهور وهو المنشق المشرف على السقوط { فانهار به } اسقط اى البنيان او من اسس النبيان { في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين } عطف باعتبار المعنى كأنه قال فمن اسس بنيانه على شفير جهنم ظالم والله لا يهدى القوم الظالمين. اعلم، ان النفس الانسانية فى اول الخلقة ليس لها الا فعلية الجماد ثم تتدرج الى فعلية النبات ثم الى فعلية مراتب الحيوان من مراتب الخراطين الى مراتب البهيمية والسبعية، ثم الى فعلية الشيطانية، ثم الى فعلية الانسانية فى الجملة، وهى مقام تميزها للخير والشر العقليين فى الجملة فى اول مراتب البلوغ والتكليف وحينئذ تقع برزخا بين عالم الجنة والشياطين وفيه جهنم ونيرانها، وبين عالم الملائكة بمراتبها وفيه الجنان ونعيمها وروحها وريحانها، والانسان فى هذا المقام ليس الا قابلا صرفا يتصرف فيه الشياطين ويجذبونه الى السفل والى عالمهم ويتصرف فيه الملائكة ويجذبونه الى العلو والى عالمهم وله القوة والاستعداد للسير على مراتب السفل والاتصاف بها وعلى تمام مراتب العلو والاتصاف بها، فان ساعده التوفيق وادرك ببصريته شروره وان جذب الشياطين له ليس الا الى دار الشرور واتقى ذلك ولم ينصرف الى ما اقتضيه القوة الشيطانية والسبعية والبهيمية، بل كان على حذر من ذلك وقام فى مقام الانسانية متدرجا فى مراتبها فقد اسس دار وجوده وتعيشه على تقوى من لوازم سخط الله وهى مقتضيات القوى المذكورة، وان ادراكه خذلان الله العياذ بالله، وانصرف عن مقام الانسانية وانجذب بوسوسة الشيطان الى مقام القوى المذكورة وهو اقرب مقاماته الى العالم السفلى الذى فيه جهنم وقام فى هذا المقام الذى هو اضعف مراتبه واوهنها فقد اسس دار وجوده وتعيشه على اوهن مقاماته الذى اذا انهدم سقط فى جهنم.
[9.110]
{ لا يزال بنيانهم الذي بنوا } يعنى اهل مسجد الضرار { ريبة في قلوبهم } سبب شك { إلا أن تقطع قلوبهم } فلا يبقى منها اثر حتى تتصف بالريبة { والله عليم حكيم } يعنى ان بنيانهم سبب جهلهم وبلاهتهم والله عليم حكيم فيكون بنيانهم سبب بعدهم من الله فليهدم كما روى انه (ص) امر بهدمه واحراقه.
[9.111-112]
{ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } بعد ما ذكر اصناف المنافقين واحوالهم ذكر اوصاف المؤمنين وما هم عليه وما لهم فى الآخرة لازدياد حسرة المنافقين. اعلم، ان النفوس البشرية خلقت متعلقة بمعنى ان التعلق جزؤ جوهر ذواتها وفصل مميز لها عن الجواهر المجردة الصرفة لا ان التعلق وصف خارج عن ذواتها عارض لها، وهذا التعلق الفطرى هو الذى يكون منشأ شوقها الذى يعبر عنه بالفارسية ب " درد " وهو يقتضى التعلق الاختيارى حين البلوغ فان ساعدها التوفيق وتعلقت اختيارا حسبما كلفها الله بالعقول المجردة ومظاهرها البشرية فازت بالحياة الابدية، وان خذلها الله وتعلقت بالشيطان ومظاهره البشرية اعاذنا الله منها، هوت الى المظاهر القهرية وهلكت، ولما كان فى بدو الامر مداركها العقلية ضعيفة ومداركها الحيوانية والشيطانية قوية بحيث لا تدرك الا ما ادركته المدارك الظاهرة والباطنة الحيوانية او ما اقتضته القوى الحيوانية والشيطانية، ولا يتيسر لها ادراك العقول والتعلق بها بلا واسطة بشرية مدركة بمداركها الحيوانية، امرهم الله تعالى شأنه بالتعلق بمظاهر العقول من الانبياء وخلفاءهم والانقياد لهم واتباعهم، ولتطابق العوالم وتوافق المراتب ولزوم سريان حكم كل عالم ومرتبته الى سائر العوالم والمراتب، امرهم الله تعالى بالبيعة التى هى مشتملة على التعلق الجسمانى بعقد يدى المتعلق والمتعلق به وتعلق سمع كل بلسان الآخر وصوته ليكون التعلق النفسانى موافقا للجسمانى وساريا الى المرتبة البشرية، وتلك البيعة كانت سنة قائمة من لدن آدم (ع) الى زمان ظهور دولة الخاتم (ص)، بحيث كان اهل كل دين لا يعدون من اهل ذلك الدين احدا الا بالبيعة مع صاحب ذلك الدين او مع من نصبه لاخذ البيعة من الناس ولتلك كانت شرائط وآداب مقررة مكتومة عندهم، ولشرافة تلك البيعة والضنة بابتذالها عند من ليس لها باهل كانت تختفى فى كل دين بعد قوته ورحلة صاحبه واختيار العامة له بأغراضهم الفاسدة على سبيل الرسم والملة، وقوله
وبئر معطلة
[الحج: 45] اشارة الى التحقق بالدين بالدخول فيه بما به تحققه من البيعة،
وقصر مشيد
[الحج: 45] اشارة الى صورة الدين المأخوذة على طريق الرسم والملة من دون التحقق به اذا تقرر ذلك، فاعلم، ان تلك البيعة لما لم تكن الا مع المظاهر البشرية لعدم امكان الوصول الى الله والى العقول من غير توسط تلك المظاهر وقد تحقق ان المظاهر يعنى الانبياء وخلفاءهم (ع) لفنائهم فى الله خصوصا وقت اخذ البيعة واشتراء الانفس والاموال، وجودهم وجود الله لا وجود انفسهم لعدم نفسية لهم حينئذ وفعلهم فعل الله لا فعل انفسهم، وكان القاصرون لا يرون البيعة الا مع الوسائط من غير نظر الى الظاهر فيها، قال الله تعالى بطريق حصر القلب والتعيين او الافراد ان الله اشترى لا الوسائط البشرية كما اعتقدوا لقصورهم وقد صرح بالحصر فى قوله انما يبايعون الله يعنى ان المشترى هو الله لا انت، وهكذا قوله
يد الله فوق أيديهم
[الفتح:10] للحصر اعتبارا لمفهوم اضافة اليد الى الله يعنى يد الله لا يدك، كما مضى عند قوله تعالى { ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده } انه اشارة الى تلك البيعة وانه للحصر فان قبول التوبة من اجزاء تلك البيعة ومقدماته، وقول المفسرين ان الآية وذكر الاشتراء تمثيل لاثابة الله اياهم على بذل الانفس والاموال انما هو بالنظر الى المبايعة المالية لا المبايعة الاسلامية { يقاتلون في سبيل الله } حال لبيان حالهم وما يشترط عليهم حين الاشتراء او مستأنف جواب لسؤال عن حالهم وما اشترط عليهم. اعلم، ان الداخل فى الاسلام بالبيعة العامة النبوية وقبول الدعوة الظاهرة والداخل فى الايمان بالبيعة الخاصة الولوية وقبول الدعوة الباطنة لا ينفك عن المقاتلة مع الاعداء الباطنة وجنود الشيطان، وان كان قد ينفك عن المقاتلة مع الاعداء الظاهرة وايضا لا ينفك عن قتل لشيء من جنود الجهل واتباع الشيطان وعن مقتوليه بحسب مراتب جنود الحيوان ما لم يمت اختيارا او اضطرارا، ولذا اتى بالافعال الثلاثة مضارعات دالات على الاستمرار { فيقتلون ويقتلون } قرئ الاول مبنيا للفاعل والثانى مبنيا للمفعول وبالعكس { وعدا عليه } وعد المقاتلة بحسب الشرط فى البيعة او وعد الجنة بازاء الانفس والاموال وعدا ثابتا عليه { حقا } صفة لوعدا او حال منه او مصدر لمحذوف اى ثبت ذلك الوعد ثبتا { في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى } افعل التفضيل او فعل ماض { بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم } الله بتوسط مظاهره { به } ان كان اوفى افعل تفضيل ومن استفهامية فالفاء جواب شرط محذوف اى اذا لم يكن احدا اوفى بعهده من الله فاستبشروا، وان كان فعلا ماضيا ومن شرطية او موصولة فالفاء جواب الشرط المذكور اذ الموصولة فى مثل هذا المقام متضمنة لمعنى الشرط لكن يقدر حينئذ بعد الفاء القول اى فيقال لهم: استبشروا، والوجه الاول اولى لتناسبه لقوله وعدا عليه حقا { وذلك } البيع الذى بايعتم على ايدى خلفائه او ذلك الوعد { هو الفوز العظيم التائبون } هو على قراءة الرفع مقطوع عن الصفة للمدح او مستأنف مقطوع عما قبله جوابا لسؤال مقدر كأنه قيل: من المؤمنون المستبشرون؟ - فقال: التائبون، وعلى كلا التقديرين فهو خبر مبتدء محذوف، ونسب الى المعصومين (ع) انهم قرؤه بالجر صفة للمؤمنين والمراد التائبون بالتوبة الخاصة على ايدى خلفاء الله التى هى من اجزاء البيعة المذكورة { العابدون } الصائرون عبيدا خارجين من رقية انفسهم داخلين فى رقية مولاهم او فاعلين فعل العبيد يعنى كان فعلهم بامر مولاهم لا بامر أنفسهم { الحامدون } المعتقدون المشاهدون كل كمال وجمال من الله فانه الحمد حقيقة الذاكرون الله بكماله وجماله بألسنتهم طبق اعتقادهم وشهودهم { السائحون } فى اراضى العالم الصغير والعالم الكبير وفى اخبار الامم الماضية وفى شرائع الانبياء ومواعظ الاولياء ونصائحهم وفى الكتب السماوية ولا سيما القرآن المهيمن على الكل وقد اشير فى الاخبار الى كل، وفسر ايضا بالصائمين وقد ورد ان سياحة امتى الصيام وهو من قبيل التفسير بالسبب، فان الصيام وهو منع القوى الحيوانية عن مشتهياتها يضعفها وبتضعيفها يرتفع الحجاب عن المدارك الانسانية وينفتح بصيرة القلب وينطلق رجل العقل فيسيح فى اراضى وجوده ويسرى سياحتها الى اراضى سيرة الانبياء (ع) والاولياء (ع) وكتبهم، او يسرى الى سياحة العالم الكبير بالنظر فى آياته والعبرة من تقليباته بأهله فانه السياحة حقيقة لا المشى فى وجه الارض خاليا من ذلك النظر وتلك العبرة { الراكعون } بالركوع المخصوص الذى هو من اركان الصلاة الصورية او باظهار الخضوع والذل لله ولخلفائه { الساجدون } بسجدة الصلاة او بمطلق السجدة لله او بغاية الخضوع والتذلل { الآمرون بالمعروف } لأهالى عوالمهم او لأهل العالم الكبير بعد استكمال اهالى عوالمهم والفراغ منهم { والناهون عن المنكر } هكذا، والاتيان بالعاطف لتمامية السبعة والعرب فى التعداد اذا تم عدد السبعة يأتى بالواو وتسمى واو الثمانية وسره تمامية العوالم الكلية الآلهية بالسبع، وقد مضى فى اول سورة البقرة تحقيق للامر بالمعروف والنهى عن المنكر عند قوله تعالى: اتأمرون الناس بالبر (الآية) { والحافظون لحدود الله } بعد الفراغ من الامر والنهى بابقاء المأمورين والمنهيين على الايتمار والانتهاء فى العالم الصغير والعالم الكبير والحافظون على حدود احكام الله من العبادات والمعاملات وغاياتها المقصودة منها، مثل ان يحفظ فى الصلاة على الانقياد والخشوع والتشبه بالملائكة والشخوص بين يدى الله والانصراف من التوجه الى عالم الطبع والحيوان الى الله، ومثل ان يحفظ فى النكاح على التوالد وابقاء النسل وازدياد المودة والرحمة والاستيناس، لا ان يكون نكاحه لمحض قضاء الشهوة الحيوانية واللذة النفسانية بل يكون حين اللذة حافظا لتلك الغايات ناظرا اليها، وما رود فى تفسيره بالحفظ على الصلاة بحفظ اوقاتها وركوعها وسجودها او بحفظ احكام الله فهو مشير الى هذا المعنى.
امهات منازل السالكين
اعلم، ان الآية الشريفة جامعة لامهات منازل السالكين الى الله واسفارهم مشيرة الى جميع مقامات السائرين، فان التائبون اشارة الى منازلهم الحيوانية ومقاماتهم الخلقية لان التوبة هى السير من الخلق الى الحق وهو السفر الاول من الاسفار الاربعة وللانسان فى هذا السفر مقامات ومراحل عديدة وليس له الا التعب والكلفة ولا يوازى لذته كلفته، ولذا ترى اكثر السالكين واقفين فى هذا السفر حائرين لا يمكنهم الرجوع ولا الوقوف على مقامهم الحيوانى، لما ايقنوا من ان ذلك المقام من مقامات الجحيم ولما رأوا لانفسهم فيه من العذاب الاليم ولا يمكنهم التجاوز والسير الى ما فوقه لكثرة المتاعب وضعف يقينهم وقلة التذاذهم بالمقامات الانسانية وضعف نفوسهم عن التحمل وقوة قويهم فى طلب مقتضياتها، والعابدون اشارة الى مقاماتهم الحقية الخلقية، لان العبودية هى السير فى المقامات الانسانية وعلى المراحل الروحانية الى الانتهاء الى حضرة الاسماء والصفات، وهو السفر الثانى من الاسفار الاربعة اى السفر من الحق الى الحق، والحامدون السائحون الراكعون الساجدون اشارة الى مقاماتهم الحقية اى السير فى حضرة الاسماء والتمكن فى التحقق بحقائق الصفات الالهية، وهو السفر الثالث اى السفر بالحق فى الحق، { الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله } اشارة اى مقاماتهم الالهية ومراتبهم الربوبية اى السير فى المظاهر الالهية متصفين بصفات الربوبية مبدلين للخلقية بالحقية ناظرين الى المظاهر الى كل فى مرتبته معطين لكل ذى حق حقه، وهو آخر الاسفار الاربعة يعنى السفر بالحق فى الخلق.
وبيان هذه الاسفار ومقاماتها وما يرد فيها وما يشاهد منها من الآيات مما يضيق عنه بيان البشر ولا يسعه هذا المختصر، واجمال القول فيها: ان الانسان فى زمان الصبا الى اوان البلوغ حيوان كالخراطين والديدان او كالبهائم والسباع لا يدرى من الخيرات الا ما اقتضته القوى الحيوانية ولا من الشرور الا ما تستضر به، وبعد بلوغ الاشد وظهور اللطيفة الانسانية وتميز الخيرات والشرور العقلية الانسانية، اما يقف على الحيوانية باقيا فيه شيء من الانسانية، او يهوى عن الحيوانية الى اسفل السافلين مهلكا للطيفة الانسانية، او ينزجر عن الحيوانية ويرغب فى الخيرات الانسانية متدرجا فيه الى ان يطلب من يبين له طريق جلب خيراته ودفع شروره الانسانية، لانه خارج عن ادراك مداركه الحيوانية غير مدرك بمداركه العقلية لضعفها، وذلك التدرج فى الانزجار وان كان توبة وانابة لغة لكنه لا يسمى عند اهل الله توبة ولا انابة، لان التوبة والانابة عندهم اسم للرجوع عن الحيوانية الى الانسانية الآلهية ولخفاء طريقها كثيرا ما يقع الراجع عن الحيوانية الى حيوانية او شيطانية بتدليس الشيطان وظنه انها خيرات انسانية فيقع فيما فر منه، فلما لم يظهر صحة رجوعه عن الحيوانية الى الانساينة لم يطلق عليه اسم التوبة وصحة الرجوع عن الحيوانية الى الانسانية لا تظهر الا بقبوله من الله، وقبوله من الله لا يظهر الا بقبول خلفاءه وهم المظاهر الانسانية والكاملون الفارقون ببصيرتهم بينها وبين الحيوانية، فاذا وصل الى نبى او ولى وتاب هو عليه هى توبة الله عليه واستغفر له فى البيعة العامة النبوية وقبول الدعوة الظاهرة صدق على رجوعه التوبة والانابة بجهتيه وصار تائبا، وبتلك التوبة لا يحصل له الا خيراته القالبية المؤدية الى خيراته الاناسنية لا يلتذ بها بل لا يرى فيها الا التعب والكلفة ولا يسكن حرارة طلبه للخيرات الانسانية ولا يتم توبته، فاذا طلب ووجد وتاب بالتوبة الخاصة فى البيعة الخاصة الولوية وقبول الدعوة الباطنة ودخول الايمان فى القلب وهناك يتم صورة توبته فقد يلتذ بانموذج خيراته الانسانية، لكنه ما لم يخرج من ملكه ولم يلج ملكوت السماوات ولم يشاهد ملكوت شيخه كان تائبا ولم يخلص له اللذات الانسانية وكان بعد فى تعب وكلفة وضيق لا يرضى بحال من احواله ويتقلب فى الاحوال، حتى شياهد ملكوت الشيخ ويسكن الشيخ فى ارض صدره ويتمكن له دينه الذى ارتضاه له وحينئذ يتم سيره من الخلق الى الحق، فان ملكوت الشيخ هى الحق بحقية الحق الاول ويصير حينئذ سالكا الى الله، لانه كان قبل ذلك سالكا الى الطريق ويصير عبدا خارجا من رقية نفسه داخلا فى رقية الله ويصير فعله ايضا فعل العبد حيث تمكن الشيخ فى وجوده وصار بالنسبة الى شيخه كالملائكة بالنسبة الى الحق الاول، لا يعصى الشيخ وهو بأمره يعمل لا بأمر نفسه ويصدق عليه انه عبد وعابد ويصير مسافرا بالسفر الثانى من الحق الى الحق لان المبدأ ملكوت الشيخ وهى الحق، والمنتهى هو الحق المضاف، ومراحل السفر ومقاماتها خارجة عن الحصر والعد، والسالك فى هذا السفر واله غير شاعر كالمجذوب فاذا وصل الى حضرة الاسماء والصفات تمت عبوديته وفنى عن افعاله وصفاته وذاته واتصف بالربوبية اذا تم له هذا السفر وصحا عن فنائه وصدق ما قالوا: الفقر اذا تم هو الله، وانتهاء العبودية ابتداء الربوبية، وفى هذا المقام يظهر بعض الشطحيات من السالكين مثل: انا الحق، وسبحانى ما اعظم شانى، وليس فى جبتى سوى الله، والسالك حينئذ مسافر فى الحق وهو السفر الثالث ولا انتهاء لمقامات هذا السفر، وفى هذا السفر لا يرى فى الوجود الا الله ولا يرى جمالا وكمالا الا الله فينسب تمام الكمال والجمال اليه تعالى من غير شعور بهذه النسبة منه وهو حمده بل يتحقق بالصفات الجمالية والاسماء الحسنى الآلهية وهو حامديته حقيقة، ويصدق حينئذ عليه انه سائح حيث ان السياحة هى السير لمشاهدة غرائب صنع الله وهو فى السفر الاول لا يمكنه مشاهدة صنع الله بل لا يرى الا المصنوع، وفى السفر الثانى اما لا يشعر بصنع ومصنوع بل لا يشعر الا بشيخه او لا يرى الا المصنوع بحسب تقليباته ذات اليمين وذات الشمال، وفى هذا السفر حين يفيق من جذبته يرى ويشاهد لكن لا يرى الا صنع الله وغرائبه لخروجه من التعينات الكونية فلا يرى فى الوجود الا صفاته واسماءه تعالى، وكل ما يشاهد يتذلل ويخضع له وهو الركوع والسجود بحسب تفاوت مراتب خضوعه، فاذا تحقق باسمائه وصفاته وتم سفره هذا عاد الى ما منه رجع لاصلاح العباد وسافر بالحق فى الخلق وامر بامر الله ونهى بنهى الله وحفظ الامر والنهى على المأمورين والمنهيين، وكذا يحفظ غايات اوامره ونواهيه عليهم، والمسافر بهذا السفر اما نبى او رسول او خليفة لهما، ومقامات هذا السفر ايضا غير متناهية بحسب عدم تناهى كلمات الله وبحسب مقاماته يتعدد ويختلف مراتب الانبياء والرسل، وما ورد من تحديد الانبياء بمائة وعشرين الفا او بمائة واربعة وعشرين الفا فهو اما لمحض بيان الكثرة او لتحديد امهات المقامات؛ وما ورد عن المعصومين (ع) من تخصيص الاوصاف بأنفسهم قد علم وجهه حيث لا يوجد تلك الاوصاف بحقائقها الا فيهم لكن اذا صح ايمان المؤمن وصدق فى ايمانه توجد رقائقها وانموذجاتها فيه فليطلب المؤمن من نفسه فاذا لم يجد لم يكن صادقا فى ايمانه { وبشر المؤمنين } عطف على الامر السابق وبينهما اعتراض لبيان حال المؤمنين ووضع المؤمنين موضع ضميرهم للاشعار بعلة الحكم ولتصويرهم بأوصافهم المذكورة حيث ان اللام للعهد الذكرى والمذكور المؤمنون الموصوفون بالاوصاف المذكورة.
[9.113]
{ ما كان للنبي والذين آمنوا } يعنى ما صح { أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين } بلغ غاية الوضوح { لهم أنهم أصحاب الجحيم } اعلم، ان الكافر ما لم ينقطع فطرته التى هى لطيفته الانسانية لا منع فى الاستغفار والدعاء بالخير له حيا وميتا ولا يجوز لعنه على الاطلاق بل يجوز من حيث كفره وشركه، وللاشارة الى هذا المعنى قوله تعالى
إني لعملكم من القالين
[الشعراء: 168] و
إني بريء مما تعملون
[الشعراء: 216]، واذا انقطع فطرته يجوز لعنه على الاطلاق ولا يجوز له الدعاء بالخير ولا يعلم قطع الفطرة الا بشهود مراتب وجوده او بوحى من الله او بسماع من صاحب الكشف او الوحى، وما ورد فى الاخبار وافتى به العلماء (رض) ايضا من ان المرتد الفطرى لا يقبل توبته ناظر الى هذا المعنى ، وما ذكروه من الفرق بين المرتد الملى والفطرى كما فى الاخبار انما هو باعتبار ان التولد على الاسلام والتولد على الكفر ثم الخروج عن الاسلام كاشف عن الارتدادين وقد مضى تحقيق الارتداد فى سورة آل عمران عند قوله ومن يبتغ غير الاسلام دينا، وللاشارة الى ما ذكرنا قال تعالى من بعد ما تبين بالكشف والوحى او بالسماع من صاحب الشكف والوحى لهم: انهم اصحاب الجحيم منقطعوا الفطرة غير مرجوى النجاة يعنى لا قبل هذا التبين.
[9.114]
{ وما كان استغفار إبراهيم لأبيه } عطف لاستدارك ما يتوهم من ان ابراهيم (ع) كان نبيا واستغفر لابيه المشرك { إلا عن موعدة وعدهآ إياه } يعنى كان استغفاره وفاء بوعده وهو خصلة حسنة وكان قبل ان تبين له انه اصحاب الجحيم بقرينة قوله { فلما تبين له أنه عدو لله } اى فطرة بمعنى انقطاع جهة محبته لله وهى اللطيفة الانسانية { تبرأ منه } مع انه كان اقرب قراباته وفسر قوله تعالى الا عن موعدة وعدها اياه بوعد آزر لابنه ان يسلم وهو يؤيد ما ذكرنا لان وعد الاسلام لا يكون الا عن فطرة الانسان { إن إبراهيم لأواه حليم } الاواه الكثير التأوه واكثر ما يكون التأوه اذا كان حزن على فراق محبوب وهو يستلزم كثرة الدعاء والتضرع فى الخلوات وحال العبادات فما ورد من تفسيره بالدعاء او بالمتضرع تفسير باللازم وهو تعليل لاستغفاره.
[9.115]
{ وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم } تكوينا بايصالهم الى مقام الانسانية التى بها يتميز الخيرات والشرور الانسانية او تكليفا بايصالها الى من يبايعهم بيعة عامة او بيعة خاصة وتبين لهم خيراتهم وشرورهم التكليفية { حتى يبين لهم } تكوينا او تكليفا { ما يتقون } ما ينبغى ان يتقوه من شرورهم الانسانية لاتمام الحجة { إن الله بكل شيء عليم } جواب سؤال كأنه قيل ايعلم دقائق ما يضلون ويهتدون به ما يتقون.
[9.116]
{ إن الله له ملك السماوات والأرض } ابتداء كلام غير مرتبط بالسابق او تعليل لعلمه بكل شيء، او تعليل لنسبة الاضلال والهداية والتبيين الى نفسه، او جواب لسؤال عن حالهم مع الله ونسبته تعالى اليهم { يحيي } بالحياة الحيوانية او بالحياة الانسانية { ويميت } هكذا { وما لكم من دون الله من ولي } يتولى اموركم بجلب ما هو خيركم اليكم { ولا نصير } يدفع عنكم شروركم وقد مضى مرارا ان النبى (ص) بولايته هو الولى الذى يتولى امور التابع من اصلاح حاله فى نفسه وبنبوته ورسالته هو النصير الذي ينصر التابع بدفع الشرور عنه، وهذا النفى لدفع توهم يرد على قلب المريد الناقص حيث لا يرى من شيخه المرشد الا بشريته وكذا من شيخه الدليل فيظن انهما بحسب البشرية او بانفسهما يتوليان مستقلين او بالاشتراك مع الله تعليم المريد واصلاحه، فرفع هذا الوهم بحصر ذلك فى نفسه بمعنى انهما فى تولى أمور المريد ليسا الا مظهرين والظاهر المتولى هو الله لا هما وحدهما ولا باشتراكهما مع الله.
[9.117]
{ لقد تاب الله على النبي } وقرئ بالنبى وعلى قراءة على النبى فتوبته تعالى عليه باعتبار توبته على امته اعطاء لحكم الجزء للكل، او لحكم التابع للمتبوع، او التوبة بمعنى مطلق الرجوع لانهم وقعوا فى غزوة تبوك فى الشدة والقحط وشدة الحر وقلة الماء فرجع بالرخاء والراحة وعدم الحاجة الى القتال والصلح على الخراج بدون زحمة القتال { والمهاجرين والأنصار } حيث تخلف بعضهم وكره بعض آخر الخروج الى تلك الغزوة فلحق المتخلفون ورغب الكارهون { الذين اتبعوه } حين خروجه على كراهة او بعد خروجه بلحوقهم له { في ساعة العسرة } فى زمان العسرة فان غزوة تبوك اتفقت فى شدة الحر وزمان القحط مع بعد السفر { من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم } عن اتباعه واعتقاد رسالته وقيل: هم قوم منهم ان ينصرفوا بعد الخروج بدون اذنه فعصمهم الله، وروى ان عدد العسكر فى تلك الغزوة بلغ خمسة وعشرين الفا سوى العبيد والاتباع، وقيل: بلغ عدد جميعهم اربعين الفا { ثم تاب عليهم } بعصمتهم عن الزيغ { إنه بهم رءوف رحيم } الفرق بين الرأفة والرحمة كالفرق بين الاحوال والسجايا فان الرأفة عبارة عما يظهر من آثار الرحمة من النصح والحمل على الخير .
[9.118]
{ وعلى الثلاثة الذين خلفوا } استعمال الخوالف فى النساء والمخلف فى الرجال للاشارة الى ان التخلف شأنهن فتخلفهن لا تعمل فيه، واما الرجال فان شأنهم التهييج للقتال وتخلفهم كأنه كان بتعمل وقبول من غيرهم، ولما فهم العامة من ظاهره ان رسول الله (ص) خلفهم انكر المعصومون (ع) قراءة خلفوا وقرأوا خالفوا والا فقد سبق استعمال المخلف فى المتخلفين المخالفين عند قوله فرح المخلفون والمعنى فرح الذين حملهم الشيطان على التخلف لا الرسول (ص)، والثلاثة المخلفون كانا كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن امية كانوا تخلفوا عن غزوة تبوك واستقبلوا رسول الله (ص) بعد مراجعته، فسلموا عليه فلم يرد عليهم الجواب وأمر اصحابه ان لا يسلموا عليهم ولا يكلموهم ولا يبايعوهم ولا يجالسوهم، فدخلوا المدنية ولا يكلم معهم احد، ودخلوا المسجد فلا يسلم عليهم احد، وجاءت نساؤهم الى رسول الله (ص) وقالت: بلغنا سخطك على ازواجنا؛ انعتزلهم؟ - فقال:
" لا تعتزلنهم ولكن لا يقاربوكن "
، فلما رأوا ما حل بهم قالوا: ما يقعدنا بالمدنية فخرجوا الى الجبال وقالوا: لا نزال فى هذه الجبال حتى يتوب الله علينا، وكان أهلوهم يأتونهم بالطعام فيضعونه عندهم ولا يكلمونهم فلما طال عليهم الامر قال بعضهم: يا قوم سخط الله علينا ورسوله واخواننا واهلونا فلا يكلمنا احد فما لنا نجتمع ولا يسخط بعضنا بعضا، فتفرقوا وحلفوا ان لا يتكلم احد منهم احدا حتى يموتوا او يتوب الله عليهم، فبقوا على هذه الحال فأنزل الله توبتهم على رسوله حين اشتد الامر عليهم { حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت } بعدم تكلم رسول الله (ص) ولا اصحابه ولا اهليهم { وضاقت عليهم أنفسهم } بعدم اجتماعهم وعدم تكلم بعضهم بعضا { وظنوا } اى علموا وأيقنوا واطلاق الظن على العلم لما مر مرارا ان علوم النفس ان كانت يقينيات فهى ظنون لتوجهها الى السفل وتخلف المعلوم وغاياتها عنها بخلاف علوم العقل فان معلوماتها ثابتة وغاياتها غير متخلفة، وهؤلاء لما كانوا قبل قبول توبتهم واقعين فى مرتبة النفس كانت علومهم ظنونا { أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم } رجع بالرحمة والتوفيق عليهم { ليتوبوا } صادقين الى الله فيقبل توبتهم { إن الله هو التواب } كثير المراجعة على العباد بالرحمة والتوفيق سهل القبول لتوبتهم { الرحيم } فلا يدعهم لرحمته ان يدوموا على العصيان.
[9.119]
{ يأيها الذين آمنوا } بعد ما ذم المتخلفين عن رسول الله (ص) رغب المؤمنين فى طاعته وعدم التخلف عنه ليكون اوقع ولان يجمع بين الوعد والوعيد كما هو شأن الناصح الحكيم { اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } اعلم، ان الايمان قد يطلق على الاسلام الحاصل بالبيعة العامة وقبول الدعوة الظاهرة وانقياد النفس والقالب تحت احكام القالب المأخوذة من نبى (ع) او خليفته (ع)، وقد يطلق على الايمان الخاص الحاصل بالبيعة الخاصة الولوية وقبول الدعوة الباطنة وانقياد القلب تحت احكام القلب المأخوذة من صاحب أحكام القلب وهو الايمان حقيقة لصحة سلب اسم الايمان عن الاسلام كما قال تعالى:
قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا
[الحجرات:14] يعنى ما اعتقدتموه ايمانا ليس بايمان بل هو اسلام، والتقوى من سخط الله وعذابه قد تطلق باعتبار مطلق الانزجار عن النفس ومقتضياتها وهو مقدم على الاسلام الحقيقى الذى هو هداية للايمان، وقد تطلق باعتبار الانصراف عن النفس وطرقها الى طريق القلب والسلوك اليه والتقوى بهذا المعنى لا تحصل الا بالايمان الخاص والبيعة الولوية، لان الانسان ما لم يبايع بتلك البيعة لم يتضح له طريق القلب فضلا عن التوجه اليه والسلوك عليه ولم يدخل الايمان فى قلبه، فهذه التقوى لا تحصل قبل الاسلام ولا قبل الايمان بل هى مع الايمان وتكون بعد الايمان الى ان تحصل التقوى من ذاته من غير شعور بتقواه وهو الفناء التام الذى لا فناء بعده وبعده صحو وبقاء بالله واتصاف بصفات الله الحقيقية والاضافية التى هى داخلة تحت اسم الرحمن كما قال تعالى:
يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا
[مريم:85] يعنى بعد انتهاء التقوى لهم صحو واتصاف بصفة الرحمانية التى هى مجمع سائر الصفات الاضافية وباعتبار هذا المعنى خصصوا التقوى بشيعتهم، والصدق لغة وعرفا مطابقة القول اللفظى او النفسى للواقع، وعند اهل الله الناظرين الى الاشياء بما هى عليه الصدق مطابقة الاقوال والافعال والاحوال والاخلاق والعلوم لما ينبغى ان يكون الانسان عليه، ولما هو نفس الامر لما ينتسب الى الانسان بما هو انسان، فان اللطيفة الانسانية مظهر للعقل ان لم تكن محجوبة باغشية الآراء النفسية والكدورات الطبيعية والعقل مظهر لله تعالى ومظهر المظهر مظهر، وما ينسب الى مظهر شيء من حيث انه مظهر ذلك الشيء ينسب الى ذلك الشيء حقيقة ويصح سلبه عن المظهر كما فى قوله تعالى: فلم تقتلوهم فى عين ان القتل كان بأيدهم فسلب نسبة القتل عنهم حيث انهم لغاية الدهشة ونزول السكينة التى هى ظهور الحق تعالى كانوا مظاهر للسكينة والسكينة مظهر لله تعالى فسلب القتل عنهم واثبته للظاهر فيهم وهو السكينة اولا والحق الاول ثانيا فقال: ولكن الله قتلهم اسقاطا لحكم الظاهر الاول ايضا وكذا قوله تعالى:
وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى
[الأنفال: 17] فما هو نفس الامر لما ينسب الى الانسان ان يكون بحيث ينسب حقيقة الى الله ويصح سلبه عن الانسان فما ينسب الى الانسان اذا لم يصح نسبته الى الله تعالى او لم يصح سلب نسبته عنه كان كذبا، وكما ان القول فعل اللسان كذلك الافعال والاحوال والاخلاق والعلوم قول الاركان والجنان، وصيغة الصادق لغة تطلق على من اتصف بصدق ما من غير تعرض لكونه سجية له او عرضيا لكنه غلب فى العرف على من صار الصدق سجية له، فعلى هذا كان الصادق من تمكن فى الانسانية وصار كلما صدر عنه موافقا لما اقتضته انسانيته، وهذا المعنى مخصوص بالانسان الكامل ولذا حصروا الصادقين فى انفسهم، وصيغة الامر من الكون تدل على الاستمرار اذا اطلقت خصوصا اذا كان بعدها ما يدل على المعية المشعرة بالاستمرار وان كان الامر من غير الكون مطلقا عن التقييد بالاستمرار وعدمه اذا اطلق، والمعية تصدق على المصاحبة البدنية البشرية لكن استمرار تلك المصاحبة غير ممكن لافراد البشر حيث تحتاج لبعض ضرورياتها الى المفارقة البدنية على انها لا تفيد فائدة اخروية يعتنى بها اذا لم تقترن بالمصاحبة النفسية، اما سمعت ان اكثر المناقين كانوا اشد مصاحبه للنبى (ص) من سائر الصحابة! وبعضهم سابقا فى الهجرة ومذكورا فى الكتاب بالمصاحبة! ولما كان مصاحبتهم محض المصاحبة البدنية لم تنفعهم فى الآخرة، وتصدق على المصاحبة النفسية مع رقائق الصادقين المأخوين منهم من الفعلية الحاصلة فى نفوس التابعين بسبب البيعة والاتصال الصورى، وقبول الولاية التى هى بمنزلة الانفحة للبن الاعمال وبمنزلة البذر لزرع الآخرة ومن الذكر الذى يلقنهم الصادقون قلبيا كان او لسانيا، فان الذكر المأخوذ من ولى الامر رقيقته ونازلته التى نزلت من مقامه العالى ولبست لباس الذكر القلبى او اللسانى وتحقيق هذا المطلب قد مضى شطر منه، وتصدق على المصاحبة النفسية مع حقائقهم الملكوتية التى يعبر عنها بصورة الشيخ وبالسكينة القلبية وبالفكر والرحمة والنعمة والآية الكبرى والاسم الاعظم وللاشارة الى تينك المعنيين قال تعالى:
الذين هم على صلاتهم دآئمون
[المعارج:23] لان هذا الذكر والفكر صلاة حقيقية والصلاة القالبية صورة تلك الصلاة وقالت الصوفية: ينبغى للسالك ان يكون دائم الذكر والفكر وقيل بالفارسية: " خوشا آنان كه دائم درنمازند " واستمرار تلك المعية امر ممكن وان كان الناقصون من السلاك فى تعسر منه، فمعنى الآية يا ايها الذين أسلموا بالبيعة العامة النبوية اتقوا الله بالبيعة الخاصة الولوية وداوموا على الذكر المأخوذ من الصادقين ان لم تكونوا من اهل الفكر، او على الذكر والفكر ان كنتم من اهل الفكر، او يا ايها الذين آمنوا بالبيعة الخاصة الولوية اتقوا الله فى الانصراف عن طريق القلب وداوموا على الذكر والفكر.
[9.120]
{ ما كان } استيناف لتعليل الامر السابق والمعنى ما ينبغى { لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب } من اهل الشرق والغرب فان ما حول المدينة بالنسبة الى العوالم الاخر تمام الدنيا واهلها ما لم يدخلوا فى الاسلام اعراب كلهم وكذلك ما كان لاهل المدنية القلب والصدر المنشرح بالاسلام ومن حولهما { أن يتخلفوا عن رسول الله } الذى هو اصل فى الصدق، وصدق سائر الصادقين فرع صدقه { ولا يرغبوا بأنفسهم } بسبب محبة انفسهم او فى انفسهم او لا يرغبوا انفسهم على ان يكون الباء للتعدية { عن نفسه ذلك } اى عدم جواز التخلف والرغبة { بأنهم لا يصيبهم ظمأ } عطش { ولا نصب ولا مخمصة } مجاعة { في سبيل الله ولا يطأون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا } من غلبة وقتل واسر ونهب { إلا كتب لهم به عمل صالح } يعنى سواء اصيبوا او اصابوا اثيبوا، وللفرق بين ما عليهم وما لهم اتى بقوله فى سبيل الله بين المتعاطفين كما ان توسط الاستثناء وتعليله بين المتعاطفات كان لذلك وللتأكيد بالتكرير { إن الله لا يضيع أجر المحسنين } يعنى انهم باتباعهم لرسول الله (ص) محسنون والله لا يضيع اجر المحسنين.
[9.121]
{ ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب } ذلك { لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون } يعنى يكتب كلما عملوا لينظر اليها ويجزى كلها بازاء احسنها وليس المراد انه لا يجزى الا احسنها، ويجوز ان يراد هنا انهم يجزون بأحسن مما عملوا. اعلم، ان الانسان كما يكون فى الاستكمال بحسب بدنه من اول صباه يكون فى الاستكمال بحسب نفسه وكل فعل يصدر منه خيرا كان او شرا يحصل منه فعلية له، ولما كان واقعا بين عالمى الملائكة والشياطين، فان لم يتمكن فى احد العالمين لا يمكن الحكم عليه بكونه من اهل الرحمة او اهل العذاب من غير تقييد بشرط البقاء على الاسلام او الكفر، وكان بحسب العاقبة محكوما عليه بكونه مرجى لأمر الله وان لم يكن داخلا فى صنفهم، وان دخل فى احدهما وتمكن فيه صار جميع الفعليات الحاصلة له مسخرة لحاكم ذلك العالم اى العقل او الشيطان وصارت محكومة بحكم احسنها واسوئها، فان احسن الاعمال ما كان الفعلية الحاصلة منه مسخرة لعقل وأسوأها ما كان الفعلية الحاصلة منه مسخرة للشيطان، وغير هذين حسن وسيئ باعتبار قربهما الى العقل والشيطان فاذا صار الفعليات كلها مسخرة للعقل بسبب تمكن صاحبها فى اتباع الاخيار والانقياد لهم كان جزاء كل الاعمال سيئها وحسنها واحسنها بجزاء احسنها، واذا صارت مسخرة للشيطان كان الجزاء بالعكس، وايضا اذا صار الانسان متمكنا فى اتباع الابرار صار محبوبا لله بمنطوق فاتبعونى يحببكم الله واذا صار محبوبا لله صار كل اعماله محبوبة سيئها وحسنها كأحسنها فيجزى الكل بمثل أحسنها، واذا صار مبغوضا صار كل اعماله مبغوضة مثل اقبحها فيجزى بأسوء الذى كان يعمل من اول عمره، وقد حققنا فى موضع آخر ان اسماء الاشياء اسماء لفعلياتها الاخيرة واحكامها ايضا جارية على فعلياتها الاخيرة فمن كان فعليته الاخيرة فعلية الولاية كان جزاء جميع فعلياته جزاء فعليته الاخيرة وجاريا عليها.
[9.122]
{ وما كان المؤمنون لينفروا كآفة } جميعا عطف على ما كان لاهل المدينة واستدراك لما يتوهم من الآية السابقة من لزوم ملازمة النبى (ص) لجميع المؤمنين وعدم جواز التخلف عنه فى حال من الاحوال، مع امتناعه عادة لاختلال معيشتهم وعدم كفاية ما فى يد النبى (ص) بحاجتهم وضيق محله عن سكناهم، وكون الآية استداركا مبتن على تلازم العلم والعمل وان الغاية من جميع الاعمال حصول العلم، وحينئذ فوضع المؤمنين موضع ضمير اهل المدينة للاشارة الى ان ملازمة خدمة النبى (ص) واجبة لاهل الشرق والغرب ما لم يحصلوا الاسلام فاذا حصلوا الاسلام فليس عليهم الا خروج طائفة مستعدة لتلك الملازمة حتى يستكملوا بالعلم والعمل ويستحقوا الاذن فى ارشاد قومهم، واما اذا جعل الآية الاولى فى الجهاد والثانية فى تحصيل العلم فهى عطف من دون اعتبار استدراك { فلولا نفر } الى الجهاد او الى خدمة النبى (ص) او مشايخه لتحصيل العلم { من كل فرقة منهم طآئفة } مستعدون لاستكمال القوتين العلمية والعملية { ليتفقهوا في الدين } ليطلبوا الفقاهة او ليكملوها { ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم } بعد استكمالهم فى القوتين واذنهم فى الارشاد وتعليم العباد. اعلم، ان الفقه كما مر علم دينى يتوسل به الى علم آخر والمقصود العلوم العقلية الانسانية فان العلم الدينى هو العلم الانسانى العقلى عقليا كان او خياليا، لان الانسان بانسانيته طريق الى الآخرة وواقع فى الطريق وسائر عليه ، وحيث انه بانسانيته سالك على الطريق يكون علمه فى الاشتداد والازدياد دون العلم الخيالى الذى يحصل بتصرف الواهمة دون العقل سواء سمى عقليا او خياليا، فانه علم نفسى حيوانى موصل الى الملكوت السفلى صاد على طريق الآخرة وان كان صورته صورة علم الآخرة، فالفقه كما فى الصحيحة النبوية اما علم بالاحكام القالبية المسماة بالسنة القائمة ولا طريق اليها الا الوحى الآلهى لخفاء ارتباطها الى عالم الآخرة وخفاء كيفية ايصالها اليه، واختلافها باختلاف درجات المكلفين بها فهى لا تحصل الا بالاخذ والتقليد من نبى او ممن اخذها منه، واما علم بالنفس واخلاقها واحوالها وهى الفريضة العادلة، واما علم بالعقائد الحقة الدينية وهى الآيات المحكمات لكون كل منها آية وعلامة من الحق تعالى ومبدئيته ومرجعيته؛ هذا اذا جعل العقل ذلك وسيلة الى مقاصده الاخروية، واما اذا جعله الوهم وسيلة الى آماله الدنيوية ومآربه الحيوانية فلم يكن فقها ولا علما واشباه الناس سموه فقها وعلما، والمراد بالتفقه كمال الفقاهة سواء جعل الهيئة للمبالغة او غيرها لانه تعالى غياه بالانذار والمراد بالانذار ما يكون مؤثرا فى المنذر، ولا يكون الانذار مؤثرا فى المنذر الا اذا كان المنذر كاملا فى قوتيه العلمية والعملية، والا فلفظ الانذار كثيرا ما يجرى على لسان غير المتفقه كانذار خلفاء الجور وعلماءهم وقصاصهم ووعاظهم، الذين كانوا يأمرون ولا يأتمرون وينهون ولا ينتهون ويعظون ولا يتعظون ولم يحصل من ذلك الا وبال اتمام الحجة عليهم لا تأثر المخاطبين، ولخفاء كمال النفس فى هاتين القوتين على المتفقه وعلى غيره كانوا يحتاجون فى الانذار والامر والنهى الى الاذن والاجازة من الامام او نائبه وكانت سلسلة الاجازة منضبطة فى سلسلة العلماء الظاهرة والباطنة { لعلهم يحذرون } موبقات انفسهم وقد ورد فى تفسير قول النبى (ص):
" اختلاف امتى رحمة "
؛ انه اختلافهم من البلدان اليه (ص) او الى خلفائه (ع) للتفقه لا اختلافهم فى الدين حتى يكون اجتماعهم عذابا، ويمكن تصحيح ظاهره بان يكون المراد اختلافهم فى كيفية التكليف حيث ان كلا مكلف على قدر مرتبته كما قيل: حسنات الابرار سيئات المقربين، وقد ورد فى تعميم الآية انه يجرى فى النفر بعد وفاة الامام (ع) لتعيين الامام الذى يكون بعده ودرك خدمته وتجديد التوبة والبيعة معه، وقد فسرت ايضا هكذا، فلولا نفر من كل فرقة طائفة للجهاد واقام طائفة ليتفقه المقيمون.
[9.123]
{ يأيها الذين آمنوا } بالايمان العام { قاتلوا الذين يلونكم من الكفار } اى يقربون منكم فان التجاوز عنهم الى الاباعد لا يرتضيه العقل لانه ايقاع للانفس بين الاعداء وترك للاحتياط بالنسبة الى من خلفتموه فى اوطانكم { وليجدوا فيكم غلظة } وشدة بأس حتى لا يجترؤا عليكم { واعلموا أن الله مع المتقين } فاتقوا اغراض النفس فى القتال من المراياة والصيت والغنيمة تنصروا فهو تخصيص على التقوى.
[9.124]
{ وإذا مآ أنزلت سورة } عطف على مقدر كأنه قال لكن اذا امروا بالقتال تثبط بعضهم واذا ما انزلت سورة { فمنهم من يقول } استهزاء { أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا } جواب ورد عليهم من الله { وهم يستبشرون } بنزولها لانهم يرونها نعمة لهم.
[9.125]
{ وأما الذين في قلوبهم مرض } تعريض بالمنافقين { فزادتهم رجسا إلى رجسهم } شكا ووسوسة الى شكهم { وماتوا وهم كافرون } فاستحقوا الخلود.
[9.126]
{ أولا يرون } توبيخ لهم على عدم عبرتهم وعدم توبتهم { أنهم يفتنون } بالبلايا فى ابدانهم وفى انفسهم او يمتحنون بجهاد الاعداء وظهور آثار صدق النبوة بغلبتهم مع عدم تهية اسباب الغلبة { في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون } من نفاقهم وكفرهم وخديعتهم { ولا هم يذكرون } ان الافتتان من الله وانه قادر على عذابهم.
[9.127]
{ وإذا مآ أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض } ذم آخر يعنى اشاروا بأنظارهم استهزاء او غيظا لما يرون فيها من عيوبهم قائلين { هل يراكم من أحد } يعنى ان قمتم وصرفتم من هذا المجلس { ثم انصرفوا } قاموا من مجلس محمد (ص) وانصرفوا عنه غيظا { صرف الله قلوبهم } استيناف، دعاء عليهم او خبار عن حالهم { بأنهم قوم لا يفقهون } لا يدركون ادراكا يوصلهم الى طريق الآخرة ويستعقب ادراكا آخر من امر الآخرة.
[9.128]
{ لقد جآءكم رسول من أنفسكم } من جنسكم بشر او عرب او انسان كامل على ان يكون الخطاب للائمة، وقرئ من انفسكم بفتح الفاء اى من اشرفكم { عزيز عليه ما عنتم } عنتكم { حريص عليكم } على حفظكم وايمانكم { بالمؤمنين رءوف رحيم } التفات من الخطاب الى الغيبة، ووضع الظاهر موضع المضمر اشعارا بعلة الحكم، وعلى تخصيص الخطاب بالائمة فالتصريح بالمؤمنين للتعميم كما ورد عنهم ان من انفسكم فينا، وعزيز عليه ما عنتم فينا، وحريص عليكم فينا، وبالمؤمنين رؤف رحيم شركنا المؤمنون فى هذه الرابعة.
[9.129]
{ فإن تولوا } عنك وعن الايمان بك { فقل حسبي الله } استظهارا به وباعانته { لا إله إلا هو } نفيا للغير فضلا عن الحاجة اليه { عليه توكلت وهو رب العرش العظيم } من قبيل عطف العلة.
[10 - سورة يونس]
[10.1]
{ الر } قد مضى فى اول البقرة وفى مطاوى ما سبق ان امثال هذا من الرموز التى يعبر بها عما عاينه المنسلخ عن هذا العالم من مراتب الوجود وآياته العظمى فيلقيها الملك بالوحى او بالتحديث مشارا بها الى تلك المراتب والآيات، واذا اريد التعبير عن المقصود بها للراقدين فى فراش الطبع يعبر بالمناسبات والتمثيلات كما يظهر الحقائق للنائم بالمناسبات والتمثيلات فيحتاج الى تعبير من خبير بصير، فما ورد فى تفسيرها من كون الالف اشارة الى الله، واللام اشارة الى جبرئيل، والميم والراء اشارة الى محمد (ص)، وكذا ما ورد من ان معناه: انا الله الرؤف، تمثيل محتاج الى التعبير، وما ورد ان الحروف المقطعة فى القرآن حروف اسم الله الاعظم يؤلفها الرسول (ص) او الامام فيدعو بها فيجاب فهو اشارة الى خواصها التى تترتب عليها بحسب اعدادها ونقوشها كما اشير اليه فى الاخبار، او كناية عن اتصافه بحقائقها { تلك آيات الكتاب } اشارة الى المراتب المشهورة المعبر عنها بتلك الحروف ووجوه الاعراب فى امثاله والفرق بين الكلام والكتاب قد سبق فى اول البقرة { الحكيم } ذى الحكمة فى العلم والعمل لان المراد بالكتاب مراتب الوجود من العقول والنفوس وهى ذات حكمة فى العلم والعمل يعنى علمها وعملها مشتملان على الدقائق او المحكم الذى لا نسخ فيه فان المتشابه هو جملة عالم الطبع بحقائقها وآثارها ومنه الكتاب التدوينى وعالم الطبع من حيث ذاته متشابه وان كان من حيث انتسابه الى الله محكما.
[10.2]
{ أكان للناس عجبا أن أوحينآ إلى رجل منهم } لما اعتقدوا ان الرسول لا بد وان يكون مناسبا للمرسل والمناسب لله هو الملك تعجبوا من ادعاء البشر لرسالة من الله واعتقدوا انه فرية عظيمة وهذا حمق وسفاهة منهم، فان الرسول كما يكون مناسبا للمرسل ينبغى ان يكون مناسبا للمرسل اليهم ولا يكون الا من كان ذا شأنين؛ شأن آلهى وشأن خلقى حتى يناسب بشأنية الطرفين فأنكر سبحانه تعجبهم ووبخهم على ذلك { أن أنذر الناس } وضع المظهر موضع المضمر لئلا يتوهم ارادة المتعجبين منهم { وبشر الذين آمنوا } خص البشارة بالمؤمنين لان الانذار عام لهم ولغيرهم والبشارة بنعم الآخرة لا تكون الا للمؤمنين وقد يخص الانذار بالكفار لان انذار المؤمنين لا يكون الا من جهة غفلتهم وكفرهم الخفى { أن لهم قدم صدق } كما يكون سلوك البدن بالمركب او الرجلين كذلك سلوك النفس ومركبها ورجلاها الصدق، فالصدق بحسب الظاهر استعارة تخييلية واثبات القدم له ترشيح وتنكير الصدق وافراد القدم اشارة الى كفاية ثبات قدم واحدة لشيء من الصدق { عند ربهم } لانه يجزيهم بأحسن ما كانوا يعملون فاذا ثبت لهم قدم واحدة من صدق ما فازوا بكلما وعد الله المقربين، وقد فسر فى الاخبار بالشفاعة وبمحمد (ص) وبالولاية والكل صحيح كما عرفت { قال الكافرون } بيان لانكارهم الوحى المستفاد من تعجبهم ولذا لم يأت بالعاطف وجعله جوابا للسؤال عنهم { إن هذا } القرآن او الادعاء من محمد (ص) او تصرفه فى الناس وصرفهم الى نفسه او المجموع { لساحر مبين } كل فعل او قول دقيق يؤثر فى النفوس ولا يعلم سبب تأثيره يسمى سحرا سواء كان بالتصرفات الملكوتية السفلية او العلوية او امتزاجات القوى الروحانية مع القوى الطبيعية او بالتصرفات الطبيعية المحضة.
[10.3]
{ إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش } صرف الخطاب اليهم بعد ما أنكر عليهم ووبخهم مزجا للوعد والوعيد والرحم والغضب كما هو عادته تعالى وعادة خلفائه فى الوعظ والنصح من الشروع فى الانذار والوعيد والختم بالبشارة والوعد، ولذلك ختم بوعد المؤمنين بأبسط وجه وللتباين بينهما لم يأت باداة الوصل، وقد سبق تفسير الآية بتمام اجزائها فى سورة الاعراف { يدبر الأمر } استيناف جواب لسؤال مقدر او حال عن فاعل خلق او استوى منفردا او على التنازع ولما كان خلقة السماوات والارض وكذا استواؤه على العرش امرا قضى بحسب ظاهر الحس والتدبير امرا يحتاج اليه المخلوق ما بقى اداه بالمضارع الدال على التجدد، والامر يقال على كل فعل كما يقال: باى امر اشتغلت؟ وعلى حال الشخص، وعلى طلب الشيء بحكومة، وعلى فعل ذلك الطلب، وعلى المجردات الاله الخلق والامر اشارة اليه، وعلى المشية التى بها خلق الاشياء التى يعبر عنها بوجه بالعرش وبوجه بالكرسى وهى الولاية المطلقة والحقيقة المحمدية (ص)، والتدبير عبارة عن النظر فى ادبار الافعال والاحوال واختيار الاحسن غاية منها، والمقصود ان الذى هو خالقكم غير غافل عنكم ينظر فى اموركم واحوالكم ويختار ما هو خير لكم بحسب دنياكم وآخرتكم، ومنه ارسال رسول من جنسكم، او ينظر فى الامر الذى هو عالم المجردات وكيفية تنزيله الى الماديات فينزله على وفق حكمته وما ننزله الا بقدر معلوم اقتضته قابلياتكم اشارة اليه، ومنه ارسال الملك فانه لا يرسل الملك اليكم بلا واسطة بشر استعد لمشاهدته لانه لو ارسل الى غير المستعد لاهلكه وهو خلاف التدبير والنظر فى عاقبة الامور وهكذا القول فى بيانه ان فسر الامر بالمشية.
تحقيق تعلق الشفاعة ومنها الافتاء للناس على الاجازة من الله
{ ما من شفيع إلا من بعد إذنه } استيناف جواب لسؤال كأنه قيل: اليس لاحد دخل فى امر الناس وحالهم؟ او فى تعلق فعل الله وامره بعالم الطبع؟ ولا شفاعة اصلا؟ - فقال: لا شفاعة الا باذنه ودخل الشفيع باذنه تدبيره تعالى لا غير، او حال متداخلة او مترادفة، والشفاعة ههنا بمعنى مسئلة العفو عن ذى سلطنة لغيره او مسئلة الاحسان اليه وشاع استعماله فى سؤال العفو للغير والشفاعة عند الله غير مختصة بالآخرة كا يظن، بل هى ثابتة فى الدنيا للانبياء (ع) واوصياءهم اذ استغفارهم للتائبين البائعين على ايديهم شفاعة، واستغفارهم بعد ذلك لهم شفاعة، وامرهم بالخير ونهيهم عن الشر ونصحهم ووعظهم كلها نحو شفاعة، فمن اجترأ على امر الخلق ونهيهم وبيان حلال الله وحرامه بالفتيا والوعظ الذى جعلوه صنعة كسائر الصنائع المعاشية والقضاء بين الناس من غير اذن من الله بلا واسطة او بواسطة فقد اجترأ على الله، والاجتراء على الله نهاية الشقاوة وهذا كسر عظيم على من دخل واجترأ على اخذ البيعة من الناس من غير اذن من الله، كما كان ديدن الخلفاء من بنى امية وبنى العباس، وكما اجترأ المتشبهة المبطلة بالصوفية فدخلوا فى ذلك من غير اذن من مشايخ المعصومين (ع)، ولذلك كانت السلف لم ينقلوا الحديث فضلا عن بيان احكام الله بالرأى والظن ما لم يجازوا من المعصوم (ع) او ممن نصبوه، ومشايخ الاجازة واجازة الرواية مشهورة مسطورة وسلسلة اجازتهم مضبوطة، وكذا الصوفية المحقة كانوا لا يدخلون فى الامر والنهى وبيان الاحكام والاستغفار للخلق واخذ البيعة منهم الا اذا اجيزوا وسلاسل اجازاتهم مضبوطة عندهم، وذم الامر بالمعروف والنهى عن المنكر والاقدام على الفتيا والوعظ ممن ليس له باهل خصوصا ممن جعله وسيلة الى اغراضه الفاسدة، من جمع المال والتبسط فى البلاد والتسلط على العباد والصيت وصرف وجوه الناس اليه وادخال محبته فى قلوبهم قد كثر وروده فى الاخبار، اعاذنا الله من هذا العار وحفظنا من شر امثال هؤلاء الاشرار، وقد ورد فى وصف مجلس القضاء: هذا مجلس لا يجلس فيه الا نبي او وصى او شقى، ومعلوم ان الوصاية اذن من النبى (ص) فى التصرف فيما له التصرف فيه من حيث نبوته وماله التصرف فيه من حيث نبوته هو الاحكام الآلهية التى يبلغها الى عباده وحديث: العلماء ورثة الانبياء، يشعر بما ذكرنا، لان الوارثة ليست الا بالولادة الجسمانية او بالولادة الروحانية وليست الولادة الجمسانية مقصودة، والولادة الروحانية لا تحصل بمحض الادعاء بل هى نسبة خاصة واتصال مخصوص ووراثة المتصل بالنبى (ص) بقدر اتصاله وقربه وبعده عن النبى الذى هو مورثه، ولا يحصل اصل اتصال النسبة الروحانية الا بالعمل الصورى والتفاضل فى الاتصال بحسب التفاضل فى القرب الحاصل بمتابعته وقدر الارث يختلف بحسب التفاضل فمن كان له شأن الانوثة كان له قسط من الارث، ومن كان له شأن الذكورة كان له قسطان، والعارف لذلك التفاضل لا يكون الا النبى (ص) او خليفته فوراثته لا تكون الا بايراثه وهو الاذن المذكور { ذلكم } الموصوف بالخالقية والاستواء على العرش الذى هو جملة الاشياء وبتدبير امركم فى البقاء وعدم مداخلة احد فى امركم الا باذنه { الله } خبر او بدل او صفة على تقدير اعتبار معنى الوصفية فيه { ربكم } خبر لذلكم او صفة لله او خبر بعد خبر { فاعبدوه } يعنى اذا كان الله الموصوف بتلك الصفات ربكم فافعلوا له فعل العبيد او صيروا له عبيدا، ولما كان المقصود ترغيبهم فى عبادته لم يصرح بحصر العبادة فى نفسه ونفى استحقاق الغير { أفلا تذكرون } الا تفكرون فيه وفى اوصافه وفى آلهتكم الظاهرة من الاصنام والكواكب وغير المستحقين للنيابة الآلهية وفى آلهتكم الباطنة من اهويتكم الفاسدة واغراضكم الكاسدة فلا تذكرون ان الحقيق بالعبادة والاطاعة هو الله ومظاهره البشرية النائبة عنه لا آلهتكم التى لا جهة استقحاق عبادة فيهم.
[10.4]
{ إليه مرجعكم جميعا } استيناف جواب لسؤال عن العلة او عن حالة مع خلقه وعلى الثانى ايضا يستلزم التعليل { وعد الله } وعد الله وعدا { حقا } مفعول مطلق تأكيد لنفسه ان جعل من قبيل له على درهم حقا، او تأكيد لغيره ان جعل من قبيل: ابنى انت حقا، او حال من وعد الله، والموعود اما ارجاع الكل اليه او بدء الخلق واعادتهم للجزاء { إنه يبدأ الخلق ثم يعيده } بيان للموعود ولذا لم يأت باداة الوصل، او تعليل لرجوع الكل اليه ان جعل الموعود ارجاع الكل اليه { ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط } بالعدل الذى هو لائق من جزاء كل اعمالهم بجزاء احسنها، او ذكر القسط هنا تمهيد لوعيد الكفار للاشارة الى انه لا ظلم معهم وهو لا ينافى المعاملة معهم بالفضل بعد مراعاة القسط، والحق ان حقيقة القسط هو الولاية المطلقة المتحقق بها على (ع)، وان كل قسط يوجد فى العالم انما هو من فروع تلك الولاية، لكن لا يسمى القسط قسطا شرعا الا اذا اتصل الولاية التكوينية بالولاية التكليفية بالبيعة العامة النبوية او بالبيعة الخاصة الولوية، فالقسط شرعا يستلزم الاسلام او الايمان والمنظور ههنا هو ذلك اللازم كأنه قال ليجزى الذين آمنوا بالبيعة العامة او بالبيعة الخاصة وعملوا الصالحات بالبيعة الخاصة وما يشترط فيها، او بامتثال شرائط البيعة الخاصة بالاسلام او بالايمان ويؤيد هذا المعنى موافقته لقرينته فى قوله تعالى: بما كانوا يكفرون، ولم يعين الجزاء تفيخما له بابهامه اشارة الى انه جزاء لائق باعطاءه { والذين كفروا } عطف على الذين آمنوا، وعلى هذا فقوله { لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون } جملة مستأنفة بيان للجزاء او عطف على انه يبدؤ الخلق او على مقدر مستفاد من قوله ليجزى الذين آمنوا (الى الآخر) كأنه قال: فالذين آمنوا (الى آخر الآية) والذين كفروا (الى آخر الآية) وعلى هذا فتغيير الاسلوب للاشارة الى ان جزاء الكفار من الغايات بالعرض وانه ينسب الى انفسهم لانهم اولى بسيئاتهم من الله.
[10.5]
{ هو الذي جعل الشمس ضيآء } استيناف فى معرض التعليل للبدءة والاعادة للجزاء او للتدبير او فى معرض البيان لتدبيره تعالى، ولم يذكر منازل الشمس ولا غاية ايجاد ومنافع سيرها لانها كثيرة لا يحيط بها البيان ولان اكثرها مشهودة للعوام ولعدم شهرة منازل للشمس بخلاف القمر { والقمر نورا } الفرق بين النور والضياء بالعموم والخصوص وحمل الضياء والنور للمبالغة او باعتبار ما يرى منهما من انهما نوران متجوهران { وقدره منازل } قدر له منازل او قدره ذا منازل او سيره منازل { لتعلموا عدد السنين والحساب } فان الاعوام والشهور فى نظر العوام منوطة بدورات القمر دون الشمس { ما خلق الله ذلك إلا بالحق } بسبب الحق او بالغاية الحقة { يفصل الآيات } قرئ بالغيبة والتكلم { لقوم يعلمون } اى نفصلها بالبيان وفى الوجود لقوم لهم صفة العلم.
اعلم، ان الانسان من اول استقرار نطفته فى الرحم بل من اول تولد مادته من العناصر الى زمان بلوغه سالك على الطريقة القويمة الانسانية بتسبيبات آلهية، ومدرك لخيراته بادراك جمادى او نباتى او حيوانى لا بادراك انسانى، ولا يسمى ادراكه ذلك علما كما لا يسمى ارداك غير الانسان من المواليد علما، فاذا بلغ بهذا السلوك او ان بلوغه واستغلظ فى بدنه ونفسه وحصل له العقل الذى هو مدرك خيراته وشروره الانسانية، فان كان ادراكه للاشياء بقدر مرتبته الدانية وقوته الضعيفة من حيث انها دوال قدرته تعالى وآيات حكمته واسباب توجهه وسلوكه الى الحق القديم سمى اداركه ذلك علما، وان لم يكن ادراكه كذلك بل يدرك الاشياء مستقلات فى الوجود ولم يدركها من حيث انها متعلقات دالات على صانعها لم يسم علما، بل يسمى جهلا مشابها للعلم، مثل ان يرى احد من بعيد ظلا لشاخص ويظن ان الظل شاخص مستقل فى الوجود، وهذا كما يجرى فى الآيات الجزئية الآفاقية والانفسية يجرى فى الآيات القرآنية والاخبار المعصومية والاحكام الشرعية خصوصا فى حق من جعلها وسائل للاغراض الدنيوية، والحاصل ان كل ادراك يكون سببا لسلوكه الفطرى على الطريق الانسانى ولاشتداد مداركه الانسانية وازدياد ادراكاته الاخروية يسمى علما، وكل ادراك يكون سببا لوقوفه عن السلوك او لرجوعه عن الطريق الى الطرق السفلية الحيوانية يكون جهلا بل الجهل الساذج يكون افضل منه بمراتب؛ اذا تقرر هذا فتفصيل الآيات تكوينا وتدوينا لا يكون الغرض منه الا ادراك من له صفة العلم لعدم انتفاع الغير به.
[10.6]
{ إن في اختلاف الليل والنهار } جواب لسؤال ناش عن السابق وهكذا الجمل المذكورة فيما بعد التى لا عاطف فيها { وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون } لما كان الشمس والقمر من الآيات الظاهرة علق كونهما آية على صفة العلم التى هى اول مراتب الانسانية بخلاف سائر المخلوقات وبخلاف اختلاف الليل والنهار ولذلك علق كونهما آية على التقوى التى مرتبتها فوق مرتبة اصل العلم فان التقوى عما يتقى بعد العلم بما يتقى.
[10.7]
{ إن الذين لا يرجون لقآءنا } جواب لسؤال ناش عن تعليق الآيات على العلم والتقوى، وعدم رجاء اللقاء كناية عن عدم العلم فان العالم بالله طالب للقائه والطالب راج كما ان قوله { ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها } كناية عن عدم التقوى لان الاطمينان بالحياة الدنيا مضر بالحياة العليا ومفنيها { والذين هم عن آياتنا غافلون } من قبيل عطف المسبب على السبب.
[10.8]
{ أولئك } تكرار المسند اليه والتعبير عنه باسم الاشارة لتصويرهم واستحضارهم بالاوصاف المذكورة { مأواهم النار بما كانوا يكسبون } فان الغافل كلما كسب كان جاذبا له الى السفل والجحيم وان كان كسبه صورة الصلاة والصيام.
[10.9]
{ إن الذين آمنوا } بالبيعة العامة او بالبيعة الخاصة { وعملوا الصالحات } اى البيعة الخاصة وشرائطها او شرائط البيعة الخاصة والاعمال التى كلفوا بها فيها { يهديهم ربهم } المضاف الذى هو ولى امرهم الى ملكه وولايته على الاول والى ملكوته على الثانى { بإيمانهم } باسلامهم او بايمانهم الخاص او يهديهم فى الآخرة الى الجنة { تجري } حال او مستأنف جواب سؤال { من تحتهم الأنهار في جنات النعيم } متعلق بتجرى او ظرف مستقر حال متداخلة او مترادفة او مستأنف جواب لسؤال مقدر بتقدير مبتدء محذوف.
[10.10]
{ دعواهم فيها سبحانك اللهم } مستأنف او حال من جنات النعيم او من المؤمنين على الترادف او التداخل { وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } ان هى المخففة. اعلم، ان فى الآية اشارة اجمالية الى درجات المؤمنين ومقامات السالكين فان، آمنوا اشارة الى البيعة الاسلامية، وعملوا الصالحات الى البيعة الايمانية والاعمال القالبية والقلبية او المجموع الى البيعة النبوية والاعمال القالبية، ويهديهم الى البيعة الولوية الايمانية والاعمال القلبية والسلوك من مقام النفس الى مرتبة القلب، وتجرى من تحتهم الانهار اشارة الى سيرهم فوق مرتبة القلب فى مراتب الروح والعقل، ودعويهم فيها سبحانك اللهم اشارة الى انتهاء سيرهم وآخر مراتب فناءهم وهو فناؤهم عن ذواتهم وعن فنائها، وتحيتهم فيها سلام اشارة الى بقاءهم بالله فى الله من غير صحو وبقاء فان فيه السلامة على الاطلاق { وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } اشارة الى حشرهم الى اسم الرحمن وبقاءهم بالله فى الخلق لتكميل الغير، وبعبارة اخرى اشارة الى اسفارهم الاربعة اى السفر من الخلق الى الحق بقوله: آمنوا وعملوا الصالحات، والسفر من الحق الى الحق بقوله: يديهم (الى) سبحانك اللهم، والسفر فى الحق بقوله تحيتهم فيها سلام، والسفر بالحق فى الخلق بقوله وآخر دعواهم، رزقنا الله وجميع المؤمنين.
[10.11]
{ ولو يعجل الله للناس الشر } عطف على ان الذين لا يرجون لقاءنا وتخلل ان الذين آمنوا غير مخل بالوصل والعطف لانه جواب لسؤال ناش عن المعطوف عليه فكأنه من متعلقاته كأنه قال: ان الذين لا يرجون لقاءنا حالهم كذا مع ان حال المؤمنين كذا ولو عجلنا لهم الشر الذى استحقوه لم يبقوا فى الدنيا متمتعين { استعجالهم بالخير } تعجيلا مثل تعجيله لهم الخير فالباء للتعدية او مثل حثه وحمله اياهم على العجلة فى الخير او بالخير فالباء بمعنى فى او للسبية او مثل عجلتهم فى الخير او بسبب الخير { لقضي إليهم أجلهم } لاقضى اليهم قضاء مدتهم التى اجلوا فيها او لاقضى اليهم آخر عمرهم الذى اجلوا اليه { فنذر الذين لا يرجون لقآءنا في طغيانهم يعمهون } عطف على لو يعجل الله باعتبار المعنى اى لم يعجل فنذر الذين لا يرجون او جزاء شرط محذوف اى اذا لم نقض اليهم اجلهم فنذرهم فى طغيانهم.
[10.12]
{ وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه } حال كونه على جنبه فاللام بمعنى على والمقصود مطلق القاء البدن على الارض سواء كان على الجنب او الظهر او الوجه ويعبر بالالقاء على الجنب عن مطلق احوال الالقاء كثيرا فى العرب والعجم { أو قاعدا أو قآئما } اى فى جملة الاحوال فلفظة او لتفصيل الاحوال { فلما كشفنا عنه ضره } كان المناسب ان يقول فاذا كشفنا حتى يصح تعقيبه للشرط المستقبل لكنه اداه بالشرط الماضى اشارة الى ان مسيس الضر والدعاء عقيبه سجية للانسان مستغرق للماضى والمستقبل كأنه قال: اذا مس الانسان الضر دعانا وقد مسه الضر فدعانا فلما كشفنا عنه ضره { مر كأن لم يدعنآ إلى ضر مسه } كناية عن اعراضه وعدم عنايته بشأن من كان محتاجا اليه ومتنعما به وقد صار هذه العبارة مثلا فى العرب والعجم فى هذا المعنى اذا ذكر بعده ما يدل على تشبيه حال المحتاج بغير المحتاج { كذلك } اى مثل ما زين للمكشوفى الضر اعمالهم حتى لا يبالوا بمن دعوه لكشفه وغفلوا عنه { زين للمسرفين ما كانوا يعملون } من اتباع الشهوات والانهماك فيها حتى وقعوا فى الغفلات.
[10.13-15]
{ ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا } انفسهم بالغفلة وعدم المبالاة بسخط الله ومكره وهو تهديد للغافلين { وجآءتهم رسلهم بالبينات } فما اكترثوا بهم وببيناتهم لغاية غفلتهم { وما كانوا ليؤمنوا } لغاية غفلتهم وانهماكم فى الشهوات لتزيين الشيطان لهم اعمالهم الشهوية { كذلك نجزي القوم المجرمين ثم جعلناكم خلائف } اى خلائف لنا او للاسلاف { في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقآءنا ائت بقرآن غير هذآ } وهم الواقعون فى جهنام النفس والنفس كالمرأة الخبيثة لا ترضى بوضع يحصل لها وتتمنى دائما غير الوضع الذى هو حاصل لها وهؤلاء باقتضاء فطرة النفس سئلوا تبديل القرآن { أو بدله } يعنى اترك هذا القرآن وائت بمكانه قرآنا نرتضيه، او غيره بتبديل ما لا نرتضيه الى ما نرتضيه { قل ما يكون } ما يصح { لي أن أبدله } اى اغيره بترك اصله او بتدبيل آياته او اقتصر على الامتناع عن التبديل ليدل على ان تركه اصلا اولى بالامتناع { من تلقآء نفسي } بدون امر ربى { إن أتبع إلا ما يوحى إلي } يعنى ليس لى نفسية وامر نفس واتباع لامر النفس لان شأنى واتباعى مقصور على امر ربى { إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم } جواب سؤال عن العلة وتعريض بهم حيث يعصون ولا يخافون.
[10.16]
{ قل لو شآء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به } اى لا اعلمكم الله به على لسانى يظن فى بادى النظر ان حق العبارة ان يقال: لو لم يشأ الله ما تلوته حتى يفيد ترتب عدم التلاوة على عدم المشية ويستفاد من مفهومه ترتب التلاوة على المشية، ومفاد الآية ترتب عدم التلاوة على المشية واستلزامه بحسب المفهوم لترتب التلاوة على عدم المشية والحال ان الوجودى يحتاج الى العلة الوجودية والعدم لا علة له، وما قالوا: علة العدم عدم، فهو من باب المشاكلة ولو سلم فيقتضى تعليق عدم التلاوة على عدم المشية لا على نفس المشية، والجواب انه تعالى اراد ان يشير الى انه لا شأن له (ص) عدميا كان او وجوديا الا وهو متعلق بمشية الله والعدم الصرف وان كان لا علة له ولا تعلق له بشيء، لكن الاعدام الشأنية اى اعدام الملكات كالوجوديات تقتضى علة وتعلقا واذا كان عدم تلاوته مع انه عدمى متعلقا بمشيته تعالى فتلاوته كانت متعلقة بالطريق الاولى، لانها حادثة وجودية مقتضيته للعلة والتعلق، ومفهوم الآية تعلق التلاوة بعدم مشية عدم التلاوة وهو اعم من مشية التلاوة او عدم المشية مطلقا { فقد لبثت } الفاء عاطفة على لو شاء الله ما تلوته بملاحظة المعنى مع اشعاره بالسببية للاثبات كأنه قال: تلوته بمشية الله لا بمشيتى وادعائى ذلك بسبب لبثى فيكم وعدم ظهور مثل ذلك منى، كأنه اشار بتلك السببية الى قياسين اقترانيين من الشكل الاول وقياس استثنائى مأخوذ من نتيجة القياس الثانى واستثناء نقيض تاليه ترتيبه هكذا: لو لم يكن القرآن باتباع الوحى ومشية الله لكان باختلاق من تلقاء نفسى وكلما كان باختلاق من تلقاء نفسى ظهر مثل ذلك منى قبل ذلك؛ ينتج لو لم يكن بمشية الله لظهر مثله قبل ذلك وكلما ظهر مثله قبل ذلك شاهدتموه وسمعتموه ولكن لم تشاهدوه منى فقد لبثت { فيكم عمرا من قبله } قبل القرآن مدة اربعين سنة لا يظهر عنى امثال ذلك، وما سمعتم منى { أفلا تعقلون } لا تدركون بعقولكم او لا تتصرفون فى مدركاتهم بعقولكم او تصيرون عقلاء.
[10.17]
{ فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته } تعريض بنفسه وبهم على سبيل الترديد على طريقة الانصاف مع الخصم بعد ما اثبت كونه غير مفتر كأنه قال: ان كنت مفتريا على الله كما تكنون بذلك فانا اظلم الناس وان كنت آتيا بآيات الله وتكذبونها فانتم اظلم الناس، او تعريض بكلتا الفرينتين بهم ويكون او للتفصيل لا للتشكيك كأنه قال بعد ما اثبت انى غير مفتر: فانتم اظلم الناس من جهة افترائكم على الله بنصب الآلهة لانفسكم وبتكذيب آياته { إنه لا يفلح المجرمون } فى موضع التعليل.
[10.18-19]
{ ويعبدون } عطف بملاحظة المعنى المقصود بالتعريض يعنى هم يفترون ويكذبون ويجرمون ويعبدون { من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم } من الاصنام والكواكب عبادة العبيد ومن الاهوية والآراء والشياطين عبادة اتباعية، ومن غير من نصبه الله من رؤساءهم الدنيوية او رؤساءهم الدينية بزعمهم عبادة طاعة، والمقصود من نفى الضر والنفع نفى ما يتوهمونه ضرا ونفعا مما يؤل الى دنياهم من غير نظر الى عبادتهم والا فهى بعبادتهم اياها تضرهم غاية الضر ويقولون { هؤلاء شفعاؤنا عند الله } كما يقول الوثنى: ان اصنامنا شفعاؤنا عند الله، وكما يقول اكثر الصابئين: ان الكواكب شفعاؤنا، وبعض يقول: هى قديمة مستقلة فى الآلهة، كما يقول الزرداشتيون: النار تشفعنا عند الله، وكما يقول المطيعون لمن يزعمونهم رؤساء الدين: هؤلاء وسائط بيننا وبين الله، وكما يقول المتبعون للاهواء والشياطين فى صورة الاعمال الشرعية الصادرة من اتباع النفس والشياطين: هى وسائل بيننا وبين الله واسباب قربنا الى الله والحال انها وسائل الشيطان واسباب القرب الى الجحيم والنيران { قل } استهزاء { أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض } بالشفعاء من حيث شفاعتهم او بشفاعتهم يعنى ان ما فى السماوات والارض معلوم له وما ليس معلوما له فيهما فلا يكون { سبحانه وتعالى عما يشركون وما كان الناس إلا أمة واحدة } يعنى قبل بعثة الرسل البشرية كانوا على مقتضيات شهوات النفوس آمة لها متوجهة اليها وبعد بعثة الرسل انصرف طائفة عنها الى ما دعتهم الرسل اليه من الخيرات الاخروية الانسانية وابى طائفة { فاختلفوا } وقبل بعثة الرسل الباطنة من العقول كانوا على مقتضيات النفوس الحيوانية آمة لها وبعد بعثة الرسل الباطنة انصرف طائفة من قواهم الى ما دعتها الرسل اليه وبقيت طائفة فاختلفوا وتنازعوا وتقاتلوا { ولولا كلمة سبقت من ربك } كلمة امهالهم وآجالهم المؤخرة المعينة سبقت فيما كتبه الملك المصور فى أرحام أمهاتهم او سبق ثبتها فى الالواح والاقلام العالية { لقضي بينهم فيما فيه يختلفون } لحكم باظهار الحق والباطل وتميز الحق عن المبطل.
[10.20]
{ ويقولون } استهزاء واستظهارا { لولا أنزل عليه } اى على محمد (ص) { آية من ربه } مما اقترحناه او مما يدل على رسالته { فقل } الفاء جواب شرط محذوف او متوهم اى اذا قالوا فقل { إنما الغيب لله } علم الغيب مختص به فلا اعلم انا ولا انتم ما يترتب على انزال الآية من المفاسد والمصالح وهو يعلم فلا ينزل الآية لما فيها من المفاسد وفى تركها من المصالح او عالم الغيب ملك الله ليس لى تصرف فيه ولا تسلط عليه حتى اجيب مقترحكم او انزل منه ما اريد، فانا وانتم سواء فى ذلك { فانتظروا } نزول الآية والفاء مثل سابقه { إني } مثلكم { معكم من المنتظرين } ويحتمل ان لا يكون قوله فقل انما الغيب (الآية) مماشاة معهم بل يكون تهديدا لهم على استهزاءهم والمعنى ان الغيب لله ينزل منه ما يشاء من عذابكم وعذابى والرحمة بكم وبى فانتظروا نزول عذابه انى معكم من المنتظرين ويؤيد هذا المعنى تهديدهم بالآية الآتية { وإذآ أذقنا الناس رحمة }.
[10.21]
{ وإذآ أذقنا الناس رحمة } سعة وصحة وأمنا فانها من آثار الرحمة وان كانت قد تصير نقمة او هى رحمة فى انظارهم القاصرة عن ادراك الغايات { من بعد ضرآء مستهم } وهى ضد المذكورات { إذا لهم مكر في آياتنا } الكبرى البشرية او الصغرى الآفاقية والانفسية والتدوينية فان الانسان ليطغى ان رآه استغنى، والمكر فى الآيات الكبرى بالاضرار بالحيل الخفية، وفى الآيات الصغرى فى المعجزات بحملها على السحر ونحوه من الوجوه الخفية، وفي غيرها باخفائها وتلبيسها على الغير او تأويلها على مقتضى شهواتهم { قل الله أسرع مكرا } انفذ مكرا واسبق مكرا فان مكركم فى الآيات فى الحقيقة مكر الله فيكم فمكره اسبق من مكركم فى كل حال ونسبة المكر الى الله من باب المشاكلة او المشابهة والا فالماكر يقال للعاجز عن اعلان المخاصمة المنصرف عنه الى اخفائها { إن رسلنا يكتبون ما تمكرون } تهديد لهم بظهور ما يظنونه خافيا عليه بواسطة الرسل وصرف للخطاب عنه (ص) اليهم والتفات من الغيبة الى التكلم ليكون ابلغ فى الانذار على قراءة تمكرون بالخطاب وهو جواب سؤال ناش عن سابقه كأنه قيل: هل الله يعلم ما نمكر حتى يمكر بنا.
[10.22]
{ هو الذي يسيركم } بمنزلة التأكيد والاضراب من غير الابلغ الى الابلغ فى الجواب كأنه قال: بل نعلم ما تمكرون بدون واسطة الرسل وانتم بحسب الفطرة تعملون ذلك لانا نحن الذى نسيركم، والتسيير يستلزم العلم بدقائق احوال المسير والمسير فيه والمسير له وانتم اذا رفع عنكم غشاوة الخيال تعلمون ذلك، لانكم تدعونه وقت انقطاع الوسائل وحيل الخيال عنكم فتعلمون انه هو الذى يعلم حالكم ودعاءكم ويقدر على اجابتكم ورفع البلاء عنكم فتدعونه مخلصين عن اغراض الخيال، لكنكم اذا رفع عنكم البلاء وتسلط عليكم الخيال احتجب بأغراضكم الخيالية واهويتكم النفسانية معلومكم الذى تكونون مفطورين عليه فتشركون به غيره، فهو تأكيد للجواب وتفظيع لهم بالتبع، والمراد بتسييره تعالى تمكينه اياهم من السير بتهية اسبابه الداخلة من قواهم العلامة والعمالة والخارجة من تسطيح الارض وتسخير المراكب وجعل ما يحتاج اليه من المأكول والمشروب والملبوس مما يمكن نقله، او نقول لكل متحرك لا محالة والمحرك الاول فى الحركات الاختيارية هو النفس المسخر لها القوى والنفس بالنسبة الى الله تعالى مثل القوى بالنسبة الى النفس لا استقلال لها فى شأن من شؤنها، فكما ان فعل القوى ينسب الى النفس حقيقة بل النفس اولى بنسبتها من القوى فكذلك فعل النفس بالنسبة الى الله تعالى فالمسير وان كان هى النفس اولا لكنه الحق الاول تعالى حقيقة والنفس كالآلة له؛ فصح نسبة التسيير اليه تعالى بطريق الحصر { في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها } التفات من الخطاب الى الغيبة { جآءتها ريح عاصف وجآءهم الموج من كل مكان } من امكنة البحر يعنى من جميع جوانب السفن { وظنوا } أيقنوا لما مر مرارا ان علوم النفس ان كانت يقينة فهى ظنون، او المراد حقيقة الظن لان ظاهر الامواج وان كان مورثا ليقينهم لكن رجاءهم بالغيب المفطور على العلم به وبقدرته على انجائهم مورث لاحتمال الانجاء { أنهم أحيط بهم } اى اهلكوا والتأدية بالماضى للاشارة الى تحققه كأنه وقع وهذا يؤيد كون الظن بمعنى اليقين وهو صار مثلا فى الهلاك، واصله من قولهم: احاط به العدو فلا سبيل للخلاص له ولا مسلك للخروج { دعوا الله } بدل من ظنوا بدل الاشتمال، او جواب سؤال مقدر كأنه قيل: ما فعلوا؟ { مخلصين له الدين } طريق الدعاء او طريق النفس الى الله او اعتقادهم التوحيد وسائر عقائد الدين او ملتهم التى أخذوها دينا من نبيهم ووجه الاخلاص قد مضى من ان تسلط الخيال وتصرفه يورث الشرك الظاهر والباطن وحين تراكم البلاء وتلاطم امواجه ينقطع حيله ويفر ويقول كالشيطان:
إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله
[الأنفال:48] رب العالمين فيبقى التوحيد الفطرى بلا معارض ولا حجاب { لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين } تفسير للمدعو به المحذوف تقديره: دعو الله بشيء لئن انجيتنا، او مفعول لقول محذوف حالا.
[10.23-24]
{ فلمآ أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض } يعنى خرجوا من الشكر ونكثوا حلفهم ونقضوا عهدهم لعود الخيال وحيله واغشيته اليهم بغى عليه عدا وظلم، وبغى وعدل عن الحق واستطال وكذب، وبغى فى مشيه اختال واسرع، وبغاه طلبه والكل مناسب ههنا { بغير الحق } تقييد للبغى باى معنى كان قد يكون بالحق مثل ما يرى من اهل الحق من التجاوز عن الحد وصورة الظلم والعدول عن الحق تقية والاستطالة والكذب فى موقعه والاختيال فى محله وطلب الدنيا بامر الرب { يأيها الناس } بعد ما ذمهم بالنكث والبغى توجه اليهم بالنداء وذكر ان وبال بغيهم راجع عليهم ليكون اردع { إنما بغيكم على أنفسكم } لا يتعداها فى الحقيقة الى غيركم فان الانسان ما لم يفسد قوى نفسه بصدها عن مطاوعة العقل لا يفسد غيره، وافساده غيره وان كان افسادا له ظاهرا لكنه اصلاح له حقيقة، فيبقى البغى افسادا لنفس الباغى فقط وعلى هذا فعلى انفسكم خبر عن بغيكم ويحتمل وجوها من الاعراب وهى كون بغيكم بمعنى او بتضمين معنى يقتضى التعلق بعلى وكون الجار متعلقا به { متاع الحياة الدنيا } بالرفع خبرا عنه او على انفسكم خبرا ومتاع الحياة الدنيا بعد خبر، او خبر مبتدء محذوف حالا من المستتر فى الظرف او مستأنفا، وعلى قراءة نصب متاع الحياة الدنيا فالخبر هو الظرف ومتاع الحياة الدنيا نائب عن مصدر بغيكم، او مصدر لفعل محذوف حالا او مستأنفا، او منصوب على الذم اى اذم متاع الحياة الدنيا، وعلى قراءة نصب المتاع يحتمل كونه مفعولا لبغيكم ايضا، ويحتمل وجوها اخر بعيدة مثل كون الظرف لغوا ومتاع الحياة الدنيا بالرفع او بالنصب بوجوه كونه غير خبر والخبر محذوفا مثل محذور او ثقل ووبال { ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون إنما مثل الحياة الدنيا } جواب سؤال ناش عن ذم متاع الحياة الدنيا { كمآء } كمثل ماه { أنزلناه من السمآء فاختلط به نبات الأرض } اختلاط النباتات كثرتها وتداخل انواعها المختلفة بعضها خلال بعض { مما يأكل الناس والأنعام حتى إذآ أخذت الأرض زخرفها } الوان نباتها فان زخرف الارض الوان نباتها { وازينت } تزينت باصناف النبات وازهارها واخضرارها واختلاف الوان رياحينها واشكالها واختلاطها بحيث يعجب الناظر اليها { وظن أهلهآ } اهل الارض او اهل الزخرف فانه باعتبار معناه الذى هو الوان النبات اذا اضيف الى الارض يجوز ارجاع ضمير المؤنث اليه { أنهم قادرون عليهآ } على الارض بانباتها وانماء نباتها وابقائه الى ان انتفعوا به او على الزخرف بانباتها وانمائها وابقائها ذلك لكمال غفلتهم واغترارهم بتدبيرهم { أتاهآ } اتى الارض او الزخرف { أمرنا } باهلاكها واستيصالها بالعاهات والآفات { ليلا أو نهارا فجعلناها } اى الزخرف { حصيدا } محصودة والفعيل بمعنى المفعول يستوى فيه المذكر والمؤنث وهو فى اللغة اسم لما حصده الانسان بالحديد لكنه صار مثلا فى كل ما استوصل بحيث لم يبق منه شيء { كأن لم تغن } لم تقم او لم تكن { بالأمس } يعنى قبل ذلك الزمان فهو ايضا صار مثلا فى الزمان القريب، اعلم، ان هذه التمثيل من احسن اقسامه لتطابق جميع اجزاء الممثل به والممثل له فى التشبيه حيث ان النفس الانسانية النازلة من سماء الارواح كالماء النازل من السماء الدنيا وبدن الانسان كالارض فى استقرار النفس والماء وقواه كنبات الارض فى اختلاف انواعها واغترار الانسان بقوة قواه واشتدادها كاغترار اهل الارض بزخرفها واستيصال قوى الانسان بالاجل كاستيصال اصناف النبات بالآفة { كذلك نفصل الآيات } آيات العالم الكبير والعالم الصغير { لقوم يتفكرون } يتسعملون قوتهم المتصرفة فى معلوماتهم بالضم والتفريق التى تسمى باعتبار استخدام العاقلة لها مفكرة وباعتبار استخدام الواهمة متخيلة، فان التفكر هو استعمال المفكرة او المتخيلة فى التصرف فى المعلومات، وامثال هذه الآيات المتراكمة المتداخلة المتوافقة المتخالفة لا يدركها الا من كان عالما متفكرا.
[10.25]
{ والله يدعوا إلى دار السلام } عطف على نفصل الآيات او على كذلك نفصل الآيات ومقتضى المقام ان يقول وندعو الى دار السلام ليتوافق المتعاطفان فى الفعلية وفى المسند اليه لكنه عدل عن التكلم وعن الفعلية الى الاسمية ولذا يتراءى المنافرة بين المتعاطفين للاشارة الى علة الحكم وان الآلهية تقتضى ذلك، وتقديم المسند اليه لتأكيد الحكم ولشرافته وللاشارة من اول الامر الى علة الحكم، ودار السلام دار الله لان السلام من اسمائه تعالى، او دار السلامة من جملة الآفات البدنية والنفسانية، ولما كان الدعوة عامة بخلاف الهداية الخاصة اطلق هذه وقيد الهداية { ويهدي من يشآء إلى صراط مستقيم } والمراد بالدعوة الدعوة الظاهرة الجارية على السنة الانبياء ولذا كانت عامة وبالهداية الهداية الخاصة الى ولى الامر وهو الصراط المستقيم ولذا اتى بها بعد الدعوة، لان تلك الهداية تكون بعد قبول النبوة والبيعة العامة النبوية وقيدها بمن يشاء لان الدعوة الباطنة والبيعة الخاصة خاصة بمن شاء ان يتخذ الى ربه سبيلا.
[10.26-28]
{ للذين أحسنوا الحسنى } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: ما لمن انتفع بالآيات وقبل الدعوة واهتدى؟ - فقال: للذين احسنوا منهم العاقبة الحسنى، او المثوبة الحسنى، واصل الاحسان قبول الولاية وكل قول وفعل وحال وخلق يكون للانسان من جهة الولاية كان احسانا لان الحسن الحقيقى هو الولاية المطلقة التى مظهرها على (ع)، والولايات الجزئية حسنة بحسنها وكل من اتصل بالبيعة الخاصة بعلى (ع) بلا واسطة او بواسطة الاولياء الجزئية صار ذا حسن، وهو المراد بالاحسان هنا، ومن صار ذا حسن ولم ينقطع حبل اتصاله ولا ينقطع الا نادرا اتصل اتصاله البشرى بالاتصال الملكوتى والجبروتى بملكوت على (ع) وجبروته، وهو العاقبة الحسنى والمثوبة الحسنى لا احسن منها { وزيادة } هى لوازم الاتصال بملكوت ولى الامر من الراحة فى الدنيا والخلاص من آلامها والجنة ونعيمها فى الآخرة، واختلاف الاخبار فى تفسيرها يرفعه ما ذكرنا { ولا يرهق وجوههم } لا يغشيها { قتر } غبرة فيها سواد { ولا ذلة } وهما كناية عما يعروها من اثر الحزن وشدة الحاجة وذلك لما عرفت من ان المتصل بملكوت ولى الامر ليس له الم حزن ولا حاجة { أولئك } التأدية باسم الاشارة البعيدة للتفخيم ولتصويرهم بما ذكر من الاوصاف { أصحاب الجنة هم فيها خالدون والذين كسبوا السيئات } عطف على جملة للذين احسنوا الحسنى من قبيل عطف الجملة او على الذين احسنوا الحسنى بتقدير اللام من قبيل العطف على معمولى عاملين مختلفين عطف المفرد وهو اولى لموافقته لسياق الكلام ولسلامته عن الحذف { جزآء سيئة بمثلها } قد سبق ان السيئة لما كانت مخالفة لمقتضى الفطرة لا تقوى على تنزيل الانسان زيادة على قدر قوتها، والحسنة لما كانت موافقة لفطرته ترفعه زائدا على قدر قوتها عشر امثالها الى سبعمائة والله يضاعف لمن يشاء { وترهقهم ذلة ما لهم من الله } من سخط الله او من جانب الله { من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما } لغاية الحزن وشدة الالم { أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ويوم نحشرهم } يعنى المؤمنين والكافرين، او الكافرين وشركاءهم، او المؤمنين وأئمتهم والكافرين وشركاءهم { جميعا } عطف على محذوف متعلق بالجمل السابقة من قوله للذين احسنوا الى اغشيت وجوههم اى فى الدنيا او يوم الموت او يوم الرجعة ويوم نحشرهم او المعطوف والمعطوف عليه كلاهما محذوفان والتقدير ذكرهم بما ذكر وذكرهم يوم نحشرهم او متعلق بزيلنا على تقدير اما او توهمه او زيادة الفاء، او متعلق بزيلنا المذكور تفسيره { ثم نقول للذين أشركوا } بالله او بالولاية { مكانكم } الزموا ولا تبرحوا او هو اسم فعل و { أنتم } تأكيد للمستتر فيه تصحيحا للعطف عليه { وشركآؤكم } فى الالهة او فى العبادة او فى الولاية او فى الطاعة او فى المحبة او فى الوجود { فزيلنا بينهم } اوقعنا التفرقة بين المؤمنين والكفار او بين الكفار وشركاءهم { وقال شركآؤهم } باحد الوجوه { ما كنتم إيانا تعبدون } المراد بالعبادة ههنا اعم من العبادة المعروفة، او المراد بشركاؤهم الشركاء فى العبادة لانهم فى الحقيقة عبدوا اهواءهم ومن عبادة اهواءهم تولد عبادة الشركاء الظاهرة.
[10.29]
{ فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم } عطف على ما كنتم ولما كان مرتبة الاستشهاد بعد ابراز الدعوى عطفه بالفاء واستشهد شركاءهم بالله على نفى عبادة المشركين لهم، لانه كان العالم بحقيقة الحال وانهم بعبادة الشركاء واطاعتهم ما كانوا عابدين الا اهويتهم وما ارادوا بذلك الا حصول مشتهياتهم فهم كانوا عابدين لانفسهم الخبيثة مصدرا ومرجعا، اعاذنا الله من ان يقول يوم العرض لنا: ما كنتم اياى تعبدون، لان الداعى لعبادتكم كان اهوتيكم لا امرى والمقصود كان حصول اغراضكم لارضاى { إن كنا } ان هى المخففة { عن عبادتكم لغافلين } نفوا دعوى المعبودية لانفسهم كما نفوا عبادة المشركين لهم.
[10.30]
{ هنالك } المقام او الزمان { تبلوا } تختبر { كل نفس مآ أسلفت } فتعرف حقها عن باطلها او صحيحها عن سقيمها وجيدها عن مغشوشها لحدة بصرهم وصفاء ادراكهم فيدركون ايها صدر عن النفس الامارة والشيطان وايها صدر عن العقل بشركة النفس وايها صدر عن العقل ثم طرء عليه اغراض النفس { وردوا } بعد ما عرفوا اعمالهم { إلى الله مولاهم الحق } التوصيف بالحق تعريض ببطلان معبوداتهم { وضل عنهم ما كانوا يفترون } من الشركاء لكونها باطلة.
[10.31]
{ قل من يرزقكم من السمآء } بالرزق الانسانى { والأرض } بالرزق الحيوانى او بكليهما باعداد كليهما { أمن يملك السمع والأبصار } اقتصر على المدارك الجزئية المحسوسة ومنها على اشرفها وانفعها للانسان اعنى السمع والبصر افادة لمملوكية غيرها بالطريق الاولى والمراد بمالكيته تعالى لها كونها تحت قدرته بحيث لا مدخلية لاحد غيره فيها فيعطى ويمنع ويأخذ ويبقى ويجعل سليما ومأوفا وقويا وضعيفا ما يشاء منها لمن يشاء { ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي } والمراد باخراج الحى اعم من اخراج الحيوان من مادته الميتة وانشاء النفس الحية بالذات من البدن الميتة واخراجها منه بالموت او بالنوم واخراج المؤمن الذى هو حى بالحياة الانسانية من الكافر الذى هو ميت عنها واخراج المثال الصاعد من عالم الطبع وهكذا اخراج الميت من الحى { ومن يدبر الأمر } قد مضى تفسير هذه الكلمة فى اول السورة { فسيقولون الله } الفاء زائدة والجملة جواب لسؤال مقدر او الفاء جواب شرط محذوف او خالصة للسبية { فقل أفلا تتقون } توبيخا لهم او امرا لهم بالتقوى بعد اقرارهم يكون الكل بقدرته.
[10.32]
{ فذلكم } الموصوف بما ذكر { الله ربكم الحق } تعريض ببطلان شركاءهم كما مر، وفى اعرابه وجوه احسنها ان يكون ذلكم مبتدء والله صفة او بدلا منه وربكم خبرا عنه والحق صفة له { فماذا بعد الحق } بعد الانصراف عنه او بعد الحقية { إلا الضلال فأنى تصرفون } وليس انصرافكم الا الى الضلال لعدم الواسطة.
[10.33]
{ كذلك } متعلق بتصرفون و { حقت } ابتداء كلام او متعلق بحقت وعلى اى تقدير فالجملة مستأنفة جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: فلا ينبغى لاحد ان ينصرف عنه فقال كحقية الربوبية او ككون الضلال بعد الحق او كانصرافهم عن الحق حقت { كلمة ربك } اى الضلال او حكمه بالضلال او عدم ايمانهم { على الذين فسقوا } خرجوا عن الحق او عن طاعة العقل او النبى (ص) او الولى (ع) { أنهم لا يؤمنون } بتقدير الباء او اللام او بدل من كلمة ربك.
[10.34]
{ قل هل من شركآئكم من يبدأ الخلق ثم يعيده } ذكر الاعادة فى الالزام اما لكون المخاطبين معتقدين بالاعادة او لوضوح برهانها او للاكتفاء بالابداء فى الالزام وذكر الاعادة للتنبيه والاستطراد، او المراد بالاعادة هو تكميل المواليد بالبلوغ الى كمالاتها المترقبة منها ولما لم يكن لهم جواب سوى الاعتراف بان الله هو المبدأ والمعيد وليس هذا من فعل الشركاء امر تعالى نبيه (ص) ان يجيب عنهم فقال { قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون } الى اين تصرفون عن الله بعد قدرته وعجز الشركاء.
[10.35]
{ قل هل من شركآئكم من يهدي إلى الحق } ولما كان ههنا عدم تبادرهم الى الجواب متوقعا لخفاء هداية الله عليهم او لاحتمالهم هداية اصنامهم امره (ص) بالتبادر الى الجواب من قبلهم فقال { قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق } مقول قوله (ص) او استيناف كلام من الله { أحق أن يتبع أمن لا يهدي } قرئ يهدى بتشديد الدال من اهتدى بابدال التاء دالا وادغامها وقرئ حينئذ بكسر الهاء على قانون تحريك الساكن بالكسرة وبفتحها على نقل حركة التاء، وقرئ فى صورة كسر الهاء بفتح الياء على الاصل وبكسرها على اتباعها، وقرئ بتخفيف الدال من الهدى بمعنى الرشاد او بمعنى الدلالة { إلا أن يهدى } تنزيل الآيات فى الاشراك بالآله وتأويلها فى الاشراك بالولاية ولذا فسر من يهدى بمحمد (ص) وآله (ع) من بعده (ص)، وعلى التأويل يجوز تفسير الآية هكذا قل هل من شركاءكم من يهدى غيره او يهتدى بنفسه الى الحق قل الله فى مظاهره النبوية او الولوية يهدى غيره او يهتدى بنفسه الى الحق افمن يهدى غيره او يهتدى الى الحق احق ان يتبع ام من لا يهدى غيره او لا يهتدى على قراءة تخفيف الدال، او ام من لا يهتدى فقط على قراءة تشديد الدال، وكأنه للاشارة الى التأويل اتى فى الكل بلفظ من التى هى لذوى العقول { فما لكم كيف تحكمون } باى حكم تحكمون فتختارون ما ليس له جهة ادراك على من يملك المدارك كلها.
[10.36]
{ وما يتبع أكثرهم إلا ظنا } استيناف على ما قيل باتيان الواو للاستيناف لكنه بعيد لانه ما لم يلاحظ ربط بين الجملتين لا يؤتى بالواو فان شئت فسم ذلك الربط بالعطف بجعل الجملة السابقة فى امثال هذا معطوفا عليها بلحاظ المعنى او بتقدير المعطوف عليه من معنى الجملة السابقة، مثل ان يلاحظ ان معنى ما لكم او معنى كيف تحكمون ليس لهم عقل او علم او يحكمون بالباطل، او يقدر امثال ذلك بقرينة السابق ثم يعطف عليه وان شئت فسمه بشبه العطف والتقييد بالاكثر اما لان بعضهم يتبعون رؤساءهم من غير حصول اعتقاد لهم لعدم شأنيتهم لاعتقاد شيء كالحيوان الذى يتبع صاحبه من غير شعور له بنفع او ضر فى ذلك الاتباع، او لان بعضهم كان يعلم بطلان ما يعبد لكنه يعبد المعبودات الباطلة ويطيع رؤساء الضلالة لمحض اغراض فاسدة دنيوية، وتنكير الظن للاشارة الى ان ظنهم ظن سفلى مستند الى النفس ردى مهلك والا فالظن العلوى المستند الى العقل قلما ينفك الطالب للآخرة عنه ما لم يدخل فى الولاية ولم يصر عالما بواسطة اتباعه للولاية وذلك الظن يجذبه الى دار العلم ويكون ممدوحا { إن الظن لا يغني } من اغنى عنه بمعنى ناب عنه وكفى كفاتيه { من الحق شيئا } مفعول مطلق ومن الحق صلة يغنى او مفعول به ومن الحق حال منه، وتعريف الظن اما للاشارة الى الظن السابق او للجنس باعتبار ان بعض افراد الظن وان كان قد يدعوا لى دار العلم لكنه لا يكفى كفاية الحق فلا ينبغى الوقوف عليه فالظنون المستندة الى الكتاب والسنة ان كانت عقلية علوية فهى ممدوحة لكن لا ينبغى الوقوف عليها ما لم توصل الى العلم وان كانت نفسية دنيوية سفلية فهى مذمومة { إن الله عليم بما يفعلون } جواب سؤال ناش عن قوله وما يتبع اكثرهم الا ظنا يعنى انه عليم بصور افعالهم ومصادرها وغاياتها.
[10.37]
{ وما كان هذا القرآن أن يفترى } اى لان يفترى بتقدير اللام اى لا يجوز كونه مفترى فكيف بفعليته وافتراء من قبيل زيد عدل { من دون الله } من غير الله { ولكن تصديق الذي بين يديه } من الكتب السماوية حيث يطابقها فى العقائد والاحكام ونصب التصديق بالعطف على خبر كان او بتقدير كان على خلاف فى عطف المفرد الاتى بعد لكن مع الواو او بكونه مفعولا له لانزاله مقدرا { وتفصيل الكتاب } كتاب النبوة واحكامها وقد مر مرارا ان الكتاب اشارة الى احكام النبوة كلما ذكر مطلقا { لا ريب فيه } حال او مستأنف { من رب العالمين } ظرف مستقر حال او خبر مبتدء محذوف والجملة مستأنفة.
[10.38]
{ أم يقولون افتراه قل } ان افتريته { فأتوا بسورة مثله } فانه ان كان كلام المخلوق وانتم فصحاء الخلق ينبغى ان تقدروا على مثله { وادعوا من استطعتم } للاستعانة به على الاتيان { من دون الله } كما ادعيتم انه من غير الله { إن كنتم صادقين } فى دعوى الافتراء.
[10.39]
{ بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه } انكروا ما لم يعلموا شبه العلم الكامل بالشيء بشيء محاط من جميع جوانبه بحيث لم يشذ عن المحيط شيء منه، ففيه اشعار بان انكار ما لم يعلم بطلانه علما يقينيا عيانيا او برهانيا او سماعيا بتقليد من يعلم صدقه كذلك مذموم، فانكار بعض على من لم يروه موافقا لعاداتهم ورسومهم وتسميته حمية للدين وحفظا للاسلام وعقائد المسلمين ليس فى محله { ولما يأتهم تأويله } يعنى انكروا ما لم يعلموا وما لم يعاينوا مصاديقه فيشاهدوا بطلانه فهو عطف على لم يحيطوا او على كذبوا او حال، ويجوز ان يكون المراد تهديدهم باتيان مصاديق ما فى القرآن او ما فى اخبار النبى (ص) او ما فى الاخبار بولاية على (ع) او المراد بما لم يحيطوا بعلمه القرآن او النبوة وبتأويله الولاية فانها ما يؤل اليه القرآن والنبوة لانهما صورتاها { كذلك } التكذيب من غير علم وعيان { كذب الذين من قبلهم } من الامم السالفة المعاقبة فى الدنيا { فانظر } باياك اعنى واسمعى يا جارة او هو (ص) مقصود بالخطاب اصالة وغيره تبعا والغرض تسليته عن تكذيب قومه وتهديد القوم عن تكذيبه { كيف كان عاقبة الظالمين } اى عاقبتهم والتعبير بالظاهر لذم آخر.
[10.40]
{ ومنهم من يؤمن به } عطف على كذبوا كأنه قال: بل منهم من يعلم صدقه وينكر عنادا او منهم من له استعداد التصديق فيصدق وينقاد بعد ذلك وانكاره هذا محض الجهل من غير خبث من ذاته { ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين } الجاحدين عن علم او بالمفسدين الغير المتوقعين لايمانهم ووضع الظاهر موضع المضمر للاشعار بافسادهم وذم آخر لهم.
[10.41]
{ وإن كذبوك فقل } اعراضا عن الجاهلين او متاركة لهم { لي عملي } نافعا كان او ضارا { ولكم عملكم } كذلك { أنتم بريئون ممآ أعمل وأنا بريء مما تعملون } تأكيد للاول ولذا ترك العاطف وعكس الترتيب لانه تأكيد للمفهوم لا للمنطوق كأنه قال: لى عملى لا لكم بحسب مفهوم الحصر ولكم عملكم لالى.
[10.42-43]
{ ومنهم من يستمعون إليك } ردا واستهزاء، او لسماع المقصود منك { أفأنت تسمع الصم } حال بتقدير القول او جواب عن سؤال مقدر كأنه (ص) قال: فما شأنهم لا يسمعون المقصود منى؟ - فقال: شأنهم ان يقال أفأنت تسمع الصم يعنى ان آذانهم الانسانية صم عن سماع ما يسمعه الانسان ولا عقل لهم حتى يمكن الافهام بالاشارة ونحوه فهم كالبهائم ولذا قال { ولو كانوا لا يعقلون ومنهم من ينظر إليك } ويشاهد منك بينات صدقك وصدق كتابك لكنهم عمى عن مشاهدة آثار الصدق ودلالة دواله { أفأنت تهدي العمي } الى مشاهدة آثار الربوبية والآخرة { ولو كانوا لا يبصرون } ببصيرة عقلية يعنى ان كان لهم بصيرة يمكن افهام آثار الربوبية ولو لم يكن بصر لهم لكنهم عمى وغير ذوى بصيرة والآية كالعلة للاعراض والمتاركة.
[10.44]
{ إن الله لا يظلم الناس شيئا } بمنع ما يستحقونه منهم جواب لسؤال مقدر كأنه قيل فالله يمنعهم السماع ويظلمهم { ولكن الناس أنفسهم يظلمون } بابطال فطرتهم وافساد استحقاقهم وانفسهم مفعول ليظلمون او تأكيد للناس.
[10.45-46]
{ ويوم يحشرهم } عطف على محذوف والتقدير لكن الناس انفسهم يظلمون فى الدنيا ويوم يحشرهم او متعلق باذكر مقدرا او بيتعارفون او قد خسر { كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار } حال من مفعول يحشرهم او صفة لمصدر محذوف بتقدير العائد اى حشرا كأن لم يلبثوا قبله او متعلق بيتعارفون والمقصود انهم استقلوا لبثهم فى الدنيا او فى القبر لتمثل الحال الماضية بحيث انها كأن لم تغب ولذا قيد بالنهار { يتعارفون بينهم } يعرف بعضهم بعضا لاستحضارهم الحال الماضية وتمثلها عندهم { قد خسر الذين كذبوا بلقآء الله } قالا كالدهرية والطبيعية وكل من اقر بالمبدء دون المعاد، وحالا كاكثر من اقر بلسانه ولم يساعده حاله وهو جواب سؤال كأنه قيل: فما كان حال الناس يؤمئذ؟ او حال من فاعل يتعارفون بتقدير العائد، او متعلق ليوم يحشرهم، او ابتداء كلام منقطع عما قبله والتعبير بالماضى والحال ان حقه الاتيان بالمستقبل على غير الوجه الاخير لتحقق وقوعه { وما كانوا مهتدين وإما نرينك } ان نرك { بعض الذي نعدهم } من العذاب والانتقام { أو نتوفينك } قبل الاراءة { فإلينا مرجعهم } لا يفوتون عنا فلا تحزن على تأخير الانتقام { ثم الله شهيد على ما يفعلون } وللتفاوت بين الاخبارين فى الغرض المسوق له الكلام وهو تسليته ايضا اتى بثم والتفت تجديدا لنشاط السامع حتى يتمكن فى قلبه واشارة الى علة الحكم كأنه قال: ان نرك او نتوفك فلا تحزن لان مرجعهم الينا فنجازيهم على سوء اعمالهم على ان الله شاهد بالفعل على اعمالهم ومحيط بهم.
[10.47]
{ ولكل أمة } من الامم الماضية { رسول } من الله اعم من الرسول الموحى اليه او وصيه وعلى هذا فقوله { فإذا جآء رسولهم } مبتن على تصوير الحال الماضية حاضرة او على كون اذا للزمان الماضى وهذا على كون الآية تسلية للرسول (ص) بتذكره (ص) حال الانبياء الماضين، او لكل امة من الامم الماضية والآتية رسول من الله نبى او خليفته فاذا جاء رسولهم فكذبوه { قضي بينهم } بين الرسول والامه او بين امة الرسول (ص) باهلاك الامة وانجاء الرسول (ص)، او اهلاك المكذبين وانجاء الرسول والمصدقين، او اذا جاء رسولهم يحاكم بينهم بالحق ولم يهملوا كما كانوا من قبل مجيء الرسول (ص) { بالقسط } بالعدل { وهم لا يظلمون } باهلاك المستحق للنجاة وانجاء المستحق للهلاك او بالمحاكمة بينهم بهوى النفس واغراضها، او المعنى لكل امة رسول من الانبياء او خلفائهم او شاهد عليهم فاذا جاء رسولهم يوم القيامة للشهادة عليهم وشهد عليهم قضى بين الامة بالقسط بادخال من كان اهلا للجحيم فيها ومن كان اهلا للنعيم فى الجنة، وعن الباقر (ع) تفسيرها فى الباطن ان لكل قرن من هذه الامة رسولا من آل محمد (ص).
[10.48-49]
{ ويقولون متى هذا الوعد } وعد مجيء الرسول (ص) فى القيامة او وعد العذاب الذى كان الرسول يوعدهم به او وعد القيامة التى كان الرسول يذكرها لهم استبطأوا الموعود استهزاء { إن كنتم صادقين قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا } فكيف املك لغيرى اقامة القيامة او الاتيان بالعذاب { إلا ما شآء الله } استثناء من ضرا ونفعا او استثناء منقطع بمعنى لكن ما شاء الله يقع { لكل أمة أجل } مقول لقوله (ص) او ابتداء كلام من الله وعلى اى تقدير فهو جواب لسؤال مقدر والمعنى لكل امة من امم الرسول (ع) مدة لامهالهم او وقت معين لعذابهم { إذا جآء أجلهم } اى انقضى مدتهم او اتى وقت عذابهم بالاهلاك فى الدنيا او بالعذاب فى الآخرة واذا جاء اجلهم على تضمين التقدير حتى لا ينافر مع قوله لا يستقدمون اى اذا قدر مجيء اجلهم { فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } لا يتأخرون ولا يتقدمون على وقت الاجل.
[10.50]
{ قل أرأيتم } من الرأى بمعنى الاعتقاد { إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا } يترائى ان التقييد بهما تطويل حيث انه يستفاد من الاتيان لكنه اطناب مستحسن لانه تكميل لسابقه ورفع لتوهم اختصاص العذاب بالاتيان فى وقت مخصوص فالمقصود من ذكر الظرف اطلاق الحكم لا تقييده { ماذا } اى شيء او ما الذى { يستعجل منه } من العذاب { المجرمون } وضع الظاهر موضع المضمر اشعارا بعلة التهويل والانكار وتفضيحا لهم بذم آخر والاستفهام الاول على حقيقته للاستخبار بحسب اصل المعنى والا فهو مع الفعل بمعنى اخبرونى والاستفهام الثانى للانكار والتهويل متعلق بأرايتم والفعل معلق بسبب الاستفهام والمعنى اخبرونى بجواب هذا السؤال وجملة الشرط محذوفة الجواب معترضة بينهما وهذا انكار لاستعجالهم العذاب المستفاد من قولهم: متى هذا الوعد؟
[10.51]
{ أثم إذا ما وقع } الاستفهام مع العاطف على التقديم والتأخير والاستفهام للتقرير والاتيان بثم للتفاوت بين الاستفهامين فان الاول للانكار والثانى للحمل على الاقرار والمعنى اثم اذا ما وقع العذاب حين ظهور القائم (ع) فى الكبير او الصغير او حين الموت او حين بأس على (ع) بعد محمد (ص) وقد اشير الى الكل فى الاخبار { آمنتم به الآن } تؤمنون بتقدير القول اى يقال: آلآن جملة مستأنفة او مقولا لهم آلآن مفردا حالا { وقد كنتم به تستعجلون } استهزاء لعدم اعتقادكم به.
[10.52-53]
{ ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون ويستنبئونك أحق هو } العذاب او ولاء على (ع) كما فى الاخبار { قل إي وربي إنه لحق ومآ أنتم بمعجزين } جاعلين الله او عليا (ع) عاجزا عن نفاذ حكمه.
[10.54]
{ ولو أن لكل نفس ظلمت } فى حق الله او حق محمد (ص) { ما في الأرض لافتدت به } عن نفسه من هول العذاب وشدته { وأسروا الندامة } كراهة شماتة الاعداء كما فى الخبر او خوف اطلاع ملائكة العذاب او اطلاع الله على ندامتهم الناشئة عن اعترافهم بالظلم فانهم يحلفون لله كما يحلفون لكم على انكار الظلم والذنب { لما رأوا العذاب وقضي بينهم } بين المؤمنين والمنافقين او بين الظالمين او المظلومين { بالقسط } باعطاء كل ذى حق حقه وكل ذى عقوبه عقوبته { وهم لا يظلمون } بمنع الحق وعقوبة غير المتسحق وبنقص الحق وزيادة العقوبة.
[10.55]
{ ألا إن لله } مبدء ومرجعا وملكا { ما في السماوات والأرض } فيفعل ما يشاء بمن يشاء من غير مانع من حكمه ولا راد من فعله { ألا إن وعد الله } بالعذاب والثواب { حق } لا خلف فيه من قبله كما لا مانع له من غيره ولما كان الجملتان لتسجيل عقوبة المنافقين وكان التأكيد بعد ذمهم مطلوبا اتى فى الجملتين باداة الاستفتاح ومؤكدات الحكم { ولكن أكثرهم لا يعلمون } ليس لهم صفة العلم، فان العلم هو الادراك الذى يحرك صاحبه من السفل الى العلو، وبعبارة اخرى هو الادراك الذى يحصل لصاحبه حال كونه فى السلوك الى الله ولا محالة يشتد كل يوم وكل آن ويستلزم ذلك الادراك العمل بموجبه وحصول علم آخر له بآخرته ويحصل له ازدياد علم بالله وقدرته واحاطته، وهذا العلم غير حاصل لمن انكر الآخرة قالا كاهل بعض المذاهب او حالا كاكثر المنتحلين للملل الحقة فهم غير عالمين وان كانوا عالمين بجميع الفنون والصناعات، وللغفلة عن حقيقة العلم سمى ادراكاتهم اشباه الناس علوما؛ وفى الخبر قد سماه اشباه الناس عالما وقد حققنا ذلك فى اول البقرة عند قوله:
ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون
[البقرة: 102] وفى الرسالة المسماة ب " سعادت نامه " وعلى هذا فالتقييد بالاكثر للاشعار بان اقلهم ما ابطلوا علمهم الفطرى الذى اعطاهم الله وبقى فيهم شيء منه محجوبا احتجابا عرضيا.
[10.56]
{ هو يحيي ويميت.. } تأكيد لقوله ان لله ما فى السماوات والارض ولذا لم يأت بالعاطف او جواب لسؤال مقدر او حال والاحياء والاماتة اشارة الى مالكيته والرجوع اليه اشارة الى مرجعيته.
[10.57]
{ يأيها الناس قد جآءتكم موعظة } دعوة من الشرور الى الخيرات { من ربكم وشفآء لما في الصدور } من وساوس الشيطان ولمات النفس واهويتها لمن استشفى به { وهدى ورحمة للمؤمنين } والمراد القرآن فانه موعظة وشفاء وهداية ورحمة اطلق الاولين لان الموعظة عامة لمن اتعظ ومن لم يتعظ وكذا الشفاء لكن لا ينتفع بهما الا من اتعظ واستشفى، وقيد الثانيين لاختصاصهما بالمؤمنين وعدم تعلقهما بغيرهم وحقيقة الموعظة هى الرسالة واحكامها لتعلقها بالقوالب والظواهر وعمومها لكل الخلق، وحقيقة الشفاء النبوة لتعلقها بالصدور وعمومها ايضا وحقيقة الهدى والرحمة الولاية لان الرسالة والنبوة سبب لايقاظ الخلق من الغفلة وتنبيههم على الحيرة والضلالة ليس فيهما من حيث انفسهما هداية ولا رحمة، والولاية سبب لاراءة الطريق وايصال الضال المتحير بعد تنبهه بضلاله وتحيره الى الطريق، وبعد الوصول الى الطريق موجبة لنزول الرحمة آنا فآنا عليه، ولما كان القرآن صورة للكل صح جعل الاوصاف كلها اوصافا له فصح التفسير بالقرآن، كما صح جعل الاوصاف لموصوفات متعددة كما ذكرنا والتفسير بها.
[10.58]
{ قل } تبجحا وسرورا { بفضل الله وبرحمته } قد مر مرارا ان فضل الله هو الرسالة والنبوة اللتان هما صورة الولاية والرحمة هى الولاية، ولما كان النبوة والولاية من شؤن النبى (ص) والولى (ع) ومتحدتان معهما صح تفسيرهما بمحمد (ص) وعلى (ع) { فبذلك } الفاء للعطف واسم الاشارة اشارة الى المذكور من الفضل والرحمة ولما كان التبجح مقتضيا لتطويل ما يتبجح به وتكريره والمبالغة فيه اتى بالفاء العاطفة لما بعدها على مغاير الدالة على تعقيب ما بعدها لما قبلها بين المتحدين اشارة الى ان ما بعدها وان كان متحدا مع ما قبلها لكنه مغاير له باعتبار المبالغة والاشتداد فى الداعى للكلام، وهو التبجح او الغرض المسوق له الكلام وهو ايضا فرح المبشرين فكأنه عطف مغاير بالذات ولذلك الاقتضاء كرر الجار { فليفرحوا } هذه الفاء اما زائدة او بتوهم اما وبتقديره او عاطفة على محذوف مفسر بما بعدها هو ابلغ كلام فى الدلالة على اشتداد تبجح المتكلم وعلى المبالغة فى المقصود { هو } اى المذكور من الفضل والرحمة واتى باسم الاشارة والضمير مفردين للاشارة الى اتحادهما حقيقة { خير مما يجمعون } من صورة القرآن فانهما مما يجمعونه بايديهم ثم يقولون هو من عند الله وما هو من عند الله لجمعهم اياها وتصرفهم فيها بآرائهم الفاسدة بخلاف الفضل والرحمة فانهما لا قدرة لهم على التصرف فيهما لانهما مما لا يمسه الا المطهرون او مما يجمعون من حطام الدنيا.
[10.59]
{ قل أرأيتم مآ أنزل الله لكم من رزق } ما استفهامية للتعجيب اشارة الى شرافته وعظمته فى نفسه ومن حيث انتسابه الى الله والى كثرته وتوطئة لذم التصرف فيه بالاهواء وحينئذ فآرأيتم استفهام واستخبار مستعمل بمعنى اخبرونى كسابقه او هو بمعنى اعلمتم والاستفهام للتعجيب او للانكار او للتقرير وقوله الله اذن لكم يكون مستأنفا او لفظة ما شرطية وقوله: فجعلتم جزاءه بتقدير قد على القول بلزوم قد فى الجزاء اذا كان ماضيا لفظا ومعنى ولذا دخل الفاء وأرأيتم حينئذ بمعنى اخبرونى او للتعجيب او للانكار التوبيخى، وعلى التقادير فالفعل معلق عن جملة ما انزل الله ولفظة ما موصولة مفعولا اولا لرأيتم والمفعول الثانى محذوف اى كذلك او آلله اذن لكم والفعل معلق عنه ولفظة قل تأكيد للفظ قل الاول، والمراد بانزال الرزق فى الرزق الصورى النباتى انزل اسبابه وفى الرزق المعنوى الانسانى انزال حقيقته، فان رزق الانسان وهو العلوم والاخلاق الحسنة تنزل بحقائقها من سماوات الارواح ولفظ لكم للاشعار بان الغرض انتفاعكم ومن الانتفاع يستنبط حليته { فجعلتم منه حراما وحلالا } بما اسستم بجعلكم من حرمة بعض الانعام مطلقا وحرمة بعضها على بعض من افراد الانسان وحرمة شيء من الحرث وغير ذلك وبما تقولتم من عند انفسكم من حرمة علم انتم جاهلوه لكونكم اعداء لما تجهلون، كتحريم بعض المتشبهين بالفقهاء ومنعه عن مثل علم الكلام والهيئة، وكمنع المتفلسفة عن الحكمة الحقيقية والعلوم الشرعية ما سوى اصطلاحاتهم واقيستهم المأخوذة من اسلافهم، وكتحريم المتصوفه ما سوى مأخوذاتهم من اقرانهم، واما العالم الحقيقى فانه لجامعيته لا يقول بحرمة شيء من ذلك بل يقول بحلية الجميع بشرط كون الأخذ على اتباع وتقليد من الانبياء (ع) واوصيائهم ونوابهم وكان الأخذ باذن منهم فيقول: جملة العلوم اذا اخذت من أهلها وعلى وجهها فهى محللة واذا لم تؤخذ من اهلها او لا على وجهها فهى محرمة، ويقول الحلال ما احله الله والحرام ما حرمه الله والمبين هو النبى (ص) او من كان مأذونا منه بلا واسطة او بواسطة، فان الاذن والاجازة كما يصحح العمل يصحح العلم ويجعل الظن قائما مقام العلم بل اشرف منه كما مضى؛ ولذلك قال تعالى { قل ءآلله أذن } بلا واسطة او بواسطة { لكم } فى التحليل والتحريم باى نحو شئتم او فى خصوص تحليل اشياء خاصة وتحريم اشياء خاصة والاذن اعم من ان يكون بتكليم الله بلا واسطة او بواسطة الملك وحيا او تحديثا او بواسطة خلفائه البشرية { أم على الله تفترون } فى ادعاء الاذن فى نسبة التحليل والتحريم الى الله، ولما كان الحلال ما احله الله والحرام ما حرمه الله لا غير فمن قال بالتحليل والتحريم باذن الله فحلاله حلال الله وحرامه حرام الله، ومن لم يقل باذن الله فتحليله وتحريمه افتراء على الله سواء ادعى الاذن فى ذلك وقال برأيه او ادعى نسبة ذلك الى الله وادعى أنه مبين لحكم الله او لم يدع شيئا من ذلك، لانه قال فيما هو مختص بالله والقول فيما هو مختص بالله لا يكون الا من ادعاء الاذن فيه او ادعاء نسبته اليه تعالى وانه مبينه فالمنفصلة حقيقية، فاذا كان عدم الاذن معلوما فالافتراء محقق ولذا عقبه بتهديد المفترين، فمن ادعى تبليغ الاحكام القالبية كما هو شأن علماء الشريعة رضوان الله عليهم او تبليغ الاحكام القلبية كما هو شأن علماء الطريقة رضوان الله عليهم ولم يكن مأذونا من الله بواسطة خلفائه كان مفتريا ومصداقا لقوله تعالى: ولو تقول علينا بعض الاقاويل لاخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين، ولذا كانت سلسلة الاجازة منضبطة متصلة من لدن آدم (ع) الى الخاتم (ص) وبعده الى زماننا هذا بين الفقهاء رضوان الله عليهم ومشايخ الصوفية.
[10.60]
{ وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة } ظرف مستقر حال من لفظة ما فانه مفعول للظن معنى وفى معنى الحدث، واما تعلقه بالظن فانه يفيد خلاف المقصود لان المقصود تهديدهم على اعتقادهم الحاصل المستتبع لاعمال منافية لاعتقاد الجزاء يوم القيامة، وتعلقه بيفترون ايضا مفسد للمعنى والمعنى، اى جزاء مظنون الذين يفترون على الله حال كونه ثابتا يوم القيامة؟ او ظرف لغو بتقدير فى او اللام ومتعلق بالظن او بيفترون والمعنى، اى شيء ظن الذين يفترون فى حق يوم القيامة او ليوم القيامة؟ وقرئ ظن بلفظ الماضى وهذه الكلمة فى المبالغة والتشديد فى التهديد صارت كالمثل فى العرب والعجم، ولما بالغ فى التهديد فى المتصرفين بآرائهم فى احكام الله وقل من ينفك عن التصرف فى احكام الله قالا او حالا فى الصغير او فى الكبير وصار المقام قريبا من مقام اليأس والمطلوب مزج الخوف مع الرجاء حتى لا يترك العاصى الاستغفار ولا يغتر الراجى، فرض سؤالا عن فضله تعالى ورحمته فأجاب بقوله { إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون } ما يتفضل به عليهم وبعضهم يكفرون والاقل منهم يشكرون.
[10.61]
{ وما تكون في شأن } الشأن عبارة عن مراتب الانسان ومقاماته الحاصلة فى الكامل والمكمونة فى الناقص والاحوال الطارية له بحسب مقاماته { وما تتلوا منه } من الكتاب او من الشأن او من الله { من قرآن } تخصيص الخطاب فى هاتين الفقرتين به (ص) لاختصاص تلاوة القرآن من الله او من الشأن واختصاص ابتداء التلاوة من الكتاب واختصاص الاستشعار بالشؤن والمراتب به بخلاف العمل { ولا تعملون من عمل } تشريك للخطاب او صرف للخطاب عنه (ص) اليهم لان شهود اعماله الجلية مستفاد من شهود شؤنه الخفية { إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون } تخوضون { فيه وما يعزب } وما يفقد { عن ربك } عن تصرفه او عن علمه او عن ذاته { من } ذات { مثقال ذرة } على الاولين او من علم مثقال ذرة على الاخير، والذرة النملة الصغيرة ومائة منها زنة حبة من الشعير { في الأرض } تقديم الارض لكونها اهم فى مقام بيان سعة علمه لان الارض ابعد الاشياء منه وما فيها اخفى الاشياء لان كلا منها فى الغيبة بالنسبة الى غيره بخلاف السماء والسماويات سواء اريد بها سماء عالم الطبع او سماوات الارواح { ولا في السمآء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر } لما كان المقام للمبالغة فى سعة علمه كان التأكيد والتكرير مطلوبا ولذا اكد مثقال ذرة فانه صار كالمثل اذا وقع بعد النفى فى المبالغة فى الشمول ولا اصغر مع ما بعده جملة معطوفة على جملة ما يعزب ولا لنفى الجنس مركبة مع اسمها و { إلا في كتاب مبين } خبرها ومن قرأ بالرفع فلا عاملة عمل ليس او ملغاة عن العمل بالتكرير، ويحتمل العطف على لفظ مثقال على قراءة الفتح وعلى محله على قراءة الرفع وحينئذ يكون الاستثناء منقطعا.
[10.62]
{ ألا إن أوليآء الله } جواب لما ينبغى ان يسأل عنه من انه هل يبقى احد بلا خطر { لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } قد مضى بيان الخوف والحزن ووجه انتفائهما عن الاولياء ووجه اختلاف المتعاطفين فى طريق التأدية.
[10.63]
{ الذين آمنوا } بالبيعة الخاصة وقبول الدعوة الباطنة والدخول فى امر الائمة ودخول الايمان فى قلوبهم لا من قبل الدعوة الظاهرة وبايع بالبيعة العامة النبوية ودخل فى الاسلام من دون الدخول فى الايمان { وكانوا يتقون } غير الاسلوب للاشارة الى ان الايمان امر يحصل بمحض البيعة الولوية واما التقوى الخاصة فهى لا بد منها الى تمام مراتب الفناء والحشر الى الرحمن بحيث تصير للمؤمن كالسجية والموصول اما صفة بيانية لاولياء الله ولذا اخره عن الخبر او خبر لمبتدء محذوف او منصوب بفعل محذوف او مبتدء خبره.
[10.64]
{ لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة } اعلم، ان الولى يطلق على معان منها المحب والصديق والقريب بمعنى ذى القرابة والقريب ضد البعيد ومنها النصير والولى فى التصرف بمعنى الاولى بالتصرف والسلطان والمالك، وولى الله قد يطلق ويراد به من قبل الدعوة الباطنة ودخل الايمان فى قلبه بالبيعة الخاصة الولوية باعتبار الصنف الاول من معانيه، وقد يطلق ويراد به الولى من الله باعتبار الصنف الثانى من معانيه والاولياء بالاطلاق الثانى هم الانبياء واوصياؤهم الكاملون المكملون، وبالاطلاق الاول شيعتهم واتباعهم الذين قبلوا ولايتهم، ولهم مراتب من اول دخولهم فى الايمان وتدرجهم فى مدارج التقوى والايقان الى ان انتهوا فى التقوى الى فنائهم من ذواتهم بحيث تحققوا فى المحبة وكانوا لا فرق بينهم وبين حبيبهم وكلما ازداد مراتب تقواهم ومحبتهم كان اطلاق الاولياء عليهم اولى، ولذلك اختلف الاخبار فى تفسير اولياء الله وكذا فى تفسير بشريهم فى الدنيا بانها الرؤيا الحسنة التى يراها المؤمن او يراها غيره له وبأنها تحديث الملائكة مطلقا او تبشريهم عند الموت او تبشير محمد (ص) وعلى (ع) لهم عند الموت { لا تبديل لكلمات الله } تأكيد لتحقق البشرى لهم { ذلك هو الفوز العظيم } اى كونهم مبشرين مع عدم تبدله.
[10.65]
{ ولا يحزنك قولهم } فيك وفى اتباعك وهو عطف على مقدر تقديره اذا كان الاولياء (ع) يعنى انت واتباعك حالهم هكذا فلا تبال بالمكذبين ولا يحزنك قولهم { إن العزة لله جميعا } تعليل للنهى { هو السميع العليم } جواب سؤال كأنه قيل: هل يسمع اقوالهم ويعلم احوالهم؟ - فأجاب بالحصر.
[10.66]
{ ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض } تأكيد لعزته ولذا لم يأت بالعاطف واكده وتمهيد بمنزلة التعليل لقوله { وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركآء إن يتبعون } تأكيد للاول على ان يكون ما نافية وقوله { إلا الظن } استثناء من ما يتبع او قوله ان يتبعون مستأنف والاستثناء منه وما فى ما يتبع استفهامية او موصولة معطوفة على من فى السماوات او نافية والمفعول محذوف اى ما يتبعون حجة وبرهانا { وإن هم إلا يخرصون } يكذبون او يقولون بالظن وعليه فالاول لبيان ان فعلهم عن الظن والثانى لبيان ان قولهم عن الظن وقد مضى ان ادراك النفس للاشياء يسمى ظنا سواء كان شهودا او يقينا او ظنا لكون معلومها مغاير لادراكها كالظن، فانه مغاير للمظنون على انها لكونها سفلية ادراكها للاشياء يكون على غير وجهها وعلى غير ما هى عليه، فادراكها لها اما مخالف لما هو واقعها عند النفوس فهو خرص وكذب او موافق لما هو واقعها عندها لكن لا على وجهها وعلى ما هى عليه فهو ظن لان شأنه ان لا يكون ادراكا محاطا للمدرك على ما هو عليه.
[10.67]
{ هو الذي جعل لكم } لانتفاعكم { الليل لتسكنوا } عن متاعب النهار وكد طلب المعاش { فيه والنهار مبصرا } لتطلبوا اسباب معيشتكم وحق العبارة ان يقول والنهار لتطلبوا فيه معايشكم بذكر ما هو غاية له مطابقا لذلك غاية الليل، لكنه اكتفى عن ذكر الغاية بذكر سببها افادة لها مع سببها وغير الاسلوب اشعارا بسببية النهار للابصار، لانه اسنده الى النهار بطريق المجاز العقلى فأفاد الغاية وسببها وسبب سببها باوجز لفظ وهو مبصرا، وتقديم الليل مع كون النهار اشرف من وجوه عديدة لكونه عدميا مقدما بالطبع على الوجودى الحادث ولكونه بحسب التأويل مقدما بالزمان وبالطبع فى سلسلة الصعود التى هى من مراتب وجود الانسان، ولان المقام مقام تعداد النعم والاهتمام بالليل فى عدة من النعم اكثر لانهم يعدونه زوال النعمة وبعد ما أسلفنا لك لا يعضل عليك تعميم الليل والنهار { إن في ذلك لآيات } عظيمة حيث ان مواليد عالم الطبع موقوفة عليهما وعلى اختلافهما بالزيادة والنقيصة والبرودة والحرارة والظلمة والاستنارة ففى خلقهما للمتدبر آيات كثير دالة على كمال قدرة الصانع وعلمه وحكمته وفضله ورحمته { لقوم يسمعون } ينقادون فانه يكفى فى ادراك آياتهما الانقياد للنبى (ص) او الامام (ع) وان لم يحصل بعد للمنقاد قلب او عقل، واستعمال السماع والاستماع فى الانقياد كثير.
[10.68-69]
{ قالوا اتخذ الله ولدا } بعد ما ذكر سعة ملكه وان الكل مملوكون له وان الليل والنهار الذين هما عمدة اسباب دوران العالم وتعيش ما فيه مجعولان له غير قديمين، كما يقوله الدهرية والطبيعية وغير مجعولين لغيره ذكر قولهم الناشى من غاية حمقهم، من ان الله اتخذ لنفسه ولدا تسفيها لرأيه حيث ان اتخاذ الولد بنحو التوالد كما زعموه لا يكون الا من المحتاج المحاط بالزمان والمكان وهو تعالى فوقهما وجاعلهما { سبحانه هو الغني } تعليل لنفى الولد ولانكار قولهم المستفاد من التسبيح { له ما في السماوات وما في الأرض } تعليل للغنى { إن عندكم من سلطان بهذآ } ما عندكم حجة مع هذه القول او ملصق بهذا القول بعد ما رد قولهم بعدم جواز الولد له سبحانه رده بعدم الحجة لهم اشعارا بلزوم امرين فى صحة القول بشيء احدهما امكان ذلك الشيء فى نفسه والثانى وجود حجة للقائل على قوله وبانتفاء كل من الامرين يكون ذلك القول كذبا، ولذا وبخهم على محض قولهم من غير علم وحجة من دون التعرض لعدم جواز هذا القول على الله بقوله { أتقولون على الله ما لا تعلمون قل إن الذين يفترون على الله الكذب } قولا مخالفا للواقع او قولا بلا حجة سواء كان مخالفا ام موافقا { لا يفلحون } لان الافتراء لا يكون الا عن حكومة النفس والشيطان ومحكومهما من حيث انه محكومهما لا سبيل للنجاة له غاية ما يترتب على محكوميته وافترائه انه يتمتع فى الدنيا بما زينه النفس والشيطان له ولذلك قال ذلك الافتراء.
[10.70-72]
{ متاع } اى سبب تمتع { في الدنيا ثم إلينا مرجعهم } تمهيد للتهديد { ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون واتل عليهم } تذكيرا وتهديدا لهم وتسلية لنفسك فى تكذيبهم { نبأ نوح إذ قال لقومه يقوم إن كان كبر عليكم مقامي } بمعنى الاقامة او القيام او مكان القيام { وتذكيري بآيات الله } والمقصود انه ان كان كبر عليكم كونى فيكم بالدعوة فتريدون اجلائى او دفعى عن الدعوة او اهلاكى { فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم } اجمعت الامر وعليه وجمعت عليه عزمت كأن الامر قبل العزم كان متفرقا وبالعزم تجمعه وقرئ فاجمعوا من الثلاثى المجرد { وشركآءكم } قرئ بالضم عطفا على ضمير الفاعل وقرئ بالنصب عطفا على امركم بلحاظ اصل معنى الجمع او مفعولا معه او مفعولا لمحذوف تقديره وادعوا شركاءكم وتحدى معهم استظهارا بالله واطمينانا بنصرته { ثم لا يكن أمركم عليكم غمة } يعنى تدبروا غاية التدبر فى اجماع الامر حتى لا يبقى ضره ونفعه مستورا عليكم او لا يصير عاقبته وبالا وغما لكم { ثم اقضوا } اقضوا الامر المعزوم عليه { إلي ولا تنظرون فإن توليتم } بتضرركم بدنياكم { فما سألتكم من أجر } يعنى ان توليتم لكذبى وافترائى فقد تحديت فى غاية الاطمينان والكاذب لا يتحدى كذلك وان توليتم لتضرركم بدنياكم فما سألتكم من اجر فلا وجه لتوليكم لا من جهة الدنيا ولا من جهة الآخرة { إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين } المنقادين لحكمه.
[10.73-74]
{ فكذبوه } بعد اتمام الحجة كما كذبوه فى اول الدعوة { فنجيناه ومن معه في الفلك } من اذى قومه او من الغرق { وجعلناهم خلائف } فى الارض لنفسى اوللهالكين { وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر } حتى تتسلى وتطمئن بنصرتنا { كيف كان عاقبة المنذرين ثم بعثنا } عطف باعتبار المعنى ومفاد المحكى كأنه قال: بعثنا نوحا الى قومه ثم بعثنا { من بعده رسلا إلى قومهم فجآءوهم بالبينات } المعجزات الدالات على صدقهم او احكام النبوة المتعلقة بالقالب دون القلب فانها تسمى بالبينات كما ان احكام القلب تسمى بالزبر { فما كانوا } ثابتين { ليؤمنوا } يعنى ما كان فى سجيتهم قوة الايمان فكيف بفعليته { بما كذبوا به } بالرسالة التى كذبوها { من قبل } اى من قبل ان يبلغوا اوان الرشد وجواز وصول دعوة الرسالة اليهم، او من قبل هذا العالم فى عالم الذر، او من قبل زمانهم باعتبار تكذيب اسلافهم للرسل { كذلك } الطبع الذى طبعناه على قلوبهم { نطبع على قلوب المعتدين } تهديد لمكذبى قومه (ص).
[10.75-77]
{ ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا } التسع { فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين فلما جآءهم الحق } تفصيل لاجمال استكبارهم ولذلك عطف بالفاء { من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين قال موسى أتقولون للحق لما جآءكم } انه سحر بحذف المفعول او اتعيبون الحق والاستفهام للانكار { أسحر هذا } انكار لكونه سحرا { ولا يفلح الساحرون } حال على جواز الواو فى الحال المبدوة بالمضارع المنفى بلا، او بتقدير مبتدء.
[10.78]
{ قالوا أجئتنا لتلفتنا } لتصرفنا { عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبريآء في الأرض } اى السلطنة فى ارض مصر { وما نحن لكما بمؤمنين } تصريح بما اشعروا به فى ضمن انكار صرفهم وكبريائهما من عدم انقيادهم لهما.
[10.79-83]
{ وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم } ماهر { فلما جآء السحرة } وامرهم فرعون باتيان السحر ودبروا ما دبروا وتهيؤا لمعارضة موسى (ع) { قال لهم موسى } بعد ما خيروه واختار موسى تقديمهم { ألقوا مآ أنتم ملقون فلمآ ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر } ما مبتدأ وجئتم به صلته والسحر خبره، وقرئ السحر بهمزة الاستفهام وحينئذ يكون ما استفهامية وجئتم به خبره والسحر بدله والمعنى على الاول ما جئت به آلهى وما جئتم به بشرى مبنى على الاعمال الدقيقة الخفية او شيطانى مبنى على تمزيج القوى الارضية مع الارواح السفلية { إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين ويحق الله الحق بكلماته } التكوينية من الآيات والمعجزات ولا سيما الكلمات التامات من الانبياء والاوصياء { ولو كره المجرمون فمآ آمن لموسى إلا ذرية من قومه } اى جمع قليل من شبان قوم موسى لقلة مبالاتهم بتهديد فرعون او من قوم فرعون بمقتضى شبابهم حال كون هؤلاء الشبان مع جرأتهم وعدم مبالاتهم مشتملين { على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم } يعذبهم بالبلايا بدل من فرعون وملائهم او مفعول الخوف او بتقدير لام التعليل وجمع الضمير فى ملائهم اما لتعظيم فرعون او لان المراد من فرعون هو وخواصه فانه كثيرا ما يطلق اسم الرئيس ويراد به الرئيس واتباعه، او باعتبار رجوعه الى الذرية سواء فسر بذرية من قوم موسى (ع) او من قوم فرعون وعلى هذا يجوز ان يكون مفعول يفتنهم هو الملأ وعلى غير هذا الوجه فافراد الضمير فى يفتنهم للاشعار بان الخوف من ملأه كان بسببه وان الملأ كانوا لا حكم لهم بالاستقلال { وإن فرعون لعال في الأرض } لقاهر غالب عطف باعتبار المعنى كأنه قال انه ليفتنهم وانه لعال او حال ووضع الظاهر موضع المضمر للاشعار بعلة العلو لان اسم فرعون كان من القاب ملك مصر { وإنه لمن المسرفين } اكتفى بالضمير لان الاسراف لا يتوقف على السلطنة والمراد الاسراف فى تعذيب قوم موسى (ع).
[10.84]
{ وقال موسى } بعد ما رأى تعذيب فرعون لمن آمن به واضطرابهم من خوفه تسلية لهم وتقوية لقلوبهم بالتوكل على القادر القوى { يقوم إن كنتم آمنتم بالله } اتى باداة الشك اشعارا بان الخوف والاضطراب يورث الشك فى الايمان او اداة الشك للتهييج { فعليه توكلوا } لان الايمان يقتضى معرفته بانه عليم بصير قادر رحيم بالمؤمنين وذلك يقتضى التوكل { إن كنتم مسلمين } منقادين جزاؤه محذوف بقرينة السابق والتقدير ان كنتم منقادين فان كنتم مؤمنين بالبيعة العامة او الخاصة فعليه توكلوا يعنى ان التوكل يقتضى امرين الانقياد والايمان بالبيعة العامة النبوية او بالبيعة الخاصة الولوية.
[10.85]
{ فقالوا } اجابة له { على الله توكلنا } متضرعين قائلين { ربنا لا تجعلنا فتنة } سبب فتنة وشقاء { للقوم الظالمين } بان يبلغوا باستعبادنا وتعذيبنا غاية الغرور والشقاء يعنى لو اردت بلوغهم غاية الشقاء فاجعل سببه غير عذابنا، او المراد لا تجعلنا محلا لفتنتهم وعذابهم لنا.
[10.86]
{ ونجنا برحمتك.. } وضع الظاهر موضع المضمر للاشعار بذمهم بجمعهم بين الكفر والظلم.
[10.87]
{ وأوحينآ إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما } ان اتخذا لهم { بمصر بيوتا } مبوء ومرجعا يرجعون وقت العبادة اليها { واجعلوا بيوتكم } المبنية للعبادة { قبلة } تتوجهون اليها وقت العبادة باقامة عبادتكم فيها او بتوجهكم وقت عبادتكم نحوها { وأقيموا الصلاة } فيها او اليها، وفى الاخبار ما يشعر بان البيوت المأمور باتخاذها كانت مساجدهم وكانوا يجتمعون وقت العبادة اليها { وبشر المؤمنين } باجابة دعوتهم ونجاتهم ووراثتهم لملك مصر فى الدنيا والجنة فى الآخرة، فى الخبر:
" ان رسول الله (ص) خطب الناس فقال ايها الناس ان الله عز وجل امر موسى (ع) وهارون (ع) ان يبنيا لقومهما بمصر بيوتا وامرهما ان لا يبيت فى مسجدهما جنب ولا يقرب فيها النساء الا هارون وذريته، وان عليا (ع) منى بمنزلة هارون من موسى فلا يحل لاحد ان يقرب النساء فى مسجدى ولا يبيت فيه جنبا الا على (ع) وذريته فمن ساءه ذلك، فههنا، وضرب بيده نحو الشام ".
[10.88]
{ وقال موسى } متبتلا الى الله داعيا على فرعون وقومه { ربنآ إنك آتيت فرعون وملأه زينة } من الحلى والملابس والمساكن واثاثها والمراكب { وأموالا } من الذهب والفضة والضياع والخيل والبغال والغنم والجمال { في الحياة الدنيا ربنا } تكرار النداء لاقتضاء التضرع وحالة الدعاء والمحبة ذلك { ليضلوا } الناس { عن سبيلك } بطموح نظرهم الاعراض الفانية واتباع من وجدوها فى يده { ربنا اطمس على أموالهم } حتى لا يفتتن الناس بها لهم والطمس المحق والافناء اصلا { واشدد على قلوبهم } اوثق حبال القساوة على قلوبهم { فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم } عند الاحتضار ولا يؤمنوا مجزوم بلا او منصوب بان مقدرة دعاء عليهم بشد القلوب وعدم الايمان بعد ما علم انهم لا خير فيهم ويئس من ايمانهم.
[10.89]
{ قال قد أجيبت دعوتكما } ورد انه كان بين دعائه (ع) ووعد اجابته وبين اخذ فرعون وقومه اربعون سنة { فاستقيما } فيما انتما عليه من الدعوة ولا تضطربا بتأخير الوعد كالجهلة، والاستقامة فى الامر عبارة عن التمكن فيه بحيث لا يخرجه منه مخرج { ولا تتبعآن سبيل الذين لا يعلمون } سبيل الجهلة من عدم الثبات على امر.
[10.90]
{ وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم } اتبع بمعنى تبع او بمعنى جعل غيره تابعا اى تبعهم او اخرج الناس فى عقبهم { فرعون وجنوده بغيا وعدوا } بغى عليه بغيا عدا وظلم وعدل عن الحق واستطال وكذب، وفى مشيه اختال، وعدا ضد احب وعدا عليه ظلمه والاولى ان يكون الاول بمعنى الاستطالة والثانى بمعنى الظلم وتقدير الكلام اتبعهم فرعون اتباع بغى او بغوا بغيا او باغين وعادين او للبغى والعدو { حتى إذآ أدركه الغرق قال آمنت أنه } قرئ بفتح الهمزة بتقدير الباء او اللام وقرئ بكسر الهمزة على الاستيناف { لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين } اطنب فى الكلام حرصا على القبول واظهارا لشدة الالتجاء حين الاضطرار.
[10.91-92]
{ آلآن } فقيل له: آلآن آمنت وقد اضطررت والقائل كان جبرئيل { وقد عصيت قبل } حين الاختيار { وكنت من المفسدين فاليوم ننجيك ببدنك } من الماء لا بروحك من العذاب يعنى نخرجك ببدنك من غير روح على نجوة من الارض ليشاهدوك ويروا ذلك { لتكون لمن خلفك } من القبطى الباقى بعدك او السبطى الذى عظم شأنك فى نظره وشك فى انك عظيم من عظماء الخلق { آية } على كذبك وذلك وكمال قدرتنا وحكمتنا اذا رأوا انا اخذناك من حيث لم يكونوا يحتسبون لان القبطى وبعض السبطى يظنون ان له عظما وشرافة وانه لا يفعل به ما ينقص شأنه بل لا يموت { وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون } اى فانا مظهرون للآيات وان كثيرا فهو عطف على محذوف او عطف بلحاظ المعنى او استيناف شبيه بالعطف.
[10.93]
{ ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق } محل صدق او هو مصدر ميمى والمراد بمحل الصدق منزل لا يتأتى فيه الا الصدق كالقلب والصدر المنشرح بالاسلام المتعلق بالقلب، ومحل لا ينبغى ان يتأتى فيه الا الصدق كمحل يكون ما يحتاج اليه اهله موجودا سهل الوصول من غير مزاحمة احد، فلا يكون فيه عداوة وحقد وحسد وتدافع وبخل، واذا لم يكن فيه هذه لم يكن فيه كذب لا يراث هذه المذكورات الكذب واذا لم يكن كذب لم يكن الا الصدق، والمراد بمبوء الصدق مصر لوفور النعمة فيها وعدم المزاحمة بعد هلاك اعدائهم او شام كما قيل { ورزقناهم من الطيبات } الطيب من ارزاق الابدان ما لا تبعة فيه من الاسقام ومالا تبعة فيه من الآثام مع كونه ملذا للانام، ومن ارزاق الانسان العلوم والاخلاق التى تكون مأخوذة من اهلها ومعتدلة بين الافراط والتفريط { فما اختلفوا حتى جآءهم العلم } بحقية موسى (ع) ودينه بالآيات الظاهرات كما هو شأن امة كل نبى { إن ربك يقضي بينهم } جواب سؤال مقدر { يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } برفع اغشية الخيال وظهور الحق والباطل، والآية تعريض بأمة محمد (ص) فى اختلافهم بعده وحين حيوته بعد ما اظهر واعلى خلافة على (ع)، وعلى هذا فربط الآية الآتية بهذه الآية واضح لانها مفسرة بولاية على (ع).
[10.94-95]
{ فإن كنت في شك ممآ أنزلنآ إليك } والمراد بما انزل خلافة على (ع) او ما اوحى اليه (ص) ليلة الاسراء من عظمة مقام على (ع) كما فى الخبر ولم يكن له شك لكنه من باب اياك اعنى واسمعى يا جارة او الخطاب عام { فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جآءك الحق من ربك } قد مر مرارا ان الحق المضاف هو الولاية المطلقة ومظهرها على (ع) وكل حق حق بحقيته { فلا تكونن من الممترين ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله } واصل الآيات هى الآية الكبرى التى هى ولاية على (ع) { فتكون من الخاسرين } لانفاقك فى رد الآيات بضاعتك التى آتاك الله لتنفقه فى تصديق الآيات.
[10.96]
{ إن الذين حقت عليهم كلمة ربك } تعليل للسابق والمعنى لا تكن من الممترين الغير المؤمنين لان الذين حقت عليهم كلمة ربك { لا يؤمنون } لا من هو مثلك واصل الكلمات هى الولاية وهى واحدة كساير صفاته تعالى وافعاله وكل الكلمات من العقول والنفوس والاشباح النورية والاشباح الظلمانية والعبارات والنقوش الكتبية اظلال تلك الكلمة وتلك الكلمة تختلف بحسب القوابل ففى قابل تصير رضى ورحمة رحيمية وفى قابل سخطا وكل منهما اما تحق وترسخ للقابل او عليه واما لا تحق، والذى حقت له كلمة الرضا لا ينصرف عن الايمان والذى حقت عليه كلمة السخط لا ينصرف عن الكفر، والمعنى لا يؤمنون بالله او بالولاية او بعظمة شأن على (ع) او بالرسالة او بك.
[10.97]
{ ولو جآءتهم كل آية } من الآيات المقتضية للايمان { حتى يروا العذاب الأليم } عند الاحتضار ولا ينفع حينئذ نفسا ايمانها.
[10.98]
{ فلولا كانت قرية آمنت } جزاء شرط مستفاد من تعقيب عدم الايمان بالعذاب الاليم كأنه قال اذا كان عدم الايمان مستلزما لاليم العذاب فلولا كانت قرية آمنت { فنفعهآ إيمانها إلا قوم يونس } استثناء باعتبار معنى النفى لا التقريع { لمآ آمنوا } جواب سؤال كأنه قيل: ما كان حال قوم يونس؟ وما فعل بهم؟ او حال من قوم يونس { كشفنا عنهم عذاب الخزي } الخزى الفضحية فالاضافة بتقدير اللام او البلية فالاضافة بيانية { في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين } حين آجالهم المقدرة وقصة قوم يونس (ع) وانكارهم عليه ودعائه عليهم ومسألته نزول العذاب وعدم اجابة الله له ومراجعته فى ذلك مرارا، حتى اجابه الى ذلك ومشورته بعد ذلك مع تنوخا العابد وتصديقه وتحريصه له (ع) على ذلك، لعدم علمه ومشورته مع روبيل الحكيم وعدم تصديقه له وسؤاله عند المراجعة فى دفع العذاب ورد تنوخا عليه، وفراره من القوم مع تنوخا واقامة روبيل فيهم وترحمه عليهم ودعائه لهم الى التوبة وتعليم طريق التوبة لهم وكشف العذاب وفرار يونس بعد كشف العذاب وابتلائه ببطن الحوت وعوده الى قومه مذكورة فى المفصلات.
[10.99]
{ ولو شآء ربك.. } مصدقين لك او للرسالة او لعلى (ع) او للولاية او لله او مؤمنين بالايمان العام الحاصل بالبيعة العامة النبوية او بالايمان الخاص الحاصل بالبيعة الخاصة الولوية، يعنى ان الايمان بأى معنى كان لا يمكن اكراه البشر احدا عليه لان اكراه البشر لا يتجاوز عن حد القالب والايمان امر قلبى، فالاكراه يتحقق فى انقياد السلطنة وصورة البيعة العامة والدخول فى احكام الرسالة يعنى من كان مسخرا ومحيطا يمكنه اكراه المحاط لكن لا يمسى ذلك اكراها بل تسخيرا، وتقديم المسند اليه لافادة الحصر ان اريد ان مثلك البشرى لا يمكنه الاكراه بخلاف الملكوتيين او لمحض افادة تقوى الحكم.
[10.100]
{ وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله } الجملة حالية او مستأنفة والاول اوفق بترتب الانكار على تعليق الايمان على المشية { ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون } حق المقابلة ان يقال ولا ان تكفرا الا باذن الله لكن لما كان الايمان هو الدخول فى حريم قدسه تعالى كان موقوفا على اذنه، والكفر لما كان عدم الدخول لم يكن موقوفا على اذنه بحسب الظاهر ولما كان تبعة الكفر بفعل الله جعل الرجس الذى هو تبعة الكفر الى نفسه.
[10.101]
{ قل انظروا ماذا في السماوات والأرض } من الآيات الدالة على كمال قدرته تعالى وحكمته حتى توقنوا به وتؤمنوا والاستفهام للتعجيب والتفخيم { وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون } اما من كلام الله او محكى بالقول وعلى اى تقدير فما نافية والجملة معطوفة على محذوف مؤلف معه قياس من الشكل الاول تقديره لكنهم قوم لا يؤمنون وكل قوم لا يؤمنون لا تغنى الآيات والنذر عنهم، ويجوز ان يكون الجملة حالية عن فاعل قل او عن فاعل انظروا او مفعوله وتكون مشيرة الى القياس المذكور ويجوز ان يكون ما استفهامية معطوفة مع ما بعدها على ماذا فى السموات او تكون الجملة حالية بتقدير القول.
[10.102-103]
{ فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا } مضوا { من قبلهم } جواب شرط محذوف اى ان كانت الآيات لا تغنى عنهم، او عطف على محذوف اى هل يرجون الا عقوبة الله، او عطف على ما تغنى الآيات باعتبار ان معناه ما ينتطرون، او بتقدير القول اى فيقال لهم هل ينتظرون، او باعتبار كون ما استفهامية { قل فانتظروا } ام للتهكم { إني معكم من المنتظرين ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا } عطف على محذوف تعليل للامر بالتحدى معهم تقديره فانا ننزل العذاب على المكذبين ثم ننجى رسلنا والذين آمنوا { كذلك حقا علينا } كذلك متعلق بالفعل الاتى وحقا علينا مفعول مطلق لحق محذوفا معترض بينهما { ننج المؤمنين } لما كان المقام لتقريع المكذبين والمقصود بالوعد زيادة حسرتهم وتجزئة نبيه (ص) والمؤمنين فى التحدى معهم صار التأكيد والتكرار مطلوبا ولذلك كرر الانجاء بالنسبة الى المؤمنين مؤكدا بحقا.
[10.104]
{ قل يأيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله } يعنى بعد ما بعثتك بالنبوة فاعلن دينك ولا تخف منهم ولا تخف دينك وان كنت قبل ذلك خائفا خافيا { ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم } التعليق على التوفى المتعلق بهم لتهديدهم { وأمرت أن أكون من المؤمنين } بكل من معانى الايمان.
[10.105]
{ وأن أقم وجهك للدين } عطف على ان اكون وغير الاسلوب اشارة الى انه مأمور بالثبات فى الايمان وادامته واما اقامة الوجه للدين فان الثبات والدوام فيه للبشر غير مقدور لضرورة اشتغاله بالكثرات، والاشتغال بالكثرات وان كان لمن لا يشغله شأن عن شأن غير مانع من اقامة الوجه للدين لكنه للاكثر مانع ولمن لا يشغله شأنه عن شأن ايضا مانع من قوة الاقامة وكمالها، وان، فى ان اقم مصدرية او تفسيرية وعلى المصدرية فالاتيان بالامر على حكاية حال الامر والخطاب { حنيفا } حال عن فاعل اقم او عن الدين { ولا تكونن من المشركين } بجملة انواع الشرك.
[10.106-107]
{ ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك } من الاصنام والكواكب والاهواء والمهويات ومن نصب دون الامام فان شيئا من هذه لا يقدر على نفع وضر الا باذن الله واذا لم يتصور فى المدعو نفع وضر كان دعاؤه لغوا وهذا على اياك أعنى واسمعى يا جارة، او صرف الخطاب عنه الى غير معين { فإن فعلت } الفاء للسببية المحضة { فإنك إذا من الظالمين وإن يمسسك الله بضر } حال او عطف فيه معنى التعليل { فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا رآد لفضله } اختلاف القرينتين للدلالة على تفاوتهما فى الارادة كأن الضر يمس الانسان بفعله من غير ارادة الله وان كان الفاعل هو الله لانه غير مراد بالذات وان الخير بارادة الله كما قال تعالى ما اصابك من حسنة فمن الله وما اصابك من سيئة فمن نفسك ووضع فضله موضع ضمير الخير للاشارة الى ما قلنا من ان الشر غير مراد بالذات ويلحق العبد بعمله وان الخير مراد بالذات كأنه يلحق العبد بمحض الفضل من دون استحقاق بالعمل { يصيب به } بالخير { من يشآء من عباده وهو الغفور الرحيم } عطف على يصيب والمقصود انه لا يمس الضر اكثر المستحقين لانه هو الغفور الرحيم فوضع موضع المعلول.
[10.108]
{ قل يأيها الناس قد جآءكم الحق من ربكم } قد مر مرارا ان الحق هو الولاية وان كل حق حق بحقيته وان عليا هو مظهرها التام، فالمراد جاءكم على (ع) باعتبار ولايته او ولاية على (ع) او الولاية المطلقة ومظهرها على (ع) ويدل على هذا قوله تعالى { فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه } لان الاهتداء ليس الا الى الولاية فان النبوة ما به الهداية كما قال الله تعالى
بل الله يمن عليكم أن هداكم
[الحجرات:17] بالاسلام للايمان { ومن ضل فإنما يضل عليها ومآ أنا عليكم بوكيل } حتى اجبركم على الولاية وامنعكم عن الضلالة.
[10.109]
{ واتبع ما يوحى إليك } جملة ما يوحى اليك ومنها الولاية او ما يوحى اليك فى امر الولاية بخصوصه واتباع ما يوحى فى امر الولاية امتثال بتبليغها وعدم الخوف من القوم ولذا أمره بالصبر فقال { واصبر } على اذاهم ونفاقهم { حتى يحكم الله } بينك وبين من نافق فى امر على (ع) { وهو خير الحاكمين }.
[11 - سورة هود]
[11.1]
{ الر } قد سبق انها اشارة الى مراتب العالم او مراتب وجوده (ص) ولذلك ورد: ان الحروف المقطعة فى اوائل السورة اسماؤه، ومضى انه فى حال انسلاخه يشاهد من تلك الحروف ما لا يمكن التعبير عنه الا بالمناسبات وان مراتب العالم او مراتب وجوده (ص) كتاب حقيقى تكوينى وان الكتاب التدوينى صورة تلك الكتاب { كتاب } خبر للحروف المقطعة او خبر مبتدأ محذوف { أحكمت آياته } فى مقامه العالى من مراتب العقول المعبر عنها بالاقلام وفى مراتب النفوس الكلية المعبر عنها بالالواح العالية، واللوح المحفوظ واحكام الآيات فى تلك المراتب عبارة عن عدم الخلل والبطلان والتغيير والنسخ فيها فانه فى تلك المراتب لا يمسه الا المطهرون ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو فى تلك المراتب محفوظ عن التشابه بالباطل وبكلام غير الحق تعالى وهو فيها بنحو الاجمال من غير تفصيل { ثم فصلت } بعد تلك المراتب فى مراتب النفوس الجزئية المعبر عنها بالالواح الجزئية وكتاب المحو والاثبات ثم فى مراتب الاعيان المعبر عنها بكتاب المحو والاثبات العينى ثم فى مرتبة الاصوات والحروف ثم فى مرتبة الكتابة والنقوش، وليست آيات الكتاب فى تلك المراتب محكمات لتطرق المحو والاثبات والنسخ والتبديل اليها ويتشابه حقها بباطلها لتشابه المظاهر الشيطانية بالمظاهر الآلهيته وتشابه الاعمال والاقوال والاحوال والاخلاق، فان المظاهر الشياطانية يعملون أعمالهم الشيطانية بصور الاعمال الآلهية ثم يقولون هى بأمر الله والحال انها بأمر الشيطان ويحسبون أنهم يحسنون صنعا، ويقرؤن الآيات القرآنية بألسنتهم وهى ألسنة الشيطان ويكتبون الآيات التدوينية بأيديهم وهى أيدى الشيطان ثم يقولون: هو من عند الله وما هو من عند الله، بل من عند الشيطان غاية ما فيه انها مشابهة لما هو من عند الله صورة { من لدن حكيم خبير } كامل فى العمل والعلم وذكر الوصفين للاشارة الى ان كتابه التكوينى والتدوينى على كمال ما ينبغى فليس لاحد ان يرد شيئا منهما او يلوم احدا كما ورد: لو اطلعتم على سر القدر لا يلومن احدكم احدا، ولدن الله وعند الله عبارة عن عالم المجردات وتفصيل الكتاب نشأ منها ولذا ورد، ان القرآن نزل جملة على البيت المعمور او على قلب محمد (ص) ثم نزل منه نجوما على صدره.
[11.2]
{ ألا تعبدوا إلا الله } ان مصدرية اى لان لا تعبدوا والفعل نفى او نهى او تفسيرية والفعل نهى يعنى ان خلاصة الغرض من تفصيل الكتاب نهيكم عن عبادة غير الله وامركم بالاستغفار والتوبة { إنني لكم منه نذير وبشير } اما من كلام الله ولا اشكال او من كلام الرسول (ص) حكاه الله كأنه قال: فبلغه رسولنا (ص) فقالوا: ما انت وذاك؟ - فقال:
" اننى لكم من جانب الله نذير من موجبات سخطه وبشير برحمته ".
[11.3]
{ وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه } اعلم، ان اللطيفة الانسانية السيارة التى يعبر عنها بالروح خلق الله الارواح قبل الأبدان بالفى عام وقد يعبر عنها بالامانة عرضنا الامانة على السماوات والارض قد يعبر عنها بالانسان وبفطرة الله وبقية الله وغير ذلك من الاسماء نزلت من عالم القدس، ومقام الاسماء على الصراط المستقيم الى عالم الطبع فصارت جسما وعنصرا وجمادا ونباتا وحيوانا وانسانا الى ان بلغ او ان البلوغ وحد الانسانية، وكان عوده الى ذلك المقام على الصراط المستقيم بمحض تسبيبات آلهية من غير مدخلية لاختياره، وفى هذا المقام يصير برزخا بين عالمى الجنة والملائكة ويصير مختارا مريدا لخيراته نافرا عن شروره مميزا لهما، فان ساعده التوفيق وصار اختياره موافقا لفطرته سلك باختياره على الصراط المستقيم الى الله، وان لم يساعده التوفيق وصار اختياره مخالفا لفطرته وموافقا لمراد الشيطان رجع عن الصراط المستقيم الى دار الجنة ومهوى الجحيم، فان تنبه وتذكر ان سلوكه كان الى الجحيم وان كلما فعله فى هذا السلوك كان موذيا للطيفته الانسانية صار حاله مثل من وقع فى سجن ضيق مملو من العذرات والجيف المنتنة والحشرات الموذية مستدعيا من السجان ستر تلك ما لم يتخلص من السجن وهذا استغفاره من السجان، فاذا وجد مهربا فر منه وهذا الفرار توبة عامة اى التوبة من المعصية ثم اذا وجد دليلا يدله على الطريق او على المقصد فر الى طريق المقصد او الى المقصد وهذا الفرار توبة خاصة اى التوبة الى الله وهذه التوبة لا تتصور الا على يد نبى (ص) وتكون اسلامية، او على يد ولى وتكون ايمانية، وللتوبة الاسلامية التى يحصل بها الاسلام وكذا للتوبة الايمانية التى يحصل بها الايمان شرائط وآداب وعهود ومواثيق كانت مقررة عندهم فقوله تعالى: { استغفروا ربكم }؛ خطاب لمن وقع فى سجن الطبع يعنى اطلبوا ايها الواقعون فى سجن الطبع من ربكم ستر عذرات الهوى وجيف الشبه وموذيات الغضبات والشهوات ما لم تجدوا فرصة ومهربا من السجن، حتى لا تفسد دماغكم بنتنها ولا تفسد فطرتكم الانسانية ثم فروا منه كلما وجدتم فرصة ومهربا ثم فروا الى الله بالتوبة على ايدى خلفائه والبيعة معهم بشرائطها اذا وصلتم اليهم فان تبتم اليه بشرائطها { يمتعكم متاعا حسنا } ما دمتم فى الطريق { إلى أجل } وقت { مسمى } معين لخروجكم من الدنيا ووصولكم الى موطنكم بالموت الاخيتارى او الاضطرارى { ويؤت كل ذي فضل } فى الطريق بكثرة المجاهدة وكثرة جنوده الآلهية فى مملكته { فضله } عين فضله لان الفضل يتصور بصور حسناء خصوصا على ما قلنا من ان الفضل لذى الفضل هو كثرة الجنود الآلهية او على القول بتجسم الاعمال او جزاء فضله كما فسره المفسرون { وإن تولوا } تتولوا عن عبادة الله والاستغفار والتوبة { فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير } يوم القيامة الكبرى.
[11.4-5]
{ إلى الله مرجعكم } تعليل او حال { وهو على كل شيء قدير ألا إنهم يثنون صدورهم } ثنى الصدر وثنى الظهر كناية عن اخفاء الانسان نفسه حتى لا يراه احد وهو ابداء ذم بأنهم لحمقهم يثنون صدورهم { ليستخفوا منه } من الله مع انه عالم بسرائرهم فكيف يتسخفون منه بعلنهم بواسطة تثنية ظهورهم، روى ان المشركين كانوا اذا مروا برسول الله (ص) حول البيت طأطأ احدهم ظهره ورأسه هكذا، وغطى رأسه بثوبه حتى لا يراه رسول الله (ص) فأنزل الله الآية، ونقل انه كناية عن انطواء قلوب المنافقين على بغض على (ع) { ألا حين يستغشون ثيابهم } حين دخولهم فى خلواتهم واستغشائهم ثيابهم للمنام وهو أخفى حالاتهم او حين يستغشون ثيابهم لئلا يراهم الرسول (ص) { يعلم } الله { ما يسرون } من النيات فيعلم نبيه (ص) والمؤمنين { وما يعلنون } من الافعال { إنه عليم بذات الصدور } بمكمونات الصدور التى لم تخرج من القوة الى الفعل بعد، ولا خبرة لهم بها فكيف بنياتها وخطراتها وحالاتها التى هى علانية بالنسبة الى ذات الصدور فان غير المكمونات لجواز زوالها عن الصدور لا يصدق عليها انها صاحبة للصدور وهو تعليل لسابقه.
[11.6]
{ وما من دآبة في الأرض } عطف على انه عليم بذات الصدور او حال من المستتر فى عليم { إلا على الله رزقها } فكيف لا يعلم حالها وما يوافقها وما يخالفها { ويعلم مستقرها } محل قرارها من الدنيا او من الآخرة { ومستودعها } محلها الذى ينتقل منها من اصلاب الآباء وارحام الامهات ومن منازل الدنيا ومنازل الآخرة الى مستقرها فى الآخرة، ويجوز ان يكونا اسمى زمان او مصدرين، ويجوز اعتبار الاستقرار بالاضافة وكذلك اعتبار الاستيداع وحينئذ يكون كل من منازل الدنيا والآخرة مستقرا ومستودعا باعتبارين سوى المنزل الاخير من الآخرة لانه يكون مستقرا على الاطلاق { كل } من الدواب او من المستقر والمستودع { في كتاب مبين } هو القلم العالى او اللوح المحفوظ.
[11.7]
{ وهو الذي خلق السماوات والأرض } سماوات الارواح وارض الاشباح الملكوتية النوارنية والملكية الظلمانية والسفلية السجينية وسماوات عالم الطبع وارض ذلك العالم { في ستة أيام } قد مر تفسير الآية ووجه التقييد بستة ايام فى سورة الاعراف { وكان عرشه على المآء } عرش الرحمن مشيته التى هى فعله وكلمته والحق المخلوق به والولاية المطلقة والحقيقة المحمدية (ص) واضافته الاشراقية وهى اضافة الحق الى الخلق، ولها وجه الى الحق المطلق وبهذا الوجه تسمى عرشا ووجه الى الخلق وبهذا الوجه تسمى كرسيا، وهى بوجهها الاول ظهوره تعالى باسمائه وبوجهها الثانى ظهوره تعالى بافعاله اذا اعتبرت اضافتها الى الخلق كان حاملها اقرب الممكنات اليها، وهم اربعة فى النزول واذا اعتبر الصاعدون معها صاروا ثمانية
ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية
[الحاقة:17] واذا قطع النظر عن اضافتها الى الخلق كان وجهها الخلقى وجودا صرفا ويعبر عنه بالماء وكان الوجه الخلقى حاملا لها من حيث وجهها الحقى فقبل اعتبار الخلق كان عرشه على الماء، وما ورد فى الاخبار من التفاسير المختلفة راجع الى ما ذكرنا { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } ليعلم بالاختيار ايكم احسن عملا ولهذا التضمين علق يبلوكم باداة الاستفهام والمعنى انا خلقنا السماوات والارض فى المراتب الست من مراتب العالم وخلقكم بين السماوات والارض وجعل لكم طريقا اليهما وسهل لكم الصعود الى السماوات والنزول الى الارض، واودع فيكم انموذجا من كل ليبلوكم بذلك ويظهر من كان منكم احسن عملا، وانما اقتصر على ذكر حسن العمل واتى بصيغة التفضيل اشارة الى ان الغاية هو الذى يكون احسن عملا والباقى منظور اليه بالتبع واما قبح العمل فهو من الطوارى فالآية اشارة الى شرافة الانسان وترغيبه فى محاسن الاعمال بألطف وجه { ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا } بالمعاد سواء كفروا بالمبدأ ام لا { إن هذآ } القول بالعود { إلا سحر مبين } السحر يطلق على عدة معان منها القول الباطل الذى لا يعلم وجه صحة له وقد ابرز بتمويهات وتخييلات مبرز الحق.
[11.8-9]
{ ولئن أخرنا عنهم العذاب } الذى وعدناهم على لسانك { إلى أمة معدودة } الامة ههنا البرهة من الزمان لكونها مقصودة متوجها اليها والمعدودة القليلة، او المراد اصحاب القائم عجل الله فرجه الثلاثمائة وبضع عشر؛ وقد اشير فى الاخبار الى كليهما { ليقولن } استهزاء { ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم } يوم ظهور القائم (ع) او يوم الموت او يوم عذاب الدنيا او يوم الساعة { وحاق بهم } قبل هذا الزمان العذاب الموعود فان مادته محيطة بهم وصورته مكمونة فيهم لكن لا يشعرون به لغشاوة أبصارهم { ما كانوا به يستهزءون ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة } نعمة صحة وسعة وولد { ثم نزعناها منه إنه ليئوس } عن اعطائها لعدم صحة اعتقاده بفضلنا { كفور } لتعلق قلبه بالنعمة نفسها وبعد انتزاعها لا يبقى له حالة شكر على النعمة لغفلته عن المنعم وانقطاعه بالزوال عن النعمة.
[11.10]
{ ولئن أذقناه نعمآء بعد ضرآء مسته } كان حق العبارة ان يقول: ولئن اصبناه بضراء ثم كشفناها عنه حتى يوافق قرينته لكنه تعالى اراد ان يفتتح القرينتين بنسبة الانعام اليه ولا ينسب مسيس الضر الى نفسه لانه تابع لاعمال الانسان { ليقولن ذهب السيئات عني } لان نظره كان مقصورا على صورة النعمة غير متجاوز الى المنعم والى غاية النعمة { إنه لفرح فخور } جواب سؤال عن علة القول اى يقول ذلك لان فى جبلته الفرح بالنعمة والفخر على الخلق بها او جواب سؤال عن حال القائل.
[11.11-12]
{ إلا الذين صبروا } فانهم لصبرهم وثباتهم على النظر الى المنعم لا يخرجهم زوال النعمة الى اليأس والكفران غفلة عن المنعم ولا تجرهم النعمة الى البطر والفخر لخوفهم عن الاستدراج وعن زوالها { وعملوا الصالحات } والمراد بالصبر حقيقة هو الدخول فى الاسلام وتحت احكام النبوة ولقد فسر الصبر فى قوله واستعينوا بالصبر بمحمد (ص) لنبوته والمراد بعمل الصالحات حقيقة هو الدخول فى الايمان وتحت احكام الولاية وقد فسر الصلاة فى الآية المذكورة وهى اصل الاعمال الصالحة بعلى (ع) لولايته { أولئك لهم مغفرة وأجر كبير فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك } فى فضيلة على (ع) او فى ولايته كما روى انه (ص) دعا لعلى (ع) فاستهزأ قومه او انه (ص) بعد ما نزل الوحى بولاية على (ع) خاف من تكذيب قومه فنزل الآية او بعض ما يوحى اليك مطلقا على ظاهره { وضآئق به صدرك أن يقولوا } لان يقولوا او كراهة ان يقولوا { لولا أنزل عليه كنز } ان كان صادقا فى انه ينزل عليه الوحى او فى انه يجاب دعاؤه { أو جآء معه ملك } فيعينه او يصدقه { إنمآ أنت نذير } تعليل للمقصود من قوله لعلك تارك يعنى لا ينبغى لك الترك لقولهم واستهزائهم لان شأنك الانذار وليس عليك قبولهم وردهم حتى تترك شأنك لردهم { والله على كل شيء وكيل } لا انت فعليه ترك الانذار والاهمال حيثما استحقوا ذلك والامر بالانذار والردع عن المساوى حيثما استحقوا ذلك وعليه اثابة الفاعل وعقوبة المنكر فليس عليك الا ما هو شأنك من الانذار والتبليغ ما لم تنه عنه من الله.
[11.13]
{ أم يقولون افتراه قل } متحديا معهم { فأتوا بعشر سور مثله مفتريات } فيما تدركون منه من حسن النظم وتناسق الحروف والكلمات وتأدية معان كثيرة بالفاظ قليلة والاتيان بحق ما يقتضيه كل مقام والتأدية بأحسن ما يمكن التأدية به بحسب كل مقام، واما ما لا تدركونه منه مما يترتب على حروفه من فوائد العلوم المنوطة بحروفه من علم الاعداد والحروف والطلسمات، ومما يستنبط منه من المغيبات التى كلها عند اهل القرآن وليس لاحد الوصول اليها الا بتطهير قلبه من الاحداث والاخباث ودخوله فى سلك المشاهدين او المتحققين بحقيقة القرآن، لان القرآن لا يمكن مسيسه الا للمتطهرين فلا كلام فيه معكم فانكم متباعدون عن التخاطب بامثال هذه { وادعوا من استطعتم من دون الله } من الشياطين والجنة التى يدعوها الكهنة، ومن الكواكب والاصنام التى يدعوها المشركون، ومن الفصحاء الذين يظنهم الناس قادرين على الاتيان بمثله { إن كنتم صادقين } انه مفترى.
[11.14]
{ فإلم يستجيبوا لكم } اى ان لم يستجب الشركاء لكم ايها المنكرون او ان لم يستجب المنكرون لكم ايها المؤمنون الى ما تحديتم به، ولما كان الغرض من هذا التحدى تسلية المؤمنين وتقوية ضعفاء المسلمين جعلهم شركاء له (ص) فى الخطاب على هذا الوجه، ويجوز ان يكون هذا ابتداء كلام ويجوز ان يكون مقول قوله (ص) { فاعلموا أنمآ أنزل } القرآن { بعلم الله } اى باطلاعه او ان الذى انزل انزل باطلاع الله لا بافتراء عليه { وأن لا إله إلا هو } يعنى ان الذين يدعونه من دون الله الشياطين والاصنام والكواكب لا تصرف ولا تسلط لهم على شيء ولا استحقاق للعبودية الا له يعنى ان عجزهم عن الاتيان بدليل على صدق محمد (ص) وعلى نفى استحقاق غيره للعبادة وعلى كذب المكذبين فى دعوى الآلهة لغيره تعالى { فهل أنتم مسلمون } منقادون خالصون عن الريب ان كان الخطاب لضعفاء المسلمين او فهل انتم معتقدون لدين الاسلام داخلون فيه ان كان الخطاب للكفار بصرف الخطاب عن المسلمين الى المشركين يعنى ان علمتم ايها المؤمنون او ان عجزتم وعلمتم عجز شركائكم ايها المشركون فهل انتم مسلمون.
[11.15]
{ من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها } باعماله الاسلامية وارتكاب صور الاعمال الحسنة وتحمل المشاق وانفاق الاموال فى حفظ الاسلام واعلائه كما فعل المنافقون من اصحاب الرسول (ص) واظلالهم من اتباعهم الى يوم القيامة وكل من تحمل المتاعب الشديدة من متاعب الغربة والاسفار البعيدة والصبر على الجوع والحر والبرد فى تحصيل المسائل الدينية لغرض الوصول الى المناصب الدنيوية داخل فى مصداق الآية ويدل على هذا التفسير قوله تعالى { نوف إليهم أعمالهم فيها } لان توفية الاعمال فى الدنيا ليست الا لمن عمل الاعمال الصالحة صورة وذلك لان يخرجوا من الدنيا ومالهم من صورة اعمالهم المشابهة لاعمال المؤمنين شيء { وهم فيها لا يبخسون } هذا بحسب حال الاغلب والا فقد يريد الدنيا ويتعب نفسه فى تحصيلها وفى تحصيل العلم وارتكاب صور الاعمال الشرعية لغرض من الاغراض الدنيوية ولا يصل اليها كما ترى من حرمان بعض عن اغراضهم فليس له الآخرة لانها لم تكن مقصودة له ولا الدنيا لحرمانها عنها فيشبه دنياه آخرة يزيد لعنه الله وآخرته دنيا ابى يزيد ولهذا قيد الاتيان فى آية اخرى بما يشاء لمن يشاء.
[11.16]
{ أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها } اى فى الدنيا او فى الآخرة ظرف للصنع او للحبط { وباطل ما كانوا يعملون } لما توهم من ذكر الحبط ان اعمالهم لها شوب من الحقية قال باطل اشارة الى انه لا حقية لها اصلا بل هى بالفعل باطلة لا انها يطرؤها البطلان فى الآخرة.
[11.17-18]
{ أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة } الهمزة للانكار والخبر محذوف اى كمن ليس له بينة فى دعويه ويريد الدنيا، والمراد بالموصول محمد (ص) او على (ع) او جملة المؤمنين والمراد بالبينة الرسول (ص) او رسالته او معجزاته او كتابه او احكام رسالته او على (ع) او ولايته، ويتلوه اما من التلاوة او من التلو وضمير المنصوب اما للموصول او للبينة والتذكير باعتبار المعنى او للقرآن بقرينة ذكره سابقا والشاهد اما محمد (ص) او على (ع) او القرآن او البرهان الذى يؤتيه الله المؤمن من الآيات الآفاقية والانفسية، وضمير المجرور اما للموصول او للرب او للبينة، وضمير من قبله راجع الى الموصول او الى البينة او الى الشاهد، ومن قبله كتاب موسى اما جملة حالية او معطوفة على خبر كان والجملة اما ظرفية مكتفية بمرفوعها عن الخبر او اسمية وخبره مقدم، او من قبله كتاب موسى (ع) عطف على شاهد عطف المفرد، واماما ورحمة اما حال عن الموصول او عن البينة او عن الشاهد او عن كتاب موسى (ع)، فهذه تسعة الاف وسبعمائة وعشرون (9720) وجها حاصلة من ضرب بعض الوجوه فى بعض هذا بالنظر الى المعنى، واما بالنظر الى وجوه الاعراب واعتبارات النحو مثل احتمال كونه اماما حالا من المستتر فى كان او فى على بينة او من مفعول يتلوه او المجرور فى منه او المستتر فى من قبله وكذلك احتمالات كون جملة من قبله كتاب موسى (ع) حالا من كل من المذكورات السابقة، فالوجوه والاحتمالات تصير اكثر من ذلك ويسقط بعض الاحتمالات لعدم صحتها او تكررها او بعدها ويبقى الباقى صحيحا، وقد اشير الى اجمالها فى الاخبار وهذا من سعة وجوه القرآن وصحة حمله على كل وجه ويستفاد من تفاسيرهم (ع) ان احسن الوجوه الذى امروا بالحمل عليه فيما نسب اليهم (ع) من مضمون: ان القرآن ذو وجوه فاحملوه على احسن وجوهه؛ هو ما يوافق مقام البيان { أولئك يؤمنون به } بالقرآن او الرسول (ص) او على (ع) او ما انزل من ولاية على (ع) { ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه } من القرآن او شأن رسالتك او على (ع) او شأن ولاية على (ع)، هذا على ان يكون الخطاب لمحمد (ص) وان كان الخطاب عاما فالمعنى فلانك يا من يتأتى منه الخطاب فى مرية من محمد (ص) او رسالته او القرآن او على (ع) او ولايته { إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم } صورة الآية عامة فى كل من ادعى شيئا وادعى انه من الله، مثل الوثنى والصابئى وغيرهم من المشركين المدعين ان اشراكهم من الله ، ومثل المبتدعين من اصحاب الملل الآلهية مع ادعائهم ان ابتداعهم من نبيهم ومن دينهم، ومثل المنحرفين من اهالى المذاهب المختلفة من امة محمد (ص)، ومثل اصحاب الفتاوى من العامة ومثل اصحاب الفتاوى من اهل المذهب الحق من غير اذن واجازة من المعصوم (ع) عموما او خصوصا بواسطة او بلا واسطة، ومثل المنتحلين للتصوف من غير اذن واجازة صحيحة من المشايخ الحقة سواء كانوا مدعين للشيخوخة من غير اذن او للسلوك من غير اخذ، لكن المقصود اصل الكاذبين الذين نصبوا انفسهم دون ولى الامر (ع) وادعوا انه من الله ومن رسوله (ص) والاشهاد خلفاء الله الذين يشهدون على اعمال اهل الارض ويقبل الله منهم الشهادة يوم القيامة على اهل عصرهم او الملائكة الموكلة عليهم { ألا لعنة الله على الظالمين } من قول الاشهاد ومن قول الله ووضع الظاهر موضع المضمر للاشعار بأنهم ظالمون وللاشارة الى ان المراد مخالفوا آل محمد (ص) وصفهم بقوله { الذين يصدون عن سبيل الله }.
[11.19]
{ الذين يصدون عن سبيل الله } بيان للظالمين يعنى ان الظالمين آل محمد (ص) حقهم هم الذين يعرضون عن آل محمد (ص) ويمنعون غيرهم عنهم، وسبيل الله هو الامام وولايته فى العالم الكبير والعقل او اتباعه فى العالم الصغير، والاعراض عن الامام (ع) لا يكون الا بعد الاعراض عن العقل وكذا المنع بل هما متلازمان { ويبغونها عوجا } اى يطلبون لها عوجا او يطلبونها معوجة يعنى ان كانت معوجة يطلبونها لا اذا كانت مستقيمة اما لان الانسان عدو لما جهل او لانه بفطرته يطلب ان يكون كل طريق مثل طريقه او المعنى كما فى الخبر يرحفونها عن اهلها الى غير اهلها او يخلطونها على الضعفاء باظهار ما يظنونه عيبا فيها { وهم بالآخرة هم كافرون } تكرير الضمير لتأكيد الاختصاص.
[11.20]
{ أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض } تهديد لهم وتسلية للرسول (ص) { وما كان لهم من دون الله من أوليآء } حتى يمنعوهم من عقوبة الله ويصلحوا ما فسد من امورهم ومن يظنونهم اولياء ممن نصبوهم دون ولى الامر (ع ) فهم لا يمنعون عن انفسهم ولا يصلحون انفسهم فكيف بغيرهم { يضاعف لهم العذاب } جواب سؤال مقدر عن حالهم او عن حال الاولياء (ع) من دون الله كأنه قيل: فما حال اوليائهم الذين يتولونهم من الاصنام والاحبار والرهبان والرؤساء الذين يظنون هم رؤساء الدين والمقصود غاصبوا آل محمد (ع) حقهم، فقال يضاعف لهم العذاب فكيف ينصرون غيرهم وهذا انسب بالمقام { ما كانوا يستطيعون السمع } حال من الضمير المجرور او استيناف اخر يعني لشدة العذاب لا قدرة لهم على استماع شيء او كانوا لا قدرة لهم على سماع فضيلة على (ع) فى الدنيا لبغضهم له (ع)، واسم كان اما ضمير الظالمين او الاولياء (ع) { وما كانوا يبصرون } بالوجهين.
[11.21]
{ أولئك } الظالمون او الاولياء او المجموع { الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون } مما ادعوا انتسابه الى الله من ادعاء الخلافة والفتاوى الباطلة وادعاء شفاعة الآلهة وشفاعة من يظنونهم خلفاء الرسول (ص) ورؤساء الدين وشفعاء يوم القيامة.
[11.22]
{ لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون } حيث بدلوا بضاعتهم بما لم يبق منه عين ولا اثر وظنوا انه اجل عوض اخذوه.
[11.23-25]
{ إن الذين آمنوا } ايمانا عاما بالبيعة العامة النبوية او ايمانا خاصا بالبيعة الخاصة الولوية ودخول الايمان فى قلوبهم { وعملوا الصالحات } بعد الايمان العام بالدخول فى الايمان الخاص او العمل بشرائط الايمان الخاص مما اخذ عليهم فى الميثاق والبيعة الولوية اذ مر مرارا ان اصل الصالحات هو الولاية ولا يكون عمل صالح الا بقبول الولاية ودخول الايمان فى القلب { وأخبتوا إلى ربهم } الاخبات الاطمينان مع الخشوع من الخبت بمعنى المتسع من الارض المطمئنة والمعنى اطمأنوا اليه بالخشوع والانقطاع عن غيره، والرب المضاف هو الولى الذى بايعوا معه بيعة خاصة ولوية ولا يصدق الاخبات الا بعد لقائه بالوصل الى ملكوته والحضور عنده، فان تلك البيعة تورث المحبة والمحبة تورث الاضطراب وعدم الاطمينان دون الاتصال بالمحبوب ولا يقنع المحب بالاتصال البشرى حتى يحصل له الاتصال الملكوتى ويجد المحبوب فى عالمه ويتحد معه وهو الذى يعبر عنه بالفكر والحضور والسكينة { أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون مثل الفريقين } الصادين عن سبيل الله والمؤمنين به { كالأعمى والأصم } كالذى يعمى فى انه لا يبصر طريقه وموبقات طريقه، وكالذى يصم فى انه لا يسمع من الصوت ما هو مقصوده او فى انه لا يسمع نداء منادى الله فى العالم الكبير ولا فى العالم الصغير او كالذى يعمى ويصم ليكون تشبيها واحدا لا ان يكون التشبيه تشبيهين { والبصير والسميع } تقديم الكافرين لمراعاة اللف { هل يستويان مثلا أفلا تذكرون ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم } بأنى على قراءة فتح الهمزة: وقائلا انى لكم { نذير مبين } على قراءة كسر الهمزة، او هو مستأنف على هذه القراء جوابا لسؤال مقدر.
[11.26]
{ أن لا تعبدوا إلا الله } ان تفسيرية وتفسير لأرسلنا او لنذير او لمبين على ان يكون بمعنى مظهر لانذارى او بمعنى ظاهر الانذار على ان يكون النهى عن عبادة غير الله بيانا للانذار من الله او للافعال الثلاثة شبه التنازع وذلك لان ان التفسيرية فى الحقيقة تفسير لمتعلق مجمل للفعل المفسر بها ويجوز ان يكون تفسير واحد تفسيرا لعدة اشياء مجملة كأنه قيل: لقد ارسلنا نوحا بشيء انى لكم نذير بشيء مبين انذارى بشيء هو النهى عن عبادة غير الله، او ان مصدرية بدلا من انى لكم نذير على قراءة فتح همزة انى او متعلقا بارسلنا بتقدير الباء او اللام على قراءة كسر همزة انى او متعلقا بنذير او مفعولا لمبين ويجوز تعلقه بالثلاثة على سبيل التنازع ولا تعبدوا حينئذ يجوز ان يكون نفيا ونهيا { إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم } فى موضع التعليل.
[11.27]
{ فقال } اى فقال نوح لهم ما ارسلناه به فقال { الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا } يعنى ان المطاعية تقتضى ان يكون المطاع افضل من المطيع والفضيلة اما اضافية بالاضافة الى من ادعى الانتساب اليه او نفسية بكونه فى نفسه افضل من المطيع وكلاهما منتف عنك، اما الاول فلكونك بشرا مثلنا والبشر لا يكون مناسبا للخالق الذى ادعيت الانتساب اليه لكونك ماديا سفليا محدودا متحيزا وكون الخالق بخلاف ذلك ولو فرض وجود بشر على خلاف ذلك فلست انت ذلك لكونك مثلنا، واما الثانى فلكون اتباعك اراذل الناس وبين التابع والمتبوع يكون مناسبة فانت ارذل الناس { بادي الرأي } من بدا يبدو بمعنى ظهر او من بدء بمعنى ابتدء وهو منصوب على الظرفية بتقدير مضاف اى وقت بادى الرأى والاتباع وقت اول الرأى او ظاهر الرأى من غير تعمق دليل على الارذلية { وما نرى لكم علينا من فضل } يعنى لا فضل سوى ما ذكر ولو فرض فضل سوى ما ذكر لم تكن انت له باهل لانا لا نرى لكم علينا شيئا من الفضل، اشركوا اتباعه معه فى نفى مطلق الفضل ليكون كالدليل على نفى مطلق الفضل عنه لانه ان كان للمتبوع فضل يسر ذلك الفضل الى التابع وان خفى فى بعض ظهر فى بعض آخر، ويجوز ان يكون قوله وما نرى لكم كالنتيجة للاوليين يعنى ان لم يكن لك فضل نفسى ولا اضافى فلا فضل لكم علينا { بل نظنكم كاذبين } فى دعوى الرسالة وتصديقهم اياك ولما لم يكن مقدماتهم يقينية بل كلها كانت ظنية خطابية صرحوا بظنهم اخيرا، ولكن قياسهم يشبه ان يكون من القياسات الشعرية المركبة من المقدمات الوهمية المموهة حيث انكروا الرسالة بقصر النظر فى الرسول على بشريته وانها تنافى الرسالة عن الخالق ولم ينظروا الى روحانيته وانها مناسبة للخالق وان الرسول بوجهه الروحانى يأخذ من الله وبوجهه البشرى يبلغ الى خلقه، وانه لو لم يكن ذا بشرية لا يمكنه التبليغ الى البشر، وانكروا فضل الاتباع ايضا بقصر النظر على بشريتهم وجهة دنياهم ولم ينظروا الى روحانيتهم المناسبة لروحانية الرسول المناسبة للارواح المجردة ولو ادركوا روحانيتهم، وان لا روحانية لانفسهم لعلموا ان لاتباع النبى (ص) فضلا كثيرا جدا عليهم.
[11.28]
{ قال يقوم أرأيتم } من الرأى بمعنى الاعتقاد ولما كان حقيقة الاستفهام الاستخبار ومعنى الاستخبار طلب الاخبار عن اعتقاد المستخبر عنه استعملوا تلك الكلمة فى معنى اخبرونى مجردا عن الاعتقاد لئلا يلزم التكرار وقد مر نظيره { إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون } فعميت جواب الشرط، وجملة الشرط والجزاء متعلق ارأيتم وارأيتم معلق عنها والحق ان التعليق كما يقع باداة الاستفهام يقع باداة الشرط ايضا وحينئذ يكون جملة انلزمكموها مستأنفة منقطعة عما قبلها او الفاء عاطفة وعميت معطوف على الشرط والجزاء محذوف بقرينة ارأيتم او بقرينة انلزمكموها وانلزمكموها مفعول ارأيتم معلقا عنه باداة الاستفهام، والبينة قد مر مرارا انها النبوة كما ان الزبر هى الولاية واطلاقها على الرسالة واحكامها وعلى المعجزة المبينة لصدق الدعوى وعلى الكتاب السماوى لكونها صورة النبوة وظهورها، والرحمة هى الولاية والنبوة وتوابعها صورة الرحمة ولذا وحد الضمير فى عميت ونلزمكموها ولتوحيد الضمير وجوه اخر لا فائدة معتدا بها فى ذكرها.
[11.29]
{ ويقوم لا أسألكم عليه مالا } بعد ما اظهر الدعوى وادعى خفاء المدعى عليهم تعرض لجوابهم لانهم عرضوا بتكذيبه الى انه (ص) طالب للدنيا والرياسة وبتحقير الاتباع الى طردهم عنه بل صرحوا بطردهم كما نقل فقال: ان كنت طالبا لدنياكم ينبغى ان يظهر منى التعرض لها حينا ما، والحال انى لا اسألكم عليه مالا { إن أجري إلا على الله } وان كان ازدراء المؤمنين فى اعينكم سببا لتوهينى ومانعا من اتباعكم لى فليس امرهم الى { ومآ أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم } بملاقاة خليفته ومظهره وبملاقاة ملكوت ربهم المضاف فى الدنيا والآخرة ولذا أتى باسم الفاعل اشارة الى تحقق الملاقاة فى الحال { ولكني أراكم قوما تجهلون } استدراك لما اوهم كلامهم واستدلالهم على تكذيبه من انهم اهل علم وعقل ومقابلة لما قالوا له من قولهم ما نريك يعنى ان تكذيبى وعدم اتباعى ليس لما ذكرتم بل لوقوعكم فى دار الجهل وبعدكم عن دار العلم والعقل.
[11.30]
{ ويقوم من ينصرني من الله إن طردتهم } يعنى ان ايمانهم بمشية الله ولا يجوز طردهم الا بمشية الله فلو طردتهم بهواى او باهويتكم سخط الله على ومن ينصرنى من سخطه { أفلا تذكرون } ذلك حتى لا تسألونى طردهم.
[11.31]
{ ولا أقول لكم عندي خزآئن الله } حتى تكذبوني واتباعى بفقرنا وفاقتنا { ولا أعلم الغيب } حتى تكذبونى بعدم اكثارى المال بالمكاسبات الرابحة او تكذبونى بعدم اجابتكم فى السؤال عن المغيبات والجملة معطوفة على جملة عندى خزائن الله ولا زائدة لتأكيد النفى والعدول الى الفعلية لكون العلم وصفا للعالم دون الخزائن او معطوفة على جملة لا اقول ولا نافية وعدم ادخاله فى جملة القول للاشعار بان علم الغيب خاص بالله لا يوصف غيره به بخلاف الخزائن فانه قد يوكل الله بعض خواصه عليها لكن لا يقول ذلك ولا يدعيه { ولا أقول إني ملك } حتى تكذبونى بما ترون من بشريتى { ولا أقول للذين تزدري أعينكم } تعيبهم اعينكم افتعال للمبالغة من زراه اذا عابه ونسبته الى الاعين للاشعار بان ازدرائهم انما هو لأجل ما رأوه من ظاهر حالهم من الرثاثة والحاجة من غير تبصر بحالهم الواقعية { لن يؤتيهم الله خيرا } حتى تطالبونى بطردهم وتكذبونى بقبولهم { الله أعلم بما في أنفسهم } تعليل { إني إذا لمن الظالمين } تعليل اخر وتعريض بهم حيث عابوهم.
[11.32]
{ قالوا } بعد عجزهم عن المحاجة { ينوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا } وامللتنا بجدالك وكنت تعدنا العذاب من ربك { فأتنا بما تعدنآ إن كنت من الصادقين } فانه لا ينفع فينا جدالك.
[11.33]
{ قال } لست بقادر على اتيان العذاب ووعده وانما نسبتموه الى بجلهكم { إنما يأتيكم به الله } لا غيره { إن شآء ومآ أنتم بمعجزين } فلا تجترئوا على التحدى.
[11.34]
{ ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم } هذا الكلام منه تحسر عليهم بانصرافهم عما يدعوهم اليه والاتيان باداة الشك وذكر الارادة مع انه نصحهم واكثر نصحهم للاشعار بانهم لغاية بعدهم كأنه لم ينصح ولا ينبغى ان يريد نصحهم { إن كان الله يريد أن يغويكم } جزاء الشرط الاول محذوف بقرينة لا ينفعكم نصحى وجزاء الشرط الثانى محذوف بقرينة مجموع الشرط والجزاء الاول { هو ربكم } تعليل لعدم النفع مع ارادة الله الاغواء { وإليه ترجعون } تعليل للتهديد من العذاب .
[11.35-36]
{ أم يقولون افتراه } اى قال الله لنوح (ع) ام يقولون افتراه فهو حكاية قوله تعالى لنوح (ع) وضمير يقولون راجع الى قوم نوح او قال الله لمحمد (ص) فهو اعتراض من الله خطابا لمحمد (ص) كأنه بعد ما ذكر قصة نوح (ع) مع قومه زعم بعض انه افتراء من محمد (ص) من غير وقوعه ومن غير وحى فأتى الله بتلك الجملة المعترضة بين قصة نوح (ع) { قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن } بعد ما دعى نوح (ع) بأنى مغلوب فانتصر { فلا تبتئس } لا توقع نفسك فى شدة الحزن وضيق الغم { بما كانوا يفعلون } لما كان لغاية رحمته عليهم مغتما بصنائعهم القبيحة نهاه الله تعالى عن ذلك.
[11.37]
{ واصنع الفلك بأعيننا } اى بمحضرنا وفى مرآنا يقال: افعله فى محضرى لامر يكون به اهتمام، وجمع الاعين لكون المضاف اليه متكلما مع الغير او الاعين جمع العين بمعنى الديد بان والباء بمعنى فى او للسببية، ولما كان النبى (ص) ذا شأنين وحين الاشتغال بالشأن الخلقى لا يبقى له الحضور التام كما انه حين الاشتغال بالشأن الآلهى لا يبقى له الالتفات الى الكثرات لطرو الغشى او شبه الغشى عليه ويكون موصوفا بالحضور حينئذ امره بالقيام فى مقام الحضور وعدم الاشتغال بالكثرات حين نجر السفينة { ووحينا } تعليمنا بواسطة الملك او من لدنا { ولا تخاطبني في الذين ظلموا } كأنه (ع) من غاية رحمته كان يراجع الله تعالى فى دفع العذاب عن قومه بعد ما اخبره بنزول العذاب وهكذا كان شأن اكثر الانبياء (ع) خصوصا او لو العزم منهم { إنهم مغرقون } محكوم عليهم بالاغراق حتما.
[11.38]
{ ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه } روى عن الباقر (ع) ان نوحا (ع) لما غرس النوى مر عليه قومه فجعلوا يضحكون ويسخرون ويقولون قد قعد غراسا، حتى اذا طال النخل وكان طوالا قطعه ثم نحته فقالوا قد قعد نجارا، ثم الفه فجعله سفينة فمروا عليه فجعلوا يضحكون ويسخرون ويقولون قد قعد ملاحا فى فلاة من الارض، حتى فرغ منها، وكأنه اشار الى اجمال سخريتهم والا فانهم سخروا منه بانواع ما يسخر به كما نقل { قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون } وهكذا كان شأن كل محق ومبطل لان كل من رأى غيره خارجا من طريقته يسخر منه لكن سخرية المحق عقلية وسخرية المبطل خيالية نفسية.
[11.39]
{ فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه } من استفهامية مفعول تعلمون والفعل معلق عنها ويخزيه صفة عذاب { ويحل عليه عذاب مقيم } عطف على يأتيه او موصولة مفعولا لتعلمون بمعنى تعرفون وباقى اجزاء الجملة كما ذكر او موصولة مفعولا اولا لتعلمون ويخزيه مفعول ثان ويحل عطف على يخزيه او موصولة مبتدأ ويخزيه خبرها ويحل عطف عليه والجملة مستأنفة وتعلمون مطلق عن المفعول.
[11.40-41]
{ حتى إذا جآء أمرنا } غاية لقوله قال ان تسخروا الآية او لقوله ويصنع الفلك { وفار التنور } فى التنور وموضعه وفورانه وموضعه اقوال والحمل على الظاهر اظهر، وموضع التنور معروف فى مسجد الكوفة اليوم وتفصيل نبع الماء وقصة نوح (ع) وقومه والاختلاف فى التنور وموضعه ونبع الماء منه مذكورة فى المفصلات واجمال الصافى والمجمع يكفى للتبصر { قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول } ومن سبق عليه القول هى امرأته الخائنة ام كنعان كما قيل { ومن آمن ومآ آمن معه إلا قليل وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرساها } قرئ كلاهما بضم الميم وفتح الراء والسين وقرئ بفتح الميم وفتح الراء والسين وقرئ الاول فقط بفتح الميم وكسر الراء وهما اما منصوبان على الظرفية سواء اريد بهما المكان او الزمان او المعنى المصدرى او مرفوعان فاعلين لقوله بسم الله او مبتدئين وخبرهما بسم الله وبسم الله ظرف لغو متعلق باركبوا ومجريها يكون منصوبا على الظرفية او مستقر حال من الضمير المجرور ومجريها فاعله او من فاعل اركبوا بتقدير لكم حتى يتم الربط او مستقر خبر لمجريها والجملة اما حال من الضمير الفاعل بتقدير لكم او من الضمير المجرور او مستأنفة جوابا لسؤال مقدر عن حال السفينة او عن علة الامر بالركوب، وورد انهم كلما ارادوا جريها قالوا بسم الله مجريها وكلما ارادوا ارساءها قالوا بسم الله مرسيها، وعلى هذا فالمناسب ان يكون جملة بسم الله مجريها محكيا لقول محذوف والتقدير اركبوا قائلين بسم الله سواء قدر مجريها مبتدء او منصوبا على الظرفية { إن ربي لغفور رحيم } فمن تلبس باسمه ادركته مغفرته ورحمته.
[11.42]
وورد فى الاخبار انه لم يكن ابنه انما كان ابن امرأته وفى لغة طى يقال لابن المرأة ابنه بفتح الهاء وقد ورد قراءة على (ع) والباقر (ع) والصادق (ع) بفتح الهاء وروى ابنها والضمير لامرأته.
[11.43-45]
{ قال سآوي إلى جبل يعصمني من المآء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم } الا من كان شأنه الرحمة وهو الله او من كان خليفة له او الا مكان من رحمة الله يعنى السفينة او العاصم بمعنى المعصوم او الاستثناء منقطع او العامل والمستثنى منه محذوف اى فليس اليوم معصوم من امر الله الا من رحمه الله { وحال بينهما الموج فكان } فصار { من المغرقين وقيل يأرض ابلعي مآءك ويسمآء أقلعي وغيض المآء وقضي الأمر واستوت على الجودي } اختلف فى تعيين الجودى فقيل: انه بناحية آمل، وقيل: بقرب جزيرة الموصل، وقيل: بالشام، وفسر بفرات الكوفة، وقيل: انه اسم لكل جبل وارض صلبة وكذلك اختلف فى مدة كون نوح (ع) فى السفينة، فورد انها كانت سبعة ايام بلياليها، وقيل: كانت مائة وخمسين يوما، وقيل: اولها كان عاشر رجب وآخرها عاشر محرم، ولا يخفى حسن نظم الآية وقد ذكروا وجوها عديدة بيانية وبديعية فى الآية الشريفة من أرادها فليرجع الى التفاسير الاخر { وقيل بعدا للقوم الظالمين ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق } باهلاك من لا يدخل السفينة وانجاء اهلى { وأنت أحكم الحاكمين } بعد تضرعه والتجائه ودعائه فى حق ابنه تبرى عن مشيته وحكومته واقر بأنه أحكم الحاكمين دفعا لتوهم عدم رضائه بحكمه.
[11.46]
{ قال ينوح إنه ليس من أهلك } وذلك لآنه على فرض صحة ما اشتهر انه كان ابنه كان نسبته جمسانية ونوح (ع) صار متحققا فى الدنيا بالروحانية والنسب الجمسانية منقطعة فى العالم الروحانى والنسب الروحانية معتبرة هناك كالقيامة ولما لم يكن له نسبة روحانية واتصال ملكوتى لم يكن من اهل نوح (ع) { إنه عمل غير صالح } حمل المصدر للمبالغة وهو تعليل للنفى ومن قرأ انه عمل غير صالح بالاضافة كما فى بعض الاخبار نفيا لنسبته الجسمانية بجعله لغية العياذ بالله فقد أخطأ وقرئ انه عمل غير صالح فعلا ماضيا وغير مفتوح الراء { فلا تسألني ما ليس لك به علم } ما لم تعرف حقيقة مسؤلك حتى تعرف صحة سؤالك { إني أعظك أن تكون من الجاهلين } حيث يسألون ما لا يعلمون.
[11.47]
{ قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم } امتثالا لحكمك واتعاظا بعظتك { وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين } قاله تضرعا واستكانة.
[11.48]
{ قيل ينوح اهبط بسلام منا } بسلامة { وبركات عليك وعلى أمم ممن معك } من الامم التى فى السفينة فانهم كانوا جماعات مختلفة من انواع الحيوان او من اصناف الانسان { وأمم } ممن معك او ممن يولدون ممن معك { سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم } عن الصادق (ع) فنرل نوح (ع) من السفينة مع الثمانين وبنوا مدينة الثمانين وكانت لنوح ابنة ركبت معه فى السفينة فتناسل الناس منها وذلك قول النبى (ص)
" نوح (ع) احد الابوين ".
[11.49]
{ تلك } القصص { من أنبآء الغيب نوحيهآ إليك ما كنت تعلمهآ أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة } الحسنى فانها غلبت فيها { للمتقين } عن الجزع والتسرع الى الدعاء.
[11.50]
{ وإلى عاد أخاهم هودا } وقد مضى فى سورة الاعراف انه كان احدهم { قال يقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون } فى نسبة الآلهة الى الاصنام وجعلها شركاء الله وشفعاءكم عنده.
[11.51]
{ يقوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني } دفع لما يتوهمونه قياسا على انفسهم من ان ادعاء الرسالة للاغراض الدنيوية ولما يخافونه من تفويت مالهم باتباعه { أفلا تعقلون } تدركون ادراكا عقلانيا غير مشوب بتصرفات الخيال فتعلمون ان من ادعى امرا لغرض دنيوى يكون فى الاغلب مطموح نظره المال.
[11.52-56]
{ ويقوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه } قد مضى فى هذه السورة تفسيره { يرسل السمآء عليكم مدرارا } در السماء بالمطر سالت به والمدرار بمعنى كثير الدر حال من السماء وارسال السماء عبارة عن ارسال السحاب او المطر من جهة انهما يجيئان من جهتها، او المراد بالسماء هو السحاب او المطر من دون ملاحظة علاقة لاطلاقها على كل علوى { ويزدكم قوة إلى قوتكم } رغبهم فى الايمان بذكر ترتب الغايات الدنيوية عليه لان حالهم كانت كحال الصبيان لا يرون الخير الا فيما احسوه خيرا من الاعراض الدنيوية وكان المناسب لحالهم وعدهم بما يظنونه خيرا، وقيل: لم يمطروا ثلاث سنين وكانوا قد اعقمت نساؤهم فكانوا طالبين للمطر وللاولاد والمراد بزيادة القوة زيادة العدد { ولا تتولوا مجرمين قالوا يهود ما جئتنا ببينة } دالة على صدقك قالوه عنادا { وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء } يعنى ما نقول وما تحتمل فى حقك شيئا الا هذا القول وهو قولنا اعتريك اى اصابك بعض الهتنا بسوء فصرت مجنونا، او ما نقول معك الا هذا القول يعنى لا تخاطب لنا معك لانك مجنون باصابة بعض آلهتنا.
اعلم، ان الشياطين كانوا يظهرون حينا ما على هياكل الاصنام بعض الغرائب مثل التكلم على السنتهم ولذا كانوا مغترين بها مع انها جمادات بلا روح والا فالعاقل لا ينسب الى الجماد ما يخوف به الانسان { قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه } اجابهم عن التخويف بالاصنام بالتحدى وعدم المبالاة بها { فكيدوني } انتم وآلهتكم { جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دآبة إلا هو آخذ بناصيتهآ } كناية عن تسخيره تعالى وقهره لكل دابة.
بيان فى وحدة الوجود
اعلم، ان الاصل فى التحقق هو الوجود كما سبق فى اول البقرة وعليه معظم الحكماء والمشائين والاشراقيين، وقرره جميع اهل الذوق من العرفاء والصوفية الصافية الطوية رضوان الله عليهم وانه حقيقة واحدة وسيعة ذات مراتب عديدة وبحسب تنزلاتها وكثرة مراتبها يطرؤها الحدود الكثيرة، وباعتبار الحدود ينتزع منها مهيات عديدة متباينة ومتشاركة، وبكثرة الحدود والمهيات لا ينثلم وحدتها اذ وحدتها ليست اعتبارية حتى تنثلم باعتبار الكثرة، ولا جنسية حتى تنثلم بانضمام الفصول، ولا نوعية ولا صنفية حتى تنثلم بالمصنفات والمشخصات، ولا عددية حتى يتصور لها ثان، ولا تركيبية ولا اتصالية حتى تنثلم بالتحليل والتقسيم بل لا تركيب فيها من جنس وفصل ولا نوع ومشخص ولا مهية ووجود ولا وجود وحد وجود، ولذا كانت لا اسم لها ولا رسم وكانت غيبا مطلقا لا خبر عنها ولا اثر والاسماء والرسوم والكثرات المتراءات فيها انما هى فى مقام ظهورها فحقيقة الوجوب هى الظاهرة فى كل المظاهر وهى الغاية عن الكل ومن قال: سبحان من اظهر الاشياء وهو عينها؛ نظر الى تلك الحقيقة فانها باعتبار مقام الغيب ومرتبة الوجوب خالق الكل ومظهرها، وباعتبار مقام الظهور عين الكل وحقائقها فانه ليس فى تلك العبارة اشعار بوحدة الوجود المؤدية الى الاباحة والالحاد فانه نزهه سبحانه اولا عن الاختلاط بالكثرات ثم اسند الاظهار اليه واثبت الاشياء فأشار الى الكثرات والى تنزهه تعالى عن الكل وعلوه على الكل ثم قال: انه باعتبار حقيقة الوجود عين الكل والكل متحقق به لا باعتبار مرتبة الوجوب والا لزم التناقض فى كلامه وهو اجل شأنا من ان يأتى بالتناقض فى كلام واحد، والى هذا المعنى اشير فى الكلام الآلهى بقوله تعالى:
هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم
[الحديد:3] اى الله باعتبار حقيقة الوجود لا باعتبار مقام الوجوب، وما ورد من امثال هذا فى كلمات الكبار من الصوفية فهو ناظر الى تلك الحقيقة لا الى مقام الوجوب حتى يرد عليهم ما اوردوه مثل قولهم:
غيرتش غير درجهان نكذاشت
زان سبب عين جملة اشياء شد
كه يكى هست وهيج نيست جزاو
وحده لا اله الا هو
جنبشى كرد بحر قلزم عشق
صد هزاران حباب بيدا شد
ليس فى الدار غيره ديار
هو لحظه بشكلى بت عيار برآمد
دل بردو نهان شد
هردم بلباس دكران ياربرآمد
كه بيرو جوان شد
الى آخر ما قاله المولوى من هذا القبيل، فان الكل اثبتوا الكثرات ثم ذكروا تحققها بحقيقة الوجود لا بمقام الوجوب والا لزم التناقض فى كلامهم وتلك الحقيقة من حيث هى منزهة عن جملة الكثرات وتمام القيود والاعتبارات حتى اعتبار الاطلاق وقيد اللا بشرطية، ولذا صارت مقسما لجملة المقيدات والمطلقات لا كمقسمية المفاهيم العامة ولا كمقسمية الاجناس والانواع بل مقسميته فوق ما ندركه مجهولة الكنه كنفس تلك الحقيقة، فاذا اعتبرت بشرط لا كانت مقام الوجوب، واذا اعتبرت مطلقة مقيدة بالاطلاق كانت مقام الفعل ومرتبة المشية والصراط المستقيم بين الخلق والحق، واذا اخذت بشرط شيء كانت ممكنة ومخلوقة بمراتبها المتكثرة، فالحقيقة فى الواجب وجود وفى مقام الفعل وجود وفى مقام الممكن وجود ولا يلزم من ذلك تشبيه ولا تشريك، لان المخلوقية فى الحقيقة راجعة الى المهيات التى ما شمت رائحة الوجود ابدا ووجود المخلوق هو خالقيته تعالى وفعله الذى هو اضافته الى الاشياء ولا حكم له على حياله بل هو باعتبار المهيات محكوم عليه بالمخلوقية وباعتبار الفاعل بالوجوب فهو فى الخارجيات كالمعنى الحرفى فى الذهنيات وهو ليس اياه وليس غيره بل هو هو بوجه وغيره بوجه، فمن نظر الى وجود الممكنات من حيث تحددها وتعينها بالمهيات فهو ناظر الى المصنوع مردود ملعون عن الله، ومن نظر اليه من حيث انه فعل الرب وصنعه فهو مرحوم مكرم:
عاشق صنع خدا بافر بود
عاشق مصنوع او كافر بود
ناظر الى ما ذكرنا والاشكال بان الرضا بالقضاء واجب والرضا بالكفر كفر مع ان الكفر من القضاء مشهود، مدفوع بما ذكر، اذا تقرر هذا فاعلم، ان ناصية كل شيء ما به اول ظهوره وما به توجهه الى ما يتوجه اليه وهى فى كل الممكنات جهة وجودها التى بها ظهورها وتحققها وبها توجهها الى اصلها الذى هو حقيقة الوجود والوجودات الامكانية اظلال الوجود المطلق الذى هو ظل الحق تعالى، والاظلال الوجودية كلها محاطة مقهورة مسخرة تحت الوجود المطلق، والحق الاول تعالى شأنه محيط بفعله آخذ له قاهر عليه والوجود المطلق هو الصراط المسقيم فقوله: ما من دابة فى الارض اشارة الى جملة الممكنات بذكر اشرفها الا هو اشارة الى مقام الوجوب آخذ اشارة الى الوجود المطلق بناصيتها اشارة الى الوجودات الامكانية ولذا علله بقوله { إن ربي على صراط مستقيم } لانه محيط بالوجود المطلق الذى هو محيط بالوجودات الامكانية وباعتبار كثرة العوالم فى العالم الكبير والعالم الصغير تتكثر مصاديق الآية الشريفة ومظاهر مصداقها الحقيقى.
[11.57]
{ فإن تولوا } اى تتولوا { فقد أبلغتكم مآ أرسلت به إليكم } من الانذار بالعذاب الدائم والعذاب الدنيوى ونصحت لكم واتممت الحجة عليكم { ويستخلف ربي } بعد اهلاككم بالعذاب المنذر به { قوما غيركم ولا تضرونه شيئا } بتوليكم وهلاككم بالعذاب فانه يستخلف امثالكم فلا ينقص فى ملكه ولا فى خلقه بهلاككم { إن ربي على كل شيء حفيظ } فيحفظ نوع الانسان وجملة خلقه باستخلاف امثال الموجودين من بعد هلاكهم.
[11.58]
{ ولما جآء أمرنا } باهلاك القوم { نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا } عليهم لاستحقاقهم الرحمة بايمانهم { ونجيناهم من عذاب غليظ } من قبيل عطف التفصيل على الاجمال والفائدة تأكيد الانجاء ولذا كرر نجينا والتصريح بما نجوا منه تهويلا لعذابهم لتهديد السامعين ويمكن ان يراد بالثانى الانجاء من عذاب الآخرة.
[11.59]
{ وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم } بكفرانهم بهود (ع) ومعجزاته فكأنهم جحدوا جميع الآيات وقد مر مرارا ان امثال هذه تعريض بامة محمد (ص) وجحودهم بعلى (ع) وكفرهم به { وعصوا رسله } بعصيان هود (ع) فان من انكر واحدا انكر الجميع او بعصيان رسل زمانهم وبلادهم { واتبعوا أمر كل جبار عنيد } لانهم اذا اتبعوا امر جبار من الجبابرة والكل سنخ واحد فاتبعوا امر كل جبار او باتباع امر جبابرة بلادهم او الاتيان بصيغة الجمع للاشارة الى جحود آيات العالم الصغير وعصيان رسل ذلك العالم واتباع كل جبار فيه وهو تعريض بامة محمد (ص) كأنه قال فلا تجحدوا يا امة محمد (ص) بآيات ربكم وخلفائه ولا تعصوا رسوله فى مخالفة قوله فى على (ع) ولا تتبعوا امر الجبار الذى يتجبر على على (ع) ويعانده.
[11.60]
{ وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم } المضاف الذى هو هود (ع) ثم بربهم المطلق فلا تكفروا انتم بعلى (ع) فيقال بعدا لكم كما يقال { ألا بعدا لعاد قوم هود } وتكرير ألا وعادا والابدال منه بقوم هود (ع) لكون المقام مقام السخط والتهديد والتكرير والتغليظ والتطويل مطلوب فى ذلك المقام.
[11.61-62]
{ وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها } استبقاكم او اعطاكم وعلمكم ما به تعمرون البلاد { فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب قالوا يصالح قد كنت فينا مرجوا } للخير لما رأينا عليك من الصلاح والعقل والكفاية { قبل هذا } الزمان الذى أظهرت فيه ما ننكره وما لم نعرفه قبل ذلك من غيرك { أتنهانآ أن نعبد ما يعبد آباؤنا } الهمزة للتعجب { وإننا لفي شك مما تدعونآ إليه مريب } صفة شك من قبيل ظل ظليل سواء كان بمعنى موقع فى الشك او بمعنى ذى ريبة.
[11.63]
{ قال يقوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني } ان اتبعتمونى فيكون بمنزلة قوله تعالى قل لا أسألكم عليه اجرا او ابلغ منه وان اتبعتكم فى دينكم برجوعى اليه كما سألتمونيه { غير تخسير } ايقاع الخسران على او نسبتى الى الخسران.
[11.64]
{ ويقوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله } اجمل قصته اتكالا على سائر ما ورد فى الكتاب من حكايته { ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب } عاجل.
[11.65-67]
{ فعقروها فقال تمتعوا في داركم } تعيشوا فى منازلكم او بلدكم { ثلاثة أيام } وعيد بالعذاب والاهلاك بعد الثلاثة { ذلك وعد غير مكذوب فلما جآء أمرنا } باهلاكهم { نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ } عطف على محذوف اى نجيناهم من ذلك العذاب ومن مسيس الخزى منه ايضا فى يوم ذلك العذاب او فى يوم القيامة { إن ربك هو القوي } يقوى على عذاب جمع وانجاء جمع منهم { العزيز } غالب لا مانع له من مراده { وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين } ميتين.
[11.68]
{ كأن لم يغنوا فيهآ } يقيموا بها { ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود } قد مر مرارا ان امثال هذه تعريض بامة محمد (ص).
[11.69]
{ ولقد جآءت رسلنآ } اى الملائكة وكانوا اربعة كما ورد فى الخبر جبرئيل وميكائيل واسرافيل وكروبيل { إبراهيم بالبشرى } ببشارة الولد اى اسماعيل من هاجر او اسحاق من سارة باختلاف الاخبار { قالوا سلاما } حيوه بتلك التحية { قال سلام } اجابهم بابلغ من تحيتهم حيث عدل عن النصب الى الرفع { فما لبث أن جآء } اى ما لبث زمانا معتدا به الى ان جاء { بعجل حنيذ } يعنى اسرع فى قراهم وفى طبخه والحنيذ المشوى النضيج، فقال كلوا، فقالوا لا نأكل حتى تخبرنا ما ثمنه؟ - قال اذا اكلتم فقولوا بسم الله واذا فرغتم فقولوا الحمد لله، فقال جبرئيل لاصحابه حق على الله ان يتخذه خليلا.
[11.70]
{ فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم } انكرهم واضمر انهم اعداء لا اضياف { وأوجس منهم خيفة } احس واضمر خوفا { قالوا } بعد ما رأوا انه خاف { لا تخف إنا } ملائكة الله واحبابك { أرسلنا إلى قوم لوط } وليس شأننا الاكل.
[11.71-73]
{ وامرأته قآئمة } وهى سارة تسمع مكالمتهم { فضحكت } تعجبت من مكالمتهم او حاضت بعد ما ارتفع حيضها منذ دهر لانها كانت حينئذ ابنة تسعين سنة وابراهيم (ع) ابن عشرين ومائة سنة وقد فسر ضحكت فى الاخبار بكل من المعنيين وهذا من سعة وجوه القرآن { فبشرناها بإسحاق ومن ورآء إسحاق } الظرف حال مما بعده { يعقوب قالت } بعد البشارة تعجبا من الولد بعد سن اليأس منه { يويلتى } كلمة تعجب وان كان اصله ان يستعمل فى الشر { أألد وأنا عجوز } آئسة من الولد { وهذا بعلي شيخا } لا يرجى منه الاستيلاد { إن هذا لشيء عجيب قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد } يفعل بمن استحق الاحسان فوق استحقاقه { مجيد } لا ينظر فى احسانه الى استحقاق فكيف ولكم الاستحقاق، وفى الخبر انه اوحى الله تعالى الى ابراهيم (ع) انه سيولد لك فقال لسارة فقالت اءلد وانا عجوز؟ - فأوحى الله اليه انها ستلد ويعذب اولادها اربعمائة سنة بردها الكلام على قال: فلما طال على بنى اسرائيل العذاب ضجوا وبكوا الى الله اربعين صباحا فاوحى الله الى موسى (ع) وهارون (ع) نخلصهم من فرعون فحط عنهم مائة وسبعين سنة وقال هكذا انتم لو فلعتم لفرج الله عنا فاما اذا لم تكونوا فان الامر ينتهى الى منتهاه.
[11.74]
{ فلما ذهب عن إبراهيم الروع } سكن الخوف بمعرفته اياهم { وجآءته البشرى يجادلنا في قوم لوط } يعنى انه بعد ما سكن الخوف وحصل له البسط ببشارة الولد واخبره الملائكة بانهم نزلوا لعذاب قوم لوط جادلنا يعنى بمجادلة رسلنا فى دفع العذاب عن قوم لوط وهذا من كمال رحمته على خلق الله وسعة خلقه وكمال مرتبة نبوته فان قوم لوط بشؤم اعمالهم استحقوا سؤال العذاب منه وهو يجادل الله فى دفع العذاب، عكس ما روى عن بعض الانبياء (ع) الجزوية من سؤال العذاب بعد التبليغ وتأبيهم عن الانقياد من غير صبر على اذاهم فضلا عن طلب الرحمة ودفع العذاب عنهم، وصورة مجادلته الملائكة كما نقل انه قال ان كان فيها مائة من المؤمنين اتهلكونهم؟ - فقال جبرئيل: لا، قال: فان كان فيها خمسون؟ - قال لا، قال: فان كان فيها ثلاثون؟ - قال لا، قال: فان كان فيها عشرون؟ - قال: لا، قال: فان كان فيها عشرة؟ - قال: لا، قال: فان كان فيها خمسة؟ - قال: لا، قال: فان كان فيها واحد؟ - قال: لا، قال: فان فيها لوطا؛ قالوا نحن اعلم بمن فيها لننجينه واهله، وهذا من استكماله (ع) فى نبوته لانه كما روى بعد ما رأى ملكوت السماوات والارض رأى رجلا وامرأته على معصية الله فدعا عليهما فأهلكا وبعد كمال النبوة يجادل فى قوم لوط مع انه (ع) كان يراهم على معاصى الله وعلى اشدها.
[11.75]
{ إن إبراهيم لحليم } غير عجول على المسيء بالمؤاخذة وبالدعاء عليه { أواه } كثير الدعاء { منيب } راجع الى الله فى كل ما يرى.
[11.76]
{ يإبرهيم } قلنا على السنة رسلنا او قالت الملائكة يا ابراهيم { أعرض عن هذآ } اى سؤال دفع العذاب والمجادلة فيهم { إنه قد جآء أمر ربك } باهلاكهم ولا مرد له { وإنهم آتيهم عذاب غير مردود } فلا فائدة فى جدالك.
[11.77]
{ ولما جآءت رسلنا لوطا سيء بهم } لانهم اتوه بصور غلمان فخاف تفضيحهم لعلمه بسيرة قومه { وضاق بهم ذرعا } كناية عن العجز عن الحيل فى دفع الشدة كأنه لا يمكنه مد اليد الى شيء فى دفعها { وقال هذا يوم عصيب } شديد بليته لعدم حياء قومى وعدم قدرتى على دفعهم وكمال اهتمامى فى محافظة اضيافى.
[11.78]
{ وجآءه قومه يهرعون } يسرعون كأنهم يدفعون لطلب الفاحشة من اضيافه { إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات } بحيث لم يبق لهم حياء وتجاهروا بفعلهم وطلبوا الفاحشة من اضيافه { قال يقوم } يعنى قالوا اعطنا اضيافك فانك شاركتنا فى فعلنا فقال يا قوم { هؤلاء بناتي } يريد التزويج بهن او مقصوده ازواجهم فانهن كن بناته لكون كل نبى ابا امته ومقصوده كما فى الخبر ان يأتوا من ادبارهن لانه قد علم انهم لا يريدون الفروج { هن أطهر لكم } من حيث الاثم او من حيث الجسم ولذلك ورد عن الرضا (ع) انه قال احله آية من كتاب الله قول لوط هؤلاء بناتى هن اطهر لكم وقد علم انهم لم يريدوا الفروج { فاتقوا الله } فى هذا الفعل الشنيع { ولا تخزون } لا تخجلونى من الخزاية بمعنى الحياء او لا تفضحونى من الخزى { في ضيفي } فان اخزاء ضيف الرجل اخزاؤه { أليس منكم رجل رشيد } يهتدى الى الحق ويرعوى عن القبيح.
[11.79]
{ قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق } حاجة وميل { وإنك لتعلم ما نريد } من اتيان الذكران.
[11.80]
{ قال } بعد عجزه عن النصح والمحاجة متمنيا ما ليس له الوصول اليه باعتقاده { لو أن لي بكم } بمدافعتكم { قوة } بنفسى { أو آوي إلى ركن شديد } قوى على دفعكم حتى ادفعكم به استعار لفظ الركن الذى هو الجبل الذى لا يمكن تحريكه او قاعدة البيت التى هى كذلك للقوى الممتنع عن ازعاجه، نقل انه قال جبرئيل ان ركنك لشديد افتح الباب ودعنا واياهم.
[11.81]
{ قالوا يلوط } اى الملائكة بعد ما رأوا عجزه عن دفعهم ونهاية تضجره بهم تعريفا لانفسهم تسكينا لاضطرابه { إنا رسل ربك } فلا تغتم { لن يصلوا إليك } بما يريدون { فأسر بأهلك بقطع من الليل } مظلما كذا روى عن على (ع) { ولا يلتفت منكم أحد } يعنى لا يتخلف وعلى هذا فقوله { إلا امرأتك } استثناء من احد او لا ينظر الى وراءه وعلى هذا فهو استثناء من اهلك { إنه مصيبها مآ أصابهم } تعليل { إن موعدهم الصبح } جواب سؤال مقدر او كان مذكورا فأسقطه تعالى ايجازا كأنه قال استعجالا بالعذاب: متى كان موعد عذابهم؟ - فقال: ان موعدهم الصبح، روى انه قال: متى موعد اهلاكهم؟ - قالوا: الصبح، فقال: اريد اسرع من ذلك لضيق صدره بهم فقالوا { أليس الصبح بقريب } ومن هذا يظهر فضل مقام ابراهيم (ع) على مقام لوط (ع) مع انه كان يراهم على الفاحشة مثل لوط او ازيد واتم لانه كان له رؤية الملكوت فيرى ما كان غائبا عن لوط (ع) ومع ذلك يجادل فى دفع العذاب ولوط (ع) يستعجل بالعذاب.
[11.82]
{ فلما جآء أمرنا جعلنا عاليها سافلها } بان جعل جبرئيل جناحه فى اسفلها ثم رفعها الى السماء ثم قلبها عليهم { وأمطرنا عليها حجارة من سجيل } معرب " سنك كل " اى الطين المتحجر { منضود } نضد واعد لعذابهم او متتابع فى النزول عليهم والصق بعضه ببعض.
[11.83]
{ مسومة } معلمة بالنقاط للعذاب { عند ربك } متعلق بمسومة او ظرف متسقر حال من المستتر فى مسومة { وما هي من الظالمين ببعيد } تعريض بأمة محمد (ص) والمراد مطلق من ظلم او من ظلم مثل ظلمهم باتيان الذكور روى انه من مات مصرا على اللواط لم يمت حتى يرميه الله بحجر من تلك الاحجار فيكون فيه منيته ولا يراه احد وقصة لوط (ع) وقومه وسوء فعلهم وخراب ديارهم مذكورة فى المفصلات.
[11.84]
{ وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان } كانوا يعاملون بنقص الميزان اذا اعطوا واستيفائه اذا اخذوا، فنهاهم عن سوء صنيعهم { إني أراكم بخير } ان تركتم البخس فى المعاملة { وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط } بعذابه كل الناس او بجميع جوانب كل احد او محيط بجميع ايام الدنيا، وعد و وعيد كما هو شأن الانبياء (ع) فى دعوتهم حيث يجمعون بين التبشير والانذار.
[11.85]
{ ويقوم أوفوا المكيال والميزان } تصريح بمفهوم النهى تأكيدا ورفعا لتوهم ان يريد بالنهى عن النقص الامر باعطاء الزيادة فان مفهوم مخالفته اعم من الايفاء واعطاء الزيادة ولذا قيد الايفاء بقوله { بالقسط ولا تبخسوا الناس أشيآءهم } تعميم لمطلق الاشياء مكيلة كانت او موزونة او غيرها وتأكيد آخر فانهم لما كانوا مصرين على التطفيف كان التأكيد فى النهى عنه والامر بالايفاء مطلوبا { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } حال تأكيدى وتعميم آخر ونهى عن مطلق الافساد. اعلم، ان الآية كما تجرى فى الاعراض الدنيوية تجرى فى الاوصاف النفسانية من حسن المعاشرة وترك سوء الخلق مع المعاشرين والانصاف معهم وترك طلب الانصاف منهم وحسن الظن بهم واتهام نفسه فيهم وستر العيوب منهم ورؤية العيوب من نفسه والاعتذار لهم والملامة لنفسه، وكما تجرى فى العالم الكبير تجرى فى العالم الصغير والمعاملة مع اهل مملكته، وكما تجرى فى المعاملة بين الشخص وسائر الخلق تجرى فى المعاملة بينه وبين الله، فلا تغفل عن تعميم الآية، بل ينبغى للناظر المتدبر فى الآيات الآلهية ان ينظر ويتدبر اولا فى مصداق كل آية فى وجوده ومملكته ثم ينظر فى مصاديقه الخارجية ولا يخصص الآية بمن نزلت فيه، مثلا اذا تلا آية فيها ذكر فرعون وموسى (ع) فلينظر اولا الى وجوده وفرعون مملكته الداعى للآلهة والاستقلال والاستبداد، وموسى وجوده الداعى لاهل مملكته وفرعونهم الى الاقرار بالله والانقياد له، ثم لينظر الى حال موسى (ع) وفرعون ومالهما وما عليهما ليعتبر بذلك ويعين به موسى وجوده على دعوته، ثم لينظر الى موسى زمانه وفرعونه ليعتبر بهما ويقيس حالهما الى من مضى وينزجر عن فرعونه ويطلب موساه ليعين ايضا بذلك موسى وجوده ويفر من فرعونه.
[11.86]
{ بقية الله خير لكم } يعنى ما يبقى لكم من مكاسبكم من دون ارتكاب البخس والتطفيف والاضافة الى الله للاشارة الى ان المعطى هو الله وان المكاسب وسائل اعطاء الله سترا على اعطائه لئلا ينصرفوا عن المكاسب، او بقية الله من الفطرة الآلهية واللطفية السيارة الانسانية والعقل وجنوده بعد احاطة النفس وشهواتها والشيطان واغوائه والجهل وجنوده بمملكتكم خير لكم من قضاء الشهوات والآمال التى زينها الشيطان، او بقية الله من خلفائه فى ارضه الداعين لكم اليه خير لكم من رؤسائكم فى ضلالتكم وكان هذا القول منه تلويحا الى نفسه { إن كنتم مؤمنين } تقييد بالايمان فان بقية الله لغير المؤمن من نقمة وعذاب او شرط تهييجى لانهم كانوا مدعين انهم مؤمنون بالله واصنامهم شفعاؤهم عند الله { ومآ أنا عليكم بحفيظ } ضمنه مثل معنى الوكالة والمراقبة فعداه بعلى اى ما انا وكيل عليكم بحفظكم من الشيطان ومن شرور انفسكم.
[11.87]
{ قالوا } فى جوابه عن دعوته الى التوحيد وترك الفساد فى الاعمال { يشعيب أصلوتك تأمرك أن نترك ما يعبد ءاباؤنآ } استهزأوا به بتحقير صلواته من حيث انها كانت غريبة فى انظارهم شبيهة بافعال المجانين لانهم ما رأوا مثلها من امثالهم وبتعظيم عبادة اصنامهم متوسلا فى ذلك بانها كانت فعل آبائهم وانهم اعتادوها واخذوها من اسلافهم { أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء } بالتطفيف { إنك لأنت الحليم الرشيد } من قبيل استعمال الضد فى الضد تهكما واستهزاء اى انك ذو طيش سفيه او تهييج له على ارتداعه عن دعواه وموافقته لهم يعنى انك كنت رجلا حليما لا يرجى منك ما يظهر من امثال الصبيان، رشيدا لا ينبغى ان يصدر منك افعال السفهاء والمجانين.
[11.88]
{ قال يقوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي } قد مضى بيان البينة { ورزقني منه رزقا حسنا } اشارة الى موائد الولاية فانها الرزق الحسن، والجزاء محذوف اى انصرف عن دعواى؟ واخف غير مولاى؟! { ومآ أريد أن أخالفكم إلى مآ أنهاكم عنه } يعنى ليس مطمح نظرى دنياكم حتى تكذبونى بمنزلة ما أسألكم عليه مالا { إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت } لما نسب الارادة الى نفسه تبرى عن استقلاله فقال { وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب } يعنى لا انظر فى فعلى ودعوتى الى نفسى وحولى وقوتى ولا فى غاية فعلى اى غير ربى فالآية اشارة الى التبرى من حوله ومن النظر الى غاية سوى مولاه.
[11.89]
{ ويقوم لا يجرمنكم شقاقي } لا يكسبنكم كسبا سيئا { أن يصيبكم مثل مآ أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد } يعنى ان كان زمان الامم السالفة بعيدا منكم ولستم تعتبرون منهم لعدم مشاهدة آثار هلاكهم بعصيانهم فقوم لوط غير بعيد منكم تشاهدون آثارهم وتتسامعون اخبارهم فاعتبروا بهم واجتنبوا عن مثل افعالهم فى مخالفة نبيهم وهو تهديد لهم بهلاك الامم الماضية بمخالفتهم رسولهم.
[11.90]
قد مضى تفسيره فى هذه السورة.
[11.91]
{ قالوا } بعد ما لم يقدروا على الاحتجاج معه { يشعيب ما نفقه كثيرا مما تقول } استهزؤا بقوله وهددوه بقولهم { وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك ومآ أنت علينا بعزيز } فيمنعنا عزة وجودك علينا عن قتلك ورجمك.
[11.92]
{ قال يقوم أرهطي أعز عليكم من الله } يعنى ترقبون فى حقى رهطى ولا ترقبون ربى وربى الذى ارسلنى اليكم اولى بالترقب { واتخذتموه ورآءكم ظهريا } الظهرى من كان وراء الظهر منسوب الى الظهر بالفتح بتغيير هيئته او منسوب الى الظهر بالكسر لكنه لم يستعمل فى غير النسبة وهو عطف بيان او بدل او حال تأكيدى او مفعول ثان ووراءكم حال حينئذ او ظرف للظهرى او هو مفعول بعد مفعول كالخبر بعد الخبر لانه كان فى الاصل خبرا بعد خبر { إن ربي بما تعملون محيط } تعليل للانكار والتوبيخ المستفاد من الهمزة، او جواب للسؤال عن حال الله معهم .
[11.93]
{ ويقوم اعملوا على مكانتكم } منزلتكم عن آلهتكم او رزانتكم فى انفسكم وهو تهكم بهم لكنه ابرزه فى صورة الانصاف ولذا لم يقيد قوله { إني عامل } بمكانتى { سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب } مضى مثله { وارتقبوا } نصر آلهتكم وعذابى { إني معكم رقيب } نصر الهى وعذابكم.
[11.94-96]
{ ولما جآء أمرنا } باهلاك قوم شعيب { نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا } الاتيان بالواو قبل لما ههنا وفى قصة هود (ع) وبالفاء فى قصتى صالح (ع) ولوط (ع) للتصريح فى قصتى صالح ولوط (ع) بوعد العذاب المستعقب لاتيانه المسبب منه دون قصتى هود (ع) وشعيب (ع) { وأخذت الذين ظلموا الصيحة } روى انه صاح بهم جبرئيل صيحة فزهق روح كل منهم { فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيهآ ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين } الآيات هى الآيات التسع التى بها ظهور رسالته وسلطان مبين هو الولاية التى لها السلطنة على الكل، ولما كان جعل عصاه التى كانت جمادا حية حية من ظهور سلطنة الولاية وبه صار سلطنته تامة كان المراد به فى الظاهر هو عصاه.
[11.97]
سبب رشد المأمور.
[11.98-99]
{ يقدم قومه يوم القيامة } لانه كان اصل ضلالتهم فى الدنيا فهكذا يصير يوم القيامة رئيسا لهم فى الذهاب الى النار { فأوردهم النار } لانهم يتبعونه فى الذهاب الى النار والتأدية بالمضى اشعار بتحققه تأكيدا { وبئس الورد المورود وأتبعوا في هذه } الدنيا او فى هذه الخصلة { لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود } اى العطاء المعطى رفدهم واستعمال الورد والرفد وتوصيفهما مبالغة فى الذم وتهكم بهم.
[11.100]
{ ذلك } المذكور من انباء قرى نوح (ع) وهود (ع) وصالح (ع) ولوط (ع) وشعيب (ع) وموسى (ع) شيء يسير { من أنبآء القرى } وللاشارة الى قلتها اتى باسم الاشارة مفردا مذكرا { نقصه عليك منها قآئم } من اسم بمعنى البعض مضاف الى الضمير مبتدأ وقائم خبره او منها لقوة معنى البعض فى من قائم مقام موصوفه الذى هو المبتدأ ومنها خبر مقدم قائم مبتدأ مؤخر والجملة حال ، او مستأنفة، او منها حال معتمد على ذى الحال عامل عمل الوصف ومبتدأ وصفى وقائم مرفوعه ومغنى عن الخبر { وحصيد } والمراد بقيامها قيام اهلها وعدم ابادتهم او قيام آثار القرى المهلكة وعدم انمحائها وهكذا الحصيد والحصاد فى القطع بالحديد لكن يقال للذى استوصل بحيث لم يبق منه اثر حصيد ومحصود، ونسب الى الصادق (ع) انه قرئ فمنها قائما وحصيدا بلفظ الفاء قبل منها ونصب قائما وحصيدا فيكونان حينئذ خبرين لكان محذوفا او مفعولين لنقص محذوفا والتقدير فمنها كان قائما وحصيدا او فمنها نقص قائما وحصيدا.
[11.101]
{ وما ظلمناهم } عطف لدفع توهم ان حصادهم واستيصالهم بالكلية ظلم من الله { ولكن ظلموا أنفسهم } بارتكاب ما جلب عليهم العذاب من دعاء غير الله وشنائع الاعمال يظن ان الاليق بسياق هذه العبارة ان يقال: وما نحن ظلمناهم ولكنهم ظلموا انفسهم لانه اذا اريد نفى الفعل عن فاعل واثباته لفاعل آخر يؤتى بالفاعل المنفى عنه عقيب اداة النفى وبالفاعل المثبت له عقيب اداة الاستدراك، لكنه تعالى اراد ان يشير الى انه لم يكن فى الاستيصال ظلم بل كان عدلا وانما الظلم كان افعالهم الشنيعة المؤدية الاستيصال فنفى فى الاول اصل الظلم بواسطة الاستيصال واثبت ظلما آخر سوى الاستيصال لهم { فما أغنت عنهم } ولا دفعت { آلهتهم التي يدعون من دون الله } من الاصنام السفلية والاجسام العلوية والاشخاص البشرية التى ما انزل الله بها من سلطان دون ولى الامر { من شيء } من العذاب { لما جآء أمر ربك } بالعذاب والاهلاك { وما زادوهم } اى ما زادهم الآلهة { غير تتبيب } غير الاهلاك والتخسير.
[11.102]
{ وكذلك } الاخذ بالحصاد والاستيصال بالكلية { أخذ ربك إذا أخذ القرى } اى اهلها { وهي ظالمة إن أخذه } فى موضع التعليل { أليم شديد } وذلك انه تعالى يمهل الظالم الذى انصرف عنه الى الشيطان حتى استتم جهات الغواية واستحق كمال العقوبة.
[11.103]
{ إن في ذلك } الاخذ والاهلاك الواقع بالامم الماضية الهالكة { لآية لمن خاف عذاب الآخرة } فانه وان كان فى الدنيا لكنه من تصرف الغيب وانموذج الآخرة { ذلك } اليوم الذى هو الآخرة والتذكير باعتبار الخبر { يوم مجموع له الناس } لان المتعاقبين متلاحقون فى ذلك اليوم { وذلك } تكرار اسم الاشارة للتهويل { يوم مشهود } يشهد فيه كل حاضر وغائب او يقوم الاشهاد من الانبياء (ع) واوصيائهم (ع) بالشهادة فيه او يطلب منهم الشهادة فيه.
[11.104-105]
{ وما نؤخره إلا لأجل } اى الى وقت او فى وقت او لانقضاء امد { معدود يوم يأت } ذلك اليوم على ان يكون الفاعل راجعا الى اليوم المضاف او اليوم المشهود وقرئ يأتى باثبات الياء وحذفها اجراء للوصل مجرى الوقف { لا تكلم } تتكلم { نفس إلا بإذنه } لظهور السلطنة التامة والمالكية الكاملة بحيث يكون نسبة الكل اليه تعالى نسبة القوى والجوارح الى النفس، فكما ان حركات القوى والجوارح اذا كانت سليمة باقية على طاعة النفس ليست الا بالاذن التكويني من النفس الانسانية، كذلك لا يكون حركات الموجودات تماما ومنها نطق الانسان وتكلمه فى ذلك اليوم الا بالاذن التكوينى من الله تعالى، ولا ينافيه قوله تعالى
هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم
[المرسلات:35]، لان ذلك بالنسبة الى العاصين او بالنسبة الى الاعتذار عن المعصية وهذا بالنسبة الى المطيعين اوفى غير الاعتذار عن المعصية او ذلك فى يوم وموقف وهذا فى يوم وموقف آخر؛ بل نقول ذلك ايضا يدل على توقف التكلم على الاذن موافقا لهذا { فمنهم } اى من الناس المذكورين او من صاحبى النفوس المدلول عليهم بالنفس المنكرة الواقعة فى سياق النفى الدالة على العموم او من اهل المحشر المدلول عليهم التزاما او من المتكلمين وهو من عطف التفصل على الاجمال ولذا اتى بالفاء { شقي وسعيد } اى ومنهم سعيد فهو من عطف الاوصاف المتعددة لذوات متعددة لا لذوات واحدة واسقاط منهم للاشارة الى ان القسمة غير مستوفاة اما لان الضمير راجع الى جملة المبعوثين من الحيوان والانسان ولا يحكم على اكثرهم بالشقاوة ولا بالسعادة والاتيان بضمير ذوى العقول حينئذ للتغليب او لان اكثر الناس من السواقط لا اعتناء بهم حتى يدخلوا فى القسمة او لان الاكثر مؤخر حكمهم الى الفراغ من حساب الاشقياء والسعداء، وتقديم الشقى اما لان المقام للوعيد، او لكثرة الاشقياء بالنسبة الى السعداء، ولان يختتم الآية بذكر السعداء والرحمة.
[11.106]
{ فأما الذين شقوا } قرئ معلوما ومجهولا من شقاه بمعنى أشقاه { ففي النار } خبر الموصول { لهم فيها زفير وشهيق } الجملة حالية او مستأنفة جواب لسؤال عن حالهم، واذا كانت حالا فاما حال عن فاعل شقوا او عن المستتر فى الظرف او عن النار، او لهم حال عما سبق وزفير وشهيق فاعل للظرف لاعتماده على ذى الحال وللآية وجوه أخر من الاعراب، والزفير اخراج النفس بشدة والشهيق ادخاله كذلك، او شبه صراخهم بنهيق الحمير فان الزفير والشهيق حالتا نهيق الحمير.
[11.107]
{ خالدين فيها } حال عن واحد مما سبق بطريق التداخل او الترادف { ما دامت السماوات والأرض } ظرف للخلود او لكون الزفير لهم او لثبوتهم فى النار استقلالا او على سبيل التنازع { إلا ما شآء ربك إن ربك } استثناء من مدة الخلود او مدة كونهم فى النار لا من مدة زفيرهم وشهيقهم ليوافق قسيمه ولفظة ما نافية او مصدرية او موصولة او موصوفة، ولما كان المتوهم من استثناء مدة عن مدة ان يكون المستثناة آخر المدة المستثنى منها اشكل الآية على القائلين بدوام العذاب والخلود فى النار واستدل القائلون بانقطاع العذاب او خروج اهل النار من النار بامثالها.
بيان فى خلود اهل النار وعدم خلودهم
اعلم، ان المتشرعين من المتكلمين والفقهاء رضوان الله عليهم قالوا بدوام العذاب وخلود اهل النار الذين لا يدركهم شفاعة الشفعاء فى النار وفى العذاب واستدلوا على ذلك بظواهر الآيات والاخبار، وعلى هذا فالاستثناء من مدة الخلود باعتبار اولها نظيره ان يقال: حبست يوم الجمعة الا ساعة من اوله، فان اهل النار قبل دخول نار الآخرة معذبون فى البرازخ او غير مستفيقين من غشيهم واماتتهم بالنفخة الاولى وحالهم حينئذ كحال النائم والمغشى عليه، او الاستثناء من مدة الخلود باعتبار آخر المدة لكن بالنسبة الى من يدركه شفاعة الشافعين كأنه قال: الا ما شاء الله لمن شاء الله او الاستثناء من مدة الخلود باعبتار آخرها لكن المراد بالنار نار البرازخ المعبر عنها بنار الدنيا كما فى الاخبار، وتلك النار وان مكثوا فيها ما مكثوا لكنهم يخرجون عنها اخيرا الى نار الآخرة وسنحقق نار الدنيا ونار الآخرة وكذا جنان الدنيا وجنان الآخرة عن قريب ان شاء الله، وقد ذكر فى تصحيح الاستثناء وجوه اخر لا فائدة فى ذكرها ولا تليق بهذا المختصر. وبعض الحكماء من المشائين والاشراقيين قالوا بخلود النار وتسرمد العذاب على النوع بتعاقب الافراد واما الافراد فلا يتسرمد العذاب علهيم بل اما يصير العذاب عذبا كما قال بعض او يخرجون من الجحيم والنار الى النعيم، او يخرج بعضهم ويصير العذاب عذبا على بعضهم، واستدلوا على ذلك باصولهم المقررة عندهم من ان القسر لا يكون دائميا ولا اكثريا والا بطل الحكمة فى ايجاد القوة المقسورة واذا لم يكن القسر دائميا ولا اكثريا فان كان الانسان مخلدا فى النار فليبدل القوة المتألمة منه بقوة ملائمة للنار حتى يتسريح منها ويلتذ بها، او يخرج من النار ويصل الى ما يلائمه، واعتقد جمع من المتصوفة ايضا عدم تسرمد العذاب واستدلوا على ذلك باصولهم الذوقية وشواهدهم الكشفية من ان الرحمة ذاتية وسابقة على الغضب وشاملة للكل وان الغضب عرضى لا حق للمرحوم بالذات، والعرضى يزول والذاتى لا يزول فبعد مدة العذاب اللائق بحال المعذب يصير العذاب عذبا للكل كما قال بعض او يخرج المعذبون جميعا وينبت من قعر الجحيم والجرجير كما قال بعض، او يتسرمد العذاب على النوع بتعاقب الاشخاص وخروجهم تدريجا كما قال جمع، او يخرج بعض ويبقى بعض فى الجحيم ملتذا بنارها وحياتها وعقاربها مثل ما قال الحكماء، ولا اشكال فى الاستثناء على قولهم لكن هذا القول يشبه قول اليهود وقد كذبهم الله فى قوله:
لن تمسنا النار إلا أياما معدودة
[البقرة:80] { إن ربك فعال لما يريد } تعليل لسابقه.
[11.108]
{ وأما الذين سعدوا } قرئ بفتح السين وضمها من سعده الله بمعنى اسعده { ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شآء ربك } الاستثناء هنا باعتبار المبدأ كما سبق او باعتبار المنتهى لكن المراد بالجنة جنة الدنيا كما فى اخبارنا، فالمعنى { وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شآء ربك } ان يخرجوا منها الى جنات المأوى ومقام الرضوان ويدل عليه التقييد بدوام السماوات والارض فانها باقية فى الجنات الدانية، واما جنات المأوى فليس فيها سماء ولا ارض ليس عند ربنا صباح ولا مساء ويدل عليه ايضا قوله { عطآء غير مجذوذ } فانهم ان خرجوا منها لا الى مثلها او ما فوقها كان العطاء مجذوذا لا محالة.
شرح فى عوالم البرازخ والمثال والآخرة
اعلم، ان الانسان من اول استقرار نطفته ومادة بدنه فى الخلع واللبس والموت والبعث فله فى كل آن موت وحشر وخلع لصورة ولبس لاخرى الى آخر حياته الدنيوية واول مماته الطبيعية، لكنه لما كان بنحو الاتصال التدريجى فى عالم واحد طبيعى خصوصا بعد تولده الى آخر عمره ولا يظهر على اهل الحس ظهورا غير مغفول عنه ما سموه فى الشريعة المطهرة موتا وحشرا، ويذهل اهل الحس عن تبدله وخلعه ولبسه مع انه مشهود معلوم لكل احد من حيث انه يشهد ان النطفة اضعف جماد ويعلم انه مادة البدن ثم يراها حيوانا ثم انسانا صبيا ثم مراهقا ثم شابا وكهلا وهرما، لكن خلعه البدن وانتقاله الى عالم آخر لما كان من عالم الى عالم ومن مادة طبيعية الى صورة اخروية مجردة ودفعة لا تدريجا صار ممتازا عما قبله منظورا اليه مسمى بالموت والارتحال كما ان خروجه من رحم امه وانفصاله منها لما كان دفعة وانتقالا من عالم الى عالم وخروجا من مضيق الرحم وظلماته الثلاث صار ممتازا منظورا اليه مسمى بالولادة؛ وبعد خروجه من بطن الدنيا ورحم غلاف البدن ومشيمة اغشية الاهواء، ولادته فى الآخرة له حالات وانتقالات وفى كل انتقال موت وحياة وخلع ولبس وقبر وبعث. فاول حالاته الاماتة التامة والغشى العام الحاصل بالنفخة الاولى ونفخة الاماتة ويمكث فى تلك الحالة ما شاء الله كما اشير اليه فى اخبارنا، وبعد ما يبعث من تلك الحالة بالنفخة الثانية ونفخة الحياة له حالات وانتقالات من صورة الى صورة بحسب ما اكتسبه فى الدنيا من الاعمال والاخلاق، فان كان من اهل الشقاوة يتقلب فى الصور الموذية والنار الدانية الى ان ينتهى الى نار الآخرة وان كان من اهل السعادة وكان عليه شوب من الاعمال السيئة والاخلاق الرذيلة يتقلب فى الصور المؤذية الى ان يتخلص منها الى الصور البهية، وان لم يكن عليه شوب من ذلك يتقلب فى الصور البهية الى ان ينتهى الى جنان الآخرة وجنة المأوى ويسمى عالم التقلبات برزخا بين عالم الطبع وعالم الآخرة وفى هذا العالم يكون ترقيات وتنزلات فى الآخرة، ونصوص الآيات والاخبار تدل على ذلك، وقرره العرفاء الشامخون والصوفية المكاشفون والعقل لا يأباه فلا اعتناء بما قاله بعض المتفلسفة من عدم الترقى والتنزل بعد الموت بناء على انكار عالم البرزخ والمثال او على انقطاع المادة والاستعداد وان الترقى والتنزل لا يكونان الا بالمادة والاستعداد.
اما عالم البرزخ المثال فقد أثبتته الآيات والاخبار وحققه المكاشفون الاخيار واحتج عليه الاشراقيون من الحكماء الابرار ومحل تحقيقه الحكمة العالية. واما انقطاع الاستعداد فمسلم لكن لا ينافيه ظهور المكسوبات بالاستعداد فى الدنيا بعد الموت بصور مناسبة لها متعاقبة لعدم سعة النفس لظهور الصور تماما واستجماعها دفعة حتى تنتهى الصور الى صورة لا خروج للنفس منها بحسب آخر اعمالها فى السعادة او الشقاوة، كما هو شأن اصحاب اليمين واصحاب الشمال، او تخرج النفس من عالم الصورة الى عالم المجردات الصرفة كما هو شأن المقربين، وهناك ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وخروجها الى عالم المجردات الصرفة لا ينافى سعتها وتنعمها بنعيم الجنان الصورية بحسب مراتبها النازلة وجنودها الدانية فان المقربين مشاركون لاصحاب اليمين فى لذاتهم الصورية وهم لا يشاركون المقربين فى لذاتهم المعنوية فالنفوس الانسانية بعد الموت والخروج من غلاف البدن مثلها بعد التولد والخروج من غلاف الرحم، فكما أنها بعد التولد تنمو وتشب بحسب بدنه وتخرج من الدنيا، كذلك بعد الموت تنمو وتشب وتخرج من عالم الصورة والمثال ان كانت من المقربين، او تخرج من البرزخ فقط وتقف فى صورة هى مقرها ان كانت من اصحاب اليمين او اصحاب الشمال سواء كان موتها اختياريا او اضطراريا، وبعد خروجها من عالم الصور الى عالم المجردات الصرفة وانتهائها الى صورة لا تتجاوز عنها يكون قيامتها الكبرى ودخولها فى مقامها من جنات عدن او الجنان الصورية بمراتبها او الجحيم بمراتبها، وقبل القيامة الكبرى تكون فى جنان الدنيا او فى نار الدنيا كما فى اخبارنا، وهما اللتان تكونان فى البرازخ قبل الوصول الى محل القرار؛ وقد فسر الجنة والنار فى هذه الآية بولاية آل محمد (ص) وولاية اعدائهم.
[11.109-110]
{ فلا تك في مرية } الخطاب عام او خاص بمحمد (ص) لكن على طريقة، اياك اعنى واسمعى يا جارة، والفاء للجزاء الا اذا علمت حال آلهة الامم السابقة وانها لا تغنى عن عابديها شيئا بما قصصناه عليك وبما شاهدت من آثارهم فلا تك فى مرية { مما يعبد هؤلاء } من عبادة هؤلاء لان عبادتهم مثل عبادة اسلافهم او من الالهة التى يعبدها هؤلاء فان حالها كحال آلهة السالفين { ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم } اى الامم السالفة الذين قصصتهم عليك والتقدير كما كان يعبد آباؤهم فحذف لدلالة قوله { من قبل } عليه { وإنا لموفوهم نصيبهم } اى قسطهم من العذاب كآبائهم او نصيبهم من ارزاقهم الى آجالهم حتى نذهب بهم الى دار شقائهم { غير منقوص ولقد آتينا موسى الكتاب } كتاب النبوة وصورته التوارة كما آتيناك الكتاب { فاختلف فيه } كما اختلف فى كتابك { ولولا كلمة سبقت من ربك } بامهالهم حتى يخوضوا فى طغيانهم { لقضي بينهم } بين المختلفين من قوم موسى (ع) او من قومك بتمييز المبطل عن المحق واهلاك المبطل وابقاء المحق { وإنهم } اى منكرون قومك { لفي شك منه } من كتابك { مريب } بالغ سواء كان من قبيل ظل ظليل او بمعنى موقع للغير فى الشك على ان يكون من ارابه بمعنى اوقعه فى الشك.
[11.111-112]
{ وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم } قرئ ان بتشديد النون وتخفيفها وعلى قراءة التخفيف قرئ كلا بالنصب وبالرفع وعلى كل فلما بالتشديد وبالتخفيف وقرئ لما بالتنوين فعلى قراءة تشديد النون فكلا اسم ان ولما بالتشديد مركبة من لام الابتداء ومن الجارة وما الموصولة او ما الموصوفة، ولام ليوفينهم موطئة والجملة صلة ما اوصفته والمعنى لمن الذين ليوفينهم او لمن اشخاص ليوفينهم بتقدير القول، او لما نافية والمنفى محذوف وليوفينهم جملة مستأنفة والمعنى لما يوف ربك اعمالهم ليوفينهم اعمالهم او لما اصله لما بالتنوين بمعنى جميعا تأكيدا لكلا ابدل النون الفا اجراء للوصل مجرى الوقف، او لما فعلى من لم بالف التأنيث بمعنى جميعا لم ينصرف لمكان الالف وعلى قراءة تشديد ان وتخفيف لما فلام لما لام خبر ان ولام ليوفينهم موطئة او بالعكس وما زائدة للفصل بين اللامين، او لام لما لام خبر ان وما موصولة او موصوفة اى ان كلا من المؤمنين والمنكرين للذين ليوفينهم ربك اعمالهم، وهكذا تقدير الموصوفة، وعلى قراءة تخفيف النون ونصب كلا وتشديد لما فان مخففة عاملة على اصلها وكلا اسمها ولما على الوجوه السابقة او ان نافية وكلا مفعول فعل محذوف ولما استثنائية والمعنى ان ارى كلا الا ليوفينهم، او ان مخففة مهملة وكلا مفعول فعل محذوف ولما على الوجوه السابقة وعلى قراءة تخفيف ان ونصب كلا وتخفيف لما فان مخففة عاملة مثل كونها مشددة عاملة مع لما بالتخفيف او ان مخففة مهملة وارى مقدرة ولام لما موطئة او لام خبر ان وما للفصل بين اللامين او لام لما خبر ان وما موصولة او موصوفة، او ان نافية وارى مقدرة ولام لما بمعنى الا على قول من يجعل اللام بعد ان بمعنى الا وما للفصل او ما موصولة او موصوفة، وعلى قراءة ان بالتخفيف وكل بالرفع ولما بالتشديد فان مخففة مهملة وكل مبتدأ ولما على الوجوه السابقة، او ان نافية ولما استثنائية وعلى قراءة ان بالتخفيف وكل بالرفع ولما بالتخفيف فان مخففة مهملة او نافية ولما على الوجوه السابقة، والمقصود تهديد المنكرين فالمعنى وان كلا من المنكرين او تهديد المنكرين وترغيب المؤمنين، فالمعنى وان كلا من المؤمنين والكافرين ليوفينهم ربك اعمالهم { إنه بما يعملون خبير فاستقم كمآ أمرت } اى اذا كان الامر هكذا فاستقم وتمكن والاستقامة من قام من الانحناء او من قام بالامر بمعنى كفاه واليهئة للطلب او للمبالغة فمعنى استقام طلب القيام من نفسه او القيام بالامر من نفسه وهو ايضا يفيد المبالغة او بالغ فيه، ومعنى الآية فاستقم استقامة مماثلة لمأموريتك وموازية لها او استقامة مثل الاستقامة التى امرت بها.
اعلم، ان الانسان مأمور تكوينا بالسير من ادنى مراتب الوجود وهو العناصر الاربعة بل مادة المواد الى اعلاها وهو مقام الاطلاق والخروج من التعين والتقيد وسيره من مقام الطبع على مراتب الجماد والحيوان الى مقام البشر وظهور العقل الجزئى الذى هو مناط التكليف وظهور الاختيار بمحض الامر التكوينى من دون مداخلة اختيار وتكليف، وبعد ظهور العقل وتمييز الخير والشر الانسانيين لما كان قد يعارض اختياره الامر التكوينى ويمنعه عن سيره على المراتب العالية ادركه الرحمة والعناية الآلهية بالاوامر والنواهى التكليفية على السنة رسله واوصيائهم (ع)، فان ساعده التوفيق فى امتثال الاوامر والنواهى وسار بمقتضى فطرته على المراتب العالية من الملكوت والجبروت الى مقام الاطلاق المعبر عنه باللاهوت والمشية والحق المخلوق به والولاية المطلقة وتمكن فى ذلك صار منتهيا فى سيره الى ما امر به وصار مستقيما متمكنا فى جميع ما امر به تكوينا وتكليفا، وان لم يساعده التوفيق وتنزل الى الملكوت السفلى وعالم الجنة والارواح الخبيثة صار مخالفا للامر التكوينى والتكليفى فضلا عن ان يكون مستقيما فيه، فان الاستقامة هو التمكن فى المأمور به بحيث يصير راسخا غير محتمل الزوال بسهولة، والسالك الى الله عروجه على المقامات وان كان صعبا لكن تمكنه فيها بحيث لا يزول عنه اصعب من دخوله فيها فان الدخول فى مقام التوكل صعب لكن تمكنه فى التوكل بحيث لا يزول عنه فى حال من الاحوال اصعب من دخوله فيه، وهكذا الانسان الملكى عروجه الى الملكوت صعب لكن تمكنه فيها بعد عروجه اليها بحيث لا يشغله شأن من شؤنه عنها اصعب وقد اشار المولوى قدس سره الى السير على تلك المراتب والتمكن فيها والانتهاء الى مقام الاطلاق بقوله:
ازجمادى سردم وناسى شدم
وز نما مردم بحيوان سر زدم
سردم از حيوانى وآدم شدم
بس جه ترسم كى زمردن كم شدم
حمله ديكر بميرم از بشر
تا بر آرم ازملايك بال وير
وازملك هم باديم جستن زجو
كل شيء هالك الا وجهه
بار ديكر از ملك يران شوم
آنجه اندر وهم نايد آن شوم
بس عدم كردم عدم جون ارغنون
كويدم انا اليه راجعون
فانه اشار بذكر الموت الى التمكن فى المقام الذى مات منه لانه لو لم يتمكن فى ذلك المقام لم يكن حيا به بل كان آثار ذلك المقام عرضيا لا ذاتيا فلم يكن حيوته التى هى قوام ذاته به، وما لم يكن حيا به لم يتصور موته منه واراد بالملك جنس الملائكة ذوى الاجنحة التى عالمها الملكوت، والمراد بما لم يدخل فى الوهم المجردات الصرفة التى لا يتصورها الواهمة لان تصورها لا يتجاوز عن المتقدرات وهى وجه الله الباقى بعد هلاك كل شيء، وصيرورته عدما اشارة الى مقام الاطلاق او المراد بصيرورته غير موهوم مقام الاطلاق وصيروته عدما تأكيدا له، ولما كان التمكن فى جملة المراتب امرا عظيما صعبا امره (ص) بالاستقامة فى جميع ما امر به دون المؤمنين لانه لا يتيسر لهم التمكن فى جميع ما امروا به الا من ندر منهم، فان تقديم كما امرت على المعطوف للاشارة الى هذه اللطيفة ولذلك لم يصرح بامرهم بالاستقامة فيما يتيسر لهم بل جعل امرهم تابعا لامره (ص) وقال من غير تصريح بامرهم { ومن تاب معك } كأنه صار مأمورا باستقامة المؤمنين دون المؤمنين ولهذا ورد عنه (ع): شيبتنى سورة هود وورد انه ما نزلت آية كانت اشق على رسول الله (ص) من هذه الآية، ووجهه انه امر فيها باستقامة امته والا فاستقامته بنفسه كانت سهلا عليه ولم يقل: شيبتنى سورة الشورى، لان الآية هنالك مطلقة عن ذكر من تاب معه الذين بايعوا معه البيعة العامة النبوية الاسلامية فان التوبة جزؤ للبيعة واحد اركانها سواء كانت البيعة اسلامية او ايمانية ومعك ظرف للتوبة من حيث ان النبى (ص) او الولى يحصل له رجوع وانسلاخ من الكثرات حين البيعة وتوبة البايع او ظرف للاستقامة او هو حال او المراد بمن تاب عموم المؤمنين بالبيعة الخاصة خصوصا امير المؤمنين (ع) او المراد امير المؤمنين خاصة { ولا تطغوا } ولا تخرجوا من الاستقامة فانه نحو من الطغيان او لا تتجاوزوا حدود الله وجواز اتصاف المؤمنين بالطغيان اشركهم معه (ص) فى النهى او صرف الخطاب عنه (ص) اليهم { إنه بما تعملون بصير } تهديد وترغيب للمستقيم والطاغى.
[11.113]
{ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا } من قبيل ذكر الخاص بعد العام تأكيدا، والركون هو الميل اليسير والمراد بالظلم ظلم آل محمد (ص) ويجرى فى كل من ظلم غيره من حيث ظلمه، واما من ظلم نفسه فقط فهو وان كان من حيث ظلمه لنفسه ظالما لكن لما كان حيثية ظلمه لنفسه خفية غير ظاهرة لغيره لم يكن داخلا فيه ظاهرا وان كان بحسب الطريق داخلا والركون اليه موجبا لمسيس نار ظلمه الناشئة من جهله { فتمسكم النار } عن الصادق عليه السلام هو الرجل يأتى السلطان فيحب بقاءه الى ان يدخل يده كيسه فيعطيه، وعنه (ع) اما انها لم يجعلها خلودا ولكن تمسكم فلا تركنوا اليهم { وما لكم من دون الله من أوليآء } فلا تتخذوهم اولياء { ثم لا تنصرون } الجملة الاولى حال عن مفعول تمسكم والثانية عطف على تمسكم.
[11.114]
{ وأقم الصلاة } عطف على استقم او لا تطغوا او لا تركنوا { طرفي النهار وزلفا من الليل } المراد بطرفى النهار كما فى الخبر الغداة والمغرب وزلفا جمع زلفة بمعنى القريبه اى ساعات قريبة من النهار والمراد العشاء { إن الحسنات يذهبن السيئات } تعليل لاقامة الصلاة والمقصود دفع توهم نشأ من النهى عن الطغيان بمعنى عدم التمكن والنهى عن الركون الى الظلمة كأنه توهم انه لا يخلوا احد من عدم التمكن والركون الى الظالم ولا سيما الظالم لنفسه، وفى الخبر ان الصلاة الى الصلاة كفارة ما بينهما ما اجتنبت الكبائر، وورد ان الله يكفر بكل حسنة سيئة، وورد انه ليس له شيء اشد طلبا ولا اسرع دركا للخطيئة من الحسنة اما انها لتدرك الذنب العظيم القديم المنسى عند صاحبه فتحطه وتسقطه وتذهب به بعد اثباته، وذلك قوله سبحانه: ان الحسنات يذهبن السيئات، وعن احد الصادقين (ع):
" ان عليا (ع) قال: سمعت حبيبى رسول الله (ص) يقول: ارجى آية فى كتاب الله اقم الصلاة طرفى النهار (الآية) وقال: يا على والذى بعثنى بالحق ونذيرا ان احدكم ليقوم الى وضوئه فتساقط عن جوارحه الذنوب، فاذا استقبل الله بقلبه ووجهه لم ينفتل وعليه من ذنوبه شيء كما ولدته امه "
{ ذلك } اى اذهاب الحسنات للسيئات او قول ان الحسنات يذهبن السيئات { ذكرى للذاكرين } اى تذكر لهم لما يرونه فى وجودهم وعالمهم من انمحاء السيئات بالحسنات ومن غسل الصلاة لدرن الذنوب عن وجودهم والمراد بالذاكرين من كان شأنهم تذكر المساوى الحاصلة لهم من افعالهم الشنيعة وهم الذين قبلوا الولاية ودخلوا الابيات من ابوابها وذكروا الله من جهة ذكره.
[11.115]
{ واصبر } على اذى قومك حتى لا يخرجك عن الاستقامة ولا يدخلك فى الطغيان والركون الى غير الله وعلى الطاعات خصوصا الصلوات الخمس باتيانها بجميع شرائطها { فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } وضع المظهر موضع المضمر ليكون كالبرهان ويكون تلويحا الى الامر بالاحسان الى المسئ ووجه اختلاف الخطاب فى تلك الآيات من قوله فاستقم الى قوله واصبر بالخصوص والعموم غير خاف على المتأمل فى لطائف الخطاب.
[11.116]
{ فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية } بعد ما نهى عن الطغيان وذكر مسيس النار بالركون الى الظالم وان الصلاة حسنة وان الحسنات يذهبن السيئات وامر بالصبر على الطاعات واذى القوم واشار الى الامر بالاحسان، وبخهم على ترك النهى عن الطغيان والركون وعلى عدم الصبر على الاذى والطاعات مشعرا بتسببه عما قبله باتيان الفاء، اى اذا كان الامر هكذا فانتم موبخون على ترك النهى عن هذا الامر العظيم الذى يدخل بسببه عباد الله النار، والمراد بالبقية هو بقية الله وقد مضى فى تفسير بقية الله ان العقل وجنوده رسول الله الى العالم الصغير وبعد استيلاء الشيطان على مملكة هذا العالم فان بقى من العقل وجنوده شيء كان الانسان ذا بقية من جنود الله والا فلا { ينهون عن الفساد في الأرض } ارض العالم الصغير وارض العالم الكبير { إلا قليلا ممن أنجينا منهم } استثناء متصل من اولوا بقية باعتبار النفى المستفاد من اداة التخصيص اى ما كان من القرون اولوا بقية من رسول الله الباطنى او الظاهرى الا قليلا هم من انجينا او بعض ممن انجينا او ناشئا ممن انجينا ومتولدا منهم، ومنهم ظرف لغواى انجينا من بينهم حين هلاكهم او انجيناهم من شر تلك القرون او ظرف مستقر اى ممن انجينا حال كونهم بعضا من القرون او متولدا منهم { واتبع الذين ظلموا مآ أترفوا فيه } عطف للحاظ المعنى كأنه قال: فنهى اولو البقية واتبع الذين ظلموا ما اترفوا فيه وتركوا النهى طلبا للراحة وخوفا من اذى القوم وزوال النعمة والآية توبيخ لاهل عصر الرسول (ص) وبيان لذمائمهم { وكانوا مجرمين } تمرنوا عليه وصار الاجرام سجية لهم.
[11.117]
{ وما كان ربك ليهلك القرى بظلم } اى بظلم صادر من بعضهم او بظلم منا لهم من دون استحقاقهم بسوء اعمالهم وجرائمهم { وأهلها مصلحون } تهديد عن الاجرام وترغيب فى الاصلاح فى العالم الكبير والصغير.
[11.118]
{ ولو شآء ربك لجعل الناس أمة واحدة } على دين واحد متوجهين الى مقصد واحد دفع توهم نشأ من التهديد والترغيب من انهم مستقلون فى الاصلاح والاجرام وتسلية للنبى (ص) عن حزنه على اختلافهم { ولا يزالون مختلفين } ابدا كما لم يزالوا مختلفين ازلا.
[11.119-120]
{ إلا من رحم ربك } قد مر مرارا ان الولاية المطلقة هى رحمة الحق وان صورتها النازلة المتصورة بصور الحروف والنقوش المعبر عنها بالايمان الداخل فى القلب وان ملكوت الامام الساكنة فى القلب صورة الرحمة وحقيقتها وقد حقق ايضا ان الداخلين فى الولاية بالبيعة الخاصة الولوية وجهتهم واحدة ومقصدهم واحد الا اذا اخرجوا وارتدوا فطرة بعد ما آمنوا وان غيرهم سواء كانوا متحلين لملة واحدة او لملل مختلفة او لم يكونوا ينتسبون الى ملة آلهية كلهم مختلفون لانهم لا قائد لهم من ولى مرشد ولا سائق من دليل ناصر ولا اتصال لهم بشيخ واحد وملكوت واحدة وقد قال المولوى قدس سره تفسيرا للآية:
جان حيوانى ندارد اتحاد
تو مجو اين اتحاد ازجان باد
جان كركان وسكان ازهم جداست
متحد جانهاى شيران خداست
همجو آن يك نور خورشيد سما
صد بود نسبت بصحن خانه ها
ليك يك باشد همه انوارشان
جونكه بركيرى توديوار ازميان
{ ولذلك خلقهم } لان فيه تعمير الدنيا وبه بقاء اهلها وتكميل الاتقياء وتطهيرهم من وسخ الدنيا وقد فسر المرحوم فى الاخبار بشيعة آل محمد (ص)، وانهم متحدون وان غيرهم مختلفون وان كانوا صورة على طريقة واحدة { وتمت كلمة ربك } عطف على خلقهم اى ولذلك تمت كلمة ربك فيكون اشارة الى حكمة الاختلاف او على مجموع لذلك خلقهم { لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين وكلا } اى من الاقتصاص على ان يكون نائبا للمصدر او كلا من الانباء على ان يكون مفعولا به { نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك } حتى لا يعتريه خوف واضطراب ولا شك وارتياب ولا ينصرف عن طريق الطاعة الى غيرها ولفظة ما مفعول به على الاول وبدل او عطف بيان على الثانى { وجآءك في هذه } القصص لافى غيرها { الحق } فلا تمل من تطويلها وتكرارها فان فائدتها وهى مجيء الحق وثبات الفؤاد اعظم الفوائد واسناها والمراد بمجيء الحق هو ظهور الملكوت والملكوتيين عليه فانها صورة الحق لان الحق هو مقام الولاية والجبروت والملكوت صورتها والملك ايضا بجهة حقية صورتها لكنه لاكتناف الباطل به اختفى الحق عنه ولذلك لا يسمى حقا على الاطلاق ولما لم يكن مجيء الولاية الا بصورة ولى الامر على الاشخاص البشرية فالمراد بمجيئها هو نزول السكينة التى هى ملكوت ولى الامر وبها ثبات فؤاد البشر { وموعظة وذكرى للمؤمنين } يعنى ان الاوليين لك خاصة وهاتين لجملة المؤمنين.
[11.121]
{ وقل } عطف باعتبار المقصود اى فذكرهم وعظهم بها وقل { للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم } يعنى انذرهم { إنا عاملون } اشرك المؤمنين لان المراد بالعمل العمل على الدين المدعى صحته وهم شركاء له (ص) فيه.
[11.122]
{ وانتظروا } نزول ما تهدد وننابه من آلهتكم وانتظروا نزول ما تهددكم به { إنا منتظرون } نزول ما نعدكم من الله او نزول ما تعدوننا.
[11.123]
{ ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله } اثبات لمبدئيته ومرجعيته تمهيدا للامر بالعبادة ولذلك اتى بالفاء السببية فيه اى اذا كان الامر كذلك { فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون } انتم ومخالفوكم؛ ترغيب وتهديد وتعليل للعبادة.
[12 - سورة يوسف]
[12.1]
{ الر } قد سبق ان تلك الحروف تعبير عن مراتب العالم او مراتب وجوده (ص) المشهودة له حين انسلاخه عن غواشى الطبع ولذلك عدت من اسمائه (ص) فصح جعلها مناداة وجعلها مبتدء وما بعدها خبرها وجعلها منقطعة غير عاملة ولا معمولة لمحض اظهار تلك المراتب فى نظره وعلى وجه الابتداء فقوله { تلك } بدل منها و { آيات الكتاب } خبرها او تلك مبتدء ثان وآيات الكتاب { المبين } خبره والجملة خبرها والمبين بمعنى الظاهر او المظهر والمراد القلم العالى او اللوح الكلى او عالم المثال او عالم الطبع او القرآن او جملة العالم.
[12.2]
{ إنآ أنزلناه } اى الكتاب فى صورة الحروف والنقوش { قرآنا } جامعا لجهتى الوحدة والكثرة والامر والخلق { عربيا } بلغة العرب او عربيا ذا علم وفقه لا اعرابيا ذا جهل وسبعية وبهيمية { لعلكم تعقلون } اى يسهل عليم تعقله لكونه بلغتكم او تصيرون ذا عقل وفقه لاشتماله على ما يحصل به عقل وفقه.
[12.3]
{ نحن نقص } نملى { عليك } لا غيرنا على ان يكون تقديم المسند اليه لافادة الحصر والمقصود النهى عن الاصغاء الى الغير باياك اعنى واسمعى يا جارة، او المقصود النهى عن النظر الى الواسطة من الملك الاتى به { أحسن القصص } املاء احسن من كل املاء، واحسنية الاقتصاص اما باحسنية اللفظ المقتص به او بأحسنية الاخبار المقتصة لاغريبيتها او ابعديتها عن الاذهان او اكثرية فوائدها وانفعيتها او احسنية موضوعاتها، او كون محمولاتها اشهى والذ عند النفس ولا يخفى ان الكل مجتمعة فى القرآن خصوصا فى سورة يوسف (ع) وقد ذكر لاحسنية قصة يوسف او جه أخر ما ذكرنا أوجهها والمقصود اقتصاص جملة القرآن لان فيه اخبار الانبياء (ع) والاخيار والاشرار او اقتصاص سورة يوسف (ع) { بمآ أوحينآ إليك هذا القرآن } جملة القرآن او سورة يوسف (ع) فان القرآن كان اسما لما نزل عليه (ص) آية كان او سورة او جملة القرآن ثم غلب على المجموع بكثرة الاستعمال وهو مفعول اوحينا او نقص او كليهما على سبيل التنازع على ان يكون احسن القصص مفعولا مطلقا والا فهو مفعول اوحينا او بدل من احسن القصص { وإن كنت من قبله لمن الغافلين } لانك ما اختلفت الى العلماء ولا الى القصاص وما تجسست الكتب والغفلة من الله مذمومة ومن غير الله للاشتغال به ممدوحة والمراد الغفلة من تلك القصة.
[12.4]
{ إذ قال } اذ اسم خالص مفعول نقص او اوحينا او بدل من احسن القصص او هذا القرآن، او بتقدير الامر من الذكر وعلى اى تقدير فليقدر مثل المثل والحكاية مضافا الى كلمة اذ قال { يوسف لأبيه } يعقوب (ع) بن اسحاق (ع) بن ابراهيم (ع) وكان لقبه اسرائيل وهو فى لغة العبرى خالص الله { يأبت } الحالق التاء بالاب والام مناديين لاظهار الشفقة والاستعطاف كتصغير الابن منادى { إني رأيت } من الرؤيا { أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين } رأيتهم تأكيد لرأيت ولى ساجدين مفعول ثان لرأيت الاول او رأيتهم جواب سؤال مقدر كأنه قيل: على اى حال رأيتهم؟ - او جواب سؤال كان مذكورا فى المحكى فحذف من الحكاية كما قيل: ان يعقوب (ع) قال على اى حال رأيتهم؟ وتأخير الشمس والقمر للاشارة الى الترتيب فى الرؤيا، وقيل: كان تحقق تعبير الرؤيا ايضا كذلك لان اخوته سجدوا اولا ثم سجد ابوه وامه، او للاهتمام بالشمس والقمر شبه التخصيص بعد التعميم، والاتيان بضمير ذوى العقول وجمعهم لنسبة السجدة التى هى من افعال ذوى العقول اليهم.
[12.5]
{ قال يبني } صغره شفقة { لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين } لما كان شفيقا على اولاده لم يقتصر على نسبة الكيد اليهم واعتذر عنهم بان الكيد كان من تصرف الشيطان، نقل ان يوسف (ع) قال: يا ابت ان كلماتك تدل على ان اخوتى سيدخلون فى سلك الانبياء (ع) ولا ينبغى الكيد من الانيباء؟ - فقال: لا يتأتى الكيد من الانبياء (ع) لكن قد يتصرف الشيطان فيهم كما وقع منه بالنسبة الى آدم (ع)، ان الشيطان للانسان عدو مبين، نهاه (ع) عن قصص رؤياه على اخوته لما شاهد منهم من حقدهم وحسدهم على يوسف (ع) وعلم انهم عالمون بتعبير الرؤيا وانهم يحسدونه على ما يتفطنون من تعبير رؤياه. نقل ان يعقوب (ع) لما منع يوسف (ع) من قصص رؤياه على اخوته قبل تعبير رؤياه تغير لون يوسف (ع) وارتعدت فرائصه لما كان قد علم من شدة صولة اخوته وقوتهم فأخذه يعقوب (ع) وعبر رؤياه تسكينا له فقال: { وكذلك يجتبيك ربك }.
[12.6]
{ وكذلك يجتبيك ربك } عطف على محذوف اى يرفعك وكذلك يجتبيك ربك، ويحتمل انه كان مذكورا فى المحكى فأسقطه الله عن الحكاية ايجازا، او استيناف شبه العطف بلحاظ المعنى لانه بعد ما قال: لا تقصص رؤياك استنبط منه ان تلك الرؤيا دليل رفعته والمشار اليه الاجتباء باراءة سجدة الكواكب { ويعلمك من تأويل الأحاديث } أتى بمن للاشعار بأن لتأويل الاحاديث مراتب عديدة لا يحيط بجملتها الا الله، والاحاديث، قيل: اسم جمع للحديث، وقيل: جمع له على خلاف القياس، وقيل: جمع الاحداث وهو جمع الحديث او جمع الحدث بمعنى ما يحدث آنا فآنا، وتأويل الاحاديث عبارة عما تؤل اليه من مبدئها وغايتها ان كان التأويل بمعنى المؤول اليه وان كان بمعناه المصدرى فالمقصود كيفية ارجاعها الى مبدئها ومنتهاها، ومبدء الكل وكذا غايته هو الله بتوسط المبادى والغايات المتوسطة فهو مبدء المبادى وغاية الغايات، وتأويل الاحاديث بهذا المعنى امر عظيم غامض جدا لا يتيسر الا لمن كان رسولا بعد ما كان عبدا وليا، والاحاطة بجميع مراتب التأويل خاصة بالله وبمن كان خاتم الكل فى كل الكمالات كما قال تعالى: لا يعلم تأويله الا الله خاصة على ان يكون والراسخون ابتداء كلام او لا يعلم اجمال تأويل ما تشابه منه الا الله والراسخون فى العلم خاصة { ويتم نعمته عليك } اصل النعمة هو الولاية والنبوة صورتها المكملة لها وهكذا الرسالة والنعم الدنيوية والاخروية صورتها الدانية والمراد باتمام نعمته عليه اتمام نعمة الولاية بنعمة النبوة والرسالة والسلطنة فى الدنيا والآخرة هذا بالنسبة الى من تحقق بقبول الولاية او بحقيقة الولاية واما النعمة واتمامها بالنسبة الى من لم يقبل النبوة بعد او قبل النبوة بعد ولم يقبل الولاية فهى قبول النبوة واتمامها قبول الولاية كما فى قوله:
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي
[المائدة:3] يعنى باتصال البيعة الاسلامية النبوية بالبيعة الايمانية الولوية { وعلى آل يعقوب } بواسطتك واتمام النعمة عليهم جمع خير الدنيا والآخرة لهم بعد ما ازلهم الشيطان { كمآ أتمهآ على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم } باستحقاق كل وقدره { حكيم } ينظر الى دقائق الاستحقاق فيعطى بحسبها وانت مستحق بحسب فطرتك فيعطيك ما تستحقه.
[12.7]
{ لقد كان في يوسف وإخوته } اى فى قصتهم { آيات للسائلين } اى السائلين عن قصتهم كما قيل: ان رؤساء المشركين سألوا محمدا (ص) بتلقين اليهود عن قصتهم، او الصحابة سألوا عنه سورة مشتملة على الحكايات خالية عن الامر والنهى، او اليهود جاؤا ليسالوا قصة يوسف (ع) عنه فرأوه يقرؤها كما وجدوها فى كتبهم. اقول: نزول الآية ان كانت فيمن ذكر فالحق ان السؤال اعم من السؤال بلسان القال والحال والاستعداد، وان كل طالب للآخرة ولما يعتبر به فى جهة الآخرة سائل عنها، وفى تعليق الحكم على الوصف اشعار بان غير السائل محروم عن ادراك آيات تلك القصة وعبرها، فان غير السائل لا يسمع من تلك القصة غير ما يسمع من الاسمار والتذاذه بها مثل التذاذه بالاسمار سواء لم يكن سائلا بلسان القال او كان سائلا بلسان القال دون لسان الحال كما قال: { وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون } ، وفى تلك القصة آيات عديدة للطالب المستيقظ دالة على علمه وحكمته وقدرته وربوبيته وتصريفه للاشياء على ما يشاء، وعدم انجاء الحذر من القدر، وعدم الانتفاء بالتدبير فيما يريد غيره، وعدم الاضرار بمكر الماكرين، وسببية حسد الحاسدين لدرجات شرف المحسودين وانتشار فضلهم، وعلى فضل العفة وحسن عاقبتها، وان الانسان ينبغى ان يكون عفيفا ولو مع خوف التلف ووخامة البغى وابتلاء الباغى بالالتجاء بنفسه او بعقبته الى المظلوم وترك الكذب ولو تورية، وابتلاء الكاذب بمثل كذبه ممن كذب له او من غيره ومكافاة العمل فى الدنيا وان كان من الانبياء (ع) على سبيل ترك الاولى وغير ذلك من الآيات المندرجة فى تلك القصة.
[12.8]
{ إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا } قالوا ذلك بعد اطلاعهم على رؤيا يوسف (ع) وتعبير يعقوب (ع) رؤياه له وكانوا يكذبون يوسف (ع) فى رؤياه ويقولون: انه افترى ليصرف وجه ابينا الى نفسه، ونقل فى سبب اطلاع اخوته ان ام شمعون بن يعقوب (ع) كانت تسمع حين نقل يوسف (ع) رؤياه وتسمع تعبير يعقوب (ع) لها من حيث لا يريانها فأخبرت ابنها بذلك وقالت: التعب لكم والشرف لغيركم، وقيل: انهم اطلعوا على ان يوسف ذكر رؤياء ليعقوب (ع) وامره بالاخفاء فاحلفوه حتى اخبرهم، وقيل: انه رأى بعد ذلك رؤيا اخرى فأخبره أباه بمحضر اخوته فحسدوه وقالوا ما قالوا وعزموا على الكيد والغدر، ولفظة اذ بدل من يوسف واخوته بدل الاشتمال بتقدير قصة اذ قالوا، او مفعول للسائلين او استيناف كلام بتقدير اذكر فى جواب السائلين قصة اذ قالوا، واضافة اخوة بنيامين الى يوسف (ع) لكونه من امه دونهم { ونحن عصبة } جماعة اقوياء عل دفع الضر وجلب النفع له دونهما، والعصبة كما قيل من العشرة الى الاربعين { إن أبانا لفي ضلال مبين } ظاهر رتبوا قياسا بعقولهم منتجا لضلالهم ابيهم وترتيب القياس هكذا: نحن اقوى منهما وكل من كان اقوى كان اولى بالمحبة فنحن اولى بالمحبة وابنونا اختار غير الاولى على الاولى وكل من اختار غير الاولى على الاولى فهو ضال عن طريق العقل وحكمه فأبونا ضال، لكن قياسهم الخيالى كان سقيما عقيما عند العشق وسلطانه، لان العشق ارفع من ان يعارضه الخيال او يداخله القياس واعظم شأنا من ان يناط بالاسباب بل هو من صفات الله العليا يعطى منه ما يشاء لمن يشاء، كما سنحققه ان شاء الله فى بيان عشق امراة العزيز ليوسف (ع).
[12.9]
{ اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا } مجهولة { يخل لكم وجه أبيكم } عن مزاحمة التوجه الى يوسف (ع) { وتكونوا من بعده } بعد يوسف وقتله او طرحه { قوما صالحين } بان تتوبوا الى الله ثم تعبدوه فى اوامره ونواهيه وهذا دليل على انهم فى ذواتهم كانوا طيبين وانما عرض ذلك لهم من الشيطان.
[12.10]
{ قال قآئل منهم } قيل: كان القائل يهودا وورد أنه كان لاوى وهو الذى بقى النبوة فى عقبه { لا تقتلوا يوسف } عظم القتل ونهاهم عنه ووضع الظاهر موضع المضمر تعليلا للنهى بتذكيرهم انه يوسف (ع) وابن ابيهم وأحبهم اليه ليعظموا قتله ايضا { وألقوه في غيابة الجب } قعره الذى يغيب عن الانظار { يلتقطه بعض السيارة } فيذهب به عن ارضكم ويبعده عن ابيكم { إن كنتم } لا محالة { فاعلين } به ما يفرق بينه وبين ابيه.
[12.11]
{ قالوا } بعد ما عزموا على ما أرادوا { يأبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون } اظهروا الشفقة عليه بعد ما أنكروا عدم اطمينانه.
[12.12]
{ أرسله معنا غدا يرتع } النظر فى الازهار { ويلعب وإنا له لحافظون } عطف على يرتع والعدول عن الفعلية لتأتى التاكيدات من اسمية الجملة وان واللام وتقديم الجار فانه يشعر بالاهتمام به المستلزم لحفظه.
[12.13-14]
{ قال إني ليحزنني أن تذهبوا به } لشدة محبتى له وقلة صبرى عن مفارقته { وأخاف أن يأكله الذئب } قيل: ان الارض كانت مذئبة؛ وما فى الاخبار يشعر بأنها لم تكن مذئبة لكنه ورى عن حسدهم وحقدهم واظهر انه يخاف الذئب الصورى كما فى الخبر: لا تلقنوا الكذب فتكذبوا فان بنى يعقوب (ع) لم يعلموا ان الذئب يأكل الانسان حتى لقنهم ابوهم، وورد فى سبب ابتلاء يعقوب (ع) انه ذبح كبشا سمينا ورجل من اصحابه محتاج لم يجد ما يفطر عيله فأغفله ولم يطعمه، وورد انه كان له جارية ولدت ابنا وماتت ام يوسف (ع) فى نفاس بنيامين وكانت الجارية تربى بنيامين وترضعه وكان ابنها رضيع بنيامين فأخذه يعقوب (ع) منها بعد كبره او بعد مراهقته وباعه فأخذت الجارية من فراقة حرقة وتضرعت الى الله فسمعت هاتفا يقول: يبتلى يعقوب (ع) بفراق احب اولاده ولا يصل اليه الا وتصلين انت قبل ذلك الى ولدك { وأنتم عنه غافلون قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة } جماعة اقوياء { إنآ إذا لخاسرون } هذا على عادة العرف تقول: ان وقع كذا فانا ملوم او افعل بى ما شئت والا فليس هو جوابا له (ع)، او هو جواب بابلغ وجه كأنهم ادعوا بعصابتهم وقوتهم محالية اكل الذئب له فكأنهم قالوا اكل الذئب له مستلزم لخسراننا وخسراننا محال فهو محال.
[12.15]
{ فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب } جزاؤه محذوف اى القوة فيها { وأوحينآ إليه } وحيا بتوسط الملك كما فى اخبارنا؛ ورد انه كان ابن سبع سنين او تسع سنين وقيل: انه كان ابن سبع عشرة سنة { لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون } بانك يوسف (ع) وهو قوله هل علمتم ما فعلتم الآية.
[12.16]
{ وجآءوا أباهم.. } بعد ما ذبحوا جديا ولطخوا قميصه بدمه.
[12.17-18]
{ قالوا يأبانآ إنا ذهبنا نستبق } الاستباق التسابق فى الرمى، والتسابق فى الخيل، والتسابق فى العدو؛ وهو المراد هنا { وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب ومآ أنت بمؤمن لنا } مصدق لنا { ولو كنا صادقين وجآءوا على قميصه بدم كذب } ذى كذب او مكذوب او كاذب او وصف بالمصدر للمبالغة ووصف الدم بالكذب باعتبار انه خلاف ما اظهروه، ورد انه (ع) قال بعد اخذ القميص ما كان اشد غضب ذلك الذئب على يوسف (ع) واشفقه على قميصه حيث أكل يوسف (ع) ولم يخرق قميصه { قال بل سولت } سهلت { لكم أنفسكم أمرا } عظيما هو اذى يوسف من غير جرم واذى نبى الله والكذب لنبى الله { فصبر جميل } هذه الكلمات كانت فى الشرائع الماضية مثل كلمة الاسترجاع فى الشريعة المحمدية (ص) واصلها فاصبر صبرا جميلا، اسقط الفعل واقيم المصدر مقامه ثم عدل الى الرفع نظير سلاما وسلام فعلى هذا كان تقدير: لى صبر جميل، او لى من تقدير صبرى صبر جميل، او صبر جميل صبرى، او أمرى صبر جميل، لان تعلق المصدر بالفاعل والمفعول وربطه به بواسطة حرف الجر بعد حذف الفعل واقامة المصدر مقامه منصوبا ومرفوعا مطرد مثل ظنا منهم وسلام منا عليك والحمد لله وحمدا لله { والله المستعان على ما تصفون } من هلاك يوسف (ع) اى على الصبر عليه.
[12.19-20]
{ وجاءت سيارة } جماعة سيارة للتجارة وفى لفظ السيارة اشعار بان السير كان شغلهم وقصته ان مالك بن زعر الذى كان امير العير وكان من ولد ابراهيم الخليل (ع) باربعة آباء، رأى رؤيا عبروها له بالتقاط غلام فى ارض كنعان يكون له فيه خير كثير فى الدنيا والآخرة، وكان رؤياه قبل ذلك بخمسين عاما، وكان يمر فى تلك المدة على ارض كنعان بعيره كل عام مرة وفى ذلك العام ضل الدليل الطريق ومروا على ذلك البئر بعد مضى ثلاثة ايام او خمسة ايام او سبعة ايام من القاء يوسف فيه، وقيل: ان البئر كان على طريق المارة، ويستفاد من قوله تعالى يلتقطه بعض السيارة ان البئر كان على طريق المارة { فأرسلوا واردهم } الذى يرد الماء ليستقى للناس والدواب { فأدلى دلوه قال يبشرى } جواب سؤال كأنه قيل: ما رأى وما فعل بعد اخراج الدلو، ونداء البشرى اشارة الى غاية سروره واستبشاره كأنه تمثل البشرى لديه فاستبشرها بشهود الغلام، وقيل: كان له صاحب اسمه بشرى فناداه ليبشره بشهود الغلام { هذا غلام وأسروه } اى الوارد وخواص اصحابه كتموا التقاطه من البئر لئلا يمتد اليه اطماع الرفقة، او كتموا نفس يوسف (ع) لئلا يراه رفقتهم فيطمعوا فيه، او اسروا بمعنى اظهروا، ويحتمل رجوع ضمير الفاعل الى اخوة يوسف (ع) كما يجيء { بضاعة } حال من مفعول اسروه، قيل: ان يهودا كان يأتى كل يوم الى البئر ويتعاهد يوسف (ع) ويأتى له بطعام فلما جاء اليوم الى البئر لم يجد يوسف (ع) فيه فأتى العير فوجده هناك واخبر اخوته فجاؤا الى العير وكتموا أمر يوسف (ع) وهددوه من القتل حتى أقر بالعبودية فعابوه بالسرقة والاباق { والله عليم بما يعملون وشروه } منهم ويحتمل ارجاع ضمير الفاعل الى الوارد ورفقته او الى السيارة وكون الشراء بمعنى الاشتراء { بثمن بخس } مغشوش او قليل { دراهم معدودة } عشرين او اثنين وعشرين او ثمانية عشر { وكانوا } اى السيارة او اخوة يوسف { فيه } فى يوسف او فى الثمن { من الزاهدين } غير راغبين او ناظرين بنظر الزهد لا بنظر الخيانة، وكان المشترى من اخوة يوسف (ع) مالك بن زعر امير العير فجاء به الى مصر وكان من كنعان الى مصر مسيرة اثنى عشر يوما او ثمانية عشر يوما وقد سار يعقوب (ع) وولده بعد بشارة حياة يوسف (ع) وسلطنته فى تسعة ايام.
[12.21]
{ وقال الذي اشتراه من مصر } بعد وصول العير الى مصر وابراز يوسف (ع) فى معرض البيع واشتراء عزيز مصر الذى كان بحكم الملك على خزائن مصر والملك يومئذ ريان بن الوليد وآمن بيوسف (ع) ومات فى حيوته { لامرأته } زليخا { أكرمي مثواه عسى أن ينفعنآ } بالاعانة فى امورنا وجمع اموالنا وتعهد ضياعنا وعقارنا { أو نتخذه ولدا } لانه لم يكن له ولد اما لانه كان عنينا ويكتفى من النساء بالملامسة والملاصقة او كان عقيما، وقد نقل ان زليخا كانت بكرا لعننه، او لانه كلما يريد الدخول ضعف عن الرجولية ولم يتيسر له الدخول { وكذلك } مثل ذلك التمكين فى دار العزيز وهو عطف على محذوف اى فمكنا ليوسف (ع) فى دار العزيز ومثل ذلك { مكنا ليوسف في الأرض } تمام ارض مصر او المراد مثل ذلك التمكين المسبب عن المتاعب حتى يكون تسلية للمبتلى { ولنعلمه من تأويل الأحاديث } عطف على محذوف اى ليعدل فى الناس ولنعلمه من تأويل الاحاديث فيدبر على وفقها سواء اريد بالاحاديث، الاحداث او احاديث الرؤيا او احاديث الكتب السماوية واخبار الانبياء او اعم من ذلك { والله غالب على أمره } مسلط على ما يريده لا راد لمراده وقد ظهر ذلك فى قصة يوسف (ع) لانه اراد اعزازه فى الدنيا والآخرة بابتلاءئه واراد يعقوب (ع) ان لا يفارق عنه ففرق بينهما، واراد عدم اخبار يوسف (ع) اخوته برؤياه فاخبروا، وأراد اخوته بحسدهم ان يقتلوه فصرفوا، وارادوا ان يذلوه فصار عزيزا باذلالهم، وارادوا رقيته ما دام عمره فصار مالك رقاب اهل مصر، واراد زليخا اضلاله فعصمه، وارادوا اتهمامه بسجنه فصار سبب ظهور طهارته وعلو مرتبته { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } اللعب المعكوس منه وجعله الاضداد اسبابا للاضداد واظهار الشر باتبلاء العبد وكتمان الخير فيه.
[12.22]
{ ولما بلغ أشده } قد سبق تفسيره الاشد وانه اوان كمال جميع القوى وهو سن الوقوف بين الثلاثين والاربعين والحق ان مبدأه الثامن عشر ومنتهاه الاربعون { آتيناه حكما وعلما } نبوة ورسالة سواء اريد بالحكم كمال القوة العملية بحيث ينقاد له جميع القوى النفسانية او الحكومة والتسلط او القوى النفسانية، فان الاول النبوة والثانى لازمها والعلم وهو الاستبصار بالاشياء على ما هى عليه من لوازم الرسالة، ويجوز ان يراد بالحكم لازم الولاية من التسلط على القوى وبالعلم النبوة والرسالة فان النبوة ايضا تستلزم الاستبصار بما فى العالم الصغير، وعلى اى تقدير فتقديم الحكم لتقدم رتبته على العلم ولمكان هذا الحكم كان ليوسف (ع) كمال العفة حين تهيؤ اسباب الشهوة والشره ولذا قدم ذكر اعطاء الحكم على المراودة { وكذلك نجزي المحسنين } يعنى كما ان يوسف (ع) كان محسنا فأعطيناه الحكم لاحسانه كذلك نعطى كل محسن لاحسانه، والاحسان قد مضى مرارا انه الايمان الخاص وقبول الاحكام القلبية الولوية بالبيعة الولويه وقبول الدعوة الباطنة ودخول الايمان فى القلب فالمراد بالمحسن ههنا هو الذى صار ذا حسن او الذى احسن الى نفسه بادخالها تحت ولاية وليه، والاحسان الى الغير لازم ذلك الاحسان.
[12.23]
{ وراودته التي هو في بيتها عن نفسه } راود ذهب وجاء لطلب شيء ولتضمين معنى الطلب والسؤال عداه بعن والمقصود تشبيه ملاطفاتها له وفتح ابواب الرغبة عليه، وانه كلما سد بابا من ابواب ترغيبها فتحت بابا آخر بالمراودة الصورية، والتعليق على الموصول للاشعار بكمال قوتها فى المراودة وعدم عذر له من جهة الاسباب الصورية وارتفاع حجاب الحياء بكثرة المعاشرة ولذلك عقبه بقوله { وغلقت الأبواب } حتى يكون تعففه فى تلك الحال دالا على كمال قوته الآلهية وتسلطه على قواه النفسانية، والتضعيف للتكثير فان الابواب كما نقل كانت سبعة وكانا فى البيت السابع. وقد ذكر فى التواريخ انها كانت تعشق يوسف (ع) وهو فى بيتها سبع سنين وكانت تكتم عشقها ولا يعلمه الا الله وما اظهرتها على يوسف (ع) ايضا حتى ذاب جسمها واصفر لونها واغورت عيناها وكانت لها امرأة مربية كانت صاحبة اسرارها، فسألتها عن حالها فأظهرت حال عشقها وان يوسف (ع) لا يلتفت اليها ولا ينظر اليها كلما تزينت له، فأشارت اليها ان تبنى قبابا متزينة بأنواع الجواهر وان تنقش فى جوانب كل قبة صورتها وصورة حبيبها متعانقة وتجعل مسكن يوسف (ع) فيها وتظهر عشقها له لعله يرغب فيها بعد مشاهدة الصور المنقوشة المرغبة؛ ففعلت وأدخلت يوسف (ع) فى القبة السابعة وغلقت الابواب لئلا يبقى له عذر فى عدم المخالطة معها. وقيل: انها بنت قبة نصبت فى سقفها وجميع جدرانها المرائى بحيث اذا أدخلت يوسف (ع) فيها لا تنظر الى شيء الا تشاهد صورة يوسف (ع) ولا ينظر يوسف (ع) الى طرف الا يرى صورتها، وذلك انها كلما الحت ودبرت ان ينظر يوسف (ع) الى صورتها لعله يرغب فيها كان لا ينظر اليها فدبرت ذلك لعله يرى صورتها ويرغب فيها وايضا لغاية محبتها كانت لا تريد النظر الا الى جمال يوسف (ع) { وقالت هيت لك } اسم فعل بمعنى أقبل او بمعنى تهيئت واللام لتبيين الفاعل او المفعول وقرئ هيت بضم التاء وهيت بكسرها مثل حيث وجير، وقرئ هيت بكسر الهاء وفتح التاء، وهئت مثل جئت بضم التاء فعل ماض بمعنى تهيئت { قال } فى جوابها اعتذارا من عدم اجابتها مستعيذا بالله خوفا من ان يفتتن بصحبتها { معاذ الله } عذت بالله معاذا ولما كان فى الاستعاذة اشعار بعدم الاجابة علله بقوله { إنه ربي } ان العزيز سيدى اشترانى بثمن غال لا يليق بى الخيانة بأهله وحريمه، او ان الله ربى ربانى من اول استقرار نطفتى ومادة بدنى فى رحم امى فلا ينبغى مخالفته فيما نهى عنه { أحسن مثواي } اظهر وصفا آخر مقتضيا لقبح الخيانة، ونسبة الاحسان الى المثوى كناية عن اكثار الانعام ووفور الاحسان، ومن أساء الى المحسن فهو ظالم والظالم لا ينجو من العذاب الاليم { إنه لا يفلح الظالمون } ذكر فى الاعتذار ثلاثة اشياء: الربوبية وكثرة الاحسان وكون الخيانة ظلما خصوصا مع المنعم مع عدم فلاح الظالم تعريضا بنصحها وردعها عما أرادات.
بيان العشق ومراتبها ومراتب الحب
اعلم، انه لا خلاف ولا شك فى ان زليخا تعشقت يوسف (ع) ولم يكن مراودتها عن محض شهوة حيوانية وسفاد قوة بهيمية كما قال من لا خبرة له بالحقائق الآلهية والصفات الربوبية حيث نظر الى تهديدها له بالسجن ورضاها بكونه فى السجن، والحال ان العاشق لا يمكنه تهديد المعشوق ويعد البلاء والملامة فيه من شعار عشقه ومستلذات لوعته وموجبات ازدياد محبته واشتعال شوقته، بل الخلاف فى ان عشقها أكان سفليا صارفا لها عن الجهة الانسانية العالية الآلهية داعيا لها الى الحيوانية البهيمية المقتضية للسفاح والفجور لان مراودتها كانت لذلك لدلالة هيت وقولها ولقد روادته فاستعصم وقولها لئن لم يفعل ما امره ليسجنن وقول يوسف (ع) معاذ الله انه ربى احسن مثواى ام علويا صارفا عن الجهة الحيوانية السفلية الى الانسانية العالية متقضيا لنزاهة النفس عن الادناس والارجاس موجبا لقرب الحق الاول تعالى، لان تعشقها ليوسف انتهى بها الى محبة الله ومشاهدة جماله والاستغناء عن مشاهدة المظاهر فضلا عن المواقعة والسفاح كما ورد ان يوسف (ع) افتتن بها وهى استغنت عنه بالله تعالى وتحقيق ذلك يستدعى تحقيق معنى العشق والمحبة وبيان حقيقته ومراتبه؛ فنقول ومنه الاعانة والتوفيق:
العشق من صفات الله العليا وبه دعمت السماوات والارضون وهو الذى ملأ اركان كل شيء ولولاه لما كان ارض ولا سماء ولا ملك ولا ملكوت وهو يساوق الوجود، حقيقته حقيقة الحق الاول تعالى وهو باطلاقه غيب مطلق لا اسم له ولا رسم ولا خبر عنه ولا اثر ولذا قيل:
هرجه كويم عشق را شرح وبيان
جون بعشق آيم خجل مانم ازان
عقل درشرحس جوخردر كل بخفت
شرح عشق وعاشقى هم عشق كفت
لان العشق كالوجود لا يكتنه ولا يحاط لانه عين الواقع وحاق التحقق فلو ادرك بالكنه لا نقلب الواقع ذهنا والواقعى ذهنيا. وايضا حقيقة العشق المطلق كحقيقة الوجود المطلق منزه عن ادراك الحس والخيال والعقل للزوم السنخية بين المدرك والمدرك بل لزوم الاتحاد بينهما ولا سنخية ولا اتحاد بين المطلق والمقيد ولذلك ورد هو مع كل شيء، هو معكم اينما كنتم وهو حقيقة كل شيء وهو بفعله كل الاشياء ولا شيء من الاشياء معه:
آنجاكه توئى جو من نباشد
كس محرم اين سخن نباشد
وايضا العشق المقيد الذى هو من اجل اوصاف الانسان وبه تميزه عن سائر الحيوان وفى الحقيقة هو فعليته وبه تحقق انسانيته لا يدرك حاله بالحال والقال ولا بالعقل والخيال لخروجه عن سلطان العقل فكيف بعقال الخيال، فانه يقتضى الدهشة والحيرة والاسترسال عن انتظام الحركات وتدبير الامور كالجنون والاختبال ولا يدرك العقل المقتضى للتدبير وحفظ الناموس حقيقة تلك الاحوال لتقيده واسترسال العشق، ولهذا ظن العقلاء من الحكماء انه جنون من اختلال فى الدماغ او فساد فى المزاج وترقى بعضهم لانه لم يدرك له سببا طبيعيا فقال: انه جنون آلهى.
فالعشق كالوجود مرتبة منه واجب الوجود وليس لاحد الكلام فيه اذا بلغ الكلام الى الذات فأمسكوا، ومرتبة منه العشق المطلق والحق المضاف الذى به قوام كل شيء وهو اضافة الحق تعالى الى الاشياء وهو حقيقة كل ذى حقيقة وبه معيته وقيوميته وهو الظاهر والباطن والاول والآخر وهو بكل شيء محيط، وبه يقال بسيط الحقيقة كل الاشياء وليس شيئا من الاشياء ولا يبقى معه شيء وان كان هو مع كل شيء. ومرتبة منه المجردات الصرفة بسعتها وعدم نهايتها، ومرتبة منه النفوس، ومرتبة منه الاشباح النورية وعالم المثال وفيه جنان اصحاب اليمين، ومرتبة منه الماديات وعالم الطبع وفيه التكليف والترقى الى عالم المجردات النورية والتنزل الى عالم الارواح الخبيثة، ومرتبة منه عالم الارواح الخبيثة وفيه جحيم الاشقياء، وهناك يتم نزول العشق ومن هناك ابتداء الصعود كما اشير اليه فى اخبارنا، بان الجن منهم مؤمنون اى متصاعدون عن مقام الارواح الخبيثة او ابتداء الصعود من عالم الطبع كما عليه معظم اهل النظر والبيان، ولما كان عالم الطبع مكتنفا بالاعدام موصوفا بالتضاد والتعاند ملفوفا بالغيبة والفقدان، بحيث لا يدرك منه اهل الحس والخيال العشق والمحبة لكونهما مسبوقين بالعلم والحياة ولا يدركون منه حياة ولا شعورا ما سموا ميل الطبائع الى احيازها ولا عشقها لحفظ موادها وصورها ولا ميل النبات فى حركاتها ولا ميل الحيوان فى ارادتها عشقا، بل فرقوا بين مراتب الطلبات فسموا طلب الاجرام الثقال والخفاف لاحيازها عند الخروج عنها ميلا، وعشق الجماد لبقاء صورته حفظا، وعشق النبات للنمو وتوليد المثل تنمية وتوليدا، وطلبه للغذاء جذبا، وعشق الحيوان للغذاء والسفاد شهوة، وعشقها لاولادها من حيث انه يشبه انس الانسان حبا، وسموا حب الانسان من حيث انه انسان باعتبار مراتبه من الشدة والضعف وباعتبار متعلقه بالميل والشهوة والحب والعشق والشوق؛ فسموا اول مراتبه ميلا، واذا اشتد بحيث يتمالك معه شهوة وحبا، واشد مراتبه بحيث لا يتمالك معه عشقا، اذا كان الحب للمحبوب الموجود، واذا كان للمحبوب المفقود يسمى شوقا، وقد يطلق كل على كل. والحب على المعنى الاعم وعلى مراتب عشق الحيوان والنبات حقيقة او على سبيل المشاكلة، ويسمى عشق الانسان من حيث نفسه الحيوانية بالهوى والشهوة، ويطلق الحب على جملة المراتب فيكون اعم من الكل، ولا شك ان الهوى والشهوة والميل والحب والشوق الغير الشديد من لوازم وجود الانسان ولا يمكن بقاء الشخص ولا بقاء النوع ولا عمارة الدنيا والآخرة الا بها فهى من الكمالات المترتبة عليها غايات ومصالح عديدة.
واما العشق والشوق اللذان لا يتمالك معهما الانسان ولا يكونان الا متعلقين بصور الحسان وقد يتعلقان باصوات القيان وتناسب الالحان فقد اختلف كلمات اصحاب البيان وارباب الذوق والوجدان فى انهما من الخصائل ام من الرذائل؟ فقال اكثر العقلاء: ان العشق رذيلة مستلزمة لرذائل كثيرة واوصاف مذمومة مثل البطالة فى الدنيا والقلق والدهشة وسهر الليالى واصفرار اللون واغورار العين وخروج الحركات من ميزان العقل، ولذا قيل: انه جنون آلهى او مرض سوداوى وجنون حيوانى وعدم الانتزاع بالنصح والردع بل اشتداده به كما قال المولوى:
سخت ترشد بند من ازيند تو
عشق را نشناخت دانشمند تو
وعدم الخوف من التخويف بالحبس والقتل كما قال ايضا:
تومكن تهديدم از كشتن كه من
تشنه زارم بخون خويشتن
كر بريزد خون من آن دوست رو
ابى كوبان جان برافشانم براو
والوحشة من ابناء النوع وطلب العزلة والخلوة عنهم وجعل الهموم مقصورة على لقاء المعشوق نافرا عن كل شغل سواه ولو فى ترك العبادات والاعمال المعادية كما قال ايضا:
غير مشعوق ار تماشائى بود
عشق نبود هرزه سودائى بود
عشق آن شعله است كوجون برفروخت
هرجه جز معشوق باقى جمله سوخت
واقتضاؤه فى بعض الاحيان للفجور واشتداد الشهوة الحيوانية بحيث لا يتمالك عنه ويدخل فيما منعه الشارع، وهذا كله من الرذائل والمناهى الشرعية التحريمية او التنزيهية، وقال بعض اهل النظر وجملة العرفاء والصوفية: انه من حيث هو من الفضائل النفسانية وان صار بالنسبة الى من غلب عليه البهيمية رذيلة بالعرض بالنسبة الى من هو مشغول بالله صارفا عن الاشرف الى الاخس.
وتحقيق الحق فى ذلك ان نقول: شرافة الاوصاف اما بشرافة مابديها او محالها او بشرافة لوازمها او متعلقاتها او غاياتها؛ والكل مجموعة فى عشق الانسان للصور الحسان والحان القيان وتخلف البعض فى بعض الاحيان بعارض لا ينافى الاقتضاء الذاتى لو لم يعارضه عارض، فان مبدأه القريب لطافة النفس ودقة الادراك ورقة القلب، ولذا ترى النفوس الغليظة والقلوب الجافية منه خالية كالاكراد الذين لا يعرفون منه الا السفاد ومبدأه البعيد هو الله بتوسط المبادى العالية باعداد الابصار او السماع واستحسان شمائل المعشوق، فان عشق كل عاشق ظل ومعلول لعشق الاول تعالى لا كمعلولية الاوصاف القهرية له تعالى فانها معلولة له بالعرض او بتوسط المبادى القهرية، فان كمال الوجود من حيث هو وجود ينتهى الى الوجوب ومحل تحقيقه الحكمة العالية ولا شك فى شرافة ذلك كله ومحله النفس الانسانية التى هى الصراط المستقيم الى كل خير وهى الجسر الممدود بين الجنة والنار وهى الكتاب الذى كتبه الرحمن بيده، ومن لوازمه جعل الهموم هما واحدا وكفى العشق فضلا ان يجعل الهموم هما واحدا وقد قال المولوى قدس سره:
عقل تو قسمت شده برصد سهم
بر هزاران آرزو وطم ورم
جمع بايد كرد اجزا را بعشق
تاشوى خوش جون سمرقند ودمشق
وطهارة النفس عن جملة الرذائل كما قال ايضا:
هركه را جامه زعشقى جاك شد
او زحرص وعيب كلى باك شد
شاد باش اى عشق خوش سوداى ما
واى طبيب جمله علتهاى ما
اى دواى نخوت و ناموس ما
اى تو افلاطون وجالينوس ما
فانه لا يبقى للعاشق المفتون دواعى الغضب ولا الشهوة ولذا قيل: العشق يحرق الشهوة لا انه يوقدها وما يرى من هيجان الشهوة فى بعض فانما هى لبقاء النفس البهيمية وغلبتها على النفس الانسانية، او لسعة النفس الانسانية واخذ البهيمية من العشق حظها، وقد علمت ان حظ البهيمية من العشق هو قضاء الشهوة، ومنها رقة القلب فى كل حال والتواضع لكل احد ولا سيما المنسوب الى المعشوق والقرب من عالم المجردات والتشبه بالملائكة ولذلك ورد: من عشق وعف وكتم ومات مات شهيدا؛ وقد قال المولوى بلسانه:
خونبهاى من جمال ذو الجلال
خونبهاى خودخورم كسب حلال
ومنها الزهد الحقيقى فى الدنيا بلا تكلف ولا تعب فى الاتصاف به:
عاشقان رابا سرو سامان جه كار
بازن وفرزندو خان ومان جه كار
والرغبة فى الآخرة وطلب الخلاص من سجن الدنيا:
عاشقان را هو زمانى مردنيست
مردن عشاق خوديك نوع نيست
او دوصد جان دارد از نور هدى
وان دو صد راميكند هردم فدا
ومتعلقه بحسب الظاهر هو الا وجه الحسان باعداد الابصار او السماع ونغم الالحان باعداد السماع فقط، وقد يكون تعلق العشق بالاوجه الحسان باعداد غلبة الشهوة مع النظر او السماع، وشرف حسن الصورة ثابت بالكتاب والسنة والعقل والفطرة والمنكر له خارج عن الكل ومن لا يميز بين الصور الحسان وغيرها ليس بانسان، ودقيق النظر يقتضى ان يكون متعلق العشق امرا غيبيا متجليا على العاشق من مرآة جمال المعشوق، ولما كان ازدياد حسن الصورة وبهاؤها دليلا على ازدياد حسن السيرة وصفاء النفس وكان ازدياد صفاء النفس موجبا لاشتداد تجلى ذلك الامر الغيبى، فكلما كانت الصورة احسن كان تجلى الامر الغيبى اشد وبحسب اشتداده يشتد العشق، ومما يدل على ان متعلق العشق هو الامر الغيبى لا الحسن البشرى فقط انه لو كان المعشوق امرا جسمانيا لانطفى حرارة شوقه وانسلى من حرقة فرقته عند الوصول الى معشوقه والحال ان العاشق اذا وصل الى المعشوق وحصل له الاتصال الجسمانى ازداد حرقته واشتد لوعته كما قيل:
اعانقها والنفس بعد مشوقة
اليها فهل بعد العناق تدانى
والثم فاها كى يزول حرارتى
فيزداد ما يبقى من الهيجان
وانه لو حصل للعاشق اتصال ملكوتى بالمعشوق لتسلى عن صورته الجسمانية كما نقل عن المجنون العامرى انه وقفت على رأسه ليلى العامرية فقالت: يا مجنون انا ليلاك فلم يلتفت اليها وقال: لى منك ما يغنينى، وقد قال المولوى قدس سره برهانا على هذا المطلب:
آنجه معشوقست صورت نيست آن
خواه عشق اين جهان خواه آن جهان
آنجه بر صورت تو عاشق كشته
جون برون شد جان جرايش هشته
صورتش برجاست ابن زشتى زجيست
عاشقا وايين كه مشعوق توكيست
آنجه محسوس است اكرمعشوقه است
عاشق استى هركه او را حس هست
جون وفا آن عشق افزون ميكند
كى وفا صورت دكركون ميكند
وغايته قد علم انها التجرد من مقتضيات الشهوة والغضب ومن ادناس الدنيا والتعلق بالآخرة بل بالله ولا شرف اشرف منها، فعلم ان المحبة الشديدة للاوجه الحسان من الخصائل الشريفة وقد يعرضها ما تصير بسببه مذمومة كتعشق المقربين وافتتانهم بالصور الملاح او السماع، فان هذا العشق من اوصاف الاواسط واصحاب اليمين وهو سيئة بالنسبة الى المقربين. وقد نقل عن بعض الكملين من المشايخ افتتانهم بالسماع او الاوجه الحسان، ومثل تعشق من اشتد بتعشقه نار الشهوة سواء كان نفسه البهيمية غالبة على نفسه الانسانية او مغلوبة، فانه بسبب اشتداد الشهوة واقتضاء الفجور يصير مذموما عقلا وذوقا وحراما شرعا. ولما كان عشق اكثر الخلق مورثا لاشتعال نار الشهوة ومؤديا بهم الى الفجور ورد النهى عن النظر الى الامارد والتشبب بالاجانبة وذم اهل الذوق ذلك كما قال المولوى:
عشقهائى كز يى رنكى بود
عشق نبود عاقبت ننكى بود
ولا يوجد آثار العشق الممدوح فى ذلك بل هو من توابع الشره المذموم، وعشق زليخا وان كانت البهيمية اخذت منه حظها واستدعت الفجور كما يدل عليه ظواهر الآيات والاخبار، لكن الانسانية كانت غالبة والعشق نشأ منها والبهيمية اخذت حظا منه تبعا ولذا كانت كاتمة له سبع سنين وانتهى العشق بها الى الانسلاخ مما كنت مقيدة به من الافتتان بصورة يوسف (ع) والى الافتتان بالمعشوق والحقيقى فارة من المعشوق المجازى.
[12.24]
بيان البرهان الذى رآه يوسف (ع)
{ ولقد همت به } بمخالطته وقصدت الفجور { وهم بها لولا أن رأى برهان ربه } هم بها فى المعنى جزاء للولا كأنه قال: لولا ان رآى برهان ربه لهم بها يعنى ان ترك الهمة منه كان مسببا عن رؤية برهان الرب لا عن امر آخر من عنن وضعف او مانع، وتقديم الجزاء لايهام تحقق الهمة اشعارا بقوة المقتضى من حيث بشريته وعدم المانع من قبلها بل شدة الاقتضاء منها وعدم مانع آخر لكونهما فى بيت خال من الاغيار وعدم احتمال دخول النظار وهذا غاية المدح له (ع) وقيل: الكلام ليس على تقدير التقديم والتأخير والمعنى وهم بها لولا ان رآى برهان ربه لعزم على المخالطة او لفعل، لكن الهمة عبارة عن الشهوة الفطرية والرغبة الاضطرارية والخطرة القلبية التى لا مدخلية للاختيار فيها وهو بعيد عن مفهوم الهمة لغة وعرفا، فان المتبادر من الهمة هيجان النفس للفعل بعد تصوره والرغبة فيه اختيارا وهو بعيد عن عصمة الانبياء وحرمتهم (ع). وورد فى الاخبار ما يشعر بعدم تقدير التأخير لكن فرق بين الهمتين وان المعنى ولقد همت بمخالطته وهم بالفرار او بقتلها لو الجأتها او بدفعها او بوعظها لولا ان رأى برهان ربه لهم بمخالطتها بحسب بشريته. وقالت جماعة من المعترفين بجواز الخطاء على الانبياء (ع): انه هم بمخالطتها وقالوا ما لا يليق بادنى عبد من عباد الله مما لا ينبغى ذكره. ونسبوا الى الباقر (ع) انه نقل عن امير المؤمنين (ع) انه هم ان يحل التكة، وذكر ان يوسف (ع) حين قال اظهارا لطهارته ذلك ليعلم انى لم اخنه بالغيب نزل جبرئيل (ع) وقال: ولا حين هممت يا يوسف؟ فقال يوسف (ع) وما ابرئ نفسى ان النفس لامارة بالسوء، وحاشا مقام النبوة عن التلوث بامثال هذه الخطايا، والعجب انهم يذكرون ان الله تعالى أخذ يوسف (ع) حين قال: رب السجن احب الى، بالسجن بسبب توجهه الى السجن وغفلته عن العصمة واخذه (ع) حين قال اذكرنى عند ربك، بتوسله الى المخلوق باللبث فى السجن بضع سنين ولم يذكروا انه تعالى أخذه بتلك المعصية العظيمة كأنهم سفهوا الحق تعالى بالمؤاخذة على الالتفات الى الغير فى محضر حضوره وعدم المؤاخذة على المخالفة وارتكاب معصية عظيمة فى حضوره بل ذكروا ان الآية فى مدحه (ع) بطهارة ذيله، ولو كانت كما ذكروها لكانت غاية الذم له (ع)، وقد ذكر ان كل من كان له ارتباط بتلك الواقعة شهد بطهارته وهم اغمضوا عن ذلك ونسبوه الى التلوث ، فان الله تعالى قال كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء، والعزيز قال انه من كيدكن والشاهد الصبى قال: ان كان قميصه قد من قبل الى الآخر والنسوة قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء وزليخا قالت الآن حصحص الحق انا راودته عن نفسه وانه لمن الصادقين وابليس قال:
ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين
[الحجر:39] وقد كان بنص الآية من المخلصين.
والمراد بالبرهان هو السكينة التى كانت تنزل على الانبياء (ع) والمؤمنين وبها كانت نصرتهم على الاعداء فى العالم الكبير والصغير، وقد مضى انها تجلى ملكوت الشيخ على صدر السالك وانها الاسم الاعظم الذى يفر منه الشيطان، وقد كان شيخ يوسف (ع) الذى تاب على يده وبايعه البيعتين اباه يعقوب (ع)، وبرهان الرب هو صورته الملكوتية النازلة على صدره، وذكر الرؤية يشعر بها وفى الاخبار ما يدل عليه نصا او اشعارا، واختلاف الاخبار فى تفسير البرهان يمكن رفعه بما ذكر، فقد ورد ان البرهان كان جبرئيل (ع) لانه نزل حين همتها وقال: يا يوسف (ع) اسمك فى الانبياء مكتوب فلا يكونن عملك عمل الفجار، وورد انه رأى صورة يعقوب (ع)، ونقل انه رأى يدا بينه وبين زليخا، وفى اخبارنا ان البرهان ما قاله لها حين سترت الصنم: انت تستحيين من صنم لا يبصر ولا يسمع وانا لا استحيى ممن خلق الانسان وعلمه؟! ونقل ان البرهان اسم ملك او ان طيرا ظهر عليه او ان حوراء من حور الجنة ظهرت عليه او انه ايد بالنبوة حين مراودتها، وقد قيل فيه اشياء اخر لا ينبغى ذكرها، والحق ان البرهان هو ما ذكرنا انه لغاية الانزجار عن مراودتها والدهشة عن محادثتها انسلخ عن البشرية واتصل بعالم الملكوت وفاز بشهود الملكوت وانوارها واستلذ بجمال شيخه بحيث لم يبق له حالة توجه والتفات الى زليخا ومحادثتها، وما ورد فى الاخبار من انكار ظهور يعقوب (ع) او جبرئيل (ع) او غيرهما فانما هو باعتبار ما يذكره العامة من انه ظهر حين اراد يوسف (ع) الفجور ومنعه عن الفجور فالانكار فى الحقيقة راجع الى ما يستفاد من قولهم من الاشعار بهمة يوسف (ع) للفجور { كذلك } اما متعلق بقوله تعالى هم بها اى هم بها مثل همها به، وتخلل لولا ان رأى بينهما لئلا يتوهم تحقق همه مثل همها وانقطاع لولا ان رأى عما قبله وقوله { لنصرف عنه السوء والفحشآء } جواب سؤال بتقدير اريناه وهذا اوفق بما ورد من تفاسير ائمتنا (ع) من جعل هم بها جزاء للولا فى المعنى او هو مع عامله المحذوف جملة مستقلة ولنصرف متعلق به اى كذلك عصمناه لنصرف عنه السوء اى الخيانة فى حق من اكرم مثواه والفحشاء اى الزنا { إنه من عبادنا المخلصين } فى موضع التعليل وقرئ بفتح اللام وكسرها.
[12.25]
{ واستبقا الباب } تسابقا؛ بقصده الفرار منها وقصدها منعه { وقدت قميصه } اى وصلت اليه تمسكت بقميصه لتمنعه من الخروج فقدته { من دبر وألفيا سيدها } زوجها العزيز { لدى الباب قالت } جواب سؤال مقدر اى بعد ما رأت العزيز واستحيت منه ورأت افتضاحها وانه لا يمكن لها انكار الفضحية قالت دفعا للتهمة عن نفسها ورميا بها غيرها لايهام انها فرت منه كما هو شأن كل خائن بعد الافتضاح بخيانته { ما جزآء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم } لفظة ما استفهامية انكارية او نافية اخبارية.
[12.26-27]
{ قال } دفعا للتهمة والعذاب عن نفسه { هي راودتني عن نفسي } وألهمه الله ان يقول: سل هذا الصبى الذى فى المهد وكان الصبى من اقارب زليخا ابن عمها او ابن خالتها وقيل: كان ابن اخت العزيز جاءت الى دار العزيز حين سمعت النزاع فيها ومعها ابنها ابن ثمانية ايام او ثمانية اشهر وكان العزيز قد سل سيفه غضبا على يوسف (ع) وهم بقتله فالتجأ يوسف (ع) الى الله وقال: اللهم ادفع عنى هذه التهمة والقتل؛ فنطق الصبى من غير سبق سؤال { وشهد شاهد من أهلهآ } اى الصبى { إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين } ادى الشهادة بما يكون دليلا عليه.
[12.28]
{ فلما رأى قميصه قد من دبر قال } عتابا عليها { إنه من كيدكن } اشرك سائر النساء اشارة الى ان الكيد فى امثال تلك سجية للنساء ليكون العتاب مشوبا بالاعتذار عنها مراعاة لما هو شأن النصح والوعظ من امتزاج التهديد والارجاء والرحمة والغضب وحفظا لعرضه عن الافتضاح، ويدل عليه وصيته ليوسف (ع) بالكتمان { إن كيدكن عظيم } فى مراودة الرجال لوجود المقتضى فى سجية الرجال وعدم المانع حين مراودتكن وقلما ينفك الرجال عن شر كيدكن.
[12.29]
{ يوسف } بحذف حرف النداء { أعرض عن هذا } اوصاه بالكتمان صونا لعرضه، وقيل: ما وفى يوسف (ع) واخبر بما كان لان الناس كانوا يلومونه على ما سمعوه منه ثم اعرض عن يوسف (ع) وخاطب زليخا بالامر بالاستغفار وبالتلطف معها فى ضمن التعيير فقال { واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين } ذكر جمع المذكر تغليبا وجريا على ما هو الغالب على الالسن من الاتيان بجمع المذكر.
[12.30]
{ وقال نسوة } اتى بالفعل بدون التاء مع نسبته الى المؤنث الحقيقى الغير المفصول نظرا الى صورة الجمع المكسر؛ على ان يكون جمعا للنساء الذى هو جمع للمرأة وقيل: النسوة بكسر النون وضمها والنساء والنسوان والنسون بكسرهن كلها اسم جمع للمرأة، وقيل: كلها جمع لا واحد لها من لفظها واسقاط التاء للاشعار بانهن كن موصوفات بخصال الرجال لافتتانهن بجمال يوسف (ع) حين مشاهدتهن اياه، وقيل: كن اربعا او خمسا او اربع عشرة وقيل: صارت القضية منتشرة بين نساء مصر حتى ان اكثر النساء كن يتحدثن بها { في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه } تعييرا لها بافتتانها بعبد مملوك لها وكانهن كن مفتتنات به وكن يردن بذلك ان يخرجه العزيز من داره لعلهن يرينه بسبب ذلك ولذلك سماه مكرا فيما يأتى { قد شغفها حبا } احاط بها من الشغاف بمعنى الغلاف يعنى اعميها واصمها بحيث لا تبصر معايب المراودة ولا تسمعها ممن يعيبها لانها كانت كلما تسمع الملامة يزداد عشقها ويشتد التهاب شوقها كما قيل:
نسا زد عشق را كنج سلامت
خوشا رسوائى كوى ملامت
ملامت شحنه بازار عشق است
ملامت صيقل زنكار عشق است
او وصل الى باطنها بحث ملأ جميع اركانها من شغاف القلب بمعنى باطنها او وصل من باطن قلبها الى ظاهره فأحاط به من شغاف القلب بمعنى غشائه المحيط به.
بيان مراتب القلب
اعلم، ان اهل الله المكاشفين قالوا: ان القلب تارة يطلق على معنى يشمل اللحمة المودعة فى أيسر الصدر وتارة على مراتب الروح المتعلق به وبهذا المعنى يقال: للقلب اطوار سبعة اولها الصدر وهو محل نور الاسلام وظلمة الكفر كما فى الكتاب الآلهى، وثانيها القلب وهو محل الايمان
كتب في قلوبهم الإيمان
[المجادلة:22]
ولما يدخل الإيمان في قلوبكم
[الحجرات:14]، وثالثها الشغاف وهو محل المحبة الانسانية المتعلقة بالخلق قد شغفها حبا، ورابعها الفؤاد هو محل المشاهدة للانوار الغيبية
ما كذب الفؤاد ما رأى
[النجم:11] وخامسها حبة القلب وهى محل المحبة الآلهية، وسادسها سويداء القلب وهى محل المكاشفات والعلوم الدينية، وسابعها مهجة القلب وهى محل تجلى الله بأسمائه وصفاته { إنا لنراها في ضلال مبين }.
لانها كانت قد خرجت من جادة العقل وسهلت على نفسها الشين والعار اختارت عشق مملوك لها لا يلتفت اليها.
[12.31]
{ فلما سمعت بمكرهن } قد مضى وجه اطلاق المكر على ذمهن { أرسلت إليهن } للضيافة وهيأت مجلسا لائقا بشأن الملوك وسألت يوسف (ع) ان يخرج عليهن اذا سألت الخروج { وأعتدت لهن متكئا وآتت كل واحدة منهن سكينا } احد ما يكون بعد الفراغ من الغذاء واعطت كل واحدة منهن اترجا { وقالت اخرج عليهن } بعد ما زينته بالالبسة الفاخرة وانواع ما يتزين به { فلما رأينه أكبرنه } بحيث لم يبق لهن شعور بانفسهن ومحين فى جماله، وقيل: اكبرن بمعنى حضن فان الاكبار ورد فى اللغة بهذا المعنى لان الحيض علامة دخول المرأة فى الكبر كالاحتلام للمرء يعنى من غلبة الوله او من غلبة الشبق حضن { وقطعن أيديهن } جرحنها جرحا كثيرا { وقلن حاش لله } كلمة تعجب وحاش حرف نزل منزلة المصدر اى تنزيها لله وعلى هذا فاللام للتبيين مثل لام سقيا لك، او للقسم سواء جعل حاش كلمة برأسه او كان اصله حاشا خفف الفه الاخيرة، وقيل: اصله حاشا فعلا خفف بحذف الالف من الحشى بمعنى الناحية والفاعل ضمير يوسف (ع) واللام للتعليل والمعنى تنحى يوسف عن التلوث لله او لتبيين المفعول والمعنى نزه يوسف الله والفعل لازم والفاعل هو الله واللام لتبيين الفاعل، او اللام للقسم سواء جعل الفعل لازما او متعديا وفاعل الفعل ضمير يوسف (ع)، وقرئ حاشا الله فعلا لازما والله فاعله وحاشا لله بتنوين حاش حرفا منزلا منزلة المصدر او منزلة اسماء الاصوات، او بجعله اسم صوت ولام لله حينئذ تكون للتبيين او للقسم { ما هذا بشرا } جرين على عادة العرف من نفى البشرية عمن يبالغون فى كماله يعنى انه فوق البشريه فى جماله ولم يردن نفى البشرية حقيقة، او اردن ذلك حقيقة { إن هذآ إلا ملك كريم } هذا ايضا على عادة العرف من اثبات الملكية لمن يبالغون فى كماله.
[12.32-33]
{ قالت } اعتذارا عن افتتانها به ودفعا لملامتهن او تفاخرا بعشقه او جوابا عن سؤالهن لانهن بعد مشاهدة جماله وقطع ايديهن قلن: يا زليخا من هذا الذى اريتناه؟ - قالت فى جوابهن { فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم } يعنى ان الملامة ليست فى موقعها لان جماله اقتضى الافتتان به ولا يمكن الصبر عنه { ولئن لم يفعل مآ آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين قال } بعد ما رأى ان مدافعتهن اصعب شيء له { رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن } واتنزل من مقام العلم والعقل { وأكن من الجاهلين } الساقطين فى مقام الجهل اشرك النسوة مع زليخا فى استدعائه الخلاص منها لانهن كن يرغبنه على اجابة زليخا ويخوفنه منها ويدعونه خفية الى انفسهن ولما كان المراد من اظهار احبية السجن والصبا اليهن لو لم يصرف كيدهن دعاء الخلاص منهن قال تعالى { فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن }.
[12.34]
{ فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن } بنجاته من ايديهن بارادتهن السجن له { إنه هو السميع } لدعاء كل داع او لكل صوت ومنه دعاء الداعين { العليم } بما يصلح كل احد.
[12.35]
{ ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات } لما رأت امرأة العزيز انها افتضحت بين الناس ولم تصل الى وصال يوسف (ع) شاورت خواصها فدبرن ان يرسلوه الى السجن حتى ينتشر فى الناس ان الاثم كان منه، ولعله يرضى بمواصلتها بعد ما ذاق مرارة السجن فسألت زليخا من العزيز ان يرسله الى السجن فشاور خواصه فأشاروا اليه بذلك فاستقر رأى الجميع على سجنه ولذلك قال تعالى: بدا لهم اى للمرأة وخواصها وللعزيز وخواصه والمراد بالآيات آيات صدقه وطهارة ذيله من تنطق الصبى وقد القميص من الدبر واستباقهما الباب حتى سمع العزيز مجاذبتها اياه على الباب وقطع النسوة ايديهن { ليسجننه حتى حين } مدة قليلة ليحسب الناس انه كان الآثم.
[12.36]
{ ودخل } ادخل { معه السجن فتيان } كانا عبدين للملك احدهما كان خبازه والآخر صاحب شرابه واستعمال الفتى والفتاة فى العبيد والاماء غالب فى عرفهم وقيل: انه لما ادخل السجن استدعى من السجان ان ينزله تحت شجرة يابسة كانت فى وسط السجن فآواه هناك فتوضأ (ع) تحتها وصلى فأصبحت الشجرة مخضرة، وكان ينصح اهل السجن ويسليهم ويعظهم ويتعاهدهم كل صباح ومساء فعرفوه بالصلاح واحبوه وكان يبث كل شكواه اليه ورأى فى المنام صاحباه ما قص الله تعالى فاتيا { قال أحدهمآ إني أراني أعصر خمرا } اى عصيرا او عنبا، واطلاق الخمر للاشارة الى انه يعصره للخمر او المراد انى اعصر الخمر عن درديها واصفيها { وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا } جفنة فيها خبز { تأكل الطير منه نبئنا بتأويله } ورد عن الصادق (ع) انه لما امر الملك بحبس يوسف (ع) فى السجن الهمه الله تعالى علم تأويل الرؤيا فكان يعبر لاهل السجن رؤياهم وان فتيين ادخلا معه السجن يوم حبسه فباتا فأصبحا فقالا: انا رأينا رؤيا فعبرها لنا فقال: وما رأيتما؟ فقصا { إنا نراك من المحسنين } من صاحبى السجن او ممن يحسن الى جلسائه ومعاشريه لانه كان يقوم على المريض ويلتمس للمحتاج ويوسع فى المجلس على جلسائه او ممن يحسن تعبير الرؤيا لانه كان يعبر لاهل السجن ويوافق تعبيره الواقع.
[12.37]
{ قال لا يأتيكما طعام ترزقانه } وكان وقت اتيان الطعام لاهل السجن { إلا نبأتكما بتأويله } لما كان المستثنى مفرغا وحالا مما قبله والحال تقتضى الاقتران بالعامل زمانا وكان مقصوده انه يعبره قبل الاتيان قيده بقوله { قبل أن يأتيكما } وأخر التعبير لترغيبهم فى التوحيد وتنفيرهم عن الاشراك بعد ما رأى وثوقهما به وظن تأثرهما بوعظه كما هو شأن كل ناصح اذا رأى التأثر بنصحه ولم يكن التأخير لتأمله فى التعبير والا لم يسجل الاخبار به { ذلكما } العلم بتعبير الرؤيا { مما علمني ربي } لا مما تعلمته بنفسى من بشر مثلى كعلوم القافة والمشعبذة وغير ذلك ولا مما تعلمته من الشياطين والجن كعلوم الكهنة والسحرة بل علمنى ربى بالوحى والالهام من غير كسب منى علوما كثيرة هذا احدها ثم علل تعليم الرب بترك ملتهم واتباع ملة الانبياء (ع) تنفيرا وترغيبا لهما بقوله { إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون } عرض بهما وورى عن ملتهما وكفرهما ليكون اشد تأثيرا واقرب قبولا واوقع فى نفوسهما.
[12.38]
{ واتبعت ملة آبآئي إبراهيم وإسحاق ويعقوب } اضاف الملة الى آبائه اشارة الى علو نسبته بانتسابه الى من كان ذا ملة وصاحب شريعة وصرح باسمائهم لكونهم مشهورين بعلو الشأن وشرافة الرتبة ومقبولين عند الكل خصوصا ابراهيم (ع) لذلك، وبعد ما عرفهم نسبه وانه (ع) من اهل بيت النبوة والشرف اثبت لهم مذهبه وانه التوحيد وعرض بذم مذهبهما وانه خلاف مذهب الانبياء (ع) والاشراف فقال { ما كان لنآ أن نشرك بالله من شيء } شيئا يسيرا من اصناف الاشراك كالاشراك فى الوجوب كاشراك اكثر الثنوية القائلة بان للعالم مبدئين قديمين واجبين النور والظلمة او يزدان واهريمن، وكاشراك الزنادقة من الدهرية والطبيعية القائلة بان الدهر او الطبع واجب ومبدء فان هذا القول اشراك بحسب نفس الامر، وكالاشراك فى الآلهة كاشراك بعض الثنوية القائلة بوحدة الواجب تعالى وآلهته المبدئين، وكاشراك الصابئة القائلة بآلهة الكواكب وتربيتها لعالم العناصر ومخلوقيتها للحق الاول تعالى على كثرة مذاهبهم، وكاشراك اكثر من قال بسلطنة الملائكة او الجنة على اختلاف طرقهم، وكالاشراك فى العبادة كاشراك الوثنية وعابدى العناصر ومواليدها من الاحجار والاشجار والحيوان، وكالاشراك فى الطاعة كاشراك من اطاع السلاطين والحكام والاغنياء والشياطين والاهواء ومنتحلى العلم والامامة والفتيا من غير اذن واجازة من الله ولا ممن اجازه الله كالرهبان والاحبار مترأسى الملة والطريق من كل ملة وطريق، وكالاشراك فى النبوة كاشراك من بايع من ليس نبيا ولا خليفة له بيعة عامة نبوية، وكالاشراك فى الولاية كاشراك من بايع من ليس بولى بيعة خاصة ولوية، ولما كان هذا الاشراك مستلزما لما سبق من انواع الاشراك وبتوحيد الولاية يحصل جملة انواع التوحيد كما لا يخفى على العارف بالولاية، وانها لا تحصل الا بما قرر من الائمة (ع) فسر الاشراك فى اكثر الآيات بالاشراك فى الولاية فى اخبارنا المعصومية، وكالاشراك فى الوجود قالا او حالا او شهودا وقلما ينفك الانسان عن هذا الاشراك والى هذا الاشراك اشار تعالى بقوله: { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } فاشار (ع) بقوله من شيء الى نفى جملة انواع الاشراك سواء جعل من شيء مفعولا مطلقا كما مضى او مفعولا به وهو تعريض بهما وبقومهما لانهم اشركوا اكثر انواع الاشراك، ولما لم يمكن الخروج من جملة انواع الشرك الا بالفناء التام الذى هو الفناء عن الفناء وكان هذ الفناء بحيث ان كان بعده بقاء لم يكن البقاء الا بالنبوة والرسالة والخلافة وكان الكل من شعب فضله تعالى، كما ان الولاية التى هى اصل تلك رحمته وكان النبوة وتاليتاها كما انها فضل على الموصوف فضلا على من كان الموصوف فيهم ومبعوثا عليهم قال { ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون } لانهم لا يعرفون قدر النبوة ولا يقومون بواجب حقها بل يعرضون عنها ويجحدونها.
[12.39]
{ يصاحبي السجن } الاضافة لأدنى ملابسة سواء كان المراد صحابة يوسف (ع) فى السجن او صحابة نفس السجن { أأرباب } متكثرون والتعبير بالارباب تعبير بما اعتقدوه ليكون ادخل فى النصف { متفرقون } غير قاهرين بعضهم لبعض وجمع العقلاء ايضا لموافقة اعتقادهم { خير } افعل التفضيل للمداراة والنصف ايضا { أم الله } لم يصرح بربوبيته لتسليم الخصم او ادعاء تسليمه وانه مما لا ينكر { الواحد } مقابل المتكثرين { القهار } مقابل المتفرقين.
[12.40]
{ ما تعبدون من دونه إلا أسمآء } قد مضى ان ما سوى الله من الملئكة باصنافهم والطبائع ومواليدها والاناسى وصنائعهم كلها اسماء لله تعالى وان الاسم لا حكم له ولا نظر اليه وان النظر الى الاسم والحكم عليه لا يتصور الا اذا جعل مسمى وثانيا للمسمى وانه شرك بالله، وان الناقصين لما لم يمكن خروجهم من حد الاشراك فى الوجود اذن الله لبعض الاسماء ان يجعلوها مسمين منظورا اليهم كالانبياء واوصيائهم (ع) وانزل الله لهم سلطانا على جواز جعلهم مسمين من دلائل صدق دعويهم ولذا قال: ما تعبدون من دونه الا اسماء لا مسمين { سميتموهآ أنتم وآبآؤكم } على مقتضى بشريتكم الناقصة وقد مضى فى سورة الاعراف فى نظير الآية وفى سورة البقرة فى بيان قوله تعالى:
وعلم آدم الأسمآء
[البقرة: 31] وفى بيان بسم الله الرحمن الرحيم من سورة الفاتحة تحقيق تام للاسم وكيفية اسميته ومسمويته { مآ أنزل الله بها من سلطان } لفظة الباء تحتمل السبية والمصاحبة والظرفية، والمراد بالسلطان اما الحجة من المعجزات الدالة على جواز طاعتها وعبادتها او السلطنة والتصرف فى الاشياء وكلتاهما كانتا للانبياء واوصيائهم (ع) فانهم وان كانوا اسماء لكن انزل الله معهم حجة دالة على جعلهم مسمين ومنظورا اليهم وانزل معهم سلطنة وتصرفا مصححة لطاعتهم وربوبيتهم كما لا يخفى { إن الحكم } فى العالم او فى حق العباد { إلا لله } فلا حكم ولا سلطنة فى شيء لاربابكم { أمر ألا تعبدوا } ان مصدرية او تفسيرية والفعل نهى او نفى { إلا إياه ذلك } التوحيد من توحيد الله فى الوجود المستفاد من حصر المعبودات من دونه مع انها اشرف الموجودات فى نظرهم فى الاسمية والاسم لا استقلال له فى الوجود كالمعنى الحرفى الغير المستقل فى لحاظ الذهن وتوحيده فى الآلهة والسلطنة المستفاد من قوله ان الحكم الا لله وتوحيده فى استحقاق العبادة المستفاد من قوله امر ان لا تبعدوا الا اياه، وقد ذكر التوحيدات الثلاثة مترتبة بحسب ترتبها فى نفس الامر فان توحيد الوجود يستعقب توحيد الآلهة وهو يستعقب توحيد العبادة { الدين القيم } الذى لا عوج فيه وكل ما كان غيره فهو معوج لا ينبغى ان يتبع فانه مفهوم الحصر المستفاد من تعريف المسند { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } استدراك لما يتوهم من انه لا وجه للاشراك بعد الوضوح التوحيد وبطلان الشرك هذا الوضوح فما بال المشركين يشركون؟! ولعله كان لهم دليل وحجة فاستدرك وقال: لا حجة لهم ولكنهم ليس لهم علم وانهم ساقطون فى دار الجهل كالبهائم التى لا تستشعر بالبرهان وان كان اوضح ما يكون، والتقييد بالاكثر لان بعضهم يتفطنون بالحجة ويتبعونها ويختارون التوحيد وبعضهم يتفطنون بها ويختارون الدنيا ويعاندون الحق عن علم، ولقد اجاد (ع) فى الدعوة بالموعظة الحسنة اولا والحكمة اليقينية البرهانية ثانيا، فانه لما رأى وثوقهما به واقرارهما بحسن سريرته وعلمهما بكونه عالما بتعبير الرؤيا ادعى ذلك العلم اولا بقوله { لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله } وثانيا بقوله ذلكما مما علمنى ربى واسند ذلك الى تعليم الله رفعا لوصم الكهانة والتعلم من البشر والجنة والشياطين، ثم علل ذلك العلم الذى رأى اقرارهما به بترك ملتهما تنفيرا لهما عنها ثم ورى عنهما بذكر قوم منكر موصوف بعدم الايمان بالله تعريضا بها ليكون ابعد عن الشغب واقرب الى القبول وباتباع ملة المعروفين بالصلاح والسداد مع انتسابه الصورى اليهم وبنفى الاشراك عنهم تعريضا بها وبتسميته ذلك فضلا من الله عليه وعلى الناس، وصرح بعدم معرفة الناس لقدر تلك النعمة وعدم شكرهم لها تعريضا بهما، ثم لما رأى تأثرهما بوعظه أعرض عن الخطابة وأقبل على الحكمة والبرهان بقوله ءارباب متفرقون ووصف الارباب بالكثرة والتفرق الدال على عدم انقياد بعضهم لبعض الذى هو سبب النزاع والفساد الواضح اشارة الى علة انكار ربوبيتهم ثم وصف الله بالوحدة اشارة الى جواز ربوبيته ثم بالقهر اشارة الى وجوب طاعته فأبطل ربوبية الاصنام وأثبت لزوم طاعة الله بالبرهان ثم اقبل على تزييف معبوداتهم وعدم استقلالها فى الوجود فضلا عن الربوبية واستحقاق العباد وعلى التصريح بتوحيد الله فى الآلهة والسلطنة وتوحيده فى العبادة بعد التلويح فى الوجود، قيل: آمن بالله تعالى بدعوته المذكورة الصاحبان السائلان منه تأويل رؤياهما وجمع آخر من المسجونين والسجانين.
[12.41]
{ يصاحبي السجن أمآ أحدكما } الذى يرى أنه يعصر خمرا { فيسقي ربه خمرا } وهو الذى كان قبل ادخاله السجن صاحب شرابه { وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه } وهو الذى كان قبل ادخاله السجن صاحب غذائه، قيل: انهما ما رأيا شيئا وامتحناه بذلك، وقيل: انهما رأيا رؤياهما، وقيل: ان صاحب الشراب رأى وكان صادقا، وصاحب الغذاء ما رأى شيئا وكذب فى رؤياه وقال بعد ذلك: ما رأيت شيئا وانما اردت امتحانك فقال فى جوابه { قضي الأمر الذي فيه تستفتيان } رأيتما او ما رأيتما.
[12.42]
{ وقال } يوسف (ع) { للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك } نقل انه لما قال ذلك نزل جبرئيل (ع) وقال: ربك يقرئك السلام ويقول: من حببك الى ابيك؟ - فقال: ربى، فقال: من أنجاك من الحب؟ - قال ربى، فقال: من حببك الى العزيز حتى اكرم مثواك؟ - فقال: ربى، فقال من انجاك عن كيد النساء وعصمك عن الفحشاء؟ - قال: ربى، فقال: ربك يقول: اما استحييت منى التجأت الى غيرى؟ -وقد كان ما بقى من حبسك الا ثلاثة ايام وبجرم الالتجاء الى غيرى تمكث فيه سبعة اعوام وقد كان فى السجن خمسة اعوام قبل ذلك فصار مدة مكثه فيه اثنى عشر عاما { فأنساه الشيطان ذكر ربه } اى انسى الشيطان صاحب الشراب ذكر يوسف (ع) عند الملك او انسى الشيطان يوسف (ع) تذكر الله { فلبث في السجن بضع سنين } بعد ما كان قد لبث خمس سنين ونسب الى النبى (ص) انه قال: رحم الله اخى يوسف (ع) لو لم يقل اذكرنىعند ربك لما لبث فى السجن سبعا بعد الخمس، والبضع ما بين الثلاثة الى التسعة وقيل فيه شيء آخر وهو من البضع بمعنى القطع، قيل انه وقع ليوسف (ع) ثلاث عثرات اوليها الهم الذى وقع منه بالنسبة الى زليخا فحبس بسببه فى السجن وثانيتها الالتجاء الى غيره فلبث بسببه فى السجن بضع سنين وثالثتها ما قال لاخوته انكم لسارقون فأجابوه بكذب مثله، فقالوا: { إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل } ولما انقضى مدة رياضته (ع) وحبسه وحان اوان سلطنته ووسعته، رأى الملك انه على سريره فخرج من النيل سبع بقرات سمان احسن ما يكون وجاءت الى جنب سريره ووقفت ثم خرج منه سبع بقرات اخر عجاف فجاءت الى البقرات السمان فأكلتها، ورأى انه نبت فى جنب سريره سبع سنبلات خضر ثم سبع سنبلات يابسات فالتفت بالسنبلات الخضر فاصفرت ويبست، فتنبه الملك وأحضر الكهنة والمفسرين والمنجمين وقص الرؤيا عليهم كما حكى الله.
[12.43]
{ وقال الملك إني أرى } التعبير بالمضارع لاحضار صورة الرؤيا او لانه كان يرى هذه الرؤيا مكررة او لانه رأى اجزاء الرؤيا متدرجة فاداه بالمضارع تصويرا للحال الماضية حاضرة مشعرا بتكررها او تدرج رؤيتها { سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات } اكتفى بذكر اكل العجاف عن ذكر التواء اليابسات { يأيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون } وكأنه كان فى رؤياه اشياء اخر دقائق لا يمكن للمعبر استنباط تعبيرها والا فتعبير تلك غير خاف على المعبر ولخفاء دقائقها.
[12.44]
{ قالوا أضغاث أحلام } اى تلك الرؤيا اضغاث احلام جمع الضغث وهو الحزم من النباتات المختلفة استعير للصور المختلفة المختلطة من تخيلات المتخيلة، فان من الرؤيا ما يشاهده النفس فى عالمى المثال من صور الطبيعيات الموجودة او الآتية او الماضية لكن قلما يتفق ان تشاهد الماضية لتوجه النفس الى الحال والاتى وادبارها عن الماضى، فما تشاهد فى المثال العلوى فهو اما بشارة من الله او تحذير وانذار او تنبيه واخبار، وما تشاهد فى المثال السفلى فهو اما غرور من الشيطان على المعاصى او تحذير منه عن الطاعات او اخبار بالاتيات غرورا منه او استدارجا من الله ومنها ما تشاهده باراءة المتخيلة وتصويرها مما لم يكن واقعا وهو اضغاث الاحلام، والاحلام جمع الحلم وهو ما يراه النائم فى المنام مطلقا او ما يراه فى المنام من غير حقيقة له { وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين } كأنهم اعتذروا عن عدم علمهم بكون الرؤيا من اضغاث الاحلام التى لا تعبير لها وبينما ذاك السؤال تذكر الساقى يوسف (ع) ومهارته فى تعبير الرؤيا فذكر انى اعلم عالما بتعبير الرؤيا كما قال تعالى { وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة }.
[12.45]
{ وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة } من الزمان سبع سنين { أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون } الى من اريد فاذنوا له فجاء الى يوسف (ع) وقال { يوسف }.
[12.46]
{ يوسف } يا يوسف { أيها الصديق } منصوب على الاختصاص او منادى ثان والمقصود ذكره بوصف مدح ترغيبا فى الاهتمام بالتعبير { أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس } يعنى بعمل تأويل ذلك لاستبعاد ترجى الرجوع المطلق { لعلهم يعلمون } تأويله او يعلمون قدرك ومنزلتك فيخرجونك من السجن قيل: انه نسب الرؤيا الى نفسه فقال يوسف (ع): ما انت رأيت ذلك ولكن الملك رأى وعبر الرؤيا ثم بين لهم تدبير ذلك كما حكى الله بقوله { قال تزرعون سبع سنين دأبا }.
[12.47]
{ قال تزرعون سبع سنين دأبا } قرئ بسكون الهمزة وفتحها وهما مصدرا دآب فى الأمر استمر على عادته فيه وهو جواب السؤال كان مذكورا لم يحك او لسؤال مقدر كأنه قال: ما ندبر لذلك؟- قال: تزرعون، ويجوز ان يكون تعبيرا للرؤيا مع شيء زائد فانه افاد القحط والتدبير والخصب قبل القحط { فما حصدتم فذروه في سنبله } لئلا يفسد ويتدود { إلا قليلا مما تأكلون } فى تلك السنين تخرجونه من سنبله.
[12.48]
{ ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن } نسبة الاكل الى السنين مجاز عقلى ومراعاة للتطبيق بين الرؤيا وتعبيرها { ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون } لبذور الزراعات واحتياط المجاعة قبل وصول الزراعة.
[12.49]
{ ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس } من الغيث او من الغوث { وفيه يعصرون } قرئ بالبناء للفاعل اى يعصرون العنب والزيتون وكلما يعصر لكثرتها، وقيل: يعصرون الضروع بمعنى يحلبون، وقرئ تعصرون بالخطاب تغليبا للخاطب على الغياب، وقرئ بالبناء للمفعول من عصره اذا انجاه اى ينجون من القحط، او من اعصرت السحابة عليهم اذا امطرهم، وقرائة اهل البيت (ع) على ما وصل الينا كانت هكذا بمعنى يمطرون، فخرج الرسول من عنده وجاء الملك بالتعبير والتدبير فلما سمع الملك ذلك ارتضاه وطلب ملاقاة يوسف (ع).
[12.50]
{ وقال الملك } لخواصه { ائتوني به } فأرسلوا اليه لاحضاره { فلما جآءه الرسول } وقال ان الملك يطلبك ويستحضرك { قال } انى اتهمت عند الملك بالخيانة ومراودة النساء وما لم اخرج من الاتهام لم آت الملك لعدم منزلة وعرض لى عنده { ارجع إلى ربك } اى العزيز او الريان { فاسأله } ان يتجسس ويطلب { ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن } فانى اتهمت بهن حتى يعلم انى لم اكن خائنا وسجنت ظلما ولم يذكر امرأة العزيز مع ان الاتهام والسجن كانا منها تكرما وصونا لعرضها بخصوصه عن التفضيح { إن ربي بكيدهن عليم } تعليل لطلبه سؤال الملك عن النسوة يعنى انهن كدننى وانى بريى واكد هذا المعنى بالاستشهاد بعلم الله فرجع الرسول وحكى ما قاله يوسف للملك فأحضر الملك اى العزيز او الريان النسوة.
[12.51]
{ قال ما خطبكن } ءانتن روادتن يوسف ام يوسف (ع) روادكن؟ ام كانت المراودة من الطرفين؟ - { إذ راودتن يوسف عن نفسه } نسب المراودة اليهن مع ان سؤاله يقتضى الجهل او التجاهل اشارة الى ان سؤاله كان لمحض احتمال ان يكون يوسف شريكا لهن فى المراودة لان مراودتهن كانت مشهورة بحيث لم يكن لاحد شك فيها { قلن حاش لله } قد مضى بيان تلك الكلمة { ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز } بعد اعتراف سائر النساء ببراءته وخروجها عن شدة حيائها { الآن حصحص الحق } ظهر غاية الظهور { أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين } فى البراءة من الخيانة.
[12.52]
{ ذلك ليعلم } ربك اما مرتبط بسابقه وقوله قال ما خطبكن الى الآخر معترض بينهما فى الحكاية، او قال ذلك يوسف (ع) بعد ما رجع الرسول اليه وسأل عنه لم تثبت فى الخروج وطلبت مسئلة الملك عن حال النساء؟ - فاجاب وقال ذلك التثبت ليعلم العزيز وهو دليل على ان المراد بالرب هو العزيز لا الملك { أني لم أخنه بالغيب } متلبسا بالغيب او واقعا فى الغيب منى، حال من الفاعل او المفعول { وأن الله لا يهدي كيد الخائنين } يعنى ليعلم ان امرأته كادتنى وان كيدها ما نفذ وما اثر فى وهو مبالغة فى اظهار طهارته ولما بالغ فى اظهار طهارته اراد ان يدفع وصمة الاعجاب والتزكية عن نفسه وينسب ذلك الى الله فقال: { ومآ أبرىء نفسي }.
[12.53]
{ ومآ أبرىء نفسي } فان شأنها التلوث بالواث الذنوب لا التنزه منها { إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي } الا وقت رحمة ربى او الا التى رحمها ربى يعنى ان التنزه من محض الرحمة لا من فعل النفس وقيل قوله تعالى ذلك ليعلم (الى آخرها) من تتمة كلام زليخا اى ذلك الاعتراف بخيانتى وطهارته ليعلم يوسف (ع) انى لم اخنه بالغيب بنسبة الكذب اليه وان الله لا يهدى كيد الخائنين بابقائه مستورا من غير ان يظهره وما ابرء نفسى عن نسبة الخيانة والكذب اليه حيث خنته بنسبتهما اليه ان النفس لامارة بالسوء فبأمرها اسأت الا ما رحم ربى { إن ربي غفور } لامر النفس بالسوء { رحيم } بعصمتى عن اتباعها ولما ظهر لهم طهارته وعفته كمال الظهور اشتد طلبهم له.
[12.54]
{ وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي } بجلعه من خواصى من غير حكومة لغيرى عليه فذهب الرسول واحضره { فلما كلمه } ووجده صاحب رشد وكمال وكلام وقد علم عفته وامانته سابقا { قال إنك اليوم لدينا مكين } ذو مكانة ومنزلة لرشد وعقلك { أمين } لظهور عفتك وامانتك.
[12.55]
{ قال اجعلني على خزآئن الأرض } اى خزائن النقد والجنس فى ارض مصر { إني حفيظ } لما تحت يدي عن الخيانة لا اخون بنفسى ولا يمكن الخيانة لغيرى لامانتى وحسن تدبيرى فى الحفظ { عليم } بكيفية التصرف والحفظ عن الفساد والتلف. نقل عن النبى (ص): رحم الله اخى يوسف (ع) لو لم يقل: اجعلنى على خزائن الارض لولاه من ساعته ولكنه اخر ذلك سنة، وعن الصادق (ع) انه قال يجوز ان يزكى الرجل نفسه اذا اضطر اليه اما سمعت قول يوسف (ع): { قال اجعلني على خزآئن الأرض إني حفيظ عليم } ، اقول: كأن غرضه من ذلك تسلطه على ما يحتاج الناس اليه ليتوجهوا اليه فيسمعوا بذلك كلامه ويبلغ رسالته وآمن بعد ذلك الملك على يده ووكل الامر اليه ودبر فى السبع السنين المخصبة فى تحصيل الحبوب وحفظها وشرع فى السنين المجدبة ببيعها حتى حصل جميع اموال مصر ومواشيها وضياعها وعبيدها وامائها ورقاب اهلها له وصار مالكا للكل، وفى بعض الاخبار انه بعد الخصب قال للملك: ايها الملك ما ترى فيما خولنى ربى من ملك مصر واهلها اشر علينا برأيك فانى لم اصلحهم لافسدهم ولم انجهم من البلاء ليكون وبالا عليهم ولكن الله نجاهم على يدى قال له الملك: الرأى رأيك قال يوسف (ع) انى اشهد الله واشهدك انى قد اعتقت اهل مصر كلهم، ورددت عليهم اموالهم وعبيدهم، ورددت عليك ايها الملك خاتمك وسريرك وتاجك على ان لا تسير الا بسيرتى ولا تحكم الا بحكمى، قال له الملك: ان ذلك لشرفى وفخرى ان لا اسير الا بسيرتك ولا احكم الا بحكمك، ولولاك ما قويت عليه ولا اهتديت له ولقد جعلت سلطانى عزيزا ما يرام وانا اشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له وانك رسوله فأقم على ماوليتك فانك لدنيا مكين امين.
[12.56]
{ وكذلك } عطف على محذوف اى فأنجينا يوسف (ع) من السجن ومثل ذلك الأنجاء { مكنا ليوسف } او مثل ذلك التمكين المتعقب للبلايا العديدة والمتاعب الكثيرة مكنا ليوسف (ع) الذى كان من ابناء انبيائنا (ع) وجعلناه نبيا فمن اراد التمكين فى ارض العالم الكبير او ارض العالم الصغير فليصبر على الرياضات والبلايا وليتسل عن الجزع فى المتاعب { في الأرض } ارض مصر ما جاوزها كما فى الخبر { يتبوأ منها حيث يشآء } لتسلطه على جميعها بل كون الجميع ملكها حقيقة وان كان اودعها ملاكها السابقة كما سبق { نصيب برحمتنا من نشآء ولا نضيع أجر المحسنين } جواب سؤال كأنه قيل: لم كان ذلك التمكين؟ - فأجاب بأن فعلنا لا يسأل عنه ولأنه كان محسنا.
[12.57-58]
{ ولأجر الآخرة خير } من تمكين يوسف (ع) فى الارض { للذين آمنوا وكانوا يتقون وجآء إخوة يوسف } بعد ما وقع القحط وأصاب كنعان ايضا القحط ليمتاروا لأهلهم وذلك ان يعقوب (ع) ارسل بنيه سوى بنيامين مع بضاعة قليلة وكانت مقلا كما قيل { فدخلوا عليه فعرفهم } لعدم تغير حالهم وتفرس يوسف (ع) { وهم له منكرون } غير عارفين له لتغير حاله عما عاهدوه عليه سنا وصورة ومرتبة وهيبة، نقل انه كان بينه وبين ابيه ثمانية عشر يوما وكان ابوه فى بادية وكان الناس من الآفاق يخرجون الى مصر ليمتاروا به طعاما وكان يعقوب (ع) وولده نزولا فى بادية فيها مقل فاخذ اخوة يوسف (ع) من ذلك المقل وحملوه الى مصر ليمتاروا به، وكان يوسف (ع) يتولى البيع بنفسه فلما دخل اخوته عليه عرفهم ولم يعرفوه كما حكى الله عز وجل.
[12.59]
{ ولما جهزهم بجهازهم } لما اعد لهم ما جاؤا لاجله وما يحتاجون اليه فى سفرهم، والجهاز ما يعد للسفر مما يحتاج اليه { قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم } وذلك انه لما عرفهم جعل لهم مضيفا مخصوصا واحسن ضيافتهم وتلطف بهم وسائلهم عن محلهم ونسبهم وسأل عن حال ابيهم واولاده فأجابوه بالتفصيل قالوا: ان لنا اخا من ابينا لا من امنا فأحسن اليهم ووقرر ركائبهم من غير ان ينظر الى ان بضاعتهم لا تفى بثمنها وجعل بضاعتهم اى ثمن المقل الذى جاؤا به بضاعة فى رحالهم، وقيل: كانت بضاعتهم نعالا وادما، وقال { ألا ترون أني أوفي الكيل } اؤديه من غير بخس { وأنا خير المنزلين } لما رأيتم من حسن ضيافتى لكم.
[12.60]
{ فإن لم تأتوني.. } بدخول بلادى بالغ فى اياس اخوته تأكيدا لهم على الاتيان به .
[12.61]
{ قالوا سنراود.. } ذلك الاجتهاد فى أخذه من ابيه او لفاعلون الاتيان به، قيل: لما دخلوا عليه وعرفهم قال: من انتم لعلكم عيون؟ - وكان مقصوده الحيلة فى ان يكون احدهم عنده من غير معرفة بحاله قالوا: لسنا عيونا انما نحن بنواب واحد وهو يعقوب النبى (ع) قال: كم كنتم؟ - قالوا: اثنى عشر، ذهب واحد منا الى البرارى فهلك وبقينا احد عشر، قال: كم انتم فى بلدنا؟ - قالوا: عشرة، قال: فاين الآخر؟ - قالوا: خلفناه عند ابينا قال: فمن يشهد لكم؟ - قالوا: لا يعرفنا ههنا من يشهد لنا، قال: فدعوا بعضكم عندى رهينة واتونى بأخيكم حتى اصدقكم فاقترعوا فأصاب شمعون.
[12.62-64]
{ وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونهآ } يعرفون حق ردها او يعرفون اعيانها، فرغبوا الى الرجوع { إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يأبانا منع منا الكيل } حكم بمنعه ان لم نذهب بأخينا { فأرسل معنآ أخانا نكتل } برفع المانع فان سبب المنع عدم ذهابنا بأخينا بنيامين، وقرئ يكتل اى بنيامين لنفسه اولنا ايضا اى يصير سببا للاكتيال او يكتل الكيال لنا برفع المانع ولما كانوا مسبوقين بما فعلوا بيوسف (ع) وخدعوا اباهم فيه تبادروا الى قولهم { وإنا له لحافظون قال هل آمنكم عليه } تعييرا لهم على قولهم بما قالوا فى حق يوسف (ع) ولم يفوا به { إلا كمآ أمنتكم على أخيه } يوسف (ع) { من قبل } ثم انصرف عنهم من الاعتماد على قولهم والتجأ الى الحافظ الحقيقى فقال: { فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين } فعلى حفظه ورحمته أعتمد لا على قولكم فى حق يوسف (ع) واخيه، نسب الى الخبر انه تعالى قال: فبعزتى لاردنهما اليك بعد ما توكلت على.
[12.65]
{ ولما فتحوا متاعهم } اوعية متاعهم { وجدوا بضاعتهم } ثمن مقلهم او نعالهم واديمهم { ردت إليهم قالوا } استبشارا { يأبانا ما نبغي } يعنى لا مزيد على ذلك الاحسان حيث احسن ضيافتنا ومثوانا وجعل بضاعتنا فى رحالنا { هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا } اى نذهب بأخينا ونمير أهلنا { ونحفظ أخانا } او نبغى من البغى اى لا نبغى ونمير اهلنا { ونزداد كيل بعير } بمصاحبة اخينا { ذلك } الكيل الذى كيل لنا { كيل يسير } او ذلك الكيل المزيد على اكيالنا كيل يسير لا يضايقنا الملك فيه او هو من كلام يعقوب (ع) جوابا لبنيه وردا عليهم يعنى ذلك الكيل المزيد كيل يسير لا ينبغى للعاقل ان يجعل ابنه فى معرض المخاوف لمثل ذلك.
[12.66]
{ قال لن أرسله معكم } بلا وثيقة كما أرسلت يوسف (ع) { حتى تؤتون موثقا من الله } عهدا وثيقا من الله أثق به عليكم فى حفظه { لتأتنني به } جواب قسم محذوف اى احلفوا، او جواب حتى تؤتون موثقا من الله فانه فى معنى القسم { إلا أن يحاط بكم } اى الا ان تمنعوا بحيث لا تقدرون او تهالكوا جميعا فلا يبقى منكم احد { فلمآ آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل } استشهد بوكالة الله تأكيدا للوثيقة او توكلا عليه لا على الوثيقة يعنى انى توكلت عليه وفعلت ما كان على من التوسل بالاسباب او تيمنا بذكره لامضاء الوثيقة.
[12.67-68]
{ وقال يبني لا تدخلوا من باب واحد } لما علم ان الملك واعوانه عرفوهم وعلموا انهم بنواب واحد خاف عليهم العين فوصيهم بحسب البشرية بالتدبير له فى العين { وادخلوا من أبواب متفرقة } ولما لم يعتمد على تدبيره قال { ومآ أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله } وامرى بهذا التدبير كان لمحض التوسل بالاسباب الذى امر الله عباده به التوكل { عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم } من الابواب المتفرقة { ما كان } ابوهم او تدبيره او دخولهم بحسب تدبيره { يغني عنهم من الله } من تقدير الله { من شيء } شيئا من الاغناء او شيئا من التقدير فنسبوا الى السرقة واخذ بنيامين { إلا حاجة في نفس يعقوب } وهى التوسل بالتدبير مع التوكل على الله مع العلم بعدم اغناء التدبير عن التقدير { قضاها } امضيها والاستثناء منقطع { وإنه لذو علم } بان التدبير لا يغنى من التقدير { لما علمناه } لاجل تعليمنا اياه او بالذى علمناه لا بكل الاشياء والآية اشارة الى سعته وكماله (ع) فى مرتبة البشرية والعمل بمقتضاها من حيث انها تقتضى التوسل بالاسباب والمرتبة العقلية من حيث انها تقتضى الانقطاع عن الاسباب والعلم باستقلال المسبب فى كل ذى سبب وان الاسباب حجب لظهور اثر المسبب { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } ان الحذر لا يغنى من القدر او لا يتصفون بمرتبة العلم استدراك لما يتوهم من انه ان كان ذو علم ينبغى ان لايظهر مقتضى البشرية الذى يوهم الجهل يعنى انه، وان كان ذو علم ولكن اكثر الناس ليس لهم علم فابرز مقتضى البشرية لموافقتهم ومنهم أبناؤه المخاطبون له، او المعنى أنه لذو علم ومقتضى علمه التوسل بالاسباب فى التوكل { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } ان مقتضى العلم التوسل بالاسباب ما لم يخرجوا من عالم الاسباب.
[12.69]
{ ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه } وكيفية دخولهم عليه وايوائه اياه مذكورة بتفصيلها فى المفصلات { قال إني أنا أخوك فلا تبتئس } لا تحزن { بما كانوا يعملون } من الاساءة الى واليكم فانها صارت سببا لرفعتنا وموجبا لسلطنتنا ويجمع الله بيننا وبين ابينا واخوتنا فى احسن حال.
[12.70]
{ فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية } المشربة التى بها تكال الاطعمة { في رحل أخيه } بنيامين { ثم أذن مؤذن } من قبل السلطان { أيتها العير } اسم للابل التى تنقل السيارة متاعهم عليها الى مقاصدهم ثم غلب على السيارة التى فيها تلك العير { إنكم لسارقون } تورية عن سرقتهم يوسف (ع) وبيعة بعنوان الرقية او عن سرقتهم ذرية عقولهم واستخدامها بل استرقاقها لنفوسهم حتى لا يكون كذبا، وقيل بعد ما فقد الصواع نسب السرقة اليهم من دون اذن يوسف (ع)، وفى الاخبار انه كذب فى مقام الاصلاح وما سرقوا وما كذب لان الكذب فى مقام الاصلاح ليس بكذب وذلك لان يوسف (ع) اراد اصلاحهم باخذ اخيه وخلاصهم من نفوسهم الامارة بتضرعهم الى الله والتجائهم الى يوسف (ع) وتذللهم عند ابيهم.
[12.71-75]
{ قالوا وأقبلوا عليهم } حال بتقدير قد، او عطف قبل تمام المعطوف عليه، او اعتراض ووجهه التنبيه على كمال اطمينانهم وتجريهم على المجادلة لقطعهم بأنهم غير فاعلين { ماذا تفقدون قالوا نفقد صواع الملك ولمن جآء به حمل بعير } قيل: كان ذهبا او فضة مكللا بالجواهر الثمينة ولذلك وعدوا من جاء به حمل بعير من الغلة مع انها كانت غالية ولغلائها جعلوا مكيالها غاليا { وأنا به زعيم قالوا تالله } قسم لتأكيد الدعوى { لقد علمتم } تأكيد آخر استشهدوا بعلمهم على صدق الدعوى لانهم كانوا اذا دخلوا بلاد مصر جعلوا على افواه رواحلهم اوكية لئلا تدخل زراعاتهم كما قيل، وقيل: ردوا البضاعة المردودة اليهم الى الملك ظنا منهم انهم جعلوها فيها سهوا واشتهر بذلك امانتهم وصلاحهم { ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين قالوا فما جزآؤه } اى السارق او السرق { إن كنتم كاذبين قالوا جزآؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه } هو جزاؤه تأكيد للقضية الاولى ولذا أتى بالفاء اشارة الى ابلغيته فى التقرير، او من موصولة مبتدء او شرطية وقوله فهو جزاءه خبره او جزاء الشرط ودخول الفاء على الاول لتضمن المبتدء معنى الشرط والجملة خبره جزاؤه { كذلك نجزي الظالمين } يدل هذا القول على ان هذا كان من شريعة يعقوب (ع) لا انهم قالوه اطمينانا وتجريا ولا انه كان دين الملك كما قيل { فبدأ }.
[12.76]
{ فبدأ } المؤذن او يوسف (ع) لانهم رجعوا او ردوا الى العزيز بعد نسبة السرقة اليهم { بأوعيتهم قبل وعآء أخيه } لئلا يرتابوا انه كان من فعلهم { ثم استخرجها من وعآء أخيه كذلك } الكيد الذى هو اخفاء الصواع وتفويض الحكم الى اخوته حتى يحكموا باسترقاق السارق موافقا لشريعة ابيهم { كدنا ليوسف } وما يترائى من تخلل اداة التشبيه بين الشيء ونفسه مدفوع بان ذلك مثل ان يقال: الانسان كزيد بتخلل الكاف بين الكلى والجزئى { ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك } فى طريقته وآداب سياسته { إلا أن يشآء الله } وقوله كذلك كدنا ليوسف رفع لتوهم الخديعة من يوسف (ع) وانه ينافى مقام النبوة { نرفع درجات من نشآء وفوق كل ذي علم عليم } الى عليم لا عليم فوقه، قيل: اخذ عمال يوسف (ع) بيد بنيامين واسترقوه فرجع اخوته ضرورة اليه، وقيل: رجعوا اول المشاجرة اليه.
[12.77]
{ قالوا } لشدة حزنهم وغيظهم { إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل } اشارة الى منطقة اسحاق (ع) التى ورثتها عمته فربطتها فى حقوه لتأخذه حبا له، وقيل ان: ليان ابارا حيل ام يوسف (ع) كان يعبد الاوثان وكان له صنم من الذهب فأخذه يوسف (ع) خفية واعطاه امه ترحما على جده فى استخلاصه من عبادة الصنم، وعلى امه فى استخلاصها من الفقر، وقيل: انه كان يأخذ الطعام من خوان ابيه ويعطيه الفقراء خفية، وقيل: انه اخذ شاة من اغنام ابيه واعطاها فقيرا خفية، والاول هو المروى عن ائمتنا (ع) والمشهور عند اهل مذهبنا { فأسرها يوسف } اى كلمة قد سرق اخ له من قبل ليعيرهم بها، او اسر هذه الكلمة من حيث كذبها، واسر كلمة انتم شر مكانا فيكون من قبيل العود على ما تأخر ويكون قوله قال انتم شر مكانا بدلا منه ويكون المعنى اسر مقالة انتم شر مكانا { في نفسه ولم يبدها لهم } يعنى { قال } فى نفسه { أنتم شر مكانا } مرتبة ومنزلة اى حالا او نسب الشر الى المكان والمحل مجازا للمبالغة فى وصفهم بذلك يعنى ان كان نسبة السرقة الى اخيه صحيحة فانتم شر منه حيث دخلتم فى امر فيه اذى ابيكم النبى (ع) من الله وان لم يكن فى الشر معنى التفضيل فالمعنى واضح { والله أعلم بما تصفون } من نسبة السرقة الى يوسف (ع)، ولما تذكروا حال ابيهم وحزنه وعهدهم المؤكد باليمين فى رد بنيامين انقبضوا والتجأوا الى يوسف (ع) وعلى سبيل التضرع والاستكانة.
[12.78]
{ قالوا يأيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا } ذكروا فى مقام استرحامه اوصافا ثلاثة: ابوته له الموجبة لحزنه بفراقه، وشيخوخته المستلزمة للترحم، وغاية كبره فى السن مبالغة فى الشيخوخة او فى المنزلة المستلزمة لمراعاته { فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين } فى أخذ أحدنا عوضه او مطلقا او الينا سابقا.
[12.79]
{ قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده } استثناء مفرغ من الموجب لكون المستثنى منه محدودا اى ان نأخذ احدا منكم الا من وجدنا منكم متاعنا عنده، او من المنفى باعتبار المعنى لان المعنى ما نأخذه الا من وجدنا متاعنا عنده، او لفظة الا بمعنى الغير وكان الاصل نأخذ واحدا الا من وجدنا متاعنا عنده ثم حذف الموصوف واقيم الصفة مقامه { إنآ إذا لظالمون } فى استرقاق من لا يستحق الاسترقاق؛ هذا بحسب الظاهر واما بحسب الواقع فالمعنى انا لظالمون فى اخذ من لم يأذن الله لى او فى اخذ من لم نجد متاعنا اى السنخيه منا عنده.
[12.80]
{ فلما استيأسوا منه } بعد الالتجاء والمسئلة وعدم الاجابة { خلصوا } من اصحاب العزيز وانفردوا عنهم { نجيا } للنجوى او متناجين والافراد لكونه مصدرا او وصفا شبيها بالمصدر { قال كبيرهم } فى السن وهو روبيل، او كبيرهم فى الامر والحكم وهو شمعون، او كبيرهم فى العقل وهو يهودا كذا قيل { ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله } نسب الوثيقة الى الله لانه (ع) استشهد به وقت العهد { ومن قبل } عطف على محذوف اى اخذ موثقا حين المسافرة الى مصر ومن قبل، وعلى هذا فلفظة ما فى قوله { ما فرطتم في يوسف } نافية والجملة مستأنفة او حيالية والمعنى ما فرطتم فى حق يوسف (ع) على سبيل التهكم او ما فرطتم فى التعدى على يوسف (ع) او ما استفهامية تعجبية او ما زائدة وحينيذ فقوله من قبل مثل سابقه وفرطتم جملة مستأنفة، او حالية او من قبل متعلق بفرطتم والجملة حالية، او معطوفة على جملة الم تعلموا او ما مصدرية وما فرطتم وفى يوسف معطوفان على اسم ان وخبرها ومن قبل حال او ما فرطتم عطف على ان واسمها وخبرها ومن قبل حال، وفى يوسف متعلق بفرطتم، او من قبل خبر ما فرطتم والجملة عطف على اسم ان وخبرها، او على ان وما بعدها او ما موصولة واعرابها كاعراب المصدرية { فلن أبرح الأرض } ارض مصر { حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي } باستخلاص اخى او بالفرج لى باى نحو شاء { وهو خير الحاكمين } حكاية مجادلة اخوة يوسف (ع) معه مذكورة فى المفصلات.
[12.81]
{ ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يأبانا إن ابنك سرق } على ما شاهدنا { وما شهدنآ إلا بما علمنا } حيث رأينا استخراج الصواع من رحله { وما كنا للغيب حافظين } حتى نعلم باطن امره وانه سرق او نسب الى السرقة من غير جرم، وقيل: المعنى كنا نحفظه حين حضوره عندنا عن امثال ما نسب اليه من السرقة وما كنا فى غيبه حافظين له لعدم امكان الحفظ حينئذ، وقيل: الغيب بمعنى الليل فى لغة حمير والمعنى وما كنا فى الليل حافظين له عن مثل السرقة، وقيل: انه جواب لسؤال يعقوب (ع) حيث قال: من قال للملك جزاء السرقة الاسترقاق؟ قالوا: نحن قلناه، قال: فلم قلتم ذلك؟ - قالوا ما شهدنا الا بما علمنا من شريعة الانبياء (ع) وما كنا للغيب حافظين حتى نعلم ان الصواع فى رحله.
[12.82]
{ وسئل القرية } بارسال من يسئل أهلها عن تلك القضيته او بالمسئلة ممن كان فى العير من اهل مصر { التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون } تصريح بصدقم اللازم من اخبارهم تأكيدا ولذلك اكدوه بان واللام واسمية الجملة وهو عطف على ان ابنك سرق وتوسيط قوله واسئل القرية ويكون واسئل القرية الى الآخر لاشعاره بعلة صدق ادعاء الصدق، ويحتمل ان يكون وصية كبيرهم الى قوله واسئل القرية من كلام الراجعين الى يعقوب (ع) حين المخاطبة معهم ويكون المعنى فرجعوا وقالوا لابيهم ان ابنك سرق فكذبهم يعقوب (ع) فقالوا واسئل القرية.
[12.83]
{ قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا } معنى ظاهره ان ابنى ما سرق وانكم تكذبون وخدعتمونى فى اذهابه، كما ان معنى هذه الكلمة كان فى قصة يوسف (ع) هكذا والحال انهم ما خدعوا فى بنيامين وما كذبوا فى اتهامه بالسرقة وما سولت لهم انفسهم فى حقه امرا، ويعقوب (ع) كان نبيا ولم يفرق بين القضيتين والجواب ان المعنى بل سولت لكم انفسكم فى يقينكم بنسبة السرقة اليه والحال انه ما سرق او سولت لكم انفسكم وزينت اصراركم على اذهابه بمظنة تكثير النفع غافلا عن تقديري الرب فجعلتمونى مضطرا فى الاذن وادخلتموه فى الضرر { فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم } بثلاثتهم { جميعا } فان الصبر مفتاح الفرج { إنه هو العليم } بعواقب الامور ولعل الابتلاء بفراقهم كان خيرا لى ولهم { الحكيم } فى فعاله يفعل ما يقتضيه حكمته وهو تسلية لنفسه وتسهيل للصبر على البلاء.
[12.84]
{ وتولى عنهم } رغبة فى الخلوة والعزلة لغاية الحزن لما رأى ان اقباله على اولاده واعتماده عليهم ذهب بثلاثة منهم تنبه ان الاعتماد على الغير يوجب التضرر وتولى عنهم ولكن لما كان حب يوسف (ع) قويا فى قلبه لم يقو على التسلى عنه { وقال يأسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن } كناية عن العمى، وقيل عن كثرة البكاء لان الحدقة اذا اغرورقت فى الدمع تترائى مبيضة { فهو كظيم } بمعنى مكظوم اى مملو من الغيظ على اولاده او من الحزن على يوسف (ع) او بمعنى كاظم مثل الكاظمين الغيظ اى ممسك غيظه او حزنه غير مظهر الا الخير، والفاء للسببية المحضة مشعرة بسببية ما بعدها لما قبلها سببية ما قبلها الاعتقاد بما بعدها.
[12.85-87]
{ قالوا } بعد ما رأوا انه ما زال يذكر يوسف (ع) بعد طول المدة وكثرة البلايا لانهم كانوا قد غلب عليهم القحط وطال مدة فراق يوسف (ع) قريبا من ثمانين سنة او سبعين او اربعين او اثنتين وعشرين او ثمانى عشرة { تالله تفتؤا } بحذف لا اى لاتفتؤ { تذكر يوسف حتى تكون حرضا } مريضا مشفيا على الهلاك { أو تكون من الهالكين قال إنمآ أشكو بثي } بلائى من البث بمعنى الشر { وحزني } وما اتجرعه من البلاء { إلى الله } لا اليكم فدعونى وشأنى { وأعلم من الله } من قبل الله بايحائه الى حيوة يوسف (ع) ووصاله لى او من رحمته وانه لا يبتلى الا ويأتى بعده بالفرج { ما لا تعلمون يبني اذهبوا فتحسسوا } تفحصوا { من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله } من فرجه { إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون } فخرجوا الى مصر فى طلب اخوتهم.
[12.88]
{ فلما دخلوا عليه } على يوسف (ع) { قالوا يأيها العزيز مسنا وأهلنا الضر } المجاعة { وجئنا ببضاعة مزجاة } ردية غير عزيزة القيمة وكانت مقلا او دراهم ردية لا تنفق فى ثمن الطعام او خلق الجوالق والحبل ورث المتاع او الصوف والسمن اللذين هما متاع العرب او الصنوبر وحبة الخضراء او اقطا او النعال والادم { فأوف لنا الكيل } كما اوفيت لنا سابقا { وتصدق علينآ } بلا ثمن او بأخينا بنيامين { إن الله يجزي المتصدقين } وقد كانت الشدة بلغت بهم الغاية مع الخجلة عما نسب اليهم من السرقة ولذلك استكانوا غاية المسكنة وعرفهم يوسف (ع) نفسه ورق لهم وفرج عنهم و { قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه }.
[12.89]
{ قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه } ولما رأى خجلتهم من معرفته وما صنعوا به اعتذر عنهم فقال { إذ أنتم جاهلون } ولعله كان المراد بما فعلوا بأخيه اذلالهم له لأنه ما كان يقدر على التكلم معهم الا بالعجز والانكسار. روى عن الصادق (ع) كل ذنب عمله العبد وان كان عالما فهو جاهل حين خاطر بنفسه معصية ربه فقد حكى الله تعالى قول يوسف (ع) لاخوته هل علمتم ما فعلتم بيوسف واخيه اذا انتم جاهلون فنسبهم الى الجهل لمخاطرتهم بانفسهم فى معصية الله.
[12.90-91]
{ قالوا أإنك لأنت يوسف } استفهام تقريرى؟ حيث علموا من مكالمته انه يوسف (ع) ولذلك أكدوه بتأكيدات، وقرئ بدون همزة الاستفهام على الاخبار او على حذف اداة الاستفهام، وقرئ آنك بالمد على تخفيف الهمزة الثانية { قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينآ } برفع منزلتنا واعطاء الملك والسلطنة لنا { إنه من يتق } الله فى مخالفة رضاه { ويصبر } على البلاء والطاعات وعن المعاصى { فإن الله لا يضيع أجر المحسنين قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين } اعترفوا بخطائهم فى تدبيرهم فى مقابلة التقدير او بخطائهم فى خلاف طاعة الله ورضا ابيهم، ولما رأى خوفهم من عتابه ومن عقوبة الله آمنهم من ذلك و { قال لا تثريب عليكم اليوم }.
[12.92]
{ قال لا تثريب عليكم اليوم } فلا تخافوا من عتابى { يغفر الله لكم } فلا تخافوا من عقوبته { وهو أرحم الراحمين } عطف فيه معنى التعليل او حال كذلك او عطف او حال لازدياد رجائهم يعنى يغفر لكم ويتفضل عليكم فوق المغفرة لانه ارحم الراحمين.
[12.93-94]
{ اذهبوا بقميصي هذا } وقد ابتل القميص بدموعه او كان قميص ابراهيم (ع) الذى اتى به جبرئيل من الجنة حين القاء نمرود فى النار فصارت بردا وسلاما وقد جعله ابراهيم (ع) تعويذا لاسحاق (ع) وجعله اسحاق (ع) تعويذا ليعقوب (ع) وجعله يعقوب (ع) تعويذا ليوسف (ع) على اختلاف الاخبار { فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين ولما فصلت العير } عير اخوة يوسف (ع) التى فيها القميص عن مصر { قال أبوهم } لمن حضره { إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون } تنسبونى الى الفند والخرافة من الكبر.
[12.95-96]
{ قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم فلمآ أن جآء البشير } يهودا ابنه او ابن الجارية الذى باعه يعقوب (ع) فى صغره { ألقاه } اى القميص { على وجهه فارتد بصيرا } لانتعاش الشوق والحرارة الغريزية { قال ألم أقل لكم } استفهام تعجب والمحكى محذوف يعنى ان يوسف حى وانى الاقيه او المحكى قوله { إني أعلم من الله ما لا تعلمون } وقد نقل مكاتبات يعقوب (ع) وعزيز مصر بعد المجاعة وارتهان واحد من ابنائه واسترقاق بنيامين من غير علم منه بان العزيز هو يوسف (ع) وكيفية تظلم يعقوب (ع) الى يوسف (ع) وتأديب الله اياه ببث شكواه الى غيره تعالى فى المفصلات.
[12.97-98]
{ قالوا يأبانا استغفر لنا ذنوبنآ } تضرعوا اليه وتابوا مما فعلوه واعترفوا بسوء فعالهم { إنا كنا خاطئين قال سوف أستغفر لكم ربي } تسويف الاستغفار كما فى الاخبار كان لانتظار وقت السحر لان جنايتهم كانت على غيره فانتظر اشرف الاوقات رجاء الاجابة، واما يوسف (ع) فان جنايتهم كانت على نفسه فبادر الى الاستغفار { إنه هو الغفور الرحيم } روى ان بينهم وبين يوسف (ع) كان مسير ثمانية عشر يوما واسرع العير التى جاءت بالبشارة فى تسعة ايام وسافر يعقوب (ع) مع اولاده ايضا فى تسعة ايام.
[12.99]
{ فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه } يعقوب وامه راحيل وروى ان امه توفيت فى نفاس بنيامين وتزوج يعقوب باختها خالة يوسف (ع) واسمها كانت يا ميل او يامين وتسمية الخالة اما شائعة وكانت مربية ليوسف (ع) وتسمية المربية ايضا أما شائعة { وقال ادخلوا مصر إن شآء الله آمنين } الاستثناء للتيمن ولذلك قدمه على آمنين حالا من فاعل ادخلوا وانما دخلوا عليه قبل دخولهم مصر لانه استقبلهم ونزل لهم فى بيت او مضرب خارج مصر. عن الصادق (ع) ان يوسف (ع) لما قدم عليه الشيخ يعقوب (ع) دخله عز الملك فلم ينزل اليه فهبط عليه جبرئيل (ع) فقال: يا يوسف (ع) ابسط راحتك فخرج منها نور ساطع فصار فى جو السماء فقال يوسف (ع) يا جبرئيل (ع): ما هذا النور الذى خرج من راحتى؟ - فقال: نزعت النبوة من عقبك عقوبة لما لم تنزل الى الشيخ يعقوب (ع) فلا يكون فى عقبك نبى، وفى خبر آخر: جعلت النبوة فى ولد لاوى اخيه الذى نهى الاخوة عن قتله، وقال: لن ابرح الارض فشكر الله له ذلك وكان انبياء بنى اسرائيل (ع) من ولده.
[12.100]
{ ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا } وكان سجودهم ذلك عبادة لله { وقال يأبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن } لم يذكر ما فعل اخوته به ونجاته منهم لئلا يكون تثريبا عليهم { وجآء بكم من البدو } لانهم كانوا اصحاب البدو والمواشى ينتقلون فى المياه والمراعى { من بعد أن نزغ الشيطان } وسوس وافسد { بيني وبين إخوتي } نسب فعل الاخوة الى الشيطان مراعاة لهم { إن ربي لطيف لما يشآء } دقيق علما وعملا لما يشاء فيدبره على ادق ما يكون بحيث لا يدرك مسالك تدبيره احد { إنه هو العليم } البالغ فى العلم { الحكيم } الكامل فى العمل، ولما تم له النعمة باتياء الملك والانجاء من المهالك والجمع بينه وبين ارحامه حين كمال العزة والسلطنة توجه الى الله وتذكر نعمة فقال { رب قد آتيتني من الملك }.
[12.101]
{ رب قد آتيتني من الملك } ظاهرا وباطنا { وعلمتني من تأويل الأحاديث } بعضا من تأويلها { فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة } ثم طلب حسن العاقبة كما احسن اليه فى الدنيا فقال { توفني مسلما وألحقني بالصالحين } الكاملين فى الصلاح، فى الخبر عاش يعقوب بن اسحاق (ع) مائة واربعين سنة، وعاش يوسف (ع) مائة وعشرين سنة، وفى الخبر: دخل يوسف (ع) السجن وهو ابن اثنى عشر ومكث فيها ثمانى عشرة سنة وبقى بعد خروجه ثمانين سنة، وعاش يعقوب (ع) بمصر حولين، وروى غير ذلك اربع وعشرين سنة.
[12.102]
{ ذلك } المذكور من قصة يوسف (ع) واخوته وحزن يعقوب (ع) وامرئة العزيز ومراودتها وسجن يوسف (ع) وسلطنته واجتماعه مع ابويه واخوته { من أنبآء الغيب } من انباء ما غاب عنك وعن غيرك { نوحيه إليك } يا محمد (ص) { وما كنت لديهم } لدى اخوة يوسف (ع) { إذ أجمعوا أمرهم } عزموا على الامر الذى اتفقوا عليه { وهم يمكرون } بالنسبة الى يعقوب (ع) ويوسف (ع) فليس علم ذلك لك الا بالوحى.
[12.103]
{ ومآ أكثر الناس ولو حرصت } على ايمانهم { بمؤمنين } استدراك بمنزلة ولكن ما اكثر الناس مع ظهور امثال تلك الآيات والاخبار المغيبة من مثلك الامى بمؤمنين بك وبرسالتك ولو حرصت على ايمانهم وبالغت فيه.
[12.104-105]
{ وما تسألهم عليه } اى على التبليغ او على الاخبار بانباء الغيب او على القرآن { من أجر } حتى يكون ذلك مانعا من ايمانهم { إن هو } اى التبليغ او الاخبار بتلك الانباء او القرآن { إلا ذكر للعالمين وكأين من آية في السماوات والأرض } فى سماوات العالم الكبير والعالم الصغير وكذا فى اراضيهما { يمرون عليها وهم عنها معرضون } فلا غرو فى اعراضهم عما ظهر منك من الآيات وهو تسلية له (ص).
[12.106]
{ وما يؤمن أكثرهم بالله } اى ما يذعن او ما يؤمن بالايمان العام او بالايمان الخاص { إلا وهم مشركون } فى الوجوب او فى الآلهة او فى العبادة او فى الطاعة او فى الولاية واقله فى الوجود والشهود .
[12.107]
{ أفأمنوا } اى الذين انكروا رسالتك او الذين آمنوا مع الاشراك تهديد لهم حتى يخلصوا التوحيد ويستوجبوا المزيد { أن تأتيهم غاشية من عذاب الله } عقوبة تغشاهم { أو تأتيهم الساعة } ساعة القيامة الصغرى او الكبرى او ظهور القائم عجل الله فرجه { بغتة } من غير ظهور علامة { وهم لا يشعرون } حتى يستعدوا ويتهيؤا لها.
[12.108]
{ قل هذه } الدعوة الى التوحيد والخلاص من الشرك وتأسيس قانون المعاش بحيث يؤدى الى حسن المعاد { سبيلي أدعو إلى الله } تفسير لهذه سبيلى مع زيادة سواء جعلت بدلا من هذه سبيلى او مستأنفة جوابا لسؤال مقدر او حالا عن سبيلى بتقدير عائد لها { على بصيرة } بصحة دعوتى لكون دعوتى عن اذن صريح من الله بلا واسطة بخلاف طريقة غيرى من الداعين الى الباطل فانهم لا بصيرة لهم بدعوتهم وصحتها لعدم كونها باذن صريح من الله بلا واسطة او بواسطة او على بصيرة بالمدعو اليه لكونه مشهودا لى صحته معاينا حقيته بخلاف غيرى من الداعين لعدم علمهم بصحة المدعو اليه وحقيته فضلا عن معاينتهم اياه او على بصيرة بالدعوة والمدعو اليه كليهما { أنا ومن اتبعني } من الداعين باذنى بلا واسطة او بواسطة فانهم ايضا على شهود بصحة الدعوة والمدعو اليه او على يقين ان لم يكن شهود فمن لم يكن دعوته باذن من الله او ممن اذن الله له ولم يكن على يقين بالدعو اليه لم يكن من اتباعه ولا على سبيله، ولما كان قوله { قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني } مشعرا بالاشراك فى الوجود لانه اثبت انانية لنفسه وسبيلا ودعوة واتباعا قال { وسبحان الله } اى اسبح الله عن الاشراك فان اثبات الكثرة بحسب مراتب الوجود توسعة للوحدة وتأكيد لها لا انها منافية لها ولذلك قال { ومآ أنا من المشركين } فى الوجود فيما اثبته.
[12.109]
{ ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا } رد لانكارهم الرسالة من البشر { نوحي إليهم } ونميزهم عن غيرهم بمحض الوحى وانت مثل سائر الرسل (ع) اتى بالمستقبل احضارا للحال الماضية واشعارا بتكرير الوحى وتجدده على الرسل (ع) { من أهل القرى } يعنى من الاناسى المتوطنين فى الارض لا من الاملاك المتنزلة من السماء المتمثلة بصور الرجال اولا من اهل البدو فان البدوى لا يستعد للرسالة وقبول الوحى { أفلم يسيروا في الأرض } ارض العالم الكبير او الصغير او ارض القرآن او ارض احكام الشريعة او ارض السير والاخبار الماضية { فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم } من الرسل والمرسل اليهم المؤمنين والمكذبين فيعتبروا بحالهم وينصرفوا عن تكذيبك ويقبلوا على تصديقك { ولدار الآخرة خير } من حسن العاقبة فى الدنيا الذى عرفتموه من اخبارهم { للذين اتقوا } الشرك وتكذيب الرسل (ع) { أفلا تعقلون } من حسن العاقبة وسوئها فى الدنيا حسن العاقبة وسوئها فى الآخرة؛ وقد قال المولوى قدس سره:
سحر رفت ومعجزه موسى كذشت
هردو را ازبام بود افتاد طشت
بانك طشت سحر جز لعنت نماند
بانك طشت دين بجز رفعت نماند
[12.110]
{ حتى إذا استيأس الرسل } هو غاية لمحذوف مدلول عليه بسابقه والتقدير فقد سمعتم طول تكذيب الامم الماضية للرسل (ع) وامهال الله اياهم او فقد كذب الامم الماضية الرسل (ع) حتى اذا استيأس الرسل (ع) عن ايمان الامم وانجاز الله وعده { وظنوا أنهم قد كذبوا } قرئ بالتشديد والبناء للمفعول وبالتخفيف والبناء للمفعول والفاعل وعلى كل القرائات يحتمل ارجاع فاعل ظنوا الى الرسل والمرسل اليهم المؤمنين والمرسل اليهم المكذبين وارجاع ضمير انهم الى كل وقد ورد فى الخبر فى وجه تخفيف كذبوا والبناء للمفعول وارجاع الضمائر الى الرسل انهم وكلهم الله الى انفسهم طرفة عين او اقل حتى ظنوا انهم قد كذبوا فى وعد النصر واتيان العذاب على المكذبين بتمثل الشيطان لهم بصورة الملك الموحى واخبار النصر والعذاب { جآءهم نصرنا } وذلك لانه تعالى لغاية رحمته بعباده يتوانى بهم خصوصا فى وعد نزول العذاب واهلاكهم { فنجي } قرئ نجى ماضيا مبنيا للمفعول من التفعيل ومضارعا متكلما مع الغير من الافعال، وماضيا معلوما من الثلاثى المجرد { من نشآء } من الرسل (ع) واتباعهم { ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين } اتى بالمضارع الدال على الاستمرار مصرحا بوصف المهلكين من الامم الماضية بالمجرمين اشعارا بان ذلك ثابت لمن أجرم من اهل كل عصر تعريضا بامة محمد (ص).
[12.111]
{ لقد كان في قصصهم } قصص اخبار الرسل (ع) واممهم المؤمنين والمكذبين، او قصص اخبار يوسف (ع) وابيه (ع) واخوته { عبرة } ما يعتبر به ويستبصر { لأولي الألباب } فان غيرهم يمرون عليها وهم عنها معرضون يستمعونها كالاسمار { ما كان } هذا القصص او هذا الكتاب الذى فيه قصصهم { حديثا يفترى } كالاسمار المختلفة { ولكن تصديق الذي بين يديه } ولكن وحيا من الله لانه تصدق الذى بين يديه من الكتب السماوية السالفة والاخبار الحقة الماضية فى احوال الامم الماضية والشرائع السابقة { وتفصيل كل شيء } من احوال يوسف واخوته وابيه او من الامور الماضية والآتية والسنن الحقة والباطلة { وهدى } يعنى هو حقيقة الهدى من الله تصورت بصور الحروف والنقوش والمعنى الذهنية او هاديا فانه هدى باعتبار وهاد باعتبار آخر { ورحمة } من الحق تعالى متصورة كذلك نازلة اليكم او سبب رحمة { لقوم يؤمنون } فان غيرهم يضلهم ذلك القرآن او القصص ويصير نقمة عليهم، نسب الى امير المؤمنين (ع) انه قال: لا تعلموا نساءكم سورة يوسف (ع) ولا تقرئوهن اياها فان فيها الفتن، وعلموهن سورة النور فان فيها المواعظ؛ والسر فى ذلك انهن لضعف نفوسهن سريعة التأثر بالمسموع.
[13 - سورة الرعد]
[13.1-2]
{ الم } قد مضى نظائره { تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق } فى الآية وجوه من الاعراب نظير ما سلف فى اول البقرة، والمراد بالذى انزل القرآن والاحكام او القصص او الولاية { ولكن أكثر الناس لا يؤمنون الله الذي رفع السماوات } مبتدء وخبر او مبتدء وصفة والخبر يدبر الامر او يفصل الآيات مع كون يدبر الامر حالا او صفة لاجل مسمى بتقدير فيه او مستأنفا جوابا لسؤال مقدر { بغير عمد ترونها } مفهوم القيد يدل على ان هناك عمدا ولكن لا ترونها، كما روى عن الرضا (ع) ولما كان تمامية العرش بوجه بتمامية خلقه السماوات والارض والاستواء عليه والاحاطة به بعد تماميته اشار اولا الى خلقة السماوات مرتفعة المستلزمة لخلقة الارض، فان الارتفاع لا يتصور الا بتحقق الارض ثم اتى بالاستواء معطوفا بثم للاشعار بذلك فقال { ثم استوى على العرش } قد مضى معنى العرش والاستواء عليه فى سورة الاعراف { وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى } فى مدة معينة لانقضاء دورة من الفلك وبانتظام تلك المدة فى دورانها ينتظم امور العالم كما هو مشهود وهو دليل على كمال حكمته وعلمه، او كل يجرى الى غاية معلومة لجريه وهو وقت خراب السماوات والارضين { يدبر الأمر } المعلوم وهو فعله الذى هو اضافته الاشراقية المسماة بالمشية والولاية المطلقة والحقيقة المحمدية (ص)، ومعنى تدبيره انزاله من مقامه العالى وتعليقه بكل ما يتعلق به على وفق التدبير الكامل والحكمة البالغة فالمعنى ينزل الامر بالتدبير الى اراضى القوابل، ولما كان الآيات فى مقام الامر بنحو الاجمال والوحدة موجودة بوجود واحد جمعى وبعد التنزيل الى مقام الكثرة تصير موجودة بوجودات متكثرة مفصلة قال بعد ذلك { يفصل الآيات } التكوينية الآفاقية والانفسية والتدوينية القرآنية { لعلكم } بتدبير الامر على ما اقضته الحكمة من غير نقص وفتور فيه وبتفصيل الآيات الدالة على كمال قدرة صانعها وتكثيرها تعلمون ان لها صانعا عليما حكيما قديرا ترجعون اليه وبعد ذلك العلم { بلقآء ربكم توقنون } فيكون عملكم على ما يرتضيه لا على ما يسخطه.
[13.3]
{ وهو الذي مد الأرض } بسطها لستهيل توليد النبات والحيوان فيها وتعيشها على اكمل وجه { وجعل فيها رواسي } جبالا ثوابت لتسهيل اخراج الماء من تحتها واجرائها على وجه الارض لسقى الزروع والاشجار ولذلك ضم الانهار الى الجبال فقال { وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين } فائدة التأكيد بالاثنين الاشعار بان الاهتمام بالعدد لا بالجنس فقط والمراد بالاثنين الحاصل فى الجبال والجزائر من دون تربية مرب، والمغروس والمزروع فى البساتين والمزارع بتربية الانسان كما فى قوله
ثمانية أزواج من الضأن اثنين
[الأنعام:143] الآية { يغشي الليل النهار } يستره ويحيط به { إن في ذلك } المذكور { لآيات } عديدة { لقوم يتفكرون } باستعمال عقولهم فى المبادى واستنباط الغايات منها وترتيب الحكم والمصالح عليها، ولما كان فى رفع السماوات وجعل الارض وسطها وتسخير الشمس والقمر فى جريهما وفى تدبير الامر وتعليقه بكل على حسب حاله، وفى مد الارض وجعل الرواسى والانهار والاشجار والاثمار والليل والنهار مصالح لا تحصى وحكم لا تضبط وآيات لا تعد والانتقال اليها يحتاج الى استعمال المتخيلة باستخدام العقل والانتقال من المبادى اليها خصصها بالمتفكرين بخلاف ما بعده، فان كثرتها ليست بهذه المثابة ولذا اكتفى فيه بمحض العقل.
[13.4-6]
{ وفي الأرض قطع متجاورات } متلاصقات مختلفات فى الاثر والزرع { وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان } نخلات من اصل واحد { وغير صنوان يسقى بمآء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل } فى الثمر والحبوب من حيث المقدار والشكل واللون والطعم { إن في ذلك لآيات } دالة على علمه وقدرته وكمال حكمته وعلى ان الاناسى وان كانوا من اصل واحد قد يختلفون فى الآثار والاعمال والاخلاق { لقوم يعقلون وإن تعجب } يا محمد (ص) من انكارهم المعاد مع ظهور دلائله، او ان تعجب ايها المنكر للمعاد والاحياء بعد الاماتة، او الخطاب عام لكل من يتأتى منه الخطاب { فعجب } تعجبهم عن الاعادة و { قولهم أإذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد }
اعلم، ان الانسان كالعالم الكبير ذو مراتب كثيرة بعضها بالامكان وبعضها بالفعل فمرتبة منه البدن الجسمانى، ومرتبة منه النفس النباتية، ومرتبة منه النفس الحيوانية، ومرتبة منه النفس الانسانية، ومرتبة القلب، ومرتبة الروح، وهكذا الى ما لا خبر عنه ولا اسم ولا رسم واكثر الناس لما لم يتجاوزوا المدارك الحيوانية ولم يشاهدوا بالشعور التركيبى المراتب المجردة من الانسان بل حصروه فيما شاهدوا منه من مرتبته الجسمانية وفعليته الطبيعية وشاهدوا ان الموت يفنى تلك المرتبة ويفسدها، ولم يعلموا ان انسانية البدن انما كانت عرضية بعرض تعلق النفس الانسانية به وانه حجاب للانسانية مانع عن ظهورها وفعليتها ولولاه لانجلت كمال الانجلاء قالوا متعجبين: ائذا متنا! بنسبة الموت الى انفسهم باعتبار موت البدن وكنا ترابا! بنسبة الترابية والفساد الى انفسهم بترابية البدن وفساده ائنا لفى خلق جديد؟! ولو انهم علموا ان البدن مرتبة نازلة من الانسان بل حجاب وقيد له وان الانسان حقيقة مجردة منزهة عن الفساد باقية دائمة لما قالوا ذلك { أولئك الذين كفروا بربهم } وقدرته وسعته ونعمته البالغة فى حق الانسان وتوسعته وبسطه بحسب مراتب العالم { وأولئك الأغلال } الناشئة من الطبع والنفس الحيوانية { في أعناقهم } فلا يقدرون على ان يرفعوا رؤسهم فيشاهدوا مقامات الانسان فيعلموا ان فساد البدن لا يفنيه بل يقويه { وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ويستعجلونك بالسيئة } بالعذاب والعقوبة { قبل الحسنة } يعنى دون الحسنة فانه يستعمل تلك الكلمة فى هذا المعنى كثيرا { وقد خلت } والحال انه قد مضت { من قبلهم المثلات } جمع المثلة بفتح الميم وضم الثاء وفتحها بمعنى العقوبة من مثل بفلان نكل والمعنى قد مضت العقوبات على الامم الماضية الذين صاروا امثالا فى الاشتهار و لا يعتبرون بها لغاية حمقهم وجهلهم، وقرئ المثلات بفتح الميم وضم الثاء او سكونها، وبضم الميم وضم الثاء او سكونها، وبفتح الميم والثاء، ونسب الى امير المؤمنين وامام المتقين (ع) انه قال: احذروا ما نزل بالامم من قبلكم من المثلات بسوء الافعال وذميم الاعمال فتذكروا فى الخير والشر احوالهم واحذروا ان تكونوا امثالهم { وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم } فلذا لا يجيبهم عن استعجالهم بالعذاب { وإن ربك لشديد العقاب } اذا اخذ العباد.
[13.7]
{ ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه } وضع الظاهر موضع المضمر اشعارا بان كفرهم بالله ستر عنهم الآيات الدالة على صدقه فاقترحوا نزول آية من الآيات كأنه لم ينزل عليه شيء من الآيات { إنمآ أنت } بشأن الرسالة لا بشأن الولاية { منذر } فلا بأس عليك آمنوا او لم يؤمنوا، قبلوا او لم يقبلوا، وهو تسلية له (ص) عن عدم اجابة قومه { ولكل قوم هاد } فى عصرك ومن بعدك وقد مضى معنى الانذار وان الرسول كمن ينبه من النوم وينذر من المخاوف من كان فى بادية لا طريق فيها الى عمران وكان فيها سباع كثيرة وحيات مهلكة وموذيات قوية ولم يشعر بضلالته وبمهلكات تلك البادية فاذا تنبه وأنذر طلب لا محالة من يدله على طريق العمران ويخرجه من تلك البادية، وذلك الدال هو الهادى الذى يوصله الى المعمورة.
[13.8]
{ الله يعلم } استيناف كلام لاظهار كمال علمه وقدرته فى مقابل الآلهة التى هى فى كمال العجز والجهل ليكون حجة على صحة دعوته وبطلان دعوتها { ما تحمل كل أنثى } من كل نوع من الحيوان يعلم عدد المحمول وذكره وانثاه وحسنه وقبيحه { وما تغيض الأرحام } قد فسر فى الاخبار غيض الارحام بنقصان عدد الايام عن تسعة اشهر وبعدم الحمل، وفسر بمطلق النقص سواء كان فى عدد الايام او الخلقة او فى نقص الرحم بعدم الحمل او فى اسقاط الجنين قبل التمام، وعلى هذا يجوز حمل ما تحمل على مدة تحمل فيها يكون ما مصدرية او موصولة { وما تزداد } على تسعة اشهر او مطلق الزيادة فى الخلقة او فى عدد الايام او فى عدد المحمول بان يكون اثنين او ثلاثة، وقد ورد فى الاخبار ان المرأة ما رأت الدم فى ايام الحمل يزداد عدد الايام على تسعة اشهر بعدده { وكل شيء عنده بمقدار } لا يتجاوزه ولا ينقص عنه.
[13.9]
{ عالم الغيب } ما غاب عن المدارك البشرية { والشهادة } ما يشهده المدارك او عالم عالم الغيب وعالم الشهادة { الكبير } الذى لا يوصف { المتعال } على كل شيء بعظمته.
[13.10-11]
{ سوآء منكم } فى علمه { من أسر القول } يعنى قول من اسر القول { ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب } بارز { بالنهار له } اى لله او لمن اسر القول ومن جهر به { معقبات } ملائكة يعقب بعضهم بعضا، من عقبه تعقيبا اذا جاء بعقبه { من بين يديه ومن خلفه يحفظونه } حفظا ناشئا { من أمر الله } او من اجل امر الله، عن الصادق (ع) انه قرئ الآية عنده هكذا فقال لقاريها: الستم عربا؟! فكيف يكون المعقبات من بين يديه؟ وانما المعقب من خلفه فقال الرجل: جعلت فداك كيف هذا؟ - فقال: انما انزلت له معقبات من خلفه ورقيب من بين يديه يحفظونه بأمر الله ومن ذا الذى يقدر ان يحفظ الشيء من امر الله وهم الملائكة الموكلون بالناس، وعن الباقر (ع) من امر الله يقول بأمر الله من ان يقع فى ركى او يقع عليه حائط او يصيبه شيء حتى اذا جاء القدر خلوا بينه وبينه الى المقادير وهما ملكان يحفظانه بالليل وملكان بالنهار يتعاقبانه، وقيل: يحفظونه من امر الله بالاستمهال والاستغفار { إن الله لا يغير ما بقوم } من النعم { حتى يغيروا ما بأنفسهم } من حسن الحال والطاعة والبر وصلة الارحام { وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال } يعنى لا ناصر سواه ولا متولى لامور الناس غيره.
[13.12]
{ هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا } خائفين وطامعين او اراءة خوف وطمع او يريكم من البرق خوفا وطمعا يعنى يظهر فيكم ذلك { وينشىء السحاب الثقال } بالماء يعنى يرفعها الى السماء.
[13.13]
{ ويسبح الرعد بحمده } وتسبيح كل بحسبه وكذا حمده { والملائكة من خيفته } واجلاله { ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشآء } فيهلكه { وهم } لغاية جهلهم وعنادهم وعدم تدبرهم فى تسخرهم تحت تلك المسخرات { يجادلون في الله } ومبدئيته ومرجعيته وتفرده بالآلهة واستحقاق العبادة وسائر صفاته { وهو شديد المحال } المماحلة المكائدة، او شديد القوة من المحل بمعنى القوة وفسر بشديد الاخذ وشديد الغضب وهما من لوازم ما ذكر.
[13.14]
{ له دعوة الحق }.
اعلم، ان الحق المطلق هو الاول تعالى والحق والمضاف هو فعله وكل حق حق بحقية فعله بل متحقق بفعله الذى هو الولاية المطلقة كما مر مرارا، وكل قول وفعل وخلق يكون عن ولاية اختيارية كما انها آثار اخيتارية فهو حق بحقيتها، وكل مأذون من الله بلا واسطة لدعوة الخلق اليه تعالى او لدعوة الخلق اياه وسيلة بينهم وبين الله فهو داع حق ومدعو حق، ودعوة كل داع حق وكل مدعو حق هى دعوة الله تعالى ومنتهية اليه وخاصة به لا مدخلية لاحد فيها من حيث ان الداعى والمدعو الحقين مظهران له تعالى وما يظهر ويتعلق بهما يظهر ويتعلق بالله، واما دعوة الداعى الباطل كخلفاء الجور ودعوتهم الى الاسلام والى الله وكذا دعوة الخلق المدعو الباطل كالاصنام والكواكب وخلفاء الجور باطلة وضائعة كنفس الداعى والمدعو حيث لا يترتب عليه شيء ولا ينتهى به الى شيء، وبالجملة كل من لم يأذن الله فى كونه داعيا للخلق او للوسائط بينه وبين الله او مدعوا باطل كائنا من كان ودعوته ايضا باطلة، وعلى هذا فقوله { والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء } يحتمل ان يكون معناه والداعون الذين يدعون الخلق الى اتباعهم من دون اذن الله او حال كونهم من غير الله لا يستجيب المدعوون لهم بشيء وان يكون معناه والمدعوون الذين يدعوهم الخلق من دون اذن الله او من غير الله لا يستجيب المدعوون للخلق بشيء { إلا كباسط كفيه إلى المآء } الا كاجابة الماء لمن بسط كفيه مشيرا اليه وداعيا الى نفسه او مغترفا له { ليبلغ } الماء { فاه وما هو ببالغه } لعدم استشعاره بالاشارة او عدم حصوله فى الكف المبسوطة { وما دعآء الكافرين } لله { إلا في ضلال } لان الكافر دعاءه لله دعاء للشيطان من حيث لا يشعر او ما دعاء الكافرين للخلق الى انفسهم او الى الله او الى غيرهما، او ما دعاء الخلق للكافرين الا فى ضلال فى ضياع وعدم ترتب الأثر وهو كالنتيجة لسابقه.
[13.15]
{ ولله } لا لغيره { يسجد من في السماوات } من فى { والأرض طوعا وكرها } السجود لغة الخضوع ولما كان غاية الخضوع السقوط على التراب لمن يخضع له سمى سجدة الصلاة بالمواضعة الشرعية بالسجود واذا كان الخضوع عبارة عن كسر الانانية عند من يخضع له فكلما كان هذا المعنى اتم كان الخضوع اكمل. ولما كان جميع الموجودات بالنسبة اليه تعالى لا انانية لها بل كلها لها حكم الاسمية وعدم النفسية بالنسبة اليه تعالى ونفسية الكل هى انية الحق الاول تعالى كان الكل سماواتها وسماوياتها وارضوها وارضياتها ذو وعلمها وغير ذوى علمها ساجدة لله لعدم انانية لها بالنسبة اليه تعالى، لكن الشاعرين منها اكثرهم يسجدون طوعا كالاملاك بانواعها وبعض الاناسى والجن وبعضهم لا يسجدون الا كرها كبعض الاناسى وبعض الجن فان الكفار منهما لا يسجدون لله طوعا اختيارا ومن لا يسجد طوعا لله بلا واسطة يسجد له طوعا بواسطة مظاهره، فان نفوسهم فطرية التعلق فاذا لم تتعلق بالله تعلق بغيره من مظاهره من كوكب وصنم وغيره واقله الدراهم والدنانير والمواليد الثلاثة تسجد بصورها ونفوسها تكوينا طوعا وبعناصرها تسجد لله كرها، لان العناصر مقسورة فى المواليد على الامتزاج، وعلى هذا فالاتيان بمن التى هى لذوى العقول اما من باب التغليب او باعتبار نسبة السجدة اليها لان السجود لا يكون الا من ذوى الشعور ويسرى حكم السجدة الى نفس السماوات والارض لما مر مرارا ان نسبة الحكم الى المظروف تسرى الى الظرف خصوصا اذا كان المظروف اشرف من الظرف { وظلالهم } جمع الظل وهو الفيء الحاصل من الشاخص الذى ينتقل بانتقاله ويسكن بسكونه وبالجملة لا انانية له الا انانية الشاخص وكل موجود علوى او سفلى له فى مقامه الخاص به حقيقة وله اظلال فى العالم الاعلى والاسفل منه والموجودات الطبيعية الارضية من المواليد لها اظلال صورية حاصلة من محاذاة الشمس والكل سجد لله وآخرون طوعا { بالغدو } جمع الغدوة { والآصال } جمع الاصيل وما ورد فى الاخبار فى تفسير الظلال يرتفع اختلافه مما ذكرنا، والسجود وكذا الغدو والآصال فى كل بحسبه.
[13.16]
{ قل من رب السماوات والأرض قل الله } اجب عنهم بذلك لانه لا جواب لهم سواه { قل أفاتخذتم من دونه أوليآء } تقريعا وتوبيخا لهم على ذلك بعد الاعتراف بربوبيته لهما { لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا } فكيف بغيرهم من امثالهم فضلا عن تربية السماوات والارض اللتين لا يصلون اليهما ولا يحيطون بهما ولا بعلمها { قل هل يستوي الأعمى } الذى لا يبصر طريق ضره ولا نفعه { والبصير } الذى يبصر غيره ويحيط بضره ونفعه ويتصرف فيه كيف يشاء او هل يستوى الاعمى الذى لا يفرق بين من لا يضر ولا ينفع ومن يضر وينفع كالمشرك والبصير الذى يبصر ذلك ويفرق كالمؤمن { أم هل تستوي الظلمات } كالكفر { والنور } كالايمان { أم جعلوا لله شركآء خلقوا كخلقه } صفة لشركاء { فتشابه الخلق عليهم } ولتشابه خلقهم وخلق الله حكموا باستحقاق عبادتهم والحال انهم اتخذوا شركاء عاجزين غير قادرين على ما قدروا بانفسهم عليه { قل الله خالق كل شيء } فهم مخلوقون فضلا عن كونهم خالقين { وهو الواحد } الذى لا يبقى معه شيء فى الوجود فلا وجود لشيء سواه فضلا عن الخالقية وغيرها من الاوصاف { القهار } الذى كل شيء فان تحت وجوده مضمحل لا انانية له.
[13.17]
{ أنزل من السمآء مآء } جواب لسؤال كأنه قيل: ان كان هو الواحد الذى لا ثانى له القهار الذى لا انانية لشيء معه فما هذه الكثرات المشهودة؟ - فقال: انزل من السماء ماء فظهر الكثرات فلا انانية ولا ظهور لشي منها الا بذلك الماء الذى هو فعله بل هو هو لا غير والمقصود تمثيل ظهور الكثرات من امر واحد هو فعل الله وقوامها بذلك الامر بنزول الماء الذى هو حقيقة واحدة من الجهة الواحدة التى هى السماء وتكثره بتكثر الاودية وظهور الزبد الغير النافع عليه { فسالت أودية بقدرها } نسبة سالت الى الاودية مجاز { فاحتمل السيل زبدا رابيا } مرتفعا على السيل { ومما يوقدون عليه في النار } ومن الفلزات التى يوقد الناس عليها النار حال كونها فى النار { ابتغآء حلية } كما يصاغ من الدهب والفضة وغيرهما { أو متاع } ما يتمتع به كالاوانى وآلات الصنائع وغيرها { زبد مثله } مثل زبد الماء يعنى ان الزبد الغير النافع لا اختصاص له بالماء والسيل بل يكون فى الجوامد والفلزات التى تذاب بالنار، والمقصود ان الباطل لا اختصاص له بالتعينات الامكانية التى هى كزبد الماء بل النفوس البشرية التى هى كالفلزات فى شدة تراكمها وصلابتها تتحمل زبد باطل الاهوية { كذلك يضرب الله الحق والباطل } يعنى ان مثل ظهور الحق واختلاطه بالباطل مثل نزول الماء واختلاطه بالزبد فالممثل له بحسب مراتب الوجود يحتمل وجوها وكذا بحسب مراتب العلم اى الوجود الذهنى. فنقول بحسب التطبيق على الممثل له، انزل من سماء الاسماء ماء المشية فسالت اودية المهيات قدرها فاحتمل الماء السائل فى اودية المهيات زبد التعينات والتكثرات، فاما الماء الذى هو حقيقة متحققة فيبقى، واما الزبد وان كان ساترا لوجه الماء ظاهرا فى الانظار دون الماء بحيث لا يدرك القاصرون فى الادراك الا ذلك الزبد والتعينات حتى قالوا: ان الوجود اعتبارى صرف وان المهيات اصيلة فى التحقق فهو باطل مضمحل متلاش كل شيء هالك الا وجهه، وانزل من سماء المشية ماء وجودات الاشياء فسالت اودية المهيات الى الآخر، وانزل من سماء العقول ماء وجود النفوس وما دونها فسالت اودية النفوس وعالم المثال وعالم الطبع بقدرها الى الآخر، وانزل من سماء عالم المثال ماء وجود عالم الطبع الى الآخر، هذا فى الكبير، واما فى الانسان الصغير فنقول: انزل من سماء الارواح ماء الحياة فسالت اودية المدارك الحيوانية والمراتب النباتية الى مقام الطبع فاحتمل السيل زبد الاخلاق الرذيلة والاهوية الردية والافعال الذميمة كما ان الاخلاق الحسنة والاشواق الآلهية والافعال المرضية متحققة بذلك الماء، واما بحسب العلم والذهن وهو عين وخارج بوجه فنقول: انزل من سماء الولاية ماء النبوة والرسالة فسالت اودية القلوب والصدور بحسبها فبعض بحسب استعداد الاتصاف بالنبوة والرسالة وبعض بحسب استعداد قبول احكامها فاحتمل السيل زبد مقتضى الاهواء من الآراء الباطلة والبدع العاطلة المختلطة بمرور الازمان بأحكام الرسالة والنبوة ومنه الزيادة والنقيصة والتحريف فى الكتاب الآلهى، او انزل من سماء النبوة ماء الرسالة او من سماء الرسالة ماء الاحكام الآلهية، او انزل من سماء الروح ماء العلم فسالت اودية القلوب والصدور فاحتمل السيل زبد مداخلة الاهواء فى العلم، او انزل من سماء القلب ماء العمل فسالت اودية الصدر { فأما الزبد فيذهب جفآء } مرميا يرمى به السيل { وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض } لانتفاع اهلها { كذلك يضرب الله الأمثال } كرر ذكر كون الآية مثلا تأكيدا وتنبيها على انها بظاهرها ليست مقصودة ومنظورا اليها بل المراد بيان حال الحق والباطل بالتمثيل بأمر حسى.
[13.18]
{ للذين استجابوا } متعلق بيضرب الامثال اى يضرب الامثال لحال هؤلاء وهؤلاء يعنى حالهما كحال الماء والزبد او يضرب الامثال لبشارة هؤلاء وانذار اولئك، او يضرب الامثال لانتفاع الذين استجابوا { لربهم } الاستجابة { الحسنى والذين لم يستجيبوا له } عطف على الذين استجابوا على الاولين وهو مع ما بعده جملة مستأنفة على الثالث ويجوز ان يكون قوله للذين استجابوا خبرا مقدما للحسنى مع كون الجملة مستأنفة جوابا لسؤال مقدر ويكون المعنى للذين استجابوا لربهم العاقبة الحسنى والذين لم يستجيبوا له { لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب } بان لا تقبل لهم حسنة ولا تغفر لهم سيئة كما نسب الى الصادق (ع) او بان نوقش فى حسابهم واستقصى بهم كما فى خبر آخر { ومأواهم جهنم وبئس المهاد } المستقر.
[13.19]
{ أفمن يعلم أنمآ أنزل إليك } لفظة ما كافة او موصولة او مصدرية، وما انزل اليه اما القرآن تماما واحكام الرسالة جملة او الولاية مخصوصة { من ربك الحق كمن هو أعمى } عن علم ذلك { إنما يتذكر } بعدم تشابههما { أولوا الألباب } لا اصحاب الخيال وارباب الالف والعادات، عن الصادق (ع) انه خاطب شيعته بقوله انتم اولوا الالباب فى كتاب الله، والسر فى ذلك ان اللب هو العقل الخالص من شوب الوهم والخيال ولا يخلص العقل ما لم يتصل بصاحب العقل، والاتصال ان كان بالبيعة العامة النبوية لم يفد تخليص العقل من حيث ان الرسول (ص) ببيعته يؤسس احكام العقل باعانة الوهم والخيال فليس شأن الرسول تخليص العقل بل تخليطه بقشر الخيال، بخلاف الاتصال بالبيعة الخاصة الولوية فان صاحب البيعة الخاصة من حيث اصل الايمان شأنه تخليص العقل عن شوب الخيال وبهذا الاعتبار يصدق على المتصل به انه ذو لب وان لم يحصل بعد له لب، وايضا صاحب الولاية باعتبار ولايته لب وصاحب الرسالة باعتبار رسالته كالقشر والمتصل بالولاية مظهر لصاحب الولاية فهو ذو لب بهذا الاعتبار ايضا على ان التحقيق ان الانسان بدون تلقيح الولاية كالجوز الخالى من اللب ولا ينعقد لبه الا بالولاية، فان البيعة الولوية يدخل بها كيفية من ولى الامر فى قلب البائع وبها يتحقق الابوة والبنوة بينهما وهى الايمان الداخل فى القلب كما سبق تحقيقه فى مطاوى ما سبق.
[13.20]
{ الذين يوفون بعهد الله } صفة لاولى الالباب لبيان حالهم او استيناف كلام والخبر { أولئك لهم عقبى الدار } والمراد بالعهد هو العهد العام النبوى والوفاء به الانتهاء الى آخر اركانه الاسلامية وهو البيعة الولوية التى عبروا عنها فى الاخبار بالولاية { ولا ينقضون الميثاق } الميثاق الولاية الذى حصل لهم بالوفاء بعهد النبوة، وتسميته ميثاقا لكونه عقدا على عقد فانه بعد عقد البيعة النبوية، وفى الخبر اشارة الى ما ذكرنا.
[13.21]
{ والذين يصلون مآ أمر الله به أن يوصل } اول ما امر الله به من صلة الارحام الوصلة مع نبى الوقت بالبيعة العامة، ثم الوصلة مع ولى الوقت بالبيعة الخاصة، ثم مع المسلمين بقرابة الرحم المعنوية، ثم مع المؤمنين بقرابة الرحم الولوية، ثم مع اقربائه بقرابة الرحم الجسمانية وصلة الرحم مع النبى والولى بعد ما هو أصل من البيعتين وكذا مع كل ذى قرابة عبارة عما به يحصل اظهار المحبة والترحم واقله البشاشة فى وجهه عند لقائه والسرور به واهداء التحف اليه وقضاء حاجته { ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب } الخشية حالة حاصلة من ادراك لذة وصال المحبوب والم فراقه او سطوة عذابه، وبعبارة اخرى حالة حاصلة من ادراك ذى جمال وسطوة، وبعبارة اخرى حالة ممتزجة من الخوف والرجاء لا خوف صرف ولا رجاء محض ولذا خصصها بالرب والخوف بسوء الحساب.
[13.22]
{ والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم } وجه الرب هو ملكوت ولى الامر، وابتغاؤه عبارة عن انفتاح باب القلب حتى يظهر ويتمثل له ولى الامر بملكوته والصبر لذلك الابتغاء ان لا ينصرف عن ذكره القلبى الخفى او اللسانى الجلى، والصبر عليه يسلتزم عدم الجزع وعدم الخروج الى المهويات { وأقاموا الصلاة } باقامة الصلاة القالبية وحفظ حدودها ومواقيتها وادامة الذكر الذى هو صلاة الصدر واتصاله بالفكر الذى هو صلاة القلب وهو تمثل ملكوت الشيخ { وأنفقوا مما رزقناهم } من الاموال والاعراض الدنيوية والقوى والاعراض والجاه والحشمة ومن نسبة الافعال والصفات والانانيات الى انفسهم { سرا وعلانية } السر والعلانية فى كل مقام بحسبه، فان الانسان من اول استقرار نطفته فى الانفاق والخلع واللبس والاستعواض من الله تكوينا وبعد البلوغ بل وقت التمرين يكلف بالانفاق من الاموال بل من الفعليات السفلية وان كان لا يشاهد الأعواض ولا المنفق من القوى والفعليات سوى الاموال الدنيوية، واصل الانفاق سرا ان ينفق من فعلياته وانانيته من غير شعور منه بالانفاق والمنفق فضلا عن اطلاع الغير عليه { ويدرءون بالحسنة السيئة } الحسنة هى الولاية وكل فعل او حال او خلق كان متصلا بالولاية كان حسنة، والسيئة فى الحقيقة هى عدو على (ع) وكل فعل وخلق وحال متصل بجهته وطريقه سيئة، ويجرى الحسنة والسيئة فى كل فعل يكون مشاكلا لهما كافعال من كان غافلا عن ولاية ولى الامر { أولئك لهم عقبى الدار } عقبى الدار غلبت على العاقبة الحسنى كأن من كان له العاقبة السوءى لا عاقبة له.
[13.23]
{ جنات عدن } اقامة { يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم } بتبعيتهم فالمراد بالصلاح ههنا عدم الفساد والاستعداد للصلاح الحقيقى والا فلم يكن لهم حاجة الى ان يدخلوها بتبعية غيرهم { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب } من ابواب قصورهم فى الجنان قائلين.
[13.24]
{ سلام عليكم.. } غرف المؤمنين وقصورهم وكيفية زيارة الملائكة لهم مذكورة فى الاخبار بتفاصيلها.
[13.25-26]
{ والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه } اى عهد النبوة من بعد ميثاقه وتأكده بعهد الولاية فانه مرتد فطرى لا يقبل له توبة لا ظاهرا ولا باطنا، واما الناقض لعهد النبوة والبيعة العامة فانه يقبل توبته ظاهرا وباطنا وهو مرتد ملى لا فطرى وقد مضى تحقيق واف للاتردادين فى سورة آل عمران عند قوله:
ومن يبتغ غير الإسلام دينا
[آل عمران: 85] { ويقطعون مآ أمر الله به أن يوصل } ويحصل اصل القطع بنقض العهد كما سبق { ويفسدون في الأرض } ارض العالم الكبير والعالم الصغير وقد مضى فى سورة البقرة تحقيق تام لقطع ما امر الله به ان يوصل وللافساد فى الارض عند قوله ويقطعون ما أمر الله به ان يوصل { أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار الله يبسط الرزق } النباتى والحيوانى والانسانى { لمن يشآء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة } فى جنب الآخرة او بين الحياة الآخرة { إلا متاع } الا شيء قليل يتمتع به يسيرا.
[13.27]
{ ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه } كأنهم لم يروا منه شيئا من الآيات لعماهم وحملهم ما رأوا على السحر والعادات { قل إن الله يضل من يشآء } بجعله اعمى عن النظر فى العواقب وفى دعوة الداعى وفى آياته؛ وليست الهداية والضلالة بالآية وعدمها { ويهدي إليه من أناب } ورجع عن جهنام الطبع وفر من سجن النفس.
[13.28]
{ الذين آمنوا } بدل ممن اناب او استيناف كلام مبتدء، وطوبى لهم خبره، او خبر مبتدء محذوف { الذين آمنوا وعملوا الصالحات } بدل منه، او الذين آمنوا وعملوا الصالحات مبتدء ثان او مبتدء اول والمراد بالايمان الايمان الخاص الحاصل بالبيعة الخاصة الولوية { وتطمئن قلوبهم بذكر الله }.
اعلم، ان الانسان بعد ما آمن ودخل ما به حصول للايمان من الذكر الذى يلقنه الولى فى قلبه يحصل له اطمئنان فى الجملة بالنسبة الى حال طلبه واشتداد لوعته فيصدق عليه انه اطمئن بذكر الله الذى اخذه من ولى امره، لكن لا يحصل له اطمئنان تام الا بالوصول الى ملكوت الامام والقرار معه فاذا وصل الى ملكوت الامام واستقر معه اطمأن من غير شوب اضطراب وهيجان، وملكوت الامام ذكر الله الحقيقى فالمعنى الذين آمنوا واخذوا ذكرا ممن آمنوا بواسطته وتطمئن قلوبهم بصورة ذلك الذكر او بحقيقته التى هى ملكوت الشيخ، ولذا فسر الذين آمنوا بالشيعة الذين بايعوا بيعة خاصة ولوية وذكر الله بامير المؤمنين (ع) والائمة (ع) وفسر ذكر الله بمحمد (ص) { ألا بذكر الله تطمئن القلوب } معترضة لتأكيد هذا.
[13.29]
{ الذين آمنوا وعملوا الصالحات } حتى انتهوا الى الذكر الحقيقى فاطمئنوا بها { طوبى لهم وحسن مآب } الطوبى وصف بمعنى الطيبة والطيب، او مصدر طاب كزلفى وبشرى، او جمع طيبة كما فى القاموس او مؤنث اطيب، وفسرت فى الاخبار بشجر فى الجنة موصوف باوصاف عديدة اصله فى بيت محمد (ص) او على (ع).
[13.30]
{ كذلك أرسلناك } اى ارسلناك ارسالا مثل ذلك الارسال من قبيل تشبيه الكلى بالجزئى وتمثيله به او كذلك خبر مبتدء محذوف اى الامر كذلك وارسلناك مستأنف { في أمة قد خلت من قبلهآ أمم } حتى تكون الامم الماضية عبرة لهم وتكون انت فيهم اقرب الى التصديق من الرسل الماضية (ع) فى اممهم { لتتلوا عليهم الذي أوحينآ إليك } من القرآن والاحكام وقصص الماضين بل اصل ما اوحينا اليك وهو ولاية على (ع) { وهم يكفرون بالرحمن } اى لتتلوا عليهم حال كفرهم بالرحمن لتصرفهم عن كفرهم او لكنهم يكفرون بالرحمن { قل هو ربي لا إله إلا هو } تعميم بعد تخصيص يعنى هو ربى ورب كل شيء اذ لا اله الا هو { عليه توكلت } فى جملة امورى { وإليه متاب } يعنى لا انظر فى مبدئى ومعادى ومعاشى الى غيره بل انظر الى ربوبيته وآلهته لنفسى ولكل شيء والى حفظه ونصرته فى كل حال ولذلك توكلت عليه ولا ارى لنفسى مرجعا آخر.
[13.31-32]
{ ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى } لكان هذا القرآن، لما كان المعروف بين الناس ان من الناس من يقرأ وردا وينفخ فيما يريد من تحريك الاحجار وانزال الامطار ومن اراءة الامصار وحاضر الغياب كما هو المعروف فى زماننا هذا من المرتاضين المتشرعين وغيرهم قال: لو ان فى العالم مقروا يقرأ ويسير به الجبال الى الآخر لكان ذلك المقرو هو هذا القرآن لا غيره وهذا اوفق بقوله { بل لله الأمر جميعا } من حيث انه اضراب عن تأثير المقرو وحصر للتاثير به تعالى فكأنه قال: كل مقرو له اثر فى العالم منحصر فى هذا القرآن بمعنى انه غير خرج منه اذ لا رطب ولا يابس الا فيه، ثم اضرب وقال: بل لا اثر لشيء من الاشياء الا لله بمعنى ان كل مؤثر فانما هو مؤثر بمؤثرية الله لا بنفسه { أفلم ييأس الذين آمنوا } فسر ييأس بيعلم على لغة وقرئ يتبين فى قراءة اهل البيت (ع) وان كان على معناه المشهور فالمقصود افلم ييأس الذين آمنوا عن ايمان المشركين ويكون ما بعده تعليلا له { أن لو يشآء الله } مفعول افلم ييأس او المعنى لانه لو يشاء الله { لهدى الناس جميعا ولا يزال الذين كفروا } والحال ان اسباب الايمان حاصلة لهم من الانذارات البالغة لانه لا يزال الذين كفروا { تصيبهم بما صنعوا } فى كفرهم { قارعة } داهية تقرعهم من البلايا { أو تحل قريبا من دارهم } بامثالهم فتدهشم ويصل اليهم اثرها { حتى يأتي وعد الله } بالعذاب فى الدنيا من القتل والاسر والنهب او وعد الله بقبض ارواحهم { إن الله لا يخلف الميعاد ولقد استهزىء برسل من قبلك } تسلية له (ص) { فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم } تهديد للمستهزئين { فكيف كان عقاب } استفهام للتهويل وتطويل فى مقام التهديد.
[13.33]
{ أفمن هو قآئم على كل نفس } مراقبا لها حافظا عليها اعمالها { بما كسبت } كمن ليس كذلك { وجعلوا لله شركآء قل سموهم } هل كان لهم اسم فى المسميات او اخترعتموهم من عند انفسكم واختلقتم لهم اسماء، او المعنى صفوهم حتى يعلم هل كان لهم ما يستحقون به العبادة { أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض } يعنى بل اتخبرونه بشركاء لا يعلمهم فى الارض؟! وهو العالم بكل شيء، او اتخبرونه باستحقاق شراكة الشركاء الذى لا يعلمه فى الارض؟ وهو غاية تسفيه لهم { أم بظاهر من القول } يعنى اتخبرونه بأمر خفى لا يعلمه او بأمر جلى يعلمه كل احد؟ والتقييد بالقول لان الاخبار والانباء يتعلق بالقضايا والنسب وهى اقوال نفسانية، وقيل: المعنى ام تسمونهم شركاء بظاهر من القول من دون اعتبار حقيقة له كما تسمون الزنجى كافورا لكن ليس لما جعلتموه شركاء شيء من المذكورات { بل زين للذين كفروا مكرهم } مكر رؤسائهم الذين وضعوا لهم عبادة الشركاء واظهروا لهم بتمويهاتهم ان الشركاء يقدرون على ضر او نفع كما كانوا يخوفون الانبياء (ع) بالشركاء والاصنام { وصدوا } بتمويه الرؤساء { عن السبيل } سبيل الحق وهو سبيل القلب التى بها ظهور الولاية التكوينية وحصول الولاية التكليفية { ومن يضلل الله فما له من هاد } لان كل هاد لا يكون هدايته الا هداية الله فلا تعارض اضلال الله.
[13.34]
{ لهم عذاب في الحياة الدنيا } بانواع البلايا { ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق } فى الدنيا ولا فى الآخرة.
[13.35-36]
{ مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار } لما كان المثل عبارة عن امر تركيبى جعل خبره جملة من غير عائد لكونها عين المبتدأ { أكلها دآئم وظلها } لا كجنان الدنيا من حيث انها منقطعة الاكل والظل فى الخريف والشتاء { تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار والذين آتيناهم الكتاب } كتاب النبوة واحكامها بالتوبة على يدك وقبول الاحكام منك { يفرحون بمآ أنزل إليك } من صورة الكتاب وهو القرآن خصوصا ما انزل فيه من ولاية على { ومن الأحزاب } اى الفرق المتفرقة الذين آمنوا بك او لم يؤمنوا { من ينكر بعضه } بعض ما انزل اليك وهو ما لا يوافق أهوائهم وأغراضهم خصوصا ولاية على (ع) { قل إنمآ أمرت أن أعبد الله } اطيعه { ولا أشرك به } فى الطاعة شيئا فكيف يصح لى ان اطيع أهواءكم فيما انزل الى فأترك بعضه الذى لا يوافق اهواؤكم { إليه أدعو } لا الى غيره فلا انظر الى اهوائكم موافقة كانت او مخالفة { وإليه مآب } فلا انظر الا اليه لا الى اهوائكم.
[13.37]
{ وكذلك } المذكور من عبادة الله وعدم الاشراك والدعوة والرجوع اليه { أنزلناه } يعنى انزلناه حالكونه مثل ذلك المذكور يعنى انه وان لم يكن كله صريحا فى ذلك لكن كله راجع اليه { حكما عربيا } صادرا عن حكمة بالغة له حقيقة فى عالم العقول لا اعرابيا لا حقيقة له ولا حكمة فيه وهو حال عن ذلك او عن مفعول انزلناه { ولئن اتبعت أهواءهم } فى اخفاء ما يكرهونه وخصوصا ولاية على (ع) { بعد ما جآءك من العلم } بحقيته ومأموريتك ان تظهره { ما لك من الله من ولي } يتولى تربيتك { ولا واق } ينصرك فى شدائدك وقد مضى مرارا تفسير الولى والنصير وانهما كنايتان عن مظهر الولاية ومظهر الرسالة.
[13.38]
{ ولقد أرسلنا رسلا من قبلك } فما كنت بدعا من الرسل { وجعلنا لهم أزواجا وذرية } فلا ينبغى ان يعيروك على التزويج والذرية { وما كان لرسول } ممن مضى { أن يأتي بآية إلا بإذن الله } حتى يعيروك على عدم اجابة اقتراحهم او تحزن على عدم اتيان الآية المقترحة { لكل أجل كتاب } لكل وقت حكم مكتوب فلا يمكنك الاتيان بالآية المقترحة فى غير وقته، ولما كان ظاهره منافيا لما امر الله من الدعاء والتصدقات وصلة الارحام لدفع الآلام والاسقام وطول العمر بحسب تعميم الاجل والكتاب قال { يمحوا الله ما يشآء ويثبت }.
[13.39]
{ يمحوا الله ما يشآء ويثبت } فلا تتركوا الدعاء والصدقات وصلة الارحام { وعنده أم الكتاب } الذى فيه كل شيء من غير تغيير حتى محو المثبت واثبات ما لم يكن، وكتاب المحو والاثبات فى مقام العلم هو النفوس الجزئية المتقدرة بالاشباح النورية المعبر عنها بعالم المثال، وكتاب المحو والاثبات العينى هو عالم الطبع.
[13.40]
{ وإما نرينك بعض الذي نعدهم } اى ان نرك { أو نتوفينك } فلا بأس عليك ولا تحزن عليه { فإنما عليك البلاغ } وقد بلغت { وعلينا الحساب } ونحاسب لا محالة.
[13.41-42]
{ أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها } والمراد بالاتيان اتيان الملائكة المأمورين لذلك او اتيان امره تعالى، ونقصها من اطرافها ذهاب اهلها تدريجا، وقد فسر نقصها من اطرافها بفقد العلماء اما لان العلماء لما كانوا من عالم الارواح ونزلوا الى الارض فبذهابهم تنقص الارض واما غيرهم فلكونهم مخلدين الى الارض لا ينقص ذهابهم شيئا من الارض، او لان الاطراف جمع الطرف بالتحريك او الطرف بالسكون بمعنى الشريف ويجرى الآية فى العالم الصغير، ونقصان العالم الصغير اظهر من العالم الكبير { والله يحكم لا معقب لحكمه } لا راد ولا دافع { وهو سريع الحساب وقد مكر الذين من قبلهم } بانبيائهم (ع) ومن آمن معهم كما يمكر قومك فلا يفتروا بمكرهم { فلله المكر جميعا } من حيث انه يقدر على جميع اسبابه وعلى انفاذه بحسب مشيته بخلاف غيره لان الغير ان هيأ بعض اسباب المكر فات عنه بعضها وان نفذ مكره بعض النفوذ لم ينفذ بتمامه على وفق مراده، والمكر منه تعالى ابراز الاساءة فى صورة الاحسان استدراجا { يعلم ما تكسب كل نفس } فى مقام التعليل او تأكيد للتهديد المستفاد من قوله: فلله المكر جميعا { وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار } للماكر او المخلص وهو تهديد بسوء العاقبة كما ان سابقه تهديد بالمؤاخذة فى الحال.
[13.43]
{ ويقول الذين كفروا لست مرسلا } انكروا رسالتك { قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب }.
اعلم، ان خليفة الله لما كان ذا جهتين له وجهة آلهية بها يأخذ من الله ووجهة خلقية بها يوصل المأخوذ، فاذا تحقق لوجهته الخلقية رجل واحد يأخذ منه كفاه وكفى فى صدق خلافته فقال تعالى: قل انى رسول الله وفى رسالتى يكفى الله المعطى والذى عنده علم الكتاب آخذا منى ويكفينى شهادتهما لا حاجة لى فى صدق رسالتى وتبليغى اليكم انكرتم او اقررتم، ومن عنده علم الكتاب لا يجوز ان يكون غير على (ع) وان كانوا فسروه بغيره لان العلم المضاف من غير عهد يفيد الاستغراق ولم يدع احد جميع علم الكتاب من الامة الا على (ع) واولاده المعصومون (ع)، فعنه (ع): الا ان العلم الذى هبط به آدم (ع) من السماء الى الارض وجميع ما فضل به النبيون (ع) الى خاتم النبيين (ص) فى عترة خاتم النبيين (ع)، والاخبار فى هذا المعنى وفى تخصيص علم الكتاب بعلى (ع) او به وبالائمة (ع) كثيرة، وقرئ من عنده علم الكتاب بكسر الميم والدال.
[14 - سورة ابراهيم]
[14.1]
{ الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات } ظلمات الكفر، ولما كان الكفر ذا ظلمات كثيرة متباينة بحسب ما تنتزع الظلمات منه جمع الظلمات معرفة باللام، بخلاف النور فانه حقيقة واحدة به وحدة المتكثرات ولذا افرده فقال { إلى النور بإذن ربهم } فى اخراجك حتى يصير طاعتهم لك طاعة لله ولا يكون شركا بالله او فى خروجهم حتى يكون اخراجك موافقا لاذن الله ومسببا عنه { إلى صراط العزيز الحميد } بدل من قوله الى النور.
اعلم، ان الانسان فى اول خلقته طبع محض وله قوة واستعداد بصيرورته نباتا، ثم يصير نباتا بالفعل وحيوانا بالقوة، ثم يصير حيوانا بالفعل وانسانا بالقوة، وما زال يشتد تلك القوة الى اوان التميز الانسانى واستعداد ادراك الكليات البديهية التى لا يدركها سائر الحيوان، وحينئذ يحصل له انسانية ما بالفعل بحيث يصح اطلاق اسم الانسان عليه، وما زال يشتد ويتقوى الى اوان البلوغ والرشد وتعلق التكليف به وحينئذ يصير انسانا ممتازا عن الحيوان نحو امتياز اقوى من امتيازه السابق، لانه حينئذ يدرك الخير والشر الانسانيين وطريق تحصيل الخير ودفع الشر، لكنه لما لم يخرج بعد من تحت حكومة النفس والنفس لا ترى خيرا الا ما يلائم قواها الشهوية والغضبية والشيطانية ولا شرا الا ما يضاد تلك القوى، فهو وقع فى ظلمة الطبع والشهوة والغضب والشيطنة ومن كل ينشأ ظلمات بعضها فوق بعض؛ فان ساعده التوفيق ودخل تحت حكومة نبى بالبيعة العامة او ولى بالبيعة الخاصة ينجيه ذلك النبى او الولى من حكومة النفس ويخرجه تدريجا من ظلماته، وان لم يدخل تحت حكومة خلفاء الله يبقى فى تلك الظلمات ابد الآباد، اعاذنا الله منها. فارسال الرسل وانزال الوحى والاحكام عليهم ليس الا لاخراج العباد بالتدريج من ظلماتهم التى كانوا فيها الى نور القلب ومن جهنام انفسهم التى هى سنخ جهنم الآخرة الى ذروة القلب الذى هو سنخ جنان الآخرة، والاذن فى الاخراج عبارة عن امره تعالى للرسل (ع) بتبليغ الاحكام، والاذن فى الخروج عبارة عن استعداد الخلق للسلوك والخروج من هذه الجهنام الى تلك الجنان وعن امره التكوينى والتكليفى على السنة الخلفاء بالخروج، ولما كان القلب صراطا الى العقل والعقل صراطا الى الحق العزيز ابدل من قوله الى النور قوله الى صراط العزيز الحميد.
[14.2]
{ الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض } ابدل الله من العزيز اشعارا بوصفه الى علة عزته ومحموديته { وويل للكافرين } بالله او بمحمد (ص) او بالكتاب او بالنور او بالصراط { من عذاب شديد } الويل الهلاك او هو واد فى جهنم او بئر.
[14.3]
{ الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة } صفة للكافرين وبيان له .
اعلم، ان الانسان واقع بين الدنيا والآخرة وبعبارة اخرى بين مراتب النفس ومدارج القلب وهو فطرى التعلق ذاتى الربط فان كفر بالآخرة تعلق بالدنيا، وان كفر بالدنيا تعلق بالآخرة، وكل ما تعلق به اختاره على ما لم يتعلق به فالكافر بالآخرة لا محالة متعلق بالدنيا ومختار لها على الآخرة والمتمكن فى الكفر يستمر استحبابه للدنيا كما ان المتمكن فى الايمان يستمر استحبابه للآخرة، والمتلون فيهما قد يستحب الدنيا وقد يستحب الآخرة ولما كان صيغة الكافرين بحسب الاستعمال يتبادر منها المتمكنون فى الكفر اتى بالاستحباب بصيغة المضارع الدال على الاستمرار وعقبه بقوله { ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا } مضارعا دالا على الاستمرار والا فالمتلونون فى الكفر كثيرا ما لا يصدون عن سبيل الله ولا يبغونها عوجا بل يبغونها قيما { أولئك في ضلال بعيد } نسبة البعد الى الضلال مجاز.
[14.4]
{ ومآ أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه } كأنهم توهموا ان الرسول من الله لا بد وان يكون لسانه لسانا عربيا لا يعرفه احد من اصحاب اللغات ولعلهم اجروا على السنتهم ذلك فقال: وما ارسلنا رسولا الا بلسان قومه { ليبين لهم } فان المقصود من الارسال التبليغ ولا يمكن الا بالبيان الذى يتفطن به المرسل اليهم، وما يقال: ان الآية تدل على انه (ص) رسول الى العرب خاصة لا يتجاوز رسالته غيرهم فى غاية البعد للفرق بين ان يقال: ما ارسلنا رسولا الا بلسان قومه وبين ان يقال: ما ارسلنا رسولا الا الى اهل لغته { فيضل الله من يشآء ويهدي من يشآء } بالخذلان والتوفيق { وهو العزيز } لا يمنع مما يشاء { الحكيم } لا يخذل ولا يوفق الا عن حكمة مقتضية له.
[14.5]
{ ولقد أرسلنا موسى بآياتنآ أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله } قد غلب اليوم فى العرف للواقعة الغريبة الواقعة فيه فايام الله على هذا عبارة عن الوقائع الواقعة على الامم الماضية وقد فسرت فى الاخبار بنعم الله وآلائه، وهذا التفسير من تشريف الاضافة الى الله فان اليوم المنسوب الى الله لا بد وان يكون اشرف الايام، وشرافته بانعامه تعالى فيه فاستعمل الايام فى النعم التى وقعت فيها هذا بحسب الظاهر، واما على التحقيق فايام الله عبارة عن مراتب الآخرة ومقامات الانسان من عالم المثال والنفوس والصافات صفا والمقربين ومن القلب والروح والعقل الى آخر المراتب وكذا المراتب النازلة من جهنام النفس ودركاتها والجحيم وطبقاتها، ولعل التفسير بالوقائع والنقم وبالآلاء والنعم للاشارة الى ما فى تلك المراتب { إن في ذلك } التذكير { لآيات لكل صبار } على البلاء { شكور } على النعماء.
[14.6]
{ وإذ قال موسى } وذكرهم اذ قال موسى { لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب } باستعبادكم { ويذبحون أبنآءكم ويستحيون نسآءكم } بدل تفصيلى { وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم } فى سوء العذاب ابتلاء او فى الانجاء نعمة.
[14.7]
{ وإذ تأذن } علم { ربكم لئن شكرتم } نعمة الانجاء { لأزيدنكم ولئن كفرتم } بالطغيان وترك العمل بطاعته { إن عذابي لشديد } وقد فسر الشكر بمعرفة القلب ان النعمة من الله ويقول الحمد لله.
[14.8]
{ وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني } فلا يحصل له حاجة بكفركم { حميد } لا ينقص من محموديته بترككم حمده.
[14.9-10]
{ ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم } خطاب من الله لامة محمد (ص) او مقول قول موسى (ع) وعلى اى تقدير فهو تذكير بالايام الماضية ليعتبروا ولا يفعلوا مثل ما فعلوا { قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم } من الرسل واممهم { لا يعلمهم } عدة وعدة ومدة وحيزا وقصة { إلا الله جآءتهم رسلهم بالبينات } باحكام النبوة الشاهدة على صدق الاتى بها بمضمون اعرفوا الرسول بالرسالة { فردوا أيديهم في أفواههم } كناية عن شدة الغيظ حيث ان المغتاظ يعض لغاية الغيظ على يده طبعا كقلوه عضوا عليكم الانامل من الغيظ، او كناية عن غاية التعجب والاستهزاء لان المتعجب يضع يده على فمه طبعا، او كناية عن الاشارة الى الانبياء (ع) بالاسكات فان من اراد ان يشير الى غيره بالاسكات يضع يده على فم نفسه اشارة الى اسكات المتكلم، وقيل: ردوها فى افواه الانبياء لمنعهم من الكلام وحنيئذ يحتمل ان يكون على حقيقته وان يكون تمثيلا للمنع عن الكلام { وقالوا إنا كفرنا بمآ أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننآ إليه مريب قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى } ذكروا صفة الفاطرية والخالقية التى لا يبقى معها شك فيه ثم ذكروا ان دعوته لمغفرتكم فى الآخرة ولطول اعماركم فى الدنيا حتى يرغبوا فى قبول دعوته { قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا } فلا امتياز لكم عنا بانفسكم حتى تستحقوا بذلك اتباعنا لكم وما نرى مما تدعوننا اليه شيئا الا الانصراف عن آلهتنا فانتم { تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آبآؤنا فأتونا بسلطان مبين } حجة موضحة لصدقكم او واضحة الحجية حتى نتبعكم بذلك.
[14.11]
{ قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم } لا ندعى الاميتاز عنكم بحسب البشرية { ولكن الله يمن على من يشآء من عباده } بالوحى والارسال الى العباد وبذلك نمتاز عنكم { وما كان لنآ أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون } يعنى نتوكل ونبلغ ولا نبالى بكم وبردكم وقبولكم واذاكم لكنهم علقوا التوكل على وصف الايمان اشعارا بان الايمان يقتضى ذلك.
[14.12]
{ وما لنآ ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا } جمع السبل باعتبار جمع الرسل او باعتبار ان لكل سبلا عديدة الى الخيرات والشرور { ولنصبرن على مآ آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون } يعنى من اراد التوكل فلا يتوكل الا على الله فانه الحقيق بان يتوكل عليه لانه عالم بجميع جهات ما توكل عليه فيه وقادر على حفظه وواف لا يخون فيما عليه وكالته.
[14.13-15]
{ وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنآ أو لتعودن في ملتنا } ذكر العود لاعتقادهم ان رسلهم (ع) قبل اظهار الرسالة كانوا على دينهم { فأوحى إليهم ربهم } تقوية لتوكلهم وصبرهم { لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم } هذا الخطاب لجميع الرسل فى العوالم الانسانية واسكانهم فى الارض الصغيرة الانسانية وكان لبعض الرسل فى العالم الكبير { ذلك } الاهلاك او الاهلاك واسكان الرسل (ع) { ل } انتفاع { من خاف } او ذلك الاهلاك والاسكان كما يكون للرسل فهو ثابت لمن خاف { مقامي } وموقفى للحساب { وخاف وعيد واستفتحوا } اى الرسل (ع) او الامم المنكرة او الجميع لان كلا استفتحوا من الله والمعنى طلبوا الفتح على اعدائهم او الفتاحة والحكومة بينهم وبين اعدائهم { وخاب } فى ذلك الاستفتاح { كل جبار عنيد } متكبر معاند للحق منكر له.
[14.16]
{ من ورآئه جهنم.. } الصديد القيح والدم الذى يخرج من الجلود بالنار وفى اخبارنا هو ما يسيل من الدم والقيح من فروج الزوانى فى النار ووصف الماء الصديد بتشوية الوجوه وقطع الامعاء واخراجها من دبر صاحبها كثير فى الاخبار.
[14.17]
{ يتجرعه } يتكلفه جرعة جرعة لغاية كراهته له { ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان } بحسب اسبابه لانه يحيط به اسبابه من جميع جهاته { وما هو بميت } فيستريح { ومن ورآئه عذاب غليظ } اعاذنا الله بمنه وفضله وقدم احسانه، وقد فسر العذاب الغليظ الذى له بعد ذلك العذاب بحميم تغلى به جهنم منذ خلقت كالمهل يشوى الوجوه بئس الشراب وسائت مرتفقا.
[14.18]
{ مثل الذين كفروا بربهم } اى حكايتهم وشأنهم فى احوالهم واعمالهم وقبولها وردها { أعمالهم كرماد اشتدت به الريح } حملته واسرعت الذهاب به { في يوم عاصف } اى عاصف ريحه فان العصف شدة الريح تعريض بمنافقى الامة لانهم اغتروا بما عملوه فى الاسلام من العبادات والانفاقات والاعتاقات وتركوا الولاية وكفروا به فكفروا بمحمد (ص) فكفروا بالله وان فسر ربهم بالرب المضاف فالمعنى واضح { لا يقدرون مما كسبوا } فى الاسلام { على شيء } يعنى لا يصلون الى جزاء شيء مما كسبوا فان سلب القدرة كثيرا ما يستعمل فى عدم وصول اليد { ذلك } التعب فى العمل وعدم القدرة على شيء من جزائه مع حسبان انهم يحسنون صنعا { هو الضلال البعيد } نسبة البعد الى الضلال مجاز.
[14.19]
{ ألم تر } يا محمد (ص) او يا من يتأتى منه الرؤية { أن الله خلق السماوات والأرض بالحق } اى متلبسا بالحق لانه لا باطل فيه او بواسطة الحق الذى هو الولاية المطلقة فلا بأس بانكارهم ولا نقص لها بذلك الانكار { إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد } ابرز الامر المتحقق فى معرض المشكور تهديدا لهم لانه يوهم الاذهاب فى الآن الحاضر والا فليس له شأن سوى الاذهاب والاتيان بخلق جديد.
[14.20]
بمتعذر ولا متعسر لانه واقع.
[14.21]
{ وبرزوا لله جميعا } يعنى يوم القيامة، أتى بالماضى للدلالة على تحقق وقوعه او لان الخطاب لمحمد (ص) وامر القيامة مشهود له { فقال الضعفاء } اى الاتباع { للذين استكبروا } اى المتبوعين وقد فسر على الاستكبار بترك الطاعة لمن امروا بطاعته والترفع على من ندبوا الى متابعته { إنا كنا لكم تبعا } استغاثوا بهم كما ظنوا فى الدنيا انهم يغيثونهم فى الآخرة لان المراد بالرؤساء هم المترئسون فى الدين صورة لا رؤساء الدنيا واستعطفوهم بذكر تبعيتهم لهم { فهل أنتم مغنون عنا } دافعون عنا { من عذاب الله من شيء قالوا } فى جوابهم { لو هدانا الله } فى الدنيا وههنا الى طريق النجاة علقوا تقصيرهم على عدم هداية الله كما هو ديدن النساء بعد ما اعترفن بسوء فعلهن، او المراد بهذا الشرط الشرط فى الاستقبال يعنى ان هدينا الله ههنا الى طريق الخلاص { لهديناكم سوآء علينآ } يعنى عليكم وعلينا { أجزعنآ أم صبرنا ما لنا من محيص } منجى ومهرب.
[14.22]
{ وقال الشيطان لما قضي الأمر } اى امر الدنيا، { إن الله وعدكم وعد الحق } ان الله بلسان مظهر محمد (ص) وعلى (ع) وعدكم وعد الحق { ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان } تسلط واجبار { إلا أن دعوتكم } استثناء منقطع اى دعوتكم وزينت لكم الكفر والعصيان { فاستجبتم لي فلا تلوموني } فانى كنت عدوا لكم وما كان عداوتى مخفية عليكم ومن قبل قول العدو يلام، وعلى ان المدعو الى الشر او الى ما لا يعلم ضره ونفعه ملوم فى اجابته { ولوموا أنفسكم مآ أنا بمصرخكم ومآ أنتم بمصرخي إني كفرت بمآ أشركتمون من قبل } اى تبرأت من اشراككم اياى بالله فى الطاعة او اشراككم اياى بعلى (ع) فى الولاية { إن الظالمين لهم عذاب أليم } من تتمة كلامه او استيناف من الله وحكاية امثال هذه انما هى للتنبيه على ان اهل الدنيا فى الحقيقة هم اهل النار لانهم كلما اتفقوا على امر ولا يقضون منه مرامهم يلعن بعضهم بعضا ويتبرء بعضهم من بعض ويرمى بذلك الامر بعضهم بعضا.
[14.23-25]
{ وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة } على (ع) ودعوته هو الكلمة الطيبة { كشجرة طيبة } من حيث الاثمار لا يتضرر احد بثمرها، ومن حيث الريح والظل والمنظر { أصلها ثابت } لا يتحرك ولا ينقل من مكانه { وفرعها في السمآء تؤتي أكلها كل حين } فى الصيف والشتاء والخريف والربيع { بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس } لانهم لا يدركون المعقولات الا بالصور المحسوسة { لعلهم يتذكرون } عن الصادق (ع) انه سئل عن الشجرة فى هذه الآية فقال: رسول الله (ص) اصلها، وامير المؤمنين (ع) فرعها، والائمة من ذريتهما اغصانها، وعلم الائمة (ع) ثمرتها، وشيعتهم المؤمنون ورقها، والاخبار بهذا المضمون كثيرة.
[14.26-27]
{ ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة } غير الاسلوب بان المقصود بالذات من ضرب الامثال هو الاخيار وامثالهم واما الاشرار فليست مقصودة الا بالتبع { اجتثت من فوق الأرض } لانها لا ثبات لها كالمرأة التى لا ثبات لها على شيء من آرائها واقوالها وعهودها { ما لها من قرار يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت } كالنتيجة لما قبله يعنى بعد ما علم ان محمدا (ص) وعليا (ع) هما الشجرة الطيبة الثابتة فمن آمن بهما يثبته الله بهما وهما القول الثابت او بايمانه وهو ايضا قول ثابت { في الحياة الدنيا } فلا يشكون فى دينهم وفى آخر الحياة الدنيا فلا يمكن للشيطان ان يفتنهم عند الموت { وفي الآخرة } فلا يزلفون الى النار { ويضل الله الظالمين } الذين انصرفوا عن الشجرة الطيبة الى الشجرة الخبيثة لانهم ظلموا انفسهم بمنعها عن حقها الذى هو اتباعها للشجرة الطيبة وظلموا آل محمد (ص) بمنعهم عن حقهم الذى هو انقيادهم لهم واضلالهم يكون عن طريق الجنان الى الجحيم كما انهم ضلوا فى الدنيا عن صاحب الجنان الى صاحب الجحيم { ويفعل الله ما يشآء } اما من قبيل لا يسأل عما يفعل، او المقصود رفع الاغترار عن المؤمنين ورفع اليأس عن الكافرين بامكان التبديل.
[14.28-29]
{ ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم } فى العالم الصغير وفى العالم الكبير { دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار } وقد فسر فى الاخبار الذين بدلوا نعمة الله بالافجرين من قريش بنى امية وبنى المغيرة، ونعمة الله بمحمد (ص) وفسروا بقريش قاطبة ونعمة الله بمحمد (ص) وفسر نعمة الله بعلى (ع) والمبدلون بالمنحرفين عنه (ع).
[14.30-31]
{ وجعلوا لله أندادا } كالاصنام والكواكب وغيرها، او جعلوا لله فى العالم الصغير اندادا من انانياتهم فان مبدء الانداد فى الخارج هى الاصنام الداخلة او جعلوا لله بحسب مظاهره اندادا يعنى جعلوا لمحمد (ص) وعلى (ع) اندادا { ليضلوا عن سبيله } وهو على (ع) وطريق الولاية { قل تمتعوا } تهديد بصيغة الامر { فإن مصيركم إلى النار قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة } ترك مقول القول للاشارة الى ان قوله (ص) وتوجهه اليهم يؤثر فيهم بحيث يجعلهم على اشرف اوصاف الانسان وهو اصل جملة العبادات يعنى اقامة الصلاة وايتاء الزكاة فلا حاجة الى تقدير المحكى، وتخصيص القول بان يقال قل: اقيموا الصلاة يقيموا الصلاة { وينفقوا مما رزقناهم } من الاعراض والقوى العمالة والعلامة والوجاهة والحشمة { سرا } من الناس ومن المنفق عليه ومن الملائكة ومن انفسهم { وعلانية } ويحتمل ان يكونا متعلقين برزقناهم اشارة الى النعم الظاهرة والباطنة { من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه } فيبتاع المقصر ما يتدارك به تقصيره او يبيع ماله ويفدى بثمنه نفسه { ولا خلال } لا محالة بين احد فيشفع الخليل لخليله.
[14.32-33]
{ الله الذي خلق السماوات والأرض } لا غيره فما بالكم يأمركم بالانفاق مع ان الكل بيده فتبخلون { وأنزل من السمآء مآء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دآئبين } على نظام واحد من غير تغير عن طريقهما فى الحركة { وسخر لكم الليل والنهار } وبتسخيرهما يتولد ويحصل اصول معيشتكم.
[14.34]
{ وآتاكم من كل ما سألتموه } بلسان الاستعداد وان كان قد لا يعطى ما سألتموه بلسان القال، وقرأ الصادقان (ع): من كل بالتنوين ولعله كان اوفق بالمقصود اذ السؤال بلسان الحال لا يتخلف المسؤل عنه والله تعالى يعطى كلا من كل شيء بقدر ذلك السؤال، ولسان لقال ان لم يكن موافقا للسان الحال يتخلف المسؤل عن السؤال كما يشاهد من اكثر السائلين المتضرعين الذين يتخلف عنهم مسؤلهم.
اعلم، ان الله تعالى ناظر الى سؤال الاستعداد ومعط بقدر فالمادة الانسانية تسأل نضجا بالقوى النباتية من الغاذية بجنودها والنامية بجنودها والمولدة باعوانها، ومستقرا من الكليتين والبيضتين وبعد تمام نضجها تستدعى وعاء تستقر فيه وتنموا وتتبدل من صورة ومن حال الى حال وتستدعى مربيا يربيها من اللنفوس البالغة ومتصرفا فى ذاتها من القوى النباتية بمراتبها الى ان يبلغ اوان تولدها وبعد التولد تستدعى الف الف ملك والف الف قوة بها يتم فعلها ونموها وبلوغها وخروجها من الدنيا الى الآخرة فأعطاها الله كلها، هذا بحسب ما ندركه بمدركاتنا القاصرة واما ما لا ندركه فغير متناهية الى حد { وإن تعدوا نعمت الله } التى اعطاكموها بمسئلتكم { لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار } جواب سؤال عن حال الانسان بازاء تلك النعم يعنى انه ظلوم لانه لا يستعمل النعم فيما اعطبت له ويمنع المستحق عن الحق ويعطى لغير المستحق، وكفار لأنه يستر انعام الحق فى النعمة ولا ينظر الى الانعام ولا الى المنعم بل الى ذات النعمة من غير اعتبار كونها نعمة من غيره بل يضيفها الى نفسه ويقول: انما اوتيته على علم واستحقاق من نفسى.
[14.35]
{ وإذ قال إبراهيم } واذكروا وذكر قومك دعوة ابراهيم (ع) ومقالته فان فيها ترغيبا الى الخيرات وترهيبا عن الاشراك ومعرفة لبعض اوصاف الله وتعليما لطريق التضرع والمسألة منه وبيانا لشرف ذريته وفى بيان شرفهم ترغيب للخلق اليهم، وفى رغبتهم اليهم نجاة لهم فى الآخرة وشرافة فى الدنيا { رب اجعل هذا البلد آمنا } ذا امن.
اعلم، ان بلدة مكة وعمارتها كانت بسعى ابراهيم (ع) وتعميره كما ان البيت كان بسعيه وتعميره فكان البلد مظهرا لصدره المنشرح بالاسلام المطهر من الوساوس والارجاس، والبيت مظهرا لقلبه الذى هو بيت الله الحقيقى وقد اجاب تعالى شأنه دعاءه حيث جعل صدره مأمنا عن كل شر وفساد وبلده مأمنا بالمواضعة لامره التكليفى ان لا يتعرض لاحد ولا لحيوان ولا نبات كان فى الحرم { واجنبني وبني أن نعبد الأصنام } المصنوعة او اصنام الاهوية اوكل ما يطاع ويعبد من دون اذن الله.
[14.36]
{ رب إنهن أضللن كثيرا من الناس } صرن سببا لاضلالهم او اضللن بما ظهر من الشيطان على صورهن من خوارق العادات وايضا رؤساء الضلالة الذين هم الاصنام البشرية اضللن كثيرا من الناس { فمن تبعني فإنه مني } الفاء جواب شرط محذوف كأنه قال: فان أجبتنى الى مسؤلى فمن تبعنى فانه منى فأجبنى فى حقه ايضا والمقصود بالتبعية التبعية الحقيقية التى تحصل بالبيعة العامة او الخاصة ولما كان التابع يصير بتلك البيعة مرتبطا بالمتبوع بل متولدا منه من حيث لطيفته التابعة الروحية فالتابع بتلك التبعية يصير جزء من المتبوع فيصير بعضا منه ويصير متولدا منه فيصير ناشئا منه { ومن عصاني فإنك غفور رحيم } فعاملهم بشأنك لا بشأنهم وقد ورد فى اخبارنا الامامية ان من أحبنا فهو منا، ومن اطاعنا فهو منا، ومن اتقى وأصلح فهو منا اهل البيت.
[14.37]
{ ربنآ إني أسكنت من ذريتي } بعض ذريتى وهو اسماعيل وقد ورد فى اخبارنا: نحن بقية تلك الذرية ونحن هم، ونحن بقية تلك العترة وكانت دعوة ابراهيم (ع) لنا خاصة { بواد غير ذي زرع } وادى مكة { عند بيتك المحرم } الذى حرم التهاون به والتعرض بمن كان فى نواحيه وما كان فيها { ربنا ليقيموا الصلاة } لما كان المقيم فى بلد الصدر المنشرح بالاسلام والطائف حول بيت القلب مقيما للصلاة متوجها الى الله وكان بلد مكة وبيت الكعبة مظهرين لهما كان من كان مقيما فيهما وكان فيه لطيفة آلهية يتوجه الى الله توجها اقوى واتم، ولذلك جعل الغاية اقامة الصلاة { فاجعل أفئدة من الناس } اى من بعضهم، وفى اخبارنا انه لم يعن الناس كلهم اولئك انتم ونظراؤكم؛ بالخطاب لشيعتهم، وورد انه: ينبغى للناس ان يحجوا هذا البيت ويعظموه لتعظيم الله اياه وان يلقونا حيث كنا، نحن الادلاء على الله { تهوي إليهم } قرئ بكسر الواو وفتحها من هوى اذا سقط، وهوى اذا احب، وعلى اى تقدير فهو يدل على كمال المحبة والاشتياق، وورد فى اخبارنا: ان دعوة ابراهيم (ع) كانت فى حقنا حيث لم يقل تهوى اليه حتى يرجع الى البيت بل قال اليهم حال كون الضمير راجعا الى الذرية، وفى هذه الدعوة طلب للتوسعة على الذرية وطلب للنجاة والفلاح للخلق { وارزقهم من الثمرات } ثمرات الاشجار الطبيعية وثمرات الاشجار الروحية وهى الوداد والانقياد والذوق والمعرفة والوصال والاتحاد وغير ذلك مما يظهر فى المعاد { لعلهم يشكرون } وبعد اتمام ما اراد من الدعاء انتقل من مقام التضرع الى مقام الثناء مثنيا بما يعين على اجابة دعوته فقال { ربنآ إنك تعلم ما نخفي وما نعلن }.
[14.38]
{ ربنآ إنك تعلم ما نخفي وما نعلن } فانت العالم بحاجاتنا ومصالحنا سألنا او لم نسأل { وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السمآء } تعميم بعد تخصيص والتفات من الخطاب الى الغيبة اشارة الى تنزله عن مقام الحضور ثم انتقل عن مقام الثناء الى مقام الالتفات الى النعمة والقيام بشكرها فقال { الحمد لله الذي وهب لي على الكبر }.
[14.39]
{ الحمد لله الذي وهب لي على الكبر } مشتملا على كبر السن واليأس عن الولد قيد الثناء به اظهارا لعظمة النعمة دلالة على كمال القدرة { إسماعيل وإسحاق } قيل ولد اسماعيل (ع) حال كونه ابن تسع وتسعين، وولد اسحاق (ع) حال كونه ابن مائة واثنتى عشر سنة { إن ربي لسميع الدعآء } ذكر ذلك اظهارا لنعمة أخرى هى اجابته له فى دعاء الولد، ورجاء لاجابة دعائه الماضى وتمهيدا لاجابة دعائه الآتى.
[14.40]
{ رب اجعلني مقيم الصلاة } اقامة الصلاة بان يكون صلاة القالب متصلة بصلاة القلب وهى متصلة بصلاة الروح { ومن ذريتي } لما علم ان اقامة الصلاة بحيث صارت سجية للمصلى المستفاد من لفظ مقيم الصلاة خاصة بمن له درجة النبوة او الولاية وان جميع ذراريه لا يكونون انبياء اتى بمن التبعيضية { ربنا وتقبل دعآء } بالاجابة.
[14.41-42]
{ ربنا اغفر لي ولوالدي } آدم (ع) وحواء (ع) كما نسب الى الخبر او والديه القريبين، ونسب الى اهل البيت (ع) انهم قرأوا لولدى يعنى اسماعيل (ع) واسحاق (ع) { وللمؤمنين يوم يقوم الحساب ولا تحسبن الله } استيناف كلام من الله او عطف على اذ قال وعامله والخطاب لمحمد (ص) او لكل من يتأتى منه الحسبان { غافلا عما يعمل الظالمون } وعيد للظالم ووعد للمظلوم { إنما يؤخرهم } بالامهال { ليوم تشخص فيه الأبصار } بتقى مفتوحة لا يقدرون ان يطرفوا.
[14.43]
{ مهطعين } مسرعين الى اجابة الداعى { مقنعي رءوسهم } رافعيها { لا يرتد إليهم طرفهم } لا يقدرون ان ينظروا الى انفسهم لكمال دهشتهم وحيرتهم { وأفئدتهم هوآء } خلاء عن الرأى لفرط الوحشة، او عن الخير لغلبة الشقوة، وقيل: متصدعة من فرط الدهشة.
[14.44]
{ وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب } من يوم يأتيهم العذاب او هو مبنى وبدل من يوم تشخص فيه الابصار او هو ظرف للافعال السابقة او متعلق بذكر بدلا من انذر الناس والمراد منه يوم حضور الموت { فيقول الذين ظلموا ربنآ أخرنآ إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال } اى يقال لهم ذلك.
[14.45]
{ وسكنتم في مسكن الذين ظلموا أنفسهم } يعنى استننتم بسننهم ووقفتم فى مقامهم او سكنتم فى منازلهم الصورية بحيث شاهدتم آثار عذابهم وهلاكهم { وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال } موافقة لاحوالكم وانتقالكم الى الآخرة، او ضربنا لكم امثال الذين ظلموا حتى تتنبهوا او تجتنبوا مثل افعالهم.
[14.46]
{ وقد مكروا } صرف الخطاب عنهم او الضمير راجع الى الذين ظلموا { مكرهم } ما كان فى وسعهم وجهدهم { وعند الله مكرهم } يعنى مكرهم ثابت عند الله فيجازيهم عليه، او عند الله مكرهم فلا ينفذوا ولا يؤثرا الا باذنه، او عند الله مكرهم يعنى ان يمكر بهم مكرا لائقا بحالهم { وإن كان مكرهم } انه كان مكرهم او ان شرطية وصلية او نافية اى وان كان مكرهم لعظمه مستعدا { لتزول منه الجبال } وما كان مكرهم لتزول منه الجبال بل كان اعظم، وقرئ بفتح اللام ورفع الفعل على ان يكون ان هى المخففة واللام للفصل.
[14.47]
{ فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله } بوعد النصرة واسكان الارض من غير معاند { إن الله عزيز ذو انتقام } فى موضع التعليل.
[14.48]
{ يوم تبدل الأرض } بدل من يوم يأتيهم العذاب او ظرف لمخلف وعده او لعزيز او لذو انتقام او متعلق بذكر او اذكر مقدرا { غير الأرض والسماوات } او تبدل ارض عالم الطبع ارض عالم البرزخ وارض عالم المثال وذلك حين ظهور القائم عجل الله فرجه فى العالم الصغير بالموت الاختيارى او الاضطرارى، وهو حين اتيان الساعة والقيامة الصغرى كما فسر الساعة بظهور القائم وبالقيامة وتلك الارض المبدلة لما لم يكن معها مادة حاجبة وظلمة وامتداد مكانى وبعد جمسانى لا ترى فيها عوجا ولا امتا بحيث ترى البيضة التى فى المغرب من المشرق، وكذا لا يحجب اهل تلك الارض ولا قصورها بعضها بعضا بل يرى الكل فى الكل ومن وراء الكل، لان الكل مرائى متعاكسات وغير حاجبات لما وراءها ولذلك قال { وبرزوا لله الواحد القهار } بحيث كلما كان باطنا منهم فى الدنيا صار بارزا هناك وتحدث الارض اخبارها بابراز ما كان مكمونا فيها، والتوصيف بالوحدة والقهاريه لظهور سلطان الوحدة هناك.
[14.49]
{ وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد } جمع الصفد بمعنى القيد وذلك لان اصفادهم المكمونة فى الدنيا تبرز هناك.
[14.50]
{ سرابيلهم } قمصانهم { من قطران } القطران بفتح القاف وكسر الطاء وهو قراءته بالفتح والسكون وبالكسر والسكون شيء اسود منتن يحلب من الابهل وهو شجر كبير ورقه كالطرفاء يطلى به الابل الجربى يحرق الجرب بحدته ويشتعل النار فيه سريعا، والمقصود انهم يطلون بالقطران فيجعل لهم كالقمصان حتى يتأذوا بريحه ولونه وحدته ويسرع اليهم اشتعال النار، وقرئ من قطر آن كلمتين منونتين والقطر هو الصفر المذاب والانى البالغ فى الحر وكأنه بهذه القراءة فسر فى الاخبار بالصفر المذاب { وتغشى وجوههم النار } كناية عن غاية عجزهم وشدة ابتلائهم فان الانسان مهما كان له قدرة وحراك يدفع الموذى عن وجهه وان كان بجعل بعض اعضائه جنة له.
[14.51-52]
{ ليجزي الله كل نفس ما كسبت } متعلق بتبدل الارض او ببرزوا { إن الله سريع الحساب هذا } المذكور ههنا من قوله ولا تحسبن الله (الى آخر الآية) واما كونه اشارة الى القرآن او الى السورة فبعيد لان هذا الكلام يقال فيما لا قدر له بالاضافة الى غيره فيقال هذا القدر يكفى { بلاغ } كفاية وكاف { للناس } اى لجملة المؤمنين والكافرين { ولينذروا به } اى لينصحوا به ولينذروا، او المعطوف محذوف اى وانزل لينذروا به { وليعلموا أنما هو إله واحد } انما الله اله ومستحق للمعبودية واحد لا ثانى له فى المعبودية { وليذكر أولوا الألباب } رتب على كونه بلاغا ثلاث فوائد: الانذار بالنسبة الى الكفار، والعلم بوحدانيته بالنسبة الى المستعدين للايمان، والتذكر بالنسبة الى المؤمنين العالمين، ويحتمل ان يكون المعنى هكذا: هذا المذكور نزل لبلوغه الى الناس، ولينذروا به، فيكون لينذروا به عطفا على بلاغ باعتبار المعنى.
[15 - سورة الحجر]
[15.1]
ظاهر الصدق والمعنى او يبين الغى عن الرشد والحق عن الباطل، وعطف القرآن على الكتاب للاشارة الى ان المشار اليه كما انه آيات كتاب النبوة وكتاب الفرق كذلك آيات كتاب الولاية وكتاب الجمع، وتنكير القرآن للاشارة الى انه آيات شأن من شؤن الولاية لا انه آيات حقيقة الولاية.
[15.2]
{ ربما يود.. } قرئ بتخفيف رب وتشديدها وما كافة او نكرة موصوفة، ولو للتمنى او مصدرية؛ والمعنى يود الذين كفرو كثيرا اسلامهم حين الافاقة من سكر اهويتهم او حين الملال من تعب كفرهم، واستعمال رب للتكثير كاستعماله للتقليل شائع كثير، وفى رب ست عشرة لغة ضم الراء وفتحها مع تشديد الياء وتخفيفها مفتوحة والكل مع تجردها عن التاء واتصالها بها حال كون التاء ساكنة ومفتوحة وضم الحرفين مع التشديد والتخفيف وضم الراء وفتحها مع اسكان الباء مخففة.
[15.3]
{ ذرهم يأكلوا } كما يأكل الانعام فان المقصود منه هذا المعنى فى مثل المقام { ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون } عاقبة كفرهم وهو اقناط للرسول عن اسلامهم وتوهين وتهديد لهم.
[15.4]
{ ومآ أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم } اجل مكتوب مثبت والمستثنى مفرغ واقع موقع الحال ويكفى فى صحة كون القرية ذا الحال وقوعه نكرة عامة فى سياق النفى.
[15.5-6]
{ ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون وقالوا يأيها الذي نزل عليه الذكر } يعنون محمدا (ص) { إنك لمجنون } يعنون انك تدعى بطلان عبادة الاصنام التى كانت قديمة وتدعى التوحيد الذى ما سمعنا به من اسلافنا وليس هذا الا بجنونك وعدم تأملك فى ان مثل هذا لا يقبل وانه لا ينفع لك ولا يحصل لك الغرض منه.
[15.7]
{ لو ما تأتينا بالملائكة } فان لله ملائكة كثيرة لو كان ارسلك الينا رسولا لانزل معك ملائكة { إن كنت من الصادقين } فقال تعالى ردا عليهم.
[15.8-9]
{ ما ننزل الملائكة } قرئ بالنون وبالياء والبناء للفاعل وبالتاء والبناء للمفعول وبالتاء والبناء للفاعل مفتوح التاء اصله تتنزل الملائكة { إلا بالحق } اى الا مع الحق واذا جاء الحق لم يبق منكم اثر لأنكم باطلون ولا يبقى الباطل مع الحق، وقد مر مرارا ان الحق هو الولاية المطلقة وهى اضافة الحق الاول تعالى شأنه اضافة اشراقية وان كل حق فهو حق بحقيته ولذلك قال { وما كانوا إذا منظرين إنا نحن نزلنا الذكر } رد عليهم فى استهزائهم بذكر تنزيل الذكر { وإنا له لحافظون } ولا ينافى حفظه تعالى للذكر بحسب حقيقته التحريف فى صورة تدوينه فان التحريف ان وقع وقع فى الصورة الممالثة له كما قال فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هو من عند الله وما هو من عند الله.
[15.10]
{ ولقد أرسلنا.. } فى فرقهم والشيعة هى الفرقة المتفقة على طريقة واحدة.
[15.11-13]
{ وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون كذلك } الادخال على سبيل الاستهزاء او كذلك الاستهزاء { نسلكه } ندخل الذكر او الاستهزاء { في قلوب المجرمين لا يؤمنون به } حال عن المجرمين او عن مفعول نسلكه، او مستأنفة جواب لسؤال مقدر، او مفسره للجملة السابقة { وقد خلت سنة الأولين } اى سنة الله فى الاولين او طريقتهم المستعقبة للعذاب فى الدنيا والآخرة.
[15.14-15]
{ ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا } لغاية عنادهم وتشكيكهم { إنما سكرت أبصارنا } منعت من الابصار بالسحر او جعلت حيارى كالسكارى { بل نحن قوم مسحورون } سحرنا محمد (ص) ولذا نرى صعودنا فى السماء.
[15.16]
{ ولقد جعلنا في السماء بروجا } اما المراد بها البروج المشهورة الاثنى عشر او منازل القمر او درجات مسير الشمس الثلاث مائة والستون، وقد فسر البروج بكل منها والبرج والقصر بمعنى ومن غرائب الحكمة وعجائب الصنع ان الفلك مع بساطته ممتاز بعض اجزائه عن بعض بخواص وآثار، فان البروج الاثنى عشر وكذا المنازل الثمانية والعشرون لكل اثر غير صاحبه كما علم بالتجربة وأثبته المنجمون فى كتب الاحكام { وزيناها للناظرين } بالكواكب المنيرة.
[15.17]
{ وحفظناها من كل شيطان.. } حفظ بروج سماء الارواح من الشيطان واضح فان الشياطين لكون عالمهم عالم الظلمة والملكوت السفلى لو صعدوا الى عالم الارواح لفنوا عن ذواتهم، واما بروج سماء الطبع فقد يتوهم انهم يمكن لهم الصعود اليها لتسلطهم على عالم الطبع على الاطلاق، لكن التحقيق انهم كما كانوا مطرودين من عالم الارواح كذلك مطرودون من الاجسام العالية، لانها لعدم تركبها عن المتضادات وبساطتها وصفائها محال للملائكة المدبرين ومتعلقات للنفوس العلوية وللارواح العالية، فأجسام الافلاك بذواتها وان كانت لا تأبى لها عن اتصال الشياطين بها لكن الارواح المتعلقة بها تأبى اتصال الشياطين بها.
[15.18]
{ إلا من استرق السمع } استثناء متصل او منقطع.
بيان ردع الشياطين بتولد عيسى (ع) ومحمد (ص) عن السماوات
{ فأتبعه شهاب مبين } محقه وادركه، والشهاب شعلة نار ساطعة ويطلق عليه اسم الكواكب فيقال كوكب انقض الساعة وتتولد الشهب فى كرة الدخان كما حقق فى محله، وليست هى كواكب كما هو المشهور فى العرف وليست الشياطين تتأذى بها لكون الشهب من الماديات والشياطين من الروحانيات، بل المراد بالشهب القوى الروحانية المتضادة للشياطين الرادعة لهم عن ساحة حضور الارواح الطيبه المتصورة للبصائر المنفتحة بصور الشهب سواء كان استراق السمع من سماوات الطبع او من سماوات الارواح، وبما ذكرنا من وجه ردع الشياطين من سماوات الطبع وسماوات الارواح يمكن التفطن بما ورد فى الاخبار، من ان الشياطين كانوا يصعدون الى السماوات، فلما ولد عيسى (ع) حجبوا عن ثلاثة منها وكانوا يخرقون اربع سماوات، فلما ولد رسول الله (ص) حجبوا عن السبع، او كان الشياطين يصعدون السماء فلما ولد محمد (ص) ردعوا بالشهب وكان ليلة تولده كثيرة الشهب، وامثال ذلك كثيرة، مع ان الشياطين كانوا مطرودين من سماوات الارواح وكذا من سماوات الطبع كما سبق والوجه فى ذلك ان السماوات فى العالم الصغير قبل تولد الكلمة العيسوية كانت مجتمعة بالقوة فى السماء الدنيا وهى سماء النفس الانسانية وهى محل تصرف الشياطين، فاذا تولد الكلمة العيسوية صار بعض ما بالقوة بالفعل كسماء الصدر المنشرح بالاسلام وسماء القلب وسماء النفس الانسانية ويبقى الباقى بالقوة ويطرد الشياطين بواسطة تلك الكملة عن هذه السماوات، وبعد تولد الكلمة المحمدية (ص) الجامعة لجميع المراتب بالفعل يصير جميع ما بالقوة بالفعل فيتميز السماوات السبع ويطرو الشياطين من الكل، الا انه مترصد من جهة النفس الحيوانية لان يسترق حين الفرصة من سماء النفس الانسانية الدنيا استماع بعض الاشياء فيتبعه شهاب تذكر الانسان بنور الايمان واليه اشير بقوله:
إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون
[الأعراف:201].
[15.19]
{ والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي } جبالا ثوابت وقد ذكر وجه الانتفاع ببسط الارض والقاء الجبال وان فيهما حكما ومصالح كثيرة { وأنبتنا فيها من كل شيء موزون } ان رجع ضمير فيها الى الجبال فالمراد بالموزون ما يوزن ويباع بالوزن كالفلزات فانها تنبت فى الجبال، وان رجع الى الارض فالمراد الموزون المقدر لمنافعكم والمعدود لمصالحكم، وان كان راجعا اليهما جميعا فالمراد منه معنى اعم من المعنيين.
[15.20]
{ وجعلنا لكم فيها معايش } ما تعيشون به من الملابس والمطاعم والمساكن والمراكب { ومن لستم له برازقين } عطف على معايش اى وجعلنا لكم خدما واماء وعبيدا وانعاما لستم لها برازقين وكان تغليبا لجانب ذوى العقول، او عطف على المجرور فى لكم على بعد لعدم عادة حرف الجر والمعنى وجعلنا لكم معايش وجعلنا لمن لستم له برازقين معايش كالمجانين والسفهاء وغيرهم من اهل الجزائر الذين يعيشون كالبهائم والسباع ويلحقون بها.
[15.21]
بيان ان لكل شيء خزائن عند الله
{ وإن من شيء إلا عندنا خزائنه } اعلم، انه قد يطلق الشيء ويراد به ما يساوق الموجود فيشمل الحق الاول تعالى شأنه، وقد يطلق ويراد به الشيء وجوده فلا يشمل الحق الاول ولا حضرة الاسماء ولا حضرة الفعل الذى هو مبدء اضافاته، ويشمل الممكنات كلها من حضرة العقول المعبر عنها بالاقلام العالية والملائكة المقربين، وحضرة الارواح المعبر عنها بارباب الانواع والصافات صفا، وحضرة النفوس الكلية المعبر عنها بالالواح الكلية المحفوظة والمدبرات امرا، وحضرة النفوس الجزئية المعبر عنا بألواح المحو والاثبات وبعالم المثال باعتبارين ويشمل موجودات عالم الطبع تماما، وكل ما فى تلك الحضرات له حقيقة فى حضرة الاسماء وحقيقة فى حضرة الفعل والاضافة الآلهية الاشراقية، وكل ما فى حضرة الفعل له حقيقة ايضا فى حضرة الاسماء، وكل ما فى حضرة الارواح له حقيقة فى حضرة الاقلام وحقيقة فى حضرة الفعل وحقيقة فى حضرة الاسماء، وهكذا حضرة النفوس الكلية وما فيها وحضرة النفوس الجزئية وما فيها وعالم الطبع وما فيها، وبعبارة اخرى كل دان له صورة بالاستقلال فى العالى وصورة بالاستقلال فى على العالى وصورة بتبع العالى فى عالى العالى فلكل شيء من الممكنات حقائق فى حضرة الاسماء استقلالا وتبعا وهكذا فى حضرة الفعل وهكذا فى حضرة الاقلام الى عالم المثال، وكل تلك الحضرات من حيث انها عوالم مجردة عن المادة واغشيتها تسمى عند الله ولدن الله لحضورها فى محضره، ولما كان تلك الحقائق محفوظة عن التغير والتبدل كالاشياء النفيسة المخزونة المحفوظة سماها تعالى بالخزائن، فكل ما فى عالم الملك فله حقيقة فى عالم المثال ينزله تعالى شأنه من عالم المثال الى عالم الملك بقدر استعداد المادة لقبوله وحين استعدادها، وهكذا من النفوس الكلية الى عالم المثال، وهكذا الامر فى العالى والاعلى الى حضرة الاسماء. ولما كان موجودات عالم الملك متجددة بالتجدد الذاتى بمعنى انها كل آن فانية عن ذواتها وموجودة بموجدها كما حقق فى محله فما من شيء مما فى عالم الملك الا ويفنى آنا فآنا وينزله تعالى من خزائنه آنا فآنا فلذلك قال { وما ننزله إلا بقدر معلوم } بصيغة المضارع الدال على الاستمرار التجددى.
[15.22]
{ وأرسلنا الرياح لواقح } ملقحات فان اللاقح هو الحامل والملقح هو الجاعل للشيء حاملا يعنى ومما ننزل بقدر الرياح اللواقح التى لا اعتناء لكم بها وفيها منافع لكم منها تسيير السحاب فى السماء لامطار المطر ولهذا كانت بشرى بين يدى رحمته وقال { فأنزلنا من السمآء ماء } بالفاء الدالة على التعقيب { فأسقيناكموه ومآ أنتم له بخازنين } حتى تقدروا على انزاله ومنعه بل هو ايضا مما ننزله بقدر فالمقصود اثبات خازنية الماء لنفسه استدلالا على ما ادعاه من ان كل شيء خزائنه عنده.
[15.23]
كأن سابقه كان لاثبات المبدئية وحصرها فى نفسه وهذا الاثبات المالكية والمرجعية وحصرهما فى نفسه.
[15.24]
{ ولقد علمنا.. } اى المستقدمين ولادة والمستأخرين الموجودين فى زمان واحد، او المستقدمين الذين مضى زمان وجودهم والمستأخرين الذين لم يأتوا بعد، او المستقدمين فى مراتب الايمان والاسلام والآية بحسب التعميم شاملة للجميع ولعل المقصود كان هذا التعميم لان المراد بيان احاطة علمه تعالى بعد بيان مبدئيته ومرجعيته والتعميم ادل على ذلك.
[15.25]
{ وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم } وحكمته تقتضى الحشر والمجازاة وايصال كل الى مقتضاه { عليم } يعلم قدر كل ومحشره واقتضاءه، ثم لما اثبت آلهته فى مبدئيته ومرجعيته ومالكيته واثبت حكمته وعلمه اثبت مدئيته لخصوص الانسان لانه اشرف الموجودات وان مبدئيته له ادل على حكمته وقدرته وعلمه وذكر مبدئيته للجان تبعا فقال { ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون }.
[15.26]
ذكروا لتلك الكلمات معانى اوجهها ان يكون المراد بالصلصال الشيء المنتن، والحمأ الطين الاسود لطول مجاورته للماء، شبه النطفة بالحمأ لانه يبقى فى العروق واوعية المنى مدة طويلة كالطين الاسود فى الانهار، والمسنون المصبوب لانها تصب فى الرحم.
[15.27]
{ والجآن } قيل: المقصود منه او الجن، وقيل: ابليس، وقيل: اريد به الجنس كما هو الظاهر من لفظ الانسان { خلقناه من قبل } قبل خلق الانسان { من نار السموم } السموم الريح الحارة الشديدة الحر المعروفة وكثيرا ما تكون فى البلاد الحارة وهى ريح شديدة الحر منتنة حادثة من الاراضى السبخة الكبريتية المتسخنة بالشمس ولها سمية ولذلك تسمى سموما، شبه الكيفية الحادثة من اختلاط القوى الطبيعية العنصرية السبخة مع القوى الروحانية وتسخنها بحرارة الشمس الحقيقية بالنار التى تظهر فى الهواء من اختلاط سطوح الاراضى السبخة مع ضوء الشمس، وتولد الجن منها بالدخان الحاصل من النار فانه بعد انتهاء الوجود الى عالم الملك يحدث منه ظل ظلمانى ودخان الى اسفل السافلين ويحصل الملكوت السفلى ودار الجنة والشياطين وذلك قبل خلقة مواليد عالم الطبع او قبل خلقة الانسان وقد مضى فى اول البقرة عند قوله:
وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم
[البقرة:34]؛ الآية، تحقيق تام لكيفية خلق الجنة والشياطين هذا فى العالم الكبير، واما فى العالم الصغير فالجان ابو الجان هو الواهمة المتولدة من حرارة الاخلاط الحاصلة من تسخنها بشمس الروح وخلقتها قبل خلقة الانسان كما هو المشهود.
[15.28-33]
{ وإذ قال } واذكر اذ قال { ربك للملآئكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون فإذا سويته } اتممت خلقته { ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين قال يإبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون } وقد خلقتنى من النار التى هى اشرف العناصر وذلك الصلصال اخس مواليد العناصر.
[15.34-36]
{ قال فاخرج منها } من السماء او من الجنة او من الملائكة او من المنزلة والرياسة { فإنك رجيم وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون } حرصا على البقاء وفسحة فى الاغواء.
[15.37-38]
{ قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم } لما اراد البقاء الى يوم البعث وهو يوم الاحياء بالنفخة الثانية وامد ابليس الى النفخة الاولى قال اجابة لملتمسه لكن لا الى الوقت المسؤل بل الى الوقت المعلوم الذى هو وقت النفخة الاولى، وقد فسر فى الاخبار الوقت المعلوم بظهور القائم عجل الله فرجه وذبحه اياه او ذبح رسول الله (ص) اياه وبوقت النفخة الاولى والكل راجع الى امر واحد وان ادى باختلاف الاعتبارات بعبارات مختلفة.
[15.39-40]
{ قال } غيظا { رب بمآ أغويتني } كما هو عادة اتباعه فانهم اذا لم يجدوا ما طلبوا نسبوا التقصير الى غيرهم بل الى سيدهم { لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين } قرئ بكسر اللام وفتحها.
[15.41]
{ قال هذا صراط } حق { علي مستقيم } لا اعوجاج فيه والمشار اليه اما الاخلاص او عدم تسلطه على المخلصين او تزيينه او اغواؤه لغير المخلصين وسر كونه صراطا مستقيما حقا على الله تعالى ان الانسان خلق ومن كل شيء فيه قوة بنص
وعلم آدم الأسمآء
[البقرة:31]، والمقصود من خلقته ان يصير فى الكل بالفعل لكن لما كان فى كل شيء جهة تعين وبطلان وجهة اطلاق وحقية والمقصود من فعليتها فعلية حقيتها فى الانسان مع استخلاصها من البطلان ولا يحصل الفعلية الخالصة من جهة البطلان الا بوسوسة الشيطان واغوائه فان وسوسته كالنار للذهب وقد قال المولوى قدس سره:
ديو كه بود كوز ادم بكذرد
بر جنين نطعى از او بازى برد
در حقيقت نفع آدم شد همه
لعنت حاسد شده آن دمدمه
بازيى ديدو دوصد بازى نديد
يس ستون خانه خود را بريد
خود زيان جان او شد ديو او
كوئى آدم بود ديو ديو او
فالصراط المستقيم هو النفس الانسانية الواقعة بين طرفى وساوس الشيطان وزواجر الملك وبهما يحصل كمال له ويتم سيره الى مولاه:
من جو آدم بودم اول حبس كرب
برشد اكنون نسل جانم شرق وغرب
ولولا وسوسة الشيطان واغواؤه لما امتلأ الدنيا من نسل آدم (ع)، وقرئ: صراط على وعلى وزن فعيل وصفا للصراط، ونقل: صراط على باضافة الصراط الى على (ع) وفسر الصراط او على بامير المؤمنين (ع).
[15.42]
{ إن عبادي.. } ممن هو مثلك فى الغواية والضلالة الذاتية التكوينية.
[15.43-44]
{ وإن جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب لكل باب منهم } من الغاوين المتبعين { جزء } صنف { مقسوم } كون ابواب جهنم ودركاتها سبعة باعتبار طبقات الارض السبع: اليهولى الاولى والامتعداد الجسمانى والطبع العنصرى والمادة الجمادية والمادة النباتية والمادة الحيوانية والمادة الانسانية المعبر عنها بالصدر المنشرح بالكفر والنفس الامارة، ولكل طبقة باب منه يدخل فيها ويخرج منها، وهذه الطبقات بظواهرها المدركة واقعة فى الدنيا وببواطنها واقعة فى الملكوت السفلى ودار الاشقياء ودركات جهنم وابوابها بازاء تلك الطبقات، وما ورد من ان جهنم فى الارض السابعة او تحت الارض اشارة الى ما ذكر وتلك مجتمعة فى الانسان لكنها منصبغة بالنفس الانسانية بحيث لا حكم لها سوى حكم النفس، ولذلك يسمى الانسان انسانا ولا يسمى ارضا ولا نارا ولا جحيما وخلدا وما لم تفارق النفس الانسانية عنها لم يكن لها حكم وكان ابوابها غير منفتحة بل مطبقة كما اشير اليه فى الآيات والاخبار، ولما كان بازاء كل طبقة من طبقات الارض سماء والجنان الثمان كانت بازاء السماوات السبع وكان فوق السبع جنة اللقاء والرضوان صارت درجات الجنان ثمانيا وكانت ابوبها ثمانية. ولما كانت اللطيفة الانسانية سماوية ومجانسة للسماوات فهى من اول خلقته داخلة فى السماوات التى هى بازاء درجات الجنان وابوابها ولذلك كانت ابواب الجنان مفتوحة والانسان واقع فى تلك الابواب وان لم يكن داخلا فى الجنان ففى الآيات القرآنية بالنسبة الى اهل الجحيم: ادخلوا ابواب جهنم، فى عدة مواضع، وبالنسبة الى اهل الجنان: ادخلوها وليس فى الكتاب ادخلوا ابواب الجنان، وقد تفسر ابواب الجحيم بالرذائل السبع التى هى امهات الرذائل على اختلاف الاقوال فى تعيينها، وابواب الجنان بالخصائل الثمان التى هى امهات الخصائل على اختلاف فى تعيينها. وقد تفسر ابواب الجحيم بالمدارك الخمسة الظاهرة والخيال المدرك للصور والوهم المدرك للمعانى، وابواب الجنان بتلك المدارك مع العاقلة ولا يخفى وجه المناسبة لكن الحق والتحقيق ان الجحيم وابوابها حقيقة موجودة فى خارج هذا العالم فى الملكوت السفلى، وما ذكروا مناسبات لعدد طبقاتها وابوابها لا انه هى بعينها. وفى الخبر ان للنار سبعة ابواب؛ باب يدخل منه فرعون وهامان وقارون، وباب يدخل منه المشركون والكفار ومن لم يؤمن بالله طرفة عين، وباب يدخل منه بنو امية هو لهم خاصة لا يزاحمهم فيه احد وهو باب لظى وهو باب سعير وهو باب الهاوية يهوى بهم سبعين خريفا فكلما هوى بهم سبعين خريفا فار بهم فورة قذف بهم فى اعلاها سبعين خريفا فلا يزالون هكذا ابدا خالدين مخلدين، وباب يدخل منه مبغضونا ومحاربونا وخاذلونا وانه لاعظم الابواب واشدها حرا (الى آخر الحديث).
[15.45]
{ إن المتقين.. } وعد للمتقين عن متابعة الشيطان فى مقابلة وعيد التابعين له.
[15.46]
على تقدير القول.
[15.47]
{ ونزعنا ما في صدورهم من غل } الحقد يعنى نزعنا فى الدنيا قبل الآخرة ولذلك دخلوا الجنة بسلام آمنين، او نزعنا فى الجنة ما فى صدورهم من قوة الحقد فان الانسان ما دام فى الدنيا قلما بخلو من قوة الحقد { إخوانا } حال { على سرر متقابلين } فى الاخبار: انتم والله الذين قال الله ونزعنا ما فى صدورهم، ووالله ما اراد بهذا غيركم.
[15.48-49]
{ لا يمسهم فيها نصب } تعب { وما هم منها بمخرجين نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم } تقوية لرجائهم.
[15.50]
تقوية لخوفهم.
[15.51-52]
لامتناعهم عن الاكل كما سبق.
[15.53]
{ قالوا لا توجل.. } ورد فى الاخبار ان البشارة جاءته من الله فمكث ثلاث سنين ثم جاءته البشارة مرة بعد اخرى بعد ثلاث سنين.
[15.54-55]
{ قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون قالوا بشرناك بالحق } بأمر واقع حق { فلا تكن من القانطين } لقدرته تعالى على ما لم يوافقه الاسباب.
[15.56]
{ قال ومن يقنط.. } من طريق معرفة الله وقدرته.
[15.57-58]
{ قال فما خطبكم } امركم وشغلكم بعد البشارة { أيها المرسلون قالوا إنآ أرسلنآ إلى قوم مجرمين } اى قوم لوط.
[15.59-60]
{ إلا آل لوط } استثناء من قوم مجرمين منقطعا او متصلا او من المستتر فى مجرمين { إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته قدرنآ إنها لمن الغابرين } علق قدرنا لما فيه من معنى العلم، والغابر بمعنى الباقى اى من الباقين مع الكفرة للهلاك.
[15.61-62]
{ فلما جآء آل لوط المرسلون قال } لوط (ع) بعد مشاهدتهم { إنكم قوم منكرون } لا اعرفكم اولا آنس بكم لظن الشر بكم.
[15.63]
{ قالوا } لسنا بذى شر لكم { بل جئناك بما كانوا فيه يمترون } من العذاب.
[15.64]
{ وآتيناك بالحق } بالامر الحق الذى لا تخلف فيه { وإنا لصادقون } تأكيد لتحققه.
[15.65]
{ فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم } وكن على ادبارهم كالمراقب الحافظ { ولا يلتفت منكم } الى ورائه { أحد وامضوا حيث تؤمرون } يعنى يدرككم الامر الآلهى حين الخروج فامضوا حيث تؤمرون حينئذ.
[15.66]
{ وقضينآ إليه } الى لوط (ع) { ذلك الأمر } اى انهينا اليه علم ذلك الامر المبهم الذى يفسره قوله { أن دابر هؤلآء مقطوع مصبحين } يعنى يستأصلون من اخرهم.
[15.67]
{ وجآء أهل المدينة } بعد اطلاعهم بواسطة امرأة لوط (ع) كما مضى { يستبشرون } باضياف لوط (ع) طمعا فيهم وبدخول لوط (ع) على زعمهم فى مثل فعلهم.
[15.68-69]
{ قال إن هؤلآء.. } لا تذلون من الخزى بمعنى الهوان او لا تخجلون عند ضيفى من الخزاية بمعنى الحياء.
[15.70]
اى عن ضيافة الناس.
[15.71-72]
{ قال هؤلآء بناتي إن كنتم فاعلين لعمرك } يا محمد (ص) اى بحيوتك { إنهم لفي سكرتهم يعمهون } يتحيرون والاتيان بالمضارع لاحضار الحال الماضية.
[15.73]
{ فأخذتهم الصيحة.. } داخلين فى وقت شروق الشمس.
[15.74]
{ فجعلنا عاليها } عالى قراهم { سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل } معرب " سنك كل " وقد مضى تفصيل اهلاكها.
[15.75]
المتفرسين الذين يعرفون الاشياء بسماتها.
[15.76]
{ وإنها } اى القرى او آثار الهلاك او الآيات { لبسبيل مقيم } باق غير مندرس يسلكه الناس ويشاهدون آثار قراهم وهلاكهم، وورد عنهم (ع) انا نحن المتوسمون وان السبيل فينا مقيم، وورد ان فى الامام آية للمتوسمين وهو السبيل.
[15.77]
تأكيد للاول بابدال المتوسم بالمؤمن، او المراد ان فى ذلك التوسم لآية للمؤمنين.
[15.78-79]
{ وإن كان } انه كان { أصحاب الأيكة } الايك الشجر الملتف الكثير او الجماعة من كل شجر حتى من النخل الواحدة الايكة، او الاجمة الكثيرة الشجر والمراد بهم قوم شعيب (ع) من اهل مدين اومن اهل القرية التى كانت غير مدين { لظالمين فانتقمنا منهم وإنهما } اى الايكة ومدين او قرئ قوم لوط وقرئ اصحاب الايكة { لبإمام مبين } طريق واضح يؤمه المارة، والامام ما يؤم من طريق وغيره.
[15.80]
يعنى ثمود كذبوا صالحا ولعله كان لهم رسل اخرى، او جعل تكذيب الواحد تكذيبا للكل، او الجمع باعتبار من كان مع الرسول من المؤمنين، والحجر اسم واديهم وهو واد بين المدنية والشام وكانوا يسكنونه.
[15.81-82]
{ وآتيناهم آياتنا } كالناقة وولدها وشربها { فكانوا عنها معرضين وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا } لقوة ابدانهم وطول اعمارهم وآمالهم { آمنين } من الانهدام ونقب السراق وتخريب الاعداء، او آمنين من عاقبة امرهم ونزول العذاب بهم فى الدنيا او فى الآخرة، او مريدين كونهم بذلك آمنين من الآفات.
[15.83-84]
من البيوت فى الاحجار وكثرة المال والعدد.
[15.85]
{ وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهمآ إلا بالحق } مر نظائر الآية مرارا وهذا تمهيد للامر بالصفح يعنى ان قومك متلبسون بالحق وانت اكمل الانبياء (ع) فلا ينبغى لك ان تنظر الى تكذيبهم وسوء صنيعهم بك وتدعو عليهم او تغضب عليهم فان غضبك كدعائك موجب لبعدهم عن الرحمة وانت نبى الرحمة فكن سببا لقربهم من الرحمة لا لبعدهم عن الرحمة { وإن الساعة لآتية } فمن كان منهم مستحقا للعقوبة والسياسة لا يفلت عنا فتوكل علينا وكل امورهم الينا ولا تعاجلهم بالدعاء كسائر الانبياء (ع) { فاصفح الصفح الجميل } الذى لاعتاب فيه ولا من، والعفو ترك المكافاة، والصفح اخراج اثر المساءة من القلب، ويستعمل كل فى كل وكل فى الاعم وكأنهما كالفقراء والمساكين اذا اجتمعا افترقا واذا افترقا اجتمعا.
[15.86]
{ إن ربك هو الخلاق } التعليق على وصف الربوبية دون سائر الاوصاف للاستعطاف والمعنى ان الذى يربيك ويتلطف بك هو خالقهم فلا ينبغى لك المعاجلة فى معاقبة مخلوق من هو يربيك { العليم } بحالهم فيكافئهم على ما اقتضته حالهم فالآية من قوله: ما خلقنا السماوات (الآية) استعطاف له (ص) على قومه واستبطاء عن المعاجلة فى المعاتبة والدعاء.
[15.87]
{ ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم } تمهيد لقوله: لاتمدن عينيك فان من اعطى السبع المثانى كان غنيا مطلقا فلا ينبغى مد نظره الى غيره، والمثانى جمع المثنى بمعنى اثنين اثنين، وقيل جمع المثنى من الثناء وقد سبق ان مراتب العالم باعتبار سبع، وانها باعتبار النزول والصعود تصير متكررة ومثانى وان القرآن صورة تدوين تلك المراتب وان فاتحة الكتاب مختصرة من القرآن وانه مجموع فيها، وان الائمة هم المتحققون بتلك المراتب، وان محمدا (ص) صاحب المقام المحمود وهم مقام جمع الجمع فى لسان الصوفية وان ذلك المقام هو القرآن العظيم فصح تفسير السبع المثانى بالقرآن جملة، وبسورة فاتحة الكتاب، وبالمثانى من السور وبالسور السبع الطول من اول القرآن الى آخر براءة على ان يجعل الانفال وبراءة واحدة وبالصحف السابقة وبالكتب السماوية تماما وبالائمة (ع).
[15.88]
{ لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم } اصنافا من الكفار لانه فى غاية الحقارة فى جنب ما اوتيت فلا ينبغى قطع النظر عما اوتيت والنظر الى مثل هذا الشيء الحقير { ولا تحزن عليهم } يعنى انك اوتيت ما به كمالك فى دنياك وآخرتك فلا ينبغى ان تتأثر من غيرك بان تنظر الى ظاهر المتنعمين فيتحرك رغبتك البشرية او تنظر الى باطنهم وانهم منصرفون عن الايمان الموصل الى الجنان الى الكفران الموصل الى النيران فتنقبض وتحزن على ذلك بل كن فى الحالين كأمير الحالين غير متأثر منهما وليكن حالك بالنسبة الى من آمن حال التواضع والتذلل والتحبب لانهم بلطيفة الايمان مظاهرك بل مظاهر الله تعالى والتواضع لهم تواضع لله { واخفض جناحك للمؤمنين } مستعار من خفض الطيور جناحها لقرينها حين التذلل والتحبب لها، عن رسول الله (ص): من أوتى القرآن فظن ان احدا من الناس اوتى افضل مما اوتى لقد عظم ما حقر الله وحقر ما عظم الله.
[15.89]
{ وقل } بالنسبة الى من نهيتك عن الرغبة فى ظاهرهم والحزن على باطنهم { إني أنا النذير المبين } الذى يظهر انذاره بحيث لا يخفى دلالته على صدقه ولا دلالته على المنذر به.
[15.90]
يعنى آتيناك سبعا من المثانى كالذى انزلنا على المقتسمين من اهل الكتاب الذين اقتسموا هممهم على الاطماع والاحزان والآمال فجعلوا القرآن ما يوافقهم منه مقبولا وما يخالفهم منه مردودا ، او قل انى انا النذير المبين بعذاب مهين كما انزلنا على المقتسمين قيل: المقتسمون كانوا اثنى عشر رجلا اقتسموا محال دخول مكة وخروجها ايام الموسم لينفروا المؤمنين عن الايمان بالرسول (ص)، وقيل: هم الذين تقاسموا على قتل محمد (ص)، وقيل: هم الذين تقاسموا على ان يبيتوا صالحا (ع)، وقيل: هم اليهود اقتسموا الكتب السماوية فأظهروا بعضها وأخفوا بعضها، او التوراة فأظهروا بعضها وأخفوا بعضها؛ وعلى هذا فالمراد بالقرآن فيما بعد مطلق المقرو السماوى.
[15.91]
جمع العضة من العضوة بمعنى العضو اى جعلوا القرآن اعضاء واجزاء، او جمع العضة من عضيته اذا بهته اى جعلوا القرآن اسمارا.
[15.92-93]
من تقسيم القرآن او جعله اسمارا او من سائر ما فعلوا.
[15.94-96]
{ فاصدع بما تؤمر } ولا تبال بقبلوهم وردهم وباستهزائهم وعدم استهزائهم، والمراد منه اجهر به من صدع بالحجة اذا تكلم بها جهارا، او فرق به بين الحق والباطل، او فرق الحق وانثره بحيث لا يكاد تجمع ويذهب به او شق وفرق به جماعات الكفار { وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون } عاقبة امرهم وقد ورد فى أخبارنا ان الآية نزلت بمكة بعد ان اكتتم محمد (ص) امره بعد بعثته خمس سنين او ثلاث سنين ولم يكن معه الا على (ع) وخديجة (ع) ثم امر بالاظهار فكان يظهر امره على قبائل العرب.
[15.97]
من تكذيبك والطعن فيك والاستهزاء بك وبدينك وبآلهتك وبكتابك وصلاتك.
[15.98]
فاشغل نفسك عنهم واشتغل بما هو شأنك من عبادة ربك.
[15.99]
اى الموت فانه المتيقن فالمعنى حتى يأتيك الامر المتيقن، او لان اليقين الكامل بالمغيبات لا يحصل الا بعد رفع حجاب البدن بالموت الاختيارى هذا ما قيل؛ والحق ان اعتبار مفهوم الغاية ودخولها وخروجها عن المغيى بها امر لا حجة عليه من العرف واللغة، فالمقصود انك علمت علما اجماليا وكل من علم امرا اجمالا طلب التفصيل فيه واليقين به بمراتب اليقين من علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين كما اشار اليه المولوى قدس سره:
هو كمان تشنه يقين است اى يسر
ميزند اندر تزايد بال وبر
جون رسد در علم بس بريا شود
مر يقين را علم او بويا شود
علم جوياى يقين باشد بدان
وان يقين جوياى ديداست وعيان
اندر آلهيكم بيان اين ببين
كه شود علم اليقين عين اليقين
فكأنه قال: ان كنت تريد اليقين بمراتبه وتفصيل العلوم فاشتغل بعبادة ربك حتى يحصل لك مطلوبك من مراتب اليقين، اما عدم العبادة بعد اليقين فغير مستفاد منه الا باعتبار مفهوم الغاية وقد عرفت ضعف اعتباره؛ وقد قال بعض المتصوفة المسقطين للعبادات: ان العبادة لحصول اليقين فاذا حصل اليقين فلا حاجة الى العبادات، وتوسلوا بمفهوم مثل هذه الآية ومتشابهات الآيات والاخبار واقوال الكبار من اهل اليقين من غير غور وتعمق فى مغزاها.
[16 - سورة النحل]
[16.1]
{ أتى أمر الله فلا تستعجلوه } كانوا يستعجلون ما وعدهم الرسول (ص) من العذاب والاهلاك وقيام الساعة والحساب والعقاب يوم القيامة استهزاء به وبرسالته وبايعاده فقال تعالى: اتى أمر الله بالاهلاك بالماضى للاشارة الى تحققه او للاشارة الى قرب حصوله وكانوا يقولون استهزاء اذا وقع ما توعده فأصنامنا تشفع لنا فقال تعالى { سبحانه وتعالى عما يشركون } فلا يشفع شيء لهم ولا يدفع الاصنام شيئا من عذابه.
[16.2]
{ ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشآء من عباده } اعلم، ان الانسان من اول استقرار مادته فى الرحم يقع فى تدبير الملائكة فيربونه ويجلبون ما يحتاج اليه ويدفعون عنه ما يضره وان الله تعالى يبعث عليه بمحض فضله ملائكة ويزداد عددهم يوما فيوما وآنا فآنا الى اوان البلوغ، فان ساعده التوفيق واستعان بالله اختيارا كما كان متسعينا به تكوينا قبل ذلك لم ينقطع امداده بالملائكة بعد ذلك ايضا، والملائكة الذين كانوا موكلين به كانوا ملائكة ارضيين وهم الملائكة الذين امروا بالسجود لآدم (ع) وبعد ذلك يكون الامداد بالملائكة السماوية ويزداد كل يوم عددهم الى ان بلغ الى مقام العبودية واول ظهور الربوبية وحينئذ يمده بالعظام من الملائكة كجبرئيل وميكائيل، ويمده ايضا بالروح وهو اعظم من جبرئيل وميكائيل كما ورد فى الاخبار، ولعل الروح ههنا اشارة الى الملك المعتنى بتربية نوع الانسان ويسميه الاشراقيون رب النوع وله بعدد كل انسان وجه كما فى الخبر وهو المحيط بجميع افراد الانسان بل بجميع موجودات العالم لان جميع الانواع تحت نوع الانسان، وجميع ارباب الانواع تحت النوع الانسانى، وجميع الموجودات تحت ارباب انواعها فجميع الموجودات تحت رب النوع الانسانى وعلى هذا فالمعنى ينزل الملائكة مع الروح، او ينزل الملائكة بسبب الروح وتوسطه، وعلى الاول فالمنزل عليه الخواص من الانبباء وعلى الثانى جملة الانبياء، او المراد بالروح ما يحيى به القلوب من الجهل تشبيها بالروح التى يحيى به الابدان، او المراد بالروح النبوة التى بها حياة كل شيء، وعلى هذا فالمعنى ينزل الملائكة الروح من عالم امره على من يشاء من عباده وللروح معان أخر مذكورة فى الاخبار ومصطلحة بين ارباب الصنائع وهذا الروح الذى هو اعظم من جبرئيل يكون مع العظماء من الانبياء والاولياء (ع) كخاتم النبيين (ص) وخلفائه المعصومين (ع) وقوله: من امره، اى من عالم امره فان الملائكة النازلة والروح من عالم الامر مقابل عالم الخلق { أن أنذروا } ان مصدرية او تفسيرية فان الانزال يستلزم معنى القول، وانذروا بمعنى اعلموا او بمعنى احذروا { أنه لا إله إلا أنا فاتقون } وكون التوحيد محذرا به لاستلزامه الاستقلال فى الحكومة والتصرف والمتسقل فى الحكومة يحذر من مخالفته.
[16.3-4]
{ خلق السماوات والأرض بالحق } بمنزلة التعليل للتوحيد { تعالى عما يشركون خلق الإنسان من نطفة } بدل نحو بدل البعض { فإذا هو خصيم مبين } ولا يتمشى من الطبع والدهر مثل ذلك الخلق.
[16.5]
{ والأنعام خلقها لكم فيها دفء } ما تستدفئون به من اصوافها واوبارها واشعارها وجلودها { ومنافع } من لحومها وضروعها وظهورها واثارة الارض بها { ومنها تأكلون } من الشحوم واللحوم والالبان.
[16.6]
{ ولكم فيها جمال } زينة { حين تريحون } ترجعونها بالرواح الى المناخ والمغنم { وحين تسرحون } تخرجونها للسرح والرعى بالغداة فان الافنية تتزين بها فى الوقتين ويجل اهلها فى اعين الناظرين اليها، وتقديم الاراحة لانها حينئذ تقبل والاقبال ازين من الادبار ملاء البطون ثم تأوى الى الحظائر حاضرة لاهلها، وفى الغداة بالعكس.
[16.7]
{ وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا } بانفسكم { بالغيه إلا بشق الأنفس } فضلا عن ان تحملوا الاثقال على ظهوركم { إن ربكم لرؤوف رحيم } بكم لانه خلق لكم ما تنتفعون به وتحتاجون اليه.
[16.8]
لانتفاعكم من موجودات عالم الطبع مما فى الارض والسماء وموجودات عالم الارواح.
[16.9]
{ وعلى الله قصد السبيل } لما ذكر فى خلقة الانسان جملة ما يحتاج اليه فى معاشه ووصوله الى خيراته وكان السبيل المقتصد الخارج عن الافراط والتفريط فى كل شيء ان يكون اسباب وصوله الى خيراته الاولية الذاتية والى خيراته الثانوية بقدر حاجته موجودة، والسلوك اى خيراته الاولية الذاتية والى خيراته الثانوية بقدر حاجته، موجودة وكان السلوك الى خيراته غير متعسر قال: لا اختصاص لقصد السبيل بالانسان بل على الله قصد السبيل لكل شيء { ومنها جآئر } وبعض السبل حائد عن الاعتدال او المقصود ان خلقتكم وخلقة ما تحتاجون اليه هى السبيل الى خيراتكم البدنية وكمالاتكم الدنيوية التكوينية الغير الاختيارية، واما خيراتكم الروحية الاخروية وكمالاتكم الانسانية الاختارية فعلى الله قصد السبيل فى ذلك باعطاء العلم والمعرفة وارسال الرسل وانزال الكتب وتهية جميع ما تحتاجون اليه فى تحصيل هذه، فان وقع حيف وميل ونقص وجور فهو من عند انفسكم غير راجع الى الله، فمن خرج عن الاقتصاد فى الطريق الى الجور فيه فهو بشآمة استعداده وكسبه { ولو شآء لهداكم أجمعين } بالايصال الى قصد الطريق والسير عليه.
[16.10]
{ هو الذي أنزل من السماء مآء لكم منه شراب ومنه شجر } اعم من النبات { فيه تسيمون } فى الشجر ترعون مواشيكم.
[16.11]
لما كان كون انزال الماء وانبات النبات والاشجار آية محتاجا الى تأمل وترتيب مقدمات قال: لقوم يتفكرون.
[16.12]
{ وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره } قرئ الشمس والقمر والنجوم مسخرات كلها بالرفع، وقرئ الشمس والقمر بالنصب والنجوم مسخرات بالرفع، وقرئ الجميع بالنصب وفائدة الحال المؤكدة تأكيد التسخير وبيان واسطة التسخير وهو عالم الامر { إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون } يكفيه العقل من غير فكر لظهور دلالة المذكورات بالنسبة الى انزال الماء وانبات النبات وجمع الآيات لكون كل منها آية على حياله.
[16.13]
{ وما ذرأ لكم } وسخر لكم ما خلق لكم { في الأرض } من المواليد من المعادن واصناف النبات وانواع الحيوان والعناصر وما فى الارض من الجبال والوهاد والتلال، والمراد بتسخيرها تسخيرها فيما خلق لاجله لا تسخيرها للانسان نحو تسخير الحيوان للانسان ولكن تسخيرها بالمطاوعة للانسان فى وجه الانتفاع بها وان كان وجه الانتفاع ببعضها مخفيا، او ما ذرأ مبتدء ولكم خبره او فى الارض خبره والجملة حال او عطف على جملة هو الذى انزل، اوعلى جملة سخر لكم الليل { مختلفا ألوانه } اكتفى ببيان اختلاف اللون عن ذكر اختلاف النوع وجهات الانتفاع لانه الظاهر على الابصار والاغلب ان الانواع المختلفة بالذات مختلفة باللون { إن في ذلك لآية لقوم يذكرون } لا يكفيه العقل فقط ولا يحتاج الى التفكر بل يكفيه تذكر العقل.
[16.14]
{ وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها } كأنواع ما يخرج من البحر { وترى الفلك مواخر فيه } جوارى من المخر وهو شق الماء او صوت شق الماء { ولتبتغوا من فضله } بالتجارات { ولعلكم تشكرون } يعنى غاية الكل ان تنظروا الى الانعام وتشكروا حق النعمة برؤيتها من المنعم.
[16.15]
{ وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم } كراهة ان تميد الارض بكم باضطرابها.
اعلم، ان الارض كروية الشكل حيزها حول مركز العالم بحيث ان كل جزء من اجزائها لتوافقها مع الكل فى الطبع لو خلى وطبعه لما استقر الا فى حيز المركز كما هو المشهود، ولو كان الاجزاء طالبة للكل ولسنخها كما قيل للزم عدم افتراق ما اتصل بقلل الجبال الى السفل والارض ساكنة فى حيزها غير متحركة، وان قال بحركتها المتحدسون بقوة الحس وليست تلك الكرة كالكرة الواقعة فى الماء الطافية فوق الماء حتى تحتاج الى ما يسكنها عن الحركة والانقلاب وليست الجبال ما يزيد فى سكونها لانه ليس ارتفاع الجبال المرتفعة البالغة غاية الارتفاع بالنسبة الى قطر الكرة الا مقدار شعيرة او اقل ، وظاهر الآية يدل على ان تلك الكرة لو لم يكن الجبال تضطرب وتنقلب وتتحرك ولا يمكن التعيش عليها الا بالجبال فنقول: ان الجبال وان لم تكن اسبابا لسكون الكرة كما عرفت لكنه قد يقع الزلزلة القوية باسباب سماوية وارضية ولولا الجبال لسرت تلك الزلزلة الى مجاورات القطعة التى وقعت فيها الزلزلة مسافات كثيرة والجبال تمنع من تلك السراية كما لا يخفى، وهذا القدر كاف فى صدق ظاهر الآية مع ان المقصود بطونها، وايضا قد سلف منا ان العالم بتمام اجزائه مظاهر لاسماء الله وان خلفاء الله اسماء الله العظماء والجبال مظاهر لها بسكونها وارتفاعها وثقلها وصلابتها وجريان المياه من تحتها، وقد يجرى احاكم الظاهر على المظاهر كما مضى من جريان احكام القلب والصدر على بيت الله ومكة، وقد ورد فى الاخبار لولا الامام لماجت الارض بأهلها، او لو فقد الحجة لساخت الارض باهلها، وغير ذلك من الاخبار فبوجود خلفاء الله (ع) وجود الارض وسكونها وقرارها. ولما كانت الجبال مظاهر لخلفاء الله حكم عليها ان بها قرار الارض وسكونها اجراء لحكم الظاهر على المظهر، هذا بحسب التنزيل، واما بحسب التأويل فالعقول الكلية المعبر عنها بالقيام لا ينظرون وبالمقربين بوجه جبال الارض، والعقول العرضية المعبر عنها بالصافات صفا جبال الارض، والنفوس الكلية المعبر عنها بالمدبرات امرا والنفوس الجزئية المعبر عنها بالركع والسجد والاقدار المثالية المعبر عنها بذوى الاجنحة كلها جبال الارض، وخلفاء الله فى الارض اعظم جبال الارض، هذا فى الكبير وكل ما فى الكبير فهو بعينه جار فى العالم الصغير { وأنهارا } بواسطة الرواسى { وسبلا } فى الارض { لعلكم تهتدون } بالسبل الى مقاصدكم من الاسفار البعيدة والامتعة التى فى غير امكنتكم او لعلكم تهتدون الى المقصد الحقيقى من التوجه الى الله والسير على سبيله الذى جعل لكم من الانبياء والاولياء (ع).
[16.16]
{ وعلامات } مما يستدل السيارة على استقامة سيرهم الى مقاصدهم { وبالنجم هم يهتدون } بجنس النجم فى الليل كما هو شأن السيارة او بالنجم الخاص الذى هو الجدى كما فى الخبر وباطنه رسول الله (ص) والائمة (ع) واصحابهم وخلفاؤهم كما اشير اليه فى الاخبار.
[16.17]
{ أفمن يخلق كمن لا يخلق } من الاصنام والكواكب وغيرها { أفلا تذكرون } حتى لا تجعلوا المخلوق مشاركا للخالق.
[16.18]
{ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوهآ إن الله لغفور } فلا يؤاخذكم بالتقصير فى القيام بشكرها { رحيم } فلا يقطعها عنكم بتقصيركم بل يزيدها يوما فيوما.
[16.19]
{ والله يعلم ما تسرون } من الاعمال والاحوال والنيات والخيالات والخطرات والاخلاق والعقائد والاقوال والمكمونات التى لم تظهر بعد على انفسكم { وما تعلنون } مما ذكر، والاعلان فى كل بحسبه.
[16.20]
{ والذين يدعون من دون الله } كالملائكة والكواكب والاصنام والشياطين والرؤساء فى الضلالة { لا يخلقون شيئا } فلا يستحقون الدعوة { وهم يخلقون } فلا يمتازون عنكم حتى تختاروهم بالدعوة.
[16.21]
{ أموات غير أحيآء } فهم ادون منكم فانتم اولى بان يدعوكم الذين تدعون من دون الله { وما يشعرون أيان يبعثون } لا شعور لهم ببعثتهم فكيف بوقت بعث غيرهم والمجازاة والشفاعة لهم.
[16.22]
{ إلهكم إله واحد } كالنتيجة وقد مضى مثله وان المقصود ان الذى هو آلهكم اله ومستحق للعبادة وواحد لا متعدد بخلاف ما جعلوه آلها { فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة } لا يعرفون الآله ولا امر الآخرة { وهم مستكبرون } فان الاستكبار هو الخروج عن حكم الله وحكم خلفائه وهم خارجون لعدم اعتقادهم بالله وبخلفائه.
[16.23]
{ لا جرم } مصدر من الجرم بمعنى كسب الذنب ومعنى لا جرم لا ذنب فى الاصل لكنه يستعمل بمعنى حقا واصل المعنى لا جرم اى لا ذنب فى كذا يعنى فى اعتقاد كذا لكونه متحققا ثابتا { أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين } تعليل للمقصود من التهديد على افعالهم بالمؤاخذة وفى الخبر لا يؤمنون بالآخرة يعنى الرجعة قلوبهم منكرة يعنى كافرة وهم مستكبرون يعنى عن ولاية على (ع) انه لا يحب المستكبرين يعنى عن ولاية على (ع).
[16.24-25]
قالوا ذلك اضلالا للناس وصدا وكان غاية ذلك ان يحملوا اوزار ذلك القول والصد وبعض اوزار من اضلوهم وبغير علم ظرف مستقر حال من مفعول يضلونهم او فاعله او فاعل ليحملوا، او ظرف لغو متعلق بيحموا او يضلونهم، وفى الخبر انما لم يعذر الجاهل لان عليه ان يبحث وينظر بعقله حتى يميز بين المحق والمبطل، وعن الباقر (ع) ماذا انزل ربكم فى على (ع) قالوا اساطير الاولين وعن الصادق (ع) والله ما اهريقت محجمة من دم ولا قرع بعصا بعصا ولا غصب فرج حرام ولا اخذ مال من غير حله الا وزر ذلك فى اعناقهما من غير ان ينقص من اوزار العالمين شيء.
[16.26]
{ قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم } تمثيل لحالهم فى مكرهم بحال من بنى سقفا على اساطين محكمة قصدا للراحة تحته فاستوصلوا به وخرب تلك السقوف من جهة الاساطين التى بها استحكامها، والمراد باتيان امره بالاهلاك { وأتاهم العذاب } عذاب خراب السقف { من حيث لا يشعرون } بل من حيث يظنون بقاءه او اتاهم عذاب غير خراب السقف.
[16.27]
{ ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول أين شركآئي } من الاصنام والكواكب والاهوية وغيرها او شركاء مظاهرى من الاولياء والاصل على (ع) { الذين كنتم تشاقون فيهم } تعاندون المؤمنين ومظاهرى فى حقهم، او تخالفون الانبياء والاولياء (ع) فى حقهم { قال الذين أوتوا العلم } الانبياء (ع) واوصيائهم او جملة المؤمنين وائمتهم { إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين } الخزى الهوان والسوء العذاب.
[16.28]
{ الذين تتوفاهم الملائكة } خبر مبتدء محذوف او مفعول فعل محذوف او صفة للكافرين { ظالمي أنفسهم } ظالمين فى حقهم او فى حق امامهم فانه بمنزلة انفسهم بل اولى بهم منهم { فألقوا السلم } اى الاستسلام والانقياد او القول بالاستسلام او القول بالاستسلام والانقياد { ما كنا نعمل من سوء } تفسير للسلم على الذين انكروا مافعلوا من الجحود والانكار والاستهزاء فى الدنيا { بلى } رد من الملائكة او من الله اى قالوا او قال بلى { إن الله عليم بما كنتم تعملون } فلا ينفعكم انكاره الآن.
[16.29]
{ فادخلوا } جزاء لأعمالكم { أبواب جهنم } كل من بابه الخاص به { خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين } جهنم.
[16.30-31]
{ وقيل للذين اتقوا } قد مر مرارا ان التقوى الحقيقية لا تكون الا بالولاية والبيعة الخاصة الولوية { ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا } اقرار بالانزال من الرب وتصديق لكونه خيرا استسلاما { للذين أحسنوا } صاروا ذا حسن والحسن على الاطلاق على (ع) وكلما اتصل به من طريق الولاية كان ذا حسن به او احسنوا الى انفسهم او الى غيرهم { في هذه الدنيا حسنة } وهو طيبوبة المآكل والمشارب والمناكح والمراكب { ولدار الآخرة خير } لخلوص الطيبوبة لهم هناك من غواشى المادة وآلامها وقوله للذين احسنوا مقول لقولهم تفسير الخيرات واستيناف من الله { ولنعم دار المتقين جنات عدن } مخصوص نعم او مبتدأ خبره { يدخلونها } او يدخلونها صفة و { تجري من تحتها الأنهار } خبره او تجرى صفة بعد صفة و { لهم فيها ما يشآؤون } خبره ويحتمل كون الجمل حالات مترادفة او متداخلة وكون بعضها حالا وبعضها صفة وبعضها خبرا وقد مضى فى آل عمران فى نظير الآية مع جريان الانهار من تحت الجنات { كذلك جزي الله المتقين } وفى الخبر: ولنعم دار المتقين الدنيا.
[16.32]
{ الذين تتوفاهم الملائكة } صفة للمتقين او خبر مبتدء محذوف اومفعول فعل محذوف او مبتدء خبره يقولون او ادخلوا بتقدير القول { طيبين } من المعاصى او من الشرك { يقولون سلام عليكم } تحية لهم او بمعنى سلامة لكم من كل سوء { ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون } على طريق الولاية.
[16.33-34]
{ هل ينظرون } ينتظرون اى الذين لا يؤمنون بالآخرة { إلا أن تأتيهم الملائكة } حين الموت { أو يأتي أمر ربك } بالعذاب او بخروج القائم (ع) { كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله } بتدميرهم وعذابهم { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } من العذاب او المعاد او الرجعة او مطلق ما قاله رسلهم.
[16.35]
{ وقال الذين أشركوا لو شآء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم } فى جواب من لامهم على شركهم وتحريمهم وقد مضى الآية بتفسيرها مفصلا { فهل على الرسل إلا البلاغ المبين } يعنى ان نسبتهم فعلهم السيء الى الله كنسبة المراة الفاحشة شآمة فعلها الى غيرها وليس لها وجه صحة لان ما على الله هو ارسال الرسل لهدايتهم وليس على الرسل الا البلاغ.
[16.36-37]
{ ولقد بعثنا في كل أمة رسولا } ولقد بلغ الرسل فقد ادينا ما علينا وادوا ما عليهم فالنقص والتقصير كان منهم { أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } فلم يقبلوا من رسولهم { فمنهم من هدى الله } بقبوله قول الرسول (ع) { ومنهم من حقت عليه الضلالة } ووجه اختلاف الفعلين فى النسبة ظاهر لان الهداية منتسبة الى الله اولا وبالذات والاضلال منتسب اليه تعالى ثانيا وبالعرض وفى الخبر، ما بعث الله نبيا قط الا بولايتنا والبراءة من اعدائنا وذلك قوله تعالى: ولقد بعثنا (الآية) الى قوله من حقت عليه الضلالة يعنى بتكذيبهم آل محمد ووجه الخبر قد مضى مفصلا من ان شأن النبوة الانذار والدلالة الى الولاية وان ولاية كل ولى ظل من ولاية الاولياء الكلية وهم آل محمد (ص) وان عبادة الله لا تتصور الا من طريق الولاية وان آل محمد (ص) مظاهر الله وعبادة الله لا تتصور الا بتوسط طاعة المظاهر { فسيروا في الأرض } اى ارض عالم الطبع لتعلموا آثار المكذبين واخبارهم او ارض القرآن واخبار الماضين او ارض العالم الصغير { فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين إن تحرص على هداهم } يا محمد (ص) { فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين } اقناط له (ص) عن هديهم وتهديد بليغ للمكذبين.
[16.38]
{ وأقسموا بالله جهد أيمانهم } تعليل لاقناطه { لا يبعث الله من يموت } وجهد الايمان الايمان المغلظة المؤكدة ومن لا يعتقد البعث لا ينجع فيه نصح { بلى } رد عليهم { وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون } ولو علموا لعلموا انهم فى البعث آنا فآنا ويوما فيوما من غير انتظار البعث الكلى الآتى.
[16.39]
{ ليبين لهم } متعلق بيبعث المقدر بعد بلى { الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا } بالله او الآخرة او بالولاية { أنهم كانوا كاذبين } فى انكار البعث والجزاء والعقاب او فى ادعاء الخلافة والاستبداد.
[16.40]
بيان لسهولة الاعادة عليه، وقد ورد عن الصادق (ع) انه قال لابى بصير: ما تقول فى هذه الآية؟ - فقال: ان المشركين يزعمون ويحلفون لرسول الله (ص) ان الله لا يبعث الموتى قال: فقال: تبا لمن قال هذا؛ سلهم هل كان المشركون يحلفون بالله ام باللات والعزى؟! قال قلت: جعلت فداك فأوجدنيه قال: فقال: يا ابا بصير لو قد قام قائمنا بعث الله قوما من شيعتنا قبائح سويفهم على عواتقتهم فيبلغ ذلك قوما من شيعتنا لم يموتوا فيقولون: بعث فلان وفلان وفلان من قوبهم وهم مع القائم (ع) فيبلغ ذلك قوما من عدونا فيقولون يا معشر الشيعة ما اكذبكم هذه دوتلكم وانتم تقولون فيها الكذب لا والله ما عاش هؤلاء ولا يعيشون الى يوم القيامة قال فحكى الله قولهم فقال: وأقسموا بالله جهد ايمانهم لا يبعث الله من يموت، وبهذا المضمون اخبار كثيرة.
[16.41]
{ والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا } تنزيله فى رسول الله (ص) والذين هاجروا معه وبعده الى المدنية والذين هاجروا قبله الى الحبشة بعد ما آذاهم المشركون ايذاء كثيرا والذين حبسوهم قريش بمكة بعد هجرة رسول الله (ص) وآذوهم ثم هاجروا الى رسول الله، ومعنى قوله فى الله فى طريق الله وهو الرسول (ص) والامام او الرسالة والولاية والطريق الموصل اليهما او فى طلب الله او فى ابتغاء مرضاة الله او فى طاعة الله، ولما كانت التنزيل غير مختص بمن نزلت الآية فيه بل تعمه وغيره ممن هو متصف بوصفه كانت الآية شاملة لكل من هاجر من وطنه الصورى ابتغاء دين الله الى نبى او ولى من بعد ما تأذى بانقلابات الزمان واذى الاقران وتصرفات الشيطان، وتأويله كل من هاجر من اوطان شركه النفسانية كما قال (ع): المهاجر من هجر السيئات الى رسوله العقل ونبيه القلب وامامه الروح والكل دين الله وطريق الله ومظاهر الله، والهجرات الثلاث متعاقبة مترتبة فان الهجرة تقع اولا من دار الشرك النفسانية الى دار الاسلام الصدر ثم منها الى دار الايمان القلب ثم منه الى دار العيان الروح وبعبارة اخرى تقع الهجرة من دار الشرك الى الرسول وقبول احكامه القلبية ثم منه الى النبى وقبول احكامه القالبية ثم منه الى الولى وقبول وارادته الروحية { لنبوئنهم في الدنيا } دارا { حسنة } او تبوئة حسنة او حالا حسنة كما وقع فى الصورة للمهاجرين مع الرسول (ص) اذ آواهم وعززهم اهل مدينة وكما وقع لجعفر واصحابه اذ آويهم النجاشى وعززهم، وفى الباطن لكل من هاجر من دار النفس الامارة اذ يأوى الى دار الصدر السالمة من تنازع القوى النفسانية وتحاسد المتحاسدين وايذاء الموذين وهكذا، وهذا اجر الدنيا { ولأجر الآخرة } وهو لقاء الرحمن وجنة الرضوان { أكبر لو كانوا يعلمون } لو كان الناس يعلمون ذلك لاختاروا الهجرة او لما تثبطوا اولو كان الذين هاجروا يعلمون لسروا بذلك أوليتهم كانوا يعلمون فيتبادروا الى ذلك او فيسروا بذلك.
[16.42-43]
{ الذين صبروا } بدل من الذين هاجروا او صفة له او خبر متبدء محذوف او مفعول فعل محذوف { وعلى ربهم يتوكلون ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا } فلا غر وفى كونك رجلا من جنسهم فانك مثل الرسل الماضين { نوحي إليهم } وكان امتيازهم بالوحى كما ان امتيازك بالوحى فانكارهم لرسالتك لكونك بشرا مثلهم انكار لرسالة جميع الرسل { فاسألوا أهل الذكر } الذكر هو اضافة الحق الى الخلق وهى المشية والحق المخلوق به وهو حقيقة الولاية وخاتم الاولياء وهو على (ع) هو المتحقق بها ومظهرها التام وسائر الاولياء (ع) مظاهر على (ع) ومن اظلاله، والنبوة التى هى المصباح مظهر الولاية والرسالة التى هى كالزجاجة مظهر النبوة، وما فى عالم الطبع من بشرية الرسل والانبياء والاولياء (ع) وكتبهم واحكامهم القالبية والقلبية وسائر اجزاء عالم الطبع التى هى كالمشكوة بتمامها مستنيرة بنور المصباح وذلك النور هو ذكر الحق وتذكره، واهل الذكر تارة يطلق على من بتصرفه الذكر كالاولياء والانبياء والرسل (ع) وتارة يطلق على من اضيف اليه الذكر وهو كل من قبل دعوة الرسل (ع) والانبياء الدعوة الظاهرة او دعوة الاولياء (ع) الدعوة الباطنة، وكذا يطلق اهل الذكر على من انتحل الدعوة العامة كاليهود والنصارى والمجوس واكثر اهل الاسلام فانهم ليسوا من اهل الذكر والملة الآلهية حقيقة اذ تحقق الانتساب الى ملة له شرائط وعهود ومواثيق وليست تلك لهم، والذكر يطلق على الاولياء واحكامهم وعلى الانبياء والرسل (ع) واحكامهم وكتبهم الآلهية تفسير الذكر بالرسول (ص) وبعلى (ع) وبالقرآن وبسائر الكتب السماوية وبأحكام الرسالة والنبوة التى هى الملة الآلهية صحيح، وكذلك تفسير اهل الذكر بالانبياء والاولياء (ع) والاصل فى الكل آل محمد (ص) وبمن قبل الدعوة العامة ومن قبل الدعوة الخاصة وبمن انتحل الانتساب الى نبى وملة آلهية وكتاب سماوى كلها صحيح، والسؤال قد يكون عن حال الرسل والانبياء والاولياء (ع)، وقد يكون عن علامات رسولنا الختمى (ص) وعن اوصيائه، وقد يكون عن احكام النبوة؛ اذا عرفت ذلك سهل عليك التفطن بصحة ما فى الاخبار من اختلاف تفسير الآية ومن التفاسير التى هى مخالفة لظاهر الآية من انكار تفسير اهل الذكر باهل الكتاب وان اهل الكتاب اذا سألوا ايدعونكم الى دينهم ومن تفسير اهل الكتاب وتخصيصهم بانفسهم { إن كنتم لا تعلمون } اوصاف الانبياء او اوصاف محمد (ص) الموعود او لا تعلمون احكام الدين او لا تعلمون.
[16.44]
{ بالبينات والزبر } البينات آثار النبوة والرسالة واحكامهما والزبر آثار الولاية واحكامها، والتفسير بالمعجزات والكتب السماوية لانهما آثار النبوة والولاية، وقيل: قوله بالبينات والزبر متعلق بما ارسلنا، وقيل: متعلق بمحذوف وهو مستأنف كأنه قيل: بم أرسلوا؟ - فقال: بالبينات والزبر { وأنزلنا إليك الذكر } اى القرآن او احكام النبوة او الولاية { لتبين للناس ما نزل إليهم } والمقصود من مجموع ما نزل ولاية على (ع) فلا ينبغى لك ان تنظر الى ردهم وقبولهم بل عليك النظر الى غاية الامر والتنزيل وهى التبيين ردوا او قبلوا { ولعلهم يتفكرون } فيعلموا ان الاصل فى جملة الاحكام هو الاقتداء والخروج من الرأى والاستبداد ولا يتيسر ذلك الا بوجود من يقتدى به وانه لا بد لك من تعيين من يقتدى به باذن الله حتى يسلموا الامر لخليفتك ومن عينته فيقتدوا به ويفلحوا.
[16.45]
{ أفأمن الذين مكروا السيئات } وخصوصا انكار الولاية التى بها قوام الصالحات وفى انكارها ليس الاعمال الا السيئات { أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون } بمجيئه من تلك الحيثية كاتيان العذاب من حيث يرجى الثواب وهو صورة الاعمال الصالحة اذا لم تكن بأمر خليفة الله كما قال:
قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا
[الكهف:103- 104] فان صورة الاعمال الشرعية تصير سببا لغرور النفس وحسبان انها على خير لكنها ان لم تكن بامر ولى الامر (ع) وخليفة الرسول (ص) بل باستبداد النفس ورأيها او رأى من ليس للرأى باهل فهى ضالة غير نافعة، او المقصود من حيث لا يشعرون بشيء من العذاب وعدمه كوقت المنام والغفلة عن الاعمال والعذاب ولعله اوفق بما بعده.
[16.46]
{ أو يأخذهم في تقلبهم } فى مكاسبهم ومتاجرهم او فى تقلبهم فى آرائهم ومكرهم، او فى تقلبهم فيما يحسبونه صلاحا لهم كصور الاعمال الصالحة { فما هم بمعجزين } لنا ان نعذبهم فى عين استيقاظهم وتفطنهم.
[16.47]
{ أو يأخذهم على تخوف } حالكونهم على حذر والتفات الى العذاب وتمحلهم لدفعة بان يتنبهوا بما نزل بامثالهم { فإن ربكم لرؤوف رحيم } الفاء للسببية المحضة لا من الذين مكروا السيئات يعنى لا ينبغى ان يأمنوا بسبب رحمته فان رحمته لا تصل اذا لم يكن استحقاق، او للجواب والجزاء لشرط محذوف يعنى ان يمهلكم ولا يعاجلكم فان ربكم لرؤوف رحيم، او للسببية لمحذوف من غير تقدير بشرط كأنه قيل: لم لا يؤاخذهم؟ - فقال: لا يؤاخذ فان ربكم لرؤف رحيم.
[16.48]
{ أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله } يتقلب ظلاله بتقلبه { عن اليمين والشمآئل } توحيد اليمين وجمع الشمائل للاشارة الى وحدة جهة اليمين فى المعنى وكثرة جهة الشمائل فان اليمين المعنوية لكل شيء هى وجهته الالهية وشماله هى وجهته الخلقية والوجهة الآلهية كثرتها منطوية فى الوحدة والوجهة الخلقية وحدتها فانية فى الكثرة { سجدا لله } حال من ظلاله او مما خلق الله، وجمعه باعتبار المعنى { وهم داخرون } حال مترادفة عن سابقه او متداخلة او كل حال من ذى حال، والدخور الانقياد وجمعه بالواو والنون لانتساب وصف الدخور او السجود الذى هو من اوصاف العقلاء اليهم، او لان الكل من حيث انتسابها الى الله عقلاء علماء.
اعلم، ان الظل هو شاكلة الشاخص التى تحدث من الشاخص الكثيف اذا قابل شيئا منيرا فى طرف مقابل للمنير وهى تتقلب بتقلب الشاخص وتسكن بسكونه ولا اختصاص لها بما يقابل الشمس ولا بما فى عالم الطبع بل تحصل من كل ما يقابل منيرا، والمنير الحقيقى هو الله وفعله المعبر عنه بالمشية، وعالم العقول بالنسبة الى المشية كالشاخص، وعالم النفوس بالنسبة الى العقول كالشاخص، والمثال بالنسبة الى النفوس، وعالم الطبع بالنسبة الى عالم المثال، وعالم الجنة بالنسبة الى عالم الطبع، فظل كل عبارة عما دونه من العوالم وسجود كل عبارة عن تسخره لله تعالى شأنه وتذلله له تكوينا، ودخوره عبارة عن اتباعه وحركته وسكونه على وفق ارادته ومشيته والكل بالنسبة اليه ذوو شعور وارادة وعلم. ولما كان لعالم الطبع ظل نورانى كما يحدث من المرآة حين مقابلة الشمس وينعكس منها الى جهة الشعاع لا الى خلافه وهو المعبر عنه بالمثال الصاعد وظل ظلمانى كما يحدث من خلف المرآة وينعكس الى الجهة المخالفة للشعاع وهو المعبر عنه بالمثال النازل والملكوت السفلى وعالم الظلمة، وكانت الملكوت السفلى محل الكثرات والاختلافات والتغيرات وكانت الشمال تعبيرا عن هذه، والملكوت العليا محل الوحدة واتحاد المتكثرات واجتماع المتغايرات وكانت اليمين تعبيرا عنها قال عن اليمين والشمائل اشارة بوحدة الاول وجمع الثانى الى جهة اتحاد الاول وكثرة الثانى.
[16.49]
{ ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض } نتيجة لسابقه كأنه قيل: ما فى السماوات وما فى الارض ظل لله تعالى وكل ظل ساجد منقاد لذى ظله كما هو مشهود من ظلال الاشياء، فما فى السماوات والارض ساجد داخر لله { من دآبة } بيان لما فى السماوات وما فى الارض على ان يكون الدابة هى التى تتحرك او بيان لما فى الارض { والملائكة } عطف على دابة بطريق النشر خلاف اللف او على ما فى السماوات والمراد الملائكة الذين هم فوق السماوات والارض { وهم لا يستكبرون } عن عبادته.
[16.50]
{ يخافون ربهم من فوقهم } حال على سبيل الترادف او التداخل او مستأنف لبيان حالهم او للتعليل على عدم استكبارهم وفاعل لا يستكبرون اما الملائكة او جملة ما فى السماوات وما فى الارض والملائكة وليس المراد بالخوف ما هو من صفات النفس ومنفى عمن تخلص من النفس وصفاتها كما قال تعالى:
ألا إن أوليآء الله لا خوف عليهم
[يونس:62] بل المراد هو التذلل والانقباض الذى هو حاصل لكل محاط بالنسبة الى المحيط المعبر عنه بالخشية والهيبة والسطوه باعتبار مراتب الموصوفين ولذلك قيده بقوله: من فوقهم سواء كان ظرفا مستقرا حالا من ربهم، او ظرفا لغوا متعلقا بيخافون اى يخافون خوفا ناشئا من فوقهم { ويفعلون ما يؤمرون } فان حالهم كحال القوى النفسانية بالنسبة الى النفس الانسانية من حيث انها لا تعصيها اذا كانت باقية على السلامة الطبيعية بل كحال الصور الذهنية بالنسبة الى النفس من حيث انها لا وجود لها سوى وجود النفس، فحال الملائكة بل حال جميع الموجودات تكوينا كحال القوى والصور الذهنية وان كان حال الانسان اختيارا غير حاله تكوينا لانه يعصى ويتأبى مما امر به ويزعم ان له وجودا وفعلا بنفسه.
[16.51]
{ وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين } لما كان آلهين مشتملا على الجنس والعدد اكده باثنين اشعارا بان النهى عن الاتخاذ انما هو بالنسبة الى العدد كما فعل الثنوية لا الى الجنس فان اخذ الآله مأمور به مع وصف الوحدة كما قال { إنما هو إله واحد } اثباتا للجنس مؤكدا بالوحدة ولم يقل: بل اتخذوا آلها واحدا؛ اشعارا بان كونه آلها ليس بجعل جاعل حتى يؤمر بالاتخاذ بل هو امر ثابت فى نفسه اخذ او لم يؤخذ { فإياي فارهبون } جواب شرط محذوف كأنه قال: اذا كان الآله واحدا وانا ذلك الواحد فاياى فاربهون يعنى اياى اتخذوا آلها وارهبونى.
[16.52]
{ وله ما في السماوات والأرض } عطف فى معنى التعليل { وله الدين } الدين ههنا الطريق المؤدى للسالك فيه الى غايته { واصبا } واجبا لازما حال من الدين اى حالكونه لازما يعنى الدين التكوينى الفطرى بخلاف التكليفى الاختيارى فانه قد يكون للشيطان ومنهيا للسالك الى الشيطان او وصف للمفعول المطلق مؤكدا لغيره اى له الدين حقا واصبا، والدين على هذا هو الطريق الحق وعلى اى تقدير فالمقصود ان الدين الفطرى له او الدين الحق له فاجعلوا الدين بحسب اختياركم له { أفغير الله تتقون } عطف على محذوف اى اغير الله تتخذون آلها فغيره تتقون او جواب شرط محذوف اى اذا كان الآلهة له وحدة فأغير الله تتقون على ان يكون الهمزة على التقديم والتأخير.
[16.53]
{ وما بكم من نعمة فمن الله } حال من الله او من فاعل تتقون { ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون } تتضرعون يعنى اغير الله تتقون والحال ان النعمة منه ولا دافع للمضرة الا هو والاتقاء من الآله اما للخوف من منع النعمة او ايصال النقمة.
[16.54]
بدل ان يوحدوه ويعظموه لنعمة كشف الضر.
[16.55-56]
{ ليكفروا بمآ آتيناهم } من نعمة كشف الضر وسائر النعم يعنى يصير غاية اشراكهم ذلك { فتمتعوا } امر للتهديد { فسوف تعلمون ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم } عطف على يشركون وبيان لاشراكهم { تالله لتسألن عما كنتم تفترون } من اتخاذ الآلهة والتقرب بهم الى الله وجعل النصيب من رزق الله لهم.
[16.57]
{ ويجعلون لله البنات } وفيه افتراءان؛ جعل الملائكة اناثا، ونسبة التوالد اليه تعالى { سبحانه } عن نسبة التوالد وهو للتعجب اله النبات { ولهم ما يشتهون } اى البنون.
[16.58]
{ وإذا بشر أحدهم بالأنثى } جملة حالية { ظل وجهه مسودا وهو كظيم } ساتر للغيظ او مملو من الغيظ.
[16.59]
{ يتوارى من القوم من سوء ما بشر به } قائلا عند نفسه متفكرا { أيمسكه على هون } وهو ان من امساكه { أم يدسه في التراب } ليتخلص من هوانه { ألا سآء ما يحكمون } من جعل النصيب فى رزق الله لغيره وجعل البنات له وجعل الملائكة اناثا وجعل البنين لانفسهم.
[16.60]
{ للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى } يعنى ان كانوا يريدون بجعل الملائكة بنات تمثيلا لحال الملائكة فى غاية قربهم من الله وكرامتهم عليه لا التوالد الحقيقى فليتمثلوا بالمثل الاعلى له ولا يمثلوا بمثل السوء له ويبقوا المثل الاعلى لانفسهم، او لله المثل الاعلى فليمثلوا بالامثال اللائقة بعلوه مما يدل على التنزه عن التوالد { وهو العزيز } الغالب الذى لا يتطرق شبه الحاجة اليه ولا يمثل له بما يوهم الحاجة { الحكيم } الذى لا يقول الا عن علم بكنه كل شيء.
[16.61]
{ ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم } ومنه تسمية الملائكة اناثا ونسبة الولد الى الله او التمثيل له بمثل غير لائق بشأنه { ما ترك عليها } على الارض { من دآبة } لان ظلمهم قد سرى الى البهم من الدواب وبجزائهم يهلك الدواب ايضا { ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى } ليبلغوا ما بلغوا من الشقاوة ويتوب من يتوب ويسعد من يسعد { فإذا جآء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } قد مضى ان المعنى اذا قدر مجيء اجلهم حتى لا يستشكل بيستقدمون.
[16.62]
{ ويجعلون لله ما يكرهون } من البنات والشركاء من الرياسة واراذل الاموال { وتصف ألسنتهم الكذب } ان قرئ برفع الكذب فهو صفة لالسنتهم كما انه قرئ الكذب بضمتين مرفوعا وجمعا للكذوب وصفة لالسنتهم، وان قرئ بنصب الكذب كما هو المشهور فهو مفعول تصف وعلى الاول فقوله { أن لهم الحسنى } مفعول تصف وعلى الثانى فهو بدل من الكذب وقد قالوا لئن رجعت الى ربى ان لى عنده للحسنى، ويجوز ان يكون ان لهم الحسنى بتقدير اللام تعليلا لتصف على الوجهين والمعنى لان لهم الحسنى فى الدنيا { لا جرم أن لهم النار } لاكسب جرم فى ذلك اثبات لضد ما ادعوا لانفسهم { وأنهم مفرطون } فيما ادعوا لانفسهم او فى اعمالهم.
[16.63]
{ تالله لقد أرسلنآ إلى أمم من قبلك } كما ارسلتك الى هذه الامة { فزين لهم الشيطان أعمالهم } كما زين لهؤلاء فلا تحزن على ما فعلوا فانه ليس بامر حادث فى زمانك { فهو وليهم اليوم } فالشيطان ولى الامم الماضية فى النار اليوم او هو ولى امتك اليوم بتزيين السوء لهم كما كان ولى الامم الماضية قبل بذلك { ولهم عذاب أليم } للامم الماضية او لامتك وعلى اى تقدير فهو تهديد لامته.
[16.64]
{ ومآ أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه } لما علمت ان غاية النبوة الدلالة على الولاية ولولا الولاية لما كان للنبوة غاية وان الذى هو معظم ما اختلفوا فيه هو النبأ العظيم الذى هم فيه مخلتفون علمت ان المعنى لتبين لهم الولاية { وهدى ورحمة } عطف على الفعل المؤول { لقوم يؤمنون } يذعنون بالله وبالآخرة او يؤمنون بالايمان العام والبيعة النبوية، واطلاق التبيين لكونه عاما ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حى عن بينة، وتقييد الهداية والرحمة لاختصاصهما بمن استحقهما.
[16.65]
{ والله أنزل من السمآء مآء فأحيا به الأرض بعد موتهآ } بانبات الحبوب التى تحت ترابها والعروق التى فيها وكذلك احياؤكم بعد موتكم حالكونكم نطفة وجمادا وبعد موتكم عن الحياة الحيوانية واحياؤكم فى النشور { إن في ذلك لآية } دالة على بعثكم وعلى علم الله وقدرته { لقوم يسمعون } يستسلمون فان السماع اول مراتب الايمان ثم بعده الايمان ثم العقل ثم الفكر، والتذكر يأتى فى كل من المراتب، والمراد بالسماع الانقياد كما فى قوله
لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد
[ق:37] ولما كان دلالة انزال الماء وانبات عروق الارض وحبوبها على علمه وقدرته واحياء الموتى يكفيها الخروج من العناد والدخول فى مقام الانقياد اكتفى فيها بالسماع.
[16.66]
{ وإن لكم } ايها المؤمنون او ايها الناس { في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه } استيناف او حال وتذكير الضمير ههنا وتوحيده اما لكون الانعام مفردا فى معنى الجمع او لرجوعه الى البعض وانثه فى سورة المؤمنون على اعتبار اللفظ او المعنى { من بين فرث ودم لبنا خالصا } من الدم والفرث وآثارهما { سآئغا للشاربين } عن رسول الله (ص):
" ليس احد يغص بشرب اللبن لان الله يقول: لبنا خالصا سائغا للشاربين "
، وقوله ان لكم فى الانعام لعبرة خطابا للمسلمين او للناس اجمعين وقع موقع ان فى ذلك لآية لقوم يؤمنون او لقوم يشعرون.
[16.67]
{ ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا } من ثمرات النخيل اما عطف على ما فى بطونه بدون التقدير ان كان نسقيكم مستأنفا او على نسقيكم بتقدير نسقيكم ان كان حالا وحينئذ يكون تتخذون حالا او مستأنفا جوبا لسؤال مقدر واما مستأنف متعلق بتتخذون ولفظة منه تكون حينئذ تأكيدا للاول واما مبتدء وتتخذون خبره بجعل من التبعيضية لقوة معنى البعضية فيها قائمة مقام الاسم المبتدء من دون تقدير او تقدير موصوف محذوف او بجعله اسما مبتدء بنفسه اى بعض من ثمرات النخيل تتخذون منه اى من ذلك البعض، وافراد الضمير اما باعتبار تقدير مضاف قبل الثمرات او بلحاظ معنى البعضية فى من والمراد بالسكر الخمر ولا ينافى حرمتها ذكرها فى مقام الامتنان لان حرمتها شرعية وكونها نعمة امر عرفى عقلى، على ان فيها منافع باستعمالها من غير شرب لها، ولما دل الامتنان بها على اباحتها ورد فى الخبر: انها منسوخة بآية حرمة الخمر، وقيل: فيها اشياء اخر لكن الاتيان بقوله { ورزقا حسنا } بعده يدل على ان المراد به الخمر وانها غير حسن { إن في ذلك لآية لقوم يعقلون } لا يكفى فيه السماع والايمان وان كان لا يحتاج الى استعمال المفكرة.
[16.68]
{ وأوحى ربك إلى النحل } وحى الهام فطرى تكوينى بمعنى انه اودع فى وجوده التدبير الذى يعجز عن مثله العقلاء فان تدبير بيوتها مسدسة مثلا صفة بحيث لا يكون بينها فرجة، ونظامها فى خروجها ودخولها فى طاعة يعسوبها، وعدم وقوعها على الاشياء المنتنة أمر يتحير فيه العقلاء، ولما كان الآية شاملة بجميع المراتب من التنزيل والتأويل كان الوحى بالنسبة الى الانبياء (ع) على معناه الذى هو الالقاء بتوسط الملك، وبالنسبة الى الائمة والاولياء (ع) التحديث والالهام، وبالنسبة الى النحل الصورية ايداع قوة بها يقع هذا النحو من التدبير { أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون } من الكروم التى يعرشونها ومن السقوف التى يرفعونها.
[16.69]
{ ثم كلي من كل الثمرات } لطيفها وخالصها { فاسلكي سبل ربك } التى الهمك سلوكها الى البيوت، او فاسلكى السبل التى الهمك لعمل العسل، او فاسلكى سبل ربك من البيوت التى هى مسالك لادخال العسل { ذللا } حال كون السبل ذلك يسهل السلوك فيها بتسهيل الله او حالكونك منقادة لامر ربك { يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه } وهو العسل باختلاف الوانه بالابيضاض والاصفرار والاحمرار والاسوداد { فيه شفآء للناس } منفردا او منضما الى غيره لمبرودى المزاج ومحروريه والعجب انه يخرج من محل السم ما فيه شفاء، وفى الخبر: نحن والله النحل الذى اوحى اليه ان اتخذى من الجبال بيوتا امرنا ان نتخذ من العرب شيعة، ومن الشجر يقول من العجم ومما يعرشون يقول من الموالى، والذى يخرج من بطونها شراب مختلف الوانه اى العلم الذى يخرج منا اليكم، وفى رواية اخرى: والشيعة هم الناس، وغيرهم الله اعلم بهم، ولو كان كما تزعم انه العسل الذى يأكله الناس اذن ما أكل منه ولا شرب ذو عاهة الا شفى لقول الله تعالى: فيه شفاء للناس ولا خلف لقول الله وانما الشفاء فى علم القرآن
وننزل من القرآن ما هو شفآء ورحمة
[الإسراء:82] لاهله لا شك ولامرية واهله ائمة الهدى الذين قال الله
ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا
[فاطر:32] ولما كان النحل وتدبيرها وشراب بطنها مظاهر للائمة (ع) وتربيتهم للشيعة وعلمهم كان التفسير بالنحل والبيوت المسدسة وعسلها فى محله، ولما كان الوقوف على ظاهر الآية وحصر المقصود فى النحل الصورية واستقلال النحل بالقصد منافيا لمقصود الآية من كون القصد الى النحل من حيث كونها مظهرا لا اصالة وكون المقصود استقلالا هو رؤساء الدين كان انكار التفسير بالنحل الصورية فى محله { إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون } فانه لا يكفى فيه السماع والايمان ولا العقل والتذكر لكثرة دقائقه وخفاء طريق الانتقال الى قدرة بارئها والى ما يمثل بها له.
[16.70]
{ والله خلقكم ثم يتوفاكم } بآجالكم { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } وهو وقت الهرم، وفى الخبر: اذا بلغ العبد مائة سنة فذلك ارذل العمر، وفى خبر آخر: ان يكون عقله مثل عقل ابن سبع سنين { لكي لا يعلم بعد علم شيئا } لا يعلم ما علمه قبل ذلك، وفى الخبر: ان هذا ينقص منه جميع الارواح وينقص روح الايمان وليس يضره شيئا { إن الله عليم } بما ينبغى وان الموت قبل ارذل العمر خير لكم ولذلك لا يصل اكثركم الى ارذل العمر { قدير } على الايصال الى ارذل العمر.
[16.71]
{ والله فضل بعضكم على بعض في الرزق } هذه الجملة وسابقتها ولاحقتها اظهار لنعمه تعالى تمهيدا لذم الاشراك والكفران والتفضيل بجعل بعض غنيا وبعض فقيرا وبعض مالكا لرزقه ورزق غيره، وبعض مملوكا هو ورزقه فى يد غيره { فما الذين فضلوا برآدي رزقهم على ما ملكت أيمانهم } ذكر اولا نعمة التفضيل فى الرزق وان المنعم بها هو الله لا غير، ثم ذكر تمهيدا لابطال الشركاء انكم لا ترضون فيما فضلكم الله بتسوية مماليككم المجازية لكم فكيف ترضون بتسوية مماليكه الحقيقية فيما يختص بذاته تعالى له فالمعنى ان الله فضل بعضكم على بعض فى الرزق فما الذين فضلوا براضين لرد الرزق عن انفسهم واعطائه لمماليكهم حتى يكونوا مساوين فى رزق هو لهم من غيرهم، او المقصود اظهار الانعام عليهم وعلى مماليكهم على السواء وان المنعم من كما انعامه لا يفرق بينهم وبين مماليكهم فالمعنى والله فضل بعضكم على بعض فى الرزق وجعل رزق المماليك ايضا بيده لا بيد المالكين، فما الذين فضلوا برادى رزقهم على المماليك بل الله هو معطى ارزاق المماليك؛ وعلى الاول فمعنى قوله { فهم فيه سوآء } لا يرضون ان يكونوا مع المماليك فى الرزق سواء، وعلى الثانى فمعناه ان المالكين والمملوكين فى الارتزاق من الله سواء ولا فضيلة للمالكين على المملوكين فى اصل الرزق بل رزق الكل بيده يجرى عليهم على السواء، ويؤيد هذا المعنى ما نقل ان ابا ذر رحمه الله سمع النبى (ص) انه قال:
" انما هم اخوانكم فاكسوهم مما تكتسون، وأطعموهم مما تطعمون "
، فما رأى عبده بعد ذلك الا ورداؤه رداءه وازراه ازاره من غير تفوات فقوله { أفبنعمة الله يجحدون } على هذا انكار لترك التسوية بين الانفس والمماليك وتسوية له جحودا، وعلى الاول انكار لجحود نعمة التفضيل والغفلة عنها وجعل عبيده تعالى شركاء له ومتساوين معه تعالى فى الآلهة مع انهم لا يرضون ذلك لانفسهم.
[16.72]
{ والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا } من جنسكم لتأنسوا بهن وترغبوا فيهن وترتاحوا اليهن وهذا بيان لنعمة اخرى { وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة } قد فسر الحفدة فى الاخبار ببنى البنت وبالبنين انفسهم فيكون من عطف الاوصاف المتعددة لشيء واحد وباختان الرجل على بنائه لان الحافد بمعنى المسرع فى الخدمة والكل مسرعون فى الخدمة والكل من عظام النعمة { ورزقكم من الطيبات } اعطاكم من جملة الطيبات من المركوب والمسكون والمطعوم والمشروب او رزقكم من الارزاق الطيبة من المطعوم والمشروب { أفبالباطل يؤمنون } يعنى بالشركاء الباطلة او بانتساب ذلك الى الشركاء { وبنعمت الله هم يكفرون } من حيث انهم يسترون انعامه تعالى فيها وينسبونها الى غيره تعالى من الشركاء.
[16.73]
{ ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا } بدل من رزقا اما لتأكيد التحقير المستفاد من تنكر رزقا، واما للاشارة الى تعميم رزقا وكونه بمعنى نصيبا، والمراد برزق السماوات هو ارزاق الانسان من حيث انسانيته وحيوانيته وبرزق الارض ارزاق الانسان من حيث نباتيته وحيوانيته، او المراد برزق السماوات والارض رزق كل من المراتب بتعميم الرزق واسبابه { ولا يستطيعون } ان يملكوه، اولا استطاعة لهم ولا قدرة.
[16.74]
{ فلا تضربوا لله الأمثال } اى لا تجعلوا له امثالا تعبدونها لعبادته، او لا تضربوا له الامثال بتشبيه حاله بحال الملوك وارتضاء الخدمة من عبيدهم ومقربيهم واجرائهم ارزاق العساكر على ايدى وزرائهم وامنائهم وبان تقولوا ان خدمة مقربى السلطان ادخل فى التعظيم وامثال ذلك فانه اعلى من ان تعرفوه وتعرفوا كيفية اوصافه وافعاله حتى تضربوا له الامثال { إن الله يعلم } فقولوا ما علمكموه { وأنتم لا تعلمون } فلا تقولوا من عند انفسكم شيئا فى شيء فضلا عن ضرب المثل فيه تعالى.
[16.75]
{ ضرب الله مثلا } للشركاء ولنفسه او للكافر والمؤمن { عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا } والمراد بالرزق الحسن هو العلم والحكمة والعيان والتصرف فى الملك والملكوت، وانفاق السر هو ما يصل الى الملك ببركته ومن طريق السر، وانفاق الجهر هو ما يعلمه ويلقنه غيره بحسب الظاهر، وحاصل المرام وغاية المقصود من الآيات السابقة واللاحقة هو تمثيل حال على (ع) فان النعمة الحقيقية هو على (ع) وولايته والباطل الحقيقى هو اعداؤه واصل من رزقه الله تعالى رزقا حسنا هو على (ع) وغيره كائنا من كان مرتزق بتوسطه والمملوك الذى لا يقدر على شيء هو اعدائه { هل يستوون الحمد لله } على نعمة عدم التسوية وحكمة اعطاء كل ذى حق حقه وهو تعليم للعباد ان يحمدوا على كل النعم { بل أكثرهم لا يعلمون } حال المملوك العاجز والقادر المنفق ولذلك يسوون بينهما او لا يعلمون عدم جواز التسوية بينهما او لا يرتقون الى مقام العلم عن مقام الجهل ولذلك يسوون ويختارون العاجز على القادر.
[16.76]
{ وضرب الله مثلا } للشركاء ولنفسه او للكافر والمؤمن او لعلى (ع) ولاعدائه ومخالفيه { رجلين أحدهمآ أبكم } ولد اخرس لا ينطق ولا يفهم نطق غيره { لا يقدر على شيء } من النطق وسائر الافعال كمن كان جميع حواسه وجميع قواه المحركة معطلة { وهو كل } ثقل { على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل } يعنى من كان متصفا بالعدل فى جميع احواله واقواله وافعاله ويعرف العدل فى جميع موارده ويأمر غيره بالعدل لأن الامر بالعدل يسلتزم الاتصاف به ومعرفته فى جميع موارده، وللاشارة الى هذا قال { وهو على صراط مستقيم } اى على التوسط بين طرفى الافراط والتفريط فى جميع ما ذكر.
[16.77]
{ ولله غيب السماوات والأرض } ما غاب عنهما او جهتهما التى هى غائبة عن العباد ومن غيبهما الخفايا من احوال العباد ويلزم منه خفاء صاحب الخير والشر فلا تعلمون من العباد من كان بحسب السريرة كالمملوك العاجز ومن كان آمرا بالعدل والله يعلم ذلك وهو بمنزلة
والله يعلم وأنتم لا تعلمون
[النور:19] فى الآية السابقة والمقصود انكم لما لم تكونوا عالمين باحوال الاشياء والعباد لم يجز لكم ان تختاروا من عند انفسكم شريكا لله او لعلى (ع) ولا احدا لهدايتكم وجلب نفعكم ودفع ضركم ولزم ان تكلوا الامر اليه تعالى فانه العالم بمن ينبغى ان يختارو بمن ينبغى ان يختار فلا تجاوزوا فى ذلك النص من الله على لسان من علمتم خلافته لله { ومآ أمر الساعة } فى سرعة اتيانها وحساب الخلائق فيها وجزاء الخلائق على اعمالهم { إلا كلمح البصر أو هو أقرب } وهو تهديد لمن استبد برأيه وخالف امر الله ونصه فى احكامه { إن الله على كل شيء قدير } من حساب الخلائق فى اسرع زمان وعقوبة العاصى وثواب المطيع.
[16.78]
{ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة } يعنى جعل لكم كل ما تحتاجون اليه فى تعيشكم الدنيوى ومنافعكم الاخروية وفى حصول العلم الذى هو مبدأ ذلك كله { لعلكم تشكرون } تلك النعمة فتصرفون كلا فيما خلق لاجله.
[16.79]
{ ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السمآء ما يمسكهن إلا الله } بخلق ما يقدرون به على الاستمساك فى الجو فان الله خلق كل شيء وخلق له ما به تعيشه وحركته وسكونه { إن في ذلك لآيات } على علمه وقدرته وحكمته وعدم اهماله لشيء من الاشياء من دون تهية ما يحتاج اليه { لقوم يؤمنون } بالآخرة فانهم يعلمون ان الذى لم يهمل شيئا من الاشياء واعطى كل شيء ما يحتاج اليه لم يهمل الانسان الذى هو اشرف الاشياء ولم يترك ما يحتاج اليه فى اشرف جهاته وهى الآخرة بل جعل لهم رئيسا يدلهم عليها ويمنعهم عما يضرهم فيها ويأمرهم بما ينفع فيها ولم يكل اختيار ذلك اليهم حتى يجعلوا برأيهم له شريكا او يختاروا لانفسهم فى امر الآخرة الذى هو غيب عنهم اماما ورئيسا.
[16.80]
{ والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا } يعنى الاخبية المتخذة من الاديم والشعر والصوف { تستخفونها } تعدونها خفيفة لا كبيوت الطين والاحجار { يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارهآ أثاثا } لبيوتكم من الفرش والالبسة ومحال الامتعة وغير ذلك { ومتاعا إلى حين } ما تتمتعون به الى مدة اندراسه.
[16.81]
{ والله جعل لكم مما خلق } من الشجر والجبال والجدران { ظلالا } ما تستظلون به { وجعل لكم من الجبال أكنانا } ما تستترون فيه من الغيران او ما تنحتون فيها { وجعل لكم سرابيل } ثيابا فان السربال يستعمل فى كل ملبوس، والمراد بالاثاث والمتاع غير الثياب، او المراد بالسرابيل غير ما يكون من الصوف والوبر والشعر والجلود، او يكون تعميما بعد تخصيص من وجه كما يكون تخصيصا بعد تعميم من وجه آخر { تقيكم الحر } اى والبرد اسقطه واكتفى بذكر الحر لعدم الاحتياج الى ذكره لوضوحه بقرينة المضادة وان الحاجة الى اللباس فى البرد اشد منه فى الحر وللاهتمام بالحفظ من الحر فى بلاد العرب { وسرابيل تقيكم بأسكم } كالدروع ولما كان تعداد النعم الصورية الجسمانية مقدمة لتفهيم النعم الاخروية الروحية وهى ارسال الرسل لتبليغ الولاية واعداد الخلق لقبولها والسير على طريقها وان المنعم لم يدع عالم الاجسام غير مهياة له اسباب قوامه وبقائه فكيف يدع عالم الارواح والجهة الروحانية فى الانسان غير مهياة له اسباب كما له وبقائه، وان عمدة اسباب كماله وبقائه ارسال الرسل للانذار من الركون الى الاجسام والدلالة على طريق الولاية وفتح باب القلب وايلاء الولاة لتعليم طريق الولاية وتلقين ما يفتح به باب القلب بعد انقضاء ايام الرسالة، عقب المذكورات من النعم المعدودة بقوله { كذلك يتم نعمته عليكم } يعنى مثل اتمام النعم الجمسانية الصورية المختلطة بالآلام والاسقام والمتاعب والمشاق يتم نعمته الحقيقية التى هى حاصلة ارسال الرسل وغايته وهى الولاية ولا يهملكم فى تلك الجهة من غير تهية اسباب كما لكم وبقائكم فيها { لعلكم تسلمون } تنقادون.
[16.82]
{ فإن تولوا } صرف الخطاب الى محمد (ص) يعنى ان تولوا عن تلك النعمة العظمى التى هى ولاية على (ع) فلا بأس عليك { فإنما عليك البلاغ المبين } وقد بلغت واما الاقبال والتولى فليس عليك وفى الآية وجوه أخر بحسب مراتب النعم الاخروية والدنيوية الجسمانية لكن المذكور هو خلاصة الكل وبتذكر ما اسلفنا لكم مرارا يمكن التفطن بها.
[16.83]
{ يعرفون نعمة الله } قد فسر فى اخبار عديدة نعمة الله ههنا بعلى (ع) وهو ما ذكرنا من خلاصة الوجود والا ففيها وجوه أخر بحسب المراتب، وقد ذكر فى بعض الاخبار ان الآية نزلت بعد ما قالوا عرفنا صدق محمد (ص) ولكن لا نطيعه فى على (ع) ولا نتولى عليا (ع) { ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون } فى عين اسلامهم بك لانهم كفروا بعلى (ع) او بقولك او كانوا كافرين بك من اول اسلامهم فان الاسلام يقتضى الانقياد وعدم الاعتراض على فعل الرسول (ص) وقوله واطاعته فى جميع اوامره ونواهيه، ولما انكروا عليه قوله علم انهم لم يكونوا مسلمين.
[16.84]
{ ويوم نبعث } عطف على نعمة الله، او على مفعول ينكرونها، او متعلق بمحذوف معطوف على محذوف اى فحذرهم وذكرهم، او التقدير فاعذبهم اليوم ويوم نبعث { من كل أمة شهيدا } ولما كان عناية الله بتكميل الخلق فى جهتهم الاخروية جعل فى كل امة واقعة فى طول الزمان وكذا فى كل فرقة واقعة فى بقاع المكان خليفة منه يكون شاهدا عليهم ومراقبا لاعمالهم واحوالهم ومعطيا لمن استعد منهم حقه من آداب السلوك الى الآخرة والاستعداد لنعيم الجنة، ويكون ذلك الخليفة باقواله وافعاله واحواله ميزانا للكل ويوم القيامة يبعث الله كل امة ويبعث خليفتهم بشهادته قالا وحالا عليهم، فمن وافقه بعض الموافقة بعثهم الى الجنان بحسب مراتبهم فى مراتبها، ومن خالفه كل المخالفة بعثهم الى النيران بحسب مراتبهم فى مراتبها، والمقصود تهديد من خالف من امته (ص) خليفته عليا (ع) كما ان الآيات السابقة كانت لترغيبهم اليه (ع) { ثم لا يؤذن للذين كفروا } فى التكلم والاعتذار بل المتكلم هو الخليفة لا غير { ولا هم يستعتبون } يسترضون من العتبى بمعنى الرضا.
[16.85]
يمهلون او لا يلتفت اليهم بالنظر.
[16.86]
{ وإذا رأى الذين أشركوا شركآءهم } من الاصنام والكواكب والشياطين وخلفاء الجور { قالوا ربنا هؤلآء شركآؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا } اى الشركاء { إليهم } الى المشركين { القول إنكم لكاذبون } فى ادعاء اشراكنا بل كنتم تعبدون اهواءكم وجعلتم صورة عبادتنا جالبة لمقتضى اهويتكم.
[16.87]
{ وألقوا إلى الله يومئذ السلم } الاستسلام والانقياد { وضل عنهم ما كانوا يفترون } من الآلهة والشركاء واستحقاقهم العباد والشفاعة والنصرة.
[16.88]
{ الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله } كفروا بالله او بالرسول او بالولاية ومنعوا الغير عن الولاية او اعرضوا عنها { زدناهم عذابا فوق العذاب } لكفرهم وصدهم { بما كانوا يفسدون } فى ارض وجودهم وفى ارض عالم الطبع عالم بمنع القوى عن الرجوع الى القلب ومنع الناس عن الرجوع الى صاحب القلب.
[16.89]
{ ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلآء } لما كان هذه الآية تأكيدا لسابقتها فصلها وأجمل الاولى { ونزلنا عليك الكتاب } كتاب النبوة والقرآن صورته واحكام القالب والقلب ايضا صورته، ولما كان النبوة مقام الجمع بعد الفرق وتفصيلا للوحدة الاجمالية واجمالا للكثرة كان فيه بيان كل شيء وظهوره ولذلك قال { تبيانا لكل شيء وهدى } الى الولاية والايمان القلبى الحاصل بالبيعة الخاصة الولوية { ورحمة } لان النبوة لكونها صورة الولاية رحمة بكون الولاية رحمة { وبشرى } بشارة الى مراتب الولاية { للمسلمين } البايعين بالبيعة العامة او المنقادين المشار اليهم بقوله
أو ألقى السمع وهو شهيد
[ق:37].
[16.90]
بيان العدل
{ إن الله يأمر بالعدل } العدل التوسط بين طرفى الافراط والتفريط فى جملة الامور، او وضع كل شيء موضعه، وهو يحصل بمعرفة تفاصيل الاشياء بمراتبها ومقاماتها ودقائق استحقاقاتها بحسب تعيناتها واعطاء كل ما تستحقه بحسب اقتضاء طبائعها فى التكوينيات واقتضاء افعالها فى التكليفيات وهو يقتضى السياسات واجراء الحدود والامر بالمعروف والنهى عن المنكر وتهديد المعرض وترغيب الراغب وهذا شأن الصدور والقلب من جهتهما الخلقية حالكونهما مستنيرين بنور الرسالة والنبوة بالاتصاف بهما او بالاتصال بهما ولذلك فسر العدل فى اخبارنا بمحمد (ص) لاختصاص النبوة والرسالة به (ص) فى زمان التخاطب وصح تفسيره بالنبوة والرسالة وبوضع كل شيء موضعه وبالتوسط بين الافراط والتفريط فى جملة الامور { والإحسان } الاحسان اما بمعنى صيرورة الانسان ذا حسن او بمعنى ايصال المعروف مع اغماض النظر عن الاستحقاق، والمناسب ههنا المعنى الثانى لاعتبار الاضافة الى الغير فى العدل وفى ايتاء ذى القربى لكونه بعد العدل الذى هو اعتبار الاستحقاق فى الاعطاء، والاحسان بهذا المعنى شأن الروح والقلب من جهته الروحية وهو شان الولاية، ولذلك فسر فى الاخبار بعلى (ع) وصح تفسيره بالولاية من حيث الاتصاف بها او من حيث الاتصال بها { وإيتآء ذي القربى } تخصيص بعد تعميم للعدل والاحسان باعتبار المتعلق لاختصاص ذى القربى بمزيد رجحان، وذو القربى اعم من القرابات الروحانية والجمسانية فى العالم الكبير والعالم الصغير كما ان متعلق العدل والاحسان اعم مما فى العالم الكبير والصغير ولما كان المستحق لاداء امانة الخلافة اصل ذوى القربى، ورد ان المراد اداء امام الى امام { وينهى عن الفحشاء } الفعل الذى يعده العقلاء اى اصحاب الشرع فاحشا من غير اعتبار التعدى الى الغير مقابل العدل { والمنكر } اى الفعل المتعدى الى الغير الذى يعده الشارعون قبيحا ضد المعروف مقابل الحسان { والبغي } التطاول على الناس او الخروج من طاعة العقل وعدم الانقياد لذى القربى مقابل ايتاء ذى القربى خصوصا على تفسير ذى القربى بائمه الهدى (ع) { يعظكم } ينصحكم ويبين ما ينفعكم ويضركم { لعلكم تذكرون } قيل لو لم يكن فى القرآن غير هذه الآية لصدق عليه انه تبيان كل شيء.
[16.91]
{ وأوفوا بعهد الله } عطف على ان الله يأمر بالعدل فانه فى معنى اعدلوا، وعهد الله هو العهد المأخوذ فى البيعة العامة النبوية الاسلامية او البيعة الخاصة الولوية الايمانية { إذا عاهدتم } التقييد به نص على ان هذا العهد امر واقع فى دار التكليف وليس المراد ما وقع سابقا فى الذر كما يفسر به العهود المطلقة فى القرآن وتنبيه على ان الوفاء بالعهد لا يتصور ما لم يقع صورته فى دار التكليف، والمراد بالوفاء بالعهد الوفاء بشروطه التى تؤخذ على المعاهد حين البيعة، والمراد بقوله اوفوا بعهدى اوف بعهدكم هو هذا العهد وشروطه، وتسمية ذلك عهد الله لانه عهد مع من اذن الله له فى اخذ العهد عن عباده واليه اشار بقوله ان الذين يبايعونك انما يبايعون الله يد الله فوق ايديهم بطريق الحصر اشعارا بان الواسطة لا حكم له وانما الحكم لذى الواسطة فقط { ولا تنقضوا الأيمان } المراد بالايمان هى العهود المأخوذة بالبيعة، وتسميتها ايمانا لحصولها بالايمان كسائر المبايعات { بعد توكيدها } يعنى لا تنقضوا البيعة النبوية بعد توكيدها بالبيعة الولوية فان البيعة الاسلامية اذا لم تؤكد بالبيعة الايمانية كان فى نقضها توبة وتقبل توبة ناقضها لأنه كاشف فى الاغلب عن الارتداد الملى، واما البيعة الايمانية فلا تقبل توبة ناقضها لانه كاشف فى الاغلب عن الارتداد الفطرى وهو مبالغة فى نهى من يبايع عليا (ع) فى الغدير عن نقض بيعته بعد ما بايع محمدا (ص) بيعة اسلامية ولقد اكد تلك البيعة نفسها ايضا بان امر النبى (ص) الخلائق بالبيعة مع على (ع) فى ذلك اليوم ثلاثة مرات، وفى خبر ولقد عقد محمد (ص) عليهم البيعة لعلى (ع) فى عشرة مواطن، وقد فسرت الآية فى الاخبار ببيعة غدير خم { وقد جعلتم الله عليكم كفيلا } تعديته بعلى لتضمين معنى المراقبة اى جعلتم الله رقيبا عليكم بواسطة كفالته لاموركم فليكل الامور اليه رقيبا عليه فليحذر الفسوق بعده كما قال: بئس الاسم الفسوق بعد الايمان { إن الله يعلم ما تفعلون } جواب سؤال عن العلة او عن حال الله معهم.
[16.92]
{ ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة } واستحكام للفتل { أنكاثا } جمع نكث بالكسر وهو اما حال من الغزل لانه مصدر بمعنى المفعول فى معنى الجمع او انكاثا جمع فى معنى المفرد بحسب الاستعمال لانه يقال حبل انكاث، واما مفعول ثان لنقضت بتضمين معنى صيرت وهو تشبيه تمثيلى لحال من بايع البيعة الاسلامية فان البيعة الاسلامية كالخيط المغزول الموصول من البائع الى من بايع معه بل الى الله، ثم اكد تلك بالبيعة الايمانية فانها مثل استحكام الخيط المفتول بفتل آخر ثم نقض البيعة فان نقضها مثل نقض فتل الخيط بحال امرأة غزلت واتعبت نفسها فى غزلها واستحكامه ثم نقضت غزلها فى تحمل المتاعب وعدم الانتفاع بالغزل، وفى الخبر ان التى نقضت غزلها كانت امرأة من بنى تميم يقال لها ريطة كانت حمقاء تغزل الشعر فاذا غزلته نقضت ثم عادت فغزلته فقال الله كالتى نقضت غزلها { تتخذون أيمانكم } عهودكم التى اخذت منكم فى البيعتين { دخلا بينكم } حال من اسم لا تكونوا او استيناف جواب لسؤال مقدر لقصد ذمهم على حالهم هذه، والدخل محركة الفساد فى العقل والجسم والمكر وما داخل الشيء وليس منه، والريبة؛ الكل مناسب ههنا { أن تكون أمة هي أربى من أمة } كراهة ان تكون امة هم على (ع) واتباعه اربى من امة هم مخالفوهم، او لأن تكون امة هم قريش اربى من امة هم محمد (ص) واتباعه، الاربى الارفع سواء كان فى العدد، او فى المال، او فى القوة، او فى الجاه { إنما يبلوكم الله } به يختبركم باتخاذ الايمان او بكون بعض اربى من بعض ليظهر ثبات على الايمان ونكث من ينكث { وليبينن لكم يوم القيامة } عطف على محذوف اى ليظهر سعادة السعيد وشقاوة الشقى ولبين { ما كنتم فيه تختلفون } واعظم ما فيه تختلفون ولاية على (ع) لانها النبأ العظيم الذى هم فيه مختلفون.
[16.93]
{ ولو شآء الله لجعلكم أمة واحدة.. } تهديد لهم على اعمالهم وتحذير عما يضمرونه من عداوة على (ع) ولما كان قوله ولكن يضل من يشاء (الى آخر الآية) مشرعا بالجبر واسقاط العقوبة قال ولتسئلن (الآية) اشعارا بالاختيار وثبوت العقوبة.
[16.94]
{ ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم } تصريح بالنهى بعد الاشارة اليه تأكيدا واشعارا بعظمة قبح ذلك { فتزل قدم } عن الايمان { بعد ثبوتها } بالبيعة وافراد القدم مع اقتضاء العبارة جمعها للاشعار بان البائع له اقدام ثابتة فى مراتب الاسلام والايمان ولو زلت قدم منها فكأنما زلت جميع الاقدام { وتذوقوا السوء } فى الدنيا { بما صددتم } اهل الارض واهل مملكتكم فان الفاسد يفسد غيره لا محالة والناكث يمنع جميع مداركه وقواه { عن سبيل الله } التكوينى الذى هو طريق القلب والتكفليفى الذى هو طريق الولاية والآخرة { ولكم عذاب عظيم } فى الآخرة قد كثرت الاخبار من طريق الخاصة فى تفسير الآيات من قوله تعالى واوفوا بعهد الله الى قوله ولنجزينهم اجرهم بأحسن ما كانوا يعملون بولاية على (ع) ونزولها حين قال النبى (ص):
" سلموا على على (ع) بامرة المؤمنين "
وامرهم بالبيعة معه.
[16.95]
{ ولا تشتروا بعهد الله } بيعة محمد (ص) او بيعة على (ع) { ثمنا قليلا } من اعراض الدنيا واغراضها بان تنكثوا بيعة على (ع) خوفا من فوت الجاه وطمعا فى الرياسة كما كان حال المترئسين او طمعا فى جيف الدنيا كما كان حال المرئوسين { إنما عند الله } مما ادخره لعباده الوافين من نعم الجنان { هو خير لكم إن كنتم تعلمون } علمتم انه خير لكم.
[16.96]
{ ما عندكم ينفد } تعليل { وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا } على عهدهم ولم ينكثوا { أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } يعنى نجزيهم بجميع اعمالهم جزاء احسن اعمالهم واحسن الاعمال هو الذى كان على تذكر من الله ومن الولاية بمراتب التذكر من اللسانى والقلبى والصورى الملكوتى والحقيقى التحقيقى بل الاحسن هو نفس الولاية، وهذه الآية ارجى آية للبائعين فطوبى لمن صبر على بيعته، وقد مضى فى مطاوى ما اسلفنا تحقيق الجزاء باحسن الاعمال واسوئها.
[16.97]
{ من عمل صالحا } اى عملا واحدا صالحا اى عمل كان وقد مر مرارا ان العمل الصالح الحقيقى هو الذى يكون مرتبطا بالولاية، او المراد بالتنكير التفخيم اى من عمل صالحا عظيما هو اصل جميع الصالحات وهو عمل نفس الولاية { من ذكر أو أنثى وهو مؤمن } التقييد به للاشارة الى ان صورة العمل من غير ارتباطها بالولاية الت هى الايمان غير معتبرة فى الحكم مثل الاعمال التى كانت لمنافقى الامة، او المراد بالايمان ههنا الاسلام { فلنحيينه حياة طيبة } الحياة الطيبة هى ما تكون خالية عن شوب الآلام فى الدنيا والآخرة وقد فسرت فى الاخبار بالقنوع بما رزقه الله والرضا به { ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } لما كان هذه بشارة كاملة للمبتاعين كرره تأكيدا.
[16.98]
{ فإذا قرأت القرآن } جواب شرط محذوف اى اذا كان اتخاذ الايمان دخلا سببا لان تزل القدم وان يذاق السوء والعذاب والصدق فى الايمان والصبر عليها سببا لان يجزى الله جميع الاعمال بجزاء احسن الاعمال فاذا قرأت القرآن الذى هو صورة شروط العهود والايمان وتذكرتها { فاستعذ بالله } فعلى هذا يكون الخطاب عاما لكل من يتأتى منه الخطاب او خاصا على طريقة اياك اعنى واسمعى يا جارة { من الشيطان الرجيم } فان الاستعاذة لها اثر عظيم فى منع الشيطان سيما اذا كانت بالفعل والحال او بالقول قرينا للفعل والحال، وبهذه الآية تمسك من قال بوجوب الاستعاذة القولية او استحبابها فى اول القرائة ولذلك ضمن قرأت معنى اردت القرائة وقد مضى فى اول فاتحة الكتاب تفصيل تام للاستعاذة وكيفيتها.
[16.99]
{ إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا } بالبيعة العامة او الخاصة { وعلى ربهم يتوكلون } بالاستعاذة به والتوكل عليه.
[16.100]
{ إنما سلطانه على الذين يتولونه } ولا يؤمنون بالله { والذين هم به مشركون } يعنى بعد الايمان او العطف من قبيل عطف الاوصاف العديدة لذات واحدة وان الله اسم لذاته تعالى بحسب مقام معروفيته، ومقام المعروفية باعتبار وجهته الى الغيب يسمى الله وباعتبار وجهته الى الخلق يسمى عليا (ع) وفى الاخبار ان الشيطان يسلط من المؤمن على بدنه ولا يسلط على دينه وفى خبر ليس له ان يزيلهم عن الولاية فاما الذنوب واشباه ذلك فانه ينال منهم كما ينال من غيرهم.
[16.101]
{ وإذا بدلنآ آية مكان آية } آية من القرآن مكان آية منه بنسخ الاولى او حكما من الاحكام مكان حكم آخر فان الاحكام كلها آيات لطفه وعلمه فى نظام الكل او آية مكان آية اخبرت بها بالبداء فيها ومحوها واثبات غيرها او آية من الآيات العظمى مكان اخرى بجعل على (ع) بدلا منك واخبارك اياهم بذلك { والله أعلم بما ينزل } من حيث حكمه ومصالحه { قالوا } اى الكفار او منافقوا امتك { إنمآ أنت مفتر } وليس ذلك باخبار ووحى من الله { بل أكثرهم لا يعلمون } جواز النسخ والتبديل وكيفيته والمصلحة فيه.
[16.102]
{ قل نزله روح القدس } اى جبرئيل فانه من الارواح واضافته الى القدس لتنزهه عن شوائب النقص، او المراد بروح القدس الملك الذى هو اعظم من جبرئيل لم يكن مع احد من الانبياء (ع) و كان مع محمد (ص) وقد أسلفنا انه رب النوع الانسانى { من ربك } حق العبارة ان يقال من ربى لكنه عدل الى الخطاب ام لانه مستأنف من الله غير محكى بالقول بتقدير نزله اى نزله من ربك او لفرض المحكى بالقول غير محكى بالقول ومثله كثيرا ما يقع فى المحكى بالقول، او لان خطاب من ربك ليس لمحمد (ص) بل لكل من يتأتى منه الخطاب، او للشيطان يعنى قل للشيطان المنكر للولاية نزله روح القدس من ربك { بالحق } والضمير فى نزله للتبديل وارجاعه الى خصوص امر ولاية على (ع) يؤيد التفسير الاخير للآية المبدلة { ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين } هذا ايضا يؤيد التفسير الاخير للآية فان الولاية هى التى يثبت بها ايمان المؤمنين وهى الهدى والبشرى للمسلمين.
[16.103]
{ ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه } يضيفون ويميلون قولك الى تعليمه { أعجمي وهذا لسان عربي مبين } قيل كانوا يقولون انما يعلمه ابو فكيهة مولى ابن الخضرمى وكان اعجمى اللسان وآمن بالنبى (ص) وكان من اهل الكتاب، وقيل: كانوا يقولون انما يعلم النبى (ص) بشر يقال له بلعام وكان قينا روميا نصرانيا، وقيل: ارادوا به سلمان الفارسى رحمه الله، وقيل: ارادوا به غلامين نصرانيين.
[16.104-105]
{ إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: فما لهم لا يتفطنون ويلحدون القرآن الذى هو لسان عربى مبين الى الاعجمى فقال: لانهم لا يؤمنون بآيات الله ومن لا يؤمن بآيات الله لا يهديه الله الى التفطن بدقائق القول ومفاسده { ولهم عذاب أليم إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله } لا انت فهو رد لقولهم انما انت مفتر { وأولئك هم الكاذبون } لا انت.
[16.106]
{ من كفر بالله من بعد إيمانه } اسلامه او ايمانه الخاص { إلا من أكره } على الكفر القولى اى الا من كفر قولا بالاكراه { وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا } اذعن بالكفر واعتقد واطمأن عليه { فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم } روى ان الآية نزلت فى عمار رحمه الله لانه اكرهه مشركوا مكة واكرهوا ابويه على الكفر والبرائة من محمد (ص) فأبى ابواه فقتلوهما وتبرأ عمار بلسانه، وورد فى الاخبار تحسين ابويه فى اختيار القتل وتحسينه فى اختيار البرائة اللسانية على القتل.
[16.107]
{ ذلك } الارتداد بعد الاسلام او الايمان { بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة } فاختاروا ما زعموا انه انفع بالحياة الدنيا وكفروا بالوجهة الاخروية { وأن الله لا يهدي القوم الكافرين } الى الثبات فى الايمان.
[16.108]
{ أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم } فلا يدركون من المعقولات والمسموعات والمبصرات ما لا جله ادراكها وقد سبق فى اول البقرة تحقيق تام لطبع القلب والسمع والبصر { وأولئك هم الغافلون } الكاملون فى الغفلة لغفلتهم عما لاجله يكون جملة التذكرات وهو الله والآخرة بخلاف غفلات المؤمنين والمسلمين.
[16.109]
لانهم بذلوا لطيفتهم الانسانية التى كانت بضاعة لهم لتحصيل النعيم الابدى وحصلوا متاعا فانيا متسعقبا لعذاب ابدى وقد مضى بيان لا جرم.
[16.110]
{ ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا } مقابل من كفر بالله (الى آخرها) وثم للاشارة الى تفاوت القصتين والتباعد بينهما والمعنى ان ربك للذين هاجروا بعد الايمان او قبله من بعد ما فتنوا والهجرة اعم من الهجرة الصورية، كما ورد ان الآية فى عمار رضى الله تعالى عنه، والهجرة الحقيقية اى هاجروا من دار الشرك الى دار الاسلام، ومن دار النفس الى اعلى مراتبها هو الصدر، ومن دار الاسلام الى دار القلب وهى دار الايمان { ثم جاهدوا } فى سبيل الله بالجهاد الصورى او فى سبيل الولاية وسبيل القلب بالجهاد الباطنى { وصبروا } على الجهاد ولم يفروا من الاعداء فى الظاهر والباطن { إن ربك من بعدها } بعد المهاجرة وفائدة التأكيد التصريح بان المغفرة والرحمة انما تكونان بعد الهجرة ولو بعد الشروع فيها واما قبلها فليس للانسان الا الاستبصار بمعايبه والانزجار من منتناته وهو باعث على الهجرة والهجرة على المغفرة والرحمة { لغفور } يستر عن نظر الناظرين الجيف المنتنة التى كانت مع المهاجر حين مقامه فى دار نفسه المشركة { رحيم } بعد المغفرة بالتفضل عليه واستبدال الجيف بالصور الطيبة من نعيم الجنان وحورها وغلمانها.
[16.111]
{ يوم تأتي كل نفس } ظرف لغفور او رحيم او كليهما على سبيل التنازع، او ظرف لرحيم لان المغفرة تكون قبل الوصول الى القيامة، او مستأنف مقدر باذكر { تجادل عن نفسها } عن ذاتها بالاعتذار فى الخلاص عن البوار وطلب مقام الابرار { وتوفى كل نفس } عين { ما عملت } على تجسم الاعمال او جزاء ما عملت { وهم لا يظلمون } بنقص الثواب او زيادة العذاب.
[16.112]
{ وضرب الله مثلا } لتنبيه المنعمين الكافرين بانعم الله { قرية } حال قرية { كانت آمنة } من كل ما يخاف من بطش الاعداء وضيق المعيشة وآلام الابدان وغموم النفوس { مطمئنة } لا يزعج اهلها مزعج { يأتيها رزقها رغدا } واسعا { من كل مكان } ما يوجد فيه وتحتاج القرية اليه { فكفرت بأنعم الله } بالغفلة عن المنعم والبطر بالنعم بدل الخضوع للمنعم { فأذاقها الله لباس الجوع والخوف } جزاء لكفرانهم وبطرهم والجوع استعارة بالكناية او قرينة للاستعارة التحقيقية فى اللباس او تشبيه من قبيل لجين الماء وكذا الاذاقة اما استعارة تحقيقية او ترشيح لاستعارة الجوع { بما كانوا يصنعون } من الكفران والبطر وقد ذكر فى الاخبار ان هذه القرية كانت كثيرة النعم حتى كانوا يستنجون بالعجين ويقولون: انه الين فأجدبت حتى احتاجوا الى اكل ما كانوا يستنجون به.
[16.113-115]
{ ولقد جآءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمة الله } ولا تكفروا ولا تبطروا كما كفرت اهل تلك القرية { إن كنتم إياه تعبدونإنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ومآ أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم } قد سبق فى سورة البقرة وفى غيرها تفسير الآية وان الحصر بالاضافة الى ما قالوا من حرمة البحيرة والسائبة وغيرها وليس مطلقا حتى يرد الاشكال بلزوم تحليل المحرمات.
[16.116-117]
{ ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب } قرئ بالرفع صفة لالسنتكم وقرئ بالنصب مفعولا لقوله لا تقولوا او لقوله تصف ولفظ ما موصول اسمى او حرفى او موصوف وقوله { هذا حلال وهذا حرام } مفعول لا تقولوا على بعض الوجوه، او بدل من الكذب على بعض الوجوه، او مفعول تصف على بعض الوجوه { لتفتروا } لينتهى الى الافتراء { على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل } يعنى ما يقصدونه من هذا القول متاع قليل { ولهم عذاب أليم } فى الاخرة ولا ينبغى للعاقل ان يطلب المتاع القليل المستعقب للعذاب الاليم، نسب الى الصادق (ع) انه قال: اذا اتى العبد بكبيرة من كبائر المعاصى او صغيرة من صغائر المعاصى التى نهى الله عنها كان خارجا من الايمان وساقطا عنه اسم الايمان وثابتا عليه اسم الاسلام فان تاب واستغفر عاد الى الايمان ولم يخرجه الى الكفر والجحود والاستحلال فاذا قال للحلال: هذا حرام، وللحرام: هذا حلال ودان بذلك، فعندنا يكون خارجا من الايمان والاسلام الى الكفر وكان بمنزلة رجل دخل الحرم ثم دخل الكعبة فأحدث فى الكعبة حدثا فأخرج عن الكعبة والحرم فضربت عنقه وصار الى النار.
[16.118-119]
{ وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل } فى قوله وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذى ظفر (الآية) { وما ظلمناهم } بتحريم ما حرمنا عليهم بل صاروا متسحقين للمنع والتحريم كما فى قوله فبظلم من الذين هادوا حرمنا (الآية) { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ثم إن ربك } الاتيان بثم لتفاوت الجملتين من حيث ان الاولى للتشديد والتغليظ والثانية للتلطف واظهار الرحمة { للذين عملوا السوء بجهالة } بانصرافهم عن دار العلم ودخولهم تحت حكم الجهل { ثم تابوا } ورجعوا عن مقام الجهل وندموا على ما وقع منهم { من بعد ذلك وأصلحوا } بتدارك ما لزمهم من حقوق الناس وما فات منهم او لزمهم من حقوق الله { إن ربك من بعدها } من بعد التوبة { لغفور رحيم } تكرار ان ربك مثل ما سبق.
[16.120]
{ إن إبراهيم كان أمة } قد مضى ان الامة تقع على الواحد والجماعة والمأموم والامام { قانتا لله } خاضغا له { حنيفا } مسلما او خالصا وقد ذكر فى الاخبار انه كان على دين لم يكن عليه غيره فمكث ما شاء الله حتى آنسه الله باسمعيل (ع) واسحاق (ع) فصاروا ثلاثة ولذلك قال: ان ابراهيم (ع) كان امة ولو كان معه غيره لاضافه اليه { ولم يك من المشركين } وهو تعريض بقريش لانهم زعموا انهم على دين ابراهيم (ع).
[16.121-122]
{ شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم وآتيناه في الدنيا حسنة } الحسنة فى الدنيا هو الاطمينان بذكر الله والانس بالله بحيث لا يكون شيء من قضاء الله مكروها عنده ويستتبع ذلك سهولة المخرج والالتذاذ فى الطريق الى الله ومحبة الناس وحسن الصيت وطيب العيش والتمتع بالاولاد والبركة بالكثرة والسلامة من آفات الآخرة فى الاعقاب وقد كان كل ذلك لابراهيم (ع) { وإنه في الآخرة لمن الصالحين } الذين لافساد فى وجودهم وهم الذين حصلوا جميع ما يمكن للانسان من الكمالات.
[16.123]
{ ثم أوحينآ إليك } يا محمد (ص) { أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين } الملة هى صورة احكام القالب مرتبطة باحكام القلب مأخوذة من صاحب احكام القلب والقالب كما ان النحلة هى تلك الصورة غير مأخوذة من صاحبها بشرائطها المقررة عندهم، وتخلل ثم لتراخى زمان الوحى عن زمان ابراهيم، وللاشارة الى ان اتباع محمد (ص) شرف لابراهيم (ع) لا وصف له اشرف منه، وللاشارة الى ان حكاية حاله (ص) اعلى درجة من حكاية حال ابراهيم (ع)، وعن الصادق (ع): لا طريق للاكياس من المؤمنين اسلم من الاقتداء لانه المنهج الاوضح قال الله عز وجل ثم اوحينا اليك ان اتبع ملة ابراهيم حنيفا فلو كان لدين الله مسلك اقوم من الاقتداء لندب اوليائه وانبيائه (ع) اليه.
[16.124]
{ إنما جعل السبت } محترما { على الذين اختلفوا فيه } كأنه كان فى قلبه (ص) او فى قلب من آمن به شيء من الامر باتباع ملة ابراهيم (ع) وترك تعظيم السبت لانه كان عيدا لليهود بأمر موسى (ع) كما ان الاحد كان عيدا للنصارى فرفع ذلك بقوله انما جعل السبت (الآية) تسكينا له (ص) او للمؤمين { وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } فان اليهود اختلفوا فى السبت بان حرموه ثم استحلوه فلعنهم الله ومسخهم، وقيل: ان المراد بالذين اختلفوا فيه اليهود والنصارى اختلفوا بان قال اليهود: السبت اعظم الايام لان الله فرغ من خلق العالم فيه واستراح، وقال النصارى: الا حد اعظم الايام لابتداء خلق العالم فيه.
[16.125]
{ ادع إلى سبيل ربك } كلام منقطع عن سابقه ولذلك لم يأت باداة الوصل والمراد بسبيل الرب دين الاسلام او اعظم اركانه وهو الولاية { بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن } الحكمة مفسرة بالتشبه بالآله علما وعملا بمعنى الاطلاع على دقائق العلوم التى يعجر عن مثلها البشر والقدرة على دقائق الاعمال التى يعجز عن مثلها امثاله وبالفارسية " خورده بينى وخورده كارى " وهو شأن الولاية والمراد بها ههنا الدعوة من طريق الباطن بالتصرف فى المدعو بحسب استعداده ومن طريق الظاهر بحسب اقتضاء حاله اظهار المعجزات واعلامه بالخواطر والخيالات ليصرفه بذلك الى الحق، والموعظة الحسنة هى اظهار ما كان نافعا للمدعو ليطلبه وما كان ضارا ليجتنبه بحيث يرى المدعو ان الداعى ناصح له وطالب لخيره وهو شأن النبوة، والمجادلة الحسنة هى الزام الخصم بالحجة والبرهان او بما هو مسلم عنده مذعن له سواء وافقه البرهان ام لا؛ هكذا اشير الى تفسير المجادلة فى الاخبار فهى اعم مما اصطلح عليه المنطقيون وهى شأن الرسالة فان الرسول (ص) مأمور باقحام الخلق فى الدين ولو بالسيف، ولما كان الرسول (ص) صاحب الشؤن الثلاثة والخلق على طبقات ثلاث مستعد لتصرف الولى (ع) وقابل لنصح النبى (ص) ومعاند محتاج الى الالزام ولكل شخص يتصور احوال صاحب تلك الطبقات امر الله تعالى النبى (ص) بالدعوات الثلاث والمجادلة الغير الحسنة كما فى الاخبار ان تجحد حقا يدعيه الخصم او تلقى باطلا عليه لالزامه وتضعف عن مقاومته بالحجة فتجادله وبضعفك تجرئه على اهل دينك وتضعف قلوب المسلمين وعقائدهم { إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين } يعنى انك مأمور بالدعوة العامة فلا تتوان فى الدعوة تفكرا فى انها تنفع ام لا.
[16.126]
{ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } يعنى ان عاقبتم قصاصا واتى بلفظ الشك للاشعار بان المؤمن لا ينبغى له القصاص بل شأنه العفو واقدامه على القصاص كالمشكوك؛ وهذا لمن لم يترق عن مرتبة النفس، وقوله ليعفوا وليصفحوا لمن عرج منها الى مقام القلب، وقوله والله يحب المحسنين لمن اتصف بصفات الروح وبعبارة اخرى الاول لمن قبل الرسالة، والثانى لمن قبل النبوة، والثالث لمن قبل الولاية { ولئن صبرتم لهو خير للصابرين } يعنى ان صبرتم عن القصاص والمراد من الصبر العفو وكظم الغيظ الذى ذكر فى الآيات الاخر كما ان الرضا بمنزلة الصفح وفوق كل المراتب الاحسان الى من اساء ونزول الآية كما فى الاخبار فى غزوة احد لان المشركين مثلوا من قتلى المسلمين فقال المسلمون: لئن ادالنا الله عليهم لنمثلن باخيارهم،
" او قال النبى (ص) حين حضر حمزة ورأى ما فعل به وبكى: لئن امكننى الله من قريش لامثلن سبعين رجلا منهم "
، فنزل عليه (ص) جبرئيل (ع) فقال: وان عاقبتم (الآية) لكن مضمونها عام.
[16.127]
{ واصبر } لما كان المؤمنون الغير الخارجين من دار النفس غير متحملين للاذى متبادرين الى القصاص قال فيهم على طريق المداراة ولئن صبرتم بخلاف محمد (ص) ولذلك امره (ص) صريحا بالصبر للاشعار بان التمكن من الصبر انما هو نعمة من الله لان البشرية مقتضيته للانتقام قال { وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم } اى على اصحابك وما فعل بهم من القتل والمثلة بناء على نزول الآية، او ولا تحزن على الضالين الماكرين لك او لعلى (ع) او للمؤمنين { ولا تك في ضيق مما يمكرون } فى حق اصحابك او فيك او فى على (ع) وهذا اشارة الى الصفح وتطهير القلب عن الحقد على المسيء.
[16.128]
{ إن الله مع الذين اتقوا } وهم اصحابك، او انت واتباعك، او على (ع) واتباعه فلا تك فى ضيق مما فعل باصحابك فان لهم الزلفى عند الله او لا تك فى ضيق مما يحتالون فانهم لن يصلوا بضرر اليك او الى على (ع) او الى اتباعه، او هو تعليل للسابق والمعنى ان الله مع الذين اتقوا عن الضيق والحزن او الحقد على المسيء او هو اشارة الى آخرة مراتب العبودية والتقوى الحقيقية التى هى الفناء التام فى الله والسفر بالحق فى الحق، وقد تكرر فيما سبق ان لله مع عباده ومخلوقاته معيتين؛ معية هى من صفات الرحمة الرحمانية وهى عامة، ومعية هى من صفات الرحمة الرحيمية وهى خاصة؛ وهذا النوع من المعية هو المراد فى امثال المقام { والذين هم محسنون } ذو وحسن وهو الولاية او محسنون الى المسيء اليهم فالآية كما اشير اليه فى ذيل تفسير التنزيل اشارة الى مراتب الانسان من اول مقام الاسلام الى آخر كمال الانسان فان قوله فان عاقبتم الى قوله لئن صبرتم اشارة الى اولى مراتبه فى الاسلام وقوله ولئن صبرتم (الى قوله) الا بالله اشارة الى ثانيتها من مقام العفو وكظم الغيظ وقوله ولا تحزن عليهم (الى قوله) مما يمكرون اشارة الى ثالثتها من مقام الصفح وتطهير القلب عن الحقد على المسيء، وقوله ان الله مع الذين اتقوا اشارة الى آخر مقام التقوى وهو مقام الفناء التام وهو الفناء عن الفناء، وقوله والذين هم محسنون اشارة الى آخر مقامات الانسان وهو مقام البقاء بعد الفناء، ولو كنت متذكرا لما اسلفنا فيما أسلفنا من بيان الاسفار الاربعة للسلاك واصطلاح الصوفية الصافية فيها امكنك التفطن بكون الآيات اشارة الى الاسفار الاربعة والله ولى التوفيق.
[17 - سورة الإسراء]
[17.1]
{ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا } بعض ليل { من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى } الذى فى بيت القدس او الى المسجد الاقصى الذى هو فى السماء الرابعة المسمى بالبيت المعمور الذى المسجد الاقصى مظهره وهو ملكوته كما ان المسجد الحرام او مظهره وهو ملكوته، والسرى والاسراء بمعنى وهو السير بالليل فذكر الليل بعده مبنى على التجريد، او التأكيد، وتعديته بالباء فقط وليس من قبيل الجمع بين التعدية بالباء والهمزة { الذي باركنا حوله } فان حول بيت المقدس الشام ومصر وكلاهما ممتازان عن سائر البلاد بكثرة النعم من كل جنس ، والبيت المعمور الذى هو فى السماء الرابعة معلوم كثرة بركات ما حوله.
تحقيق المعراج الجسمانى
اعلم، ان الآية اشارة الى معراج الرسول (ص) وقد اختلف الاخبار فى كيفيته وسيره (ص) وما رآه مع اتفاقها على وقوعه وانه من معجزاته (ص) وقد اختلف فى انه ببدنه الطبيعى ام ببدنه المثالى ام بروحه، وانكرت الفلاسفة كونه بالبدن الجسمانى الطبيعى لامتناع دخول الجسم الملكى فى الاجسام الملكوتية وللزوم الخرق والالتيام فى السماوات وهو محال، وقالت المتشرعة اقتفاء لظاهر الاخبار انه كان ببدنه الطبيعى من غير تبيين لوجه صحته مع قوة برهان الفلاسفة على امتناعه وسنحققه ان شاء الله تعالى، واورد انه كما روى كان فى اقصر زمان حيث كان حرارة مضجعه باقية ولم يسكن حركة حلقة الباب ولم يتم انصباب ماء الابريق الذى سقط حين عروجه بعد رجوعه وكان ما قص علينا مما رآه فى معراجه ووقع منه من الصلوات والمخاطبات لا يمكن وقوعه الا فى زمان طويل فلا يمكن التوفيق وأشكل بانه (ص) حين بلغ الى مقام القرب خاطبه على (ع) ومد على (ع) يده من وراء الحجاب وشاركه فى الغذاء وسد الطريق على (ع) حين سيره (ص) وكل ذلك يدل على كون على (ع) اكمل منه (ص) مع انه كان تابعا له (ص) والتابع لا يكون اكمل من المتبوع.
وتحقيق ذلك بحيث لا يبقى ريب فى وقوعه ببدنه الطبيعى ولا اشكال مما ذكر يستدعى تمهيد مقدمة فنقول: العالم ليس منحصرا فى هذا العالم المحسوس المعبر عنه بعالم الطبع بسماواته وارضيه بل فوقه البرزخ وهو عالم بين عالم الطبع وعالم المثال وله الحكومة على عالم الطبع والتصرف فيه اى تصرف شاء من الاحياء والاماتة وايجاد المعدوم واعدام الموجود وستر المحسوس واظهار غير المحسوس بصورة المحسوس ومنه طى الارض والسير على الماء والهواء والدخول فى النار سالما وقلب الماهيات، ومنه طى الزمان كما ورد فى الاخبار انه قال المعصوم (ع) لمنافق: اخسأ؛ فصار كلبا، وقال لآخر: انت امرأة بين الرجال فصار امرأة، وانكر آخر قلب المهيات عند المعصوم (ع) فصار الى نهر ليغتسل فدخل الماء وارتمس فخرج فرأى نفسه امرأة على ساحل بحر قرب قرية منكورة فدخلت القرية وتزوجت وعاشت مدة وولدت لها اولاد ثم خرجت لتغتسل فى البحر فدخلت الماء وارتمست فخرجت على ساحل النهر المعهود وهو رجل واذا بثيابه موضوعة كما وضعها فلبسها ودخل بيته واهله غير شاعرين بغيبته لقصر الزمان، وامثال ذلك رويت عن التابعين لهم على الصدق وهذا من قبيل بسط الزمان ان كان وقوعه فى عالم الملك، كما نقل ان امرأة وقع لها ذلك فأخبرت وأنكرها جماعة فاوتيت باولادها بعد ذلك عن بلدة بعدية مع انه لم تمض فى بلدها قدر ساعة، او من قبيل البسط فى الدهر من غير تصرف فى الزمان ان كان وقوعه فى الملكوت، وفوق البرزخ عالم المثال وله التصرف فى البرزخ والطبع، وفوقه عالم النفوس الكليات المعبر عنها بالمدبرات امرا، وفوقه الارواح المعبر بالصافات صفا ويعبر عنها فى لسان الاشراقيين بارباب الانواع وارباب الطلمسات، وفوقها العقول المعبر عنها بالمقربين وفوقها الكرسى وفوقها العرش وهو سرير الملك المتعال وهما بين الوجوب والامكان لا واجبان ولا ممكنان بل فوق الامكان وتحت الوجوب؛ وكل من تلك العوالم له الاحاطة والتصرف والحكومة على جميع ما دونه فاذا غلب واحد من تلك العوالم على ما دونه صار ما دونه بحكمه وذهب عنه حكم نفسه.
ثم اعلم، ان الانسان مختصر من تلك العوالم وله مراتب بازاء تلك العوالم وكل مرتبة عالية لها الحكومة على ما دونها من غير فرق كما نشاهد من حكومة النفس على البدن والقوى لكن تلك المراتب فى اكثر الناس بالقوة وما بالفعل من النفس المجردة التى هى بازاء عالم النفوس ضعيفة غاية الضعف بحيث لا يمكنها التصرف فى بدنها زائدا على ما جعله الله فى جبلتها فكيف بغير بدنها، فاذا صار بعض تلك المراتب بالفعل كما فى اكثر الانبياء والاولياء (ع) او جميعها كما فى خاتم الانبياء (ص) وصاحبى الولاية الكلية (ع) كان لهم التصرف فى ابدانهم باى نحو شاءوا، وفى سائر اجزاء العالم كما روى عن الانبياء والاولياء (ع) من طى المكان والزمان والسير على الماء والهواء ودخول النار واحياء الموتى واماتة الاحياء وقلب المهيات وغير ذلك مما لا ينكر تمامها لكثرتها وتواتر الاخبار بمجموعها وان كان آحادها غير متواترة، واما التصرف فى البدن الطبيعى بحيث يخرجه عن حكم الامكان ويدخله فى عالم العرش الذى هو فوق الامكان وفوق عالم العقول والملائكة المقربين كما ورى ان جبرئيل تخلف عن الرسول (ص) فى المعراج وقال: لو دنوت انملة لاحترقت؛ مع انه من عالم العقول المقربين فهو من خواص خاتم الكل فى الرسالة والنبوة والولاية وهو من خواص نبينا (ص) لا يشاركه فيه غيره ولا نبى مرسل ولا خاتم الاولياء ولذلك جعلوا المعراج الجمسانى بالكيفية المخصوصة من خواصه (ص)، ولما كان المعراج بتلك الكيفية امرا لا يتصورا مرفوقه من الممكن وكان لا يتيسر الا اذا غلب العالم الذى فوق الامكان على البدن الطبيعى ولا يتسير تلك الغلبة بسهولة ولكل احد وفى كل زمان قالوا: ان المعراج للنبى (ص) كان مرتين مع انه نسب الى بعض العرفاء انه قال: انى اعرج كل ليلة سبعين مرة، والمعراج بالروح امر يقع لكثير من المرتاضين بل ورد ان الصلاة معراج المؤمن؛ اذا تقرر ذلك نقول: انه (ص) عرج ببدنه الطبيعى وعليه عباؤه ونعلاه الى بيت المقدس ومنه الى السماوات، ومنها الى الملكوت، ومنها الى الجبروت، ومنها الى العرش الذى هو فوق الامكان، وفى هذا السير تخلف جبرئيل (ع) عنه (ص) لانه كان من عالم الامكان ولم يكن له طريق الى ما فوق الامكان لان الملائكة كل له مقام معلوم لا يتجاوزه بخلاف الانسان ولم يكن منه ذلك المعراج الا مرتين كما فى الاخبار ولا يلزم منه خرق السماوات لارتفاع حكم الملك عن بدنه بغلبة الملكوت، ولا استغراب فى عروج البدن الطبيعى الى الملكوت والجبروت لسقوط حكم الملك بل حكم الامكان عنه مع بقاء عينه، ولا غرو فى كثرة وقائعه فى المعراج فانه من بسط الدهر مع قصر الزمان كما قال:
وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون
[الحج:47]، وقال ايضا
في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة
[المعارج:4]، فقدر ساعة من الدهر بازاء قدر ساعة من الزمان تكون كالف ساعة من الزمان او كخمسين الف ساعة، وتكلم على (ع) ومد يده من وراء الحجاب كان بمقامه العلوى لا ببدنه الطبيعى والفضل فى المعراج بان يكون بالبدن الطبيعى ولذلك كان من خواصه (ص) لم يشاركه فيه على (ع) واخبار المعراج وكيفية وقائعه مذكورة فى المفصلات، ومن هذه الآية يظهر فضل نبينا (ص) على موسى (ع) حيث كان سيره الى الله باسراء الله وسير موسى (ع) من قبل نفسه ونفى الرؤية عنه تأبيدا بعد مسئلته وحصر الرؤية فى نبينا (ص) بدون مسئلته، يعنى ان محمدا (ص) تحقق بحقيقة السمع والبصر بحيث لم يكن سمع الا وهو سمعه ولا بصر الا وهو بصره وما ذلك الا بالتحقق بحقيقة السمع والبصر وما ذاك التحقق الا التحقق بحقيقة الاسماء والصفات التى نفى شهودها عن موسى (ع) { لنريه من آياتنآ } يعنى فأريناه اياها فرآها فتحقق بها فصار بحيث لم يكن سمع وبصر الا وهو سمعه وبصره فصار فى حال يقال فى حقه { إنه هو السميع البصير } فعلى هذا قوله انه هو السميع البصير جواب لسؤال عن حاله (ص) بعد الاراءة كأنه قيل: فما كان حاله بعد الاراءة؟ - فقال: تحقق بالآيات والاسماء والصفات، او حال مفيدة لهذا المعنى جعل المفسرون ضمير انه لله اى ان الله هو السميع لكنه خلاف ظاهر الآية لفظا.
[17.2-3]
{ وآتينآ موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا } قرئ لا يتخذوا بالغيبة على الاصل وبالخطاب على الالتفات، وان تفسيرية او مصدرية ولا نافية او ناهية والخطاب لبنى اسرائيل مثل: كتبت اليه ان قم، على قراءة الخطاب او لامة محمد (ص) تعظيما لشأنهم حيث جعل غاية ايتان الكتاب لموسى (ع) عدم اتخاذ امة محمد (ص) من دون الله وكيلا يعنى ان المقصود من ارسال الرسل سابقا كان اتعاظكم وان لاتتخذوا يا امة محمد (ص) { من دوني وكيلا ذرية من حملنا مع نوح } مفعول اول للا تتخذوا ووكيلا مفعول ثان له مقدم عليه وحمله على الجمع لجواز حمل فعيل بمعنى الفاعل على الجمع مفردا نحو حسن اولئك رفيقا، او نداء او منصوب على الاختصاص، او مفعول لفعل محذوف { إنه كان عبدا شكورا } اتى بمدحه عقيب ذكره تعليلا لجعل الكتاب هدى لذريته.
[17.4-5]
{ وقضينآ إلى بني إسرائيل } اى اخبرنا بنى اسرائيل بقضائنا { في الكتاب } التوارة او اخبار النبوة { لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا فإذا جآء وعد أولاهما } وعد عقاب اوليهما { بعثنا عليكم عبادا لنآ أولي بأس شديد } تنزيل الآية فى بنى اسرائيل ومرتى الافساد بقتل زكريا (ع) وبقتل يحيى (ع)، والعلو الكبير استكبارهم وطغيانهم وخروجهم عن طاعة الانبياء (ع)، والعقوبة الاولى كانت على يد يختنصر وجنوده ورد الكرة عليهم برد بهمن بن اسفنديار اساريهم وتمليكه دانيال عليهم وتبسطهم فى البلاد وتسلطهم على العباد ثانيا، والعقوبة الثانية كانت بتسليط الفرس عليهم مرة اخرى، كذا قيل، وعلى هذا فقوله عبادا لنا اولى بأس شديد يختنصر وجنوده { فجاسوا خلال الديار } تجسسوا وتفحصوا المواضع الخفية من دياركم للقتل والاسر والنهب { وكان وعدا مفعولا } حتما.
[17.6]
{ ثم رددنا لكم الكرة عليهم } على الذين بعثوا عليكم { وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا } مما كنتم او منهم.
[17.7]
{ إن أحسنتم } يعنى قلنا لهم ان احسنتم او ان احسنتم يا قوم محمد (ص) او ان احسنتم يا بنى اسرائيل الحاضرين فى هذا الزمان { أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها } استعمال لها ههنا من باب المشاكلة او التهكم { فإذا جآء وعد الآخرة } العقوبة الآخرة { ليسوءوا وجوهكم } متعلق بجاء او متعلق بالجزاء المحذوف والتقدير فاذا جاء وعد الآخرة ليسوؤا اى العباد اولى البأس وجوهكم بعثناهم عليكم، او فاذا جاء وعد الآخرة بعثناهم عليكم ليسوؤا وجوهكم { وليدخلوا المسجد } مسجدكم الاقصى { كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا } ليهلكوا مدة علوهم او الذى استولوا عليه.
[17.8]
{ عسى ربكم أن يرحمكم } بعد ذلك بتقدير القول او خطاب لامة محمد (ص) لان الآية تعريض بهم او خطاب للحاضرين من بنى اسرائيل { وإن عدتم } الى طغيانكم { عدنا } الى عقوبتكم وهذه عقوبة دنيوية لها امد وانقطاع { وجعلنا } فى الآخرة { جهنم للكافرين حصيرا } محصورا فيها او حاصرة لهم مانعة عن الخروج، وتذكير الحصير اما لكونه بمعنى المفعول او لتشبيه بالفعيل بمعنى المفعول، وعن ائمتنا (ع) انهم فسروا الافسادتين بقتل على (ع) وطعن الحسن (ع)، والعلو الكبير بقتل الحسين (ع) والعباد اولى البأس بقوم يبعثهم الله قبل خروج القائم فلا يدعون وترا لآل محمد (ص) ووعد الله بخروج القائم (ع) ورد الكرة عليهم بخروج الحسين (ع) فى سيعين من اصحابه عليهم البيض المذهب حين كان الحجة القائمة (ع) بين اظهرهم وتملك الحسين (ع) حتى يقع حاجباه الى عينيه وفسر بعلى (ع) ويوم الجمل وبنى امية وبالقائم (ع) واصحابه على نحو يظن انه تنزيل لا تأويل.
[17.9-10]
{ إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } هذا اشارة الى الصورة التدوينية من جملة القرآن او من قرآن الولاية او الى الرسالة او الى النبوة او الى الرسول (ص) او الى شخص الامام فان كلا من هذه هو المحسوس المعلوم للخلق وان كان المقصود حقيقة هى الولاية والهداية الدالة والمراد بالتى هى اقوم الملة التى هى اقوم ملل الانبياء لكون المنزل عليه اقوم من سائر الانبياء والمنزل لهم اقوم من سائر الامم، او الطريق التى هى اقوم من سائر الطرق من طرق النفس وهى طريق القلب، او الطريقة التى هى اقوم من طريق النبوة وهى الولاية وهى المقصود فانها غاية ارسال الرسل وانزال الكتب وقد فسرت فى اخبار عديدة بالولاية باختلاف اللفظ، هذا بالنسبة الى من لم يدخل فى الاسلام بعد وهو مستعد للدخول او دخل ولم يدخل فى الايمان بالبيعة الخاصة الولوية واما بالنسبة الى من قبل الدعوة الظاهرة العامة بالبيعة العامة النبوية ودخل فى الايمان بالبيعة الخاصة الولوية وبالنسبة الى من لم يدخل فى البيعتين ولم يستعد للدخول بانكار الآخرة حالا او قالا فيكون بشارة او انذارا ولذلك عطف على يهدى قوله { ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات } اى يعلمون طبق ما أخذ عليهم فى تلك البيعة { أن لهم أجرا كبيرا } ويخبر { وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما } او يبشران الذين لا يؤمنون، على ان يكون من عطف الجملة او عطف المفرد ويكون ذلك بشارة اخرى للمؤمنين.
[17.11]
{ ويدع الإنسان بالشر دعآءه بالخير } يدعو بما هو شر فى نفسه وهو لا يعلم انه شر نحو دعائه بما هو خير وهو يعلم انه خير، والدعاء بما لا يعلم انه خير له ومرضى للحق مذموم، ورسم خط القرآن على اسقاط الواو من يدع فى الكتابة اشارة الى نقصان دعاء الانسان هذا الدعاء { وكان الإنسان عجولا } يدعو بما لا يعلم من غير صبر وترو.
[17.12]
{ وجعلنا الليل والنهار آيتين } اى نيرى الليل والنهار وهما الشمس والقمر او ذوى آيتين ويؤيد هذين التقديرين قوله ليعلموا عدد السنين فانه يعلم عدد السنين والحساب باختلاف القمر فى الاحوال، او جعلنا نفس الليل والنهار آيتين ويكون المحو عبارة عن نقصان النور، وتأديته بهذه العبارة ليذهب السامع بحسب الاحتمال كل مذهب ممكن، وهذا من سعة وجوه القرآن وليمكن تطبيق الآية على جميع مراتب الليل والنذهار كما مر مرارا ليسا مختصين بالشهودين المحسوسين بل يجريان فى جميع مراتب الوجود فان الملكوت السفلى بالنسبة الى الملك انقص نورا وان كانت مجردة تجردا برزخيا فهى ليل بالنسبة اليه، والملك بالنسبة الى الملكوت العليا ليل والملكوت العليا لاحتجابها بحجاب التقدر بالنسبة الى النفوس ليل، والنفوس لاحتاجابها بالتعلق التدبيرى بالنسبة الى الجبروت ليل، وكل ذلك بجهته الامكانية ليل بالنسبة الى جهته الالهية وهكذا الامر فى العالم الصغير باضافة احواله من القبض والبسط والسقم والصحة والفقر والسعة والخوف والامن، والمعنى جعلنا الليل والنهار فى كل من مراتبهما آيتين { فمحونآ آية الليل } اى نقصنا نور آية هى الليل او آية مضافة الى الليل وهى القمر { وجعلنآ آية النهار مبصرة } اى آية هى النهار او آية مضافة الى النهار ومبصرة من المجاز العقلى او من ابصره اذا جعله ذا ابصار، او من ابصر اذا اضاء او من أبصر اذا صار اهله بصراء { لتبتغوا فضلا من ربكم } غاية لابصار آية النهار تقديم آية الليل لتقدمها طبعا فى سلسلة الصعود وفى انظار ذوى الآية وهم البشر، وتقديم غاية النهار لشرافتها ولان غاية الليل غاية لهما { ولتعلموا عدد السنين والحساب } بسبب اختلاف القمر بالنسبة الى اوضاعه مع الشمس هلالا وبدرا ومحاقا { وكل شيء فصلناه تفصيلا } يعنى ليس انتظام الليل والنهار والشمس والقمر فقط لانتفاعكم بل كل شيء فى العالم من الماديات الارضيات والسماويات والمجردات المتقدرات والمتعلقات وغير المتعلقات نظمناه نظما انيقا يعجز عن ادراك دقائق حكمه ومصالحة عقول البشر، والتفصيل كما يستعمل فى التمييز والتبيين يستعمل فى التنظيم الانيق فانه نحو تبيين لدقائق الحكم وتمييز لكل من الدقائق عن الآخر.
[17.13-14]
{ وكل إنسان ألزمناه طآئره في عنقه } الطائر الذى يطير، ولما كان العرب يتيمنون بطيران الطائر الى اليمين ويتشأمون بطيرانه الى اليسار خصوصا بعض الطيور جعل اسما لمطلق ما يتيمن ويتشأم به، ثم استعمل فى مطلق سبب الخير والشر والمعنى الزمناه سبب خيره وشره فى عنقه كأنه قلادة فيه { ونخرج له يوم القيامة كتابا } مكتوبا بابدى ملائكتنا مما هو عبارة عن الواح نفسه او ما هو خارج عنها { يلقاه منشورا اقرأ } قائلين اقرء { كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا } محاسبا لا حاجة لك الى محاسب آخر لكشف الغطاء وحدة البصر وحضور الاعمال مجسما ومكتوبا وشهود الميزان وتطاير الكتاب السجينى الى اليسار والعليينى الى اليمين.
[17.15]
فى الصغير رسول العقل وفى الكبير واحدا من الانبياء والاولياء (ع).
[17.16-17]
{ وإذآ أردنآ أن نهلك قرية أمرنا مترفيها } اى منعميها قئ امرنا مفتوح العين من الثلاثى المجرد وآمرنا ممدود الهمزة من باب الافعال وقرئ امرنا بكسر العين من الثلاثى، وامرنا مشدد العين، والكل بمعنى كثرنا، ويجوز ان يكون امرنا بفتح العين وآمرنا من باب الافعال من الامر ضد النهى؛ ويكون المعنى امرناهم تكوينا بالفسق { ففسقوا فيها } او يكون المعنى امرناهم تكليفا بالعبادات ففسقوا، ويجوز ان يكون امرنا بتشديد وآمرنا من باب الافعال من امر بتثليث العين بمعنى صار اميرا ويكون المعنى جعلنا مترفيها ولاة عليها ففسقوا، وتخصيص المترفين على المعانى الاول لان غيرهم ينظرون اليهم فيتبعونهم ولانهم اقدروا اسرع من غيرهم الى الفجور، ولانهم افرغ قلبا واجرأ فيكون حيلتهم فى ارتكاب الفجور اكثر وانفذ { فحق عليها القول } بنزول العذاب والاهلاك بعد فسوقهم { فدمرناها تدميرا وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح } قيده ببعد نوح لان القرون التى كانت قبله لم يكن فيهم ما كان فيمن كان بعده، او لان ما كان فيهم لم يصل الينا كما وصل ما كان فيمن كان بعده يعنى اهلكنا كثيرا من بعد نوح فلا نبالى باهلاك الفاسقين منكم { وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا } فلا تجترئوا على الذنوب لعلهم الله بها ومؤاخذته عليها.
[17.18]
{ من كان يريد العاجلة } الحاضرة وهى الدنيا ونعيمها بان كان ارادته فى اعماله متعلقة بها { عجلنا له فيها ما نشآء لمن نريد } بدل من له بدل البعض، وتقييد التعجيل للاشارة الى ان ذلك منوط بمشية الله لا بارادة المريد وهمه على ما يريد وليس كل مريد يصل الى مراده ولا من يصل يصل الى تمام مراداته { ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا } مطرودا، عن النبى (ص) معنى الآية: من كان يريد ثواب الدنيا بعمل افترضه الله عليه لا يريد به وجه الله والدار الآخرة عجل له ما يشاء الله من عرض الدنيا وليس له ثواب الآخرة.
[17.19]
{ ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها } اللائق بها لا السعى الذى زعموه بآرائهم انه سعيها، وجعل القرينتين مختلفتين فى الشرط والجزاء للاشعار بان استحقاق العذاب انما هو بصيرورة ارادة العاجلة سجية لا بارادة ما واحدة جزئية واستحقاق الثواب انما هو بارادة واحدة جزئية وسعى واحد بشرط الايمان والى هذا المعنى اشار تعالى بقوله:
لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت
[البقرة:286]، وللاشعار بان استتباع صور الاعمال الحسنة لتعجيل خيرات الدنيا عرضى محتاج الى الجعل بخلاف استتباعها لغاياتها { وهو مؤمن } قيده بالايمان وهو الولاية التى تحصل بالبيعة الخاصة الولوية لان العمل بدون الولاية لا اثر له ولا فائدة فيه كما ورد: لو ان عبدا بعد الله تحت الميزاب سبعين خريفا قائما ليله صائما نهاره ولم يكن له ولاية ولى امره لأكبه الله على منخريه فى النار { فأولئك كان سعيهم مشكورا } مجزيا عليه.
[17.20]
{ كلا نمد هؤلاء وهؤلاء } بدل تفصيلى من كلا { من عطآء ربك } المضاف وهو الولاية المطلقة او هو التفات من التكلم الى الغيبة او هو استيناف خبر مبتدء محذوف كأنه قيل: من اى شيء كان الامداد، من استحقاقهم او من فضل الله؟ - فقال: ذلك من عطاء ربك { وما كان عطآء ربك } من القوى والمدارك وما يحتاج المحسن والمسيء اليه من الارزاق والملبوس والمسكون والاسباب التى يتوسل بها الى التعيش والاعمال الحسنة والسيئة { محظورا } منهما.
[17.21]
{ انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض } لتتنبه للتفاضل فى الآخرة { وللآخرة أكبر درجات } يعنى اكثر درجات او اعظم درجات بحسب انفسها من درجات الدنيا { وأكبر تفضيلا } بالاضافة الى تفضيل درجات الدنيا.
[17.22]
{ لا تجعل مع الله } الخطاب عام لكل من يتأتى منه الخطاب او خاص به (ص) فى اللفظ على، اياك اعنى واسمعى يا جارة او على طريق سريان خطاب المتبوع الى الاتباع، او سريان خطاب الكل الى الاجزاء يعنى لا تجعل مع الله فى الآلهة او العبادة او الطاعة او الوجود، اولا تجعل مع الله بحسب مظاهره الذين هم مظاهر الولاية { إلها آخر فتقعد } فتبقى فان القاعد يبقى متأخرا عن الرفقة { مذموما } يذمك الله وخواصه { مخذولا } عن نصرة الله ونصرة خواصه.
[17.23]
{ وقضى ربك } تكوينا كما امر تكيلفا او امر تكوينا وتكليفا على استعمال اقضاء بمعنى ايصال الامر الى المأمور سواء كان بنحو التكوين او التكليف لكن فى امره التكوينى لا يقع التخلف وفى امره التكليفى قد يقع التخلف او ثبت فى عالم قضائه { ألا تعبدوا إلا إياه } ان مصدرية ولا نافية او ناهية او مفسرة ولا ناهية والمعنى قضى ربك ان لا يقع منكم عبادة تكوينا الا له او ان لا يقع ولا يصح تكوينا واختيارا او لا يصح اختيارا وتكليفا منكم عبادة الاله.
بيان انحصار العبادة فى الله
اعلم، ان الله تعالى منزه عن المثل والثانى ولكن له المثل الاعلى والانسان مثل اعلى له تعالى، فمثل الحق تعالى فى العالم الكبير باملاكه وافلاكه وارضه ومواليده مثل النفس الانسانية فى العالم الصغير بقواها العالية والدانية وارواحها الحيوانية السماوية واعضائها الارضية وصورها الذهنية، فشأن الصور الذهنية بالنسبة الى النفس شأن الملائكة المقربين الذين لا شأن لهم الا التعلق الصرف ولا انانية لهم ولا استقلال بوجه من الوجوه وشأن القوى المدركة والمحركة شأن النفوس وعالم المثال، وشأن الاعضاء شأن عالم الطبع، وكما انه ليس للصور الذهنية شأن الا الانقياد الصرف والعبودية المحضة كذلك ليس للملائكة الا الانقياد والعبودية، وكما ان الاعضاء اذا كانت سليمة غير مؤفة شأنها الانقياد للنفس والعبودية لها كذلك عالم الطبع بشراشره اذا كان سليما شأنه الانقياد والعبودية، وكما ان الاعضاء اذ طرأ عليها الآفة قد تخرج عن انقياد النفس كذلك اجزاء العالم اذا كانت مؤفة بآفة اضلال الشيطان او بآفة العجب والغرور كما فى افراد الانسان والشياطين والجن قد تخرج عن انقياد الله وطاعته، وكما ان الاعضاء المؤفة الخارجة عن طاعة النفس والمنقادة للطبع بحكم الآفة غير خارجة عن انقياد النفس مطلقا كذلك اجزاء العالم المؤفة الخارجة عن طاعة الله ودخلت فى طاعة الشيطان وعبدت بحكومته سائر اجزاء العالم من الملائكة والسماويات والارضيات والشياطين والجن اختيارا كما انها عبدت الشيطان اولا من حيث لا تشعر لم تكن خارجة عن طاعة الله تكوينا، ولما كان اجزاء العالم مظاهر لله الواحد الاحد القهار بحسب اسمائه اللطفية والقهرية كان عبادة الانسان لاى معبود كانت عبادة لله اختيارا ايضا بخلاف طبائع الاناسى فانها ليست مظاهر للنفس الا بوجه بعيد لا يعلمه الا الراسخون، ولذلك لم تكن الاعضاء المؤفة فى حكم الآفة منقادة للنفس عابدة لها مطلقا فالانسان فى عبادتها اختيارا للشيطان كالابليسية وللجن كالكهنة وتابعى الجن وللعناصر كالزردشيته وعابدى الماء والهواء والارض وللمواليد كالوثنية وعابدى الاحجار والاشجار والنباتات كالسامرية وبعض الهنود الذين يعبدون سائر الحيوانات، وكالجمشيدية والفرعونية الذين يعبدون الانسان ويقرون بآلهته وللكواكب كالصابئة وللملائكة كاكثر الهنود وللذكر والفرج كبعض الهنود القائلين بعبادة ذكر الانسان وفرجه، وكالبعض الآخر القائلين بعبادة ذكر مهاديو ملكا عظيما من الملائكة وفرج امرأته كلهم عابدون لله من حيث لا يشعرون، لان كل المعبودات مظاهر له باختلاف اسمائه ولذلك قيل:
اكر مؤمن بدانستى كه بت جيست
يقين كردى كه دين دربت برستى است
اكر كافر زبت آكاه بودى
جرا در دين خود كمراه بودى
وقال المولوى المعنوى قدس سره:
ساخت موسى قدس درباب صغير
تا فرود آرند سر قوم زحير
زانكه جباران بدند وسر فراز
دوزخ آن باب صغير است ونياز
آنجنانكه حق زلحم واستخوان
ازشهان باب صغيرى ساخت هان
ساخت سركين دانكى محرابشان
نام آن محراب مير وبهلوان
جون عبادت بود مقصود از بشر
شد عبادتكاه كردنكش سقر
لكن تلك العبادة لما لم تكن بأمر تكليفى من الله لم يستحقوا الاجر والثواب عليها بل استحقوا العقوبة والعذاب، فعلى هذا معنى الآية قضى ربك قضاء حتما لا تخلف عنه ان لا يعبد عبد عبادة لشيء من الاشياء الا كانت العبادة له وبقضائه وامره التكوينى، وقضى قضاء حتما ان لايصح العبادة من عابد لمعبود الا اذا كانت باذن من الله وقضى قضاء تكليفيا بان امر على السنة انبيائه (ع) ان لا تعبدوا الا اياه فمن كان فى عبادته ناظرا الى غيره فقد خرج عن قضائه وامره التكليفى ولم تكن العبادة باذنه فلم تصح منه واستحق العقوبة من الله تعالى { وبالوالدين } وان تحسنوا او ان احسنوا حذفه اكتفاء بقوله { إحسانا } وهذا غاية التعظيم للوالدين حيث قرن احسانهما من عابدة نفسه والوالدان اعم من الجسمانيين والروحانيين العلويين والسفليين فان السفليين احسانهما ان تصاحبهما فى الدنيا معروفا وقد مضى فى سورة البقرة تفصيل تحقيق تام للوالدين واحسانهما { إما يبلغن عندك الكبر } الهرم والشيخوخة { أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف } لا تنزجر منهما ولا تظهر انزجارك لهما وورد: لو علم الله شيئا ادنى من اف لنهى عنه وهو من ادنى العقوق { ولا تنهرهما } ولا تقهرهما بان تزجرهما { وقل لهما قولا كريما } جميلا.
[17.24]
{ واخفض لهما جناح الذل } مستعار من تذلل الطيور فانها تخفض جناحها عند التذلل { من الرحمة } من رحمتك لهما فانهما استحقا بافتقارهما اليك وانت كنت فى نهاية الفقر اليهما رحمة منك ولا تكتف باحسانك والرحمة لهما بل ادع الله لهما فى حيوتهما ومماتهما { وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا } عن النبى (ص) انه قال من غير سابقة رغم انفه؛ ثلاث مرات، قالوا من يا رسول الله (ص)؟! قال: من ادرك ابويه عند الكبر احدهما او كليهما ولم يدخل الجنة.
[17.25]
وعد على الاحسان والرحمة بالنسبة الى الوالدين.
[17.26]
{ وآت ذا القربى حقه } خصه بالتخاطب بعد تعميم الخطاب اشعارا بانه (ص) اصل فى هذا الحكم وان اصل الحقوق بيده وان اصل ذوى القربى هو القريب الروحانى له (ص).
اعلم، ان الانسان ذو مراتب عديدة بحسب بدنه ونفسه وقلبه وروحه وعقله وسره وله فى كل من المراتب قرابات وقراباته بحسب مراتب القرب متفاوتة بعضها اقرب وبعضها قريب ولكل بحسب مرتبته حق، هذا فى العالم الكبير وله ايضا فى عالمه الصغير قرابات من نفسه وقواها المدركة والمحركة وبدنه واعضائه ولكل ايضا حق كالقرابات الجسمانية كالعمودين وفروع الاصول حقوقهم ما فرض لهم، وبين من الاموال فى المواريث ومن تعهد الاحوال وبشر الوجه وقضاء الحاجات مما قرر فى صلة الارحام الصورية والقرابات الصدرية النفسية، كالداخلين فى الاسلام حقوقهم النصح وتعليم الاحكام وبشر الوجه وتعهد الحال وقضاء الحاجات وستر العيوب وحفظ الغيب وغير ذلك مما قرر فى حسن المعاشرة مع المسلمين، والقرابات القلبية الايمانية كالمبتاعين بالبيعة الخاصة الولوية حقوقهم مع ذلك بذل الوسع فى خدمتهم والمواساة بالمال والايثار فيما يقتضى الايثار والترحم والدعاء لهم بظهر الغيب وغير ذلك مما قرر فى حق المؤمنين؛ هذا للمسلمين والمؤمنين الذين هو بمنزلة الاخوة فى القرابات الجسمانية. واما المسلمون بالنسبة الى النبى (ص) والمؤمنون بالنسبة الى الامام (ع) الذى هو كالاب وهم كالاولاد حقوقهم عليه وحقوقه عليهم مع تلك الحقوق امر آخر، وكذلك النبى (ص) بالنسبة الى خليفته والامام بالنسبة الى امام بعده حقوقهم غير ذلك، فاذا عرفت ذلك عرفت ان تفسير ذى القربى بالقرابات الصورية وبالقرابات الاسلامية وبالقرابات الايمانية وبالامام وباقرباء محمد وبآل محمد (ص) كلها صحيح، وكذا تفسير الحق المالى بالحق الميراثى وبفدك لفاطمة (ع) وبالتصدق من اصل المال على الاقرباء وبالمواساة وقضاء الحاجات والخدمة للاخوان الاسلامية والايمانية وبتعظيم النبى والامام وبحق الامامة للامام كلها صحيح فاختلاف الاخبار فى تفسير الآية لكثرة مراتبها وسعة وجوهها والكل صحيح من غير خلل { والمسكين } الذى اسكنه العجز عن الكسب للقوت وحقه من الزكاة والتصدقات او اعجزه الشيطان والنفس عن الوصول الى الامام (ع) بعد الوصول الى النبى (ص) او عن السلوك الى الله بعد الوصول الى الامام { وابن السبيل } المنقطع عن بلاده السائر اليها ولم يكن له زاد بالفعل او بالقوة لو بالاستدانة، او المنقطع عن الامام (ع) السائر اليه ظاهرا او باطنا { ولا تبذر تبذيرا } باعطاء غير المستحق او اعطاء المستحق زائدا عن حقه، ولما امر بايتاء الحقوق للمستحقين نهى عن التبذير الذى هو ايتاء غير المستحق وايتاء المستحق زائدا عن الحق الذى هو السرف فان الايتاء من غير تبذير هو الاقتصاد فالتبذير ههنا اعم من الاسراف وان كان قد يقابله، ولما كان الامر بايتاء الحقوق مستلزما للنهى عن التقتير بمفهوم المخالفة اكتفى عنه به ونهى صريحا عن السرف، ولما لم يختص ايتاء الحق بالمال الصورى ولا بالقرابات الصورية بل يعم سائر الحقوق وجميع القرابات فى العالم الكبير والصغير
" ورد عن النبى (ص) انه مر بسعد وهو يتوضأ فقال: ما هذا السرف يا سعد؟ - قال: أفى الوضوء سرف؟ - قال: نعم وان كنت على عين جارية "
، وورد عن الصادق (ع): انه سئل أفيكون تبذير فى حلال؟ - قال: نعم، والسر فيه ان من كان على عين جارية وزاد فى تحريك القوى على ما يؤدى به الفرض والندب كان ذلك منه استعمالا للقوى وتوجها الى القوى المحركة من غير استحقاق وان لم يكن سرف وتبذير هناك للماء، وخلاصة ما يستفاد من الاخبار باختلافها ان انفاق المال او الكلام او العلم او الحكمة او العرض والجاه او قوة القوى او الانفاق على النفس وقواها بمشتهياتها من غير التفات الى امر الله وامتثال له تبذير كائنا ما كان، وكل ذلك اذا كان بأمر من الله والتفات اليه وامتثال له اقتصاد كائنا ما كان ولذلك ذكروا انه لو جعلت الدنيا كلها لقمة واطعمتها مؤمنا ما كان سرفا.
[17.27]
{ إن المبذرين } المنفقين فى غير طاعة الله وبالغفلة عن أمر الله { كانوا إخوان الشياطين } لان الانفاق اذا لم يكن بأمر الله كان بأمر الشيطان فانه يترصد البعد وغفلته عن امر الله فيتصرف فيه ويحكم عليه كما يحكم على شياطينه { وكان الشيطان لربه كفورا } عطف لبيان العلة يعنى ان الشيطان كفور لربه والمبذر المنفق من غير التفات الى امر الله كفور لربه فهو اخ للشيطان فى الكفورية.
[17.28]
{ وإما تعرضن } ان تعرض { عنهم } عمن أمرت بايتاء حقوقهم بترك اعطاء مسؤلهم لعدم استعدادهم للمسؤل او عدم وجدان مسؤلهم حين سؤالهم { ابتغآء رحمة من ربك } بها يستعدون للمسؤل او بها تجد المسؤل ويتيسر لك الاعطاء واكتفى بابتغاء الرحمة عن عدم الاستعداد وعدم الوجدان لاستلزام عدمها لابتغاء الرحمة من حيث انهما رحمة والفاقد لهما اذا كان له شأنية الوجدان يطلبها واكتفى بذكر الرحمة عن الاستعداد والسعة لكونهما مصداقا لها { ترجوها فقل لهم قولا ميسورا } سماعه لا معسورا سماعه وهو القول الذى به يطيب قلوبهم، روى ان النبى (ص) لما نزلت هذه الآية كان اذا سئل ولم يكن عنده ما يعطى قال: يرزقنا الله واياكم من فضله.
[17.29]
{ ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط } عبر عن التقتير والاسراف على سبيل الكناية فان التقتير والاعطاء فى الاغلب بقبض اليد وبسطها وهو تأكيد للاول وبيان لغاية الاسراف كما ان قوله: ان المبذرين كانوا اخوان الشياطين بيان لمبدء التبذير كما اشير اليه عند تفسيره { فتقعد ملوما محسورا } من المال كما ورد فى نزوله انه (ص) كان عنده اوقية من الذهب فكره ان تبيت عنده فتصدق بها فأصبح وليس عنده شيء وجاء من يسأله ولم يكن عنده ما يعطيه فلامه السائل فأدبه الله تعالى او محسورا من اللباس كما ورد انه لم يكن عنده شيء فأعطى السائل قميصه.
[17.30]
{ إن ربك يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر } فلا تقدر انت على بسط الرزق على نفسك بالامساك ولا على غيرك باعطاء جميع ما عندك فهو تعليل للنهى عن القبض والبسط { إنه كان بعباده خبيرا بصيرا } فيعلم احوالهم الباطنة ويبصر احوالهم الظاهرة فيعلم مصالحهم ويعطى ما يصلحهم ويمنع ما يفسدهم.
[17.31-32]
{ ولا تقتلوا أولادكم } صرف الخطاب عنه (ص) الى القوم لأنهم المقصودون بالخطاب اصالة { خشية إملاق } افلاس من املق اذا افتقر كانوا يقتلون اولادهم بوأد البنات خوف الفقر { نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة } بالغة فى القبح { وسآء سبيلا } لانه سبيل الى النار وقد عد الزنا من اكبر الكبائر وعن النبى (ص) فى وصيته لعلى (ع): يا على فى الزنا ست خصال ثلاث منها فى الدنيا وثلاث فى الآخرة: فاما التى فى الدنيا فيذهب بالبهاء ويعجل بالفناء ويقطع الرزق، واما التى فى الآخرة فسوء الحساب وسخط الرحمن والخلود فى النار.
[17.33]
{ ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } باسبابه المقررة فى الشرع من الارتداد بعد الايمان وتكرار بعض المعاصى التى لها حد بعد مراتب الحد وقتل النفس والزنا بعد الاحصان واللواط، ولما كان الحق هو الولاية كما مر مرارا، والولاية ظهور الحق الاول تعالى شأنه فالمعنى على هذا ولا تقتلوا النفس الا بفاعلية الحق لا بفاعلية انفسكم كما قال المولوى قدس سره:
آنكه ازحق يا بد اووحى وخطاب
هرجه فرمايد بود عين صواب
آنكه جان بخشد اكر بكشد رواست
نايب است ودست اودست خداست
فما لم يخرج الانسان من حكم نفسه ولم يدخل فى حكم الله او حكم من دخل فى حكم الله لا يجو له قتل النفس او الحكم بالقتل كائنا من كان القاتل وكائنا من كان المقتول كما قال المولوى قدس سره من لسان على (ع):
من جوتيغم وان زننده آفتاب
ما رميت اذ رميت در حراب
رخت خودرا من زره برداشتم
غير حق را من عدم انكاشتم
زاجتهاد واز تحرى رسته ام
آستين برد امن حق بسته ام
{ ومن قتل مظلوما } غير متستحق للقتل { فقد جعلنا لوليه } لمن يلى امره ممن هو اولى بميراثه وهم جميع الورثة { سلطانا } تسلطا على القاتل بالقصاص او الرجوع الى الدية واذا جعلنا لولى المقتول سلطانا على القاتل { فلا يسرف } مريد قتل النفس { في القتل } بان يقتل من غير استحقاق فانه اسراف لانه حرك اعضائه وقتل من غير امر من الله، وقرئ فلا تسرفوا خطابا لمريدى القتل، او المعنى فلا يسرف الولى فى القتل بان يقتل اكثر من واحد بواحد او يمثل المقتص منه، او الآية كما ورد نزلت فى قتل الحسين (ع) والمعنى فلا يكن اسراف فى القتل ولو قتل جميع اهل الارض بالحسين (ع) كما فسرت فى الاخبار به { إنه كان منصورا } ان المقتول او الولى كان منصورا بتسليط الله وليه ونصرة الحكام وليه والمعنى على التفسيرين الاول والثالث ظاهر، وعلى الثانى يكون تعليلا للنهى اى نهينا عن الاسراف لان ولى المقتول كان منصورا وقادرا على الاسراف.
[17.34]
{ ولا تقربوا مال اليتيم } فضلا عن التصرف فيه { إلا بالتي هي أحسن } الا بالخصلة والصفة التى هى احسن خصال قرب المال وهى جمعه وحفظه له وانماؤه ان كان ممكنا { حتى يبلغ أشده } قد مضى بيان الاشد وانه وقت استحكام جميع القوى والاعضاء { وأوفوا بالعهد } عموما وبعهد الاسلام المأخوذ عليكم فى البيعة العامة النبوية خصوصا، حتى يؤدى بكم الوفاء بالعهود عموما الى الوفاء بعهد الاسلام، ويؤدى بكم الوفاء بعهد الاسلام الى عهد الايمان الذى يؤخذ بالبيعة الخاصة الولوية والوفاء به { إن العهد كان مسؤولا } يعنى بعد تجسم الاعمال يسأل عن العهد أوفوا بك ام لا؟ او مسؤلا عن حاله فيسألون عن حال عهودهم آوفيتم بها ام لا؟
[17.35]
{ وأوفوا الكيل } الوفاء والايفاء بمعنى لكن فى الايفاء مبالغة { إذا كلتم وزنوا } الموزونات { بالقسطاس المستقيم } فسر القسطاس فى الخبر بالميزان الذى له كفتان ولسان { ذلك خير } فى الدنيا بحسن الصيت والخروج من رذيلة السرقة والخديعة { وأحسن تأويلا } غاية او ارجاعا او مرجوعية الى الغايات لان غايته فى الدنيا جلب البركة وفى الآخرة سهولة المحاسبة وحسن المثوبة.
[17.36]
{ ولا تقف ما ليس لك به علم } لا تتبع مدركا لم يتعلق علم منك به سواء كان الاتباع بالاتيان به بالجوارح كالاتيان بالافعال التى لم تعلم صحتها منك او بالاصغاء كالاصغاء الى ما تعلم صحة الاصغاء اليه منك، او الابصار كطموح النظر الى ما لم تعلم صحة النظر منك اليه، او الاقوال كجريان ما لم تعلم صحة جريانه على لسانك ومنه الافتاء بما لم تعلمه صحة الافتاء منك به، وبهذه الآية وامثالها تمسك من منع من الافتاء بالظن والرأى والقياس والاستحسان ومن منع من تقليد من لم يأذن الله بلا واسطة او بواسطة فى امامته وقال: لا بد للمفتى من العلم القطعى بصحة افتائه كالائمة (ع) ومن اجازوه للافتاء وللمقلد من العلم القطعى بصحة تقليد من يقلده اما بنص واجازة صحيحة صريحة فى امامته او ببصيرة باطنة بحاله، واما الذين يستبدون بآرائهم فى الاحكام من غير وحى والهام ومن غير اجازة ولو بوسائط من صاحب الوحى والالهام واتباعهم الذين يقلدونهم ويتبعونهم من غير علم بكونهم صاحبى الوحى والالهام او صاحبى الاجازة الصحيحة فهم مقتفون ما ليس لهم به علم، وقيل: ان المراد بالعلم ههنا اعم من الظن فيشمل الظن بالاحكام من القياس والاستحسان العقلى والرأى من اى وجه كان ولو كان كذلك لكان التعبير بالظن اولى، لان النهى عن اتباع ما ليس به ظن يستلزم بمفهوم مخالفته الامر باتباع المظنون والمعلوم يقينا بخلاف النهى عن اتباع غير المعلوم، ولما كان الافعال والاقوال غير خالية من سببية واحد من السمع والبصر والفؤاد لها او اكثر قال فى مقام تعليل النهى { إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك } المذكورين على استعمال اولئك فى العقلاء او كل اولئك الثلاثة على استعماله فى مطلق الجمع مذكرا كان او مؤنثا عاقلا او غير عاقل { كان عنه مسؤولا } اى يسأل عنه ما فعل صاحبك بك؟ او ما فعلت لصاحبك؟ ما سمعت وما ابصرت؟ وما تعقلت وما تخيلت؟
" ونسب الى النبى (ص) انه قال: ابو بكر سمعى، وعمر بصرى، وعثمان فؤادى "
فقيل هل فى ذلك، فقرأ الآية، وورد عن الصادق (ع) انه قال: من نام بعد فراغه من اداء الفرائض والسنن والواجبات من الحقوق فذلك نوم محمود وانى لا اعلم لاهل زماننا هذه اذا أتوا بهذه الخصال اسلم من النوم لان الخلق تركوا مراعاة دينهم ومراقبة احوالهم واخذوا شمال الطريق والعبد ان اجتهد ان لا يتكلم كيف يمكنه ان لا يسمع الا ماله مانع من ذلك وهو النوم، وان النوم اخذ تلك الآلات قال الله تعالى ان السمع والبصر (الآية).
[17.37]
{ ولا تمش في الأرض مرحا } المرح الاختيال الحاصل من شدة الفرح ولذلك فسر بالاختيال وبشدة الفرح كليهما { إنك لن تخرق الأرض } لن تقوى على خرق الارض او لن تقوى على سيرها كلها { ولن تبلغ الجبال طولا } ولن تبلغ بعظمة جثتك عظمة الجبال او لن تقوى على الصعود الى قللها بجعل طولا تميزا محولا عن الفاعل او محولا عن المفعول، فمن كان عاجزا فى نفسه غير قادر لا ينبغى له التطاول والاختيال فهو تعليل للنهى.
[17.38-39]
{ كل ذلك } المذكور من الخصال الاربع عشرة المحلل الى الاكثر من قوله: ولا تجعل مع الله آلها آخر (الى قوله) طولا { كان سيئه } فى الفعل اذا كان منهيا عنه، وفى الترك اذا كان مأمورا به، وقرئ سيئة بالتاء { عند ربك مكروها ذلك } المذكور من الخصال { ممآ أوحى إليك ربك من الحكمة } العلمية والعملية { ولا تجعل مع الله إلها آخر } كرره للاشارة الى ان التوحيد اهم الخصال وكما انه مبدء لها علما غاية لها حالا وعيانا وتحققا فالاول لتوحيد الوجوب والالهة وهذا التوحيد الوجود لانه غاية الغايات ومنتهى النهايات، او الاول لتوحيد الالهة فى نفسها وهذا لتوحيدها فى مظهرها الولوى كأنه قال: ولا تجعل مع على (ع) وليا آخر فانه ايضا غاية التوحيد العلمى وغاية سائر الخصال العملية { فتلقى في جهنم ملوما } عند نفسك وعند الله وعند الملائكة وعند الناس { مدحورا } مبعدا من الرحمة، ولما كان هذه السورة نزلت بمكة ولم يكن الدين قويا ولا المؤمنون راسخين لم يغلظ الله تعالى فى اوامرها ونواهيها بل أبداها على طريق النصح والملاينة كما روى عن الباقر (ع)، انه لما نزل بمكة على طريق ادب وعظة وتعظيم ونهى خفيف ولم يعد عليه ولم يتواعد على اجتراح شيء مما نهى عنه وانذر نهيا عن اشياء حذر عليها ولم يغلظ ولم يتواعد عليها.
[17.40]
{ أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا } رد على من قال: ان الملائكة جميعا او بعضهم بنات الله كبعض قريش وبعض الهنود { إنكم لتقولون قولا عظيما } باثبات الولد لله وتفضيل انفسكم ونسبة الذكورة والانوثة الى الملائكة المجردة العالية منهما، وتوصيفهم بالانوثة التى هى اخسهما واثبات الولد الاخس لله العلى العظيم.
[17.41]
{ ولقد صرفنا في هذا القرآن } اسقاط المفعول للتعميم يعنى صرفنا كثير تصريف فى امثال عديدة والفاظ كثيرة كلما ينبغى ان يذكر لهم من الحجج والحكايات والعبر والمواعظ والاحكام، ويحتمل ان يكون الصيغة لتكثير المفعول اى صرفنا كثيرا من المعانى التى ينبغى ان تذكر { ليذكروا } اى ليتذكروا ويتعظوا { وما يزيدهم إلا نفورا } يعنى انهم لغاية حمقهم صار ما هو سبب تذكرهم وتقربهم سبب نفورهم وبعدهم.
[17.42]
وضع الظاهر موضع المضمر للاشعار ببرهان ابطال كون الالهة معه يعنى انه مالك العرش والعرش جملة المخلوقات ومنها ما تفرضونها آلهة فكيف يكونون آلهة معه مع كونهم مملوكين له او انه صاحب السرير وصاحب السرير عبارة عن صاحب الملك وانكم تسلمون انه صاحب السرير والسلطنة من غير منازع فلو كان معه آلهة لابتغوا اليه سبيلا بالمنازعة وما سلم له الملك، ولما كان الملك مسلما له فلا آلهة معه وقد فسروا الآية بانهم طلبوا التقرب الى ذى العرش واستشهدوا على ذلك بقوله اولئك الذين يدعون يتبغون الى ذى العرش سبيلا.
[17.43-44]
{ سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا تسبح له } اى تسبحه على ان يكون اللام للتقوية او تنزه وجودها من شوب النقص والتعين للتقرب الى الله { السماوات السبع والأرض ومن فيهن } اى ما فيهن لكن اتى بمن تغليبا، ولان التسبيح من اوصاف العقلاء فلما نسب اليها ناسب تأديتها بلفظ العقلاء، او المراد العقلاء فقط { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } تصريح بالتعميم بعد التأدية بلفظ موهم للتخصيص او تعميم وحصر بعد اطلاق وتقييد بالحمد بعد اطلاق التسبيح { ولكن لا تفقهون تسبيحهم }.
اعلم، ان الاشياء الامكانية برمتها هاربة من نقائصها طالبة لكمالاتها، والكل متحركة نحو تلك الكمالات وهى شؤن الحق الاول وتجليه وهذا الهرب والطلب هو تسبيحهم الفطرى وتنزيههم لاسماء الله التى هى وجوداتها الفائضة من الحق عليها، ولما كان تنزيه اسماء الله تنزيهه تعالى كان الكل منزها لله ومنزها لانفسهم للتقرب الى الله، ولما كان كل موجود امكانى زوجا تركيبيا من مهيته الامكانية ووجوده التعلقى الفطرى وبعبارة اخرى لما كان لكل موجود طبيعى جهة ملكية وجهة ملكوتية كان الاشياء الطبيعية ان كانت صامتة غير شاعرة بالشعور التركيبى بملكها ناطقة بملكوتها بلسان فصيح بل افصح من اللسان الملكى الانسانى واجلى بيانا منه شاعرة بالشعور التركيبى بل ادق ادراكا من الانسان، فكان الاشياء بملكوتها مسبحة لله بلسان فصيح شاعرة باوامره ونواهيه تعالى مبادرة الى امتثالها من غير عصيان وتوان، لكن لا يسمع اصواتها ولا يدرك ادراكها تلك الاصماخ والابصار الحيوانية بل يختص بسماعها وادراك ادراكها الاسماع والابصار الملكوتية ولذلك قال تعالى: لا تفقهون تسبيحهم على خطاب بنى نوع الانسان لعدم سمع وبصر ملكوتى لهم، وقرئ لا يفقهون بالغيبة بارجاع الضمير الى الاناسى او ارجاعه الى الاشياء يعنى كل الاشياء يسبحون بحمده ولكن لا يفقهون تسبيحهم بجهتهم الملكية المشهودة لكم بابصاركم الملكية لانغمارهم تحت تعيناتهم، وعلى هذا فلا حاجة الى تأويل فى تسبيحهم كما فعل المفسرون وقد قال المولوى قدس سره:
جملة ذرات عالم در نهان
با تو ميكويند روزان وشبان
ما سميعيم وبصيريم وخوشيم
با شما نامحرمان ما خامشيم
جون شما سوى جمادى ميرويد
محرم جان جمادان كى شويد
از جمادى درجهان جان رويد
غلغل اجزاى عالم بشنويد
فاش تسبيح جمادات آيدت
وسوسة تأويلها بر بايدت
جون ندارد جان تو قنديلها
بهر بينش كرده تأويلها
كه غرض تسبيح ظاهر كى بود
دعوى ديدن خيال وغى بود
بس جه ازتسبيح يادت ميدهد
آن دلالت همجو كفتن ميشود
ابن بود تأويل اهل اعتزال
واى آنكس كوندارد نورحال
وبهذا اللسان كان حنين الاستن الحنانة وتسبيح الحصا وشهادته فى يد محمد (ص) وتجاوب الجبال والطيور لداود (ع) وغير ذلك مما نقل من نطق الاحجار والاشجار والحيوان والطيور، وبهذا اللسان كان نطق الاطفال لكن فى قالب اللسان اللحمى وبهذا الشعور كان تمييز الجمادات بين الاشياء كتمييز النار بين ابراهيم (ع) ونمرود واصحابه، وتمييز الريح بين المؤمنين والكافرين وتمييز النيل بين السبطى والقبطى فى صيروته دما للقبطى ومنفرجا لعبور السبطى دون القبطى { إنه كان حليما غفورا } تعليل لعدم تفقههم تسبيح الاشياء فان تفقه تسبيحها ما لم يبلغ الانسان مبلغ الرجال اما ان يهلك او يجعل المتفقه مجنونا جنونا حيوانيا فان تفقه التسبيح قرين شهود الملائكة ونزولها وبنزول الملائكة قضاء اجلهم كما فى القرآن والمعنى لا تفقهون تسبيحهم فتهلكوا او تجنوا لانه كان حليما لا يعاجل بامضاء سخطه لسوء صنيعكم غفورا يستر عليكم فى حال نقصكم شهود تسبيح الاشياء ابقاء عليكم.
[17.45]
{ وإذا قرأت القرآن.. } عن انظارهم او حجابا مستورا به اى ساترا لك عن انظارهم والمعنى الاول تأسيس والثانى تأكيد والمقصود جعلنا جثتك مستورة عنهم لا يرونها كما قيل: ان جمعا من قريش حجبوا محمدا (ص) عن انظارهم وقت قراءة القرآن كانوا يمرون عليه ولا يرونه وجعلنا حقيقتك مستورة عنهم لا يرونها ولو رأوها لما كذبوك ولما نفروا عن قراءتك.
[17.46]
{ وجعلنا على قلوبهم أكنة } جمع الكنان بمعنى ما يستر به { أن يفقهوه } كراهة ان يفقهوه او كنة مانعة من ان يفقهوه { وفي آذانهم وقرا } ان يسمعوه اى يسمعوا مقصوده والا فلفظه مسموع لهم ولذلك قال { وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا } لانهم يسمعون لفظه ولا يدركون مقصوده ويرونه مخالفا لمعتقدهم ويمكن ان يراد بالقرآن القرآن المعهود الذى هو فى ولاية على (ع) وان يراد بربك الرب المضاف وهو الرب فى الولاية وهو على (ع) بعلويته، وفى الاخبار فى الجملة اشعار بما ذكر ونفورا جمع نافر حال من الفاعل او مصدر نفر حال منه او مفعول مطلق نوعى من غير لفظ الفعل.
[17.47]
{ نحن أعلم بما يستمعون به } اى بسببه من الاستهزاء والتغليظ { إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى } ذو ونجوى او نجوى جمع نجى { إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا } سحره ساحر فجن ولم يبق له عقل.
[17.48]
{ انظر كيف ضربوا لك الأمثال } بجعلك تارة مسحورا وتارة مجنونا وتارة شاعرا وساحرا وكاهنا { فضلوا } عن طريق معرفتك الفاء للسبيبة المحضة اى صار ضلالهم سببا لضرب الامثال او للسببية والتعقيب اى صار الاستهزاء بك وضرب الامثال سببا لضلالهم عن طريق معرفتك ومعرفة كلامك { فلا يستطيعون سبيلا } الى معرفتك والى معرفة الآخرة والمعاد.
[17.49]
{ وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا } ترابا متناثرا { أإنا لمبعوثون خلقا جديدا } على الانكار والاستبعاد والتعجب ولذلك اكد الاستفهام.
[17.50-51]
{ قل } تهكما وتغييظا لهم { كونوا حجارة } من الغيظ { أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم } من حيث البعد عن الانسانية والدناءة فى الرتبة فانه يعيدكم او قل تقريرا للاعادة: كونوا حجارة فيكون فى معنى الشرط يعنى ان تكونوا حجارة بعيدة عن الحياة يمكنه الاعادة فيكف اذا صرتم عظاما قريبة من الحياة اليفة بها { فسيقولون } استفسارا عن المعيد على سبيل الانكار بعد انكار اصل الاعادة { من يعيدنا قل } جوابا لهم بتعيين المعيد { الذي فطركم أول مرة } تعليقا على الوصف المشعر ببرهان جواز الاعادة { فسينغضون إليك } سيحركون ويمدون اليك { رؤوسهم } للسؤال عن وقت الإعادة { ويقولون متى هو قل } جوابا لهم عن هذا السؤال الذى لا جواب له لانه لا وقت للساعة فى عرض الزمان يمكن تعيينه، وتذكير الضمير باعتبار البعث او وقت الاعادة { عسى أن يكون قريبا } يعنى فى طول الزمان لا فى عرضه واجمل فى الجواب بحيث لا تكون مصرحا بنفى الوقت الزمانى عنه ولا ساكتا عن الجواب ليحملوا سكوتك على العجز ولا مصرحا بتعيين الدهر لعدم ادراكهم للدهر.
[17.52-54]
{ يوم يدعوكم } اما جواب لسؤال مقدر ناش عن اجمال الجواب كأنه قيل: اى يوم هو؟ - فقال: هو يوم يدعوكم على السنة الملائكة الموكلة على النشر وجمع الخلائق للحساب، او يكون يوم يدعوكم، واما خبر بعد خبر ليكون { فتستجيبون } من غير تأب وتعص كما كنتم غير مجيبي لدعوته على السنة رسله (ع) فى الدنيا { بحمده } لسانا كما تستجيبون بحمده حالا وفعلا ووجودا فان الاوصاف الحميدة والاخلاق الجميلة كلها حمده تعالى كما ان قوى النفس وجنودها كلها حمده وجودا والانسان يبعث بجميع اوصافه واخلاقه وقواه وجنوده قائلا: سبحانك اللهم وبحمدك كما ورد فى الاخبار { وتظنون إن لبثتم } فى القبور او فى الدنيا او كليهما { إلا قليلا وقل لعبادي } الاشراف المستفاد من الاضافة { يقولوا } قد سبق ان تعليق الجواب على محض الامر بالقول من دون ذكر مفعول القول اشارة الى تشريف له (ص) كأنه قال: ان توجهك مؤثر فيهم بحيث انك لو توجهت اليهم بالخطاب يتبدل حالهم الى احسن الاحوال بحيث لا يصدر منهم الا ان يقولوا { التي هي أحسن } ولا ينظروا الى الخلق نظر السخط والازدراء { إن الشيطان ينزغ بينهم } يهيج الشر وتوجهك يبعد الشيطان عنهم، وقولهم الحسن يقرب الخلق الى الالفة والبعد من طاعة الشيطان { إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا ربكم أعلم بكم } بيان للتى هى احسن وبينهما معترضة او استيناف وصرف للخطاب الى عباده وعدا ووعيدا { إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم ومآ أرسلناك عليهم وكيلا } صرف للخطاب اليه (ص) تسكينا لحرصه على ايمانهم وتسلية لحزنه على توليهم ان كان خطاب ربكم اعلم بكم وما بعده من الله.
[17.55]
{ وربك أعلم بمن في السماوات والأرض } فيهدى من يستأهل للهداية ويضل من يستحق الضلالة فما لك تحرص على هديهم او تحزن على ضلالتهم بل عليك التكلان عليه والرضا بفعله، ويعلم ايضا من يستأهل للنبوة ومن لا يستأهل، ومن يستحق من الانبياء كمال النبوة ومن لا يستحق، ومن يستأهل للخلافة والولاية ومن لا يستأهل؛ فمالهم يتكلمون فى النيوة وينكرون نبوتك لكونك يتيما غير ذى مال او يتكلمون فى الخلافة وينكرون خلافة على (ع) { ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض } ممن يعتقدون نبوتهم فما لهم ينكرون تفضيلك على بعض الانبياء (ع) { وآتينا داوود زبورا } فما لهم ينكرون نزول القرآن عليك منا.
" روى عن النبى (ص) ان الله فضل انبياءه المرسلين (ع) على ملائكته المقربين (ع) وفضلنى على جميع النبيين والمرسلين (ع)، والفضل بعدى لك يا على (ع) وللائمة من ولدك (ع)، وان الملائكة لخدامنا وخدام محبينا ".
[17.56]
{ قل ادعوا الذين زعمتم } شركاء الله فى الوجوب ايتها الثنوية او فى الآلهة ايتها الثنوية والصابئة، او فى العبادة ايتها الوثنية وغير الوثنية، او فى الولاية ايتها التابعة لغير ولى الامر، او فى الطاعة ايتها التابعة للامراء والسلاطين، او للعلماء السوء والمبطلين، او فى الوجود والشهود وهم اكثر الناس الا من شذ وندروهم المقربون من الانبياء والاولياء (ع) الكاملين، واسقط المفعول ليذهب ذهن السامع كل مذهب ممكن كما ذكر، اى قل ادعو الذين زعمتم واجبى الوجود او آلهة او معبودين او اولياء الله او مطاعين او مستقلين فى الوجود { من دونه } التقييد به للاشعار بصحة دعوة الاولياء (ع) والمطاعين من الله فانهم يملكون باذن من الله كشف الضر { فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا } له الى غيركم.
[17.57]
{ أولئك الذين يدعون } يدعون بمعنى يعبدون او على حقيقته، واولئك مبتدء والموصول خبره واولئك اشارة الى الآلهة او الى المشركين او اولئك العاجزون الذين يدعوهم المشركون، او اولئك المشركون الذين يدعون هؤلاء العاجزون، او اولئك العاجزون الذين يدعون الله مثلكم فما لكم تدعونهم وعلى اى من التقادير فقوله { يبتغون إلى ربهم الوسيلة } مستأنف والفاعل للآلهة او للمشركين او حال عن الفاعل او عن المفعول او عن كليهما والفاعل على حسبه وقوله { أيهم أقرب } اما بدل من اولئك او فاعل يدعون او فاعل يبتغون او عن الوسيلة واى موصولة وضمه على الاخير لحذف صدر الصلة او جملة حالية او مستأنفة واى استفهامية او موصولة والخبر على تقدير كونها موصولة يكون محذوفا او اولئك مبتدء والذين صفته او بدله ويبتغون خبر له او حال او متعرضة والخبر على التقديرين ايهم اقرب بكون اى استفهامية وتقدير القول واحتملات الفاعل واحتملات ايهم اقرب اذا لم يكن خبرا كالسابق، والمراد بالرب اما الرب المطلق فان الملائكة والمسيح وعزير والكواكب كلهم يبتغون الى الله الوسيلة او الرب المضاف وهو ربهم فى الولاية فان مخالفى على (ع) ايضا كانوا يبتغون اليه (ع) الوسيلة { ويرجون رحمته ويخافون عذابه } فهم وسائر العباد سواء فى الاحتياج الى الوسيلة وفى الرجاء والخوف فكيف يكونون وسائل لغيرهم { إن عذاب ربك كان محذورا } فى موضع التعليل.
[17.58]
{ وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا }.
اعلم، ان الانسان ان لم يتصل بنفسه وقواها بالله تعالى بتوسط عروة الولاية الوثقى فانه سيهلك قبل يوم القيامة عن الحياة الانسانية ويحيى بالحياة السبعية او البهيمية او الشيطانية ويحشر فى زمرتها، وان اتصل الى الله بنفسه وجميع قواها او بعضها فان المتصل لا يهلك بل يبقى حيا بالحياة الانسانية لكنه يعذب ليتخلص عن خليطه السجينى ويترقى الى العليين، فالمراد ما من قرية من قرى العالم الكبير او قرى العالم الصغير الا نحن مهلكوها بتمام اهلها او ببعضهم قبل يوم القيامة او معذبوها { كان ذلك في الكتاب مسطورا } فان قيل: لا يتصور الاهلاك ولا العذاب بالنسبة الى الانيباء والاولياء (ع) الذين كانوا اخلصهم الله لنفسه اجيب بأنهم اهلكوا فى الدنيا ما كان عليه من شوب السجين ان كان او عذبوا نفسهم بالرياضات والمجاهدات الاختيارية والبلايا الآلهية فيصدق عليهم ذلك ايضا.
[17.59]
{ وما منعنآ أن نرسل بالآيات } التى اقترحها قريش { إلا أن كذب بها الأولون } فأهلكوا واستوصلوا بتكذيبهم وما كنا لنهلك امة محمد (ص) ومحمد (ص) فيهم رحمة بهم، او المعنى ان تكذيب الامم السابقة بالآيات صار سببا لمنع انزال الآيات لان هؤلاء من اسناخ الامم الماضية الا يرون الى ثمود { و } قد { آتينا ثمود الناقة } التى اقترحوها { مبصرة } من أبصره، اذا جعله ذا بصيرة، او من ابصر اذا وضح او صار ذا بصر او بصيرة، فان الناقة كانت مبصرة بالبصر الظاهر وبالبصر الباطن حيث كانت لا تتعدى نوبتها فى شرب يومها { فظلموا بها } اى بسبب عقرها انفسهم { وما نرسل بالآيات إلا تخويفا } فما لهم يتجرئون على اقتراحها.
[17.60-61]
{ وإذ قلنا لك } بالوحى اى تذكر وقت قولنا لك { إن ربك أحاط بالناس } اى اهلكهم يعنى اذكر تبشيرنا لك باهلاكهم وقد انجزه له فى بدر وغيره، والتأدية بالماضى للاشارة الى تحقق وقوعه او احاط بهم قدرة فلا يستطيعون الخروج من قدرته وحكومته { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن } اى وما جعلنا الشجرة الملعونة فى القرآن الا فتنة للناس، وقد وردت اخبار كثيرة من العامة والخاصة باختلاف الفاظها انه (ص) رأى فى منامنه ان رجالا او قردة من بنى تميم وعدى او من بنى امية يرقون منبره يردون الناس القهقرى، الا ان العامة رووا من بنى امية وحده ولم يذكروا بنى تميم وعدى ولا زريقا وزفر، والشجرة الملعونة فسرت فى اخبارنا تارة ببنى امية عموما، وتارة ببنى مروان، وتارة بمروان وبنيه.
اعلم، ان القرآن تارة يطلق على المدون الذى اتى به محمد (ص) وعلى هذا فقوله فى القرآن متعلق بالملعونة، وتارة على مقام الجمع المشتمل على جميع مراتب العالم ومنها السجين واهله، وعلى هذا فهو متعلق بجعلنا يعنى ان المقصود من ارخاء عنان الاشقياء وامدادهم فى غصب حق آل محمد (ص) ومن جعل السجين واهله فى العالم ان يفتتن الناس بهم ويتخلص المحق عن المبطل ويتميز الحق عن الباطل { ونخوفهم } بانواع التخويف { فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا } هو بتقدير من ليوافق سائر الآيات، او حال عن المفعول وقد سبق بيان الآية.
[17.62]
{ قال أرأيتك } الكاف تأكيد للضمير المرفوع ومثله كثير فى كلامهم { هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن } لأستأصلن من الحياة الانسانية { ذريته إلا قليلا } ممن أخلصوا انفسهم لك او ممن اخلصتهم لنفسك.
[17.63]
{ قال اذهب } طرد وردع له او تخلية بينه وبين ما اراد { فمن تبعك منهم فإن جهنم جزآؤكم جزاء موفورا } مكملا كثيرا لا نقص فيه.
[17.64]
{ واستفزز } واستخفف بالجلب الى نفسك { من استطعت منهم } ان تجلبهم اليك لغاية حمقهم وخفة عقلهم { بصوتك } من غير حاجة الى جلب جندك { وأجلب عليهم بخيلك } ممن لم تستطع جلبهم اليك بصوتك، او هو عطف لتفصيل بعض اسباب الجلب كأنه قال: بصوتك وبجلب خيلك { ورجلك } بفرسانك وراجليك { وشاركهم في الأموال والأولاد }.
اعلم، ان الانسان كما تكرر ذكره واقع بين عالمى النور والزور والحق والباطل ولهما التصرف فيه والحكومة عليه فان تخلص بتوفيق الله واعانته من حكومة العالم السفلى والرئيس فيه الشيطان ودخل فى حكومة العالم العلوى والرئيس فيه الرحمن فقد أخلص أمواله وأولاده من شرك الشيطان، وان لم يتخلص من ذلك او تخلص من حكومة الرحمن ودخل فى صرف حكومة الشيطان فقد يتفق ان يخلص ماله وولده لله اذا كان الانسانية باقية والشيطانية عرضية ولا يتأثر كسبه ونطفته بما بالعرض كما قيل: الولد سر ابيه، وقد يكون بشراكة الشيطان وقد يكون بانفراد الشيطان، فان الكاسب والمضاجع المؤتمر بامر الشيطان المعرض عن امر الرحمن ينفرد بماله وولده الشيطان ان كان قد ابطل انسانيته والمؤتمر بأمر الرحمن والشيطان مع كون الانسانية فيه باقية لا محالة يشارك فى ماله وولده الشيطان وقد ذكر فى الاخبار ما ذكرنا بالتصريح والاشعار { وعدهم } المواعيد التى بها تغرهم كوعد المغفرة من الله وان الله كريم وانهم يبقون ثم يتوبون، او المواعيد التى بها تطيل آمالهم { وما يعدهم الشيطان إلا غرورا } بتزيين الباطل فى صورة الحق والخطاء فى صورة الصواب.
[17.65]
{ إن عبادي } الذين خرجوا من عبوديتك { ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك } ايها الشيطان او يا محمد (ص) { وكيلا } فى حفظهم عنك وعن اغوائك او عن الشيطان فلا تحزن عليهم يا محمد (ص) وقد فسر العباد فى الآية فى الاخبار بعلى بن ابى طالب (ع) لانه اصل العباد وغيره عباد الله بعبوديته.
[17.66]
{ ربكم الذي يزجي } يجرى { لكم الفلك } فانه الذى جعل اخشابها ذوات مسام يدخل فيه الهواء فيمنعها من الرسوب فى الماء وجعل الهواء يتبادر الى الخلأ لامتناع الخلأ فيمنع ايضا من الرسوب وجعل الهواء متموجا فيحركها على الماء، وجعل لكم ما تتفطنون بكيفية صنع الفلك ووضع الشراع بحيث تتحرك الى مقاصدكم وجعل لكم ما تتفطنون بسببه بتمويج الهواء باختياركم كما اخترعوا من تحريك الفلك بالبخار { في البحر لتبتغوا من فضله } بنقلكم الامتعة الى البلاد البعيدة وتجاراتكم الرابحة { إنه كان بكم رحيما } فى موضع تعليل.
[17.67]
{ وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون } من الاجرام العلوية والاجسام السفلية من الاوثان والطواغيت البشرية وغيرها { إلا إياه } استثناء من من تدعون اى ضل كل من تدعونه الا الله، والاتيان بضمير النصب لكون الاستثناء فى كلام موجب، وذلك الضلال لان المدعو من دون الله انما هو مدعو باغواء الشيطان وتصرف الخيال، ووقت الضر وغاية الوحشة يفر الشيطان وينقطع تصرف الخيال فيبقى العقل الداعى لله لا معارض فيدعو الله بمقضتى جبلته { فلما نجاكم } من الغرق والبحر { إلى البر أعرضتم } لان الشيطان يعود والخيال يتصرف ويعارض الا من دخل فى كنف امان الله من شر الشيطان وجعل خياله وقواه مسلمة للعقل منقادة له { وكان الإنسان كفورا } لان فى جبلته النفس التى لا شأن لها الا كفران النعم وهو عطف فى معنى التعليل.
[17.68]
{ أفأمنتم } اى ان نجاكم الى البر فأمنتم او انجوتم من البحر فأمنتم { أن يخسف بكم جانب البر } ان يغرقكم فى جانب البر فانه قادر على ذلك وان كان خارجا عن العادة، وذكر الجانب للاشعار الى التبادر الى الكفران بمحض الوصول الى الساحل { أو يرسل عليكم حاصبا } راميا للحصاة عليكم فانه قادر عليه ايضا وان كان وقوعه نادرا { ثم لا تجدوا لكم وكيلا } كما كنتم لا تجدون فى البحر وقت الضر.
[17.69]
{ أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى } بتسلط الحرص عليكم حتى ينسيكم ضر البحر { فيرسل عليكم قاصفا } يقصف اى يكسر كل ما هب عليه { من الريح } فتكسر سفينتكم { فيغرقكم بما كفرتم } بكفرانكم نعمة الانجاء اولا { ثم لا تجدوا } من مدعويكم { لكم علينا به } اى فى الارسال والاغراق { تبيعا } يتبعنا للانتصار والانجاء.
[17.70]
{ ولقد كرمنا بني آدم } بحسب ذواتهم لانا خلقناهم على صورتنا ولا كرامة فوقه فجعلناهم ذوى سعة ومراتب فى الوجود واعطيناهم الاحاطة قوة او فعلا بكل الاشياء، وجعلنا كلا منهم حيا عالما سميعا بصيرا مدركا متكلما مريدا اذا أراد شيئا ان يقول له كن فيكون بالنسبة الى مخلوقاته الذهنية وآلاته وقواه النفسية او بالنسبة الى جميع الموجودات حين استكماله بقوة المتاعبة { وحملناهم في البر } على الحمير والبغال والخيل والجمال وغير ذلك من الدواب وعلى القدرة والمراكب الملكوتية اذا صاروا اهلا له وهذا كرامة اخرى خارجة عن ذاته { والبحر } على السفن وعلى القدرة والمراكب الملكوتية اذا صاروا اهلا له { ورزقناهم من الطيبات } طيبات ارزاق النبات والحيوان والانسان { وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا } من موجودات عالم الطبع تماما ومن موجودات الملكوت السفلى ومن بعض اصناف الملائكة، واما المقربون والاوساط من الملائكة فهم افضل من بنى آدم ما لم يخرجا من القوة الى الفعل، فاذا خرجوا صاروا حينئذ افضل المخلوقات تماما مثل نبينا (ص)؛ فان له مع الله وقتا لا يسعه ملك مقرب ولانبى مرسل، وتفصيل التفضيل ومراتبه ودقائقه قد مضى، ويمكن ان يقال: ان اضافة بنى آدم الى آدم تدل على ان المراد من لم يخرج بعد من القوة الى الفعل من جميع الجهات فيصح حينئذ تفضيلهم على الكثير لا على الكل.
[17.71]
{ يوم ندعوا كل أناس بإمامهم } الامام من يؤتم به ويقتدى بسيرته ويؤتمر بامره ويتبع اثره سواء كان حقا ام باطلا، مشهودا بالحواس البشرية ام غير مشهود، آمرا بحسب الظاهر او بحسب الباطن، لسان القال او بلسان الحال، فيشمل ائمة الحق والجور ممن ترأس فى الدنيا او اتحل الترأس فى الدين او جعلوه رئيسا من غير شعوره بذلك من السلاطين والامراء وخلفاء الجور والكواكب والاصنام والابالسة والاهواء، وفى الاخبار اشعار بالتعميم وان كان بعض الاخبار يفسر الامام بامام حق فى كل زمان { فمن أوتي كتابه بيمينه }.
اعلم، ان للنفس الانسانية صفحتين سفلية وعلوية؛ والسفلية بأيدى الشياطين والعلوية بأيدى الملائكة، فان كان عمل العبد من جهة الايتمام بامام حق كان مصدره جهتها العلوية بامداد الملائكة وكان نزول صورة ذلك العمل من تلك الجهة الى الخيال المشابه فى العالم الصغير لعالم المثال فى العالم الكبير ثم منه الى المدارك الظاهرة والقوى المحركة ثم يصعد صورة ذلك العمل من طريق المدارك الظاهرة الى الخيال ثم تثبت فى الجهة التى صدرت عنها ثم لما كان لتلك الجهة ظل نورانى وهو الكتاب الذى بيد كاتب الحسنات فيثبت صورة العمل كاتب الحسنات فى ذلك الكتاب وهى ثابتة فيه وفى صفحة النفس ما لم يأت العبد بما يمحوها او يخرقها مدخرة له الى يوم القيامة وحينئذ يلقاه العبد كتابا منشورا مثبتا جميع ما عمله من خير، وان لم يكن عمله من جهة الايتمام بامام حق كان عمله من جهة الايتمام بامام باطل من الاناسى والابالسة والاهواء فكان مصدره الجهة السفلية للنفس بامدادالشياطين وكان نزول صورة ذلك العمل من تلك الجهة الى الخيال ثم الى المدارك ثم الى القوى المحركة ثم تصعد منها الى الخيال ثم الى ما نزلت منه فتثبت فيه، ولما كان لتلك الجهة ايضا ظل ظلمانى وهو الكتاب الذى بيد كاتب السيئات فيثبت صورة ذلك العمل كاتب السيئات فى ذلك الكتاب وهى ثابتة فيه وفى صفحة نفسه ما لم يأت ما يبدلها او يمحوها او يغفرها مدخرة له الى يوم القيامة وحينئذ يلقاه كتابا منشورا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة الا احصيها، ولما كان هاتان الجهتان معبرتين باليمين والشمال وهو يلقى الكتاب العلوى من جهته العلوية وكتابه السفلى من جهته السفلية، وايضا يرد كتابه العلوى الذى هو ظله النورانى الى ما هو ظل له وكتابه السفلى الى ما هو ظل له فهو يؤتى كتابه بيمينه وشماله فمن اوتى كتابه بيمنه فيقول تبجحا
هآؤم اقرؤا كتابيه
[الحاقة:19]، ومن اوتى كتابه بشماله فيقول تحسرا: يا ليتنى لم اوت كتابيه { فأولئك يقرؤون كتابهم } فانهم يبصرون ولا يكونون عميانا ولا يرون فى كتابهم ما يستحيون من قراءته { ولا يظلمون فتيلا } الفتيل المفتول الذى فى شق النواة يعنى لا ينقصون من اجورهم شيئا.
[17.72]
{ ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى } المراد بالعمى عمى البصيرة عن معرفة الآخرة وطريقها لا عمى البصر فرب اعمى عن البصر يبصر امور الآخرة بالبصيرة، ورب بصير فى الدنيا يعمى عن امور الآخرة ويخرج البصيرة من القوة الى الفعل بمعرفة الامام والعمى بانكاره ويبقى قوة البصيرة من دون حصول فعلية البصيرة، او العمى اذا لم يكن منكرا ولا عارفا، وهذا وان كان فى حكم الاعمى لكنه يرجى له البصيرة فى الآخرة كما يخاف عليه العمى فيها { وأضل سبيلا } فى الآخرة منه فى الدنيا او ممن ضل السبيل فى الدنيا.
[17.73-74]
{ وإن كادوا ليفتنونك } وانهم كادوا يصرفونك بفتنتك { عن الذي أوحينآ إليك } عن المعهود الذى اوحينا اليك وهو ولاية على (ع) كما روى { لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا } من الركون، وقد ورد فى الاخبار ان هذه الآية من قبيل: اياك اعنى واسمعى يا جارة، وورد انها من فرية الملحدين ولو كان الخطاب له (ص) من غير كونه على طريق، اياك اعنى واسمعى يا جارة، ولم تكن فرية لم يكن فيها ازدراء به (ص) بل يكون صدر الآية ازدراء بالملحدين لاشعاره بانهم بالغوا فى فتنته يعنى انهم ما اهملوا شيئا مما يفتن به ولو كان المفتون غيرك ولم يكن تثبيت من الله لفتن، وذيلها بيان امتنان عليه (ص) بأنه تعالى اثبته فى مثل هذا المقام.
[17.75]
{ إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات } اى عذاب الحياة الدنيا وعذاب الآخرة على ما قيل: ان الضعف اسم للعذاب، او ضعف عذاب الحياة اى ضعف ما ينبغى ان يعذب فى الحياة لو كان هذا الركون من غيرك لان امر ذوى الخطر اخطر، وقيل: المراد بضعف الحياة عذاب الآخرة وبضعف الممات عذاب القبر { ثم لا تجد لك علينا نصيرا } يدفع عنك العذاب.
[17.76]
{ وإن كادوا ليستفزونك } ليزعجوا لك استفزه استخفه واخرجه من داره وازعجه { من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا } اذا اخرجوك لا يمكثون بعدك الا قليلا.
[17.77-78]
{ سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا } نصب على المصدر اى سننا ذلك المذكور من فتنة قومك، وتثبيتنا اياك واستفزاز قومك لارادة اخراجك وعدم لبثهم بعدك سنة من قدر ارسنا او سن ذلك سنة من قد ارسلنا، او هو مفعول به لمقدر اى ركبوا فى ذلك سنة من قد ارسلنا { ولا تجد لسنتنا تحويلا أقم الصلاة لدلوك الشمس } اللام بمعنى فى اى فى وقت دلوك الشمس وزوالها { إلى غسق الليل } الى شدة ظلمته وفسر فى الاخبار بانتصاف الليل وقد بين الآية فى الاخبار بالصلوات الاربع الظهر والعصر والمغرب والعشاء { وقرآن الفجر } وقت اجتماع الفجر باعتراضه فى الافق اشارة الى صلاة الصبح { إن قرآن الفجر } اى وقته { كان مشهودا } وقد فسر فى الاخبار بشهادة الملائكة الليلية والنهارية فانها يصير الصلاة حينئذ مثبتة فى كتابيهما.
[17.79]
{ ومن الليل فتهجد به } وبعضا من الليل فحذف الموصوف واقيم الصفة مقامه لقوة معنى البعضية فى من التبعيضية حتى قيل باجراء احكام الاسم الخالص على من ومجرورها بل قيل: بكون من اسما ولفظة الفاء زائدة او بتوهم اما او عاطفة من قبيل عطف التفسير على المفسر بالفاء، والتهجد كما يستعمل فى النوم يستعمل فى الاستيقاظ فهو من الاضداد، ويمكن ان يكون مأخوذا من الهجود بفتح الهاء وهو المصلى بالليل والمعنى بعض الليل فاستيقظ بذلك البعض اى فى ذلك البعض وصل وبالغ واجتهد فى صلاتك فى ذلك البعض، واما جعله من الهجود بضم الهاء وجعل الصيغة للسلب فبعيد غاية البعد { نافلة لك } عطية لك او صلاة نافلة لك وعلى الاول فهو مفعول فعل محذوف اى اعطينا عطية لك وعلى الثانى مفعول تهجد بناء على تضمينه معنى افعل او على تجريده عن معنى الصلاة اى فافعل بالاستيقاظ نافلة لك، او فافعل نافلة لك على معنى التهجد ولام لك للاختصاص ومعنى اختصاصه به اختصاص وجوبه به وان كان استحبابه مشتركا بينه (ص) وبين امته، ويمكن استنباط الوجوب من الآية مع قطع النظر عما ورد فى الاخبار من وجوب التهجد عليه (ص) لانه عطف التهجد على اقامة الصلاة لدلوك الشمس، والامر هناك للوجوب والتوافق يقتضى ان يكون ههنا ايضا للوجوب، وتفصيل النوافل وكيفيتها ووقتها وفضيلتها موكول الى كتب الفقهاء رضوان الله عليهم { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } التنوين للتعظيم اى مقاما عظيما محمودا وهو منصوب على الظرفية او على الحالية باعتبار انه (ص) قام فى المقام المحمود وصار بنفسه مقاما محمودا، والمقام المحمود هو آخر مقامامت السالك وهو مقامه مع الحق فى الخلق فان اول مقاماته وهو مقامه فى الخلق مع الخلق مقام مذموم والانسان ممور بالفرار والهجرة منه وعدم الوقوف فيه، وثانى مقاماته هو مقامه فى الحق سالكا منه الى الحق مقام تنزيه وقدس وليس مقاما محمودا، وثالث مقاماته وهو مقامه فى الحق مع الحق فانيا فيه انتهاء مقام قدسه وتنزيهه ولا اسم له ولا رسم فى ذلك المقام فضلا عن الحمد والفضل، ورابع مقاماته وهو مقامه فى الخلق مع الحق مقام محمود ومقام الفضل ومقام الجميع بين التنزيه والتشبيه والحق والخلق والتوحيد والتكثير، ولكون هذا المقام بعد الفناء اتى بلفظ البعث الدال على الاحياء بعد الممات فان الفانى ميت بالموت الاختيارى والراجع الى الخلق يحيى بعد فنائه وذلك المقام وان كان لكل نبى لكن مطلقه وعظيمه وما ينبغى ان يكون الكامل عليه كان مطلوبا منه وباعتبار ذلك المقام العظيم امره تعالى بالسؤال بعد الامر بالنافلة بالليل التى هى عبارة عن المقام فى ذلك المقام والا كان اصله حاصلا له بوجه، وذلك ان صاحب هذا المقام اما ان يكون نظره الى الخلق غالبا او يكون نظره الى الحق غالبا وهذان المقامان ليسا محمودين على الاطلاق وهما نشأتا موسى (ع) وعيسى (ع)، او يكون نظره الى الحق ونظره الى الخلق متساويين بمعنى ان يكون النظر الى كل كما يقتضيه من غير نقصان من حق شيء منهما وهذا هو المقام المحمود على الاطلاق وهو كان لمحمد (ص) وكل ما ورد فى تفسير المقام المحمود يرجع الى ما ذكرنا، ولما كان ذلك المقام من اعظم المقامات ووعده الله دخوله فيه على تهجده امره (ص) بمسئلة الدخول فى ذلك المقام والانتظار له فقال { وقل رب أدخلني.
.. }.
[17.80]
{ وقل رب أدخلني } فى ذلك المقام وما ورد من تفسير بدخول مكة او بدخول كل مدخل او بدخول كل مدخل يخاف منه انما هو لسعة وجوه القرآن وجواز تعميم الآية، ولا ينافى كون المقصود فى ذيل وعد البعث الى المقام المحمود مسئلة الدخول فى ذلك المقام، ولما كان خطابه (ص) يشمل امته نحو شمول خطاب الكل للاجزاء او خطاب المتبوع للتابع كان الامة مقصودة وكان المقصود بالنسبة اليهم سؤال دخول مقامات السالكين الى الله او سؤال دخول المقام المحمود الجزئى الذى هو آخر مقامات السالكين بحسب مراتبهم { مدخل صدق } ادخال صدق او محل ادخال صدق، وقرئ بفتح الميم والاضافة الى الصدق للمبالغة اى ادخالا ثابتا للصدق لا يكون له الا شأن الصدق، او الصدق بمعنى الصادق اى ادخال صادق ويكون التعبير بالصدق للمبالغة فيكون الاضافة ايضا للمبالغة فان المعنى حينئذ ادخال شخص لا يبقى فيه الا الصدق وصدق الادخال فى مقام ان يدخل ويتمكن فيه بحيث لا يتصور له الخروج وزوال ذلك المقام عنه ولذلك قيل: الخروج عن غير دخول جهل يعنى الخروج من مقام من غير تمكن الدخول فيه جهل والا فالخروج فرع الدخول { وأخرجني مخرج صدق } والاخراج بالصدق يكون بالتمكن فى المدخل { واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا } والتنوين للتفخيم والسلطان النصير هو الولاية المطلقة الظاهرة فى مظاهرها الكلية والجزئية، واصل كل المظاهر على (ع) ببشريته كما انه حقيقة الولاية المطلقة بعلويته وقد اجابه (ص) الله تعالى حيث كان على (ع) معه بعلويته سرا وببشريته جهرا وهو كان بعلويته السكينة النازلة عليه (ص) بصورته المثالية.
[17.81]
{ وقل } بعد مسئلتك السلطان النصير واجابتنا لك ونزول الولاية الكلية المعبر عنها بعد النزول بالسكينة تبجحا بما اعطيناك { جآء الحق } فان الولاية المطلقة هى الحق وبحقيتها حقية كل ذى حق { وزهق الباطل } فان الباطل يزهق ويضمحل بمجيء الحق فى العالم الصغير وفى العالم الكبير { إن الباطل كان زهوقا } لكن بدون مجيء الحق يترائى حقية له وبعد مجيء الحق يظهر انه كان باطلا ولم يكن له حقيقة وحقية.
[17.82]
{ وننزل } عطف على جاء الحق فيكون من جملة مقوله (ص) يعنى قل بعد مجيء الحق وزهوق الباطل ننزل بصيغة الجماعة تعظيما لشأنك فانك بعد مجيء الحق تصير متحدا مع الولاية المطلقة التى هى المشية التى هى كل الموجودات بوجه او تشريكا لنفسك مع الحق النازل ان كنت ترى نفسك فى البين، او قل بلسان صار لسان الله ننزل، او هو كلام من الله وعطف باعتبار المعنى كأنه قال: ننزل الحق ونظهر زهوق الباطل وننزل بعد ذلك { من القرآن } من للتبعيض والظرف حال مما بعده او من ابتدائية والظرف صلة لننزل والمراد بالقرآن صورة الكتاب التدوينى او مقام الجمع الذى هو المقام المحمود { ما هو شفآء } للابدان والارواح من كل آفة وداء فان المنزل من مقام الجمع اذا كان المنزل عليه الذى هو الواسطة بين مقام الجمع والخلق مطهرا من النقص والآفة كان شفاء من كل داء لمن استشفى به واتصل بالمنزل عليه { ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا } لانهم كالعذرة لا يزيدها كثرة اشراق الشمس الا العفونة. روى فى طب الائمة عن الصادق (ع): ما اشتكى احد من المؤمنين شكاية قط وقال باخلاص نية ومسح موضع العلة: { وننزل من القرآن ما هو شفآء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا } الا عوفى من تلك اية علة كانت؛ ومصداق ذلك فى الآية حيث يقول: شفاء ورحمة للمؤمنين. وعنه (ع) لا بأس بالرقية والعوذة والنشرة اذا كانت من القرآن.
[17.83]
{ وإذآ أنعمنا على الإنسان أعرض } عنا { ونأى بجانبه } اى ناى عنا ملصقا بجانبه والباء للتعدية والمقصود باسبتداده وغفلته عن منعمه، او استكباره وطغيانه كقوله: ان الانسان ليطغى ان رآه استغنى { وإذا مسه الشر كان يئوسا } شديد اليأس من روح الله يعنى ان الانسان سجيته الطغيان والكفر بالمنعم بحسب مقام نفسه عند النعمة واليأس من روح الله عند زوالها ومسيس الضر له والحال انه عبد مربوب ليس له اضافة شيء الى نفسه بل عليه ان يرى النعمة والضر من مولاه ويكون حين النعمة شاكرا له مضيفا للنعمة اليه خائفا من زوالها وحين الضر راجيا لرفعه مضيفا له الى نقصان نفسه.
[17.84]
{ قل كل } من الله وافراد العباد { يعمل على شاكلته } مشتملا على نية هى شاكلته فان النية شاكلة حال الانسان ومقامه وسجيته، او المعنى كل بينى عمله على نية وفعلية من نفسه هى شاكلة حاله ومقامه.
اعلم، ان الانسان بحسب فعلية بشريته نوع واحد وله حد واحد لكنه بحسب الباطن انواع متباينة بالقوة ولكل نوع حد غير حد النوع الآخر فاذا صار بحسب الباطن نوعا بالفعل مثلا اذا صار بالفعل واحدا من انواع السباع او البهائم او الشياطين او الانسان المشتمل على انواع الملك، فاذا اراد فعلا من الافعال سواء كان فى صورة العبادات او المعاصى او المباحات تمثل تلك الصورة عند نفسه وقصد من ذلك الفعل بواسطة تمثل تلك الصورة كمال ما هو بالفعل هو وتلك الصورة وذلك القصد نية الفعل وهو حين العمل مشتمل عليه ويبنى عليه العمل؛ مثلا الانسان المعجب بنفسه او المرائى لغيره اذا اراد الصلاة تمثل صورتها عنده وقصد بفعله بواسطة تلك الصورة تزيين نفسه بما يزعمه ممدوحا عند الناس فيعمل الصلاة مشتملا على تلك النية المشاكلة لما هو بالفعل هو وهو النوع المعجب بنفسه كالطاووس مثلا، وبعبارة اخرى يبنى عمله على اس هو قدصد تزيين نفسه الذى هو شاكلة حاله وفعليته وهكذا، والحق الاول تعالى شأنه شاكلته اولا وبالذات صفاته الجمالية من الرحمة والجود والاحسان والعفو والصفح والغفران فليس عمله على بالقصد الاول الا على تلك لكنها قد تصير قهرا وغضبا وانتقاما بحسب القوابل بالقصد الثانى وبالعرض والمعنى قل لهم ان الله يعمل على شاكلته من الرحمة والاحسان وانتم تعملون على شاكلتكم مما يجعل رحمته رضا او سخطا { فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا } يعنى ان كان كل يعمل على شاكلته والشاكلة من الامور الغيبية الباطنة وصورة العمل لا عبرة بها فمن تختارونه بصورة العمل يمكن ان يكون غير مختار بحسب الشاكلة بل المختار من اختاره الله لان ربكم اعلم بمن هو اهدى سبيلا، فالفاء داخلة على ما قام مقام جزاء شرط مقدر ولا ينافى ذلك تعميم الاية لجميع موارد صدقها كما هو شأن جميع الآيات من كون المقصود بالذات من ذكر الخيرات عليا (ع) ومن ذكر الشرور اعداءه مع تعميمها لجميع مواد صدقها بالتبع.
[17.85]
{ ويسألونك عن الروح } اى الروح التى بها الحياة الانسانية فان الروح تطلق على البخار المتكون فى القلب المنتشر فى البدن بواسطة الشرائين وتسمى روحا حيوانية، وعلى البخار المتصاعد من القلب الى الدماغ فتعتدل ببرودته وتسمى روحا نفسانية، وعلى التى بها حياة الحيوان وتسمى نفسا حيوانية، وعلى التى بها حياة الانسان وتسمى نفسا ناطقة وهذه هى مراد السائلين لانها المدركة لهم بالآثار دون سابقتها فانها مختفية تحت شعاع نفس الانسان، وتطلق على طبقة من الملائكة وتسمى فى لسان الاشراق بارباب الانواع وفى لسان الشرع بالصفات صفا، وعلى ملك اعظم من جميع الملائكة وله بعدد كل انسان وجه وهو رب نوع الانسان وله الرياسة والاحاطة على جميع الانواع واربابها وهو مع كل افراد الانسان وليسوا معه، وما ورد فى بيان الروح انها ملك اعظم من جبرئيل وميكائيل وكان مع محمد (ص) ثم مع الائمة (ع) اشارة الى هذا المعنى ومعنى كونه مع محمد (ص) دون سائر الانبياء ان معيته مع محمد (ص) كان بمعية محمد (ص) معه والا فهو مع كل افراد الانسان بل مع كل ذرات العالم ونفخت فيه من روحى اشارة الى تلك، فان الروح المنفوخة فى آدم (ع) ظل تلك الروح، ولما كانت الروح المسؤل عنها امرا مجردا معقولا لا يدركه الا ذوو العقول وكان السائلون اهل الحس لا يتجاوز ادراكهم المحسوسات امره (ص) بالاجمال فى الجواب فقال { قل الروح من أمر ربي } اى ناشئة من امر ربى من غير سبق استعداد مادة حتى تكون محسوسة فتدركونها بالحواس الظاهرة او الباطنة او من عالم امره ولا يصل ادراككم اليه ولذلك قال { ومآ أوتيتم من العلم إلا قليلا } منكم او قليلا من العلم وهو العلم بالمحسوس من آثارها وليس لكم علم عالم الامر ولفظة ما نافية او استفهامية انكارية.
[17.86]
{ ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك } اى بالقرآن او بالاحكام النبوية او بالروح التى اوحيناها اليك او بالعلم الذى آتيناك { ثم لا تجد لك به } بالذى اوحينا او بالاذهاب { علينا وكيلا } تكل اليه امرك فيتسلط علينا ويسترد ما ذهبنا به.
[17.87-88]
{ إلا رحمة من ربك } استثناء منقطع اى لكن رحمة من ربك تبقيها او تستردها { إن فضله كان عليك كبيرا قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } قد سبق التحدى بامثال هذه الآية وبيانه.
[17.89]
{ ولقد صرفنا } كررنا فى الفاظ مختلفة وعبارات متوافقة ومتخالفة { للناس } لانتفاعهم وتذكرهم { في هذا القرآن } جملة القرآن او قرآن ولاية على (ع) كما اشير اليه فى الخبر { من كل مثل } اى من كل حكاية وقصة من حكايات الاخيار والاشرار التى صارت امثالا واسمارا يعنى كررنا شيئا من تلك الحكايات فى عبارات مختلفة مثل ذكر حكاية موسى (ع) مع فرعون ومع قومه ومع خضر (ع) فمفعول صرفنا محذوف، ولفظة من فى كل مثل للتبعيض فان المذكور فى القرآن ليس الا بعضا من كل حكاية اجمالا، ولفظة كل للمبالغة فان المذكور ليس من كل الحكايات والامثال { فأبى أكثر الناس } من الاعتبار بها والاستدلال بها على آلهتنا او على صدق نبوتك او على صدقك فى ولاية على (ع) { إلا كفورا } بالله او بنبوتك او بولاية على (ع) وفى الخبر انما نزل جبرئيل (ع) فأبى اكثر الناس بولاية على (ع) الا كفورا.
[17.90]
{ وقالوا لن نؤمن لك.. } عينا.
[17.91-92]
{ أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط السمآء كما زعمت } فى توعيدك ايانا { علينا كسفا } قطعا متكاسفة محسوسة جمع الكسفة بالكسر بمعنى القطعة { أو تأتي بالله والملائكة قبيلا } القبيل بمعنى العيان والمقابل والكفيل والجماعة من الثلاثة فما فوق، والعريف الذى يعرف ما يرى والكل مناسب ههنا.
[17.93]
{ أو يكون لك بيت من زخرف } من ذهب { أو ترقى في السمآء ولن نؤمن لرقيك } وحده { حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه } فيه تصديق نبوتك وتصديق توحيد الله وكل تلك الاسئلة انما كانت لعناد نفوسهم ولجاجها وكانوا يريدون بذلك ما نسبوا انكارهم اليه وكانوا مصرين على الانكار عازمين عليه ولم يكونوا مريدين بها رفع شبهة او دفع شك، ومثل ذلك لا جواب له، فان اجيب كان محض التفضل على السائل كما روى انه (ص) اجابهم عن كل ما قالوا ولذلك امره (ص) ان يجيبهم بترك الاجابة فى صورة العجز عن الجواب فقال { قل سبحان ربي } من ان يتحكم عليه او يأتى بما اقترحه الجهال عن عناد ولجاج { هل كنت إلا بشرا رسولا } فليس لى ان آتى بمسؤلكم بنفسى او اقترح على ربى مثل اقتراحكم على، وقد نقل كيفية اجتماع المشركين على الاستهزاء به والاقتراح عليه بما يعجز عن الاتيان به توهينا له وتصغيرا لشأنه؛ من اراد فليرجع الى المفصلات من التفاسير وغيرها.
[17.94]
{ وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جآءهم الهدى } اى الرسالة او الكتاب السماوى او الولاية فان الكل ما به الهداية الى الله كما ان الاولين هداية الى الولاية ايضا { إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا } يعنى الا انكارهم رسالة البشر لكنه اتى بالقول اشعارا بان هذا الانكار محض قول يقولون من غير اعتقاد وبرهان عليه، ولما كان انكار رسالة البشر تعريضا برسالة الملك امره (ص) الله تعالى ان يقول فى جوابهم ان الملك من الملكوت ولا يظهر على الملك الا بخرابه اختيارا واضطرارا فقال { قل... }.
[17.95-96]
{ قل } فى جواب انكارهم رسالة البشر ان رسول البشر لا بد ان يكون بشرا ليجانسهم ويأنسوا به ولا يجانسهم الملك؛ نعم { لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا } اى قل لهم يقول الله ذلك لكنه حذف القول لايهام ان قول الرسول وفعله قول الله وفعله { عليهم من السمآء ملكا رسولا قل } بعد لجاجهم وعنادهم معرضا عنهم متكلا على ربك { كفى بالله شهيدا بيني وبينكم إنه كان بعباده خبيرا بصيرا } هذا من جملة المحكى بالقول او مستأنف من الله وكذا قوله { ومن يهد الله فهو المهتد.. }.
[17.97]
{ ومن يهد الله فهو المهتد } يعنى ليس الاهتداء بكثرة السؤال والاقتراح انما هو امر آلهى لمن يشاء من عباده لا اختيارى باختيار العبد وحيلته { ومن يضلل فلن تجد لهم أوليآء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم } يعنى منكوسا ارجلهم من فوق ورؤسهم من تحت { عميا } مطلقا او عن رحمة الله وفضله { وبكما وصما } مطلقا او عما ينفعهم { مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا } توقدا.
[17.98-99]
{ ذلك جزآؤهم بأنهم كفروا بآياتنا } واصل الآيات وأعظمها على (ع) وانكروا الآخرة والمعاد { وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض } وقد اعترفوا بابدائه خلق السماوات والارض { قادر على أن يخلق مثلهم } فانهم وامثالهم أسهل خلقا من السماوات والارض، والاعادة أسهل من الابداء، ويؤيد هذه الآية قول من يقول : ان الاعادة وان كانت باشخاصهم بعينها لكنها بأبدانهم بامثالها بوجه { وجعل لهم } لانفسهم او لامثالهم بحسب الاعادة او بحسب الحياة الدنيا او بحسب المكث فى البرازخ قبل القيامة { أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون } بعد وضوح الامر { إلا كفورا } بالتوحيد او بك او بعلى (ع).
[17.100]
{ قل لو أنتم تملكون خزآئن رحمة ربي } رحمة الرب هى الولاية وسائر النعم الظاهرة والباطنة تسمى رحمة باتصالها بالولاية واذا لم تتصل بالولاية تكون سخطا ونقمة واستدارجا، وجمع الخزائن للاشعار بان له خزائن عديدة فى مراتب العالم { إذا لأمسكتم } عن الانفاق والايصال الى المستحق { خشية الإنفاق } خشية النفاد بالانفاق لانكم ما خرجتم عن بشريتكم والبشر فى جبلته حب المال وخشية نفاده { وكان الإنسان قتورا } عطف للتعليل اى فى جبلته البخل ولذلك اتى بكان فانه يدل على كون الوصف سجيته سواء جعل قتورا مبالغة او صفة مشبهة، والمقصود التعريض بمدعى الخلافة وبانهم غير مستحقين للولاية والخلافة لعدم خروجهم من البشرية.
[17.101]
{ ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات } تسلية للنبى (ص) وتعريض بمقترحى الآيات يعنى من كان فى جبلته العناد واللجاج لا ينفع فيه الآيات كما ان فرعون شاهد من موسى (ع) تسع آيات بينات وزاد لجاجه وعناده وقد ورد الاخبار بالاختلاف فى تعيين التسع ففى بعضها عد رفع الطور والمن والسلوى منها، وفى بعضها لم يعد، والظاهر ان المراد بالآيات التسع كما فى الخبر عن الصادق (ع) الجراد والقمل والضفادع والدم والطوفان والبحر والحجر والعصا واليد البيضاء { فسئل بني إسرائيل } يعنى ان كنت فى شك على طريق اياك اعنى واسمعى يا جارة فاسئل بنى اسرائيل عن موسى (ع) وآياته { إذ جآءهم } اذ اسم خالص مفعول اسئل او ظرف لآتينا وقوله فاسئل اعتراض { فقال له فرعون } بعد ظهور آياته عنادا { إني لأظنك يموسى مسحورا } مجنونا.
[17.102]
{ قال لقد علمت مآ أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصآئر } اسباب بصيرة اطلق البصائر عليها مبالغة { وإني لأظنك } لاعلمك ادى بالظن مشاكلة لقوله، او كان ظانا لم يعلمه الله بعده عن الخير او هلاكته اكمالا لدعوته { يفرعون مثبورا } مصروفا عن الخير او هالكا.
[17.103]
{ فأراد أن يستفزهم } يخرجهم او يستأصلهم { من الأرض } ارض مصر او مطلق الارض بالاستيصال { فأغرقناه ومن معه جميعا } يعنى اخرجناه من الارض عكس مراده.
[17.104]
{ وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض } التى اراد فرعون ان يستفزكم منها { فإذا جآء وعد الآخرة } وعد دار الآخرة { جئنا بكم } يعنى بنى اسرائيل وقوم فرعون او الخطاب لبنى اسرائيل فقط { لفيفا } مختلطين، المحقين والمبطلين من بنى اسارئيل وقوم فرعون، او دانى الدرجة ومرتفعيها.
[17.105-106]
{ وبالحق أنزلناه } بسبب الحق او بالغاية الحقة او متلبسا بالحق، والضمير امطلق القرآن او لقرآن الولاية { وبالحق نزل ومآ أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا وقرآنا } اى امرا مجتمعا مجملا عظيما { فرقناه } فصلناه فى صورة الحروف والالفاظ ونزلناه نجوما { لتقرأه على الناس على مكث } فانه اقرب الى القبول والحفظ { ونزلناه تنزيلا } عن مقام جمعه الذى هو المشية والولاية الى الاقلام اجمالا ثم الى الالواح ثم الى الاكوان فى صور الموجودات الكونية، وفى صور الحروف والاصوات والنفوس والكتابات، ويجوز ان يراد بالقرآن الامر بالولاية مخصوصا وان يراد بتفريقه تنزيله اشارة مثل انما وليكم الله، واطيعوا الرسول، وتصريحا مثل بلغ ما انزل اليك فى على (ع).
[17.107]
{ قل آمنوا به أو لا تؤمنوا } يعنى سواء ايمانكم وعدم ايمانكم عندى وعند الله وانما يعود نفعه اليكم { إن الذين أوتوا العلم من قبله } اى من قبل القرآن مثل اهل الكتاب الذين علموا بعثتى وصدق كتابى من كتبهم قبل ظهورى او من قبل القرآن الذى فى ولاية على (ع) كالذين تيقنوا عظمة شأن على (ع) من امة محمد (ص) وهو فى موضع تعليل للتسوية يعنى ان الحكمة فى نزول القرآن، الدعوة والحكمة فى الدعوة ايمان الخلق فاذا آمن من بعض الخلق فقد حصل الحكمة ولم يبطل الغاية وقد آمن به كثير فيستوى ايمانكم وعدم ايمانكم لان الذين اتوا العلم آمنوا به و { إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان } اللام بمعنى على { سجدا } تأثرا به وانسلاخا من بشريتهم وشكرا لله لانجاز وعده وللوصول الى مطلوبهم.
[17.108-109]
{ ويقولون سبحان ربنآ } اظهرا للشكر باللسان { إن كان وعد ربنا لمفعولا يخرون للأذقان } كرره للتأكيد المطلوب فى مقام المدح { يبكون ويزيدهم خشوعا } لتأثرهم به.
[17.110]
{ قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن }.
اعلم، ان القرآن ذو وجوه بحسب التنزيل وذو بطون بحسب التأويل، وان اسماءه اللفظية عناوين لاسمائه الكونية وهى مظاهر لاسمائه الحقيقية التى هى مبادى اسمائه الكونية وارباب انواعها والظاهرة فيها، والاسماء الحقيقية عنوانات لحقيقة الوجود المطلق كما ان اسماءه الكونية واللفظية والكتبية عنوانات لتلك الحقيقة باعتبار تلك الاسماء الحقيقية. وان الحق الاول تعالى مسمى بالله باعتبار انطواء الكثرات فيه، ومسمى بالرحمن باعتبار اظهاره للكثرات والمراتب والحدود، وان فعله المعبر عنه بالمشية والولاية الكلية مظهر لله باعتبار انطواء الكثرات فيه ومظهر للرحمن باعتبار انبساطه على الكثرات ويسمى المشية بالاعتبار الاول عرشا وبالاعتبار الثانى كرسيا ولذلك يعبر عنها حين الاضافة الى الكثرات بالكرسى كما قال:
وسع كرسيه السماوات والأرض
[البقرة:255] وحين الاضافة الى الحق الاول تعالى بالعرش
الرحمن على العرش استوى
[طه:5]، وكون العرش مظهرا لله باعتبار انطواء الكثرات فيه لا ينافى كونه منسوبا اليه الرحمن لانه باعتبار مغايرته له تعالى من جانب الكثرات فاضافته تعالى اليه مثل اضافة الكرسى الى الكثرات، والحق الاول باعتبار وصف الرحمن مصدر له ومضاف اليه، وكل من مراتب الجبروت والملكوت مظهر لله وللرحمن بالاعتبارين المذكورين. والمراتب عاليها مظهر لله من حيث اجمال الكثرات فيه بالنسبة الى دانيها. ودانيها مظهر للرحمن من حيث التفصيل بالنسبة الى العالى، ولما كان الانسان منطويا فيه جميع الاسماء والمراتب كان من حيث روحه مظهرا لله ومن حيث نفسه مظهرا للرحمن ان لم يصر بالتنزل مظهرا للشيطان، وهكذا فى جملة مراتبه. وخلفاء الله الذين هم اكمل افراد الانسان مظاهر لله وللرحمن بالاعتبارين؛ فالنبى باعتبار ولايته مظهر لله تعالى ومن حيث نبوته ورسالته مظهر للرحمن، بل النبوة من حيث وجهتها الى الولاية مظهر لله، تعالى ومن حيث وجهتها الى الرسالة مظهر للرحمن، وشخص النبى من حيث اخذ الميثاق والبيعة من العباد مظهر لله، وتابعه المعاضد له فى تعليم العباد طريق الوصول اليه والبيعة معه مظهر للرحمن، وهكذا خلفاؤهما المأذونون منهما فى اخذ الميثاق والبيعة من الخلق، ويسمى النبى وخليفته من تلك الحيثية شيخ الارشاد، والتابع وخليفته من تلك الحيثية شيخ الدلالة، والعباد المطيعون من حيث نشأتهم فى الجذب مظاهر لله ومن حيث حالهم فى السلوك مظاهر للرحمن، والدعاء قد يطلق على التسمية ويكون متعديا الى مفعولين، وقد يطلق على الذكر ويكون متعديا الى مفعول واحد، وقد يطلق على دعوة الغير لاحضاره ومجيئه بنفسه بحيث يكون المدعو بنفسه مطلوبا، وقد يطلق على دعوة الغير فى المهمات؛ وبالمعنى الاول يقال: دعوت ابنى زيدا، وبالثانى يقال: يدعون الله بالليل والنهار، كما يقال بالثالث والرابع: يدعون الله مطلقا او فى مهماتهم، ومعنى الآية تنزيلا سمو الله، الله او الرحمن بحذف المفعول الاول، ووجه اسقاط المفعول امكان التعميم بين وجوه التنزيل وبطون التأويل، وقد نقل فى نزوله انه (ص) كان فى المسجد الحرام وقال
" يا الله يا رحمن "
، فقال المشركون انه ينهانا عن الاشراك وهو يدعو آلهين؛ فنزلت. ونقل ايضا: ان اليهود قالوا له (ص): انك لتكثر ذكر الله ولا تذكر الرحمن وفى التوراة تكرر ذكر الرحمن؛ فنزلت. او معنى الآية اذكروا لفظ الله، او اذكروا لفظ الرحمن، او اذكروا الذات باعتبار جمعه للكمالات، او باعتبار انبساطه على الكثرات، او ادعوا الذات بعنوان اوصافه الجلالية او بعنوان اوصافه الجمالية فان الله وان كان امام الاسماء تماما لكنه باعتبار انطواء الكثرات المعتبر فيه ادل على اوصاف الجلال، والرحمن امام اوصاف الجمال، ومعنى الآية تأويلا ادعو مظهر اسم الله او مظر اسم الرحمن لا فرق بينهما فى جميع مراتبهما، وادعوا الولى (ع) او النبى (ص) وادعو فى مقام الجذب او فى مقام السلوك { أيا ما تدعوا } يؤدبكم اليه لان اسماء الوجود وعنوانات الحق ومظاهر النور لا شركة لغيره فيها { فله الأسمآء الحسنى } لا لغيره بخلاف الاسماء السوءى التى هى اسماء العدم وعنوانات الحدود والتعينات ومظاهر الشرور والظلمات فانها لغيره لا له، والله والرحمن ومظاهرهما من الاسماء الحسنى { ولا تجهر بصلاتك } لا تتجاوز فى اعلان الصوت عن المعتاد حين التخاطب مع الاحباب بحيث تسمع من بعد عنك { ولا تخافت بها } بحيث لا تسمع نفسك، كذا فسر فى اخبارنا { وابتغ بين ذلك سبيلا } متوسطا يعنى اقرء قراءة تسمعها نفسك ومن قرب منك ولا تسمعها من بعد عنك فان السمع له حق فى الصلاة وهو سماع اذكاره وسنة الاحباب عدم الجهر بالخطاب، ولما كان الصلاة الحقيقية هى الولاية والنبوة قالبها والرسالة قالب النبوة، وقبول الولاية والرسالة من القوالب، وصورة الصلاة القالبية والقلبية ايضا من القوالب صح تفسير الصلاة بكل منها، وصح جعل الخطاب عاما وخاصا بمحمد (ص)، وصح تفسير الاجهار والاخفات بما يناسب كلا منها، وقد اشير الى التعميم فى بعض الاخبار.
[17.111]
{ وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل } بعد امره بالتوسط فى الاقوال او الافعال امره بالتوسط فى توصيفه تعالى بالجمع بين التشبيه والتنزيه قولا واعتقادا وشهودا فأمره تعالى بالحمد اى ملاحظة ظهوره تعالى فى كل شيء وفيء مع تنزيهه عن اصول النقائص، وهى كون الثانى له سواء كان تحت يده او مقابلا له او مستعليا عليه محتاجا اليه وكان هو عاجزا فان الذل ينشأ من العجز عن دفع الضر او جلب النفع، ولما كان ذلك موهما لتوصيفه ومعرفته امره ثانيا بتكبيره عن التوصيف والمعرفة فقال { وكبره تكبيرا } عن كل ما يوهم النقص او التوصيف، ولذلك ورد فى جواب من قال: الله اكبر من كل شيء عن الصادق (ع): وكان ثمة شيء فيكون اكبر منه؟! فقيل: وما هو؟ - قال: اكبر من ان يوصف.
[18 - سورة الكهف]
[18.1]
{ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب } اضافة العبد للعهد يعنى محمدا (ص) والمراد بالكتاب كتاب النبوة وصورته القرآن او القرآن وبعد اشعاره بمحموديته على جميع ما يحمد عليه بتعليق الحمد على الله المشعر بجميع الاوصاف الحميدة ذكر معظم ما يحمد عليه من الاوصاف وهو انزال كتاب النبوة الذى به قوام المعاش والمعاد { ولم يجعل له عوجا } العوج كعنب الاعوجاج من كل شيء من الاجسام المحسوسة وغيرها، او العوج محركة اعوجاج الاجسام التى من شأنها الاستقامة كالحائط والعصا، والعوج كعنب خاصة بالمعانى، والمعنى لم يجعل لكتاب النبوة انحرافا عن الاستقامة نزولا وصعودا لانه نازل منه على الاستقامة ومنته اليه على الاستقامة وذاهب بمن توسل به الى الله على الاستقامة.
[18.2]
{ قيما } حال من الكتاب او من الضمير المجرور باللام وهو مبالغة من قام الرجل المرأة وعليها، وقام الرجل اهله اذا مأنهم وقام بشأنهم، والمقصود ان كتاب النبوة قيم على جميع الكتب السماوية حتى القرآن ببيانها وتعيين موارد احكامها وقيم على جميع من توسل به بافادة ما يحتاجون اليه فى امر معاشهم ومعادهم، او هو حال عن العبد فانه ايضا قيم لكل معوج وكاف لكل محتاج { لينذر بأسا شديدا } عذابا شديدا فى الدنيا بالقتل والاسر والنهب كما انذرو وقع ذلك البأس وكما يقع للكفار حين الاحتضار وفى الآخرة بعذاب البرازخ والقيامة والجحيم، وقد فسر البأس الشديد بعلى (ع) فانه الرحمة للمؤمنين والبأس للكافرين فى الدنيا والآخرة { من لدنه } من لدن العبد المنزل عليه الكتاب كما فسر، او من لدن الله وقد فسر لدن رسول الله (ص) بعلى (ع) وكذا لدن الله تعالى { ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات } اطلق الانذار اشعارا بانه للمؤمنين والكفار بخلاف التبشير فانه خاص بالاخيار، وانذار المؤمنين من حيث شوب الكفر والا فحيثية الايمان تقتضى التبشير لا الانذار { أن لهم أجرا حسنا } هو الجنة ونعيمها ورضوان من الله اكبر.
[18.3-4]
تخصيص بعد تعميم تفضيحا لهذا الصنف من الكفار ومبالغة فى قبح قولهم وهم الذين قالوا: الملائكة بنات الله، والذين قالوا: عزير ابن الله، والمسيح ابن الله، ونحن ابناء الله.
[18.5]
{ ما لهم به من علم } نفى علمهم به اولا مع انه باطل من اصله منفى بنفسه اشعارا بان المذمة على القول من غير علم سواء كان المقول باطلا او حقا مقدم على سائر جهات الذم فويل لمن قال بظنه من غير علم ومن غير اذن واجازة ثم يقول: هو من عند الله حيث قال من غير علم ثم نسب قوله الى الله { ولا لآبائهم } كلمة مبالغة تقال فى مقام الذم مبالغة او هو ذم آخر يعنى انهم قالوا من غير علم وقلدوا فى ذلك آباءهم الذين لم يكن لهم علم فلهم المذمة من حيث التقليد ومن حيث الاخذ ممن لا علم له { كبرت كلمة تخرج من أفواههم } بعد ما ذمهم على القول بغير علم وعلى التقليد فى قولهم وعلى تقليد من لا علم له ذمهم على قبح المقول ايضا { إن يقولون إلا كذبا } لا شوب صدق فيه.
[18.6]
{ فلعلك باخع نفسك } قاتل نفسك غما { على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث } حديث اصحاب الكهف او القرآن جملة او حديث ولاية على (ع) وهو المقصود { أسفا } تأسفا على توليهم عن الايمان شفقة بهم وحرصا على ايمانهم بعلى (ع).
[18.7]
{ إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها } تعليل لما يستفاد من مفهوم العتاب يعنى لا ينبغى لك التحسر على توليهم لانهم اغتروا بما على الارض زينة لها وانا جعلنا ما على الارض زينة لها { لنبلوهم أيهم أحسن عملا } يعنى ان الغاية جهد المؤمن فى حسن العمل واغترار الكافر طار بالعرض.
[18.8]
ارضا لا نبات فيها، والجرز من الجرز بمعنى القطع اى مقطوعا نباته وهو تسفيه للمغترين بزينتها وتزهيد لطالبى الآخرة وتسلية لمن لا يكون له من زينتها شيء.
[18.9]
{ أم حسبت } الخطاب للنبى (ص) او لكل من يتأتى منه الخطاب وهو اضراب عن قوله: فلعلك باخع نفسك باعتبار المعنى فانه فى معنى ءآنت باخع نفسك؟ لانه فى مقام الانكار وان كان بلفظ الترجى واحسبت ان ما على الارض يمنعهم من الايمان ام حسبت ان مقام الايمان واصحاب الايمان كان من آياتنا عجبا لا يمكن الوصول اليه فحسبت { أن أصحاب الكهف والرقيم } ورد فى اخبارنا ان الرقيم كان لوحا او لوحين من نحاس وكان مرقوما فيه امر الفتية وقصتهم وما اراد منهم دقيانوس الملك، وقيل: ان الرقيم كان اسم الجبل الذى فيه الكهف، او الوادى الذى فيه الكهف، او اسم قريتهم، او اسم الكلب الذى كان معهم، وقيل: اصحاب الرقيم كانوا قوما آخرين لم يذكر الله قصتهم، وكان قصتهم انهم كانوا ثلاثة وخرجوا يرتادون لاهلهم فأخذهم المطر فأووا الى كهف فانحطت صخرة وسدت باب كهفهم، فقال احدهم: ليذكر كل منكم ما عمل من حسنة خالصا لله لعل الله يرحمنا، فقال احدهم: انى استعملت اجراء ذات يوم فجاء رجل وسط النهار وعمل فى بقيته مثل عملهم فأعطيته مثل اجرهم فغضب احدهم وترك اجره فوضعته فى جانب البيت ثم مر بى بقرة فاشتريت به فصيلها فبلغت ما شاء الله فرجع الى بعد حين شيخا ضعيفا لا اعرفه وقال: ان لى عندك حقا وذكره حتى عرفته فدفعتها اليه جميعا، اللهم ان كنت فعلت ذلك لوجهك فافرج عنا، فانصدع الجبل حتى رأوا الضوء، وقال آخر: كان فى فضل واصاب الناس شدة فجاءتنى امرأة فطلبت منى معروفا، فقلت: لا الا ان تعطينى حظى من نفسك، فأبت ورجعت ثم عادت فقلت لها مثل ما قالت سابقا، فأبت ورجعت، ثم ذكرت لزوجها، فقال لها: اجيبيه واغيثى عيالك، فأتت وسلمت الى نفسها فلما تكشفتها وهممت منها ارتعدت فقلت: ما لك؟ - قالت: اخاف الله، فقلت: خفته فى الشدة ولم اخفه فى الرخاء، فتركتها وأعطيتها ملتمسها؛ اللهم ان فعلته لوجهك فافرج عنا، فانصدع حتى تعارفوا، وقال الثالث: كان لى ابوان همان وكانت لى غنم وكنت أطعمهما وأسقيهما ثم أرجع الى غنمى، فحبست ذات يوم حتى امسيت فأتيت اهلى فأخذت محلبى وأتيتهما فوجدتهما نائمين فلم اوقظهما وتوقفت عندهما حتى اصبحا واستيقظا، فسقيتهما؛ اللهم ان فعلته لوجهك فافرج عنا، ففرج الله عنهم. وقصة الكهف اجمالا كما يستفاد من الاخبار انهم كانوا اصحاب دقيانوس الملك وانه كان يدعو الخلق الى عبادة الاصنام، وهؤلاء آمنوا بربهم وحده ورفضوا عبادة الاصنام واسروا التوحيد واظهروا الشرك وكانوا يحضرون معهم الى عبادة الاصنام ولم يعلم احد بدينهم ولا يعلم كل منهم دين صاحبه ومضوا على ذلك مدة متمادية، حتى سئموا وملوا من موافقة دقيانوس وقومه فخرجوا من القرية فرارا منهم واظهروا قصد الصيد، فاتفق ان كان خروجهم فى يوم واحد فتلاحقوا فى البادية فتساءلوا عن شأنهم وخروجهم كل عن الآخر، فأخذوا المواثيق واظهر كل دينه وقصده، فعرفوا انهم كانوا على دين واحد وقصد واحد فتوافقوا فى المسير ومروا براع، فدعوه الى التوحيد فلم يجبهم واجابهم كلبه وذهبوا على وجههم ودخلوا الكهف فأماتهم الله ثلاثمائة وتسع سنين او انامهم على اختلاف فى الرويات، فأحياهم الله او أيقظهم بعد ذلك وتساءلوا بينهم كما حكى الله.
وسبب نزول هذه السورة كما فى الخبر
" ان قريشا بعثوا ثلاثة نفر الى نجران اليمن الى علماء اليهود ليتعلموا مسائل منهم ويسألوا محمدا (ص) بعد رجوعهم لعلهم الزموه، فذهبوا اليهم وسألوهم فقالوا: سلوه عن ثلاث مسائل فان اجابكم فيها على ما عندنا فهو صادق ثم سلوه عن مسئلة واحدة فان ادعى علمها فهو كاذب، فقالوا: سلوه عن فتية خرجوا وغابوا وناموا مدة كم كان عددهم؟ وكم كان نومهم؟ وما كان معهم من غيرهم؟ وما كان قصتهم؟ ثم سلوه عن موسى (ع) ومن امره الله باتباعه من هو؟ وكيف كان قصته؟ ثم سلوه عن طائف طاف المشرق والمغرب حتى بلغ سد يأجوج ومأجوج، من هو؟ وكيف كان قصته؟ وأملوا القصص الثلاث عليهم، فرجعوا وسألوه فقال: اخبركم غدا ولم يستثن، فحبس الوحى عنه (ص) اربعين يوما حتى اغتم النبى (ص) وشك اصحابه وفرحت قريش واستهزؤا وآذوا وحزن ابو طالب فلما كان بعد اربعين يوما نزل جبرئيل (ع) بسورة الكهف وكان سبب تأخيره تركه (ص) "
الاستثناء { كانوا من آياتنا عجبا } آية عجبا يعنى لا ينبغى لك ذلك الحسبان مع ما آتيناك من عجائب الآيات واريناك من معظمها، فان اصحاب الكهف وايمانهم امر سهل فى غاية السهولة فى جنب ما آتيناك.
[18.10]
{ إذ أوى الفتية إلى الكهف } اذ تعليل للحسبان او لعجبا او مفعول لا ذكر مقدرا او ذكر، والفتية جمع الفتى، وهو كما يطلق على العبد والشاب والخادم والمطيع يطلق على المؤمن فانه شاب عقلا والا فانهم كانوا كهولا { فقالوا } التجاء واستغاثة { ربنآ آتنا من لدنك رحمة وهيىء لنا من أمرنا } من ديننا الذى صار سببا لمهاجرة الكفار والفرار من الاشرار وابتغاء سنة الاخيار { رشدا } فى معاشنا ما نصير بسببه راشدين يمكن لنا التعيش مع الخلق كما قال تعالى: ويهيئ لكم من امركم مرفقا يعنى ما يمكن لكم المداراة مع الخلق.
[18.11]
{ فضربنا على آذانهم } حجابا يمنعهم من سماع الاصوات بالموت او النوم { في الكهف سنين عددا } ذوات عدد.
[18.12]
{ ثم بعثناهم } من الموت او النوم بعد ثلاثمائة سنة { لنعلم } ليظهر علمنا { أي الحزبين } حزب الله ومنهم قومك السامعون منك وحزب الشيطان ومنهم المشركون والمحاجون عليك او اى الحزبين من اصحاب الكهف أنفسهم وممن اطلع عليهم { أحصى } فعل ماض وعلى هذا فقوله { لما لبثوا } حال من قوله { أمدا } وهو مفعول احصى او لما لبثوا مفعول له واللام زائدة للتقوية وامدا تميز، ويحتمل ان يكون احصى افعل تفضيل من الاحصاء على خلاف القياس، وعلى هذا فقوله امدا تميز عن ما فى لما لبثوا.
[18.13]
{ نحن نقص عليك نبأهم بالحق } مقابل الكذب، وتقديم المسند اليه اما لمحض التقوى او للحصر { إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى } يعنى ان الايمان كان هداية من الله الى الله، ولما حصلوه بتوفيقه زادهم ايمانا.
[18.14]
{ وربطنا على قلوبهم } الحب فجذبهم الينا او اوقعنا الربط على قلوبهم بمعنى جعلناهم متحابين مربوطا قلب بعضهم على بعض وذلك بعد معرفة كل حال الآخرين واتحادهم فى الدين { إذ قاموا } عن القعود مع المشركين واظهار الاشراك للفرار عنهم { فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعوا من دونه إلها } لا باطنا ولا ظاهرا { لقد قلنا إذا شططا } قولا ذا شطط ذا بعد او ميل عن الحق قالوا ذلك فيما بينهم بعد التلاقى فى خارج البلد، او فى انفسهم قبل الخروج والتلاقى.
[18.15]
{ هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم } على الالهة { بسلطان بين } حجة واضحة يعنى ان اعتقاد شيء من غير برهان باطل وان كان المدعى حقا { فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا } يعنى ممن نسب الى الله ما لم يأذن به الله حقا كان او باطلا، وولذلك ورد من فسر القرآن برأيه وأصاب الحق فقد أخطأ.
[18.16]
{ وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف } استيناف من الله يعنى وقلنا اذ اعتزلتموهم او مقول لهم يعنى قال بعضهم لبعض واذ اعتزلتموهم فأووا الى الكهف فرارا منهم واخلوا مع الله { ينشر لكم ربكم من رحمته } اجابة لمسؤلكم { ويهيىء لكم من أمركم مرفقا } ما تدارون به الخلق من قوة الصبر على اذاهم والعفو عن مسيئهم والنصح لمحسنهم والاحسان الى كلهم.
[18.17-18]
{ وترى } يا محمد (ص) اذا رأيت كهفهم او يا من يتأتى منه الرؤية { الشمس إذا طلعت تزاور } تميل { عن كهفهم ذات اليمين } اى الى الجهة من الكهف ذات يمين الواقف خارج الكهف مقبلا على الباب او داخل الكهف مدبرا عن الباب، هذا اذا كان الكهف واقعا فى جهة الجنوب وبابه الى جهة الشمال، وبالعكس ان كان واقعا فى جهة الشمال وبابه الى جهة الجنوب، او عن الجهة ذات يمين الواقف خارج الكهف مدبرا عن الباب، او داخل الكهف مقبلا على الباب اذا كان الكهف واقعا فى جهة الجنوب وبابه الى جهة الشمال، وبعكس ذلك ان كان الكهف بعكس ذلك، او المعنى ترى الشمس اذا طلعت حالكونها فى الجهة ذات يمين الواقف، او حالكونها صاحبة يمين الواقف، او تزاور حالكونها فى يمين الواقف او ذات يمين الواقف، وتصوير وضع الكهف غير خفى بعد ما مضى، او المعنى تزاور فى الجهة ذات اليمين على ان يكون ظرفا لغوا وتصوير وضعه كما اذا كان المعنى تزاور الى ذات اليمين { وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال } الى ذات الشمال او عن ذات الشمال او فى ذات الشمال او حالكونها ذات الشمال، وتصويرها بعد تصوير سوابقها غير صعب { وهم في فجوة منه } متسع من الكهف بحيث لا يتأذون من حر الشمس ولا كرب الغار { ذلك } اى كونهم فى الكهف بالوصف المذكور او ذلك المذكور من قصة اصحاب الكهف وهو جملة معترضة لذكير السامعين { من آيات الله من يهد الله فهو المهتد } معترضة اخرى للاشارة الى وجه من وجوه التأويل وتمثيل حالهم لحال جملة المؤمنين { ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا وتحسبهم أيقاظا } عطف على ترى الشمس يعنى من رآهم يحسب انهم ايقاظ لكون اعينهم مفتوحة ناظرة، او يحسب انهم احياء لطراوة اجسادهم ونضارة ابدانهم { وهم رقود } نائمون او اموات { ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال } اى على الجهة ذات اليمين او فى الجهة ذات اليمين يعنى لا نديم منهم جنبا واحدا على الارض حتى يتغير ويتصرف فيه الارض، وفيه اشارة الى اجابة دعائهم حيث سألوا الرحمة والتقليب الى ذات اليمين والرشد يعنى التقليب الى ذات الشمال والمقصود التوسط بين الجذب والسلوك، ولا يخفى على البصير الاستبصار بالتأويل { وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد } بفناء الكهف كالبواب المطيع { لو اطلعت عليهم } يا محمد (ص) على طريقة: اياك اعنى واسمعى يا جارة، او يا من يتأتى منه الاطلاع { لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا } وذلك لما اعطاهم الله من الهيبة والخشية، او لان اجسادهم كانت كأجساد الموتى وكانت عيونهم مفتوحة بحيث يتوحش الناظر منهم.
[18.19-21]
{ وكذلك بعثناهم } يعنى كما انمناهم آية غريبة بعثناهم آية اخرى { ليتسآءلوا بينهم } عن حالهم فيعرفوا ان حالم اغرب من ان يعرف، وان صنع الله بهم لا يعرف كنهه ويزداد يقينهم فى امر البعث { قال قائل منهم كم لبثتم قالوا } اى الآخرون { لبثنا يوما أو بعض يوم } بناء على ما هو المعتاد من النوم وذلك قبل ان نظروا الى تغير حالهم وطول شعورهم واظفارهم وبعد ما نظروا الى ذلك { قالوا ربكم أعلم بما لبثتم } والاول كان لبعضهم وهذا لبعض آخر، ولما رأوا انه لا طريق لهم الى معرفة ذلك اعرضوا عنه واخذوا فيما يهمهم من الحاجة الى الغذاء وقالوا { فابعثوا } يعنى اذا لم تقدروا على معرفة ذلك فابعثوا { أحدكم بورقكم هذه } الورق الفضة المسكوكة { إلى المدينة } واسمها كما نقل كان طرسوس او افسوس { فلينظر أيهآ } اى اهلها او اى الاطعمة { أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف } فى المعاملة حتى لا يغبن او فى التخفى حتى لا يعرف { ولا يشعرن بكم أحدا إنهم إن يظهروا عليكم } ان يطلعوا او يظفروا بكم { يرجموكم } يقتلوكم اشد قتلة { أو يعيدوكم في ملتهم } وقد انعم الله عليكم بالنجاة منها { ولن تفلحوا إذا أبدا وكذلك } يعنى مثل اطلاعنا اياهم على حالهم وطول مدة منامهم ليزدادوا بصيرة بقدرتنا وعودهم الينا { أعثرنا } غيرهم { عليهم ليعلموا } يعنى المطلعين { أن وعد الله } بالبعث والاحياء بعد الاماتة { حق وأن الساعة لا ريب فيها } فى اتيانها، روى انه قد رجع الى الدنيا ممن مات خلق كثير منهم اصحاب الكهف اماتهم الله ثلاثمائة عام وتسعة ثم بعثهم فى زمان قوم انكروا البعث ليريهم قدرته؛ وهذا الخبر يدل على انهم ماتوا فى تلك المدة كما ان بعض الاخبار يدل على انهم ناموا، ونقل ان المبعوث لما دخل المدينة انكرها وتحيروا خرج الدرهم وكان عليه اسم دقيانوس فاتهموه بانه رأى كنزا واخذوه وذهبوا به الى الملك وكان نصرانيا موحدا فقص القصة عليه فقال بعض الحاضرين: ان آباءنا اخبرونا ان جماعة فروا فى زمن دقيانوس بدينهم لعلهم هؤلاء، فانطلق الملك واهل المدنية جميعا الى الكهف ورأوهم وكلموهم ثم قال الفتية نستودعك الله ايها الملك، ورجعوا الى مضاجعهم فماتوا ودفنهم الملك، وقيل: تقدمهم المبعوث، وقال اخبرهم لئلا يفزعوا فعمى عليهم باب الكهف فبنوا هناك مسجدا { إذ يتنازعون بينهم أمرهم } ظرف لأعثرنا والمعنى اعثرنا عليهم اذ يتنازع الفتية امر نومهم قلة وكثرة او يتنازع اهل البلد امر الفتية من حيث دفنهم وتركهم كما كانوا واخذ المسجد عليهم، او اذ يتنازع المطلعون امر دنيهم وامر البعث بينهم بالانكار والاقرار ببعث الارواح دون الاجساد او بعث الارواح والاجساد جميعا او ظرف ليلعموا، والمعنى ليعلم الفتية علما شهوديا بعد ما كانوا علموا يقينيا اذ يتنازعون بينهم امرهم فى نومهم ومدته، او ليعلم المطلعون ان وعد الله حق اذ يتنازعون بينهم امر بعثهم { فقالوا ابنوا } عطف على يتنازعون عطف التفصيل على الاجمال على بعض الوجوه، او عطف على اعثرنا { عليهم بنيانا } يحفظ اجسادهم من السباع والانظار { ربهم أعلم بهم } من تتمة قولهم يعنى اتركوهم على حالهم ولا تجسسوا وابنوا عليهم بنيانا، او معترضة من الله يعنى رب الفتية اعلم بحال الفتية او بحال امتنازعين فيهم، او رب المتنازعين اعلم بحالهم من ارادة الخير او الشر فى نزاعهم وما قالوه { قال الذين غلبوا على أمرهم } امر الفتية او امر اهل البلد من الرؤساء، او قال الذين غلبوا على امر انفسهم بالاسلام وغلبتهم على الشيطان { لنتخذن عليهم مسجدا } معبدا يعبد فيه ويزار ويتبرك.
[18.22]
{ سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم } اى سيقول الحاضرون فى زمانك من اهل الكتاب ومن قريش ومن امتك { ويقولون خمسة سادسهم كلبهم } كأنهم سلموا ان عددهم كان فردا ولذلك رددوا بين الثلاثة والخمسة والسبعة { رجما بالغيب } رميا من افواههم بالخبر الغائب عنهم، وتعقيب القولين بذلك دليل تزييفهما { ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم } ادخال الواو ههنا دون سابقيه لاعتيادهم ذلك عند تعداد مراتب العدد فانهم يقولون خمسة ستة سبعة وثمانية وذلك لان السبعة عدد كامل عندهم كما هو كذلك عند اهل الشرع فقبل البلوغ الى السبعة كان المراتب الآتية من متممات السابقة وتخلل الواو كأنه تخلل بين اجزاء شيء واحد ولذلك يسمى هذه الواو عندهم واو الثمانية، فما قيل: ان دخول الواو ههنا لتأكيد اللصوق، ليس فى محله لانه للاشعار بالتفارق لا بالتقارب { قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل } وفى الاخبار ما يشعر بكونهم سبعة وثامنهم كلبهم { فلا تمار فيهم } فلا تجادل فى خبرهم وعددهم قريشا واهل الكتاب { إلا مرآء ظاهرا } لا واقعا فانهم لا علم لهم ولا يقولون الا عن جهل والقائل عن جهل لا خطاب معه، وهذا يدل على ان الجدال كما يحرم عمن لا علم له يحرم مع من لا علم له { ولا تستفت فيهم منهم أحدا } واقتصر على ما اوحينا اليك لانهم لا يقولون ما يقولون من علم وبصيرة، وهذا يدل على ان الاستفتاء عمن لا علم له حرام سواء قال عن تقليد او عن ظن وتخمين.
[18.23-24]
{ ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشآء الله } استثناء مفرغ من لا تقولن اى لا تقولن لشيء بضم شيء ان يشاء الله او فى حال الا فى حال ضم ان يشاء الله، والمقصود الا بتذكر مشية الله، وهذا تأديب له (ص) وتعليم لغيره ان لا يقولوا شيئا منوطا بمشية الله الا ان يستثنوا، وقد سبق انه (ص) قال فى جواب سؤالهم المسائل الثلاث: اخبركم غدا، ولم يستثن، فحبس الوحى عنه اربعين يوما { واذكر ربك إذا نسيت } الاستثناء فى الخبر ان للعبد ان يستثنى ما بينه وبين اربعين صباحا { وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا } الاستثناء القولى { رشدا } وهو الاستثناء الحالى والعيانى والتحققى يعنى انتظر صيروة حالك حال الاستثناء دائما او معاينة مشية فى كل شيء او تحققك بمشيته، وقيل فيه غير ذلك.
[18.25-27]
{ ولبثوا في كهفهم } عطف من الله على يقولون، او كلام منهم عطف على سبعة وثامنهم كلبهم { ثلاث مئة سنين وازدادوا تسعا قل الله أعلم بما لبثوا } هذا يؤيد كونه كلاما منهم { له غيب السماوات والأرض } علمه مختص به { أبصر به وأسمع } اتى بصيغة التعجب اشعارا بان بصره وسمعه فوق ما يتصور بحسب ادراك الدقائق والاحاطة بكل ما يتصور ادراكه { ما لهم } لاهل السماوات والارض او للسائلين عن نبإ اصحاب الكهف { من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا واتل مآ أوحي إليك من كتاب ربك } فى الاخبار عن القصص الماضيات، او فى الاخبار عن المغيبات مطلقا، او فى احكام العباد، او فى ولاية على (ع) وهذا هو المناسب لما بعده { لا مبدل لكلماته } فلا تخف من التغيير والتبديل وظهور الخلف فى اخبارك { ولن تجد من دونه ملتحدا } ملتجأ.
[18.28]
{ واصبر نفسك } ذكر النفس بعد الصبر مبنى على تجريد الصبر عن النفس فان الصبر هو حبس النفس عن الجزع او عن هواها والمعنى احبس نفسك عن اتباع هواها { مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي } يعنى فى جملة اوقاتهم وهم الذين يذكرون الله مخرجا لهم عن ظلمات الطبع والنفس الى نور القلب والروح لمشاهدة وجه ربهم المضاف وهو ربهم فى الولاية وهم الذين اخذوا الذكر من صاحب الاذن واهل الذكر { يريدون وجهه } الملكوتى وهو السكينة التى ينزلها الله على المؤمنين وهو الذكر الذى به يطمئن قلوب المؤمنين { ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا } وهذا على: اياك اعنى واسمعى يا جارة { ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا } والذكر هو الرسول (ص) او امير المؤمنين (ع)، او المراد من الذكر تذكر الله وتذكر اوامره ونواهيه وثوابه وعقابه، او المراد الذكر المأخوذ من صاحب الذكر { واتبع هواه وكان أمره فرطا } افراطا وتجاوزا للحد فى الخروج عن تحت حكم العقل،
" روى ان جمعا من فقراء المسلمين منهم سلمان رضى الله عنهم كانوا عند النبى (ص) فدخل عليه جمع من اغنياء المؤلفة قلوبهم فقالوا: يا رسول الله (ص) ان جلست فى صدر المجلس وتحيت عنا هؤلاء وروائح جبابهم جلسنا نحن اليك واخذنا عنك، فقاموا من عنده (ص)، فلما نزلت الآية قام النبى (ص) يلتمسهم فأصابهم فى مؤخر المسجد يذكرون الله عز وجل فقال: الحمد لله الذى لم يمتنى حتى امرنى ان اصبر نفسى مع رجال من امتى معهم المحيا ومعهم الممات ".
[18.29]
{ وقل الحق من ربكم } يعنى قل للغافلين اللائمين لك فى مجالسة الفقراء الحق ما جاء من قبل ربكم وهو الصبر مع الفقراء { فمن شآء فليؤمن } اى من شاء فليسلم بى { ومن شآء فليكفر } او قل الولاية هو الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن بالبيعة الخاصة الولوية ومن شاء فليكفر فانه لا اكراه فى الدين وطريق الولاية فالاختيار فى ذلك اليكم { إنا أعتدنا } هيأنا { للظالمين } انفسهم فى الكفر بك او فى ترك الولاية وغصب الخلافة { نارا أحاط بهم سرادقها } وان كانوا لا يشعرون بها وسيظهر لهم انها كانت محيطة بهم { وإن يستغيثوا يغاثوا بمآء كالمهل } كدردى الزيت المغلى او كالنحاس المذاب { يشوي الوجوه } لفرط حرارته ونتنه حينما يقرب الى الفم { بئس الشراب } المهل { وسآءت } النار { مرتفقا } متكأ لينا يستراح به وهو اما من باب المشاكلة مع قوله وحسنت مرتفقا، او من باب استعمال الضد فى الضد تهكما.
[18.30]
{ إن الذين آمنوا } بالولاية بالبيعة الخاصة الولوية او ان الذين اسلموا بك بالبيعة العامة النبوية { وعملوا الصالحات } بالاتصال بالولاية { إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا } وضع الظاهر موضع المضمر اشعارا بعلة الحكم وانهم محسنون.
[18.31-32]
{ أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق } مما رق من ثياب الحرير وما غلظ { متكئين فيها على الأرآئك } على السرر، وفسرت فى الاخبار بالسرر عليها الحجال { نعم الثواب } دخول الجنة والتحلى بحليها { وحسنت } الارائك { مرتفقا واضرب لهم مثلا } اى لحال المؤمن والكافر او لحال المخلص والمنافق { رجلين } اى حكاية حال رجلين { جعلنا لأحدهما جنتين } قيل مثل حال المؤمن فى زهده فى زهرة الحياة الدنيا وقنوعه بقليل منها وحال الكافر فى جمعه لها وافتخاره بها بحال رجلين كانا جارين وكان لاحدهما بستانان كبيران كما حكى الله وكان الآخر فقيرا فافتخرا لغنى على الفقير { من أعناب وحففناهما بنخل } اى جعلناهما محاطتين بالنخل بجعل النخل حولهما او حولهما واواسطهما ايضا { وجعلنا بينهما } بين كرومهما ونخلهما { زرعا } فكانتا بحيث يحصل منهما ثماره وادامه وخبزه.
[18.33]
{ كلتا الجنتين آتت } افراد الضمير بلحاظ لفظ كلتا { أكلها } مأكولها من الثمار والتمر والحبوب { ولم تظلم منه شيئا } لم تنقص من الاكل شيئا بالآفة او بتغيير بحسب الاعوام كسائر البساتين فانها كثيرا تثمر كما ينبغى فى عام وينقص ثمرها فى عام آخر { وفجرنا خلالهما نهرا } ليدوم شربهما ولا يتعب فى سقيهما ويزيد بهاءهما.
[18.34]
{ وكان له } صاحب الجنتين { يحاوره } يجاوبه فى الكلام { أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا } افتخارا عليه.
[18.35]
{ ودخل جنته } مع صاحبه بقرينة ما يأتى { وهو ظالم لنفسه } بالفخر والعجب والغرور والغفلة من الله { قال } اغترارا بصورة نضرتها وغفلة من الله وقدرته.
[18.36-40]
{ مآ أظن أن تبيد هذه أبدا ومآ أظن الساعة قائمة } ادى به الاغترار الى انكار المعاد { ولئن رددت إلى ربي } فرضا كما تزعم { لأجدن خيرا منها منقلبا قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب } بحسب مادتك البعيدة { ثم من نطفة } بحسب المادة القريبة { ثم سواك رجلا لكن } اصله لكن انا خففت الهمزة وادغم النون واجرى بالالف وصلا بنية الوقف { هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شآء الله } هذا ما شاء الله او ما شاء الله كائن اقرارا بقدرته وان الكل بمشيته { لا قوة إلا بالله } مقول القول او مستأنف من الصاحب { إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك } فى الدنيا او فى الآخرة { ويرسل عليها حسبانا } جمع حسبانة بمعنى الصاعقة { من السمآء فتصبح صعيدا زلقا } يزلق عليها لعدم نبات وشجر فيها، وكثيرا ما يقال: ارض زلق لما لا نبات فيها.
[18.41]
{ أو يصبح مآؤها غورا } غائرا فى الارض { فلن تستطيع له طلبا } بتنقية مجراه وتجديد منبعه واخراج الماء منه.
[18.42]
{ وأحيط بثمره } اهلك امواله تماما او ثمر جنته كما قال له صاحبه وانذره، نقل عن الخبر ان الله ارسل عليها نارا فاهلكها وغار ماؤها { فأصبح يقلب كفيه } يعنى على فخذيه لغاية تحسره فان المتحسر يضع كفيه على فخديه ويضربهما على فخديه ظهرا وبطنا او يقلب كفيه لغاية تحيره فان المتحير يقلب كفيه { على مآ أنفق فيها } تحسرا على ما انفق فيها { وهي خاوية على عروشها } ساقطة كرومها على عروشها التى كانت الكروم عليها { ويقول يليتني لم أشرك بربي أحدا } تذكرا لما خوفه به صاحبه.
[18.43]
{ ولم تكن له فئة ينصرونه } بدفع الاهلاك او رد المهلك { من دون الله وما كان منتصرا } بنفسه عن اهلاك الله وممتنعا عنه.
[18.44]
{ هنالك الولاية لله الحق } فى موضع تعليل والولاية بالفتح التصرف والنصرة والتربية وبالكسر السلطنة والامارة وقرئ بهما، وهنالك اسم اشارة يشار به الى المكان والمراد به مرتبة من النفس لتشبيهها بالمكان يعنى فى تلك الحال التى تنقطع آمال النفس من كل ما سوى الله يظهر لها ان الولاية لله الذى يظهر انه كان حقا لا غير، ولذلك كانت ولايته باقية وولاية غيره باطلة ففائدة التوصيف الاشعار بظهور كونه تعالى حقا حينئذ وكون غيره باطلا، ولا يخفى على المستبصر تأويل الآية وتنزيلها على موسى الفقير العقل وفرعون الغنى النفس، وصفحتى النفس العلامة والعمالة اللتين هما جنتان كثيرتا الثمار والاجل الذى هو مهلك الجنتين ويبين هذا التأويل قوله واضرب لهم مثل الحياة الدنيا { هو خير ثوابا } حال من الله واستيناف جواب لسؤال مقدر يعنى هو بذاته ثواب للمتقين الكاملين فى التقوى وهو خير من كل ثواب { وخير عقبا } وهو بذاته عاقبة لاهل التقوى ولا عاقبة احسن منه.
[18.45]
{ واضرب لهم مثل الحياة الدنيا } اصله اضرب الاسماع بمثل الحياة الدنيا لكنه لكثرة الاستعمال حذف الاسماع واقيم المثل مقامه واريد منه معنى اذكر او اجر او صير وعلى الاولين فقوله { كمآء أنزلناه من السماء } حال من المثل او مستأنف بتقدير مبتدء، وعلى الثانى فهو مفعول ثان لا ضرب { فاختلط به نبات الأرض } بعد نبته ونموه واشتداده فصار مصفرا ومبيضا { فأصبح هشيما } منكسرا { تذروه الرياح } تفرقه وللاشارة الى سرعة زوالها اتى بالفاء دون ثم { وكان الله على كل شيء } من انزال الماء وانبات الارض وجعل النبات مشتدا مختلطا ثم جعله يابسا هشيما متفرقا ومن نفخ الروح واحياء البدن الجماد بالحياة العرضية الدانية وجعل قواه مشتدة قوية ثم جعل البدن ذابلا وجعل قواه ضعيفة بعد قوتها ثم نزع الروح منه وجعله وجعل قواه غير مقتدرة على التماسك والتمانع { مقتدرا } وبعد ما ذكر عدم بقاء الحياة الدنيا وان نضرتها ايام قلائل لا ينبغى ان يغتر بها العاقل ذكر اصول ما يتعلق به النفوس فى الحياة الدنيا وتهتم فى جمعه وحفظه واضافها الى تلك الحياة اشعارا بسرعة زوالها وان العاقل لا ينبغى ان يهتم بشأنها بل ينبغى ان يهتم بشأن ما هو باق نافع له فقال { المال والبنون زينة الحياة الدنيا }.
[18.46]
{ المال والبنون زينة الحياة الدنيا } فتزول بزوالها { والباقيات الصالحات } لا الزائلات الفاسدات وهى ما تهتم به النفوس من المال والبنين وما يتبعهما وما يلزمهما { خير } من المال والبنين وان كانا خيرا فى انظاركم او خيرا فى الواقع { عند ربك ثوابا وخير أملا } فينبغى ان يطلبها الانسان ويجعلها مأمولة دون المال والبنين، والمراد بالباقيات الصالحات كلما يفعله الانسان بحكم العقل لا بحكم النفس، وبعبارة اخرى كل فعل يبقى اثره فى الكلمة الباقية من الانسان وهى صفحة النفس الباقية وبعبارة اخرى كلما يفعله من وجهته الولوية التكوينيته وهى وجه الله الباقى الظاهر بالولاية التكليفية الحاصلة بالمبايعة الباطنة الايمانية، ولما لم يكن لها اختصاص بفعل خاص وعمل مخصوص اختلف الاخبار فى تفسيرها، فقد فسرت فى الاخبار بصلاة الليل، وبمطلق الصلاة، وبالصلوات الخمس المفروضة، وبالتسبيحة الكبرى، وبالاولاد الصالحين، وبالاشجار المثمرة التى يغرسها الانسان، وباصل كل الصالحات وهى الولاية، وبالمحبة اللازمة للولاية او المستتبعة لها.
[18.47]
{ ويوم نسير الجبال } بجعلها هباء منبثا فى الجو وهو عطف على عند ربك او هو بتقدير ذكر والجملة باعتبار المعنى { وترى الأرض بارزة } من تحت الجبال وخلف التلال بحيث لا يكون فيها تلال ووهاد { وحشرناهم } للحساب فى تلك الارض البارزة والجملة اما حال، وماضويتها بالنسبة الى عاملها، او عطف وما ضويتها لتحقق وقوعها { فلم نغادر منهم أحدا } لا محسنا ولا مسيئا.
[18.48-49]
{ وعرضوا على ربك صفا } مصطفين صفوفا عديدة كما ورد انهم فى ذلك اليوم مائة وعشرون الف صف وذلك بحسب مراتبهم فى القرب والبعد، فان بنى آدم بسحب الظاهر نوع واحد ولكنهم بحسب الباطن انواع عديدة ولهم مراتب عديدة وكل نوع منهم فى مرتبة منها مصطف بحسب افراده، ولكل مرتبة وصف نبى وامام غير من كان للصف الآخر ولذلك كانت الانبياء (ع) بعدد الصفوف مائة وعشرين الفا بحسب عدد مراتب بنى آدم { لقد جئتمونا } استيناف جواب لسؤال مقدر كانه قيل: وما تفعل بهم؟ - وما تقول لهم ؟ - فقال: نقول لهم لقد جئتمونا، او حال عن فاعل نسير او فاعل حشرنا او مفعوله او فاعل لم نغادر او ضمير منهم او فاعل عرضوا منفردا او على سبيل التنازع والكل بتقدير القول يعنى نقول لهم لقد جئتمونا منفردين عن الازواج والاولاد والعشائر والمؤانسين وعما كسبتم فى الدنيا من المعايش وعما كسبتم من العلوم والصنائع الخيالية الدنيوية، وعما اعطيناكم من القوى والمشاعر الدنيوية وعن الاعضاء والآلات البدنية الطبيعية، وعمن اتخذتم اولياء من دون الله وذلك كقوله تعالى لقد جئتمونا فرادى { كما خلقناكم أول مرة } عراة عن ذلك كله والتقييد باول مرة للاشارة الى ان الاعادة خلقة اخرى ثانية او للاشارة الى ان الانسان من بدو خلقته كل آن فى خلقة اخرى ثانية بناء على الحركة الجوهرية، او على تجدد الامثال، او على تحلل بدنه واتحاده مع بدنه، او على تبدل كيفياته { بل زعمتم } لما كان قوله لقد جئتمونا ردا عليهم فى زعمهم عدم البعث كأنه قال لقد جئتمونا وما زعمتم المجيء بل زعمتم عدمه حسن الاتيان بكلمة بل { ألن نجعل لكم موعدا ووضع الكتاب } اى كتب اعمال الخلائق على ان يكون اللام للاستغراق، او الكتاب الذى فيه اعمال الخلائق من الالواح العلوية على ان يكون اللام للعهد، او وضع الكتاب كناية عن نشر الحساب اذا المحاسب يضع كتاب الحساب بين يديه والمراد بوضع الكتاب على الاولين وضعه بين ايديهم، او على ايمانهم، وشمائلهم او فى الميزان بناء على ان صحائف الاعمال توزن { فترى المجرمين مشفقين مما فيه } مما ثبت فيه من صغائر ذنوبهم وكبائرها { ويقولون يويلتنا } على طريق يا حسرتنا من تنزيل الاعراض منزلة ذوى العقول ثم ندائها { مال هذا الكتاب } تعجبوا منه ومن احصائه جميع اعمالهم وقد رسم فى المصاحف فصل لام لهذا الكتاب من مدخوله اشعارا بانهم من غاية دهشتهم يقفون على الجار الذى هو كالجزء من الكلمة { لا يغادر صغيرة } فعله صغيرة او سوأة صغيرة { ولا كبيرة إلا أحصاها } الا عدها { ووجدوا ما عملوا } جزاء ما عملوا او نفس ما عملوا بناء على تجسم الاعمال او رسم ما عملوا فى الكتاب { حاضرا } والاولان اولى للتأسيس { ولا يظلم ربك أحدا } بنقص ثواب منه او بالعقوبة له من غير استحقاق، او باظهار مساويه واخفاء محاسنه، او بنسبة ما لا يفعله من المساوى اليه، فى الخبر: اذا كان يوم القيامة رفع الى الانسان كتابه ثم قيل: اقرأ فيقرأ ما فيه فيذكره فما من لحظة ولا كلمة ولا نقل قدم الا ذكره كأنه فعله تلك الساعة فلذلك قالوا: يا ويلتنا (الآية).
[18.50]
{ وإذ قلنا } عطف على عند ربك والمعنى ان الباقيات الصالحات خير ثوابا فى الابد والازل، او عطف على يوم نسير الجبال بتقدير ذكر اى ذكرهم وقت قولنا قبل خلقتهم { للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن } قد سبق تفصيله فى البقرة { ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أوليآء من دوني } يعنى انه لم يطع ربه الذى خلقه ورباه وانعم عليه فلا ينبغى ان يجعل وليا فان الخارج عن امر المنعم لا يأتى منه الاحسان { وهم لكم عدو } والحال انهم مع الخروج عن طاعة الرب لكم عدو فلا ينبغى ان تتخذوهم اولياء يعنى انهم فى انفسهم لا يستحقون الولاية وبالاضافة اليكم ايضا لا يستحقونها { بئس للظالمين } بجعل الولاية لغير المتسحق او هو وجه آخر للمنع عن اتخاذه وليا كأنه قال: وهو للظالمين ولى ومن كان للظالمين وليا لا ينبغى ان يتخذ وليا { بدلا } من الله.
[18.51]
{ مآ أشهدتهم } ما أشهدت ابليس وذريته، او ما أشهدت المشركين كما روى ان رسول الله (ص) قال: اللهم اعز الاسلام بعمر بن الخطاب او بأبى جهل بن هشام فأنزل الله هذه الآية، وعلى الاول فهو وجه آخر للمنع من جعل ابليس وذريته اولياء يعنى ما احضرتهم { خلق السماوات والأرض } فكيف يكونون خالقيهما او متصرفين فيهما، ومن لا تسلط ولا تصرف له فيهما لا ينبغى أخذه وليا { ولا خلق أنفسهم } فهم غير شاعرين بكيفية خلقتهم فكيف بخلقة غيرهم والتصرف فيه { وما كنت متخذ المضلين عضدا } وضع الظاهر موضع المضمر اشعارا بعلة الحكم وذم آخر لهم وهو ايضا وجه آخر للمنع من ولايته.
[18.52]
{ ويوم يقول } عطف على عند ربك او على يوم نسير الجبال بتقدير ذكرهم { نادوا شركآئي } على زعمكم والمراد بالشركاء { الذين زعمتم } انهم شركاء { فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا } اى بين المشركين والشركاء موبقا لا يصل بعضهم الى بعض، او جعلنا وصلهم فى الدنيا سبب هلاكهم فى الآخرة كما قيل: ان بين بمعنى الوصل.
[18.53-54]
{ ورأى المجرمون النار } وضع الظاهر موضع المضمر اشعارا بعلة الحكم وتهديد الغير المشركين من المجرمين واشارة الى ذم آخر وتطويلا فى مقام الذم { فظنوا } ايقنوا كما سبق ان يقين ارباب النفس ظن لا يقين { أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل } يتذكر ويعتبر ويدرك به الحق والانسان لغلبة النسيان والغفلة عليه لا يتذكر ويخفى عليه الحق { وكان الإنسان أكثر شيء } يتأتى منه الجدل { جدلا } وخصومة فان الانسانية المقتضية لادراك الكليات وتدبير الامور تقتضى الفحص عن الامور ورد المردود وقبول المقبول، وبما ذكرنا ظهر وجه الاتيان بالناس اولا وبالانسان ثانيا.
[18.55]
{ وما منع الناس } كلمة ما نافية او استفهامية، والاتيان بالناس للاشعار بان مادة الانكار وعدم الاستغفار هى النسيان { أن يؤمنوا } بالايمان الخاص والبيعة مع على (ع) بقرينة { إذ جآءهم الهدى } فان الهداية خاصة بشأن الولاية كما ان الانذار خاص بشأن النبوة كما قال: انما انت منذر ولكل قوم هاد { ويستغفروا ربهم } بالاستغفار الحاصل فى ضمن البيعة والايمان فيكون تفصيلا لان يؤمنوا باعتبار بعض اجزائه او بالاستغفار العام الحاصل بالندم على المساوى وطلب المغفرة لسانا { إلا أن تأتيهم سنة الأولين } الا انتظار ان تأتيهم سنة الله فى الاولين من احلال العذاب بهم فى الدنيا او استعداد ان تأتيهم سنة الاولين من العناد واللجاج مع اهل الحق، وعلى هذا فلا حاجة فى قوله { أو يأتيهم العذاب } الى التخصيص بعذاب الآخرة { قبلا } مقابلا مشهودا.
[18.56]
{ وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين } فان الرسول لا محالة يكون جمعا بين جهتى التبشير والانذار ليصرف الخلق بالانذار عن دواعى النفس ويقربهم بالتبشير الى موائد الآخرة المسببة عن اقتضاء العقل، ولما كان التبشير من جهة ولايته والانذار من جهة رسالته وكان الرسول فى الاغلب مخاطبا من جهة رسالته لظهورها فيه قال: انما انت منذر بطريق الحصر يعنى من جهة رسالتك { ويجادل الذين كفروا بالباطل } بالقول الباطل كقولهم ما انتم الا بشر، مثلنا باعتقاد ان البشرية تنافى الرسالة او بالسبب الباطل وهو النفس والشيطان { ليدحضوا به الحق } ليزيلوا بالجدل او بالمبدء الباطل الحق عن الثبات والاستقرار { واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا } واعظم الآيات الانبياء والاولياء (ع).
[18.57]
{ ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه } من الانبياء والاولياء (ع) وكتبهم السماوية ومواعظهم الوافية وسائر الآيات الآفاقية والانفسية، والمقصود ههنا الانبياء والاولياء (ع) فانهم الآيات العظمى واسباب ظهور سائر الآيات من حيث انها آيات { فأعرض عنها } لعدم الاقبال على الانبياء (ع) وعدم قبول مواعظهم والعناد معهم وعدم التدبر لسائر الآيات وعدم التنبه بها { ونسي ما قدمت يداه } من المساوى فان التوجه الى الانبياء والاولياء (ع) سبب ظهور المساوى وهو سبب كل خير كما ورد: اذا اراد الله بعبد خيرا بصره عيوب نفسه واعماه عن عيوب غيره، واذا اراد الله بعبد شرا بصره عيوب غيره وأعماه عن عيوب نفسه، والاعراض عنهم سبب للغفلة عن سائر الآيات ونسيان المساوى عن نفسه وظهور مساوى غيره { إنا جعلنا على قلوبهم أكنة } استارا، تعليل للاعراض عن الآيات وتسلية له (ص) لانه كان يتحسر على اعراضهم وعدم قبولهم، او جواب للسؤال عن حالهم وعما ادى اليه اعراضهم { أن يفقهوه } كراهة ان يفقهوه او لان لا يفقهوه بحذف اللام ولا النافية، وتذكير الضمير وافراده باعتبار القرآن الذى هو مصداق الآيات ومظهرها ومظهرها، ويحتمل ان يكون قوله: انا جعلنا، جوابا عن السؤال عن علة عدم التدبر فى القرآن الذى به يهتدى الى سائر الآيات ويتنبه لها كأنه قيل: لم لا يتدبرون القرآن حتى يتذكروا بسائر الآيات ويقبلوا عليها؟ - فقال: انا جعلنا على قلوبهم اكنة ان يفقهوا القرآن، ويحتمل ان يكون كلاما منقطعا عن سابقه من قبيل المخاطبات التى تكون بين الاحباب بحيث لا يطلع عليها رقيب ويكون جوابا عن تحيره فى عدم قبولهم قوله (ص) فى على (ع) وولايته كأنه قال: مالك تتحير فى عدم قبولهم قولك فى ولاية على (ع) انا جعلنا، او مالك تتحسر على اعراضهم عن على (ع) انا جعلنا، ولما كان طريق النجاح منحصرا فى التحقيق والتفقه الذى هو شأن القلب والتقليد من صادق والتسليم الذى يحصل بالسماع والانقياد للمسموع كما اشار اليهما بقوله:
لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد
[ق:37] قال تعالى كراهة ان يفقهوه تحقيقا { وفي آذانهم وقرا } يمنعهم عن السماع والتقليد كراهة ان يسمعوه ويقبلوه تقليدا { وإن تدعهم إلى الهدى } كالنتيجة للسابق يعنىاذا كان على قلوبهم اكنة وفى آذانهم وقر، فان تدعهم الى الهدى { فلن يهتدوا إذا أبدا } لانحصار طريق الهداية فى التحقيق والتقليد وهم ممنوعون من كليهما.
[18.58]
{ وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب } يعنى ان طبع القلوب ووقر الاذان بسبب عملهم ومن رحمته لا يعجل لهم العذاب { بل لهم } اى لعذابهم { موعد } يعنى القيامة او حين الموت او يوم بدر كما قيل ان كان الاضراب عما يتوهم من عدم العذاب رأسا، او المعنى بل لمغفرتهم ونزول الرحمة بهم بحيث يظهر لكل احد موعد هو يوم القيامة ان كان الاضراب عما يتوهم من العذاب بعد عدم التعجيل { لن يجدوا من دونه } من دون الله او من دون الموعد { موئلا } ملجأ، وهو استيناف او حال او صفة لموعد.
[18.59]
{ وتلك القرى } اى قرى الامم الماضية { أهلكناهم } من قبيل الاستخدام او بتقدير المضاف فى المرجع، او بارادة الاهل من القرى مجازا { لما ظلموا } انفسهم بالمعاصى والاعراض عن الآيات او ظلموا الآيات بالعناد او الخلق بالصد والمنع من الآيات وهو تعريض بامة محمد (ص) وتحذير عن الاعراض عن الآيات وترغيب فى الاقبال عليها وقبول قوله (ص) فى على (ع) { وجعلنا لمهلكهم } اى لهلاكهم او اهلاكهم على قراءة فتح الميم وضمه { موعدا } لا يتجاوزون عنه فلا تغتروا يا امة محمد (ص) بالامهال وعدم التعجيل فى المؤاخذة، وفسر المهلك بنار الآخرة، والموعد بالقيامة.
[18.60]
{ وإذ قال موسى لفتاه } واذكر تعلما او ذكر تعليما.
اعلم، ان فى قصة موسى (ع) وخضر (ع) انواعا من العبر وتعليما لكيفية الطلب وان الطالب لطريق الآخرة ينبغى ان يكون همته الوصول الى الانسان الكامل الذى هو مجمع بحرى الوجوب والامكان ومرآة تمام الاسماء والصفات الحقية وجميع الحدود والتعينات الخلقية وان يكون له عزم فى الطلب الى انقضاء عمره، وتعليما لكيفية المسئلة بعد الوصول ليحصل له القبول، ولكيفية الصحبة بعد القبول، وبيانا لاوصاف الشيخ وان الشيخ كيف ينبغى ان يربى ويروض، وبيانا لتمام مقامات السالكين الى الله كما يأتى كل فى مقامه. والفتى والفتاة يقالان للعبد والامة، وللخادم والخادمة، وللمطيع والمطيعة، وللمؤمن والمؤمنة، ولصاحب الفتوة الذى يؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة، وللشاب والشابة، والمراد به ههنا يوشع بن نون (ع) وصى موسى (ع) ودليل ارشاده وواسطة بيعته وخليفة نبوته وكان فتاه بتمام معانيه حيث انه باع نفسه من الله بواسطته، وكان خادمه ومطيعه، ومؤثرا له على نفسه وشابا بروحه، وكان سبب طلب موسى (ع) بعد مقام الرسالة وفضل العزم كما يستفاد من الاخبار انه لما كلمه الله وآتاه الالواح وفيها كما قال الله:
وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء
[الأعراف:145] رجع الى بنى اسرائيل فصعد المنبر واخبرهم بما اعطاه الله، فدخل فى نفسه انه ما خلق الله خلقا أعلم منه فأوحى الله الى جبرئيل: ادرك موسى (ع) فقد هلك وأعلمه ان عند ملتقى البحرين عند الصخرة رجلا اعلم منك فصر اليه وتعلم من علمه، فنزل بجرئيل (ع) واخبره وذل موسى (ع) فى نفسه وعلم أنه اخطأ ودخله الرعب وامر فتاه يوشع (ع) ان يتزود لطلب ذلك الرجل.
اعلم، ان العجب ورؤية الكمال من النفس من اعظم المهلكات فانه اصل معظم المعاصى واول معصية وقعت فى الارض لانه الذى منع ابليس من السجود واوقعه فى الاستكبار، ثم الحقد والعداوة، ثم المكر والخديعة اعاذنا الله منه وجميع المؤمنين، بل نقول: ارسال الرسل وانزال الكتب ومعاناة الانبياء (ع) ومقاساة الاولياء (ع) وطاعات الخلق ومجاهداتهم وامتحان الله لهم وابتلاؤهم بانواع البلاء لخروجهم من الانانية ورؤية النفس ولذلك قيل: تمام اهتمام المشايخ فى تربية السلاك لان يخرجوا من الانانية ونسبة شيء من الافعال والاوصاف الى انفسهم فاذى رأى الشيخ من السالك رؤية النفس والاعجاب بها انزجر منه كمال الانزجار { لا أبرح } عن السير والطلب { حتى أبلغ مجمع البحرين } بحرى الروم والفارس الذى وعد الله تعالى موسى (ع) لقاء مجمع بحرى الامكان والوجوب عنده { أو أمضي حقبا } الحقب الدهر والزمان لكن المراد كما فسر فى الخبر ثمانون سنة دل موسى (ع) بلفظ لا ابرح الذى يدل على دوام السير ولفظ الحقب الذى هو منتهى ما يمكن من عمره على ثبات عزمه على الطلب بحيث لا يشغل بغيره حتى يصل الى مطلوبه او يفنى عمره فى طلبه، والمقصود من نقله تعليم طريق الطلب وثبات العزم عليه وان الطالب لطريق الآخرة ينبغى ان يكون كذلك والا رجع بخفى حنين.
[18.61]
{ فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما } تركاه غفلة منه او نسيا امره حين حيي ودخل البحر ونسى يوشع (ع) ان يخبر موسى (ع) بأمره وقد كان علامة لقائه العالم حياة الحوت المملوح كما سيجيء الاشارة اليه، ونسبة النسيان اليهما مع انه كان من يوشع (ع) من باب التغليب وهو تغليب شائع كثير غالب على لسان العرف { فاتخذ سبيله في البحر سربا } سلوكا او سالكا، مصدر من غير لفظ الفعل او حال، وقد اختلف الاخبار اختلافا كثيرا فى ذكر الحوت وكونه علامة للوصول الى العالم وكيفية حياته وانفلاته الى البحر وكيفية نسيانه، والسر فى اختلافهما الاشعار بالتأويل وان صورة التنزيل عنوان لحقيقة التأويل فأن تنزيله كما يستفاد من مجموع الاخبار ما حاصله ان موسى (ع) قال لجبرئيل (ع) باى علامة اعرف الوصول الى مجمع البحرين؟ - قال: آيتك ان تحمل معك حوتا فاذا انتعش وحيى دلك على وصولك فحملا حوتا وسارا ومرا برجل ولم يعرفاه فقام موسى (ع) يصلى واخرج يوشع (ع) الحوت ووضعه على حجر فحيى او غسله فى ماء عين الحيوان فحيى وافلت من يده ودخل البحر، او قطر قطرة فى المكتل فاصابه وحيى ونسي يوشع (ع) ان يخبر موسى (ع) او تركاه على الصخرة وسارا من ذلك الموضع.
[18.62]
{ فلما جاوزا } الموضع عييا وكان موسى (ع) لم يعى فى سفر قط او فى هذا السفر الا فى هذا السير حين جاوزا مجمع البحرين و { قال لفتاه آتنا غدآءنا } الغداء ما يتغذى به فى الصباح { لقد لقينا من سفرنا هذا } فى ابدال اسم الاشارة اشعار بانه لم يعى قبل ذلك فى سفر { نصبا } عياء.
[18.63-64]
{ قال أرأيت } كلمة تعجب فى العرب والعجم بلفظها وترجمتها والاصل: ارأيت ما دهانى؟ { إذ أوينآ إلى الصخرة } فحذف الموصول وصلته واقيم الظرف مقامه، او الاصل ارأيت بلية اذ اوينا، فحذف المضاف وابقى المضاف اليه، او الظرف بنفسه مفعول على طريق المجاز العقلى، او المفعول محذوف، واذ أوينا مستأنف مفسر للمفعول المحذوف، ولفظة اذ متعلق بمحذوف مفسر بقوله { فإني نسيت الحوت } اى تركته على الصخرة او نسيت امره الغريب ان اذكره لك حين حيى وافلت الى البحر، وذكر انه للكثرة ما كان يرى من امثاله من موسى (ع) لم يكن يبالى به وبذكره { ومآ أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره } لك او اتذكره { واتخذ سبيله في البحر عجبا قال ذلك } اى امر الحوت لانه كان دليلا على المطلوب، او الرجل المستلقى عند الصخرة { ما كنا نبغ } حذف اللام للوصل بنية الوقف اشعارا بعدم تمام الطلب والسلوك مع الخضر (ع) { فارتدا على آثارهما } فى الطريق الذى جاء فيه طلبا للموضع والرجل الذى كان فى ذلك الموضع { قصصا } يقتصان آثارهما قصصا، او مقتصين، او هو مصدر من غير لفظ الفعل.
[18.65]
{ فوجدا } بعد الانتهاء الى الموضع { عبدا من عبادنآ } شرفه تعالى بالعبدية والاضافة الى نفسه { آتيناه رحمة من عندنا } ثم وصفه بايتاء الرحمة وخصها بكونها من عنده اشارة الى الرحمة الخاصة التى هى مقام الولاية، فان الرحمة العامة التى هى من اظلال اسم الرحمن يؤتيه لكل احد بل لكل موجود لان ظهور الاشياء ووجودها وقوامها وبقاءها تكون بها، والرحمة الخاصة التى هى من اظلال اسم الرحيم تكون لكل من قبل الدعوة العامة وباع البيعة النبوية، ولكل من قبل الدعوة الخاصة وباع البيعة الولوية؛ لكنها لا تكون من عند الله بل من عند خلفائه فلا توصف بكونها من عند الله، والرحمة الموصوفة بكونها من عند الله هى التى تحصل للسالك بعد انتهاء سلوكه بحسب استعداده وفنائه عن ذاته وبقائه بالله بعد فنائه واستخلاف الله اياه لدعوة عباده الدعوة الباطنة او الدعوة الظاهرة وهى المسماة بالولاية والموصوفة بكونها من عند الله، وفيه اشارة الى كون الخضر وليا داعيا الى الله بخلافته، واما كونه نبيا فلا يستفاد منه، وفى بعض الاخبار انه كان نبيا ايضا، ويمكن حمل ما فى الاخبار من كونه نبيا على خلافة النبوة فان الولى من حيث تعليمه للعباد احكام القالب له خلافة النبوة كما قيل: الشيخ فى قومه كالنبى فى امهته { وعلمناه من لدنا علما } وصفه بتشريف تعليمه وكون التعليم من لدنه وكون ما علمه من لدنه علما لا صنعة فان تعليم الانبياء والاولياء (ع) تعليم الله لكنه ليس من لدنه بل من لدن خلفائه وكون التعليم من لدنه قد يتعلق بالصنعة كما فى قوله تعالى: وعلمناه صنعة لبوس لكم؛ فقد اشار تعالى الى اوصاف سبعة للخليفة والشيخ:
اوصاف الولى وهى سبعة
وان الداعى الى الله ينبغى ان يكون متصفا بتلك الاوصاف،الاول العبدية والخروج من حكم نفسه والدخول فى حكم غيره، والثانى العبدية لله تعالى فان الخروج من حكم النفس والدخول فى حكم الغير اعم من الدخول فى حكم الله فان المريد داخل فى حكم المراد والمطيع فى حكم المطاع وليس بداخل فى حكم الله بلا واسطة، والثالث ايتاء الرحمة، والرابع ايتاء الرحمة الخاصة الموصفة بكونها من عنده، والخامس تعليم الله، والسادس كون التعليم من لدنه، والسابع تعلق التعليم بالعلم لا بالصنعة وقد ذكر الاوصاف على ترتيبها الحاصل للسالك فان العبدية لخلفاء الله مقدمة على العبدية له بلا واسطة، والعبدية له مقدمة على ايتاء الرحمة، وايتاء الرحمة مطلقة مقدم على صيرورتها من عنده، وصيرورة الرحمة من عند الله مقدمة على التعليم، فان المراد بالتعليم ههنا تعليم احكام الكثرة من حيث الدعوة والتأدية الى الله, وصيرورة التعليم لدنيا متأخرة عن التعليم المطلق ومقدمة على تعليم العلم من لدن الله، وقد ذكر قصة ملاقاتهما ومخاطباتهما فى المفصلات.
[18.66]
{ قال له موسى } بعد الملاقاة واتمام التحية وما جرى بينهما من المخاطبات { هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا } مفعول تعلمنى او حال من فاعل اتبعك او مفعوله او كليهما او من فاعل تعلمنى او مفعوله او كليهما او من مرفوع علمت او تميز مبين لكلمة ما او مبين لنسبة اتبع الى الكاف او مصدر لقوله اتبعك بتقدير مضاف اى اتباع رشد او مصدر لقوله تعلمنى او علمت بتقدير مضاف اى تعليم رشد او مصدر لفعل محذوف حالا مما سبقه او منقطعا عما قبله دعاء او تعليلا او مفعول له حصولى او تحصيلى محتمل التعليل لكل من الافعال الثلاثة، ويحتمل جريان بعض وجوه رشدا بالنسبة الى قوله قال له على بعد. والمراد بالرشد الاهتداء الى تنظيم المعاش وحسن المعاشرة مع الناس بحيث يؤدى الى حسن المعاد واستحقاق الاجر من الله ويعبر عنه بسياسة المدن والاهتداء الى سياسة النفس وكل من كان تحت اليد من القوى والجوارح والاهل والعيال وادخالهم تحت حدود الله ويعبر عنه بتدبير المنزل والاهتداء الى اصلاح النفس بتخليتها عن الرذائل وتحليتها بالخصائل، ويعبر عنه بتهذيب الاخلاق. واما العقائد الحقة الثابتة الجازمة فهى وان كانت اصل الرشد وبدونها لا يحصل الرشد لكن لا يطلق الرشد عليها فى الغالب وهى كانت حاصلة لموسى (ع) ويعبر عن الاولين بالسنة القائمة، وعن الثالث بالفريضة العادلة، وعن الرابع بالآية المحكمة، واليها اشير فى الحديث النبوى حيث قال: انما العلم ثلاثة آية محكمة، او فريضة عادلة، او سنة قائمة. ولقد اجاد (ع) فى الطلب حيث تنزل عن مقامه العالى الى مقام الفقير المحتاج وابرز الطلب والسؤال بصورة الاستفهام لا الامر المشترك بين الامر والسؤال، وفى حكايته تعليم للعباد وان من أراد العلم والارلادة كيف ينبغى ان يطلبوا العلم والارادة للعالم والشيخ وتنبيه على ان المرء وان كان ذا فضائل كثيرة ومراتب علية لا ينبغى ان يتأنف عن التعلم بل ينبغى ان يطلب ما افتقده عمن يعلم ان المفقود عنده وان كان الذى عنده المفقود ادون منه ولا ينظر الى دنو رتبته بل يرى نفسه من حيث جهله المفقود ادون منه ومحتاجة اليه فيتضرع عنده ويتكدى عليه.
بيان النيابة للرسالة والولاية
اعلم، ان الانبياء (ع) لهم مقامات ثلاثة بحسب نسبتهم الى الخلق: الاول مقام البشرية وبه يتعيشون مثلهم ويأكلون ويشربون ويسعون فى حاجاتهم ويحتاجون فى المعايش الى معاونتهم وهذا الذى سد طريق الخلق عن قبول نبوتهم وطاعتهم من حيث انهم يرونهم محتاجين فى المعايش ساعين فى تحصيلها ولا يرون منهم مقاما آخر لاختفائه عن النظر، ولم يشعروا ايضا بطريق العلم والبرهان ولا بطريق الذوق والوجدان ان لهم وراء المرئى مقاما لكون علومهم مقصورة على ما فى هذه الدار كما قال تعالى؛
ذلك مبغلهم من العلم،
اندرين سوراخ بنائى كرفت
در خور سوراخ دانائى كرفت
ولذلك قصروا اوصافهم ومقاماتهم على المرئى فقالوا: ان انتم الا بشر مثلنا،
انبيا را مثل خود بنداشتند
همسرى با انبيا برداشتند
والثانى مقام الرسالة وبه يؤسسون نظام معاش الخلق بحيث يؤدى الى صلاح الدارين ويسنون حدود الله والعبادات القالبية وبحسب هذا المقام كانوا يدعون الخلق عموما باللطف والقهر والاختيار والاجبار ويأخذون البيعة منهم على شرائطها المقررة عندهم، ويسمى تلك الدعوة دعوة ظاهرة عامة وهذه البيعة بيعة عامة نبوية وبعد هذه البيعة يقع اسم الاسلام عليهم، والثالث مقام الولاية وبحسب ذلك المقام كانوا يدعون المستعدين دون غيرهم الى طريق القلب والسير الى الله والسلوك الى الآخرة باللطف فقط من غير قهر واجبار كما قال تعالى:
لا إكراه في الدين
[البقرة:256] فانه فى هذه الدعوة يرتفع الاكراه ولا يتأتى الاجبار لان السير بها سلوك من طريق القلب الذى هو مستور عن الانظار ولا يتصور فيه الاجبار، وكانوا من هذه الجهة يعلمونهم احكام القلب ولوازم السلوك وحدوده بحسب مراتبه وكانوا يأخذون البيعة منهم على شرائطها المقررة عندهم ويسمى تلك الدعوة والبيعة دعوة خاصة باطنة وبيعة خاصة ولوية، وبعد تلك البيعة يقع اسم الايمان عليهم وفائدة البيعة العامة والاسلام الدخول تحت الحدود والاحكام وحفظ الدماء والاعراض وتصحيح المناكحة والمواريث وغايته قبول الولاية وقبول الدعوة الباطنة والبيعة الخاصة، ولما كان ذلك يحصل بالانتحال والانقياد لاحكام الشرع اكتفوا بعد زمن النبى (ص) فى اطلاق اسم الاسلام وجريان احكامه بمحض هذا الانقياد من دون حصوله بالبيعة او بحصوله بالبيعة الفاسدة مع خلفاء الجور بخلاف الايمان، فان ثمرته الارتباط والاتصال باطنا وبذر ذلك الاتصال لا يحصل الا بالبيعة والاتصال الصورى والعقد بالايمان والعهد باللسان واخذ الميثاق وشراء الانفس والاموال ولذلك التزموا فيه البيعة ولم يرضوا عنها باعتقاد الجنان فقط، ومن هذا يظهر سر من اسرار قعود على (ع) فى بيته وارخاء العنان نحوا من خمس وعشرين سنة، وهكذا كان حال اولياء الله (ع) وائمة الهدى الا ان مقام الرسالة كان لهم بحسب الخلافة لا الاصالة، ومقام الولاية كان بالاصالة فقد كانوا يستنيبون فى كل من المقامين او فى كلهيما وكانت سلسلة النيابة جارية بعد الغيبة الكبرى الى زماننا هذا وقد سمى النواب فى مقام الرسالة بمشايخ اجازة الرواية، والنواب فى مقام الولاية بمشايخ اجازة الارشاد، والجامعون بين النيابتين بكلا الاسمين، ويسمى الاولان بالنواب الخاصة كما يسمى غيرهم ممن نصبوه لامامة الجماعة او لجمع الاموال او غير ذلك بهذا الاسم، ويسمى الثالث بالنواب العامة لعموم نيابتهم فى كل ما يرجع الى الامام وقد كانت سلسلة اجازة الرواية فى مشايخها منضبطة متصلة من زمن المعصومين (ع ) الى زماننا هذا، وكذا سلسلة اجازة الارشاد كانت منضبطة متصلة من الخاتم (ص) بل من زمن آدم (ع) الى زماننا هذا؛ فمن ادعى الفتيا والارشاد من غير اجازة من المأذون فى الاجازة من المعصوم (ع) فقد أخطأ وغوى وأغوى، ومن أفتى او أرشد بالاجازة فان مدادهم افضل من دماء الشهداء.
وشأن مشايخ الرواية رضوان الله عليهم تعليم العباد عبادات القالب وسياسة البلاد كالحدود والمواريث وآداب المعاملات والمناكحات ونظرهم الى الكثرات ومراتبها واعطاء كل ذي حق حقه من اللطف والقهر والاعطاء والمنع ولذلك يسمون بالعلماء لان العلم بوجه هو ادراك مراتب الكثرات وحقوقها، وشأن مشايخ الارشاد تعليم احكام القلب والسلوك الى الله التجريد عن الكثرات وعدم الالتفات اليها وتهذيب الاخلاق والاتصاف بصفات الروحانيين واماتة الغضب والشهوة ولذلك يسمون بالحلماء؛ لانهم اماتوا الغضب ورضوا بقضاء الله، وشأن مشايخ الاجازتين الجمع بين الحقين وحفظ مراتب الكثرة مع التمكن فى مقام الوحدة، والدعوة الى الوحدة مع الابقاء فى الكثرة والتصرف فى النفوس بجذبها الى الوحدة مع توسعتها فى الكثرة وخلاصتها حفظ جميع المراتب كما ينبغى ولذلك يسمون بالحكماء. وقد اشير الى الثلاثة فيما روى عن السيد السجاد (ع) انه قال: لو يعلم الناس ما فى طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللجج؛ ان الله تبارك وتعالى اوحى الى دانيال (ع) ان امقت عبيدى الى الجاهل المستخف بحق اهل العلم التارك للاقتداء بهم، وان احب عبيدى الى التقى الطالب للثواب الجزيل اللازم للعلماء التابع للحلماء القابل عن الحكماء، والمقصود ملازمة العالم من حيث علمه ومتابعة الحليم من حيث حلمه والقبول عن الحكيم من حيث حكمته، سواء كانت الاوصاف حاصلة لشخص واحد او كان كل فى شخص. اذا تمهد هذا فنقول: ان الحكيم قد اغناه الله بعلمه عن علم غيره ولا حاجة له الى الرجوع الى غيره، واما العالم الذى هو شيخ الرواية فهو غنى عن غيره من جهة علم الكثرات، واما من جهة احكام القلب وتهذيب الاخلاق وعلوم الاسرار فهو محتاج الى غيره فاقد لما هو عند فينبغى له ان يرجع الى الحليم الذى هو شيخ الارشاد ويأخذ ما افتقده عنه ولا ينبغى له التأنف عنه وان يرى نفسه افضل من الحليم، كما ان موسى (ع) فى كمال مرتبة الرسالة وكونه من اولى العزم وكمال مرتبة علمه بالكثرات رجع الى الخضر (ع) مع ان مرتبة الخضر (ع) من هذه الجهة كانت ادون من مرتبته وسأل عنه ما كان عنده فى كمال التواضع والتضرع وحفظ الادب وسؤال الاتباع والقبول مع تأنف الخضر (ع) عن القبول واستكباره عليه، وقد اشير فى الاخبار الى ان الحافظ لمراتب الكثرات وحقوقها افضل واجمع من المستغرق فى التوحيد واسراره، وقد ورد ايضا ان موسى (ع) كان افضل من الخضر (ع) لذلك وكذلك ينبغى لشيخ الارشاد اذا لم يحصل له مرتبة اجازة الرواية ان يرجع الى شيخ الرواية ويتعلم منه احكام الكثرات ولا يتأنف عن الرجوع اليه بل يتواضع عنده ويتذلل لديه ويسأل احكام الشريعة عنه، وينبغى لكل ان يأمر اتباعه بالرجوع الى الآخر فيما عنده حتى يقع الوداد بين العباد ويرتفع النزاع والعناد ويستحقوا الرحمة والفضل من رب العباد وهكذا كان حالهم فى زمن الائمة (ع) وبعده الى مدة من الغيبة الكبرى، ثم لما طال الغيبة واختلط الامة واختفى المشايخ واشتبه الحال على المتسمين بالشيعة وتوسلوا بعلوم العامة وصوفيتهم وحصلوا علم الشريعة وآداب الطريقة لاغراض نفسانية واعراض دنيوية وتشبهوا بالمحقين من مشايخ الشيعة وقع التحاسد والتباغض والنزاع والخلاف بينهم وطعن كل فى طريق الآخر وكفر بعض بعضا وتفل بعض فى وجوه بعض وما هذا الا لاهواء كاسدة واغراض فاسدة، اعاذنا الله وجميع المؤمنين من شره فى الدنيا وتبعته فى الآخرة.
[18.67]
{ قال } الخضر (ع) تتميما لعزمه وتثبيتا لقدمه وتكميلا لتضرعه واستعداده وتمهيدا لاخذ الميثاق الاكيد عنه { إنك لن تستطيع معي صبرا } لانى وكلت بامر لا تطيقه ووكلت انت بعلم لا اطيقه كما فى الخبر وذلك لان موسى (ع) وكل بعلم الكثرة وحفظ المراتب والنظر الى الظواهر وحفظ الحقوق وايصالها الى اهلها واجراء احكام القالب وحدوده، وذلك امر عظيم قلما يتحمله الاولياء (ع) الا من اجتباه الله للرسالة واستكمله فى مقام الكثرة مع كماله فى التوحيد كموسى (ع) وان كان غير مطلع على بعض اسرار التوحيد وغرائبه، والخضر (ع) وكل بامر الولاية واسرارها وغرائب التوحيد ومن كان حافظا لاوضاع الشريعة واحكام الكثرة غير محيط بغرائب الولاية والتوحيد لا يمكنه تحمل ما يظهر من الغرائب من صاحب الاسرار مخالفا لاوضاع الكثرة واحكام الشريعة، وفى الخبر كان موسى (ع) اعلم من الخضر (ع) وفى خبر آخر ولم يكن ذلك باستحقاق للخضر (ع) الرتبة على موسى (ع) وهو افضل من الخضر (ع) وكأنه كان عالما بان موسى (ع) لا يصير مستكملا فى الجهتين ولذا اتى بكلمة لن المشعرة بالتأييد وقال { وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا قال }.
[18.68-69]
{ وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا قال } موسى (ع) متضرعا اليه خارجا من انانيته متوسلا بمشية الله تعالى { ستجدني إن شآء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا } فلما تضرع عليه وتوسل بالمشية واعطى الميثاق من نفسه بعدم العصيان قبله وشرطه عليه ان لا يسأل عن شيء صدر منه وينتظر الاخبار منه من غير استخبار، وفى حكايته تعليم وتنبيه على طريق المتابعة والارادة بترك الانانية والاعتراض والسؤال وان كان ما يراه مخالفا لظاهر الشريعة.
[18.70]
وذلك لانه اراد تربيته وتكميله بأسرار الولاية وتعليمه آداب السلوك وكيفية التربية فقبل ذلك الشرط موسى (ع) لكنه ما وفى به لثقل ما رآه من الغرائب التى كانت مخالفة للشريعة.
[18.71]
{ فانطلقا } طالبين للسفينة { حتى إذا ركبا في السفينة خرقها } تثنية الضمير مع كونهم ثلاثة لكون يوشع (ع) تابعا وكونهما مقصودين بالحكاية { قال } موسى (ع) { أخرقتها لتغرق أهلها } استنكر فعله وانكر عليه نسيانا للشرط الذى كان بينهما لعظم ما رأى منه فانه كان ينكر الظلم ولا يتحمل مشاهدته { لقد جئت شيئا إمرا } اى منكرا عجيبا.
[18.72]
{ قال } الخضر (ع) تنبيها على خلفه وقلة صبره وتحمله وتذكيرا لوعده { ألم أقل } اسقط كلمة لك ههنا تخفيفا للعتاب اول مرة { إنك لن تستطيع معي صبرا } فتذكره موسى (ع) عهده بعدم السؤال وخلفه لوعده واعتذر عن خلفه وسأل القبول وعدم المفارقة و { قال }.
[18.73]
{ قال } سائلا متضرعا { لا تؤاخذني بما نسيت } لفظة ما موصولة او موصوفة او مصدرية على الاولين فالمعنى لا تؤاخذنى على العهد المنسى { ولا ترهقني من أمري عسرا } ولا تغشنى من متابعتى او نسيانى او مخالفتى عسرا لا يمكننى معه المتابعة، نقل عن النبى (ص) ان الاولى من موسى (ع) كانت نسيانا؛ وفيه تنبيه على طريق التربية وتعليم لكيفية السلوك لان السالك فى اول الامر لا بد له من تخريب سفينة البدن والنفس حتى يتخلص من سلطان ابليس ويأمن من غصبه.
[18.74]
{ فانطلقا } بعد الخروج من البحر فى البر { حتى إذا لقيا غلاما } يلعب بين الصبيان حسن الوجه كأنه قطعة قمر وفى اذنيه درتان فنظر اليه الخضر (ع) فأخذه من غير ترو واستكشاف حال { فقتله } فوثب موسى (ع) لما اخذته الغيرة لأنه رأى منه ما استنكره غاية الاستنكار ورأى منه ما يعده فى ظاهر الشريعة غاية الظلم وان صاحبه مستحق للقتل وكأنه اخذ البعض فى الله الاختيار منه فوثب مضطرا وأخذ الخضر (ع) وجلد به الارض ولذلك قال النبى (ص) كانت الاولى منه نسيانا { قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس } بغير قتل نفس ولا يستحق الصبى القتل فى شرع { لقد جئت شيئا نكرا } النكر ابلغ فى الاستنكار من الامر قال الخضر (ع) ان العقول لا تحكم على امر الله بل امر الله يحكم عليها فسلم لما ترى منى واصبر عليه فقد كنت علمت انك لن تستطيع معى صبرا؛ و { قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا قال }.
[18.75-76]
{ قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا قال } موسى (ع) بعد التنبيه بان غيرته لم تكن فى محلها وان فعله هذا لا عذر له وانه لا طاقة له على تحمل ما يرى من الخضر (ع) { إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا } اعترف بالتقصير واستحيى عن سؤال المصاحبة بعد ما وقع منه، نقل عن النبى (ص):
" رحم الله اخى موسى (ع) استحيى فقال ذلك، لو لبث مع صاحبه لا بصر أعجب العجائب "
، وروى (ص) ايضا
" وددنا أن موسى (ع) كان صبر حتى يقص علينا من خبرهما "
، وفيه تعليم وتنبيه على ان السالك بعد تخريب سفينة البدن ينبغى ان يقتل الغلام المتولد من آدم الروح وحواء النفس الذى يتولد فى اول تعلق الروح الانسانية بالنفس الحيوانية وهو الذى شأنه التدبير واستعمال الحيل فى الوصول الى المآرب الحيوانية والاهوية الكاسدة النفسانية ويعبر عنه تارة بالشيطنة، وتارة بالخيال، وتارة بالوهم لاستعمال الشيطان له واستعماله الخيال والوهم فى استنباط الحيل واستعمالها، ولو لم يقتل هذا الغلام لافسد فى الارض واهلك الحرث والنسل وافسد ابويه، ولو قتل ابدلهما الله ربهما غلام القلب الذى اذا بلغ اشده آتاه الله العلم والحكم واصلح فى الارض وكان أقرب رحما لابويه.
[18.77]
{ فانطلقا حتى إذآ أتيآ أهل قرية } هى الناصرة واليها تنسب النصارى وكانوا لا يضيفون احدا قط ولا يطعمون غريبا { استطعمآ أهلها فأبوا أن يضيفوهما } وكانا جائعين { فوجدا فيها جدارا يريد } يشرف { أن ينقض } ينشق { فأقامه } بوضع يده عليه وقوله: قم باذن الله، وفيه تعليم وتنبيه على انه يبنغى فى آخر السلوك اقامة جدار البدن واصلاحه حتى يستتم كمال النفس باصلاحه والتعبير فى الاول بالسفينة وفى الآخر بالجدار للاشعار بان البدن فى اول السلوك كالسفينة المملوة من كل متاع وفى آخره كالجدار المجردة عن متاع النفس { قال } موسى (ع) { لو شئت لاتخذت عليه أجرا } يعنى لم ينبغ ان تقيم الجدار حتى يطعمونا ويأوونا، وهذا السؤال وان لم يكن مثل سابقيه لكنه لما عهد مع الخضر (ع) ان لا يصاحبه ان سأله.
[18.78]
{ قال هذا فراق بيني وبينك } اى الفراق الذى كان معهودا بينى وبينك او فراق فى بينى وبينك { سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا } اى بارجاعه الى امر حق او بحقيقته.
[18.79]
{ أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر } ويتعيشون بها { فأردت أن أعيبها وكان ورآءهم ملك يأخذ كل سفينة } اى صالحة وقد قرئ كل سفينة صالحة { غصبا } وقد فسر وراءهم فى الخبر بامامهم، وان كان المراد خلفهم فالمعنى ان خلفهم ملكا يأخذ كل سفينة صلاحة غصبا، وهذه السفينة اذا رجعت اليه صالحة يأخذها غصبا، ونظم المعنى يقتضى تقديم قوله وكان وراءهم الى الآخر على قوله فأردت ان اعييها الى الآخر لان ارادة العيب مسببة عن اخذ الملك كل سفينة غصبا وعن كون ارباب تلك السفينة مساكين لكنه وسطه بين جزئى السبب اشعارا بان الاهتمام فى ارادة العيب بحفظ معيشة المساكين والترحم عليهم لا برفع الظلم ومنع الظالم، وبعبارة اخرى كان الجزء المهتم به فى تلك الارادة من جزئى السبب هو الحب فى الله لا البغض فى الله، وبعبارة اخرى كان داعيه الى تلك الارادة هو الرحمة لا الغضب.
[18.80-81]
{ وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينآ أن يرهقهما طغيانا وكفرا فأردنآ أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة } طهارة من الكفر والشرك والذنوب، او نموا فان غلام القلب اطهر وانمى من غلام الشيطنة { وأقرب رحما } رحمة وعطفا على والديه، او هو مأخوذ من الرحم بالكسر والسكون والرحم يفتح الراء وكسر الحاء بمعنى القرابة وهذا اوفق بالمعنى اذ القرب بالقرابة اقرب منه بالرحمة، روى انهما ابدلا بالغلام المقتول ابنة فولد منها سبعون نبيا.
[18.82]
{ وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين } وهما تأويلا قوتا القلب العلامة والعمالة فان القلب بعد تولده يحصل له قوتان باحديهما يتصرف فى كثرات عالمه الصغير على وفق حكم العقل، وبالاخرى يتوجه الى العقل ويأخذ ما هو صلاحه من العلوم والمكاشفات بحسب نفسه او بحسب عالمه، وبعباره اخرى يصير ذا جهتين؛ جهة الوحدة وجهة الكثرة ويتمهما عبارة عن عدم اتصالهما بابيهما العقل، او عدم اتصالهما الى ابيهما المرشد المعلم، وببقاء جدار البدن يستخرجان ما هو المكمون تحته من كنز الجامعية بين التنزيه والتشبيه والتسبيح والتحميد وهو مقام الجمع الذى هو قرة عيون السلاك وللاشارة الى جهة التأويل ورد اخبار مختلفة كثيرة فى تفسير الكنز بأنه لم يكن من ذهب ولا فضة، وفى بعضها كان: لا آله الا الله، محمد (ص) رسول الله؛ وبعده بعض كلمات النصح والوعظ، وفى بعضها بسم الله الرحمن الرحيم وبعده بعض الكلمات الناصحة، وفى بعضها الجمع بين التسمية والتهليل ورسالة محمد (ص) وبعده كلمات النصح، وفى بعضها الاقتصار على التهليل فقط وبعده الكلمات الناصحة، وبعد اعتبار جهة التأويل يرتفع الاختلاف عن الكل ويتحد المقصود من مختلفها { في المدينة } اى الناصرة { وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا } وصلاح ابيهما صار سببا لمراعاتهما واقامة جدارهما وحفظ كنزهما، فان الله ليحفظ ولد المؤمن الف سنة كما فى الخبر وان الغلامين كان بينهما وبين ابويهما سبعمائة سنة، وفى الخبر ان الله ليصلح بصلاح الرجل المؤمن من ولده وولد ولده ويحفظه فى دويرته ودويرات حوله فلا يزالون فى حفظ الله لكرامته على الله { فأراد ربك أن يبلغآ أشدهما } قوتهما قيل: هو ما بين ثمانى عشرة سنة الى ثلاثين وهو مفرد على بناء الجمع نادر النظير، او جمع لا واحد له من لفظه، او واحده شد بالكسر او شد بالفتح لكنهما غير مسموعين بهذا المعنى، ومعنى الجمع اوفق بالمقصود لانه اريد به قوة جميع القوى البدنية والنفسانية { ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته } اى ما رأيت من العجائب او ما رأيت من اقامة الجدار { عن أمري } ورأيى.
مراتب السلوك
اعلم، ان مقصود الخضر (ع) كان من اظهار تلك الغرائب ظاهرا واجرائها باطنا تعليم موسى (ع) طريق التكميل، وتكميله من جهة حاجته الى التعليم وان كان موسى (ع) من جهة الرسالة ومراقبة احكام الكثرة وحفظ مراتبها افضل واكمل من الخضر (ع) كما مر لكنه كان محتاجا الى تعليم الخضر (ع) طريق التكميل فى جهة الوحدة والسلوك الى الله، ولما كان السالك فى اول مراتب سلوكه وهو السير من الخلق الى الحق محتاجا الى خراب البدن واضمحلال القوى النفسانية حتى يتخلص من سلطان الشيطان وغصبه ويسلم للقوى العقلية التى هى فى اول الامر مساكين عاجزون عن اكتساب ما يحتاجون اليه اظهر عليه السلام تخريب السفينة تنبيها وتعليما وتكميلا، واسباب تخريب البدن وكسر قوى النفس غير محصور ولا ضبط لها ولا ميزان بل تكون اختيارية كانواع الرياضات والسياحات والعبادات، وتكون اضطرارية كانواع البلايا والامتحانات التى يوردها الله على السالك بحسب ما يقتضيه حكمته بل نقول: دخول السالك فى السلوك وقبول الشيخ اياه والتوبة على يده وتلقينه الذكر بشورطه اول كسر قوى النفس واول مراتب جهاده ومقاتلته مع قوى النفس واول قدرة الانسان على الجهاد والغلبة ويحصل له بامداد الشيخ الغلبة مرة بعد اخرى حتى يحصل له السلطنة والحكم، والسالك فى تلك المرتبة من السلوك كافر محض بالكفر الشهودى حيث لا يرى الله مجردا ولا فى مظاهره حالا او متحدا معها؛ والشيخ ينبغى ان يتنزل عن مقامه العالى الى هذا المقام ويخاطب السالك مطابقا لحاله مشعرا بكفره واستتار الحق عنه ولذلك قال الخضر (ع) فى اول الامر اما السفينة فكانت لمساكين يعملون فى البحر فأردت ان اعيبها، بنسبة الفعل اى نفسه استقلالا واظهارا لانانيته من غير اشارة الى شراكة او تسبيب من الله، ولما كان كل ما ينسبه السالك الى نفسه وكل ما يراه من انانيته نقصا وشرا وعيبا ابرز الفعل المنسوب الى انانيته بلفظ العيب تنبيها على ان السالك ينبغى ان لا يرى الا عيب فعله فى ذلك المقام وان كان خيرا فقال ان اعيبها ولم يقل ان استخلصها من الغصب او اسلمها لاربابها، ولا يرى السالك حينئذ الا طريق الاعتزال ويرى نفسه مختارة والحق معزولا.
فاذا انتهى سفره هذا وابتداء السفر الثانى وهو السير من الحق والخلق الى الحق وبعده من الحق الى الحق ينبغى ان يقتل ويمحو الشيطنة التى هى رئيس تمام القوى النفسانية والجنود الشيطانية حتى يتولد طفل القلب ويطهر بيت الصدر وينزل الاملاك فيه ويعمروا بيت القلب ويطهروه لدخول رب البيت فيه، وفى هذا السفر منازل كثيرة جدا بحسب تجليه تعالى بأسمائه على السالك مفردة او منضمة، وفى هذا السفر يظهر عليه جميع العقائد الباطلة وينحرف الى جميع المذاهب المختلفة من الثنوية والابليسية والوثنية والصابئية والجنية والملكية والغلو والنصب والاعتزال والجبر والتوسط بينهما والحلول والاتحاد والوحدة والاباحة والالحاد ونفى الحشر واثبات المعاد وانكار النبوة واثباتها بحسب تجلياته المختلفة باسمائه المختلفة المتضادة بحيث يرى كل هذه لو لم يكن عناية شيخ عليه حقه وجميع المذاهب نشأت من هذا السير من حيث انه لم يكن سلاكه تحت امر شيخ يربيه، ويظهر بطلان الباطل عليه؛ فانه قد يظهر عليه عالم النور والظلمة ويراهما متصرفين فى عالم الطبع فيحسب ان للعالم مبدئين النور والظلمة، وقد يرى فى العالمين حاكمين يتصرف فيهما وفى عالم الطبع فيحسب ان المبدء يزدان واهريمن، وقد يرى العالمين وحاكمهما مستقلين غير معلول احدهما للآخر فيظن انهما قديمان، وقد يرى عالم الظلمة وحاكمه معلولين للنور وحاكمه فيحسب ان احدهما قديم والآخر حادث، وقد يتجلى تعالى شأنه على بعض المظاهر كالاملاك والافلاك والفلكيات والعناصر والعنصريات والابالسة والجنة باسم الآلهة فيظن انه مستحق للعبادة وقد يتجلى ببعض اسمائه على السالك او على غيره بحيث يراه حالا فيه فيعتقد الحلول، وقد يعتقد فى هذا التجلى الجبر حين يرى الفعل منه تعالى جاريا عليه، وقد يتجلى كذلك بحيث يرتفع الاثنينية فيعتقد الاتحاد وقد يعتقد فى هذا التجلى التوسط بين الجبر والتفويض، وقد يتجلى عليه او على غيره بحيث لا يبقى شعور من السالك بغيره تعالى وان كان باقيا عليه بعد شيء من البشرية فيظهر منه حينئذ الشطحيات مثل: سبحانى ما أعظم شانى، وليس فى جبتى سوى الله، وانا الحق؛ وامثال ذلك، وقد يعتقد السالك الغلو فى كل من تلك التجليات الثلاثة، ولعل قوله تعالى:
فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم
[الأنفال:17] كان اشارة الى الثالث من تلك المقامات، لانه تعالى لم يشر الى بقاء نفسية لهم فى العبارة، وقد يتجلى باسم الواحد عليه وعلى ما سواه فيمحو المراتب والتعينات عن نظر السالك فيعتقد الوحدة ويتولد منه الاباحة والالحاد والزندقة وانكار الرسالة وانكار المبدء والمعاد وسقوط العبادات ولا يخلو السالك فى هذا السفر عن الشرك الوجودى ورؤية الانانية من نفسه مع شهود الحق مجردا او فى المظاهر، وايضا قلما ينفك عن الخشية وان كان قد زال عنه الخوف لانه جاوز السفر الاول؛ والخوف من لوازمه، وللاشارة الى هذا السفر والاشراك والخشية اللازمين فيه قال فخشينا تشريكا فى الانانية حيث تنزل الى هذا المقام مداراة مع موسى (ع) وموافقة له، والخشية وان لم يصح نسبتها الى الله تعالى منفردا لكن تشريكه تعالى فى الانانية مع كون نسبتها الى احدهما صحيح، وايضا الخشية حالة حاصلة عن الترحم والخوف، وبعبارة اخرى حالة ممتزجة من لذة الوصال والم الفراق والفوات، ونسبتها اليهما باعتبار جزئيها صحيحة ولرؤية الارادة من نفسه ومن الله قال فأردنا بالتشريك، ونهاية هذا السفر نهاية الفقر وبداية الغنى كما اشير اليه بقوله: الفقر اذا تم هو الله، وفى تلك الحالة ان بقى عليه شيء من بقايا نفسه وبقايا البشرية يظهر منه الشطحيات كما سبق، وبعد هذا السفر السفر بالحق فى الحق، وفى هذا السفر لا يبقى عين من السالك ولا اثر فلا يكون منه ومن سفره خبر، ولذا لم يظهر الخضر (ع) منه شيئا ولم يخبر عنه بشيء، وبعد هذا السفر السفر بالحق فى الخلق، وهو آخر مقامات السالكين ونهاية سير السائرين وبحسب السعة والضيق والتمكن والتلون فى تلك المقامات يتفاضل السلاك والاولياء والرسل (ع)، وهذا السفر هو البقاء فى فناء والبقاء بالله، وفقيه شهود جمال الوحدة فى مظاهر الكثرات، وفيه حفظ الوحدة فى عين لحاظ الكثرة، وحفظ المراتب وحدودها فى عين شهود الوحدة، وجمال الحق الاول، وفى هذا السفر لا يبقى الانانية الا الله الواحد القهار، ولا يرى السالك فعلا وصفة وحولا وقوة الا من الله وبالله فيقول عن شهود وتحقيق: لا اله الا الله، ولا حول ولا قوة الا بالله وهو الاول والآخر والظاهر والباطن، وهو بكل شيء عليم، وهو بكل شيء محيط، ولا مؤثر فى الوجود الا بالله، وفى هذا المقام صدر عن بعض الكاملين ما ظاهره وحدة الوجود الممنوعة مثل، سبحان من أظهر الاشياء وهو عينها، فانه بتجليه الفعلى عين كل ذي حقيقة وحقيقته فالمعنى وهو بفعله الذى هو المشية حقيقة كل ذي حقيقة، ومثل قول الشاعر بالفارسية:
غيرتش غير در جهان نكذاشت
زان سبب عين جعله اشيا شد
فان الغيرة من صفاته الفعلية وهى من اسماء المشية يعنى ان غيرته التى هى فعله صارت حقيقة كل ذيحقية ومثل: ليس فى الدار غيره ديار؛ ومثل قوله:
كه يكى هست وهيج نيست جزاو
وحده لا اله الا هو
وغير ذلك مما قالوه بالعربية والفارسية نثرا ونظما مما يوهم الوحدة الباطلة فانها كلها صحيحة كما اشير الى صحتها ان كان صدورها عن صاحب هذا المقام، وان كان صدورها عن صاحب السفر الثانى كانت من جملة الشطحيات كما سبق، ولعل قوله تعالى: وما رميت اذ رميت ولكن الله رمى باثبات نفسية للرسول (ص) ونفى الفعل عنه واثباته له كان اشارة الى هذا المقام. ولما حصل مقصوده (ع) من تعليم الخضر (ع) وانتهى سفره الى هذا السفر واستكمل سيره فى المراتب الممكنة للانسان ولم يبق مما يستحقه بحسب الاستعداد شيء، قال الخضر (ع): هذا فراق بينى وبينك، ولما لم يبق فى نظر شهوده الا الله وتجلى له باسمه الجامع على كل شيء وفيء ولم ير فعلا وحولا وقوة الا من الله تعالى تبرء الخضر (ع) حينئذ موافقا لحال موسى (ع) من انانيته ونسب الفعل مطابقا لشهود موسى (ع) الى الله وحده فقال فاراد بك ان يبلغا اشدهما وما فعلته عن أمرى، وفيما روى عن الصادق (ع) اشارة اجمالية الى جميع ما ذكر لانه قال فى قوله فأردت ان اعيبها فنسب الارادة فى هذا الفعل الى نفسه لعله ذكر التعييب لانه اراد ان يعيبها عند الملك اذا شاهدها فلا يغصب المساكين عليها واراد الله عز وجل صلاحهم بما امره به فى ذلك فذكر فى علة التفرد بالانانية التعييب هناك واشار (ع) فى الفقرة الثانيه الى الوجه الآخر الذى هو احتجاب الله عن نظره فى هذا المقام حيث قال فى قوله: فخشينا ان يرهقهما انما اشترك فى الانانية لانه خشى والله لا يخشى لانه لا يفوته شيء ولا يمتنع عليه أمر اراده وانما خشى الخضر (ع) من ان يحال بينه وما أمره به فلا يدرك ثواب الامضاء فيه ووقع فى نفسه ان الله جعله سببا لرحمة ابوى الغلام فعمل فيه وسط الامر من البشرية مثل ما كان عمل فى موسى (ع) لانه صار فى الوقت مخبرا وكليم الله موسى (ع) مخبرا ولم يكن ذلك باستحقاق للخضر (ع) الرتبة على موسى (ع) وهو افضل من الخضر (ع) بل كان لاستحقاق موسى (ع) للتبيين لان قوله (ع): لانه خشى والله لا يخشى: وان كان بظاهره لا يناسب الاشتراك فى الانانية لكنه بضميمة قوله ووقع فى نفسه ان الله جعله سببا لرحمة ابوى الغلام مع قوله (ع) فعمل فيه وسط الامر من البشرية يصير مناسبا للاشتراك فى الانانية، فان معناه ان الخشية بتمام اجزائها لا يصح نسبتها الى الله لكنها باعتبار جزءها الذى هو الرحمة يصح نسبتها اليه تعالى، وقوله فعمل فيه وسط الامر اشارة الى وسط حال الانسان من مشاهدة نفسه ومشاهدة الله، وكذا قوله: وقع فى نفسه ان الله جعله سببا لرحمة ابوى الغلام، يدل على مشاهدة الله وتسبيبه، وقوله: مثل ما كان عمل فى موسى (ع) يشير الى ان الخضر (ع) تصرف فى موسى (ع) ورفع درجته عن مقام الاحتجاب الى مقام شهود الله وشهود الواسطة، وقوله: لانه صار فى الوقت مخبرا، تعليل لتصرف الخضر (ع) فى موسى (ع) مع انه كان انقص منه؛ والمعنى ان الخضر (ع) صار فى وقت اتباع موسى (ع) مخبرا ومعلما لما لا علم لموسى (ع) به وموسى (ع) صار تابعا ومتعلما وتصرف الخضر (ع) كان من هذه الجهة، ولاينافى ذلك اكملية موسى (ع) من جهة اخرى ولذا قال: ولم يكن ذلك باستحقاق للخضر (ع) الرتبة على موسى (ع) والا فمحض المخبرية والمخبرية تقتضى الرتبة للمخبر على المخبر بوجه، وقال (ع) فى قوله: فأراد ربك فتبرء من الانانية فى آخر القصص ونسب الارادة كلها الى الله تعالى ذكره فى ذلك لانه لم يكن بقى شيء مما فعله فيخبر به بعد ويصير موسى (ع) به مخبرا ومصغيا الى كلامه تابعا له فتجرد من الانانية والارادة تجرد العبد المخلص ثم صار متنضلا مما اتاه من نسبة الانانية فى اول القصة ومن ادعاء الاشتراك فى ثانى القصة فقال رحمة من ربك وما فعلته عن أمرى فقوله (ع) لانه لم يكن بقى شيء مما فعله فيخبر به يعنى لم يكن بقى شيء مما فعله فيخبر به حتى يحتاج الى وساطته ويراه واسطة بل تجرد نظره الى الله واستغنى عن الواسطة وفى قوله ويصير موسى (ع) به مخبرا ومصغيا الى كلامه تابعا له، اشارة الى انه استغنى عن الشيخ والواسطة واستكمل فى جهة نقصه وتعلم ما يحتاج الى تعلمه { ذلك } المذكور من بيان حكمة كل مما رأيته { تأويل ما لم تسطع عليه صبرا } اى حقيقته وحكمته فان التأويل كثيرا ما يستعمل فيما يؤل اليه او ارجاع ما لم تسطع الى حقيقة صحيحة وحكمة مقتضية من مصدره وغايته، واسقط التاء من لم تسطع ههنا اشعارا بظهور نقصان طاقته عن الصبر عليه ولم يسقط التاء عما سبق من قوله لن تستطيع فى الموارد وقوله سأنبئك بتأويل ما لم تستطع لعدم ظهور نقصان الاستطاعة بعد على موسى (ع) بل كان مدعيا للاستطاعة كما روى عنه (ع) انه قال بل استطيع.
[18.83]
{ ويسألونك عن ذي القرنين } ورد فى سبب نزوله ما سبق فى سبب نزول قصة اصحاب الكهف، وورد انه سأله (ص) نفر من اليهود عن طائف طاف المشرق والمغرب.
اعلم، ان المسمى بذى القرنين كان اثنين اكبر واصغر وكلاهما ملكا فى الارض وان ذا القرنين الاكبر هو الذى كان عبدا صالحا نبيا او غير نبى وهو الذى طاف المشرق والمغرب وبنى سد يأجوج ومأجوج، وهو كان غلاما من اهل الروم وكان ابن عجوز فقيرة وهبه الله تعالى الملك والسلطنة، وورد انه سمى بذى القرنين لانه بعث فى قومه فدعاهم الى الله فضربوه على قرنه الايمن فاماته الله او غاب عنهم على اختلاف الروايات خمسمائة عام او مائة عام او مدة على اختلاف الروايات ايضا، ثم بعثه الله فدعا الى الله فضربوه على قرنه الايسر فاماته او غاب عنهم فى المدة المذكورة، ثم بعثه الله تعالى فملك المشرق والمغرب، وورد ايضا انه عوضه الله فى مكان الضربتين على رأسه قرنين اجوفين وجعل عز ملكه وآية نبوته فى قرنيه، ثم رفعه الله الى السماء الدنيا فكشط له عن الارض كلها جبالها وسهولها وفجاجها حتى ابصر ما بين المشرق والمغرب وآتاه الله من كل شيء سببا فعرف به الحق والباطل وايده فى قرنيه بكسف من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق، ثم اهبطه الى الارض واوحى اليه سر فى ناحية غربى الارض وشرقيها فقد طويت لك البلاد وذللت لك العباد فارهبتهم منك وذلك قول الله تعالى انا مكنا له فى الارض، وورد ايضا انه رأى فى المنام كأنه دنا من الشمس حتى اخذ بقرنيها فى شرقها وغربها فلما قص رؤياه على قومه وعرفهم سموه ذا القرنين فدعاهم الى الله فأسلموا، وذكر فى التواريخ انه لما طاف المشرق والمغرب سمى ذا القرنين. وقيل: انه لما كان كريم الطرفين ابا واما سمى ذا القرنين، وقيل: كان له ضفيرتان من طرفى رأسه ولذلك سمى ذا القرنين، وقيل: كانت صفحتا رأسه من صفر او من نحاس او من حديد او من ذهب ولذلك سمى ذا القرنين. وقد اختلف الاخبار فى نبوته وعدمها واسمه كان عبد الله بن الضحاك ولقبه كان عياشا، واختلاف الاخبار فى باب قرنيه ونبوته يشعر بالتأويل خصوصا ما ذكر فى الاخبار من قولهم (ع): وفيكم مثله مشيرين الى انفسهم؛ فانه كلما ذكر لشخص فى العالم الكبير فهو جار فيه فى نوعه، وكلما كان فى العالم الكبير شخصا او نوعا فهو جار فى العالم الصغير، وقد اختلف الاخبار والتواريخ فى زمان ظهوره فانه ذكر انه كان بعد زمان نوح (ع)، وذكر انه كان معاصرا لابراهيم (ع)، وذكر انه كان بعد عيسى (ع) { قل سأتلوا عليكم منه ذكرا } اى ما يتذكر به وهو قوله تعالى { إنا مكنا له في الأرض... }.
[18.84]
{ إنا مكنا له في الأرض } مشرقها ومغربها { وآتيناه من كل شيء سببا } وعلة من علله بها تمكن تمكنا تاما من الوصول اليه والتصرف فيه والتسلط عليه فان الاشياء الكونية كلها مسببات عن الموجودات العلوية من الاشباح المثالية والارواح المجردة ولكل بحسب المراتب الطولية علل واسباب عديدة بها يمكن الوصول اليه والتصرف فيه والتسلط عليه، وقد ورد انه رفع الى السماء فكشط له عن الارض وهو كناية عن اتصاله بالملكوت، وعالم الملكوت، وعالم الملكوت اسباب قريبة لما فى الملك فأعطى من كل شيء سببه وعلته ولذلك سهل عليه السير فى شرق الارض وغربها والتسلط على سهلها وجبلها.
[18.85]
من الاسباب التى اوتى يعنى ادرك من الملكوت سبب المغرب وعلة وجوده وتوسل بتلك العلة الى السير اليه.
[18.86]
{ حتى إذا بلغ مغرب الشمس } اى الجانب الذى يلى المغرب من الربع المسكون تنزيلا ومقام الطبع من عالم الكون والملكوت السفلى من العالم التى هى دار الشياطين والجنة ومقام الاشقياء والاشرار فان الكامل يتنزل تارة الى عالم الطبع والملكوت السفلى حتى يشاهد دقائقهما ويستجمع كمالاتهما ويصعد اخرى وقوله { وجدها تغرب في عين حمئة } ذات الطين الاسود، يشير الى التأويل؛ فان شمس الروح والعقل غروبهما فى عين الطبع الحمئة التى اختلط ماء الوجود فيها بحمأة المادة ولوازمها من الحدود والتعينات والاعدام فى العالم الصغير والكبير وفى عين الملكوت السفلى التى ماؤها اقل وحمأتها اكثر، واما غروب الشمس المحسوس فانه ليس الا بالتجاوز عن دائرة الافق، وما قيل فى بيانه من احتمال انه بلغ ساحل البحر المحيط فلم يكن فى مطمح نظره الا الماء قرآها تغرب فى الماء، لا يناسب التعبير بالغروب فى العين الحمئة بل يناسبه التعبير بالغروب فى الماء او فى البحر واما عالم الطبع وما تحته فيناسبه التعبير عنه بالعين الحمئة لاختفاء ماء الوجود تحت حمأة المادة ولوازمها فيه. وما روى عن سيدنا ومولانا امير المؤمنين (ع) من قوله فى عين حامية فى بحر دون المدنية التى مما يلى المغرب يعنى جابلقا، ناظر الى التأويل فان البحر الذى دون جابلقا هو عالم الطبع فان جالبلقا هو عالم المثال الهابط وهو المدنية التى تلى المغرب ودونه عالم الطبع ودون عالم الطبع عالم الجنة والشياطين المعبر عنه بالملكوت السفلى، ولفظ الحامية اما من الحمأة بمعنى الحمئة او من الحمى بمعنى الحارة وهكذا قوله (ع) لما انتهى مع الشمس الى العين الحامية وجدها تغرب فيها ومعها سبعون الف ملك يجرونها بسلاسل الحديد والكلاليب يجرونها فى قعر البحر فى قطر الارض الايمان كما تجرى السفينة على ظهر الماء، ناظر الى التأويل، والمراد بقطر الارض الايمن عالم الطبع فانه ايمن بالنسبة الى عالم الجنة، او المراد به عالم المثال العلوى فانه كثيرا ما يعبر عنه بالارض { ووجد عندها } عند العين الحمئة { قوما } نكر القوم ولم يصفه بوصف كما فى قرينتيه تحقيرا لهم كأنهم لغاية حقارتهم ونكارتهم لا يمكن توصيفهم وتعيينهم بوجه { قلنا يذا القرنين } هذا الخطاب يدل على نبوته اذ شأن الانبياء (ع) ان يخاطبوا بخطاب الله الا ان يقال: ان الله خاطبه على لسان نبى وقته { إمآ أن تعذب } بسبب كفرهم وبعدهم بالقتل والاسر والنهب وسائر انواع التعذيب { وإمآ أن تتخذ فيهم حسنا } بتعليم الشرائع واصلاح المفاسد ووضع السياسات الشرعية فيهم والعفو عن مسيئهم، وان مع صلته مبتدء والخبر محذوف اى اما تعذيبك كائن فيهم او اتخاذك الحسن فيهم.
[18.87]
{ قال } بعد تخيير الله تعالى اياه مجيبا له بما فيه خروج عن الظلم وعمل بالعدل كما هو شأن الانبياء (ع) { أما من ظلم } على نفسه بالاصرار على كفره بعد دعوته او على الغير بعدم قبول السياسات والخروج من تحت الحدود الالهية { فسوف نعذبه } بما يليق بحاله من القتل وقطع الاطراف والاسر والنهب والاستعباد { ثم يرد إلى ربه } بعد الموت { فيعذبه عذابا نكرا } منكرا لم يعهد مثله.
[18.88]
{ وأما من آمن } بقبول الدعوة وترك ظلم نفسه { وعمل صالحا } بأخذ الحدود والاحكام الشرعية وعدم التجاوز عنها بعد الايمان حتى لا يصير ظالما على نفسه ولا على غيره { فله جزآء الحسنى } من ربه، قرئ جزاء بالنصب والتنوين على ان يكون الحسنى مبتدء وله خبرا له، وجزاء حالا او تميزا او مفعولا مطلقا لفعل محذوف، وقرئ جزاء مرفوعا منونا على ان يكون مبتدء والحسنى بدله، وقرئ جزاء الحسنى بالرفع والاضافة واعرابه ظاهر، وقرئ جزاء الحسنى بالنصب من غير تنوين على ان يكون سقوط التنوين بالتقاء الساكنين لا بالاضافة ويكون مثل صورة التنوين بحسب الاعراب، او على ان يكون سقوط التنوين بالاضافة ويكون مفعولا مطلقا للخبر المحذوف اى له جزاء جزاء الحسنى وقدم تعذيبه فى القرينة الاولى على تعذيب الله لكون تعذيب الله مختصا بالآخرة كما صرح به وكون مرتبته بعد مرتبة تعذيبه فى الدنيا، وقدم جزاء الرب فى القرينة الثانية على جزاء نفسه للاشعار بعموم جزاء الرب للدنيا والآخرة، ولو أخر لاوهم اختصاصه بالآخرة مثل قرينته { وسنقول له من أمرنا } فى الخراج وفى وضع السياسات { يسرا } اى امرا سهلا يسهل تحمله.
[18.89]
وعلة من علل جانب المشرق من الربع المسكون او من العالم تمكن منها من الوصول اليه والتسلط على اهله والتصرف فيهم.
[18.90]
{ حتى إذا بلغ مطلع الشمس } من الربع المسكون او من العالم { وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا } قد ورد فى تنزيله انهم لم يعلموا صنعة البيوت ولا صنعة الثياب، وعن على (ع) انه ورد على قوم قد احرقتهم الشمس وغيرت اجسادهم والوانهم حتى صيرتهم كالظلمة، لكن الآية تشعر بالتأويل لانه قال حتى اذا بلغ مطلع الشمس ولم يقل حتى اذا بلغ المشرق فان المشرق وان كان بمعنى المطلع لغة لكنه فى العرف اختص باول بلاد يشرق الشمس عليها اولا من الربع المسكون، او ببلاد واقعة فى طرف المشرق من الربع المسكون بخلاف مطلع الشمس فانه على معناه اللغوى وبمعناه اللغوى كل اجزاء الارض مطلع ومغرب باعتبارين، وكذا قوله: وجدها تطلع على قوم دون ان يقول وجد فيه قوما او عنده قوما، فان فيه اشعارا بان البالغ مطلع الشمس يكون نظره الى الشمس وطلوعها بخلاف البالغ مغرب الشمس فانه وان كان ناظرا الى الشمس وغروبها لكنه لتراكم الكثرات واختفاء ضوء الشمس يقع نظره على الكثرات استقلالا، ولعله أراد بالقوم المجذوبين الفانين فى الله الذين لم يبق عليهم من التعينات الكونية التى هى بمنزلة اللباس والساتر من اشعة الشمس الحقيقية شي، وللاشارة الى كون بقائهم وتعينهم ووجودهم ببقاء الله وتعينه ووجوده قال: لم نجعل لهم من دونها سترا كما ورد فى القدسى،
" ان اوليائى تحت قبابى لا يعرفهم غيرى ".
[18.91]
{ كذلك } صفة لستر اى سترا مثل ذلك الستر يعنى لم نجعل لهم قبل ذلك الستر، او حال من الشمس اى وجدها حالكونها مثل ذلك، او تطلع حالكونها مثل ذلك المذكور ممن عند الشمس بان لم نجعل لها من دونها سترا من غيم التعينات والحدود وغبرة الاهواء والكثرات، او حال من فاعل وجدها اى حالكون ذى القرنين كذلك اى مثل من كان عند الشمس غير مستور بستر غير الشمس، او خبر مبتدء محذوف جوابا لسؤال مقدر عن حال ذى القرنين، او عن حال الشمس، او عن حال القوم على سبيل الاعجاب كأنه قيل: على سبيل الاستعجاب والاستغراب؛ الم يكن لهم ستر غير الشمس؟ - فأجاب تأكيدا بقوله: حالهم كذلك، او التقدير: امره كما ذكر { وقد أحطنا بما لديه خبرا } علما، يعنى ان ذا القرنين ومن عنده حين البلوغ الى مطلع الشمس واحوالهم ومالهم من الاموال فى العالم الصغير والكبير وان كانوا مختفين عن اهل العالم غير معلومين لهم لغاية البعد هذا بحسب التنزيل ولفنائهم عن افعالهم واوصافهم وذواتهم بحسب التأويل لكنهم ملعومون لنا باقون فى علمنا لم يعزبوا عن علمنا والجملة حالية او مستأنفة.
[18.92]
موصلا الى ما بين مطلع الشمس ومغربها.
[18.93]
{ حتى إذا بلغ بين السدين } اى الجبلين الذين بنى بينهما سدا، سماهما باسم السد مجازا بعلاقة المجاورة، او سماهما سدين لكونهما حاجزين من العبور { وجد من دونهما } لا من خلفهما { قوما لا يكادون يفقهون قولا } لبعدهم عن ارباب اللغات المعروفة وقلة فطانتهم بحيث لا يفقهون المقصود الاخروى من الكلام لعدم توجههم الى الآخرة وعدم سلوكهم اليها، بل علومهم كانت محصورة على عمارة الدنيا لكنهم كانوا مستعدين للتفطن والاصلاح ملقين السمع للتسليم والانقياد ولذا لم يقل تعالى: اما ان تعذب او تتخذ فيهم حسنا وقالوا تسليما هل نجعل لك خرجا.
[18.94]
{ قالوا يذا القرنين إن يأجوج ومأجوج } هما بحسب التنزيل قبيلتان من ولد يافث بن نوح (ع) كما قيل: يأجوج من الترك ومأجوج من الجيل، وروى ان جميع الترك والسقالب ويأجوج ومأجوج والصين من يافث بن نوح (ع) حيث كانوا، واما بحسب التأويل فالمراد بيأجوج ومأجوج الشياطين والجنة، او صنفان منهم فى العالم الكبير وما تولد منهما من القوى والجنود فى العالم الصغير وهما خلف البرزخ فى العالم الكبير وخلف السد الذى يبنيه خلفاء الله بالتلقين والتعليم فى العالم الصغير، واشتقاقهما من اج اذا اسرع، او من اج النار اذا اشتعل النار، وهو يشعر بالتأويل فان الشياطين والجنة خلقوا من النار وهم مسرعون فى الفساد، وعلى هذا كان منع صرفهما للعلمية والتأنيث وان كانا عجميين فللعجمة والعلمية، وما ورد فى الاخبار من بيان حالهما وجثتهما وكيفية نقبهما للسد وخروجهما من خلف السد واكلهما الناس وشربهما للانهار المشرقية والبحيرة الطبرية وكثرتهما وطول بقائهما وكثرة ما تناسلوا تماما يدل على التأويل، واما سد يأجوج ومأجوج فى وجه الارض فلم ينقل احد من المورخين على التحقيق كيف هو؟ واين هو؟ وما حال يأجوج ومأجوج؟ وما حال من دون السد؟ ولعله غار فى الماء او غاب عن الانظار حتى انمحى خبره عن الاخبار واثره عن الآثار والا لما انمحى خبره؛ وما ذكر من التواريخ اخبار تقريبى وذكر تخمينى { مفسدون في الأرض } يعنى فى ارضنا بالقتل والنهب. وورد انهم كانوا يأكلون الناس وكانوا يرعون فى الزروع والثمار ويأكلون المأكولات ويحملون غير المأكولات { فهل نجعل لك خرجا } نؤديه اليك التمسوا منه قبول الخراج { على أن تجعل بيننا وبينهم سدا } يمنعهم عن الخروج علينا ولعله كان خروجهم من طريق واحد لا يمكنهم الخروج من غيره كما اشعر به قوله بين السدين.
[18.95]
{ قال } تيسيرا عليهم وترحما { ما مكني فيه ربي خير } مما تجعلون لى من الخراج فلا حاجة لى الى الخراج { فأعينوني بقوة } يعنى لا حاجة لى الى اموالكم لكن امدونى بقوتكم ومقدوركم من العملة والآلات وما يحتاج اليه بناء السد { أجعل بينكم وبينهم ردما } وهو اعظم من السد اجابهم باعظم من مسؤلهم.
[18.96]
{ آتوني زبر الحديد } الزبرة القطعة العظيمة والجملة بدل تفصيلى من قوله اعينونى { حتى إذا ساوى } يعنى فآتوه زبر الحديد حتى اذا ساوى ذو القرنين او الحديد { بين الصدفين } قرئ الصدفين بالتحريك وبضمتين وبضم الاول وسكون الدال والمقصود منهما جانبا الجبلين { قال } للعملة { انفخوا } فى المنافيخ { حتى إذا جعله نارا } كالنار باحمائه { قال آتوني أفرغ عليه قطرا } قطرا متنازع فيه لكلا الفعلين، والقطر النحاس روى عن مولانا ومقتدانا امير المؤمنين (ع) انه قال: فاحتفروا له جبل حديد فقلعوا له امثال اللبن فطرح بعضه على بعض فيما بين الصدفين، وكان ذو القرنين هو اول من بنى ردما على وجه الارض ثم جعل عليه الحطب والهب فيه النار ووضع عليه المنافيخ فنفخوا عليه قال فلما ذاب قال آتونى بقطر فاحتفرو له جبلا من مس فطرحوه على الحديد فذاب معه واختلط به.
[18.97]
{ فما اسطاعوا } بحذف تاء الاستفعال اشعارا بنفى القدرة الضعيفة فضلا عن القوية { أن يظهروه } لملاسته وغاية ارتفاعه، ولعلهم كانوا كالبهائم لم يتفطنوا صنعة الدرج او جمع التراب خلف السد بحيث يستوى التراب مع السد فانهم مع كثرتهم لو تفطنوا به سهل عليهم ذلك وكان الجبلان محيطين بهم من اطرافهم او منتهيين الى البحر بحيث لا يمكنهم العبور من نواحيهما وكان ارتفاع الجبلين كالسد فى الملاسة والارتفاع من غير سفح ولم يعلموا صنعة النقب او لا يمكنهم لان ذا القرنين حضر الارض حتى بلغ الماء فبنى السد { وما استطاعوا له نقبا } لصلابته.
[18.98]
{ قال } ذو القرنين { هذا } السد او الاقتدار على تسويته { رحمة من ربي فإذا جآء وعد ربي } بقيام الساعة او بخراب الدنيا، وان كان المراد بوعد الرب قيام الساعة فالمعنى اذا قرب مجيء وعد ربى { جعله دكآء } مدكوكا مسوى بالارض، وقرئ دكاء بالمد { وكان وعد ربي حقا } لا تخلف فيه، نقل انه اذا كان قبل يوم القيامة فى آخر الزمان انهدم ذلك السد وخرج يأجوج ومأجوج الى الدنيا وأكلوا الناس وهو قوله حتى اذا افتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، وعن الصادق (ع) ليس منهم رجل يموت حتى يولد له من صلبه الف ولد ذكر ثم قال: هم اكثر خلق خلقوا بعد الملائكة، وعن النبى (ص) انه عد من الآيات التى تكون قبل الساعة خروج يأجوج ومأجوج،
" وعنه (ص) انه سئل عن يأجوج ومأجوج فقال: يأجوج امة ومأجوج امة، وكل امة اربعمائة امة؛ لا يموت الرجل منهم حتى ينظر الى الف ذكر من صلبه كل قد حمل السلاح، قيل: يا رسول الله (ص) صفهم لنا، قال: هم ثلاثة اصناف؛ صنف منهم امثال الارز قيل: يا رسول الله (ص) وما الارز؟ - قال: شجر بالشام طويل، وصنف منهم طولهم وعرضهم سواء، وهؤلاء الذين لا يقوم لهم جبل ولا حديد، وصنف منهم يفترش احدى اذنيه ويلتحف بالاخرى ولا يمرون بفيل ولا وحش ولا جمل ولا خنزير الا اكلوه، مقدمتهم بالشام وساقتهم بخراسان، يشربون انهار المشرق وبحيرة الطبرية "
، وورد ايضا انهم يدأبون فى حفر السد نهارهم حتى اذا امسوا وكانوا يبصرون شعاع الشمس قالوا: نرجع غدا ونفتحه ولا يستثنون، فيعودون من الغد وقد استوى كما كان حتى اذا جاء وعد الله قالوا: غدا نفتح ونخرج ان شاء الله فيعودون اليه وهو كيهئته حين تركوه فيحرفونه فيخرجون على الناس فيشربون المياه ويتحصن الناس فى حصونهم منهم فيرمون سهامهم الى السماء فترجع وفيها كهيئة الدماء فيقولون: قد قهرنا اهل الارض وعلونا أهل السماء، فيبعث الله عليهم بققا فى اقفائهم فتدخل فى اذانهم فيهلكون بها، وعن الصادق (ع) فى قوله عز وجل اجعل بينكم وبينهم ردما قال التقية فما اسطاعوا ان يظهروه وما استطاعوا له نقبا، قال اذا عملت بالتقية لم يقدروا لك على حيلة وهو الحصن الحصين وصار بينك وبين اعداء الله سدا لا يستطيعون له نقبا فاذا جاء وعد ربى جعله دكا قال: رفع التقية عند الكشف فانتقم من اعداء الله، وهذه الاخبار كما ترى على التأويل ادل منها على التنزيل خصوصا الخبر الاخير فانه صريح فى التأويل.
[18.99]
{ وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض } يعنى يوم اتمام السد خلف السد يموجون يختلطون لا يقدرون على الخروج او يوم دك السد والخروج يموجون على وجه الارض لاسراعهم الى القتل والنهب او يوم القيامة كما نسب الى مولانا امير المؤمنين (ع)، والتأدية بالماضى على الاول ظاهر وعلى الثانيين لتحقق وقوعه او لوقوعه بالنسبة الى محمد (ص) { ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا } اى يأجوج ومأجوج ومن دون السد او يأجوج ومأجوج فقط.
[18.100-101]
{ وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا الذين كانت أعينهم في غطآء عن ذكري } اى عن تذكرى حين رؤية المصنوعات التى يتذكر بها.
اعلم، ان الذكر ههنا بمعنى ما يتذكر به وبهذا المعنى جملة المصنوعات ذكر لله وبحسب اختلاف التذكر بها يختلف المصنوعات فى اطلاق الذكر عليها قوة وضعفا ولذا سمى بعضها ذكرا دون بعض كالقرآن والرسول (ص) والامام (ع)، ولفظ اللسان وذكر الجنان والسكينة القلبية والصلاة، والمقصود ان الكافرين هم الذين كانت اعينهم القلبية فى غطاء من الاهواء والآمال وسائر صفات النفس عما يتذكر به الله من حيث انه ذكر لله وان كانت اعينهم الظاهرة مشاهدة للمصنوعات كالقرآن والرسول (ص) والامام (ع) مثلا، ولما كان على (ع) بعلويتيه حقيقة ذكر الله تعالى فسروه بعلى (ع) وولايته؛ فعن الرضا (ع) ان غطاء العين لا يمنع من الذكر والذكر لا يرى بالعين ولكن الله عز وجل شبه الكافرين بولاية على (ع) بن ابى طالب بالعميان لانهم كانوا يستثقلون قول النبى (ص) فيه ولا يستطيعون له سمعا، وعن الصادق (ع) فى هذه الآية يعنى بالذكر ولاية امير المؤمنين (ع) قال: كانوا لا يستطيعون اذا ذكر على (ع) عندهم ان يسمعوا ذكره لشدة بغض له (ع) وعداوة منهم له (ع) ولاهل بيته (ع) { وكانوا لا يستطيعون سمعا } اى لا يقدرون على التقليد والانقياد، والمقصود ان الكفار ليس لهم قلب حتى يمكنهم التحقيق به والشهود لعلى (ع) من حيث كونه ذكرا ولا يلقون السمع والانقياد حتى يكونوا من اهل التسليم والسلامة كما اشار الى المقامين بقوله تعالى: لمن كان له قلب او القى السمع وهو شهيد.
[18.102]
{ أفحسب الذين كفروا } بولاية على (ع) { أن يتخذوا عبادي من دوني } من دون اذنى { أوليآء } او ان يتخذوا عبادى حالكونهم من دونى اى مغايرين لى اولياء يعنى افحسبوا ان يتخذوا معاوية وليا من دون على (ع) او من دون اذنى او مغايرين لى غير متصلين بى هكذا فسرت الآية فى الاخبار ولا ينافى ذلك تعميم الآية فى كل كافر وفى كل متخذ وليا او معبودا من دون اذن من الله فى ولايته او فى توليه { إنآ أعتدنا جهنم للكافرين } بولاية على (ع) { نزلا } منزلا او مهيأ لهم تشريفا فان النزل ما يتهيؤ للضيف النازل تشريفا له.
[18.103]
{ قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا } خسران الرجل ضلاله، وخسران التجارة المبايعة بنقصان البضاعة او الغبن فى المعاملة، وخسران العمل ضياعه وبطلانه بلا ثمر، فالخاسر العمل من لا يترتب على عمله فائدته المقصودة منه ولا يبقى من عمله اثر ينفعه، والاخسر من كان يترقب بعمله خيرا كثيرا ويتعب نفسه فيه ثم لم يترتب على عمله مأموله او ترتب عليه ضد مأموله.
اعلم، ان الانسان من حيث مقام نفسه واقع بين العالمين قابل لتصرف الجن والشياطين فيه ولتصرف الملائكة والارواح الطيبة، وكلما يفعله فى هذا المقام يكون اما بحكومة حكام الله او بحكومة حكام الشيطان لانه فى هذا المقام محكوم صرف لا حكومة له فى نفسه ولا فى غيره ولذا فسر قوله تعالى :
ومن لم يحكم بمآ أنزل الله
[المائدة:44] بمن حكم بغير ما انزل الله لانه لا يكون خاليا عن حكم ما البتة، واذا لم يحكم بما انزل الله يكون حاكما فى حكم ما بغير ما انزل الله، وكلما يفعله بحكومة الشيطان يكون ضائعا خاسرا لكنه اذا تنبه بان فعله بحكومة الشيطان وانزجر من فعله ولام نفسه او تردد فى ان فعله من حكومة الله او حكومة الشيطان او كان غافلا عن الحكومتين فى فعله كان خاسرا ولم يكن اخسر عملا، لانه لم يبطل استعداده لمراتب الطاف الله من الغفران والعفو والصفح والتكفير وتبديل السيئات حسنات، واذا لم يتنبه بذلك بل اعتقد ان فعله بحكومة الله وان له عليه اجرا يكون اخسر، لانه ضل عمله وهو يحسب ان عمله مدخر له وابطل بذلك استعداده لتدارك الطاف الله بجهله المركب الذى عده علماء الاخلاق من الداء الذى لا دواء له، وقد فسر الاخسرين فى الآية باهل الكتاب وبكل من ابتداع رأيا وهو يرى انه حسن، وباهل الشبهات والاهواء من اهل القلبة وباهل البدع منهم وباهل حروراء، ولا ينافى ذلك تعميم الآية لكل من يفعل بحكومة الشيطان وهو يرى انه حسن بل يستفاد التعميم من اختلاف التفسير وللاشارة الى التعميم فسره بقوله { الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا.. }.
[18.104]
{ الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا } فى الحياة الدنيا ظرف لسعيهم او لضل لكليهما على سبيل التنازع، ولما كان كلما يفعله الانسان بحكومة الشيطان متوجها الى الدنيا وضائعا فيها وان كان الشيطان يظهر فى بادى الامر على الفاعل وجهة اخروية صح تعليق الظرف بكل من السعى والضلال { وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا } وذلك الحسبان جهل مركب وخسران فوق كل خسران لا يمكن تداركه كما مر.
[18.105]
{ أولئك الذين كفروا بآيات ربهم } الاتيان باسم الاشارة البعيدة لتفضيح حالهم ولاحضارهم بما وصفوا به، وتعريف المسند لافادة الحصر والمراد بالآيات الاوصياء (ع) بل المراد بالكفر بالآيات الكفر بعلى (ع) فان الكفر به كفر بتمام الآيات وقد فسر فى الاخبار بذلك { ولقائه } قد سبق مرارا انه ان كان المراد بالرب رب الارباب فالمراد باللقاء لقاء حسابه او حسابه، وان كان المراد بالرب الرب المضاف فالمراد باللقاء لقاء وجه الرب لكن وجهه الملكوتى الذى يسمونه فى الطريق بالفكر والحضور والسكينة { فحبطت أعمالهم } التى عملوها محتسبين ان لهم عليها اجرا { فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا } يعنى لانفسهم قدرا وزنة،
" روى عن النبى (ص) انه ليأتى الرجل السمين يوم القيامة لا يزن جناح بعوضة "
، او المعنى لا نقيم لاعمالهم يوم القيامة ميزانا لانه لا يبقى عمل خير لهم يوزن.
[18.106]
{ ذلك جزآؤهم جهنم } ذلك مبتدء او خبر او مفعول لمحذوف، وجزاؤهم جهنم جملة مستأنفة، او ذلك مبتدء اشارة الى الحسبان والحبط، جزاؤهم جهنم خبره والعائد محذوف اى ذلك الحسبان جزاؤهم به جهنم، او ذلك مبتدء وجزاؤهم خبره، وجهنم بدل من ذلك نحو بدل الاشتمال اى ذلك وعدم القدر جزاؤهم بل جهنم على ان يكون فيه معنى الاضراب والترقى، او ذلك مبتدء وجزاؤهم بدله وجهنم خبره { بما كفروا } اى كفروا بآياتى بقرينة ما بعده { واتخذوا آياتي ورسلي هزوا } المراد بالآيات الاوصياء (ع) كما ورد عنهم والمراد بالكفر الكفر بهم وقوله حبطت اشارة الى خسران العمل وجزاؤهم جهنم اشارة الى اخسريته لترتب ضد مأمولهم عليه.
[18.107]
{ إن الذين آمنوا } بالبيعة العامة النبوية وقبول الدعوة الظاهرة { وعملوا الصالحات } بالبيعة الخاصة الولوية وقبول الدعوة الباطنة او آمنوا بالبيعة الخاصة وعملوا الصالحات طبق ما شرط عليهم فى البيعة الخاصة { كانت لهم جنات الفردوس نزلا } والفردوس اعلى درجات الجنان وورد ان هذه نزلت فى ابى ذر (ره) والمقداد (ره) وسلمان الفارسى (ره) وعمار بن ياسر (ره) جعل الله عز وجل لهم جنات الفردوس نزلا اى مأوى ومنزلا، والنزل المنزل وما يهيأ للضيف ان ينزل عليه تشريفا.
[18.108]
حيث لا درجة اعلى منها يرغبون فى اعلى منها.
[18.109]
{ قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي } الآية جارية بحسب الظاهر على طريق المخاطبات العرفية حين المبالغة فى امر من وضع قضايا فرضية وتعليق الحكم عليها يعنى ان كلمات الرب من الكثرة وعدم النهاية بمرتبة لو فرض ان جميع بحار الارض او جنس بحار الارض كان مدادا لها لما وفى بها مثل قوله تعالى:
ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله
[لقمان:27]، لكن لما كانت مفروضات الله تعالى شأنه مبتنية على حقائق عينية بحسب الواقع وان كانت تترائى فرضية بحسب الانظار الحسية، فانه لا مجازفة ولا اغراق فى كلمات الله وكلمات خلفائه كان المراد بالبحر هو البحر الفاعلى الذى هو المشية وقد فسرت فى قوله تعالى ن، والقلم بهذا البحر، ويكون المراد حينئذ بسبعة ابحر المراتب السبع الفاعلية التى كل بمنزلة المداد بالنسبة الى ما بعده وهى الملائكة المهيمون المقربون والصافات صفا والمدبرات امرا والنفس الانسانية والحيوانية والنباتية والطبع الجمادية، او المراد بسبعة ابحر الا بحر القابليته من مادة الكل والجسم المطلق والعنصر والجماد والنبات والحيوان والانسان بحسب بشريته فان كلا بجهته القابلية مادة ومداد لما فوقه، او المراد بالبحر البحر القابلى الذى هو مادة المواد وهيولى الهيوليات، والمراد بسبعة ابحر الابحر القابليات الستة المذكورة بجعل بحر الانسان باعتبار نفسه وعقله بحرين، او المراد بسبعة ابحر البحار السبعة الفاعليات وكل ذلك من سعة وجوه القرآن وصحة حمله على الكل { ولو جئنا بمثله مددا } قرئ بكسر الميم وفتحه من المداد او المدد، والمراد بالمثل ان كان المراد بالبحر الفاعلية المطلقة القابلية المطلقة، او القابلية المطلقة فالمراد الفاعلية المطلقة، وان كان المراد بالبحر المشية والفاعلية الاولى فالمثل القابلية الاولى او القابلية الاولى فالفاعلية الاولى، ولما اوهم امره تعالى له (ص) بان يخبر القوم بان كلمات الله غير متناهية انه احاط بها ولو اجمالا وليست تلك الاحاطة بقوة بشرية بل بشأن آلهى وقوة غير بشرية امره تعالى شأنه ان يتنزل الى مقامه البشرى ولا يرفع شأنه عمن ارسل اليهم ليتوهموا المجانسة ويأنسوا به فقال { قل إنمآ أنا بشر مثلكم.. }.
[18.110]
{ قل إنمآ أنا بشر مثلكم } بطريق الحصر يعنى لا شأن لى فى هذا المقام الا البشرية والمثلية معكم لكن خصنى الله تعالى شأنه بما لم يخصكم به فانه { يوحى إلي أنمآ إلهكم إله واحد } يعنى يوحى الى بخلع الانداد وترك الاشراك فى جميع مراتب الاشراك، فان توحيد الآلهة يقتضى توحيد الواجب وتوحيد الوجود وهما يقتضيان التوحيد بحسب العلم والحال والقال وهو يقتضى توحيد العبادة والطاعة ولذا عطف توحيد العبادة عليه على سبيل التفريع { فمن كان يرجوا لقآء ربه } ان كان المراد بالرب رب الارباب فالمراد باللقاء كما فى الاخبار لقاء حسابه وثوابه وحسابه، وان كان المراد به الرب المضاف وهو الرب فى الولاية فالمراد باللقاء لقاء ملكوته ثم لقاء جبروته، واما لقاء ملكه فانه ليس لقاء حقيقة لان ما فى العالم من الاجسام، والجمسانيات كلها فى البعد والغيبة والانفصال، بل الجسم الواحد المتصل كل اجزائه فى غيبة بعضها عن بعض وعن الكل ولا شهود ولا لقاء حقيقة لشيء من اجزاء الاجسام بخلاف الملكوت فان اجزائها كالمرائى يتراءى كل فى كل ويتصل كل بكل نحو اتصال الصورة بالمرآة بل اتصالا فوقه لا يوصف بالكنه، ورجاء الشيء يقتضى التوجه اليه وانتظار وصوله وجمع البال لحصوله { فليعمل عملا صالحا } يعنى فليعمل ما يصدق عليه انه عمل صالح جليلا كان او يسيرا وقد مضى ان صلاح العمل باتصاله بالولاية وان غير المتصل بالولاية غير صالح كائنا ما كان، والمتصل صالح كائنا ما كان؛ ولذا ورد عنهم (ع): اذا عرفت فاعمل ما شئت، يعنى من قليل الخير وكثيره، والسر فيه ان من اتصل بولى الامر وتمسك بالعروة الوثقى وابتغى الوسيلة الى الله كفاه ظهور ذلك الاتصال بشيء ما من اعمال جوارحه ويكفيه ذلك الاتصال فى النجاة بل فى الارتقاء على مراقى الآخرة، لكن لا ينبغى له عدم المبالاة بالاعمال الشرعية والسنن النبوية فانها حافظة لذلك الاتصال ومبقية لتلك الوسيلة ولولا الاعمال الشرعية خيف عليه قطع الاتصال والوسيلة وفى قطعه هلاكته الابدية، او المعنى فليعمل عملا صالحا عظيما لا يمكن ان يوصف، على ان يكون التنوين للتفخيم وذلك العمل العظيم الصالح ليس الا ما هو اصل الصلاح وصلاح كل ذى صلاح وهو الولاية العملية التى هى البيعة مع صاحب الولاية وقبول الشروط والمواثيق عنه واخذ بذر الايمان منه وهو الذى يدخل فى القلب { ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } الاشراك فى العبادة اما بان يشرك فى نفس العمل كالاشراك فى الوضوء والغسل بان يصب الغير الماء على الاعضاء، وكالاشراك فى الصلاة بالاتكال فى القيام مثلا على جدار او خشب او انسان، او بان يشرك فى باعث العمل فان الباعث على العبادة ينبغى ان يكن احد امور ثلاثة؛ امر الآمر، او محبة المعبود والعشق له، او طلب لقائه الذى هو غاية العبادة ونتيجة المحبة، فاذا اشرك فى شيء من الثلاثة كان مشركا فى العبادة، او بان يشرك فى غاية العبادة فان غاية العبادة يبنغى ان تكون ذات المعبود ولقاءه او نفس المحبة الباعثة، او امتثال الامر بل فناء العباد وبقاء المعبود فاذا اشرك فى ذلك غيره مثل الجنان ونعيمها، او اتقاء النيران وحميمها، او محمدة من الناس وثناء، او صيت فى الناس وشهرة، او محبة فى قلوب الناس، او حفظ مال وعرض ودم فى الناس، او امضاء عادة فان ترك العادة يوذى النفس، او خروج من عهدة التكليف وثقله؛ وغير ذلك مما لا يحصى من مخفيات النفس بل اذا كان المقصود طلب رضاء الرب او القرب منه بان يكون الانسان مرضيا او مقربا كان مشركا فى العبادة، واما الاشراك فى ذات المعبود كاشراك الوثينة والصابئة وعابدى الملائكة والجن وابليس وكاشراك الثنوية القائلة بالنور والظلمة او يزدان واهريمن فهو اشراك فى الآلهة، ونفاه تعالى بقوله: انما آلهكم آله واحد، واما الاشراك فى الوجوده والشهود فى العبادة بالالتفات الى غير المعبود ورؤية الغير حين العبادة وان كان نفيه امرا عظيما والخلوص منه مرتبة شريفة ولا يخلو الانسان منه ما لم يكن فانيا صرفا فهو مطلوب من اهله، واللقاء الحقيقى لا يحصل بدونه؛ رزقنا الله وجميع المؤمنين الخلوص من هذا الاشراك بمنه وجوده ومحض احسانه الذى هدانا به بعد الضلالة.
[19 - سورة مريم]
[19.1]
قد سبق فى اول البقرة ما به غنية عن بيان امثال هذا، وذكر فى خصوص هذا انه اشار بالكاف الى كربلاء، وبالهاء الى هلاكة اهل البيت، وبالياء الى يزيد، وبالعين الى عطشهم، وبالصاد الى صبرهم. ونسب الى امير المؤمنين (ع) انه قال فى دعائه: اسألك يا كهيعص، وقرئ باخفاء نون عين والقياس اظهاره لان سكون الحروف المقطعة فى اوائل السور عرضى بعرض الوقف بنية الوصل فلا ينبغى اجراء حكم السكون والوصل عليها.
[19.2]
قرئ ذكر مصدرا مرفوعا، وفعلا ماضيا من الثلاثى، وامرا من التفعيل، وعلى الاول كان خبرا لما قبله او لمحذوف او مبتدء لمحذوف، او مبتدء خبره زكريا، او خبره اذ نادى، ورحمة ربك، فاعل المصدر مضاف اليه او مفعوله، والفاعل محذوف اى ذكر ربك رحمة ربك عبده، او الفاعل زكريا او رحمة ربك، مضاف اليه لادنى ملابسة والفاعل مثل سابقه والمعنى ذكر ربك برحمته عبده، وعبده مفعول الذكر او الرحمة وزكريا بدل منه او عطف بيان او فاعل الذكر او مفعوله او خبر منه، وكون زكريا خبرا للذكر باعتبار ان الكامل وجوده ذكر للرب، وزكريا بالمد والقصر وتشديد الياء، وكذا بتشديد الياء وتخفيفه بدون المد والقصر اسم.
[19.3]
{ إذ نادى ربه } اذ ظرف للذكر او للرحمة او مفعول للذكر او خبر له او بدل من الرحمة او من عبده او من زكريا نحو بدل الاشتمال { ندآء خفيا } لضعف الشيخوخة او لانه كان اقرب الى الاخلاص او لخوف اطلاع الموالى على طلبه للولد ومعاندتهم له بذلك او لخوف اطلاع الخلق على طلبه للولد وقت اليأس عن الولد وملامتهم له على ذلك.
[19.4-5]
{ قال رب إني وهن العظم مني } اظهار لعجزه ومسكنته مقدمة للدعاء، او اظهار ليأسه عن الولد واتكاله فى دعائه على محض فضله من دون مدخلية الاسباب الطبيعية { واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعآئك رب شقيا وإني خفت الموالي } فى الارث الصورى من التضييع والنزاع والخلاف، او فى الارث المعنوى من الاختلاف وتضييع العباد، وهذا اشعار بان دعاءه خال من مداخلة الهوى مقدمة للاجابة، وقرئ خفت بضم التاء من الخوف وخفت الموالى بكسر التاء وتشديد الفاء من الخفة يعنى خفت الموالى { من ورآئي } ولم يكن لهم حلم يمكنهم به تحمل متاعب الهداية من العباد { وكانت امرأتي عاقرا } اظهار ليأسه من الاسباب واتكاله فى دعائه على فضله، والعاقر يستوى فيه المذكر والمؤنث { فهب لي من لدنك } لا من الاسباب ليأسى من الاسباب { وليا } يلى امورى بحسب الظاهر والباطن.
[19.6]
{ يرثني ويرث من آل يعقوب } قرئ بالرفع والجزم، وقرئ وارث آل يعقوب بنصب وارث واضافته على ان يكون حالا من احد الضميرين، وقرئ او يرث آل يعقوب على التصغير، ووارث من آل يعقوب بالرفع عى ان يكون فاعل يرثنى { واجعله رب رضيا } مرضيا.
[19.7]
{ يزكريآ } جواب سؤال مقدر بتقدير القول كأنه قيل: ما قال فى جوابه؟- فقال: قال الله: يا زكريا { إنا نبشرك بغلام } ولد ذكر { اسمه يحيى } الجملة صفة للغلام او جواب سؤال مقدر { لم نجعل له من قبل سميا } هذه صفة بعد صفة او حال او جواب لسؤال مقدر والمراد بالسمى المشارك فى الاسم، او المماثل فى الوصف و الحال.
[19.8]
{ قال } قد تكرر فيما سلف ان امثال هذه جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: فما قال زكريا (ع)؟- فقال: قال { رب أنى يكون لي غلام } استفهام للتعجب، واستغرابه كان من قبل الاسباب لا من عطاء مسبب الاسباب ولذلك ذكر عدم المساعدة من جهة الاسباب { وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا } قرئ عتيا بضم العين وكسرها وهو مصدر بمعنى الكبر او بمعنى يبس الجلد وجفافه ونحول العظم والمفاصل، وقرئ عسيا بالسين بمعناه.
[19.9]
{ قال } جواب لسؤال مقدر كأنه استبعد من مقام الانبياء (ع) مثل هذا الاستغراب فقيل: أقال زكريا ذلك؟ - فقال: قال { كذلك } او قال الله او الملك المبشر الامر كذلك او كذلك مفعول لقوله { قال ربك } وقوله { هو علي هين } بيان لكذلك والمجموع مفعول قال الاول، وقرئ وهو على هين بواو العطف والمعنى انى لا حاجة لى الى الاسباب حتى تستغربه بالنظر الى الاسباب { وقد خلقتك } قرئ خلقناك { من قبل ولم تك شيئا } وايجاد المعدوم اصعب من جعل العاقر ولودا، عن ابى جعفر (ع): انما ولد يحيى بعد البشارة من الله بخمس سنين.
[19.10]
{ قال } زكريا (ع) { رب اجعل لي آية } علامة اعرف بها الميعاد ووقت الانجاز لا صدق الوعد فانه بعيد عن مقام الانبياء (ع) { قال آيتك ألا تكلم الناس } اى لا تقدر على التكلم مع الخلق دون المناجاة مع الله
ثلاثة أيام إلا رمزا
[آل عمران: 41] حال كونك سليما غير ذى علة بلسانك والمراد ثلاث ليال بايامها فانه يستعمل اليوم او الليل ويراد به دورة الفلك الاطلس بليلها ويومها ولذلك قال فى سورة آل عمران: ثلاثة ايام الا رمزا نقل انه اعتقل لسانه عن التكلم مع الناس ولم يعتقل عن ذكر الله.
[19.11]
{ فخرج على قومه من المحراب } من مصلاه، سمى المصلى محرابا لكونه محل محاربة الشيطان، قيل: وكان زكريا (ع) قد اخبر قومه بما بشر به فلما خرج عليهم وامتنع من كلامهم علموا اجابة دعائه فسروا به { فأوحى إليهم } اومى اليهم، وقيل: كتب فى الارض { أن سبحوا بكرة وعشيا } صلوا فى الصباح والمساء، او سبحوا لله فيهما، او فى جملة اوقاتكم فأنه يستعمل هذان اللفظان فى استغراق الاوقات.
[19.12-14]
{ ييحيى } هو بتقدير فأعطيناه الغلام وقويناه وآتينا الكتاب وقلنا يا يحيى { خذ الكتاب } اى النبوة او الرسالة او كتاب التوراة { بقوة } وعزيمة من قلبك وهو اشارة الى التمكين فى مقام النبوة فان التلوين لا يليق بصاحب النبوة { وآتيناه الحكم } اى الرسالة والقدرة على المحاكمة بين الخصوم، او النبوة والحكم بين المخاصمين فى وجوده من قواه وجنوده، او الولاية وآثارها التى هى الدقة فى العلم والعمل { صبيا وحنانا } الحنان كالسحاب الرحمة والرزق والبركة والهيبة والوقار ورقة القلب وهو عطف على الحكم بمعنى اعطيناه رحمة من لدنا او بركة (الى آخر معانيه) فصار مرحوما او ذا بركة (الى آخرها) او بمعنى اعطيناه رحمة فصار راحما وبركة على الغير، او هو بمعنى اسم الفاعل او المفعول وعطف على صبيا والمعنى آتيناه الحكم حال كونه راحما او مرحوما { من لدنا } وحينئذ يجوز ان يكون من لدنا متعلقا بآتينا اى آتيناه الحكم من لدنا حال كونه صبيا وراحما او مرحوما { وزكاة } هى فى الاعراب مثل حنانا والزكوة صفوة الشىء او صدقة تخرجها من مالك لتطهر الباقى او نماء المال { وكان تقيا وبرا بوالديه ولم يكن جبارا } متكبرا متطاولا بالنسبة الى الخلق { عصيا } بالنسبة الى الحق.
[19.15]
{ وسلام عليه } اى تحية منا عليه، او سلامة وامن من الآفات البدنية والنفسانية عليه { يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا } ولما كان الاوقات الثلاثة اول الخروج والدخول فى عالم آخر وهو وقت الانقطاع من المألوف والاتصال بغير المألوف وكلاهما موحش للانسان خصصها بالذكر.
[19.16-17]
{ واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت } تنحت { من أهلها } واستعمال الانتباذ للاشارة الى انها ذهبت الى تلك الناحية بحيث كأنها نبذها نابذ فانتبذت من اهلها { مكانا شرقيا } قيل ذهبت وانغزلت من اهلها فى دار زكريا الى مشرق الدار للخلوة للعبادة او للاغتسال، او الى مشرق البلد خارج البلد للاغتسال، او الى مكان يشرق عليه الشمس لانها خرجت فى يوم شديد البرد فجلست للاستدفاء بالشمس، او الى الفرات الى النخلة اليابسة للغسل قبل الحمل، او للطلق بعد الحمل ويكون قوله { فاتخذت من دونهم حجابا } من قبيل عطف التفصيل على الاجمال ولا يكون الفاء للترتيب المعنوى، واتخاذ الحجاب كان فى المحراب او فى المغسل او فى محل شروق الشمس { فأرسلنآ إليهآ روحنا } يعنى جبرئيل (ع) او الروح الذى هو فوق جبرئيل، والتشريف بالاضافة يقتضى ان يكون هذا هو المراد، على ان التوجه الى البشر وتربية آدم انما هو من الروح الذى هو رب النوع الانسانى وهو اعظم من الملائكة كلهم { فتمثل } اى تصور بصورة { لها بشرا سويا } قيل تمثل فى صورة شاب سوى الخلقة.
[19.18]
{ قالت } بحسب اعتيادها التعوذ بالله عند كل مخوف { إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا } متقيا معتنيا باستعاذتى خائفا من الله، وقيل: انه كان رجلا مسمى بالتقى وكان مشهورا بالفجور فظنت انه هو حيث رأته لا يتقى من النظر الى الاجنبية، وقيل: ان نافية والمعنى ما كنت متقيا من الشر لانك نظرت الى ما لا يجوز لك النظر اليه.
[19.19]
{ قال إنمآ أنا رسول ربك } فلا تستعذى منى به { لأهب } قرئ بالتكلم والغيبة { لك غلاما زكيا } طاهرا من الذنوب ومما يتلوث به البشر او ناميا او مباركا او متنعما او صالحا.
[19.20]
{ قالت أنى يكون لي غلام } استفهام للتعجب والتحير من غلام من غير اسباب التوالد مورث للوم والاتهام { ولم يمسسني بشر } يعنى بطريق النكاح المشروع فانه يكنى به عنه كثيرا وبقرينة قولها { ولم أك بغيا } البغى والبغو الامة الفاجرة وكل فاجر.
[19.21]
{ قال كذلك قال ربك هو علي هين } قد مضى نظيره { ولنجعله } عطف على مقدر او متعلق بمعطوف مقدر اى نفعل ذلك لنجعله { آية } دالة على آلهتنا وعلى سعة علمنا وقدرتنا على ما لا يقدر عليه احد من الايلاد من غير والد ومن احياء الموتى وابراء الاكمه والابرص ونفخ الروح فى الطين وجعله حيا { للناس ورحمة منا } عليهم { وكان أمرا مقضيا } محتوما.
[19.22]
{ فحملته } بان نفخت فى جيب مدرعتها، واختلف فى مدة حملها فما فى الاخبار الصحيحة ان مدة حملها كانت تسع ساعات بحذاء تسعة اشهر، وفى بعضها: انها كانت ساعة، وقيل: انها كانت ثمانية اشهر او سبعة او ستة اشهر. وعن الباقر (ع) انه تناول جيب مدرعتها فنفخ فيه نفخة فكمل الولد فى الرحم من ساعته كما يكمل فى ارحام النساء تسعة اشهر فخرجت من المسحم وهى حامل مجح مثقل فنظرت اليها خالتها فأنكرتها ومضت مريم (ع) على وجهها مستحيية من خالتها ومن زكريا (ع) { فانتبذت به } فانعزلت مع الحمل { مكانا قصيا } بعيدا، عن السجاد (ع) خرجت من دمشق حتى اتت كربلاء فوضعت فى موضع قبر الحسين (ع) ثم رجعت فى ليلتها، اقول: موضع مريم (ع) معروف فى سمت الرأس من مشهده (ع).
[19.23]
{ فأجآءها المخاض } اى حركة الولد للطلق مخضت المرأة كمنع وسمع وعنى مخاضا بفتح الميم ومخاضا بكسرها ومخضت تمخيضا وتمخضت اخذها الطلق { إلى جذع النخلة } اليابسة التى الهمت ان تأتيها، والجذع ما بين العرق والغصن { قالت } بعدما ولدت عيسى (ع) ونظرت اليه { يليتني مت } قرئ بكسر الميم وضمها { قبل هذا } قالت ذلك استحياء ومخافة لومهم { وكنت نسيا } قرئ بكسر النون وهو اجود اللغتين وبفتحها وهو فى الاصل مصدر يستعمل فى الشيء الحقير الذى من شأنه ان ينسى وفيما يلقى من الشيء ولا يعتنى به { منسيا } التوصيف به للمبالغة.
[19.24]
{ فناداها من تحتهآ } قرئ بكسر الميم وفتحها والمنادى كان عيسى (ع) او جبرئيل (ع) { ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا } شريفا.
[19.25-26]
{ وهزى إليك بجذع النخلة } هزه وبه حركه { تساقط } قرئ بضم التاء الفوقانية وتخفيف السين وكسر القاف، وقرئ يساقط بفتح الياء التحتانية وتشديد السين وبفتحها وتخفيف السين وبفتح التاء الفوقانية وتشديد السين { عليك رطبا جنيا فكلي واشربي } من الرطب والماء، او كلى مما يتغذى به واشربى مما يشرب فى هذا المكان او مطلقا { وقري عينا } بهذا الولد فانه لا ينبغى ان تحزنى بسببه ولا تكترثى بما توهمت من لوم الجهال { فإما ترين } اى فان ترى { من البشر أحدا } فسألك عن ولدك { فقولي إني نذرت للرحمن صوما } اى سكوتا ولكونه بمعنى السكوت فرع عدم التكلم عليه، قيل: كان فى بنى اسرائيل انه من اراد ان يجتهد فى العبادة صام عن الكلام كما يصوم عن الطعام، ولذلك استعمل الصوم فى عدم التكلم { فلن أكلم اليوم إنسيا } قيل: صارت مأذونة لهذا القدر من الكلام، وقيل: كانت تفهم بالاشارة انها صائمة ولا تتكلم، قيل: لفته فى خرقة.
[19.27]
{ فأتت به قومها تحمله قالوا } بعدما رأوها حاملة لمولود ولم يكن لها زوج { يمريم لقد جئت شيئا فريا } الفرى الامر المختلق المصنوع او العظيم.
[19.28]
{ يأخت هارون } قيل: كان هارون امرء صالحا فنسبوها اليه استهزاء او لصلاحها وعبادتها، وقيل: ان هارون كان اخاها لابيها، وقيل: ان هارون كان معروفا بالفسوق فنسبوها اليه { ما كان أبوك امرأ سوء } حتى اكتسبت هذا الفعل منه { وما كانت أمك بغيا } بغت المرأة فجرت فهى بغى وبغو.
[19.29]
{ فأشارت إليه } ان كلموه واسألوه { قالوا كيف نكلم من كان في المهد } يعنى شأنه ان يكون فى المهد { صبيا } قيل: غضبوا من ذلك وقالوا: سخريتها بنا أشد علينا من زناها.
[19.30-33]
{ قال } عيسى (ع) { إني عبد الله } اقر لنفسه بالعبودية اولا لئلا يتموهموا ما يتوهموا لكونه بلا اب وتكلمه حين الولادة من انه ابن الله او انه هو الله، او انه ثالث ثلاثة { آتاني الكتاب } اتى بالماضى لتحقق وقوعه، او لتحقق استعداده، والمراد بالكتاب الانجيل او كتاب النبوة { وجعلني نبيا وجعلني مباركا } كثير الخير نفاعا او ناميا فى الخير { أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي } قرئ برا بفتح الباء وصفا بمعنى كثير البر وحينئذ يكون عطفا على مباركا ويلزم منه الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه، او عطفا على اوصانى بتقدير جعلنى، وقرئ برا بكسر الباء مصدرا فيكون عطفا على الصلوة { ولم يجعلني جبارا } متجبرا متكبرا { شقيا والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا } تغيير السلام مع قوله تعالى سلام عليه بالتعريف والتنكير وبنسبة الاول الى الله والثانى الى عيسى (ع) نفسه يعلم وجهه من تفاوت مقام عيسى (ع) ويحيى (ع).
[19.34]
{ ذلك } المذكور ممن اقر الله بالعبودية { عيسى ابن مريم } لا من قالوا بآلهته او ببنوته لله { قول الحق } قرئ بالرفع على ان يكون بدلا من عيسى (ع) او خبرا بعد خبر، او خبرا لمبتدء محذوف اى هذا الكلام قول الحق، او هو يعنى عيسى (ع) قول الحق، وقرئ قول الحق بالنصب فيكون مفعولا مطلقا مؤكدا لغيره، والاضافة بيانية اى اقول قولا هو الحق او بتقدير اللام اى هو قول الله { الذي فيه يمترون } اى يشكون او يجادلون وينازعون بان يقول اليهود هو لغير رشده او ساحر ويقول النصارى هو ابن الله، او هو الله، او هو واحد من الثلاثة.
[19.35]
{ ما كان لله } اى ما صح وما امكن لله فان هذه الكلمة تستعمل ويراد بها نفى الامكان { أن يتخذ من ولد } كما يقوله بعض النصارى { سبحانه } اى نزه نزاهته من المجانسة مع الولد والاحتياج الى الصاحبة { إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } فليس كون عيسى (ع) بلا اب سببا للقول بانه ولد لله.
[19.36]
{ وإن الله ربي } قرئ بفتح الهمزة بتقدير اللام متعلقا بقوله فاعبدوه والفاء زائدة، او بتقدير اما او بتوهمها، او بكون ان وما بعدها عطفا على الصلوة، وقرئ بكسر الهمزة معطوفا على انى عبدالله، او ابتداء كلام من الله بتقدير قل خطابا لمحمد (ص) يعنى قل يا محمد (ص) ان الله ربى { وربكم فاعبدوه هذا } المذكور من الجمع بين اعتقاد ربوبية الله والعبادة له الذى هو كمال القوتين العلامة والعمالة، او من العبادة والخروج من الانانية والاستقلال بالرأى والدخول تحت الامر الآلهى { صراط مستقيم } الى الله وقد مضت الآية فى سورة آل عمران.
[19.37]
{ فاختلف الأحزاب من بينهم } الاحزاب جمع الحزب والحزب كل جماعة منقطعة عن غيرهم برأى او صنعة، ولفظة من اما ابتدائية والظرف حال من الاحزاب او زائدة، وبينهم ظرف للاختلاف واختلافهم كان فى ان قال بعضهم: انه هو الله، وبعضهم: هو ابن الله، وبعضهم: هو واحد من الثلاثة، وبعضهم: هو وامه الهان { فويل للذين كفروا } باعتقاد الخلاف فى المسيح (ع) { من مشهد يوم عظيم } والمشهد اما مصدر ميمى او اسم مكان.
[19.38]
{ أسمع بهم وأبصر } هو صيغة التعجب { يوم يأتوننا } لان الابصار تصير فى ذلك اليوم حديدة { لكن الظالمون } وضع الظاهر موضع المضمر اشعارا بعلة الحكم وتفضيحا لهم بذكر وصف ذم لهم يعنى انهم ظالمون والظالمون { اليوم } يعنى فى الدنيا { في ضلال مبين } يعنى انهم صم بكم عمى عن الحق فى الدنيا، ولا ينفعهم حدة البصر فى الآخرة، ويجوز ان يكون المعنى ابصر الظالمين فيكون الباء للتعدية دون الهمزة ويكون يوم يأتوننا مفعولا به او ظرفا، ويكون معنى قوله لكن الظالمون اليوم لكن الظالمون يوم يأتوننا او يوم الدنيا فى ضلال مبين، ويجوز ان يكون المعنى ابصرهم بسبب الانبياء (ع) ويكون يوم يأتوننا مفعولا ثانيا او ظرفا وقوله لكن الظالمون اليوم فى ضلال مبين على المعنيين المذكورين.
[19.39-40]
{ وأنذرهم } يا محمد (ص) { يوم الحسرة } اى حسرة الكفار على ما فرطوا فى جنب الله او حسرة الكفار على التفريط والدانين من المؤمنين على تقصيرهم فى العمل { إذ قضي الأمر } بدل من يوم الحسرة والمعنى اذ قضى امر الخلائق وحسابهم فيدخل اهل الجنة الجنة واهل النار النار ويؤتى بالموت فى صورة كبش فيوقف بين الجنة والنار بحيث يراه اهل الجنة واهل النار جميعا ثم ينادون اشرفوا وانظروا الى الموت فيشرفون وينظرون ثم يذبح الموت ثم يقال يا اهل الجنة خلود فلا موت ابدا، ويا اهل النار خلود فلا موت ابدا. اعلم، ان الانسان من اول استقرار مادته فى الرحم فى الخلع واللبس، وفى الترك والاخذ، وفى البيع والشراء، وفى الموت والحيوة، وفى النشر والحساب، وهذه الحال مستمرة له الى انقضاء الحيوة الدنيا وبعد انقضاء الحيوة الدنيا ان كان من اهل البرزخ كان عليه هذه الحالة الى انقضاء البرزخ والوصول الى الاعراف، وبعد الوصول الى الاعراف والحكم على اهل النار بدخول النار وعلى اهل الجنة بدخول الجنة يتم تلك الاحوال وينقضى ذلك الاستبدال وينقطع الموت وهذا معنى قضاء الامر وذبح الموت { وهم في غفلة } حال من جملة انذرهم { وهم لا يؤمنون إنا نحن نرث الأرض } جواب لسؤال مقدر ولذلك اكده استحسانا كأنه قيل: اذا قضى الامر من كان فى الدنيا ومن كان مالكا فيها؟- قال تعالى إنا نرث الارض يعنى ينقضى الانانيات ولا يبقى حين قضاء الامر لاحد مالكية وانانية، ويظهر ان الارض والانانيات التى تكون مصدرا للمالكية كانت كلها لله { ومن عليها } فان من عليها عبارة عن الانانيات التى يترائى انها غير الله { وإلينا يرجعون } يعنى ان الاملاك والملاك الذين هم عبارة عن الانانيات تخلف عنهم ونحن نرثها وذواتهم من دون املاكهم وانانياتهم ترجع الينا بالحشر الى مظاهر القهر او مظاهر اللطف.
[19.41]
{ واذكر في الكتاب إبراهيم } فان ذكر الاخيار وذكر احوالهم وسيرهم وسماعها واستماعها مؤثرة فى النفوس وجاذبة لها الى جهة العلو، كما ان ذكر الاشرار وذكر احوالهم وسيرهم زاجرة للنفوس الخيرة { إنه كان صديقا } تعليل لسابقه، والصديق مبالغة فى الصادق وهو الذى يصير صادقا فى اقواله وافعاله وعلومه واحواله ونياته واخلاقه بحيث يؤثر صدقه فى مجاوره فيصير سببا لصدقه، وصدق المذكورات بان تكون مطابقة لما ينبغى ان يكون الانسان عليه، ولازم هذا ان يصير صاحبه نبيا ولذلك قال صديقا { نبيا } اعم من الرسول.
[19.42]
{ إذ قال لأبيه } اذ تعليل لسابقه او اسم خالص بدل من ابراهيم (ع) بدل الاشتمال، او ظرف لكان او لصديقا او نبيا وقد سبق ذكر الاختلاف فى كونه اباه او جده لامه او عمه { يأبت } تلحق التاء بالاب مضافة الى الياء للاستعطاف او للتعطف ولذلك كرر لفظ يا ابت { لم تعبد ما لا يسمع } استفهام انكارى والتعليق على الموصول للاشعار بعلة الانكار { ولا يبصر } فان غير السميع البصير لا يتأتى منه ما يطلب من المعبود { ولا يغني عنك شيئا } شيئا قائم مقام المصدر اى لا يغنى عنك اغناء ولا يقوم مقامك قياما ما، او هو مفعول به لا يغنى اى لا يغنى عن حركتك شيئا من الجلب والدفع بان يجلب نفعا او يدفع ضرا بدون الاحتياج الى حركتك وتسبيبك فيه.
[19.43]
{ يأبت } تكرار النداء والمنادى للتعطف او الاستعطاف كما ذكر سابقا { إني قد جآءني من العلم } من العلم حال مقدم { ما لم يأتك } واستعمال المجئ للاشارة الى ان علمه ليس كسبيا تحصيليا وانما هو من الله قال ذلك ليكون حجة على الامر باتباعه ولذلك قال { فاتبعني } بفاء الجزاء { أهدك صراطا سويا } مستوى الطرفين او كناية عن المستقيم.
[19.44-45]
{ يأبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا يأبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن } لكون العذاب والرحمة الرحيمية صورتى الرحمة الرحمانية نسب العذاب الى الرحمن { فتكون للشيطان وليا } مواليا او قرينا.
[19.46]
{ قال أراغب أنت عن آلهتي يإبراهيم } اتى بألفاظ غليظة فى مقابلة استعطافه اشعارا بغضبه وتغيره عن ارشاده ثم هدده فقال { لئن لم تنته } عما انت عليه من ازدراء الآلهة والرغبة عنها او من ادعاء الارشاد والهداية { لأرجمنك } بالشتم والعيب، او لارجمنك بالحجارة، او هو كناية عن القتل فاحذرنى { واهجرني مليا } برهة من الزمان او ساعة طويلة.
[19.47-48]
{ قال سلام عليك } قابل اساءته فى اللفظ بالاحسان فيه وودعه بعدما امره بالهجرة { سأستغفر لك ربي } قابل تهديده بالرجم بالاستغفار من الله وطلب التوفيق له { إنه كان بي حفيا وأعتزلكم وما تدعون من دون الله } حال مما تدعون وسر التقييد بذلك الاحتراز عن دعاء الخلفاء فانهم ليسوا من دون الله بل من الله ودعاؤهم ايضا من الله { وأدعو ربي } والدعاء ههنا كناية عن العبادة { عسى ألا أكون بدعآء ربي شقيا } خائبا ضائع السعي مثلكم فى دعاء آلهتكم وصدر الحكم بعسى للتواضع وهضم النفس ولان الاجابة والاثابة بيد الله وليس الا محض التفضل وليس للعباد الا الرجاء فان الخاتمة غيب، ومعايب العمل مخفية، والثبات على حال العبادة الى آخر العمر غير معلوم.
[19.49-50]
{ فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله } بالهجرة الباطنية عن مقام النفس التى هى كانت موافقة لهم او بالهجرة الى الشام { وهبنا له إسحاق ويعقوب } بدل من فارقهم لم يذكر اسماعيل (ع) لتشريفه بذكره فيما بعد مستقلا، او لان تشريف ابراهيم (ع) فى انظارهم كان باسحاق ويعقوب (ع) لان انبياء (ع) بنى اسرائيل كانوا منهما { وكلا } منهما { جعلنا نبيا ووهبنا لهم من رحمتنا } ما يمكن ان يوهب للانسان او من رحمتنا بنفسه مفعول لكون من التبعيضية اسما او قائما مقام المفعول الموصوف لقوة معنى البعضية فيه، او المفعول محذوف اى وهبنا لهم من رحمتنا محمدا (ص)، حذفه لظهوره فى المقام او لادعاء ظهوره { وجعلنا لهم لسان صدق عليا } لسان الصدق عبارة عن الثناء الجميل على لسان الخلق، والمراد بالعلى الثناء البالغ المرتفع، او المراد بالعلى على بن ابى طالب (ع) فانه كان لسان صدق له فى الآخرين لم يكن لسان صدق اشرف منه، والتعبير باللسان عن الثناء لكونه صادرا منه وجاريا عليه، نسب الى على (ع) انه قال: لسان الصدق للمرء يجعله الله فى الناس خير من المال يأكله ويورثه.
[19.51]
{ واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا } قرئ بكسر اللام وفتحها يعنى انه اخلص عبادته عن الاشراك، او اخلصه الله لعبادته او لنفسه { وكان رسولا نبيا } تكرار كان للاشارة الى ان كلا شرف له بنفسه والمراد بالنبى الرفعة او النبوة وكان تأكيدا للرسول فان الرسول متضمن للنبوة ومستلزم للرفعة وقد سبق الفرق بين الرسول والنبى والامام والمحدث عند قوله
وإثمهمآ أكبر من نفعهما
[البقرة:219] وذكر هناك معنى حديث ان الرسول يسمع الصوت ويرى فى المنام ويعاين الملك فى اليقظة، والنبى هو الذى يرى فى المنام ويسمع الصوت ولا يعاين الملك، والمحدث هو الذى لا يرى ولا يعاين ويسمع الصوت.
[19.52]
{ وناديناه من جانب الطور الأيمن } وصف للجانب فان المراد بحسب التأويل من الطور هو الصدر المنشرح بالاسلام، وجانبه الايمن هو الجهة التى تلى العقل والغيب { وقربناه نجيا } حال عن الفاعل او المفعول او كليهما فان النجى مصدر ووصف مطلق على المفرد والاكثر من المفرد.
[19.53]
{ ووهبنا له من رحمتنآ } وهذا تشريف له { أخاه هارون } لمعاضدته وموازرته ولاجابة دعوته من قوله
واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي
[طه:29] { نبيا } حال كونه نبيا بالاستقلال او مشاركا للنبى لا انه كان نبيا بالاستقلال وكان هارون اسن من موسى (ع)، ورد ان موسى (ع) عاش مائة وستة وعشرين سنة، وعاش هارون مائة وثلاثة وثلاثين سنة.
[19.54-55]
{ واذكر في الكتاب إسماعيل } بن ابراهيم (ع) { إنه كان صادق الوعد } لانه كما فى الخبر وعد رجلا وانتظره سنة لان الرجل نسى، ونقل انه انتظره ثلاثة ايام وقيل: ان اسماعيل بن ابراهيم (ع) مات قبل ابراهيم (ع) وهذا اسماعيل بن حزقيل بعثه الله الى قومه فأخذوه فسلخوا فرقة رأسه ووجهه فأتاه ملك فقال: ان الله جل جلاله بعثنى اليك فمرنى بما شئت فقال: لى اسوة بالانبياء (ع) او بالحسين بن على (ع) { وكان رسولا نبيا وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة } قد مضى فى اول البقرة تحقيق الصلوة والزكوة ولما كان الاهتمام بامر من كان تحت اليد امرا مهتما به مرغوبا فيه مندوبا شرفه بذكر هذه الخصلة ولشرافة هذه الخصلة عقبه بقوله { وكان عند ربه مرضيا } كأنه قال ولذلك كان عند ربه مرضيا.
[19.56-57]
{ واذكر في الكتاب إدريس } اسمه اخنوخ فى التوراة وكان سبط شيث (ع) وجد ابى نوح (ع) وكان اول من خاط اللباس وألهمه الله تعالى علم الحساب والهيئة والنجوم، وقيل: سمى ادريس لكثرة دراسته ولعله كان فى لغتهم بهذا المعنى والا فان كان عربيا مشتقا من الدرس كان منصرفا { إنه كان صديقا نبيا ورفعناه مكانا عليا } بحسب الرتبة او بحسب المكان كما ورد ان الله تعالى رفعه حيا الى السماء الرابعة او السادسة وهو حى او قبض روحه فى السماء الرابعة.
[19.58]
{ أولئك } الذين تقدم ذكرهم { الذين أنعم الله عليهم } بالولاية واستتبع الولاية النبوة والرسالة وسائر النعم بها تصير نعمة فان النعمة حقيقة هى الولاية وكلما اتصل بالولاية سواء كان بسبب البيعة الولوية او بطلب تلك البيعة كان نعمة، وما لم يتصل سواء كان من النعم الصورية الدنيوية او من النعم الصدرية الاخروية من الاذواق والوجدانات ومن العلوم والمشاهدات والمعاينات الصورية كان نقمة الا اذا اتصلت بالولاية فانقلبت نعمة، فأصل النعم هو الولاية وفرعها هو هى ايضا؛ ان ذكر الخير كنتم بولايتكم اصله وفرعه ومعدنه ومنتهاه، واولئك مبتدء والجملة جواب لسؤال مقدر وخبره الذين أنعم الله او هو صفته او مبتدء ثان وقوله تعالى { من النبيين } خبر او حال وقوله تعالى { من ذرية ءادم } خبر او هو حال او بدل، وقوله تعالى اذا يتلى عليهم (الى آخره) خبر ومن فى قوله تعالى: من النبيين بيانية او تبعيضية، وهكذا من فى قوله من ذرية آدم تبعيضية او بيانية { وممن حملنا مع نوح } عطف على من ذرية آدم والمقصود من ذرية من حملنا لكنه اسقط الذرية ههنا تشريفا لهم لانه يشعر بان المحمول مع نوح (ع) لم يكن منظورا اليه بنفسه فى الحمل بل كان المنظور اليه فى الحمل هو تلك الذرية فكأنه لم يكن المحمول محمولا لانه لم يكن منظورا اليه وكان المنظور اليه من الذرية محمولا { ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل } وكل هذه من قبيل عطف الخاص على العام لتشريف الخاص بالاختصاص بكثرة الانساب الشريفة فان الكل كانوا من ذرية آدم (ع) واختص عنهم بهذه النسبة ادريس (ع) وبعد ادريس كان الكل من ذرية المحمولين مع نوح وامتاز عنهم بهذه النسبة ابراهيم (ع) وبعد ابراهيم كان الكل من ذرية ابراهيم فان اسحاق (ع) واسرائيل وموسى وهارون واسماعيل وزكريا ويحيى وعيسى (ع) كانوا من ذرية ابراهيم (ع) واسرائيل وامتاز عنهم بالاختصاص بابراهيم (ع) اسحاق واسماعيل (ع) واذا كان المراد بقوله تعالى وهبنا لهم من رحمتنا محمدا (ص) وكان المراد بقوله لسان صدق عليا محمدا (ص) وعليا (ع) كما اشير اليه فى الخبر كانا ايضا ممتازين بالاختصاص بابراهيم (ع) { وممن هدينا } عطف على من النبيين او على من ذرية آدم ولفظ من للتبعيض او للتبيين والتقدير من ذرية من هدينا واسقاط الذرية لما ذكر فى ممن حملنا او ليست الذرية مقدرة { واجتبينآ إذا تتلى } قرئ بالتاء وبالياء وهو خبر كما سبق او حال او مستأنف لبيان حالهم وانهم مع علو نسبهم وشرف النبوة والرسالة لهم كمال التضرع والالتجاء الى الله، او ممن هدينا قائم مقام المبتدأ، وذا تتلى خبر عنه يعنى بعض ممن هدينا واجتبينا اذا تتلى { عليهم آيات الرحمن خروا سجدا } لكمال خضوعهم لله وتواضعهم لآياته { وبكيا } لكمال خوفهم من الله ولالتجائهم اليه وقرئ بكيا بضم الباء على الاصل، وبكسرها على الاتباع.
[19.59]
{ فخلف من بعدهم خلف } الخلف بالسكون يقال للعقب السوء وبالتحريك للحسن، ويستعمل كل فى كل { أضاعوا الصلاة } بتركها او تأخيرها عن مواقيتها كما اشير اليه فى الخبر { واتبعوا الشهوات } قيل فى بيان اتباع الشهوات كانوا شرا بين للقهوات، ركابين للشهوات، متبعين للذات، تاركين للجماعات، وعن امير المؤمنين (ع ) فى بيانه من بنى الشديد وركب المنظور ولبس المشهور.
اعلم، ان الصلوة والزكوة كما حقق فى اول الكتاب فى اول سورة البقرة عبارة عن اللبس والخلع، وهما ثابتان للانسان من اول استقرار نطفته فى الرحم الى آخر عمره، لكن الخلع واللبس الى مقام التكليف والقرب له يكونان بالتكوين الآلهى وعلى الطريق الانسانى وفى مقام التكليف اذا كانا بالامر الآلهى كانا فى الطريق الانسانى، واذا لم يكونا بالامر الآلهى لم يكونا فى الطريق الانسانى بل كانا فى الطريق النفسانى وبمداخلة الشهوات النفسانية وكل فعل او قول او حال له جهة آلهية وجهة نفسانية بمعنى انه ان كان بمحض الامر الآلهى حصل منه فعلية آلهية ولبس فى الطريق الانسانية وحصل طرح لفعلية نفسانية بواسطة طرح انانية من النفس، والفعلية الآلهية يعنى اللبس فى الطريق الانسانية هى الصلوة حقيقة وطرح اقتضاء النفس وانانيتها هى الزكوة حقيقة، فعلى هذا كان اضاعة الصلوة عبارة عن الغفلة عن الامر الآلهى فى الفعل، اى فعل كان، واتباع الشهوات عبارة عن لحاظ اقتضاء النفس فى الفعل، اى فعل كان، فان المصلى اذا كان صلوته صادرة من اقتضاء نفسه سواء كان ذلك الاقتضاء امضاء عادة كما هو حال اكثر الناس او مراياة او اعجابا او جلب نفع فى الدنيا او دفع ضر فيها او دخول الجنة، او عدم دخول النار، او قربة من الله، او كونه مرضيا من الله كان مضيعا للصلوة، ومتبعا للشهوة؛ وان كان فاعلا لصورة الصلوة، واذا كان القاضى لشهوته من حلاله ناظرا الى امر ربه واباحته كان مصليا، وان كان قاضيا لشهوته فالمقصود من الصلوة هو جهة الافعال لا صورة الاعمال، وهكذا الحال فى اتباع الشهوات، وحديث على (ع) فى بيان اتباع الشهوات يشعر بذلك { فسوف يلقون غيا } فى الآخرة بناء على تجسم الاعمال، او جزاء غى، او المراد بالغى الشر والخيبة، او الغى واد فى جهنم.
[19.60]
{ إلا من تاب } عن اتباع الشهوات فى الافعال { وآمن } بالبيعة العامة او الخاصة، او اذعن ان الاعمال لها جهة آلهية وجهة نفسانية { وعمل صالحا } طبق ما اخذ عليه فى بيعته او عمل صالحا يعنى بالامر الآلهى حتى يصير صالحا، واقامة للصلوة لا اضاعة او اتباعا للشهوات { فأولئك يدخلون الجنة } قرئ بضم الياء وفتح الخاء وبفتح الياء وضم الخاء { ولا يظلمون شيئا } بنقص شيء من ثواب اعمالهم.
[19.61]
{ جنات عدن } بدل من الجنة ولا منع فى ابدال الجمع عن المفرد اذا كان المفرد فى معنى الجمع، او منصوب بفعل محذوف مقطوع عن التبعية للمدح، والجنات طبقات وكل طبقة منهما جنات، وجنة عدن آخرة الجنات التى لا تجاوز عنها لمن وصل اليها؛ ولذلك سميت بجنة عدن فان العدن بمعنى الاقامة بخلاف سائر الجنات فانها ليست محل اقامة لكل من وصل اليها { التي وعد الرحمن عباده بالغيب } حال كون الجنات بالغيب، او حال كون الرحمن بالغيب، او حال كون العباد بالغيب من الله بمعنى كون الله غائبا عنهم { إنه كان وعده مأتيا } جواب سؤال ناش من قوله فاولئك يدخلون الجنة او من قوله وعد الرحمن عباده.
[19.62]
{ لا يسمعون فيها لغوا } حال او مستأنف { إلا سلاما } استثناء من اللغو مبالغة فى عدم اللغو فيها يعنى لغو الجنات هو السلام من قبيل قول الشاعر:
ولا عيب فيهم غيران سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب
او الاستثناء منقطع { ولهم رزقهم } اللائق بحالهم ومقامهم { فيها بكرة وعشيا }.
اعلم، ان الشمس الحقيقية التى هى حقيقة شمس عالم الطبع تنزلت عن مقام غيبها بفعل البارى تعالى، ثم تنزلت وظهرت بالعقول بمراتبها، ثم ظهرت بالنفوس بمراتبها، ثم ظهرت فى عالم الطبع بصورة هذه الشمس المحسوسة، وكما ان هذه الشمس المحسوسة حركتها فى عالمها دورية، وعالمها كروية، وبكروية عالمها ودورية حركتها يظهر البكرة والعشى كذلك الشمس الحقيقية حركتها فى كل من عوالمها التى حددوها تارة بسبعين الف عالم، وتارة بالف الف عالم دورية، وكل من عوالمها كروية لكن كرويته معنوية لا محسوسة فان كلا مشتمل على قوسى النزول والصعود، وبعد وصول النور الحقيقى الى اواسط قوس النزول يختفى وتدريجا الى اواسط قوس الصعود وحينئذ يظهر تدريجا وحين شروعه فى الاختفاء يكون العشى بحسب ذلك العالم وحين الشروع فى الظهور يكون البكرة بحسبه، ولا اختصاص للبكرة والعشى بعالم الطبع ولا بجنات الدنيا كما قيل، وقد ورد فى الاخبار الاشعار بتعدد الافلاك والشموس والاقمار كما ورد ان وراء عين شمسكم هذه تسعا وثلاثين عين شمس، ووراء قمركم هذا تسعة وثلاثين قمرا؛ وقيل بالفارسية:
آسمانهاست در ولايت جان
كار فرماى آسمان جهان
[19.63]
اعلم، ان الانسان الكامل ذو نشأت وفى كل نشأة له اموال واقرباء وكما ان صحة النسب الجسمانية مبتنية على ما اسسه الشارعون فى كل شريعة وملة لتصحيحها كذلك النسبة الروحانية مبتنية صحتها على ما اسسوه من عقد الايمان، وكما ان النسبة الجسمانية اذا لم تكن مبتنية على ما اسسوه لم تكن مؤثرة فى ترتب آثار النسبة من الميراث وغيرها كذلك النسب الروحانية اذا لم تكن مبتنية على ما اسسوه لم تكن مؤثرة، وكما ان المنتسب بالنسبة الجسمانية اذا لم يكن له ما يصحح نسبته كان لغية كذلك المنتسب بالنسبة الروحانية اذا لم يكن له ما يصحح نسبته كان منتحلا، وقد مضى تحقيق تام للنسبة الجسمانية والروحانية والفرق بينهما وشرافة النسبة الروحانية بالنسبة الى الجسمانية فى سورة البقرة عند قوله
وبالوالدين إحسانا
[البقرة:83]، وكما ان الانسان ما دام يكون فى عالم الطبع كان له اموال واذا انصرف من هذا العالم كان الاحق بأمواله قراباته بحق النسبة الجسمانية كذلك المتخلف عن الكامل فى العوالم الروحانية كان الاحق به قراباته الروحانية، وكما ان المتخلف عن مرتبته الجسمانية لا حق لقراباته الروحانية فيه كذلك المتخلف عن مرتبته الروحانية لا حق لقراباته الجسمانية فيه فان كل خلة وكل نسبة منقطعة يوم القيامة الا الخلة والنسبة فى الله، ولما كان اصل الكاملين وابو الآباء الروحانية على بن ابى طالب (ع) وكان منصرفا عن جميع العوالم ومتمكنا فى مقام المشية التى هى فوق الامكان كان جميع عوالم الامكان متخلفة عنه وميراثا لاولاده المنتسبين اليه بالنسبة الصحيحة بقدر مراتبهم فى النسبة، وان كانوا فى الدنيا مغصوبا منهم امواله كما قال تعالى:
قل هي للذين آمنوا
[الأعراف: 32] بالايمان الخاص وعقد الايمان مع على (ع) مغصوبا عليها فى الدنيا خالصة يوم القيامة وهذا معنى ايراث الفردوس، واما ايراث منازل اهل النار للمؤمنين فهو عبارة عن ايراث ما كان اهل النار يستحقونه لو لم يقطعوا نسبتهم الى على (ع) فان كل الموجودات لها نسبة فطرية الى على (ع) وقد يقطع الانسان نسبته الفطرية الى الولاية فيترك منازله وامواله التى كانت مقررة له بحكم الولاية التكوينية فيرثها ذوو انسابه الآخرون مثل الجنين الذى يترك من اموال الميت قسط له فان تولد حيا وبلغ اخذ قسطه وان ولد ميتا او لم يبلغ كان قسطه لسائر الورثة بحكم النسبة، اذا عرفت ذلك، فلا حاجة لك الى التكلفات التى ارتكبوها فى تصحيح اطلاق الارث على ما ذكر، ومن عبادنا ظرف لغو متعلق بنورث والمعنى نورث الجنة من مال عبادنا المخصوصين الذين خرجوا من رقية انفسهم وصاروا بتمام وجودهم خالصين لنا فصاروا كاملين ومكملين ومالكين بتمليكنا درجات الآخرة، وبعد ما تخلفت منهم بتوجههم ونقلهم الى ما فوقهم اورثنا تلك الدرجات منهم عبادا كانوا اتقياء بان دخلوا فى الولاية فان التقوى الحقيقية لا تتصور الا بالدخول فى الولاية او من عبادنا ظرف مستقر حال ممن كان تقيا والمعنى حينئذ نورث الجنات من كان تقيا حال كونه صار من عبادنا بان اشترى الله منه ماله ونفسه بان له الجنة، وفائدة التقييد بالحال الاشعار بان التقوى الحقيقية لا تحصل الا بالبيعة الولوية او النبوية.
[19.64]
{ وما نتنزل إلا بأمر ربك } كلام من الملك الحاكى من الله تعالى معطوف على المحكى من الله فقد ورد ان رسول الله (ص) قال لجبرئيل (ع): ما منعك ان تزورنا؟- فنزلت { له ما بين أيدينا } اى الدنيا او عوالم الآخرة { وما خلفنا } يعلم بالمقايسة { وما بين ذلك } اى العالم الذى نحن واقعون فيه { وما كان ربك نسيا } تاركا لك ترك المنسى، او ما كان موصوفا بالنسيان حتى يتوهم انه غفل عنك، وفيه اشعار بان سرعة نزوله وبطوءه انما هو منوط بحكمه.
[19.65]
{ رب السماوات والأرض وما بينهما } وصف لربك او خبر مبتدء محذوف وتعليل لامتناع النسيان عليه { فاعبده واصطبر لعبادته } لما كان الصبر على العبادة اصعب اقسام الصبر اتى فيه بصيغة المبالغة { هل تعلم له سميا } خطاب خاص بمحمد (ص) او عام لمن يتأتى منه الخطاب، والمراد بالسمى المماثل فى شيء من صفاته لا المسمى بشيء من أسمائه.
[19.66]
{ ويقول الإنسان } اى هذا النوع من الحيوان وان كان القائل بعض افراده { أإذا ما مت لسوف أخرج حيا }.
اعلم، ان الانسان ما دام يكون محصورا ادراكه على المحسوسات ولا يدرك من نفسه الا مقام جسميته كان اقراره ببعثه تقليدا محضا من غير تصور لنفسه وموته وبعثه وكان انكاره تحقيقا لا تقليدا فان الناظر الى البدن والى ان النفس جسم لطيف متكيف سار فى البدن كسائر اجزاء البدن او كيفية خاصة فى البدن، وان البدن بالموت يفنى كيفية حيوته وجميع اجزائه، خصوصا ان كان بصيرا بالطبيعيات وكيفياتها لا يتأتى له الاقرار بالبعث بعد الموت والاعادة بعد الفناء، وروى ان ابى بن خلف اخذ عظاما بالية ففتها وقال: يزعم محمد (ص) انا نبعث بعدما نموت.
[19.67]
{ أولا يذكر إلإنسان أنا خلقناه من قبل } اى قبل وجوده او قبل موته { ولم يك شيئا } لا فى العوالم العالية ولا فى العالم الدانى بان خلقناه فى عوالم علمنا حين لم يكن مقدرا ولا موجودا طبيعيا، او لم يك شيئا فى العالم الطبيعى.
[19.68]
{ فوربك لنحشرنهم والشياطين } الموكلة عليهم، لما كان الكلام ملقى على المنكر اكده بتأكيدات، وروى ان الكفرة تحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين اغووهم كل مع شيطانه.
اعلم، ان الانسان الذى هو عالم صغير اذا هبط آدم (ع) وحواء (ع) من الجنة فيه وتوالدا وأتى لواحد من ولديهما بحورية وللآخر بجنية وتوالدوا فى العالم الصغير كان ما تولد من الحورية سنخا للملائكة وبتلك السنخية يجذب الملك، وما تولد من الجنية كان سنخا للجنة والشياطين ، وبتلك السنخية يجذب الشيطان الى عالمه الصغير من العالم الكبير، وما ورد ان لكل انسان ملكا يزجره وشيطانا يغويه اشارة الى ما ذكر، ولكل من الملك والشيطان المجذوبين اليه جنود واعوان فيصير الملك الموكل مع جنوده ملائكة كثيرة والشيطان المنجذب شياطين عديدة، واذا حشر الانسان حشر معه كل شيطان كان معه، او المعنى لنحشرنهم والشياطين من غير نظر الى الشياطين الموكلة بخصوصهم { ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا } ضمير المفعول فى لنحضرنهم وفى نحشرنهم راجع الى مطلق البشر المؤمنين والكافرين، وحضور المؤمنين حول جهنم مثل ورودهم عليها، او راجع الى الكافرين، والجثى جمع الجاثى اصله جثو، وقرئ بضم الجيم وكسرها.
[19.69]
{ ثم لننزعن من كل شيعة } طائفة شاعت نبيا او اماما فى الهداية او اماما فى الضلالة { أيهم أشد على الرحمن عتيا } اصله عتو مصدر عتى عتوا وعتيا بضم العين وعتيا بكسرها استكبر وجاوز الحد والمعنى لننزعن من كل فرقة مؤمنة وكافرة اعتاهم، ونعفو من غير اعتاهم، او لننزعن من كل فرقة اعتاهم فندخلهم فى اسفل الجحيم ثم لننزعن العاتين منهم فندخلهم المداخل المترتبة من الجحيم على ترتيب عتوهم حتى يبقى المؤمنون، واى موصولة مبنية على الضم على قراءة ضم الياء لحذف صدر صلتها ومنصوبة مفعول لننزعن على قراءة فتح الياء، او استفهامية مبتدء وخبر والجملة حالية بتقدير القول، او مستأنفة بتقدير القول جواب لسؤال مقدر ومفعول لننزعن محذوف، او من كل فرقه مفعوله لكون من اسما، او لكون الظرف قائما مقام الموصوف لقوة معنى البعضية فى من { ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا }.
[19.70]
مصدر مثل العتى من صلى النار كرضى قاساها.
[19.71]
{ وإن منكم إلا واردها }.
اعلم، ان دركات الجحيم واقعة فى الآخرة ولا يدخلها الا من خرج عن الدنيا وعن عقبات البرزخ ووصل الى الاعراف وبقى عليه فعلية مناسبة للنار، واما قبل ذلك فلا يدخل احد النار وكانت ابواب الجحيم مغلقة ولذلك يقال: حينئذ ادخلوا ابواب الجحيم، وقال تعالى:
حتى إذا جآءوها فتحت أبوابها
[الزمر:71] فرتب فتح الابواب على مجيء اهلها لانها كانت مغلقة قبل المجيء واهل الجنة بعد الوصول الى الاعراف لا يبقى عليهم الا فعلية مناسبة للجنة فلا يدخلون النار لكن نقول: الدنيا انموذجة من الجحيم والاخلاق الذميمة والاوصاف الردية كلها انموذجة منهما، ومشتهيات النفس والآلام والاسقام من فوران الجحيم، والبرزخ بوجه هو جحيم الدنيا كما انه بوجه هو جنة الدنيا، والواردون على الاعراف كلهم واردون على الجحيم بمعنى انهم مشاهدون لها وكل الناس مؤمنهم وكافرهم لا بد لهم من العبور على الدنيا والاتصاف بمشتهياتها والعبور عن الرذائل والاوصاف الردية ومشتهيات النفس، وقلما ينفك الانسان عن علة ما او الم ما، ولا بد للكل من العبور على البرزخ اختيارا او اضطرارا لكن العبور يتفاوت بتفاوت الاشخاص والاحوال والكل واردون على الاعراف وواردون على جحيم الآخرة بمعنى انهم مشاهدون لها، اذا عرفت ذلك، عرفت وجه الجمع بين الاخبار المتخالفة الواردة فى هذا الباب وعرفت ان المراد بالنسخ فيما ورد ان هذه الآية منسوخة بآية
إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون
[الأنبياء:101] هو النسخ الجزئى الذى يكون بحسب الاشخاص والاحوال لا النسخ الكلى فان هذا الورود من لوازم وجود الانسان وكيفية خلقته ولذلك قال تعالى بعد الاخبار به { كان } ذلك { على ربك حتما مقضيا } مؤكدا بتأكيدات لكن قد يعرض الانسان جذبة من جذبات الرحمن لا تبقى عليه اثرا من الدنيا ونيرانها ولا من البرزخ وعقباتها، ولا من الاعراف ومشاهداتها فكان الورود المحتوم منسوخا ومرتفعا فى حقه، وما ورد ان النار تقول للمؤمن يوم القيامة: جزيا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبى؛ كان اشارة الى الدنيا ومشتهيات النفس او الاخلاق الرذيلة او البرازخ، وكذلك قول المعصوم جزناها وهى خامدة.
[19.72-73]
{ ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا وإذا تتلى عليهم آياتنا } التدوينية مطلقة او فى ولاية على (ع) { بينات } واضحات او موضحات رسالتك او قدرة الله على الاحياء بعد الاماتة او ولاية على (ع) { قال الذين كفروا } بالله او برسالتك او بولاية على (ع) { للذين آمنوا } لاجلهم او مخاطبين لهم استهزاء بالله او بدينك او بعلى (ع) { أي الفريقين } ممن اقر بالله او بالرسالة او بولاية على (ع) وممن انكر ذلك { خير مقاما } مكانا او موضع قيام، وقرئ بضم الميم { وأحسن نديا } مجلسا ومجتمعا يعنى انهم لما سمعوا الآيات الدالات على حقية دينك وقدرة الله او ولاية على (ع) وعجزوا عن المعارضة وردها افتخروا بما لهم من حسن الحال فى الدنيا وزعموا ان حسن حالهم انما هو لحقية انكارهم ورداءة حال المؤمنين لبطلان اقرارهم كما هو شأن اهل الزمان فى كل زمان، وهذا زعم فاسد فان حسن الحال وزيادة الحظ فى الدنيا مانعة عن حصول حظوظ العقبى ومهلكة فى العقبى كالشهد الذى فيه سم غير محسوس، وعن الصادق (ع) انه قال: كان رسول الله (ص) دعا قريشا الى ولايتنا فنفروا وانكروا فقال الذين كفروا من قريش للذين آمنوا الذين اقروا لأمير المؤمنين (ع) ولنا اهل البيت (ع) اى الفريقين خير مقاما واحسن نديا؛ تعييرا منهم فقال الله تعالى ردا عليهم، وقرء الآية الآتية { وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورءيا }.
[19.74]
قرئ رءيا بكسر الراء المهملة وسكون الهمزة وريا بكسر الراء وتشديد الياء وريا بكسر الراء وتخفيف الياء وزيا بكسر الزاء المعجمة وتشديد الياء، والكل بمعنى المنظر او ما يتجمل به.
[19.75]
{ قل } لهم ردا على زعمهم ان حسن الحال فى الدنيا جالبة لحسن الحال فى الآخرة { من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا } اداه بصيغة الامر للاشعار بان هذا امر كأنه واجب على الله لا تخلف عنه فلا تغتروا بامداد الله فى الدنيا واجتماع اسباب التنعم لكم فانه استدراج ومورث للهلاكة ابدا { حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب } بالقتل والاسر والنهب والاجلاء والبلايا الواردة من الله من الاسقام والآلام البدنية والنفسانية { وإما الساعة } ساعة الموت وعذابها { فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا } فانه وقت العذاب لا ينفع مال ولا بنون، ولا يدفع جند ولا الاقربون، ووقت الموت ينقطع كل موصول ولا يدفع كل دافع ولا ينفع الا الله، فمن انقطع عن الكل واتصل بالله بالبيعة الولوية مع خلفائه كان حينئذ احسن نديا فان مجتمعه كان من جند الله، ومن لا ينقطع عن الغير ولا يتصل بالله بالبيعة مع على (ع) كان اردء نديا لانقطاع كل ممن كان فى مجتمعه عنه وعن مجتمعه.
[19.76]
{ ويزيد الله الذين اهتدوا هدى } عطف على من كان فى الضلالة فليمدد وتغيير الجملة الثانية بالفعلية للاشعار بان الامداد والاستدراج عرضى تابع لاستعداد العباد وافعالهم بخلاف فضل الهداية فانه فضل محض وذاتى له تعالى وليس تابعا لفعل واستعداد وقد تكرر سابقا ان الهداية ليست الا ولاية على (ع) والتوجه اليه، عن الصادق (ع) انه قال: كلهم كانوا فى الضلالة لا يؤمنون بولاية امير المؤمنين (ع) ولا بولايتنا فكانوا ضالين مضلين فيمد لهم فى ضلالتهم وطغيانهم حتى يموتوا فيصيرهم الله شرا مكانا واضعف جندا { والباقيات الصالحات } وقد سبق بيان الباقيات الصالحات فى سورة الكهف { خير عند ربك ثوابا } مما متعوا به من الاثاث والرأى { وخير مردا } مرجعا مما توهموه من الاموال والاولاد، وصيغة التفضيل ههنا لمجرد التفضيل او للتفضيل على ما زعموه خيرا باعتقادهم.
[19.77]
{ أفرأيت الذي كفر بآياتنا } واعظمها على (ع) { وقال لأوتين مالا وولدا } يعنى فى الآخرة، ورد انه كان لبعض المؤمنين دين على بعضهم فجاءه يتقاضاه فقال: الستم تزعمون ان فى الجنة الذهب والفضة والحرير؟- قال: بلى، قال: فموعد ما بينى وبينك الجنة فوالله لاوتين فيها خيرا مما اوتيت فى الدنيا.
[19.78]
{ أطلع الغيب } فرأى فى الغيب ان له فى الآخرة مالا وولدا { أم اتخذ عند الرحمن عهدا } فانه لا يعلم ذلك الا بالمشاهدة والتحقيق، او بتعهد الصادق والتقليد وعلم الغيب منتف عنه والعهد ليس الا بالبيعة مع على (ع) وهو ينكر ذلك.
[19.79-80]
{ كلا سنكتب ما يقول } لنجزيه عليه فانه افتراء واستهزاء { ونمد له } عوض ما تصوره من المال والولد { من العذاب مدا ونرثه ما يقول } يعنى المال والولد الذى يدعى انه يؤتى فى الآخرة منهما بان نهلكه ونأخذ ما كان له فى الدنيا من المال والولد { ويأتينا } يوم القيامة { فردا } مما له فى الدنيا فلا يكون له ما كان له فى الدنيا ولا يحصل له ما يدعيه فى الآخرة.
[19.81]
{ واتخذوا من دون الله آلهة } عطف على قال لاوتين او على كفر بآياتنا، وجمع ضميره باعتبار المعنى فان المراد من الذى كفر هو الجنس لا الفرد المخصوص { ليكونوا لهم عزا } اى ليكون الآلهة للذين كفروا سبب عز فان العز والعزة بكسرهما والعزازة بالفتح مصدر عز بمعنى صار عزيزا، او ليكون الكفار لاجل الآلهة اعزاء.
[19.82]
{ كلا } ردع لهم عن هذا الزعم { سيكفرون } اى الالهة او الكفار { بعبادتهم } والضمير المضاف اليه يحتمل الوجهين على كل من الوجهين { ويكونون } اى الآلهة او الكفار { عليهم } اى على الكفار او على الآلهة { ضدا } ولما كان المنظور من كل منظور هو الولاية والوفاق والخلاف معها كان المراد ان الكافرين بالولاية اتخذوا مطاعين من دون على (ع) ليكونوا لهم عزا، كلا سيكفرون بطاعتهم لهم ويكونون عليهم ضدا؛ حين ما يرونهم فى الاعراف او فى القيامة او فى النار او حال الاحتضار اذلاء مردودين ويرون عليا (ع) فى اعلى مراتب العز وقد اشير اليه فى الخبر، ولما كان الرسول (ص) متحزنا عليهم وعلى انحرافهم وكأنه عزم على الدعاء عليهم قال تعالى تسلية له (ص) وتبطئة عن الدعاء { ألم تر أنآ أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا }.
[19.83]
{ ألم تر } برؤيتك الباطنية { أنآ } لا غيرنا { أرسلنا الشياطين على الكافرين } فاذا ترى انا ارسلنا الشياطين فما لك تتحسر او تعجل بالعذاب { تؤزهم أزا } ازت القدر من باب نصر وضرب اشتد غليانها، وازت السحابة صوتت من بعيد، واز النار اوقدها، والشىء حركه شديدا، والاز ضربان العروق؛ فاذا ترى انا ارسلنا الشياطين عليهم.
[19.84]
{ فلا تعجل عليهم } بالعذاب { إنما نعد لهم } الايام او الانفاس { عدا } ويقال: هذه الكلمة حين يراد الاشارة الى قلة الايام وفى الخبر انما هو عد الانفاس والا فالآباء والامهات يعدون الايام او المراد انا نعد اعمالهم عدا.
[19.85]
وعلى هذا فيوم نحشر المتقين ظرف لنعد، ويجوز ان يكون ظرفا لقوله لا يملكون او يكون مفعولا لا ذكر مقدرا.
اعلم، ان التقوى الحقيقية لا تحصل الا بالولاية ومن تولى عليا كان تقيا استشعر بتقواه ام لا، ويوم الاعراف الذى هو آخر البرازخ يحشر شيعة على (ع) الى مقاماتهم الاخروية ونعيمهم وازواجهم على ما نقل فى الاخبار من التفاصيل واختيار اسم الرحمن، لان شيعة على (ع) اذا وصل الى الاعراف لم يبق عليه شيء من اوصاف النفس ويطهر من كل ما ينبغى ان يطهر عنه من نسبة الافعال والصفات الى نفسه بل من نسبة الانانية الى نفسه ويحصل له الفناء التام الذى هو آخر مقامات التقوى، وبعد الفناء التام لا يكون بقاء الا ببقاء الله وبعد البقاء يصير الباقى مبقيا لاهل عالمه ومملكته وهذا الابقاء هو الرجعة فى العالم الصغير وهو انموذج رحمة الله الرحمانية وبهذا الاعتبار قال: نحشرهم الى الرحمن وبحسب السلوك اذا تم السفر الثانى للسالك وانتهى تقواه الى الفناء الذاتى وسار بالحق فى الحق ان ادركته العناية الالهية وابقته بعد فنائه يصير السالك ايضا باقيا ببقاء الله ومبقيا لاهل مملكته واهل الملك الكبير ويصير عادلا بعدل الله ومعطيا لكل حقه وهذا من خواص اسم الرحمن ولهذا قال: نحشر المتقين الى الرحمن؛ ووفدا جمع مثل ركب وصحب حال من المتقين، او مصدر بمعنى الجمع الوصفى وحال او مصدر مفعول مطلق من غير لفظ الفعل او بتقدير حشر وفد.
[19.86]
الورد مصدر بمعنى الاشراف على الماء دخل ام لم يدخل، واسم جمع بمعنى الجماعة الواردة على الماء، وهو حال او مصدر مثل الوفد، وفى استعمال لفظ الحشر هناك والسوق الذى ليس الا للبهائم ههنا مالا يخفى من التشريف والتوهين، وقرئ يحشر ويساق بالغيبة مبنيين للمفعول والمتقون والمجرمون مرفوعين.
[19.87]
{ لا يملكون الشفاعة } اى العباد المطلق المستفاد من ذكر القسمين او المجرمون { إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا } استثناء من فاعل يملكون او من الشفاعة بتقدير شفاعة من اتخذ عند الرحمن عهدا، او استثناء مفرغ اى لا يملكون لاحد الشفاعة الا لمن اتخذ عند الرحمن عهدا، والشفاعة اعم من المصدر المبنى للفاعل و المفعول او هو مبنى للفاعل والمعنى لا يملكون شفاعتهم للغير او شفاعة الغير لهم وقد اشير فى الاخبار الى الكل، والعهد المأخوذ عند الرحمن هو عهد البيعة وقد فسر فى الاخبار بعهد الولاية والبيعة مع على (ع) فان اخذ العهد عند الرحمن من دون مظاهره وخلفائه لا يتصور لاحد، وقد ورد عن الصادق (ع) انه قال الا من دان الله بولاية امير المؤمنين (ع) والائمة من بعده فهو العهد عند الله، وورد عنه ايضا انه قال: لا يشفع لهم ولا يشفعون الا من اتخذ عند الرحمن عهدا؛ الا من اذن له بولاية امير المؤمنين (ع) والائمة (ع) من بعده فهو العهد عند الله، والولاية قد تكرر فى مطاوى ما سلف انها البيعة لا غير، وقد ذكر فى الاخبار لبيان العهد بحسب الظاهر امور اخر من عهد الوصية وغيره.
[19.88]
عطف على كفر بآياتنا وقرئ ولدا جمعا، عن الصادق (ع) انه قال هذا حيث قالت قريش: ان الله عز وجل اتخذ ولدا من الملائكة اناثا.
[19.89]
{ لقد جئتم شيئا إدا } جواب سؤال او حال بتقدير القول والاد والادة بكسرهما والادة بفتح الهمزة، العجب والامر الفظيع والداهية والمنكر.
[19.90]
{ تكاد السماوات يتفطرن منه } صفة لشيئا بعد صفة او حال منه او مستأنفة { وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا } الخر السقوط مطلقا او من علو والهد الهدم الشديد والكسر.
[19.91-92]
{ أن دعوا } بدل من الضمير فى منه { للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا } لانه واحدا حد لا ضد له ولا ند ولا ثانى ولو كان له ولد كان ثانيا له ولو كان له ثان لانهدم وحدته وبانهدام وحدته ينهدم وجو به فسبحان من مقتضى ذاته عدم الثانى له.
[19.93]
{ إن كل من في السماوات والأرض } جواب سؤال فى موضع التعليل { إلا آتي الرحمن عبدا } يعنى كل من فى السماوات والارض يأتى يوم القيامة او آت فى حال وجودهم عبدا للرحمن خارجا من انانيته لا مقابلا له وثانيا حتى يسمى ولدا ذكرا او اناثا، ولما كان المراد بالعبدية العبدية التكوينية وليس كل افراد الانسان عبيدا لاسمائه اللطيفية ومظاهرها بل يكون بعضها عبيدا لاسمائه القهرية ومظاهرها فى الدنيا والآخرة اختار من الاسماء اسم الرحمن الذى هو مجمع اسمائه اللطفية والقهرية.
[19.94]
{ لقد أحصاهم } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: هل يعلمهم مع كثرتهم؟- فقال: لقد احصاهم من حيث ذواتهم واجزائها ومالها وما عليها { وعدهم } من حيث اعداد رؤسهم وافعالهم واقوالهم واحوالهم واخلاقهم وجميع حركاتهم ولمحاتهم { عدا } خارجا من نحو تعدادكم الموقوف على الزمان والتجسس.
[19.95]
عما يحسب انه له ممن يعتمد عليه فى الدين والدنيا ومن جميع الاموال والقوى والاعضاء ومن جميع النسب والاضافات ومن الاخلاء والاحباب.
[19.96]
جواب سؤال مقدر كأنه قيل: كلهم مؤمنهم وكافرهم يأتيه فردا، فقال: ان المؤمنين يكونون بوصف الحب او مع محبيهم غير منقطعى النسبة عن اخلائهم فان كل نسبة وخلة الا النسبة والخلة فى الله وقد تعدد الاخبار بأن الرسول (ص) قال لعلى (ع) يا على، قل اللهم اجعل لى فى قلوب المؤمنين ودا، فقال على (ع) ذلك ونزلت الآية، وفى بعض الاخبار ولاية امير المؤمنين (ع) هى الود الذى قال الله تعالى؛ والود بتثليث الواو مصدر ود من باب علم ومنع او وصف منه والمناسب هو معناه الوصفى فان المقصود انا سنجعل لهم محبا هو محبوبهم عند الرجوع الينا، فان نورهم يعنى امامهم يسعى حينئذ بين ايديهم وبايمانهم وان كان المراد به معناه المصدرى فالمقصود هو هذا المعنى، فان الحب الحقيقى هو ملكوت الامام الذى يظهر على صدر السالك وهذا يشير الى ما قاله الصوفية من الفكر والحضر والسكينة وهو ظهور الامام بملكوته على السالك وان السالك ينبغى ان يكون تمام اهتمامه بظهور الشيخ عليه وانه البغية القصوى والقنية العظمى.
[19.97]
{ فإنما يسرناه } الفاء عاطفة دالة على شرافة الحكم الآتى والهاء للقرآن او قرآن ولاية على (ع) او جعل الود الذى هو ملكوت على (ع) { بلسانك } بلغتك فان اللسان يستعمل كثيرا فى اللغة او على لسانك او فى لسانك { لتبشر به المتقين } الذين اتقوا بالولاية الطرق المنحرفة النفسانية { وتنذر به قوما لدا } جمع الالد وهو الخصم الشحيح الذى لا يزيغ الى الحق.
[19.98]
{ وكم أهلكنا قبلهم من قرن } بيان لجهة من جهات الانذار { هل تحس منهم } حال مما بعده { من أحد } لفظة من زائدة { أو تسمع لهم ركزا } صوتا يعنى لا ترى منهم عينا ولا تسمع منهم صوتا.
[20 - سورة طه]
[20.1]
قد سبق بيان تام لامثاله وقد ورد فيه بخصوصه انه من اسماء النبى (ص).
[20.2]
بل لتسعد فان المفاهيم فى مقام الخطابة معتبرة، والشقاء بمعنى العناء والتعب، وقد ورد بطرق متعددة ان الرسول (ص) كان يقوم على اطراف اصابع قدميه حتى تورمت قدماه (ص) واصفر وجهه (ص)، ويقوم الليل جمع حتى عوتب فى ذلك فقال الله تعالى: { مآ أنزلنا عليك القرآن لتشقى }.
[20.3]
{ إلا تذكرة } استثناء منقطع او استثناء مفرغ ومفعول له لتشقى او مفعول له لما انزلنا بشرط ان جعل لتشقى حالا من القرآن او من مجرور عليك او استثناء مفرغ حال من فاعل انزلنا او من مجرور عليك او من او من القرآن او من فاعل تشقى { لمن يخشى } الخوف بالمعنى الخاص من صفات النفس ما لم تصر عالمة تحقيقا فاذا صارت عالمة تبدل خوفها بالخشية كما انها اذا صارت مكاشفة ومشاهدة صارت خشيتها هيبة.
[20.4]
تنزيلا مفعول مطلق لفعله المحذوف، او منصوب على المدح بفعل المدح، او مفعول مطلق نوعى لما انزلنا، او مفعول به ليخشى، او مفعول له لتذكرة، او منصوب بنزع اللام وتعليل لتشقى او ليخشى، ووجه افراد الارض وجمع السماوات وبيان مصاديق كل قد مضى فى اول الانعام، وتقديم الارض على السماوات مع انها اشرف واقدم من الارض لمراعاة رؤس الآى، ولان الآية لبيان تشريف التنزيل باضافته الى من هو وسيع الخلق قوى القدرة وهذا المعنى يقتضى الترقى من الادنى الى الاقوى، ولتقدم الارض على السماوات فى العالم الصغير وفى الانظار الحسية.
[20.5]
قرىء الرحمن مرفوعا مبتدء وعلى العرش خبره ويكون الجملة حالا او مستأنفا او يكون على العرش متعلقا باستوى واستوى خبره وعلى الاول فاستوى مستأنفة او حال او خبر بعد خبر، وقرئ مرفوعا مقطوعا عن الوصفية خبرا لمبتدء محذوف، وحينئذ يكون على العرش حالا او خبرا بعد خبر، او جملة بتقدير مبتدء، ومستأنفة، وهكذا الحال فى استوى وقرئ بالجر صفة لمن خلق الارض، وعلى العرش حينئذ يكون حالا او متعلقا باستوى، او جملة مستأنفة بتقدير مبتدء محذوف ويجرى الوجوه السابقة فى استوى، وقد مضى فى سورة الاعراف بيان تام لاستواء الرحمن على العرش ولوجه خلق السماوات والارض فى ستة ايام.
[20.6]
الجملة مستأنفة فى موضع التعليل فانه لما ذكر انه خالق السماوات والارض وانه مستوى النسبة الى الجليل والقليل والكثير والحقير اجمالا اراد ان يعلل ذلك بنحو التفصيل فقال، لان له بدوا وغاية وملكا السماوات جميعا وما فيها والارض وما فيها لانه سبق مكررا ان نسبة شيء الى مظروف تشتمل النسبة الى الظرف خصوصا اذا كان المظروف اشرف من الظرف وما بينهما من عالم البرزخ او من النفوس المتعلقة بهما الغير المنطبعة فيهما ويكون المراد بما فيهما المنطبعات والمكمونات فيهما وما تحت الثرى من عالم الجنة او من القوى والاستعدادات البعيدة المكمونة التى لا يعلمها الا الله.
[20.7]
{ وإن تجهر } يا محمد (ص) او يا من يتأتى منه الخطاب وهو عطف على قوله له ما فى السماوات وتعليل آخر لشمول علمه وسعته وتصريح باحاطة علمه بعد التلويح اليه او جملة حالية والمعنى ان تجهر { بالقول } يعلمه { فإنه يعلم السر وأخفى } فكيف لا يعلم الجهر، والسر ما اخفيته فى نفسك، واخفى ما خطر ببالك ثم نسيته كما فى الخبر، او السر ما كان مخفيا عن غيرك، وأخفى ما كان مكمونا عن نفسك ولم تطلع انت ولا غيرك عليه.
[20.8]
{ الله لا إله إلا هو } استيناف وتعليل وحصر للآلهة فيه تصريحا بعد ما افاده تلويحا { له الأسمآء الحسنى } تعليل آخر لعموم جملة صفاته المستفاد اجمالا فانه ان لم يكن جملة الصفات الكمالية ثابتة له او كان بعض صفاته غير محيطة كان اسم تلك الصفة واسم كمال هذه مسلوبا عنه فلم يكن الاسماء الحسنى محصورة فيه.
[20.9]
عطف على ما انزلنا لان الاستفهام للتقرير فهو بمنزلة قد اتيك او مستأنفة، والمقصود تذكيره (ص) بحكاية موسى (ع) حتى يكون تسلية له (ص) عن اذى قومه وحملا له على الصبر على متاعبهم وتجزئة على دعوتهم من غير تأمل فى قبولهم وردهم، ومن غير خوف من لومهم وايذائهم، وتقوية لتوكله واعتماده على ربه (ص) وترغيبا فى التوسل به والانقطاع من كل من سواه يعنى تذكر حكاية موسى (ع).
[20.10]
{ إذ رأى نارا } بدل من حديث موسى (ع) او ظرف له وسيجيء فى سورة القصص حكاية حال موسى (ع) وتولده ونشؤه وفراره الى مدين وتزويج ابنة شعيب (ع) ورجوعه الى مصر { فقال لأهله امكثوا } فانه بعد رجوعه من مدين ضل الطريق فى ليل مظلم واصابهم برد شديد وريح وتفرقت غنمه واخذ زوجته الطلق فرأى نارا فقال لاهله: امكثوا { إني آنست نارا } اى رأيتها بحيث اطمأن قلبى وسكن وحشتى { لعلي آتيكم منها بقبس } بقطعة { أو أجد على النار هدى } ما يهتدى به من طريق او اثر معمورة او انسان يدلنى على الطريق وكان موسى (ع) غيورا لا يمشى مع الرفقة لئلا يرى زوجته الاجنبى فلما دهمه ظلمة الليل وتفرق ماشيته واصابهم برد شديد وابتليت زوجته بمرض الطلق واراد ان يوقد النار ولم ينقدح زنده واضطرب اضطرابا شديدا ورأى نارا استأنس بها وقال لاهله تسلية لها انى آنست نارا وترك الماشية واهله وذهب الى النار.
[20.11-12]
{ فلمآ أتاها } متعلقا قلبه بأهله وماشيته لانه تركها بحال لا يجوز العقل تركها بتلك الحال { نودي يموسى إني أنا ربك } قرئ بفتح همزة انى وكسرها { فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى } الوادى المفرج بين الجبال والتلال والآكام وطوى قرئ منصرفا وغير منصرف باعتبار كونه علما للوادى وعلما للبقعة وسمى مقدسا لانه بورك فيه بسعة الرزق والخصب كما قيل، او لانه كان مطهرا من عصيان بنى آدم، او لانه قدست فيه الارواح واصطفيت فيه الملائكة وكلم الله موسى تكليما كما فى الخبر، وسمى طوى لانه كان مطويا فيه العلوم، او الملائكة والبشر، او الخير والبركة، او عالم الطبع والكثرات، او الخلق والحق وامره بخلع نعليه لان الحفاء اقرب الى التواضع، ولان يلاصق قدمه الوادى فتتبرك به ولان النعلين كانتا كناية عن الاهل، او عن الاهل والمال كما يعبران فى الرؤيا بالمنكوحة، او لانهما كانتا كناية عن خوف ضياع ماله واهله، او عن خوف ضياع اهله وخوف فرعون فأمره بخلع حب الغير او خوف الغير من قلبه، وما نقل من طرق العامة من انهما كانتا من اهاب الميتة فأمره الله بخلعها؛ ورد صريحا تكذيبه من طريقنا.
اعلم، ان الانسان من اول طفوليته مبتلى بمشتهياته الحيوانية ومقتضياته النفسانية فهو بعد البلوغ اما يقف عليها ولا يعرف من الدين والملة سوى ما اخذه واعتاده من الآباء والاقران، او يظهر فى وجوده زاجرا لهى فيزجره عن الوقوف على الحيوانية وهو اما يقف على هذه الحالة ويتحير فى امره حتى يدركه الموت وهو حال اغلب الناس او يصل بهيجانه وانزجاره الى زاجر الهى ظاهرى من نبى او خليفته ويسلم نفسه له ويقبل منه الاحكام القالبية الظاهرة فى اى دين وملة كان، وهو اما يقف عن طلبه ويكتفى بالاتصال بالزاجر الالهى وظواهر الاحكام القالبية وهو حال اغلب المليين، او يتهيج لطلب بواطن الاحكام القالبية ويطلبها؛ وهو اما يقف ويتحير حتى يدركه الموت، او يصل الى من يدله على طريق معرفة بواطن الاحكام؛ وهذا اما يكتفى بالوصلة البشرية والبيعة الولوية، او يزداد بذلك شوقه الى معرفة البواطن وشهود الغيب؛ وذلك اما يقف على هذه الحال حتى يدركه الموت او تدركه العناية الالهية وتوصله الى مقام من النفس يرى فيه مظاهر الله ويسمع صوت الله من مظاهره وهذا اول مقام الاطلاع على الغيب والالتذاذ ببواطن الشرع، وهذا اول مقام يصلح العبد لان يرجعه الله الى الخلق للدعوة والتكميل فان دعوته هناك تكون على بصيرة ويصير العبد من اتباع محمد (ص) الذين اشار اليهم بقوله تعالى:
قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني
[يوسف:108]؛ سواء كان من امة محمد (ص) او من الامم الماضية، ولما كان الانسان مفطور التعلق بالكثرات ولا يبلغ الى هذا المقام الا من طرح الكثرات وازال الانانيات كان الله تعالى اذا اراد ان يبلغ عبده الى هذا المقام ابتلاه بالبلايا الواردة النفسية والبدنية والحقية والخلقية حتى ينزجر غاية الزجرة ويستوحش غاية الوحشة وينصرف من الكثرة الى الوحدة ولذلك يظهر قبل ظهور صاحب الامر الدجال والسفيانى، وقبل خراب الدنيا يأجوج ومأجوج، ولما اراد الله تعالى ان يبلغ موسى (ع) الى هذا المقام وكان شديد الاهتمام بالكثرات وحقوقها سلط عليه البرد وظلمة الليل وتفرق الماشية ومخاض المرأة وعدم انقداح الزندة وضلال الطريق حتى دهش غاية الدهشة واستوحش غاية الوحشة، ثم اراه نوره بصورة النار وبلغه الى ذلك الوادى وذلك الوادى واقع بين جبلى انانية الله وانانية العبد ومطوى فيه الخيرات والبركات ومجتمع للملك والبشر والخلق والحق، ومطوى فيه انموذجات العلوم كلها والآيات جلها، وهذا هو طور النفس ومرتفعها وفناء دار التوحيد فان الطور اسم للجبل ولفناء الدار كما انه علم لجبل قرب ايلة يضاف الى سينا وسينين وعلم جبل بالشام، وقيل: هو يضاف الى سينا وسينين، وعلم جبل بالقدس عن يمين المسجد، وآخر عن قبلته به قبر هارون، وجبل برأس العين، وجبل مشرف على الطبرية وعلم كورة بمصر، وعلم بلد بنواحى نصيبين.
[20.13]
{ وأنا اخترتك } يعنى للرسالة والوحى، وقرئ انا اخترناك بفتح الهمزة وتشديد نون انا، واخترنا بصيغة المتكلم مع الغير { فاستمع لما يوحى } للوحى او للذى يوحى اليك.
[20.14]
{ إنني أنا الله } بيان لما يوحى { لا إله إلا أنا } لما كان اساس الرسالة واصل الاصول والفروع فى الدين هو التوحيد كان الله تعالى يوحى بتوحيده الآلهة والعبادة اول ما يوحى { فاعبدني } اى صر عبدا لى بخروجك من رقيتك لنفسك وللشيطان ومن شراكة نفسك والشيطان لله فى عبديتك او اعمل لى عمل العبيد { وأقم الصلاة لذكري } اى لان اذكرك ولا شرف اشرف منه يعنى ان الصلوة ذكرك لى وذكرك لى مستعقب لذكرى لك، او لان تذكرنى او لمحض ان تذكرنى من غير شوب غرض آخر فيها، او المعنى اقم الصلوة لحصول ذكرى بمعنى انك كلما تذكرتنى فتوجه توجها تاما حتى تقيم الصلوة ولا تكن كمن يذكرنى ذكرا ناقصا من غير توجه والتفات، او بمعنى انك كلما ذكرت الصلوة المنسية بان ذكرتنى وذكرت امرى وتذكرت نسيان الصلوة المنسية فأقمها، او بمعنى انى ذاكر لك بالذكر العام مداما ويقتضى ذلك ان تكون متوجها الى توجها تاما وقد سبق فى اول البقرة معانى الصلوة، وتحقيق اقامتها، وان اقامة الصلوة عبارة عن ايصال الصلوة القالبية بالصلوة الذكرية القلبية وايصال الصلوة الذكرية بالصلوة الفكرية الصدرية، وايصال الصلوة الفكرية بالصلوة القلبية الحقيقية، وايصال الصلوة القلبية بالصلوة الروحية.
واعلم، ان الذكر كما سبق بيانه فى سورة البقرة عند قوله تعالى
فاذكروني أذكركم
[البقرة: 152] له مراتب ودرجات وان الذكر الحقيقى وحقيقة الذكر هو خليفة الله فى الارض، فانه وان كان بحسب ملكه مختفيا كونه ذكر الله لكنه بملكوته ذكر جلى لله بحيث يلتبس على غير ذى البصيرة التامة انه هو الله لظهور المحكى به بحيث يختفى البينونة ويغلب حكم الظاهر على المظهر، وان المقصود من الاذكار والاعمال التى يقررها صاحب هذا الامر على السالك هو حصول هذا الذكر فانه غاية الغايات ونهاية النهايات، فالمعنى على هذا اقم الصلوة واوصل مراتبها كلا بالاخرى لتحصيل هذا الذكر او لحصوله يعنى ان لم يكن هذا الذكر حاصلا لك فاقم الصلوة ليحصل لك لانه هو البغية العظمى والغنية القصوى، وان كان هذا الذكر حاصلا لك فاقم الصلوة شكرا لهذه النعمة واستتماما لتلك البركة.
[20.15]
{ إن الساعة آتية } تعليل لقوله: اقم الصلوة لذكرى فان الساعة فسرت فى الاخبار بساعة ظهور القائم (ع)، وبساعة الموت، وبالقيامة، وهذه الثلاث فى العالم الصغير متحدة فان ظهور الامام (ع) بملكوته لا يكون الا عند الموت الاختيارى كما انه لا يكون الموت الاختيارى الا عند ظهور الامام (ع) وعند الموت يكون القيامة الصغرى، وكما يكون ظهور الامام (ع) فى الموت الاختيارى يكون فى الموت الاضطرارى ايضا كما فى الاخبار فعلى هذا كان المعنى اقم الصلوة منتظرا لظهور الامام (ع) بملكوته لان ساعة ظهوره آتية لا محالة فانتظرها { أكاد أخفيها } قرئ بضم الهمزة من الاخفاء بمعنى جعل الشىء خفيا، او بمعنى سلب الخفاء عن الشيء، وقرئ بفتح الهمزة من خفاه بمعنى اظهره، ولكن فى الاخبار اشارة الى معنى الستر، ولما كان ظهور الساعة من الامور الخفية التى لا يطلع عليها النفوس الضعيفة بل الكاملة الا صاحب الولاية المطلقة الذى يطلع على دقائق الامور وخفياتها ولذلك قال على (ع): قد خصصت بعلم المنايا والبلايا؛ فان المراد بالمنايا انواع موتات الانسان فى السلوك وفى البرازخ، وانواع ظهورات الساعة والقائم عجل الله فرجه والمراد بالبلايا انواع الامتحانات للخلاص من حجب ظهور الساعة والامتحان لظهور الساعة فرع العلم بكيفية ظهورها ووقت اتيانها وفى اخبارنا: اكاد اخفيها من نفسى، وقيل: اكاد اخفيها من نفسى هكذا نزلت، وانه فى قراءة ابى كذلك، وهذه الكلمة تقال عند المبالغة فى اخفاء شيء من غير اعتبار واخفاء من النفس، او المراد بقوله تعالى: من نفسى: من خليفتى، فان خليفته فى الارض بمنزله نفسه { لتجزى كل نفس بما تسعى } تعليل لقوله: ان الساعة آتية، لان ظهور القائم (ع) يوجب اعطاء كل ذى حق حقه، او تعليل لقوله: اكاد اخفيها لان فى الاخفاء وعدم الاظهار يحصل الابتلاءات والامتحانات والتخليصات للسالكين فى الدنيا وللمسيئين فى البرازخ بعد الموت على ان يكون المراد بالساعة القيامة الكبرى والقيام عند الامام بعد الخلاص مما عليه من شوائب المساوى والابتلاءات جزاء ما فعله العبد باقتضاء نفسه ومشتهياتها، او تعليل لكليهما على سبيل التنازع، والجزاء اما بعين ما تسعى بناء على تجسم الاعمال، او بجزاء ما تسعى، وفى الآية على ما فسرت اخيرا دلالة على ما قالته الصوفية من ان السالك ينبغى ان يكون منتظرا لظهور صاحب الامر (ع) وان لا يكون منظوره من جملة اعماله الا ظهور صاحبه، وفى قوله:
أقم الصلاة لذكري
[طه:14] ايماء الى حصر المقصود من الاعمال فى الذكر باعتبار مفهوم القيد.
[20.16]
{ فلا يصدنك عنها } اى عن اقامة الصلوة لذكرى او عن الصلوة لذكرى او عن الساعة اى عن ساعة ظهور الامام عجل الله فرجه { من لا يؤمن بها } فى مرجع هذا الضمير ما فى مرجع ضمير عنها { واتبع هواه } من قبيل عطف العلة او المعلول { فتردى } فان فى الصد عنها صرفا عنها وفى الصرف عنها توجها الى الدار السفلى وحركة فيها لان النفس متحركة وخارجة بالتدريج من القوة الى الفعل، واذا انصرفت عن الدار العليا توجهت لا محالة الى الدار السفلى وتحركت فى دركاتها وفيها هلاكتها.
[20.17-18]
{ وما تلك بيمينك يموسى } لما صار موسى (ع) فى غاية الوحشة والدهشة والاضطراب من خوف ضياع ماله وعياله ورؤية غرائب لم يكن يرى قبل ذلك مثلها من اشتغال نار بيضاء من شجرة خضراء من اصلها الى فرعها لم تكن تضر النار بخضرتها واهواء النار اليه كلما اراد ان يأخذ منها وتكلم متكلم من النار، سأل تعالى عن احب الاشياء اليه حتى يشتغل به ويأنس من وحشته ويسكن من اضطرابه فان الاشتغال يسكن الاضطراب خصوصا اذا كان فى حق المحبوب ومع من كان الاضطراب منه ولذا بسط موسى (ع) فى الجواب و { قال هي عصاي } وزاد على قدر الجواب قوله { أتوكأ عليها } اى اعتمد فى المشي او حين اريد ان أقوم على غنمى { وأهش بها } اى اخبط الورق من الاشجار { على غنمي ولي فيها مآرب أخرى } مثل سوق الغنم بها ودفع الذئب حين تعرضه، والاستظلال بسببه بان كان يركزها فى الشمس ويعرض الزندين على شعبتيها ويلقى عليها كساءه، وتطويل حبل الدلو بها اذا قصر، وغير ذلك، واجمل المآرب مع انه كان اقتضاء بسط الجواب ان يبسط المآرب اما للاستحياء، او لعدم مساعدة قلبه على اكثر من ذلك لشدة اضطرابه، وايضا لما اراد الله ان يجعل عصاه آية نبوته وآية ان الكلام رحمانى لا شيطانى اذ قيل: ان موسى (ع) شك فى ان الكلام شيطانى او رحمانى، وقيل: انه (ع) بعد ما سمع انى انا الله من الشجرة قال: ما الدليل على ذلك؟- سئل من عصاه حتى يتنبه انه جماد ميت ويتذكر ذلك فلا يشك اذا صارت حية حية فى انه الهى لا شيطانى.
[20.19-20]
{ قال } الله تعالى { ألقها يموسى فألقاها فإذا هي حية تسعى } تتحرك سريعة، قيل: لما القيها صارت حية بغلظ العصى فعظمت وصارت ثعبانا عظيما، ولذلك سماها جانا تارة، وثعبانا اخرى، او صارت من اول الامر بعظم الثعبان لكنها تتحرك سريعا مثل الجان، ولما رأى موسى (ع) انها صارت حية عظيمة تسعى خاف منها وادبر يعدو من خوفه.
[20.21]
اى هيئتها الاولى.
[20.22]
{ واضمم يدك إلى جناحك } الجناح اليد والعضد والابط والجانب { تخرج بيضآء من غير سوء } اى من غير علة برص وكان موسى (ع) شديد السمرة فأخرج يده من جيبه فاضاءت له الدنيا { آية أخرى } على صدق كلامى وانه رحمانى وعلى صدق رسالتك عند من اريد ان ارسلك اليه.
[20.23-24]
{ لنريك } متعلق بتخرج او باضمم او ظرف مستقر خبر مبتدء محذوف، واللام للتبيين او متعلق باذهب والمعنى لنيرك { من آياتنا الكبرى اذهب إلى فرعون } يعنى المقصود الاهم من ارسالك اليه تكميلك فى ذاتك حتى تستعد لرؤية الكبرى من الآيات وهى مشاهدة نور الولاية العلوية، والكبرى اما صفة للآيات والمفعول محذوف ومن آياتنا قائم مقامه، او من بنفسه مفعول ثان لنريك لكون من اسما او لقيامه مقام المفعول لقوة معنى البعضية فيه، او الكبرى مفعول ثان لنريك { إنه طغى } تجاوز عن الحد حتى استكبر على خلفاء الله.
[20.25]
اعلم، أنه قد تكرر قصة موسى (ع) وقومه وقصته مع فرعون باختلاف يسير فى الالفاظ ووجه التكرار ان حكاية موسى (ع) من اول انعقاد نطفته الى آخر حياته كلها عبرة ونصح ووعد ووعيد وانذار وتبشير وتسلية للرسول (ص) وللمؤمنين، وتقوية لتوكلهم وصبرهم على ما نالوه من الدهر والاعداء، وفيها آيات كثيرة دالة على علمه تعالى وقدرته ولطفه ورحمته ونكاله وعقوبته، وعلى قوة قلب موسى (ع) وسعة صدره وزيادة تحمله لما نال من قومه الذين كانوا اشد حمقا من امم جميع الانبياء، وشدة صبره على مداراة الاعداء ليكون اسوة له (ص) وللمؤمنين فى جميع ذلك، وكفى فى قوة قلبه وسعة صدره فى مقام المناجاة الذى قلما ينفك المناجى عن الغشى والانسلاخ من الكثرات ومن الشعور بها بقاء التفاته الى الكثرات بحيث لم يكن يهمل من حقوقها شيئا، فانه بعد ما امره الله تعالى وشرفه بالرسالة استشعر بان الرسول ينبغى ان يكون طليق اللسان حتى يمكنه الدعوة والمجادلة اللازمة للدعوة ودفع الخصم وشبهاته وكان بلسانه لكنة لا يمكنه ذلك، وينبغى ان يكون وسيع الصدر حتى يمكنه تحمل متاعب الرسالة، ولا ينزعج بكل مكروه فان الرسالة يلزمها المكاره التى يسلم اكثر الناس منها، وكان ضيق الصدر شديد الغضب سريع الانزعاج من كل مكروه، وينبغى ان يكون محبوبا للخلق لا مبغوضا وكان (ع) مبغوضا لهم لقتله منهم نفسا، ولذلك اعتذر واستعفى وقال كما فى سورة الشعراء:
رب إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون
[الشعراء:12-14]، ولعله كان الكلام والامر والردع من الله والاعتذار والاستعفاء والمسئلة من موسى (ع) مكررا وكان استعفاؤه كما فى سورة الشعراء اول ما اجابه فلما ردعه الله عنه سأله منه تعالى شرح صدره كما حكى الله عنه فقال: اذا لم يكن بد من ارسالى فاشرح لى صدرى.
[20.26]
حتى لا يردونى ولا يبغضونى فيصعب على دعائى لهم لانى قتلت منهم نفسا ويقبلوا منى.
[20.27]
الظاهر ولسانى الباطن.
[20.28]
فانه كان بلسانه لكنة من جمرة ادخلها فاه حين امتحان فرعون تميزه ورشده.
[20.29-32]
{ واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري } قوتى { وأشركه في أمري } قرئ اشدد بضم الهمزة واشركه بفتح الهمزة على صيغة الامر وقرئ الاول بفتح الهمزة والثانى بضمها على صيغة المضارع المتكلم فان كانا امرين كانا تأكيدا لقوله: { اجعل لي وزيرا } ولذلك لم يأت باداة الوصل، وان كانا مضارعين كانا مجزومين فى جواب الامر، وفى قوله: { أشركه في أمري } ، دلالة على انه لم يرد بكونه وزيرا محض المعاونة فى الامر بل اراد ان يكون شريكه فى الرسالة ايضا حتى يكون اهتمامه بالامر مثل اهتمام موسى (ع).
[20.33-34]
لما كان عماد امر الرسالة والعبادة هو التسبيح والتحميد بل كان اساس جملة الامور على الطرح والاخذ والخلع واللبس الذين صورتهما الزكوة والصلوة والتسبيح والتحميد والتبرى والتولى، جمع فى غاية مسؤله بينهما وجعل غاية سؤال الموازرة ذلك للاشعار بان منظوره من السؤال ليس الا ما هو ملاك جملة الامور؛ وفيه اشعار بان الاجتماع اذا كان على سبيل الموافقة يعين على جهة العبادة.
[20.35]
اعتذار عن سؤال وزارة هارون بأنك بصير باحوالنا وانى منفردا لا اقدر على امضاء هذا الامر وان هارون اولى من غيره لوزارتى وانى لم ارد من هذا السؤال الا تكثير التسبيح والذكر، او استدراك لنقصان سؤاله بمعنى لكنك كنت بنا بصيرا فان تعلم انه لا يصلح لى هذا المسؤل، اولا يصلح هارون للوزارة، او لا خير لى فى شرح صدرى وتيسير امرى فلا تجب مسؤلى.
[20.36]
قيل فى هذا دلالة على انه اراد بقوله واحلل عقدة من لسانى العقدة الباطنية لان لكنة لسانه الظاهر كانت باقية بدليل قوله تعالى حكاية عن فرعون:
لا يكاد يبين
[الزخرف: 52].
[20.37]
كما مننا عليك فى هذه المرة بتشريف الرسالة وباجابة مسؤلك.
[20.38]
{ إذ أوحينآ } ظرف لمننا او بدل من مرة اخرى ان اعتبر فيها معنى الظرفية فان المرة بمعنى الفعلة من الفعل السابق عليها لكنها قد يعتبر فيها معنى الظرفية بتقدير الزمان قبلها { إلى أمك } حين تولدك وخوفها من قتلك { ما يوحى } ما ينبغى ان يوحى ولا يترك لترتب المصالح العديدة عليه من انجاء بنى اسرائيل من القبطى، واهلاك اعداء الله، واحياء العالم بانتشار صيت الرسالة والوحى كان الهاما، او على لسان نبى وقتها او كان بتحديث الملك فى المنام او فى اليقظة.
[20.39]
{ أن اقذفيه في التابوت } ان تفسيرية وتفسير لما يوحى او مصدرية وبدل من ما يوحى يعنى اوحينا اليها ان تصنع تابوتا لا ينفذ الماء فيه وان تلقيك فيه { فاقذفيه } اى التابوت او موسى (ع) { في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له } تكرار عدو لمطلوبية تكرار الذمائم عند الذم ولان جهة عداوة كل غير جهة عداوة الآخر { وألقيت } عطف على اوحينا والتفاوت فى المسند اليه اما لان الوحى لا يكون الا بواسطة او وسائط، والقاء المحبة ليس الا بلا واسطة، او للاشارة الى تشريف له بانه تعالى بنفسه القى المحبة اليه دون الوحى الى امه او لمحض التفنن وتجديد النشاط { عليك محبة } عظيمة او حقيرة { مني } صفة لمحبة بمعنى القيت عليك محبتى فصرت محبوبا لى، ومن صار محبوبا لى يصير محبوبا للكل لان محبة كل الموجودات رقيقة من محبتى فاذا تعلق محبتى بشيء تعلق بذلك الشيء محبة جميع الموجودات لميل كل المحبات الى اصلها الذى هو محبتى، او بمعنى القيت عليك محبة الناس من قبلى لا من جانب الاسباب مثل الجمال والكمال، او بمعنى القيت عليك محبتك لى فصرت محبا لى فصرت محبا لك لان كل محبوب يحب محبه، او بمعنى ألقيت عليك محبتك للناس فصرت محبا للناس فصار الناس محبا لك ومنى ظرف لغو متعلق بالقيت بهذين المعنيين وكان موسى (ع) بحيث كلما راه رآء احبه؛ ولذلك اجاب فرعون زوجته آسية فى قوله:
قرة عين لي ولك لا تقتلوه
[القصص: 9] { ولتصنع } عطف على محذوف اى لتصير محبوبا ولتصنع او متعلق بمحذوف معطوف على القيت اى فعلت ذلك لتصنع { على عيني } يقال فلان على عينى اى يكرم عندى، او المراد على ديدبانى يعنى مكرما على ديدبانى الموكل بك ولتشريف موسى (ع) بالنسبة الى سفينة نوح (ع) قال ههنا على عينى وهناك
اصنع الفلك بأعيننا
[المؤمنون: 27].
[20.40]
{ إذ تمشي أختك } متعلق بالقيت او بتصنع يعنى لتربى وتكمل على عينى وقت وقوعك فى يد فرعون ومحبته لك وطلبه مرضعة لك وعدم التقامك ثديا وانتظارهم وتوقعهم ارتضاعك وحاجتهم الشديدة الى مرضعة ترضعك اذ تمشى اختك { فتقول } لهم { هل أدلكم على من يكفله } وسألوا من اختك الدلالة عليها واحضر فرعون امك وسلمك اليها للارضاع باجرة ومؤنة { فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن } امك او انت { وقتلت نفسا } عطف على اوحينا والمراد بقتل النفس قتل القبطى الذى كان منازعا مع السبطى فبطشه كما سيأتى { فنجيناك من الغم } بان الهمناك ودللناك على الخروج من مصر { وفتناك فتونا } ابتليناك من اول انعقاد نطفتك بانواع البلايا لتكون عبرة للناظرين والسامعين لها وحجة على الجاحدين المنكرين لقدرة الله الخادعين مع الله بان جعلنا انعقاد نطفتك على باب قصر فرعون فى ليل كان فرق بين نساء بنى اسرائيل ورجالهم، وحملت بك امك فى عام كان فرعون وكل فيه بنساء بنى اسرائيل نساء من القبطى يفتش النساء لاستظهار الحمل، ويستحيين حيائهن ولم يظهر حملك عليهن، وولدت فى عام كان فرعون يقتل كل مولود ذكر اسرائيلى فيه فألقيت على المرأة الموكلة بأمك محبة لك حتى قالت لأمك لا تحزنى واصنعى به ما شئت ولم تخبر بك، والقتك أمك فى البحر فسلمتك من الغرق وسائر آفات البحر، وسلمتك الى فرعون وألقيت محبتك فى قلبه، وربيتك فى حجر عدوك حتى استدعى من امك ان ترضعك باجرة، وابتليتك بان هم فرعون بقتلك غير مرة فسلمتك، وبان قتلت نفسا منهم ففررت خوفا منهم من غير رفيق وزاد وراحلة الى مدين فسلمتك الى مدين والى نبيى شعيب وزوجتك ابنته، وابتليتك بان آجرت نفسك عشر سنين لرعى ماشيته بان صرت محبوسا بتلك الاجارة وكان كمالك فى ذلك الحبس، وبعدما خرجت من مدين ابتليتك ببرد شديد وظلمة شديدة وضلال الطريق وتفرق الماشية ومخاض المرأة وعدم انقداح الزند حتى اخلصتك لمناجاتى وكلامى بذلك { فلبثت سنين } عشرا { في أهل مدين } على ما روى انه اتم ابعد الاجلين { ثم جئت } من مدين الى او الى ههنا او الى مصر مشتملا { على قدر } اى مبلغ يبلغ الرجال فيه الى الكمال، او على طاقة لحمل أعباء الرسالة، او على قوة فى بدنك ونفسك، او على ما قدر لك من فضل الرسالة { يموسى } فى تكرار النداء لطف من الله والتذاذ للمنادى.
[20.41-42]
{ واصطنعتك } مبالغة فى الصنع يعنى خلقتك وربيتك وأكملتك كمالا ينبغى بحال الكمل من الرجال خاصا { لنفسي } هذا غاية تشريف وتكريم له (ص)، ولما كان مراده ان يرسله الى من هو خائف منه ذكر قبل ذلك ما من به عليه مرات عديدة ليكون على ذكر من ذلك ويتسلى بذلك عن خوفه ويكون على قوة من القلب حين الذهاب الى فرعون وقال تعالى { اذهب أنت وأخوك } كما سألته { بآياتي } الى فرعون وقومه اسقطه ههنا بقرينة السابق واللاحق { ولا تنيا } لا تفترا { في ذكري } الذى اخذتماه من شيخكما للدوام عليه اوفى تذكرى والتوجه الى بقلوبكما حيثما تقلبتم، او حين الدعاء الى، او فى رسالتى، او فى ذكرى بألسنتكم عند فرعون.
[20.43-44]
{ اذهبآ إلى فرعون } تأكيد للاول ولذلك لم يأت بأداة الوصل { إنه طغى فقولا له قولا لينا } قولا بمعناه المصدرى، او بمعنى المقول مفعول مطلق او مفعول به { لعله يتذكر أو يخشى } عن الكاظم (ع) واما قوله: لعله يتذكر او يخشى، فانما قال ذلك ليكون أحرص لموسى (ع) على الذهاب وقد علم الله عزوجل ان فرعون لا يتذكر ولا يخشى الا عند رؤية البأس، والتذكر كناية عن الرجاء، والخشية هى الخوف.
[20.45]
{ قالا } يعنى قال موسى (ع) قالا وهارون (ع) حالا، او قال موسى (ع) وضمير التثنية للتغليب، او قالا بعد رجوع موسى (ع) الى مصر واعلام هارون (ع) بالرسالة { ربنآ إننا نخاف أن يفرط علينآ } اى يسبقنا ويسبق آياتنا بقوته وعقوبته او يسرف علينا، وقرئ يفرط مبنيا للمفعول و للفاعل من افرطه اذا حمله على المعاجلة، او من افرط اذا اسرف { أو أن يطغى } يعنى نخاف من قساوته وعن ملكه ان يسبقنا بالعقوبة، او يظهر بالنسبة اليك مالا نرضاه ولا نتحمله.
[20.46]
{ قال لا تخافآ إنني معكمآ } معية خاصة غير المعية المطلقة التى تكون لى مع كل شيء فتمنعه معيتى لكما عن الاسراف عليكما وعن الطغيان على { أسمع } منه مالا تسمعاه { وأرى } منه ما لا ترياه منه فاصرف عنكما شره فى كل حال وانصركما من حيث لا ترون ولا يرى.
[20.47-48]
{ فأتياه } اى اذا كنت معكما اسمع وارى فأتياه من غير خوف منه متكلين على نصرتى { فقولا إنا رسولا ربك } تثنية الرسول ههنا وافراده فى الشعراء للاشارة الى وحدة الرسالة وتعدد الرسولين { فأرسل } اى اطلق من الاستعباد وارسل { معنا بني إسرائيل } الى ما نشاء من البلاد، او ارسل من العذاب معنا بنى اسرائيل سواء كنا فى مصر او فى غيرها { ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك } جواب سؤال مقدر او مذكور حين التكلم محذوف حين الحكاية كأنه قال: وهل لكما ما يدل على صدقكما؟- فقالا: قد جئنا بآية دالة على صدقنا فى رسالتنا من ربك، وتكرار ربك للاشعار بانه مربوب وليس برب كما ادعاه، وهذا جزء مقول القول الذى امرا به او كلام منهما والتقدير فجاءا وقالا له ما قاله تعالى فقال: ما الدليل؟- قالا: قد جئناك (الى آخر الآية) { والسلام على من اتبع الهدى } يعنى أظهرا دعواكما عنده وأظهرا ان لكما آية على دعوتكما، ثم حيياه بتحية المتاركة بنحو التعريض بضلاله ودعائه الى اتباع الهدى، او قولا له: السلامة على من اتبع الهدى، وعلى هذا فقوله { إنا قد أوحي إلينآ أن العذاب على من كذب وتولى } كان فى موضع تعليل، وعلى الاول كان جوابا للسؤال على حالهما فى رسالتهما، هذا اذا كان قوله: قد جئناك محكيا بالقول، واذا كان منهما حين الورود على فرعون كان قوله: والسلام على من اتبع الهدى (الى آخر الآية) من قولهما، وارتباطه بسابقه كان ظاهرا.
[20.49]
نادى موسى (ع) لانه كان الاصل وهارون (ع) كان فرعا، او اراد ان يتكلم موسى (ع) حتى يظهر على الحاضرين عجزه عن التكلم ووهنه فى ادعائه، ويدل عليه قوله
أم أنآ خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين
[الزخرف:52].
[20.50]
{ قال } موسى (ع) لما خصه بالنداء اجاب هو عنه فقال { ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه } قرئ بسكون اللام مفعولا ثانيا لاعطى، او مفعولا اولا اى اعطى كل شيء خلقه وايجاده او خلقه وصورته اللائقة به، او اعطى كل شيء نظيره فان كل شيء من الحيوان له نظير من الذكر او الانثى، وهكذا من النبات والمعدن حتى العناصر فان الارض نظيرها المرافق لها هو الماء مثلا، وقرئ خلقه فعلا ماضيا صفة لشيء والمعنى اعطى كل شيء من الاعيان الثابتة والتعينات الظاهرة فى مقام علمه كل ما يحتاج اليه من الوجود ولوازمه من الكمالات الاولية اللائقة بحال كل والكمالات الثانية ويكون قوله خلقه { ثم هدى } بيانا وتفصيلا لقوله اعطى كل شيء، ومعنى خلقه اعطاه وجوده وكمالاته الاولية، ثم هداه بالاراءة او الايصال الى الطريق او الى المطلوب الى كمالاته الثانوية الاختيارية فى المختارين، او الاضطرارية فى المضطرين، والتعبير عن اعطاء الكمالات الثانوية بالهدى للاشعار بان الوصول الى الكمالات الثانوية غير محتوم بل قد يكون وقد لا يكون، وقد اجابه (ع) بجواب لا يمكنه التلبيس والتمويه على الحاضرين فانه اجابه بعموم الربوبية التى لا يمكنه انكاره ولا نسبة مثله بالتمويه الى نفسه كما قال نمرود:
أنا أحيي وأميت
[البقرة: 258]؛ ولذلك بهت ولم يجر جوابا بالنقض والحل، وانتقل الى سؤال آخر.
[20.51]
ما حالهم بحسب البقاء والفناء؟ والخير والشر؟ والنعمة والنقمة؟ والمنازل والامكنة؟ اعرض عن السؤال الاول وسأل عما يعجزه فى الجواب لانه ان كان يجيب ببيان احوالهم يصر عاجزا عن اقامة دليل عليه يفهمه السامعون ولهذا أجابه بما لم يطالبه فرعون بدليل عليه.
[20.52-53]
{ قال علمها عند ربي } يعنى ان حالهم من الغيب الذى لا يطلع الله احدا عليه الا من ارتضاه ولو كنت اعلم منه شيئا باعلام الله لا يمكننى افهامك وافهام امثالك { في كتاب لا يضل ربي } هو صفة كتاب بتقدير العائد اى لا يضل عنه وعن طريقه قبل العلم { ولا ينسى } بعد العلم به او مستأنف جواب لسؤال مقدر، ولما اعرض فرعون عن جواب سؤاله الاول ولم يتعرض له بالرد والقبول ادى موسى (ع) جواب سؤاله الثانى بحيث انجر الى الجواب الاول حتى اضطر الى القبول او بهت كما بهت اولا حتى يظهر عجزه على الحاضرين فقال { الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا } تهتدون بها الى غير بلادكم لتحصيل منافعكم وما تحتاجون اليه، وسبلا لتحصيل معايشكم من الزراعات والتجارات والصناعات، وسبلا لتحصيل منافعكم الاخروية من الانبياء (ع) وشرائعهم وخلفائهم (ع) { وأنزل من السمآء } من جهة العلو { مآء فأخرجنا به } قيل: هو التفات من الغيبة الى التكلم وهو صحيح اذا كان المتكلم هو المتكلم ليس كذلك، وقيل هو كلام من الله مربوط بكلام موسى (ع) بان يكون هو من كلام الحاكى مربوطا بكلام المحكى عنه ومثله كثير فى المخاطبات لكن نقول: ان الرسول (ع) حين رسالته وتبليغها قد ينسلخ من انانيته بحيث لا يبقى فى وجوده الا انانية المرسل وحينئذ يجوز ان يظهر بشأن المرسل ويتكلم بكلام خاص بالمرسل بعد ان كان يتكلم بكلامه من حيث رسالته ويكون الكلامان متصلين بحيث يظن انهما من واحد فيجوز ان يكون الكلام التفاتا من الغيبة الى التكلم بهذا الاعتبار كأنه صار الرسول مرسلا فقال: فاخرجنا به { أزواجا } اى اصنافا وانواعا فان كل صنف ونوع من النبات له كالحيوان قسمان مثل الذكر والانثى من الحيوان، او اطلاق الازواج باعتبار أن كل صنف من اصناف النبات له نظير او نظائر من نوعه، او باعتبار ان كل صنف بملاحظة تركبه من العناصر زوج، او بملاحظة تعينه ووجوده زوج { من نبات شتى } متفرقة مختلفة فى الشكل واللون والزهر والحب والثمر والمزاج والخاصية ووقت النبت ووقت الحب والثمر وغير ذلك قائلين { كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات }.
[20.54]
{ كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات } عديدة دالة على علمه تعالى وقدرته وحكمته البالغة وعلى اهتمامه بشأن المواليد الارضية ولا سيما بالاشرف منها وهو الانسان وعلى انه لا يهمل الانسان بحسب بقائه فى الآخرة الذى هو المقصود من خلقه فى الدنيا بدون تهية اسباب بقائه وبدون من يدله على بقائه وما به بقاؤه بنحو المرضى له وليست الآيات لكل الموجودات لان بعضهم غنى عن اظهار الآيات كالملائكة، وبعضهم لا يدركون منها كونها آيات بل للانسان وليست لكل فرقة منه بل { لأولي النهى } الذين حصلوا بقبول الولاية واتباع شروط عهده عقلا يكون مرجعا ومنتهى لكل الاعضاء والجوارح بحسب افعالها، ولكل القوى والمدارك بحسب آثارها، وناهيا للكل عما لا ينبغى، ومنتهى لعلوم السابقين؛ وقد اشير فى الخبر الى كل وعلم من ذلك وجه تسمية هذا العقل بالنهية، ولا يحصل هذا العقل الا بالولاية، لان من لم يتول ولى امره تمكن الشيطان من عنقه، ومن تمكن الشيطان من عنقه لم يدعه على حال ولم يذره على شأن فلم يكن له جهة وحدة يرجع الكل اليها فكان كرجل متشاكس فيه رجال والاصل فى الاتصاف بالنهى هم الائمة (ع) ولذلك فسروا اولى النهى بانفسهم بطريق الحصر، والفرع فى ذلك شيعتهم وليس لغيرهم منه حظ ونصيب، وورد عن النبى (ص) ان خياركم اولو النهى قيل: يا رسول الله ومن اولوا النهى؟- قال: هم اولوا الاخلاق الحسنة والاحلام الرزينة، وصلة الارحام والبررة بالامهات والآباء والمتعاهدون للفقراء والجيران واليتامى ويطعمون الطعام ويفشون السلام فى العالم ويصلون والناس نيام غافلون.
[20.55]
{ منها خلقناكم }.
اعلم، ان المخاطب من كل مخاطب هو الفعلية الاخيرة هى الصورة التى هو بها هو، لا الفعلية السابقة الفانية المستهلكة تحت الفعلية الاخيرة لكن الفعلية الاخيرة بحكم الاحاطة والمعية مع كل الفعليات السابقة كانت متحدة، ويجوز ان يجرى عليها حكم تلك الفعليات فصح ان يخاطب الانسان ويحكم عليه بحكم مادته التى هى مخلوقة من الارض باعتبار غلبة جزئها الارضى والا فهى مخلوقة من العناصر الاربعة، وخلق مادة الانسان من الارض وعوده اليها ظاهر، وخروجها منها بعد عودها اليها باعتبار كونها مادة لهذا الانسان خفى غير ظاهر، نعم مادة الانسان تخرج من الارض وتجعل مادة لمواليد اخر او لاناسى آخرين تارات اخر بل كرات غير متناهية لكن نقول: ان الانسان له مراتب دانية طبيعية ومراتب عالية روحانية، والانسانية لسعتها واحاطتها متحدة مع الكل وصادقة عليها كما ان القرآن له مصاديق دانية طبيعية ومصاديق عالية روحانية، وان المنظور من الانسان كالقرآن هى المصاديق الروحانية والمصاديق الطبيعية منظورة بالتبع وكما ان المرتبة الطبيعية من الانسان خلقت من الارض الطبيعية كذلك المرتبة البرزخية والمثالية منه خلقت من التراب العليينى البرزخى المثالى او السجينى البرزخى، فصح ان يقول الله تعالى: من الارض البرزخية او المثالية خلقناكم { وفيها نعيدكم } بعد موتكم الطبيعى { ومنها نخرجكم تارة أخرى } بعد الانتهاء الى الاعراف من البرزخ، وقد ورد انه سئل ابو ابراهيم (ع) عن الميت لم يغسل غسل الجنابة؟- فقال: ان الله تبارك وتعالى أعلى وأخلص من ان يبعث الاشياء بيده ان لله تبارك وتعالى ملكين خلاقين فاذا اراد ان يخلق خلقا امر اولئك الخلاقين فأخذوا من التربة التى قال الله عزوجل فى كتابه: منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة اخرى فعجنوها بالنطفة المسكنة فى الرحم فاذا اعجنت النطفة بالتربة قالا: يا رب مانخلق؟- قال (ع) فيوحى الله تبارك وتعالى ما يريد ذكرا وانثى مؤمنا او كافرا اسود وابيض شقيا او سعيدا، فاذا مات سالت عنه تلك النطفة بعينها لا غير، فمن ثم صار الميت يغسل غسل الجنابة، وهذا الخبر يشعر بما ذكرناه من التربة البرزخية فان التربة التى تعجن بالنطفة فى الرحم او بعد اربعين يوما من نزولها فى الرحمم ليست الا التربة البرزخية فان النطفة لها كيفية استعدادية لحصول الجسد البرزخى والمثالى فيها، وبهذا الاستعداد يخلق الانسان الذى هو امر روحانى فيها، ولولا هذا الاستعداد لكان النطفة غير قابلة للصورة الانسانية ولا لروحانيتها، والموت صفة طارية لبدن الانسان والا فجهاته الروحانية حية لا يطروها الموت والخارج من بدن الانسان حين موته ليس الا روحه واستعداد النطفة لقبول روحه والتربة المثالية فقوله (ع) فى الخبر: فاذا مات يعنى اذا مات مرتبة الانسان الطبيعية وقوله: سالت عنه، يعنى عن تلك المرتبة الطبيعية تلك النطفة يعنى تلك المعجونة بالتربة البرزخية من حيث اعتجانها واستعدادها لا من حيث ارضيتها الطبيعية وقد ورد بمضمون هذا الخبر عنهم (ع).
[20.56]
{ ولقد أريناه } بواسطة موسى (ع) { آياتنا } من جعل العصا حية حية، واليد البيضاء والآيات السابقة على رسالة موسى (ع) من حين ولادته الى خروجه من مصر الدالة على علمنا وقدرتنا، وان لا مانع من امضاء مقاديرنا، وان الماكر معنا يمكر بنفسه، فيغلب من حيث مكره، او اعلمناه آياتنا الدالة على قدرتنا وعلمنا، وغلبتنا فى اليقظة والمنام من المعجزات وغيرها { كلها } عموم الآيات وتأكيد العموم بالكل اضافى لا حقيقى يعنى الآيات التى يمكن اراءتها له { فكذب } موسى (ع) او فكذب الآيات { وأبى } من الايمان بنا وبرسولنا وزعم ان موسى (ع) مثل ابناء الزمان طالب للملك الداثر.
[20.57-58]
{ قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك } فانه حمل الآيات على السحر مثل خوارق العادات التى كان السحرة يأتون بها { يموسى فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا } زمان وعد او مكان وعد او وعدا { لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا } حال عن موعدا او وصف له او بدل عنه بدل الكل او الاشتمال، او مفعول اول او ثان لا جعل او مفعول فعل محذوف { سوى } قرئ بضم السين وكسرها وهما وصفان بمعنى المستوى اى مكانا يكون مستوى المسافة الينا واليك، او يكون مستويا لا تلال فيه ولا وهاد حتى يكون جميع النظار ناظرين الينا واليك من غير حجاب.
[20.59]
{ قال موعدكم يوم الزينة } وكان ذلك اليوم يوم عيد لهم كانوا يتزينون فيه ولذلك سمى يوم الزينة، وقرئ يوم الزينة بالنصب وانما وعد ذلك اليوم ليحق الحق ويبطل الباطل على رؤس الاشهاد بحيث لا يخفى على الحاضر والغائب ولذلك قال { وأن يحشر الناس ضحى } عطف على الزينة او على اليوم بتقدير مضاف وقرئ مبنيا للمفعول ومبنيا للفاعل بصيغة الخطاب او الغيبة.
[20.60]
{ فتولى فرعون } عن موسى (ع) او الى جمع السحرة واسباب السحر { فجمع كيده } ما يكاد به من السحرة واسباب سحرهم { ثم أتى } الى الموعد.
[20.61]
{ قال لهم } اى لفرعون وقومه او قال للسحرة { موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا } مفعول به بناء على تجريد الافتراء عن الكذب او مفعول مطلق من غير لفظ الفعل وكأنهم ادعوا ان سحرهم من الله كما قال موسى (ع) ان آياتى من الله او سمى موسى (ع) نفيهم لكون آياته من الله افتراء على الله بجعل القضية السالبة المدعاة موجبة معدولة كأنهم قالوا: ان الله ليس يرسل هذه الآيات { فيسحتكم } قرئ من باب منه ومن باب الافعال اى يستأصلكم { بعذاب } عظيم على ان يكون التنوين للتهويل { وقد خاب من افترى } يعنى خاب عن مأموله فى افترائه كما خاب فرعون عن مأموله الذى هو بقاء ملكه فى افترائه السحر، او خاب عما يرجوه فطرة الانسان من المقام مع المقربين.
[20.62]
{ فتنازعوا } اى السحرة او قوم فرعون او السحرة وقوم فرعون جمعا او فرعون وقومه او فرعون وقومه والسحرة، او الجميع، او بعضهم مع موسى (ع) وهارون (ع) فى ان امرهما سحرا والهى او السحرة مع موسى (ع) وهارون (ع) فى تقديم الالقاء { أمرهم } يعلم مرجع هذا الضمير بالمقايسة { بينهم وأسروا النجوى } اى السحرة بينهم او قوم فرعون بينهم او السحرة او قوم فرعون ناجوا فرعون واسروا النجوى عن موسى (ع) وهارون (ع) او عن آخرين.
[20.63]
{ قالوا } بيان لاسروا النجوى ولذلك لم يأت باداة الوصل { إن هذان لساحران } قرئ ان بتشديد النون وهذان بالالف وعليها قيل: ان بمعنى نعم من غير تقدير، وقيل: بمعنى نعم بتقدير مبتدء بعد اللام ليكون دخول اللام على المبتدأ، وقيل: ان ملغاة عن العمل، وقيل: تقديره انه لهذان بتقدير ضمير الشأن، وقيل: ان هذه الالف ليست الف التثنية وانما لحق بالف هذا نون التثنية، وفى الكل ضعف من وجه او وجوه، وقيل: اجرى التثنية بالالف على لغة من يجرى التثنية بالالف مطلقا فان القرآن نزل باللغات المتفرقة، وقرئ ان هذان بتخفيف نون ان نافية كانت واللام بمعنى الا او مخففة من المثقلة واللام فارقة، وقرئ ان هذين ولا اشكال، وقرئ بتشديد نون هذان بجعل تشديد النون عوضا عن الالف المحذوفة من هذا ، وقرئ ما هذان لساحران، وروى عن بعضهم ان ذان الا ساحران { يريدان أن يخرجاكم من أرضكم } بالاجلاء او بالاستيلاء عليها والتملك لها وقطع تصرفكم عنها { بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى } اى الفضلى بمحو هذا الدين الذى انتم عليه ونشر مذهب غير مألوف وغير امثل حتى يترأسا على الناس به.
[20.64]
{ فأجمعوا } قرئ بقطع الهمزة من باب الافعال وبوصلها اى اجمعوا { كيدكم } المتفرق فى باب المقابلة مع موسى (ع) { ثم ائتوا صفا } فان الاتفاق والاصطفاف فى المناظرة ارعب واشد هيبة فى الانظار، قيل: كانوا سبعين الفا مع كل عصا وحبل { وقد أفلح اليوم من استعلى } وغلب قيل: هذا كان قول فرعون للسحرة، وقيل: قول بعضهم لبعض، او قول قوم فرعون للسحرة.
[20.65]
خيروه مراعاة للادب وحفظا لتوقيره لما علموا انه الهى وليس فعله سحرا ولذلك قدموه على انفسهم فى التخيير، قيل: لهذا الادب والتوقير هداهم الله ولم يكلهم الى انفسهم.
[20.66]
{ قال بل ألقوا } فانه (ع) لم يكترث بما فعلوا وقال القوا حتى يلقوا ويؤتوا بغاية جهدهم ليظهر على الكل غلبته اتكالا على ربه [فألقوا] ما صنعوا، وقيل: كانوا قد ملأوا الميدان وكان اوسع ما يكون من الاعمدة والحبال { فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى } قرئ يخيل بياء الغيبة مبنيا للمفعول وبتاء التأنيث مبنيا للفاعل.
[20.67]
ورد انه لم يخف على نفسه وانما خاف على مغلوبييته وغلبة الباطل، والايجاس احساس امر خفى كأنه اشار بلفظ الايجاس الى خفاء الخيفة بحيث لم يظهر على غيره، ولما كان الكامل هو الذى كمل فى جميع مراتبه، وكمال المرتبة البشرية ان يأكل ويشرب وينكح ويصح ويمرض ويرجو ويخاف لم يكن خيفة موسى (ع) دالة على نقص ينافى مقام رسالته الكاملة.
[20.68]
{ قلنا } بطريق الوحى { لا تخف إنك أنت الأعلى } اكد الجملة بمؤكدات لان خوفه (ع) كان بمنزلة الشك.
[20.69]
{ وألق ما في يمينك } اى العصا { تلقف } قرئ بالجزم وبالرفع، وقرئ من الثلاثى المجرد، ومن باب التفعيل، ومن باب التفعل بادغام تاء المضارع فى تاء المطاوعة، ولقف من باب علم ولقف من التفعيل وتلقف من التفعل بمعنى بلع، واستعمل لقف من التفعيل فى الابلاع، ويجوز ان يكون تلقف خطابا لموسى (ع) وان يكون منسوبا الى الضمير المؤنث الراجع الى العصا يعنى تبلع { ما صنعوا } بالحيل الطبيعية من التصرفات الطبيعية او بالحيل الشيطانية من تمزيج القوى الروحانية مع القوى الطبيعية وترتيب آثار خارقة للعادة عليه، وقد مضى فى سورة البقرة عند قوله تعالى: يعلمون الناس تحقيق وتفصيل تام للسحر ومعانيه { إنما صنعوا كيد ساحر } وقرئ كيد سحر بدون الالف { ولا يفلح الساحر حيث أتى } يعنى وان بلغ المقامات العالية من سحره.
[20.70]
{ فألقي السحرة سجدا } يعنى لما القى موسى (ع) عصاه فلقفت جميع ما صنعوا وادارت حول قبة فرعون واحاطت بفكيها قبته واحدث فرعون وهامان كما سنذكر، ورأوا ان ذلك ليس الا الهيا اضطربوا والتجأوا ولم يتمالكوا كأنهم القاهم ملق فالقوا سجدا تعظيما لله وتفخيما لما رأوا { قالوا آمنا برب هارون وموسى } كأنهم من دهشتهم وتحير قلوبهم لم يمكنهم مراعاة الادب والرتبة فقدموا هارون (ع) على موسى (ع) لذلك، ولمراعاة رؤس الآى ولم يستأذنوا فرعون وآمنوا قبل ان يقولوا له انه لحق ولا يجوز انكاره ولذلك { قال آمنتم له... }.
[20.71-72]
ولذلك { قال } فرعون { آمنتم له } قرئ بهمزة واحدة على صورة الاخبار، وقرئ بهمزتين على الاستفهام الانكارى { قبل أن ءاذن لكم إنه لكبيركم } رئيسكم ومعلمكم فى هذا الفن وكنتم مطلعين عليه وتواطئتم على ذلك { الذي علمكم السحر } نقل انهم ايقنوا قبل هذا بان موسى (ع) الهى لكنهم ارادوا بذلك ظهوره على رؤس الاشهاد { فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف } اليد اليمنى والرجل اليسرى او بالعكس { ولأصلبنكم في جذوع النخل } جمع الجذع وهو اصل الشجرة او اصل اغصانها { ولتعلمن أينآ } يعنى اى منا ومن موسى (ع)، او منى ومن رب موسى (ع) { أشد عذابا وأبقى قالوا لن نؤثرك على ما جآءنا من البينات } المعجزات الواضحات والدلائل الظاهرات { والذي فطرنا } عطف او قسم { فاقض مآ أنت قاض } فامض اى شيء تريد امضاءه من القتل والقطع والصلب والحبس ، او فاحكم ما تريد من الاحكام لانا لا نبالى بعد ما ارانا ربنا مقامنا وحجتنا، قيل: انهم حين سجدوا اراهم الله منازلهم فى الجنة { إنما تقضي هذه الحياة الدنيآ } انما تصنع او تحكم فى هذه الحيوة الدنيا ولا صنع لك ولا حكم فى الحيوة الآخرة، والحيوة الآخرة هى المطلوبة الباقية لا الدنيا، او هذه الحيوة الدنيا ولا صنع لك ولا حكم فى الحيوة الآخرة، والحيوة الآخرة هى المطلوبة الباقية لا الدنيا، او هذه الحيوة الدنيا مفعول به والمعنى انما تمضى وتذهب هذه الحيوة الدنيا، والآخرة خير وابقى وقد اخترنا الآخرة على الدنيا ولا تسلط لك عليها.
[20.73]
{ إنآ آمنا بربنا } استيناف فى مقام التعليل لقوله لن نؤثرك { ليغفر لنا خطايانا } الماضية { و } الخطيئة الحاضرة التى هى { مآ أكرهتنا عليه من السحر } فى معارضة الآيات الالهية، روى انهم قالوا لفرعون: ارنا موسى (ع) نائما فوجدوه يحرسه العصا، فقالوا: ما هذا بسحر فان الساحر اذا نام بطل سحره فأبى فرعون الا ان يعارضوه { والله خير وأبقى } منك او من الحيوة الدنيا او المقصود ان الله خير منك ثوابا وابقى منك عقابا، ويدل عليه قولهم فى مقام التعليل.
[20.74]
{ إنه من يأت ربه مجرما } وعلى الاول يكون تعليلا لقوله انا آمنا بربنا { فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى } هذه العبارة صارت مثلا فى العرب والعجم لمن ابتلى ببلية عظيمة لا يكون له مخلص عنها والمقصود من هذا المثل انه لا يموت عن الحيوة الانسانية حتى يصير العذاب عذبا له، ولا يحيى بالحيوة الانسانية حيوة خالصة عن شوائب الظلمات الشيطانية فيخرج منها.
[20.75]
الاتيان باسم الاشارة البعيدة للتفخيم.
[20.76]
{ جنات عدن تجري من تحتها الأنهار } قد مضى مكررا ان المراد بجريان الانهار تحت الجنات جريانها تحت عماراتها او تحت اشجارها او تحت قطعها، وان التحقيق ان الوجود وصفاتها بمنزلة الانهار الجارية من الغيب الى عوالم الامكان وان كل مرتبة عالية من العالم باعتبار جنة وباعتبار محل للجنة، وان افاضات الحق التى هى بمنزلة الانهار تصل اولا الى العالم الاعلى وتفيض من تحت ذلك العالم الى العالم الادنى { خالدين فيها وذلك جزآء من تزكى } من الكفر والمعاصى ومما يشوب انسانيته من شوائب البهيمية والسبعية والشيطانية، ولاقبال نفوسهم على الآخرة ونعيمها وقوة جانب الرجاء بسطوا فى جانب الوعد، ويجوز ان يكون الآيات مستأنفة من الله تعالى.
[20.77]
{ ولقد أوحينآ إلى موسى } يعنى بعدما مكث فيهم اربعين سنة او اكثر يدعوهم الى الله ويظهر لهم الآيات ويزيد فى طغيانهم اوحينا اليه { أن أسر بعبادي } بنى اسرائيل من مصر على طرف البحر { فاضرب لهم } اى فاطلب من ضرب المجد كسبه وطلبه، او فاضرب بعصاك البحر يظهر لهم { طريقا } اى طرقا بارادة الجنس من الطريق دون الوحدة، فان الطرق الظاهرة كانت اثنى عشرة او طريقا منشعبا باثنتى عشرة شعبته { في البحر يبسا } وهذا التقدير اوفق بقوله تعالى فى الشعراء
فأوحينآ إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم
[الشعراء: 63] { لا تخاف } حال او مستأنف او صفة ثانية لطريقا اى طريقا لا تخاف فيه { دركا } ولحوقا من العدو او من الغرق { ولا تخشى } تأكيد لا تخاف، او المراد لا تخشى من العدو او الغرق غير ما اريد من لا تخاف حتى يكون تأسيسا، اوالمعنى لا تخاف مما يصدمكم ولا تخشى على اصحابك فان الخشية تكون متعلقة بمن يشفق عليه ويهتم بأمره كما ان الخوف يكون ممن يهرب عنه، وقرئ لا تخف بالجزم ولا تخشى بالالف، وحينئذ يكون لا تخف مجزوما جواب الامر، او حالا من فاعل اوحينا، او عن فاعل اضرب بتقدير القول، ولا تخشى يكون مجزوما معطوفا عليه ويكون الالف للاطلاق مثل قوله تعالى:
وتظنون بالله الظنونا
[الأحزاب: 10]، او يكون مستأنفا او حالا بتقدير مبتدء.
[20.78]
{ فأتبعهم } اى ادركهم { فرعون بجنوده } مع جنوده، او لفظ الباء للتعدية، او الهمزة للتعدية والمعنى اتبعهم فرعون نفسه مع جنوده فان اتبع استعمل لازما ومتعديا، وقرئ اتبعهم من باب الافتعال وحينئذ يكون الباء بمعنى مع او للتعدية وفى الكلام ايجاز فى وضوح، فان المعنى فأسرى موسى (ع) بنى اسرائيل ووصل الى البحر وضرب بعصاه البحر فأظهر لهم طريقا يبسا فدخل هو وقومه ولحقهم فرعون بجنوده فدخل البحر فلما كان آخر من خرج من بنى اسرائيل من البحر وآخر من دخل البحر من جنود فرعون انطبق الطرق { فغشيهم من اليم ما غشيهم } اى غشيهم ماء لا يمكن ان يعرف من عظمته، وقرئ فغشاهم ما غشاهم من باب التفعيل اى غشاهم الله او غشاهم فرعون ما غشاهم من الماء.
[20.79]
{ وأضل فرعون قومه وما هدى } عطف ما هدى للتأكيد والاشعار بان الاضلال كان مستمرا له وما تغير والمقصود انه اضلهم عن الحق او اضلهم فى البحر وهو رد على قول فرعون وما اهديكم الا سبيل الرشاد. روى ان جبرئيل (ع) قال لرسول الله (ص) انما قال فرعون لقومه
أنا ربكم الأعلى
[النازعات:24] حين انتهى الى البحر فرآه قد يبست فيه الطريق فقال لقومه ترون البحر قد يبس من فرقى فصدقوه لما راوا ذلك فذلك قوله تعالى: { وأضل فرعون قومه وما هدى }.
[20.80]
{ يبني إسرائيل } مربوط بسابقه جواب لسؤال مقدر بتقدير القول وحكاية لما قاله تعالى لهم بعد انجائهم كأنه قيل: فما فعل بهم بعد غرق فرعون وقومه؟ وما قال الله تعالى لهم؟- فقال: قال لهم: يا بنى اسرائيل، او منقطع عن سابقه واستيناف وخطاب منه تعالى للحاضرين منهم فى زمان الرسول (ص) { قد أنجيناكم من عدوكم } باغراق فرعون { وواعدناكم جانب الطور الأيمن } لمناجاة موسى (ع) وانزال التوراة فانه تعالى اخبر موسى (ع) ووعده التوراة فى بيان شرائعهم واحكامهم ووعد موسى (ع) قومه فعد تعالى وعد موسى (ع) وعدهم، او المقصود واعدنا جانب الطور الذى هو الصدر المنشرح بالاسلام جانبه الايمن الذى يلى القلب بشرط وفائكم بشروط عهدكم وميثاق بيعتكم { ونزلنا عليكم المن والسلوى } فى التيه وقد مضى هذه بالتفصيل فى اول البقرة، وقرئ الافعال الثلاثة بالمتكلم وحده قائلين.
[20.81]
{ كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه } طغى يطغى من باب علم، وطغى يطغو من نصر، وطغى يطغى من منع جاوز القدر، وارتفع وعلا فى الكفر، واسرف فى المعاصى والظلم، وكل المعانى راجعة الى الخروج من انقياد العقل الخارجى او الداخلى ومعنى لا تطغوا فيه لا تتجاوزوا فى ما رزقناكم عما حده الله من مقدار الاكل وجهة تحصيل المأكول وآداب الاكل وغاياته والتسمية عليه والشكر عليه من ملاحظة المنعم فى النعمة، او لا تسرفوا بكثرة الوان المأكول او كثرة الأكل او اطعام غير الاهل منه، او بغير ذكر الله، او لا تطغوا فى الاكل بان يكون الضمير راجعا الى الاكل الذى فى ضمن كلوا، او لا تطغوا بسبب الاكل، او بسبب ما رزقناكم، او لا تطغوا حال كونكم ثابتين فى بين ما رزقناكم، او فى الاكل { فيحل } قرئ بضم الحاء وكسرها كما قرئ يحلل بضم اللام الاولى وبكسرها { عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى } تردى وهلك، اوسقط من سماء الانسانية الى الارض السابعة التى هى دار الجنة والاشقياء.
اعلم، ان الله تبارك وتعالى لا ينتقل من حال الى حال ولا يتغير فى وصف ولا حال بل هو تعالى صرف الرحمة وبرحمته اوجد كل الموجودات وأبقاها وليس شيء الا وهو متقوم ومتحقق برحمته الرحمانية وهذه الرحمة فى اكثر الموجودات تظهر بحيث تكون موافقة لفطرة نوعها سوى الانسان والجان فان الانسان لكونه مجمع العوالم وفيه انموذج جميع الموجودات بنص
علم آدم الأسمآء كلها
[البقرة:31] قد تصير تلك الرحمة فى وجوه مخالفة الانسانية وصورة نوعه لان قوى جميع الموجودات مودعة فى الانسان بحيث اذا خرجت قوة منها الى الفعل كانت مسخرة لانسانية الانسان فاذا صارت فعلية من تلك الفعليات مقابلة للانسانية او مسخرة لها كانت مخالفة لها ومخالفة لخلقتها، واذا صارت مسخرة للانسانية كانت موافقة لها وموافقة لخلقتها، وتلك المخالفة والموافقة كلتاهما ظهور الرحمة الرحمانية وصورتاها؛ فالغضب والرضا المعبر عنه بالرحمة الرحيمية من طوارى فعله لا من صفات ذاته وطروهما لفعله من جهة القابل لا من جهة الفاعل من دون مدخلية القابل.
[20.82]
{ وإني لغفار } عطف على كلوا بجعله فى جملة مقول القول المقدر او على قد انجيناكم او حال من واحدة من الجمل السابقة واجزائه يعنى قلنا قد انجيناكم وقلنا انى لغفار { لمن تاب } على ايدى خلفائنا بالانزجار عن النفس ومشتهياتها { وآمن } بالبيعة العامة النبوية التى هى الاسلام { وعمل صالحا } موافقا لامر من باع على يده البيعة العامة { ثم اهتدى } الى ولاية ولى امره بالبيعة الخاصة الولوية والمعنى انى لغفار لمن تاب التوبة الخاصة الولوية على يد ولى امره بالانزجار عن الوقوف على ظاهر الاحكام القالبية وطلب بواطنها وانموذج معانيها وآمن بالبيعة الخاصة الولوية وعمل صالحا موافقا لشروط بيعته ثم اهتدى الى ظهور الامام عجل الله فرجه وبروز ملكوته على صدره ودخوله فى بيت قلبه، فانه ما لم يظهر القائم عجل الله فرجه لم يظهر المغفرة التامة، وورد فى اخبار كثيرة بالفاظ مختلفة ومتوافقة ان المراد الاهتداء الى الولاية، وانه لا ينفع عمل بدون الولاية، وان العبد لو اجهد نفسه فى عبادة ربه بين الركن والمقام حتى يصير كالشن البالى ما قبل الله منه او لأكبه الله على منخريه فى النار، وفى اخبار كثيرة ان الاسلام بنى على خمس واسناها واشرفها الولاية، وان الله فرض على خلقه خمسا فرخص فى اربع مشيرا الى الصلوة والزكوة والحج والصوم ولم يرخص فى واحد مشيرا الى الولاية، وفى خبر عد انتظار القائم عجل الله فرجه من اركان الدين، والاخبار الدالة على ان الاسلام غير الايمان وان الاسلام لا يتجاوز اثره عن الدنيا وان منفعته حفظ الدم والعرض وجواز التناكح والتوارث ان الاجر على الايمان تدل على ان ملاك الامر لامر الآخرة هو الولاية لا غير، وقوله تعالى:
ولما يدخل الإيمان في قلوبكم
[الحجرات:14]؛ يدل على ان الايمان الذى هو الولاية التى هى البيعة الخاصة الولوية وقبول الدعوة الباطنة بها يدخل كيفية ممن يبايع معه فى قلب البائع بها يصير البائع ابنا لمن بايع معه، وبها يستحق الكرامة عند الله، وبها لا يضره سيئة ولو اتى بذنوب الثقلين، وبها يستحيى الله ان يعذبه ولو كان فاجرا، وبدونها لا يستحيى ان يعذبه ولو كان فى اعماله بارا، وبها يرث منازل اهل النار ويؤخذ طينته السجينية مع اعماله السيئة التى هى من لوازم الطينة السجينية وتعطى لعدوه ويؤخذ طينة عدوه العليينية مع اعماله الحسنة اللازمة لطينته العليينية وتعطى له، وبها يصدق عليه العوى والفاطمى والهاشمى والعالم والمتعلم والعارف والمؤمن والعابد والمتقى، وبها يسمى وليا لله، وفى خبر ضل اصحاب الثلاثة وتاهو اتيها عظيما مشيرا الى التوبة العامة والبيعة العامة الاسلامية والاعمال الصالحة القالبية، والاخبار الدالة على ان: من مات ولم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية، تدل على ان البيعة العامة بدون الاهتداء الى الولاية لا تنفعه فى الآخرة، وفى خبر: من اصبح من هذه الامة لا امام له من الله ظاهر عادل اصبح ضالا تائها، وان مات على هذه الحالة مات ميتة كفر ونفاق، وهو ايضا يدل على ان الاسلام واحكامها لا يكفى فى النجاة بدون الاهتداء الى الامام الظاهر العادل والبيعة معه البيعة الخاصة، والاخبار الدالة على ان الحجة لا تقوم على الناس الا بامام حى يعرف، تدل على لزوم الاهتداء الى الامام، والآيات الدالة على لزوم الكون مع الصادقين ولزوم ابتغاء الوسيلة الى الله ولزوم الاقتداء وكون الرسالة ليست الا الانذار والهداية للولاية والاخبار الدالة على ان المعرفة والعبادة والعلم لا تكون الا بالائمة (ع)، وان الولاية هى دليل المعرفة، وان الرسالة واحكامها حجاب الله تدل على لزوم الاهتداء الى الامام (ع)، والاخبار الدالة على وجوب النفر بعد وفاة الامام (ع) وان النافرين فى عذر ما داموا فى الطلب، والمنتظرين فى عذر ما داموا فى الانتظار تثبت المدعى، والاخبار الدالة على منع التفسير بالرأى ومنع العمل بالرأى ومنع الرأى والقياس ترشد اليه.
[20.83]
{ ومآ أعجلك } عطف على قوله تعالى: يا بنى اسرائيل فانه على كونه حكاية قوله تعالى الماضى كان بتقدير القول كأنه قال: قلنا يا بنى اسرائيل، وقلنا ما اعجلك، او عطف على كلوا سواء كان النداء الاول للماضين او للحاضرين كأنه قال: انجيناكم من عدوكم قائلين كلوا وقائلين ما اعجلك { عن قومك يموسى } قيل: كانت المواعدة ان يوافى الميعاد هو وقومه، وقيل: مع جماعة من وجوه قومه فتعجل هو وسبقهم الى الميقات وهم كانوا على اثره جائين الى الميقات، وهذا موافق لظاهر قوله { قال هم أولاء على أثري }.
[20.84-85]
{ قال هم أولاء على أثري } او كان المواعدة ان يوافق هو وقومه وسبقهم موسى (ع) وخلف عليهم هارون (ع) فتخلف القوم من اول الامر عن اللحوق به، او المعنى ما اعجلك الى الميقات مفارقا عن قومك ومتجاوزا عنهم فان بقاءك بينهم وتوجهك اليهم يحفظهم من شر الشيطان ويبقيهم على الدين، ورفعك يدك عنهم يخل بهم ويفسدهم، وعلى هذا كان معنى قوله تعالى: قال هم اولاء على اثرى هم باقون على سنتى وكأنه (ع) خرج من غير تعيين الله وقتا للميعاد ولم ينتظر (ع) تعيين الله فلامه تعالى وانكر عليه تعجيله ورفع يده عن قومه فى غير وقته فأجاب (ع) عن رفع يده عنهم بانهم باقون على سنته او جاؤون على عقبه يعنى ما عليهم من بأس من رفع يده عنهم خصوصا مع استخلاف هارون عليهم، وقدم الجواب عن خروجه من بين القوم لان النبى شأنه الاهتمام بأمر القوم ومراقبة احوالهم، ورفع اليد عنهم والخروج من بينهم خلاف شأن نبوته، واللوم عليه فيه اشد من كل شيء واجاب عن عجلته بان العجلة كانت للشوق الى رضا ربه لا من غم الوقوف فى قومه ومن هوى نفسه بطلب كونها مرضية عند ربه والاول مرضى للرب مقبول، والثانيان مبغوضان غير مقبولين فقال { وعجلت إليك رب لترضى قال } الله تعالى { فإنا قد فتنا قومك من بعدك } اى من بعد خر وجك من بينهم يعنى صار عجلتك سببا لفتنة قومك باستحقاقهم لذلك باختيارهم وحكاية السامرى وعجله { وأضلهم السامري } يعنى اضللناهم بسبب السامرى لكنه اسنده الى السامرى للاشعار بصحة نسبة الاضلال الى السبب مثل صحة نسبته الى الفاعل ولانه افاد بنسبة الفتنة الى نفسه نسبة الاضلال الى نفسه.
[20.86]
{ فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا } وانما غضب لله لانحرافهم عن الله وتحسر عليهم لابطالهم بضاعتهم التى هى الايمان لان كل نبى اب شفيق لامته والامة اولاد اعزاء عليه وايمانهم بمنزلة الصحة الكاملة لهم، ونقصان ايمانهم وبطلانه بمنزلة المرض والهلاكة وحال النبى فى الصحة والمرض والهلاكة لامته حال الاب الشفيق بالنسبة الى اولاده بل اشد منه بمراتب عديدة { قال يقوم } اشفاقا عليهم { ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا } بان اخبرتكم بوعده وانه وعدنى اعطاء التوراة التى فيها جميع ما تحتاجون اليه { أفطال عليكم العهد } المراد بالعهد الوعد المذكور اى افطال مدة الوعد؟ او المراد به عهد الملاقاة اى افطال عليكم فراق العهد؟ فأسقط الفراق لوجود القرينة { أم أردتم } بل ليس الامر كذلك واردتم { أن يحل عليكم غضب من ربكم } استعمال الارادة فى ما لا يراد اصلا اشعار بان اعمالكم آثار ارادة ما لا يريده عاقل وكناية عن عدم العقل والشعور { فأخلفتم موعدي } الاخلاف فى المستقبل كالكذب فى الماضى والمعنى اخلفتم عن الطور الذى كان موعدى وموعدكم، على ان يكون القوم اجمعهم او وجوههم وعدوه اللحوق به فى الطور كما مضى فى معنى هم اولاء على اثرى، او المعنى اخلفتم وعدكم لى باللحوق بى، او بالثبات على الدين واتباع هارون، او بحسن الخلافة لى بعدى حتى ارجع اليكم.
[20.87]
{ قالوا مآ أخلفنا موعدك بملكنا } قرئ بفتح الميم وضمها وكسرها والثلاثة مصادر ملك يعنى لو خلينا ومالكيتنا واختيارنا لما اخلفنا لكن السامرى بتسويله اخذ منا تملكنا واختيارنا { ولكنا حملنآ } قرئ بضم الحاء وتشديد الميم وفتحها وتخفيف الميم { أوزارا من زينة القوم } يعنى حملنا اثقالا هى بعض من حلى القبط التى استعرناها للعرس او للعيد ثم خرجنا من دون ردها او اخذناها مما القاه البحر على الساحل بعد غرقهم، او حملنا اثقالا وآثاما لاجل حلى القوم التى اعرناها وخنا فى عدم ردها فخدعنا بسبب الخيانة عن ادياننا فسألنا السامرى ان نقذفها فى النار ليصنع لنا الها { فقذفناها فكذلك } اى مثل القائنا الحلى فى النار { ألقى السامري } ما معه لنظن انه منا، او كذلك القى السامرى قبلنا لنتبعه فاتبعناه، والقينا، وقيل: انه كلام من الله معطوف على كلامهم ويؤيده قوله تعالى { فأخرج لهم عجلا جسدا }.
[20.88]
{ فأخرج لهم عجلا جسدا } فانه لو كان من كلامهم لكان ينبغى ان يقولوا فأخرج لنا، او هو من كلامهم وقوله: فأخرج لهم عجلا جسدا من كلام الله، وفى ابدال جسدا اشعار بان العجل لم يكن عجلا حقيقة بل كان جسدا مثل جسد العجل بلا روح { له خوار } اى صوت البقر { فقالوا } اى السامرى ومن كان شريكه { هذآ } العجل { إلهكم وإله موسى فنسي } عطف على هذا الهكم ومن كلام السامرى وشركائه اى نسى موسى انه الهه والهكم وذهب يطلب الاله، او نسيه ههنا وذهب يطلبه فى موضع آخر، او نسى الاله انه وعد موسى (ع) ان يظهر عليه من الشجرة فى الطور وظهر ههنا من العجل، او هو من قول الله ومعطوف على قالوا، او اخرج لهم عجلا والمعنى نسى السامرى ايمانه بموسى (ع) او دلائل نبوة موسى (ع) وآلهية الاله، او نسى دلالة حدوث العجل على انه مصنوع غير معبود.
[20.89]
{ أفلا يرون } استفهام للتوبيخ على عبدة العجل يعنى الا يتفكرون فلا يرون { ألا يرجع } اى انه لا يرجع { إليهم قولا } وجوابا { ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا } قيل: ان السامرى بعد ما مضى من ذهاب موسى (ع) عشرون يوما قال: هذه الاربعون التى وعدكم موسى (ع) عشرون ليلا وعشرون يوما وأخطأ موسى (ع) ولم يرجع اليكم وخدعهم، وقيل: لما تأخر عن الثلاثين خدعهم لانه كان موعده الثلاثين، وقيل: انه بعدما مضى من ذهابه خمسة وثلاثون خدعهم وصنع لهم العجل فى السادس والثلاثين والسابع والثامن ودعاهم الى عبادته فى التاسع وجاء موسى (ع) بعد استكمال الاربعين، وقيل: كان السامرى من اهل كرمان وكان مطاعا فى بنى اسرائيل، وقيل: كان من قرية يعبدون البقر فكان حب ذلك فى قلبه، وقيل: كان من بنى اسرائيل فلما جاوز البحر نافق فلما قالوا:
اجعل لنآ إلها كما لهم آلهة
[الأعراف: 138] اغتنمها واخرج لهم العجل ودعاهم اليه.
[20.90]
{ ولقد قال لهم هارون من قبل } اى من قبل عود موسى (ع) اليهم، او من قبل دعوة السامرى الى عبادته حين ظهوره، او من قبل عبادتهم له بعد دعوة السامرى { يقوم إنما فتنتم به } الفتن الاحراق، والفتنة الاختبار، والاعجاب بالشيء، والضلال، والاثم، والكفر، والفضيحة، والعذاب، واذابة الذهب، والاضلال، والجنون، والمحنة، والايقاع فى الاختلاف، والايقاع فى الفتنة، والكل مناسب ههنا الا انه لا بد فى بعض المعانى من جعل الماضى بمعنى المستقبل { وإن ربكم } الذى يستحق العبادة { الرحمن } الذى قوام كل شيء ووجوده وبقاؤه ووجود ما يحتاج اليه به { فاتبعوني } كما استخلفنى عليكم موسى (ع) { وأطيعوا أمري } فانى من جانب هذا الرحمن ادعوكم وآمركم والمقصود اعتبار مفهوم المخالفة من تعليق الفعل على المفعول الخاص بقرينة المقام كأنه قال: فاتبعونى لا السامرى واطيعوا امرى لا امر السامرى.
[20.91]
{ قالوا لن نبرح عليه عاكفين } اى ثابتين على العجل يعنى على عبادته { حتى يرجع إلينا موسى } فننظر ان هذا هو آلهه كما قال لنا السامرى، او ليس هذا آلهه وقد كذب لنا السامرى، وكان هارون (ع) بعد ما نصحهم ولم يقبلوا منه قد اعتزلهم فى اثنى عشر الف فلما رجع موسى (ع) وسمع الصياح منهم اذ كانوا يرقصون حول العجل ويضربون الدفوف والمزامير واستقبله هارون (ع) القى الالواح من شدة الغيظ وعاتب هارون واخذ برأسه ولحيته كما فى الآية يجره اليه.
[20.92-93]
{ قال يهرون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن } من ان تتبعنى ولفظة لا مزيدة نظيرة ما منعك ان لا تسجد يعنى ما منعك من اتباعى فى البعض فى الله والمقاتلة مع عابدى العجل بعد ان لم يقبلوا نصحك او من اللحوق بى والمفارقة عنهم { أفعصيت أمري } لك بالخلافة والاصلاح وعدم اتباع سبيل المفسدين، ولما كان موسى (ع) اخذه البغض فى الله ولم يكن الباقون قابلين للومه (ع) وعتابه (ع) توجه الى هارون (ع) وعاتبه على فعل القوم وفى الحقيقة عتابه كان عتابا لهم فان لومه (ع) هارون (ع) على عدم مفارقتهم لوم وتعيير لهم على حالهم التى تستدعى الخروج من بينهم.
[20.94]
{ قال } هارون (ع) { يبنؤم } كان اخاه لامه وابيه لكنه اضافه الى الام استعطافا { لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول } ان كنت لحقت بك او قاتلتهم { فرقت بين بني إسرآئيل } يعنى لو كنت فارقتهم او قاتلتهم لتفرقوا باللحوق بى والبقاء على عبادة العجل { ولم ترقب قولي } بالخلافة والاصلاح، ولما سكت عنه الغضب وكسر سورته باستعطاف هارون (ع) والاعتذار عما رآه موسى (ع) خلافا اقبل على السامرى.
[20.95]
اى ما صنعك؟ وكيف صنعته؟- فهو سؤال عن كيفية صنعه ولذلك اجابة بها.
[20.96]
{ قال بصرت بما لم يبصروا به } من اجزاء الملكوت او الملك المحكوم بالملكوت { فقبضت قبضة من أثر الرسول } يعنى انى بصرت بجبرئيل وعالمه فقبضت قبضة من عالمه الذى هو الملكوت من تراب قدم جبرئيل او من تراب قدم رمكة جبرئيل من عالم الملكوت او من عالم الملك لكنه صار بعد التأثر بقدم جبرئيل او قدم رمكته محكوما بحكم الملكوت وكان تأثيره ان يحيى ويتحرك كل ما ذر ذلك التراب عليه { فنبذتها } فى العجل فتحرك وخار { وكذلك } اى مثل القبض من اثر الرسول والحال انه لا ينبغى لى ان اقبض وسولت لى نفسى ذلك حتى قبضتها { سولت لي نفسي } فى صنع العجل وذر التراب عليه وزينته لى.
[20.97-98]
{ قال } اذا سولت لك نفسك { فاذهب } من عندى، او من دينى، او من البلد، او من بين الناس { فإن لك في الحياة } الدنيا { أن تقول } اذا رأيت احدا من الناس { لا مساس } عقوبة على فعلك وذلك لانه اذا ماسك احد حممت انت ومن مسك كما قيل، وقيل: كان هذا باقيا فى اولاده اذا ماس واحدا منهم احد من الناس حما، وقيل: ان موسى (ع) امر الناس بامر الله تعالى ان لا يخالطوه ولا يؤانسوه ولا يؤاكلوه تضييقا عليه فصار السامرى يهيم فى البرية مع الوحش والسباع { وإن لك } اى لعذابك { موعدا لن تخلفه } يعنى لن يخلف الله ذلك الوعد لك، هذا على قراءة البناء للمفعول واما على قراءة البناء للفاعل من باب الافعال فالمعنى لن تخلف انت ذلك الموعد وتنجزه، وقرئ بالنون على حكاية قول الله تعالى، او على جعل نفسه (ع) بمنزلة الله تعالى لكونه رسولا منه وكون قوله وفعله قول الله وفعله { وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا } اى مقيما على عبادته { لنحرقنه } قرئ من باب التفعيل بمعنى احراقه بالنار، وقرئ لنحرقنه من حرقه يحرقه من باب نصر بمعنى برده وحك بعضه ببعض وعلى الاول يدل الاحراق على انه صار حيوانا كما روى انه بعدما ذر التراب عليه تحرك واشعروا وبروخار، وعلى الثانى يدل برده على انه كان باقيا على ذهبيته { ثم لننسفنه } لنذرينه { في اليم نسفا إنمآ إلهكم الله } مستأنفة جواب للسؤال عن علة الحكم والمعنى نحرقه لانه ليس آلها وانما آلهكم الله الى المسمى بالله الدائر على السنة الجميع { الذي لا إله إلا هو } وهو صفة بيانية وتصريح بحصر الالهة فيه ونفى الالهة من غيره { وسع كل شيء علما } وهو كناية عن احاطة علمه بالاشياء ولما كان علمه تعالى ذا مراتب ومرتبة منه عين ذاته وهى مرتبة الغيب التى لا خبر عنها ولا اثر فلا كلام لنا فيها، ومرتبة منه فعله الذى يعبر عنها بالمشية والحق المخلوق به وتلك جامع لجميع الموجودات بوجوداتها لا بحدودها وتعيناتها، فان الحدود والتعينات اعدام لا طريق لها الى ذلك العالم ومرتبة منه الاقلام العالية وحكمها حكم المشية، ومرتبة منه النفوس الكلية، ومرتبة منه النفوس الجزئية، ومرتبة منه الوجودات الطبيعية، وكل مرتبة من المراتب العالية علم له تعالى بجميع ما دونها فأن جميع ما دونها مجتمعة بوجوداتها لا بحدودها فى المرتبه العالية، وكما انها علم بجميع ما دونها علم له تعالى بنفس تلك المرتبة، وكونها علما بما دونها هو العلم السابق على المعلوم، وكونها علما بنفسها هو العلم الذى يكون مع المعلوم، وعالم الطبع بوجوده علم له تعالى بالعلم الذي يكون مع المعلوم فكل شيء معلوم له تعالى بالعلوم السابقة ومعلوم له تعالى بوجوده الخاص به الذى هو علمه تعالى به.
[20.99]
{ كذلك } القصص الذى قصصناه عليك { نقص } بعد ذلك { عليك من أنبآء ما قد سبق } اى انباء الوقائع التى سبقت من وقائع الانبياء (ع) وغيرهم { وقد آتيناك من لدنا ذكرا } اى سبب تذكر للامور الماضية وهو الولاية التى بها يتذكر جميع مراتب الوجود وجميع ما فى كل مرتبة يعنى نقص عليك والحال انا اعطيناك الولاية التى بها تستغنى عن القصص، او المراد بالذكر القرآن، او الصيت والذكر الجميل، او المراد بالذكر قصص الاخبار الماضية والمقصود انا آتيناك هذا الذكر من لدنا لا من لدن الوسائط.
[20.100]
{ من أعرض عنه } من موصولة او شرطية والجملة صفة ذكرا او حال او مستأنفة جواب لسؤال مقدر والضمير المجرور راجع الى الذكر بمعانيه، او الى القصص، او الى الله تعالى لان من أعرض عن كل { فإنه يحمل يوم القيامة وزرا } الوزر بالكسر الاثم والثقل والحمل الثقيل.
[20.101]
{ خالدين فيه } جمع الضمير وافراده فى سابقه باعتبار لفظ من ومعناه، والمراد انهم خالدون فى عذاب ذلك الوزر والنار اللازمة له { وسآء لهم يوم القيامة حملا } يعنى ان الانسان واقع بين دارى الرحمن والشيطان ومن توجه الى الولاية خرج من القوة الى الفعليات الولوية الرحمانية المورثة لدخول الجنان، ومن أعرض عن الولاية خرج من القوة الى الفعليات الشيطانية لخروجه لا محالة من القوة الى الفعليات بالتدريج وعدم الفصل بين الفعليات الولوية والفعليات الشيطانية، والفعليات الشيطانية حمل ثقيل على الانسان سائق له الى النيران فبئس الحمل تلك الفعلية يوم القيامة حملا.
[20.102]
{ يوم ينفخ في الصور } بدل من يوم القيامة ويكون المراد بالنفخ نفخ الاحياء وقرئ ينفخ بالياء مبنيا للمفعول ومبنيا للفاعل، وننفخ بالنون اسنادا للفعل الى الامر تفخيما للفعل او للفاعل، والصور قرن له بعدد كل نفس ثقبة { ونحشر المجرمين } وقرئ بالياء مبنيا للمفعول والمجرمون بالرفع وهو عطف على يحمل، واكتفى عن العائد باظهار المجرمين فان المراد بهم هو من أعرض عن الذكر ووضع الظاهر موضع المضمر تصريحا بوصف ذم لهم واشعارا بعلة الحكم، او عطف على ساء لهم حملا، او على ينفخ فى الصور، ويكون قوله تعالى { يومئذ } حينئذ تأكيدا فانه يكون التقدير يوم نحشر المجرمين يومئذ { زرقا } اى زرق العيون فان الزرقة اسوء الوان العين، او عميا فان الزرقة تستعمل بمعنى العمى، وقيل: عطاشا فان العطشان يميل لون عينيه الى الزرقة.
[20.103]
{ يتخافتون } اى يتسارون والجملة حال مترادفة او متداخلة او صفة لزرقا او مستأنفة اى يقولون سرا { بينهم } لشدة الخوف وعدم قدرة نفوسهم على اجهار الصوت او لخوف اطلاع الحفظة على مكالمتهم لانهم لا يتكلمون الا من اذن له الرحمن، او لشدة الخوف والدهشة يظنون ان الاجهار يصير سببا لعذاب آخر { إن لبثتم إلا عشرا } اى فى الدنيا، او فى القبور، او بين النفختين ينسون مدة لبثهم، او يقللون مدة لبثهم فى تلك المذكورات لطول مدة عذابهم، والتعبير بالعشر للتقليل لعدم يقينهم بالعشر ولذلك يقول الامثل منهم: ان لبثتم الا يوما.
[20.104]
{ نحن أعلم } منهم ومن الحفظة { بما يقولون } بقولهم تخافتوا او اجهروا، او بالذى يقولونه من تعيين مدة لبثهم { إذ يقول أمثلهم } اى افضلهم { طريقة } سيرة لكونه اعقلهم فان السيرة الفاضلة لا تكون الا عن العقل الكامل { إن لبثتم إلا يوما } لان ايام الدنيا وان كانت بالنظر الى عرض الزمان متعددة متكثرة وكذلك ايام القبر والبرزخ والايام بين النفختين لكنها بالنظر الى ما فوقها فى الطول ليست الا يوما واحدا ولذلك نسبه الى الامثل، لان حدود الكثرات ترتفع وتستهلك بالنظر الى ما فوقها.
[20.105]
{ ويسألونك } عطف على قوله كذلك نقص فانه يشعر بسؤاله (ص) او سؤالهم عن انباء ما قد سبق فكأنه قال: تسأل عن أنباء ما قد سبق ويسألونك { عن الجبال فقل } هو جواب شرط مقدر او بتقدير فعل بعد الفاء حتى لا يلزم عطف الانشاء على الخبر والتقدير اذا سألوك فقل او يسألونك فأقول قل فى جوابهم { ينسفها } يقطعها او يدكها فيجعلها كالرمال تذروها الرياح { ربي نسفا } عظيما لا يبقى منها اثر، قيل : ان رجلا من ثقيف سأل كيف تكون الجبال يوم القيامة فانه ينبغى ان يسأل عنها خصوصا بعد ما اشتهر بينهم ان الارض يوم القيامة تكون مستوية ليس فيها تلال ووهاد.
[20.106]
{ فيذرها } الضمير راجع الى الجبال باعتبار محلها من قبيل الاستخدام، او راجع الى الارض المستفادة بالالتزام { قاعا } القاع الارض المطمئنة السهلة قد انفرجت عنها الجبال والآكام { صفصفا } الصفصف المستوية من الارض.
[20.107]
{ لا ترى فيها عوجا } انحدارا بسبب الوهاد { ولا أمتا } اى مرتفعا، والعود ما انخفض من الارض، والأمت ما ارتفع منها.
[20.108]
{ يومئذ يتبعون الداعي } الذى يدعوهم الى الجنة والجحيم بخلاف يوم الدنيا فانه لا يتبع اكثرهم فيه الداعى ومن يتبع منهم للداعى لا يكون اتباعه او وجوده او الداعى فى نظره الا معوجا { لا عوج له } الجملة حالية او مستأنفة، وعلى تقدير الحالية فهو حال من الداعى او من فاعل يتبعون، والضمير المجرور اما للاتباع او للداعى ولا بد من تقدير العائد اذا كان حالا من فاعل يتبعون او من الداعى، وكان ضمير المجرور للاتباع، فان الداعى يومئذ لا يكون فيه عوج لا فى نفس الامر ولا فى انظارهم، واتباعهم يكون غير معوج والمدعوون ايضا لا عوجاج فيهم فانهم كالاراضى يكونون مستوين برفع جبال الانانيات عنهم وارتفاع النفاق عن وجودهم، فانه كما يندك جبال الارض الطبيعية يومئذ يرتفع جبال الانانيات والتقيدات عن العالم الصغير { وخشعت الأصوات } قد مضى تحقيق معنى الخشوع والفرق بينه وبين الخضوع والتواضع وان الكل متقارب المفهوم وان الخشوع حالة حاصلة من امتزاج المحبة وادراك الهيبة بالنسبة الى من يتخشع له لكن المحبة واللذة فى الخشية غالبة وفى الخضوع غير غالبة، وفى التواضع العظمة والهيبة غالبة، وقد ينسب الخشوع الى الصوت لظهوره به وقد ينسب الى البدن لذلك والجملة عطف على قوله لا عوج له او على يتبعون الداعى والتفاوت بالاسمية والفعلية، او بالاستقبال والمضى للاشعار بان الاصوات كانت خاشعة للرحمن فى الدنيا كما صارت خاشعة فى ذلك اليوم لكن ما كان خشوعها ظاهرا فى الدنيا وفى ذلك اليوم ظهر خشوعها، او الجملة حال بتقدير قد { للرحمن فلا تسمع إلا همسا } الهمس الصوت الخفى وكل خفى او اخفى ما يكون من صوت القدم.
[20.109]
{ يومئذ لا تنفع الشفاعة } الجملة مستأنفة جواب لسؤال مقدر او حال { إلا من أذن له الرحمن } اى الا شفاعة من اذن ولا تنفع الشفاعة احدا الا من اذن فى شفاعته او من احد الا ممن اذن او لاحد الا لمن اذن له الرحمن، وقد مضى فى سورة البقرة وغيرها احتياج الشفاعة الى الاذن من الله او من خلفائه المأذونين منه بلا واسطة او بالواسطة؛ وان الامر بالمعروف والنهى عن المنكر والفتيا للناس والقضاوات والمحاكمات وامامة الجماعة والجمعة وغير ذلك مما يرجع الى العلماء كلها شفاعات ولا تصح الا ممن اذن له الرحمن، والمتصدى لها من غير اجازة واذن من الله ابغض الخلق الى الله، اعاذنا الله من شرور نفوسنا { ورضي له قولا } الجار والمجرور اما لغو وصلة رضى اى رضى لاجله قولا من الشافع او فى حقه قولا من الشافع، او لاجله قولا منه فى الشفاعة، او مستقر حال من قولا اى رضى قوله سواء كان شافعا او مشفعا له، وتنكير قولا لتغليب جانب الرجاء يعنى اذا كان الانسان بحيث يرضى الله منه قولا حقيرا ينفع الشفاعة فى حقه او ينفع شفاعته فى حق الغير.
[20.110-111]
{ يعلم } الله { ما بين أيديهم } اى ما بين ايدى المتبعين للداعى او ما بين ايدى من اذن له الرحمن { وما خلفهم } من احوالهم الآتية والماضية ومن الدنيا والآخرة او من الآخرة والدنيا على اختلاف تفسيرهما بالدنيا والآخرة او بالآخرة والدنيا { ولا يحيطون به } اى بالله او بما بين ايديهم وما خلفهم { علما وعنت الوجوه } خضعت او صارت اسيرا بمعنى ان صاحبى الوجوه قد ذلوا وخضعوا لكنه اداه بالوجوه لظهور الاستسلام والانقياد بالوجوه { للحي القيوم } علق الفعل على وصف الحيوة والقيومية المطلقة للاشعار بان الحيوة المطلقة خاصة به، وكذا القيومية المطلقة، وللاشارة الى علة الحكم فان الحى المطلق والحيوة المطلقة تقتضى الاحاطة بجميع اصناف الحيوة الجزئية والقيومية تقتضى الاحاطة والتسخير لجميع ما تقوم بالمقوم { وقد خاب } عما رجاه عباد الله من ثوابه وقربه { من حمل ظلما } عظيما هو جحود الولاية او الاشراك بها بقرينة قوله فى مقابله.
[20.112]
{ ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن } بالايمان الخاص والبيعة الخاصة الولوية وقبول الدعوة الباطنة فان الايمان العام وقبول الدعوة الظاهرة لا يتجاوز اثره عن الدنيا وانما الثواب على الايمان الخاص وقبول الولاية، ولا شك ان الخيبة ليست الا من الثواب فى الآخرة فيكون قوله تعالى { فلا يخاف ظلما ولا هضما } مشيرا الى الظلم والهضم فى الآخرة، والهضم الهجوم، والهبوط، والظلم، والغصب، والكسر، وقرئ فلا يخف مجزوما.
[20.113]
{ وكذلك } اى مثل انزالنا اخبار القيامة والوعيد منها بالقرآن العربى { أنزلناه } اى القرآن جملة او قرآن هذه السورة { قرآنا عربيا } بلغة العرب او مشتملا على الآداب والعلوم لا عجميا ولا اعرابيا لا يكون فيه آداب وعلوم والجملة عطف على جملة عنت الوجوه { وصرفنا } كررنا { فيه من الوعيد } بالفاظ مختلفة ومتوافقة وامثال متكثرة متخالفة { لعلهم } اى المجرمين او العرب او الناس { يتقون } يصيرون صاحبى تقوى او يتقون ما يوعدون او المعاصى { أو يحدث } القرآن العربى { لهم ذكرا } اى تذكر الامور الآخرة واشتياقا اليها.
اعلم، ان الانسان بل جل الحيوان خروجه من القوى الى الفعليات بل بقاءه فى هذه الحيوة ليس الا بالخوف والرجاء والتوبة والانابة والزكوة والصلوة والبراءة والولاية والخلع واللبس والتصرم والتكون والادبار والاقبال والتخلية والتحلية والبغض والحب والدفع والجذب والتقوى والطاعة وغير ذلك من الاسماء الدالة على هذين المعنيين، فقوله تعالى: لعلهم يتقون، اشارة الى البراءة وقوله تعالى { أو يحدث لهم ذكرا } اشارة الى الولاية.
[20.114]
{ فتعالى الله الملك الحق } عطف على قوله عنت الوجوه وتفريع عليه والمقصود انه بقيوميته مستعل على كل شيء وهو الملك المالك على الاطلاق والحق الذى لا شوب بطلان فيه لاقتضاء القيومية ذلك فلا تسأل منه شيئا فانه بقيوميته وعلوه يعلم ويعطى كل ما ينبغى ان يسأل سئل ام لم يسأل { ولا تعجل بالقرآن } مخصوصا { من قبل أن يقضى إليك وحيه } يعنى لا تسأل القرآن قبل ان نوحيه او يقرءه جبرئيل (ع) فانا اعلم بمصالح نزوله ووقته، او لاتعجل بقراءته مع الملك الموحى قبل اتمام الملك قراءته، او لا تعجل بقراءته على اصحابك قبل اتيان وقت حكمه او قبل بيان مجمله { وقل رب زدني علما } بوقت حكم القرآن وبيانه، او بتفصيل اجماله او مطلقا.
[20.115]
{ ولقد عهدنآ } عطف على قوله كذلك انزلناه، والمقصود انا انزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون لكنهم ينسون لانا قد عهدنا الى آدم (ع) ابيهم فهو عطف فيه معنى التعليل او عطف على لا تعجل باعتبار القسم المقدر فان هذه اللام هى اللام المشعرة بالقسم والمعنى لا تعجل بالقرآن ولا تنس العهد والوصية التى اوحيناك بالتوانى لانا قد عهدنا { إلى ءادم من قبل } اى من قبل هذا الزمان، او من قبل خلق بنى آدم، او من قبل نزوله الى الدنيا { فنسي ولم نجد له عزما } فابتلى ببلاء عظيم فلا تنس فتبتلى مثل ابتلائه والمراد بالعزم الثبات والتمكن فى الامر.
[20.116]
{ و } اذكر { إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } حتى تعلم تكريمنا له وابتلاءنا له بسبب النسيان حتى تكون على حذر من النسيان وعدم العزيمة { فسجدوا إلا إبليس أبى } عن السجود او عن المطاوعة.
[20.117-119]
{ فقلنا يآدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما } يعنى فلا تكونا بحيث تؤثر وسوسته فيكما فان المراد نهيهما لا نهيه { من الجنة فتشقى } افرد الضمير للاشعار بان شقاء المرأة وسعادتها تابعتان لشقاء المرء وسعادته، ولمحافظة رؤس آلاى، او لان المراد بالشقاء التعب فى طلب المعاش فان وسوسته صارت سببا لهبوطهما الى الارض واحتياجهما الى المأكول والمشروب والملبوس والمسكون، وتعب ذلك كله على الرجال لا النساء ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى { إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى } قرئ انك بفتح الهمزة عطفا على ان لا تجوع، وقرئ انك بكسر الهمزة عطفا عى ان لك ان لا تجوع، وقوله ان لك ان لا تجوع، استيناف بيانى فى مقام التعليل.
[20.120]
{ فوسوس إليه الشيطان } القى اليه وسوسته { قال } بيان لوسوسته { يآدم هل أدلك على شجرة الخلد } اى الشجرة التى صار الاكل منها سببا للخلد فالاضافة لادنى ملابسة { وملك لا يبلى } عطف على شجرة الخلد او على الخلد فقبلا قوله وغرا به.
[20.121]
{ فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما } قد سبق فى سورة البقرة عند قوله تعالى
ولا تقربا هذه الشجرة
[البقرة:35] تحقيق الشجرة المنهية وكيفية اغترارهما بقول ابليس { وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة } اى يلتصقان على بدنهما من ورق اشجار الجنة { وعصى ءادم ربه } خالف امر ربه امره التكوينى او امره التكليفى الذى كان اولى له { فغوى } فضل الطريق الذى كان بالفطرة عليه.
اعلم، ان نسبة العصيان الى آدم (ع) مع انه كان نبيا معصوما عن الخطاء انما كانت بملاحظة انحرافه عن فطرة التوحيد التى كانت الاشياء كلها مفطورة عليها، وهذا ليس معصية منافية للعصمة لانه كان بأمره تعالى ورضاه او كانت بملاحظة تركه دار التوحيد وتوجهه الى الكثرات وقد امره الله تعالى بالبقاء على التوحيد وعدم الالتفات الى الكثرات لكونه اولى به من الالتفات الى الكثرات وان كان الاولى بنظام العالم وايجاد بنى آدم توجهه الى الكثرات، وتسميته عصيانا لمخالفته الامر الاولوى الذى كان اولى بالنسبة الى حاله، وهذا ايضا لا ينافى عصمته، وفى خبر: ان نهيه كان فى الجنة لا فى الدنيا وقبل كونه حجة لا بعده والمنافى لعصمته هو عصيانه فى الدنيا وبعد كونه حجة، وفى خبر: ان المنافى للعصمة هو الكبيرة او الصغيرة بعد كونه حجة لا الصغيرة قبل كونه حجة، وفى خبر: ان الله نهى عن قرب شجرة بعينها ووسوس الشيطان اليه فى شجرة اخرى من جنسها، وعصيانها كان بغروره بقول الشيطان.
[20.122-123]
{ ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى قال اهبطا منها جميعا } يعنى قبل الاجتباء فان توبته كانت فى الدنيا، وهبوطه اليها كان قبل توبته، وقد سبق فى البقرة هذه الآية هكذا: قلنا اهبطوا منها جميعا بضميمة الشيطان والحية او الذرية اليهما، ولما كانا هما الاصلين فى الخطاب خصهما ههنا بالخطاب واشار الى الشيطان والحية او الذرية بقوله { بعضكم لبعض عدو } بخطاب الجمع { فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى } الضلال فى الدنيا والشقاء فى الآخرة، او كلاهما فى كليهما، ويكون الشقاء بمنزلة النتيجة للضلال والمراد بالشقاء ضد السعادة او العناء والتعب.
[20.124]
{ ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا } قد فسر الهدى فى اخبار عديدة بولاية أمير المؤمنين (ع) وبعلى (ع) نفسه وهكذا فسر الذكر والمراد بالمعيشة الضنك اما الضيق فى ما يحتاج اليه فى الدنيا من المأكول والملبوس وغيرهما وبهذا لاعتبار فسرت بالضيق فى الرجعة فى اخبار كثيرة وانهم يأكلون العذرة وفسر فى بعض الاخبار بعذاب القبر وضنكه؛ والتحقيق ان الراحة وضعها الله تعالى فى الآخرة التى قلب الانسان انموذج منها، وسعة العيش والراحة للانسان ليست الا من طريق القلب الذى هو طريق الولاية وطريق الآخرة وضيق العيش وعناؤه ليس الا من الدنيا التى هى انموذج الجحيم وطريقها ومن أعرض عن الذكر الذى هو الولاية التى هى طريق القلب وطريق الآخرة توجه الى الدنيا التى هى طريق الجحيم وفيها العناء والضيق، ومن توجه الى الدنيا سد باب الراحة على نفسه وفتح باب الضيق والتعب عليها، وكان فى ضيق استعشر به ام لم يستشعر، ومن تولى عليا (ع) وفتح طريق القلب فتح طريق الراحة على نفسه فان دخل فى باب القلب والآخرة دخل فى السعة والراحة، وان لم يدخل كان فى عناء لبقائه بعد فى الدنيا لكنه كان فى طريق الوصول الى الراحة وضيق العيش فى الدنيا وضيق الصدر وضيق القبر وضيق العيش فى الرجعة كله لازم لسد طريق القلب { ونحشره } قرئ بالرفع وقرئ فى الشواذ بالجزم { يوم القيامة أعمى } عن الولاية والامام والآيات ونعيم الآخرة.
[20.125]
قيل يحشر من قبره بصيرا واذا اتى المحشر يصير اعمى.
[20.126]
{ قال كذلك أتتك آياتنا } العظمى التى هم الانبياء والاولياء (ع)، وآياتنا الصغرى التى هى آيات الآفاق والانفس { فنسيتها وكذلك اليوم تنسى } اى تركتها ولم تتبعها وكذلك اليوم تترك ولا يعتنى بك.
[20.127]
{ وكذلك نجزي من أسرف } فى التوجه الى الدنيا زائدا على قدر الواجب والندب { ولم يؤمن بآيات ربه } التى هم الانبياء والاولياء (ع) { ولعذاب الآخرة أشد وأبقى } من النسيان والحشر اعمى ومن ضيق المعيشة حتى انها تعد فى مقابل عذاب الآخرة نعمة، وقد مضى قصة آدم (ع) فى سورة البقرة وفى سورة الاعراف مع اختلاف يسير فى بعض الفقرات بحسب اللفظ مع ما ذكر ههنا.
[20.128]
{ أ } لم ينههم { فلم يهد لهم } والتقدير الم ينبههم فا لم يهد لهم على الخلاف فى الهمزة والعاطف انها بتقدير المعطوف عليه قبل الهمزة والهمزة على تقدير التأخير من العاطف او بتقدير المعطوف عليه بعد الهمزة والهمزة فى محله وفاعل لم يهد ضمير الله او الرسول (ص) وحينئذ يكون جملة { كم أهلكنا } فى محل المفعول معلقا عنها الفعل على جواز التعليق فى غير الفعل القلبى او على جعل لم يهد بمعنى لم يعلم، او فاعل لم يهد ضمير مجمل يفسره مضمون جملة كم اهلكنا، او الفاعل نفس الجملة بمضمونها، وقرئ نهد بالنون اى افلم نهد نحن كم اهلكنا { قبلهم من القرون } يعنى اهلاك الامم الماضية ينبغى ان يكون عبرة لهم وهاديا لهم الى اليقين باهلاك انفسهم والتزود لما بعد هلاكهم { يمشون في مساكنهم } حال او مستأنف جواب للسؤال عن حالهم او عن علة الهداية { إن في ذلك } الاهلاك بانواع الاهلاك { لآيات لأولي النهى } لذوى العقول الناهية او المنتهى اليها لكل موجود فى العالم الصغير او فى العالم الكبير وقد فسر اولوا النهى بالائمة (ع) اينما وقع.
[20.129]
{ ولولا كلمة سبقت من ربك } اى كلمة الوعد بتأخير العذاب للامة المرحومة او بعدم العذاب مع كون محمد (ص) فيهم { لكان } ذلك الاهلاك بانواع الاهلاك { لزاما } اى لازما واللزام بكسر اللام اسم مصدر او مصدر لازم وصف به مبالغة { وأجل مسمى } لاعمارهم وامد بقائهم فى الدنيا او لعذابهم وهو يوم القيامة او يوم بدر او احد او فتح مكة وهو عطف على كلمة والفصل للاشعار باستقلال كل منهما بنفى لزوم العذاب.
[20.130]
{ فاصبر } اى اذا كان عذابهم بسبب وعد الامهال وانقضاء الاجل مؤخرا فاصبر { على ما يقولون } فى دينك او فى الخداع بك او فى وصيك وغصب حقه ومنعه منه { وسبح بحمد ربك } قد مضى ان المراد بالتسبيح سواء علق على الله او الرب او اسم الرب، وسواء عدى باللام او بنفسه او اطلق، وسواء كان اللام بعده للتعليل او للتقوية كان المراد تنزيه اللطيفة الانسانية عن تشبث التعينات والتعلق بالكثرات وتلك اللطيفة هى الرب فى العالم الصغير وهى اسم الرب وبتنزيهها ينزه الله عما لا ينبغى ان يعتقد فى حقه، ولما كان تنزيه الله تعالى راجعا الى سلب النقائص التى هى حدود الوجود وهى راجعة الى سلب السلوب كان تنزيهه عبارة عن سلب السلوب، ليس الا سعة الوجود، وسعة الوجود راجعة الى سعة صفاته تعالى بحيث لا يشذ وجود ولا صفة وجود من وجوده وصفاته وكان تسبيحه عين تحميده ولذلك قلما يذكر تسبيح الا ومعه الحمد بلفظه او بمعناه وامره (ص) بالتسبيح بسبب الحمد او بالاشتغال بحمده او متلبسا بحمده لذلك يعنى نزهه (ع) عن حدود الكثرات فى عين ملاحظة كمالات الكثرات له تعالى والا لم يكن تسبيحك تسبيحا له بل كان تنقيصا له { قبل طلوع الشمس } ان كان المراد بهذا التسبيح التسبيح الذى كان فى ضمن الصلوات كان المراد بالتسبيح قبل طلوع الشمس صلوة الفجر { وقبل غروبها } يعنى صلوة العصر { ومن آنآء الليل } الآناء جمع الانى بكسر الهمزة وفتحها وجمع الانو بكسر الهمزة وسكون النون فى الجميع بمعنى الساعات يعنى صلوة المغرب والعشاء ونوافل الليل { فسبح وأطراف النهار } صلوة الظهر ونوافلها، وتسمية وقتها بالاطراف لكونه طرفى نصف النهار، او المراد مطلق صلوة التطوع فى النهار، وان كان المراد مطلق التسبيح كان المراد استغراق الاوقات وذكر قبل طلوع الشمس وقبل غروبها للاهتمام بهذين الوقتين { لعلك ترضى } قرئ مبنيا للفاعل ومبنيا للمفعول.
[20.131]
{ ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به } من اصناف النعم الصورية ومستلذات القوى الحيوانية وهو خطاب لمحمد (ص) على اياك اعنى واسمعى يا جارة، ويجوز ان يكون الخطاب عاما على بعد { أزواجا منهم } هو مفعول به لمتعنا والمعنى لا تمدن عينيك الى ما متعنا اصنافا من الناس او هو حال من ما او من ضمير به والمعنى لا تمدن عينيك الى ما متعنا به حال كونه اصنافا من النعم والمستلذات ومنهم حينئذ يكون مفعولا به سواء جعلت من التبعيضية اسما او قائما مقام الموصوف المحذوف لقوة معنى البعض فيه { زهرة الحياة الدنيا } منصوب على الذم او بدل من محل ما متعنا ووجه الاتيان به التصريح بفناء ما متعهم به وذمه وذمهم والاشعار بان المنهى النظر الى ما يتمتع به فى الدنيا، واما نعيم العقبى او قرب المولى فينبغى ان يكون مطمح الانظار { لنفتنهم فيه } لنعذبهم او نختبرهم لان كثرة الاموال سبب لعذاب صاحبه لاهتمامه بجمعها وحفظها حتى انهم يحرمون على انفسهم الحظوظ البدنية لاجل حفظها وجمعها واستنمائها ولخوف فنائها وسرقتها حتى انهم يحرمون طيب المنام لخوف زوالها ولان كثرة المال تورث كثرة الحقوق والتعبد بادائها فرضا وندبا والتقييد به ذم آخر وتسلية اخرى للمؤمنين { ورزق ربك } الذى اعطاك او تترقبه { خير } اما مجرد عن التفضيل او المقصود تفضيل رزق الرب على زعم من طمح نظره الى متاع الدنيا وعده خيرا، او متاع الدنيا خير بشرط ان يكون مع الايمان { وأبقى } هذا ايضا على زعمهم والا فلا بقاء لمتاع الدنيا.
[20.132]
{ وأمر أهلك بالصلاة } يعنى اجعل رزق ربك مطمح نظرك ولا تكتف بنصيب نفسك منه بل اجعل اهلك متوجهين اليه وطالبين له وأمرهم بالصلوة التى هى انموذج ذلك الرزق حتى يطلبوه ويتوجهوا اليه، واهله (ص) كل من انتسب اليه بالبيعة العامة او الخاصة، ومن انتسب اليه بالبيعتين وبالنسبة الجسمانية اولى باهليته ممن لم يكن له نسبة جسمانية، ومن انتسب بالبيعتين اولى ممن انتسب بالبيعة العامة فقط، وعلى (ع) وفاطمة (ع) والحسن (ع) والحسين (ع) كانوا اولى من غيرهم ولذلك كان (ص) بعد نزول هذه الآية يأتى باب على (ع) الى تسعة اشهر وقت كل صلوة ويقول: الصلوة رحمكم الله، او المراد باهله اصحاب الكساء ولذلك كان يأتى باب على (ع) دون غيره، وقال ابو جعفر (ع): امره الله تعالى ان يخص اهله دون الناس ليعلم الناس ان لاهله عند الله تعالى منزلة ليست للناس فأمرهم مع الناس عامة ثم امرهم خاصة { واصطبر عليها } لما كان ادامة الصلوة امرا صعبا لا يتيسر الا لمن كان متمكنا فى مقامات الآخرة امره (ص) خاصة بالصبر عليها دون اهله، واتى بالصيغة الدالة على المبالغة والتكلف { لا نسألك } جواب لسؤال مقدر كأنه (ص) قال: كيف اصطبر على الصلوة وقد كلفت رفع حاجتى فى المأكول والمشروب والملبوس لنفسى ولغيرى من عيالى؟- فقال لا نسألك { رزقا } لنفسك ولغيرك { نحن } لا غيرنا { نرزقك والعاقبة للتقوى } عن الاشتغال عن الصلوة بغيرها، ولما كثر استعمال العاقبة فى العاقبة المحمودة صارت بحيث كلما اطلقت يتبادر منها العاقبة المحمودة.
[20.133]
{ وقالوا } عطف على نفتنهم والتفاوت بالمضى والمضارعة للاشارة الى ان هذا القول وقع منهم، او عطف باعتبار المعنى كأنه قال تعالى فتناهم به وقالوا { لولا يأتينا } محمد (ص) فى ادعاء نبوته { بآية من ربه } دالة على صدقه فى نبوته كأنهم لم يعتدوا بما رأوا منه او حملوه على السحر { أ } تركهم بلا بينة { ولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى } يعنى انه اتى بالقرآن الذى هو مبين جميع ما فى الصحف الاولى من العقائد والاخلاق والعبادات والسياسات والحال ان محمدا (ص) امى لا يعرف كتابا وما اختلف الى عالم يعلمه الكتب الماضية يعنى لا يريدون بقولهم هذا الدلالة على صدقه وقبول نبوته بل يريدون الزامه امرا يعجز عن الاتيان به او الاستهزاء به.
[20.134]
{ ولو أنآ أهلكناهم بعذاب من قبله } اى من قبل محمد (ص) او القرآن او من قبل الاحتجاج بمحمد (ص) وكتابه { ل } ادلوا حجتهم علينا و { قالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا } يدعونا اليك وينبهنا من غفلتنا ويخرجنا من جهلنا { فنتبع آياتك } اى رسلك وخلفاءك وكتبك واحكامك { من قبل أن نذل } نهون بالعذاب فى الدنيا { ونخزى } فى الآخرة، او من قبل ان نذل فى الانظار ونخزى فى انفسنا، او من قبل ان نذل ونستحيى من اعمالنا عندك.
[20.135]
{ قل كل } منا ومنكم { متربص } لما نؤل اليه ولما يظهر من العاقبة { فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي } منا ومنكم اى سيظهر عليكم من كان من اصحاب الصراط وكائنا فى الصراط اعنى المتحقق بالولاية وصاحب القلب { ومن اهتدى } الى الصراط وصار مقامه مقام القاء السمع واكتفى بمفهوم المخالفة عن التصريح بمخالفه يعنى من لم يكن كذلك.
[21 - سورة الأنبياء]
[21.1]
{ اقترب } قرب منه ككرم وقربه كسمع واقترب بمعنى لكن فى اقترب معنى المبالغة { للناس حسابهم } نسبة القرب والبعد الى الافعال ليست الا باعتبار اوقاتها، ووقت الحساب هو وقت القيامة، ولما كانت القيامة واقعة فى طول الزمان لا فى عرضه وكانت مقومة له لا من ابعاضه لم يكن قربها وبعدها بحسب الزمان بل كانت قريبة من الزمان وان كانت الزمانيات متفاوتة النسبة اليها بان بعضها يكون قريبا منها وبعضها بعيدا ولهذا التفاوت قال (ص):
" بعثت انا والساعة كهاتين "
؛ بخلاف سائر الأنبياء { وهم في غفلة معرضون } عن الحساب وعن التهيؤ له.
[21.2]
{ ما يأتيهم من ذكر } للحساب { من ربهم محدث } فى باطنهم بزجر الملك الزاجر ونهى العقل الناهى والواردات النفسانية من الهموم والغموم والمنامات المنذرة والمبشرة، وفى الخارج بالواردات الخارجة من الابتلاءات والامتحانات والدوائر الدائرة التى قلما يخلوا الانسان منها، وبتذكيرات الانبياء والاولياء (ع) والعلماء رضى الله عنهم من الانذارات والتبشيرات { إلا استمعوه } بآذانهم الباطنة او الظاهرة { وهم يلعبون } به بان يجعلوه كالاسمار التى لا حقيقة لها او بغيره لعدم الاعتداد به.
[21.3]
{ لاهية } مشغولة { قلوبهم } بغيره، او لاهية من اللهو، والفرق بينه وبين اللعب ان اللعب هو الفعل الذى لا يكون له غاية عقلانية ويكون له غاية خيالية، واللهو ما لا يكون له غاية عقلانية ولا خيالية وان لم يكن خاليا عن الغاية فى نفس الامر غير مستشعر بها { وأسروا النجوى } عطف على اقترب والنجوى السر وجمع النجى بمعنى المسارين وتعليق الاسرار بها للمبالغة فى الاخفاء او لانهم اخفوا مناجاتهم كما اخفوا ما تناجوا به، وانما اخفوا التكلم فى رسالته لانهم كانوا فى شك من امره والشاك لا يمكنه التسليم حتى لا يتكلم ولا يمكنه الاجهار بالرد والقبول لعدم اقباله على شيء منهما، او لانهم خافوا اطلاع المؤمنين وافتضاحهم به { الذين ظلموا } بدل من الضمير او فاعل والواو علامة الجمع، او منصوب على الذم، او الاختصاص، ووجه الاتيان به التصريح بوصف ذم لهم والتسجيل عليهم بالظلم { هل هذآ إلا بشر مثلكم } فلا يكون رسولا فما يصدر منه مما هو خارج عن المجرى الطبيعى ليس الا سحرا { أفتأتون السحر } اى تقبلونه وتقبلون عليه { وأنتم تبصرون } انه بشر لا يجوز رسالته وان ما يأتى به سحر او انتم البصراء الحكماء لا ينبغى ان تغتروا بدعوى يكون برهان بطلانها معها.
[21.4]
{ قال } لهم اسروا القول او اجهروا به فانه لا يخفى على الله لان { ربي يعلم القول في السمآء والأرض } ظرف للقول او ليعلم او حال من القول او من فاعل يعلم { وهو السميع } لكل مسموع لا سميع سواه { العليم } بكل معلوم لا عليم سواه فيسمع اقوالهم سواء اسروا بها او اجهروا، ويعلم احوالهم وضمائرهم اخفوها ام لم يخفوها.
[21.5]
{ بل قالوا } عطف على اسروا (الى آخرها) فانه فى معنى قالوا ان هذا الا بشر مثلكم، وكلامه الذى اتى به سحر، واضراب عنه الى قولهم الذى هو ابعد من القرآن { أضغاث أحلام } اى القرآن صور الخيالات التى رآها المخبط الذى لا عقل له كالخيالات التى يراها النائم من غير حقيقة لها { بل افتراه } اختلقه من عند نفسه ونسبه الى الله تعالى وهذا عطف على قالوا اضغاث احلام بتقدير قالوا واضراب فى الحكاية عن القول الابعد الى الابعد منه، او عطف على اضغاث احلام واضراب فى المحكى وكان من قولهم فحكى الله ذلك لنا وعلى اى تقدير فهو انتقال من الابعد الى الابعد من القرآن فان خيالات المخبط لا تكون مطابقة للواقع ولكن لم تكن قرينة لقصد من القائل بخلاف الاختلاق { بل هو شاعر } اى مموه يظهر ما لا حقيقة له بصورة الحق بتمويهه وهذا ابعد فان الشعر يزيد على الاختلاق بكونه قرينا لتصرف فى اظهاره وهذا ايضا عطف على قالوا بتقدير قالوا او على المحكى { فليأتنا بآية } ان كان صادقا { كمآ أرسل الأولون } بالآيات الظاهرة مثل العصا واليد البيضاء والناقة واحياء الموتى وابراء الاكمه والابرص.
[21.6]
{ مآ آمنت قبلهم من قرية أهلكناهآ } يعنى باقتراحهم للآيات بقرينة ذكره بعد اقتراحهم الآيات { أفهم يؤمنون } ان اتاهم محمد (ص) بما اقترحوا.
[21.7]
{ ومآ أرسلنا قبلك إلا رجالا } رد لانكارهم كون البشر رسولا كما ان الفقرة الاولى كانت ردا لاقتراحهم { نوحي إليهم } كما نوحى اليك، قرئ يوحى بالياء وبالنون { فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } قد مضى فى سورة النحل تفصيل وتفسير لهذه الآية.
[21.8]
بل كانوا كلهم معرضا للموت غير خالدين فى الدنيا، رد لقولهم مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشى فى الاسواق؟! ولاستغرابهم طرو المرض والموت على الرسول المشعر به قولهم هل هذا الا بشر مثلكم.
[21.9]
{ ثم صدقناهم الوعد } اى وعدنا لهم بالنصر فى قولنا انا لننصر رسلنا وبالمن والامامة وايراث ما فى الارض فى قولنا:
ونريد أن نمن على الذين استضعفوا
[القصص:5] وبالاستخلاف فى الارض والتمكين فى الدين وتبديل خوفهم امنا فى قولنا
وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات
[المائدة:9] وبالانجاء من اعدائهم والظفر عليهم وغير ذلك { فأنجيناهم ومن نشآء وأهلكنا المسرفين } الاسراف ضد القصد والقصد استعمال الاموال والاعضاء والقوى والمدارك فيما ينبغى بقدر ما ينبغى لا ناقصا منه ولا زائدا عليه، فالاسراف بهذا المعنى اعم من التقتير والتبذير، وقد يستعمل الاسراف فى مقابل التقتير والتبذير فان التبذير صرفها فيما لا ينبغى صرفها فيه، والتقتير التقصير فى صرفها فيما ينبغى او على قدر ما ينبغى، والاسراف صرفها فيما ينبغى زائدا على قدر ما ينبغى؛ والمعنى الاول هو المراد ههنا لان المراد بالاسراف ههنا عدم الانقياد للانبياء (ع) والتقتير فى صرف المدارك والقوى فى جهة الانقياد لهم وفيه ترغيب للانقياد للنبى وتهديد عن المخالفة له (ص).
[21.10]
{ لقد أنزلنآ إليكم كتابا } بعدما اتم الترغيب والتخويف خاطب قريشا او العرب { فيه ذكركم } اى صيتكم وشرفكم او سبب ذكركم بين الخلق او سبب تذكركم للآخرة { أ } تعرضون { فلا تعقلون } ان فيه ذكركم اولا تصيرون عقلاء فتصيرون ظالمين.
[21.11-12]
{ وكم قصمنا } الجملة خالية وكم خبرية اواستفهامية والقصم الكسر وهو كناية عن الاهلاك سواء اريد من قوله تعالى { من قرية } اهل القرية باستعمالها مجازا فى اهلها، او بتقدير من اهل قرية، او اريد نفس القرية ويكون كسرها كناية عن هلاك اهلها { كانت ظالمة } صفة قرية او جواب للسؤال عن حال القرية، او عن علة القصم وعلى اى تقدير فهو يفيد التعليل { وأنشأنا بعدها قوما آخرين فلمآ أحسوا بأسنآ } عطف على كم قصمنا من قبيل عطف التفصيل على الاجمال { إذا هم منها يركضون } اى يهربون.
[21.13]
{ لا تركضوا } جواب لسؤال مقدر بتقدير القول كأنه قيل: فما ينبغى ان يقال لهم؟- قال تعالى يقال توبيخا وتهكما: لا تهربوا { وارجعوا إلى مآ أترفتم فيه } اترفته النعمة اطغته، واترف فلان على البناء للفاعل اصر على البغى، واترف فلان على البناء للمفعول ترك ونفسه يصنع ما يشاء، او تنعم لا يمنع من تنعمه، او تجبر { ومساكنكم } وقيل: ان الملائكة بعد نزول العذاب بهم من القتل وغيره قالوا ذلك استهزاء { لعلكم تسألون } اى يسألكم السائلون من دنياكم كما كانوا يسألونكم قبل ذلك، او لعلكم تسألون عن نعمكم كيف فعلتم بها، او تسألون عن نعمكم ما لها لا تدفع العذاب عنكم؟ او لعلكم يسألكم الانبياء (ع) الايمان بهم كما كانوا قبل ذلك يسألونكم، وعلى اى تقدير فهو للاستهزاء بهم.
[21.14]
{ قالوا يويلنآ } بعد احساس العذاب قالوا ذلك، والويل الفضيحة او هو كلمة تفجع، او الوقوع فى الهلكة وحلول الشر وهو منادى بجعله كذوى العقول، او المنادى محذوف والتقدير يا قوم انظروا ويلنا { إنا كنا ظالمين } استيناف فى مقام التعليل يعنى اعترفوا بعد معاينة العذاب بظلمهم لانفسهم او لانبيائهم او للخلق بمنعهم عن الانقياد للانبياء (ع) او بغير ذلك ولا ينفعهم ذلك بعد معاينة العذاب.
[21.15]
{ فما زالت تلك } الدعوى التى هى نداء الويل { دعواهم حتى جعلناهم حصيدا } كالنبت الحصيد ولذلك لم يجمع او شبههم بالزرع الواحد المشتمل على ساقات عديدة فوحد الحصيد { خامدين } وصف لحصيدا او مفعول بعد مفعول لكون مفعول جعل خبرا فى الاصل كناية عن الاستيصال، قيل: كانت الآية فى اهل قرية من اليمن ارسل الله اليهم نبيا فقتلوه فسلط الله عليهم بختنصر فهزموا من ديارهم فردهم الملائكة فقتل صغارهم وكبارهم حتى لم يبق لهم اسم ورسم، وذكر فى اخبار: ان هذه الآية نزلت فى ظهور القائم (ع) فانه اذا خرج الى بنى امية بالشام وهربوا الى الروم فيقول لهم الروم: لا ندخلكم حتى تنتصروا فيعلقون فى اعناقهم الصلبان فيدخلونهم فاذا حضر بحضرتهم اصحاب القائم (ع) طلبوا الامان والصلح فيقول اصحاب القائم (ع): لا نفعل حتى تدفعوا الينا من قبلكم منا، فيدفعونهم اليهم فذلك قوله تعالى: { وارجعوا إلى مآ أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون } يسألونهم عن الكنوز وهو اعلم بها فيقولون: { يويلنآ إنا كنا ظالمين * فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين }.
[21.16]
غير ناظرين الى غاية عقلانية وحكم ودقائق متقنة فان اللعب هو الفعل الذى يكون له غاية لكن غايته لم تكن الا خيالية كلعب الاطفال كما ان اللهو هو الفعل الذى لم يكن له غاية خيالية ظاهرة والمقصود ان السماء والارض وما بينهما من كثرة الحكم والدقائق فى خلقها وكثرة المصالح المترتبة عليها لا يمكن احصاء غاياتها المتقنة المحكمة فليس خلقتها لعبا بل كانت لتكميل النفوس واتمام فعلياتها حتى تستحق الجزاء من الثواب والعقاب.
[21.17]
{ لو أردنآ أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنآ } شرطية فرضية يعنى لو اردنا اتخاذ اللهو لاتخذناه بطريق احسن من هذا بحيث لا يطلع عليه غيرنا ولم نتخذ السماء والارض المشهودتين لكل احد لهوا، وفسر اللهو بالزوج ردا على من جعل بينه وبين الجنة نسبا وصهرا، وبالولد ردا على من اثبت له الولد، ويؤيد هذا التفسير ما يأتى كما يأتى { إن كنا فاعلين } تأكيد للشرطية الاولى والجزاء محذوف، وقيل: ان نافية.
[21.18]
{ بل نقذف بالحق على الباطل } يظن ان الانسب بتوافق المتعاطفين ان يقول بل قذفنا بالحق على الباطل لكن نقول ان المراد بالحق هو الحق المخلوق به الذى هو المشية المسماة بالولاية المطلقة، والسماء اعم من سماء عالم الطبع، وسماء عالم الارواح، ونفس عالم الارواح فى العالم الكبير والصغير، وهكذا الارض وما بينهما اعم مما فى الكبير والصغير، وكما ان المشية التى هى اضافة الله الاشراقية حق لا شوب باطل فيها كذلك جميع التعينات والمهيات باطلة لا شوب حق فيها وان الله تعالى بمضمون قوله تعالى:
بل يداه مبسوطتان
[المائدة:64] ينفق كيف يشاء على سبيل الاستمرار يطرد باضافته الاشراقية بطلان التعينات والمهيات وبطلان القوى والنقائص والاستعدادات وبفنيه وكما انه تعالى يطرد بخلقه سماوات الارواح واراضى الاشباح بطلان المهيات بقذف الحق عليها ابتداء كذلك يطرد ذلك عنها استمرارا فانها من انفسها فى فناء لا بقاء لوجودها آنين، ومن موجدها فى بقاء بسبب تجدد اضافات الوجود عليها، وكما يطرد بخلقتها البطلان ابتداء واستمرارا عن المهيات يطرد بخلقتها البطلان والنقائص عن القوى والاستعدادات التى تكون فى عالم الاكوان، وللاشارة الى انه تعالى يطرد البطلان عن المهيات والاستعدادات استمرارا اتى بالمتعاطفين متخالفين، ولفظ القذف اشعار بانه تعالى لقوة قدرته لا مانع يمانعه عن ايصال الحق { فيدمغه } دمغه كمنع ونصر شجه حتى بلغت الشجة الدماغ فهلك { فإذا هو زاهق } مضمحل { ولكم الويل مما تصفون } الله به او من وصفكم الله باللعب فى فعاله من دون ترتب غايات محكمة عليها، وبالصاحبة والولد.
[21.19]
{ وله من في السماوات والأرض } يعنى انه تعالى خالقهم ومالكهم وغايتهم فكيف يكونون شركاءه او صاحباته او ولده وهو حال فى موضع التعليل ومؤيد كون المراد بنفى اللهو نفى الولد والصاحبة { ومن عنده } يعنى الملائكة المقربين الذين لهم مقام العندية بالنسبة اليه تعالى، وهو عطف على من فى السماوات عطف المفرد او مبتدء خبره قوله { لا يستكبرون عن عبادته } وعلى الاول يكون لا يستكبرون حالا عن من فى السماوات ومعطوفه، او حالا عن من عنده فقط والمراد بمن عنده هم المقربون المجردون عن السماوات والارض الطبيعتين، وتأدية ما فى السماوات والارض عن التى هى لذوى العقول من باب التغليب، او لانه يستفاد كون غيرهم له بطريق اولى والمعنى لا يستكبرون عن عبادته فكيف يكونون معبودين كما قال بعض او بنات له تعالى او بنين { ولا يستحسرون } حسر كضرب وفرح اعيا كاستحسر، وكنصر وضرب كشف وانكشف.
[21.20]
{ يسبحون } ينزهون الله عن النقائص بلسان حالهم وقالهم وبفطرة وجودهم ولعدم جامعية الملائكة اقتصر على التسبيح ولم يذكر الحمد لهم { الليل والنهار } اى فى الليل والنهار يعنى دائما فان غذاءهم التسبيح، وعالم الملائكة المقربين مشتمل على ليل ونهار لائقين به وان كان مجردا عن الليل والنهار المحسوسين فان الملائكة المقربين بجهاتهم الوجوبية وجهاتهم الامكانية وبوجوداتهم وتعيناتهم نهار وليل، ويسبحون الله بجميع جهاتهم وجميع مراتبهم { لا يفترون } لا يضعفون عن التسبيح فان التسبيح كما قيل جعل لهم كالانفاس لنا.
[21.21]
{ أم اتخذوا آلهة من الأرض } يعنى هذه حال من فى السماء من انهم لا يدعون الآلهة لانفسهم ولا ينبغى لهم لانهم عباد اذلاء تحت قدرة الله بل هؤلآء المشركون اتخذوا آلهة من الارض يصح لهم الالهة ويدعون الالهة { هم ينشرون } يعنى يفعلون فعل الالهة، والاتيان بالضمير المتقدم للاشارة الى الحصر الاضافى بالنسبة الى من فى السماء، والنشر بمعنى الحيوة والاحياء، والانشار الاحياء وقرئ ينشرون بفتح الياء وضمها.
[21.22]
{ لو كان فيهمآ } اى فى السماء كما يقول من يقول بآلهة الملائكة والكواكب، والارض كما يقول من يقول بآلهة الاصنام والعجل وبعض الاناسى وابليس، وكما يقول الثنوية { آلهة إلا الله } ليست الا استثنائية لعدم صحة الاستثناء لفظا ومعنى لعدم شمول الالهة لكونه جمعا منكرا فى الايجاب، وللزوم جواز صحة تعدد الالهة مع الله بحسب مفهوم مخالفة الاستثناء { لفسدتا } لكون الآلهة حينئذ تامى القدرة والا لم يكونوا الهة واقتضاء تمامية القدرة صحة تدافع كل وتمانعه عن مراد الآخر، فان قيل ان مرادهما يكون قرينا للحكمة فيكون مراد كل مرادا للآخر فلا يكون تدافع، يقال: الاستدلال بصحة التدافع لا بوقوعه، وصحة التدافع مستلزمة لصحة الفساد فيهما، وهذا هو استدلال المتكلمين وبيانهم للآية وهو كما ترى.
والتحقيق فى بيان الآية ان يقال: انها اشارة الى برهان تام يسمى برهان الصديقين وطريقهم وهو برهان الفرجة الذى اشار اليه الصادق (ع) من لزوم الفرجة واستلزام فرض آلهين آلهة ثلاثة واستلزام الثلاثة خمسة وهكذا فانه لو فرض الهين فاما ان يكونا قديمين قويين او حادثين ضعيفين، او يكون احدهما قديما قويا والآخر حادثا ضعيفا، والاخيران خلاف الفرض ومثبتان للتوحيد، وان كانا قديمين واجبين والوجوب من صفات الوجود، والوجود كما سبق فى اول الكتاب متأصل فى التحقق، وتحقق كل متحقق يكون بتحققه، وسبق ان الوجود حقيقة واحدة لا تكثر فيه بوجه من وجوه التكثر، وان تكثره لا يكون الا بضمائم، فاذا كان القديمان واجبين بالذات كانا مشتركين فى حقيقة الوجود، وتعددهما وافتراقهما لا يكون الا بضميمة ولا اقل من انضمام ضميمة الى واحد منهما حتى يصح الافتراق بالاطلاق والانضمام ولا يكون الضميمة من سنخ المهيات والا لزم ان يكون الكل ممكنا حادثا هذا خلاف الفرض، بيان الملازمة ان المركب تابع لاخس اجزائه والمهية من حيث ذاتها لا تكون الا ممكنة، والممكن لا يكون الا حادثا فالكل الذى صارت المهية جزء له لا يكون الا ممكنا حادثا ولا تكون من سنخ العدم وهو واضح فيكون من سنخ الوجود فيصير المفروض آلهين ثلاثة ولما كانت الثلاثة مشتركة فى حقيقة الوجود فلا يكون التعدد الا بضمائم واقلها ضميمتان فيصير الثلاثة خمسة، وننقل الكلام الى الخمسة فتصير تسعة وهكذا الى ما لا نهاية له وهذا البرهان بعد اتقان المقدمات من اسد البراهين واتمها لانه يؤخذ من النظر الى نفس حقيقة الوجود من غير اعتبار شيء آخر معها، وكما لا يحصل المعرفة التامة بالهل الا برفع الحجب والمظاهر ونفى الاسماء والصفات وكشف سبحات الجلال من غير اشارة وذات للعارف كما ورد عنهم (ع) اعرفوا الله بالله يعنى لا بمظاهره واسمائه وصفاته لا يحصل العلم التام بالله الا برفع النظر عن المعاليل والتوجه الى الله وتحقيق حقيقته واخذ البرهان عليه من نفس حقيقته حتى يقال علمت الله بالله، والحاصل انه لو كان الواجب متعددا لزم انقلاب الواجب ممكنا وفيه بطلان العالم وفساد السماوات والارض لانها ممكنة والممكن ما لم يستند الى واجب لم يوجد، او صيرورة المتعدد واحدا وهو المطلوب، او عدم انتهاء عدد الواجب الى حد وهو خلاف المدعى { فسبحان الله } يعنى اذا كان التعدد مورثا لابطال السماوات والارض فتنزه الله تنزها { رب العرش } الذى هو جملة المخلوقات { عما يصفون } اى عن الذى يصفونه به من الشريك او عن وصفهم له بالشريك.
[21.23]
{ لا يسأل عما يفعل } حال او جواب لسؤال مقدر او معترضة والمقصود انه لا يحكم عليه بالسؤال عنه فى افعاله ليكون دليلا على آلهته { وهم يسألون } يعنى يحكمون عليهم ليكون دليلا على عدم آلهتهم والضمير راجع الى المعبودين او الى العابدين والمعبودين، او الى العابدين فقط للتهديد، او المعنى لا ينبغى ان يسأل عما يفعل لانه لا يفعل ما يفعل الا لحكم ومصالح عديدة متقنة لا يمكن احصاؤها وهم ينبغى ان يسألون بجهلهم بالغايات وعدم اهتدائهم الى المصالح.
[21.24]
{ أم اتخذوا من دونه آلهة } دون بمعنى تحت وفوق وبمعنى امام ووراء من الاضداد وبمعنى غير وبمعنى المكان القريب من الشيء والمناسب ههنا ان يجعل دون بمعنى امام او عند يعنى بمعنى المكان القريب حتى يكون تأسيسا، فان قوله تعالى { له من في السماوات والأرض } ومن عنده ابطل تجويز كون شيء فى العالم الها عبد ام لم يعبد، وقوله تعالى { أم اتخذوا آلهة من الأرض } ابطل تجويز جعل شيء بالمواضعة من عند انفسهم آلها فان اتخاذ الالهة من الارض سواء جعل من الارض صفة لآلهة او متعلقا باتخذوا يشعر بكون الاتخاذ بالمواضعة من عند انفسهم، لا من عند الله ، وقوله تعالى { أم اتخذوا من دونه آلهة } يشعر بكون الاتخاذ بالمواضعة الالهية وباذنه واجازته كما اذا قيل جعلوا اميرا لهم من ملكهم، وقيل: جعلوا اميرا لهم من عند الملك، فان الاول يدل على ان الجعل كان بالمواضعة من عند انفسهم، والثانى يدل على كون ذلك باذن الملك وتقديم من دونه ههنا على الآلهة لشرافته باضافته الى الله تعالى وهو حال من آلهة او متعلق باتخذوا { قل هاتوا برهانكم } لما كان الاتخاذ بالمواضعة من عند انفسهم يستدعى صحة الالهة فى نفس الامر للمأخوذ الها ابطل آلهة المأخوذين آلهة اولا بقوله على سبيل الانكار هم ينشرون وابطل آلهة مطلق ما يتصور الها ثانيا بقوله لو كان فيهما (الآية) بعد ما ابطل الآلهة مطلقا قبل ذلك بقوله: وله من فى السماوات (الى آخرها) ولما كان الاتخاذ بالمواضعة الالهية لا يستدعى صحة الآلهة فى نفس الامر بل يكفى صحة كون المأخوذ الها باذن الله مظهرا لآلهة الله بخروجه من حدود نفسه وظهور ربه فيه قال { قل هاتوا برهانكم } على اذن الله فى آلهة شيء مما اخذتموها آلهة، ولما كان الامر للتعجيز والمقصود منه نفى البرهان على المدعى قال { هذا ذكر من معي } فى مقام التعليل لعدم البرهان يعنى هذا القرآن ذكر من معى موجود واحكامهم { وذكر من قبلي } ولم يكن فى احكام من معى ولا فى احكام من قبلى ما يدل على اذنه تعالى فى اتخاذ ما اخذتموه الهة { بل أكثرهم لا يعلمون الحق } الاول تعالى وصفاته حتى يعلموا اذنه وترخيصه فى آلهة شيء اولا يعلمون الحق الثابت فيتفوهون بما يتخيلون من غير علم بحقيته كالمجنون، والتقييد بالاكثر لان الاقل منهم يعلمون بطلان الآلهة ويقولون بآلهتها لاغراض نفسانية، وقرئ بالحق بالرفع خبر مبتدء محذوف، او مبتدء خبر محذوف { فهم معرضون } عن الحق لذلك.
[21.25]
{ ومآ أرسلنا } جملة حالية { من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } لما كان الوحى خاصا بالرسول والعبادة عامة له ولامته افرد ضمير اليه وخاطب الجميع فى الامر بالعبادة، ويجوز ان يكون قوله وما ارسلنا عطفا باعتبار المعنى ويكون فيه معنى الاضراب والترقى كأنه تعالى قال حين قال { هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي } ليس لهم برهان على الاتخاذ لان برهان هذا المطلب ليس الا الوحى وليس فى الوحى اذن وترخيص فى اتخاذ اله سواه بل ما ارسلنا قبلك من رسول الا نوحى اليه بالتوحيد وخلع الانداد لا بالاشراك واتخاذ الانداد.
[21.26]
{ وقالوا } عطف باعتبار المعنى كأنه قال: قالوا اتخذنا آلهة، او جعل الله لنا آلهة وقالوا { اتخذ الرحمن ولدا } يعنى القائلين بان الملائكة بنات الله والقائلين بان عزيرا ابن الله، والمسيح ابن الله { سبحانه } تنزه تنزها عن الصاحبة والولد { بل } الملائكة والمسيح وعزير { عباد } لله { مكرمون }.
اعلم، ان الاشياء كما سبق مكررا حقائقها وذواتها عبارة عن فعلياتها الاخيرة، واسماؤها واحكامها جارية عن تلك الفعليات، وان الانسان اذا بايع البيعة الخاصة الولوية يحصل له فعلية هى فعليته الاخيرة، وتلك الفعلية تنعقد بالولاية كانعقاد اللبن بالانفحة، وبذلك الانعقاد يحصل له نسبة الى صاحب الولاية والبيعة ويعبر عن تلك النسبة بالبنوة والابوة وبحكم المنطوق الصريح من قوله تعالى:
إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله
[الفتح:10]، يصدق على تلك النسبة انها نسبة بين العبد وبين الله، وبهذا الاعتبار قالت اليهود:
نحن أبناء الله
[المائدة:18]، وبهذا الاعتبار وباعتبار ان النسبة الجسمانية والاضافة المعبر عنها بالابوة والبنوة كانت منتفية عن المسيح، وباعتبار ان بدنه صار محكوما بحكم روحه قالت النصارى: المسيح ابن الله ولم يقولوا فى غيره ذلك، وهكذا الحال فى عزير، ولما كان الاتباع تفوهوا بهذا القول من غير تحقيق وتحصيل ولم يدركوا من الولادة الا الولادة الجسمانية المستلزمة لمفاسد كثيرة فى حقه تعالى رد الله تعالى عليهم واثبت العبدية لهم لا الولادة والسنخية.
[21.27]
{ لا يسبقونه بالقول } الباء بمعنى فى او للسببية { وهم بأمره يعملون } كان الا وفق بالمعطوف عليه ان يقول ويعملون بامره لكنه اراد الحصر فى المسند اليه وحصر عملهم فى كونه بأمره فغير الاسلوب.
[21.28]
{ يعلم ما بين أيديهم } المراد بما بين ايديهم كما اسلفنا مكررا اما الدنيا او الآخرة { وما خلفهم } يعلم بالمقايسة وهو جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: هل يعلم الله جهة دنياهم وجهة آخرتهم حتى يجوز له الامر فيما يحتاجون اليه فى دنياهم وآخرتهم؟- فقال: يعلم ذلك منهم { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } الله طينته فان الشفاعة غير مقصورة على من آمن او المعنى الا لمن ارتضى الله ان يشفع له (ص) فيكون فى معنى
من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه
[البقرة: 56]، { وهم من خشيته } لا من غير خشيته { مشفقون } الخشية كما سبق خوف من ترحم فانها حالة ممتزجة من لذة الوصال والاستشعار بالفراق، او الفوات والاشفاق كذلك الا انه قد يلاحظ الهيبة فى الخشية والاعتناء فى الاشفاق والمعنى انهم لا جهة خوف فيهم سوى جهة الخشية من الله فعلى هذا يكون من للتعليل، والتقديم للحصر، او المعنى انهم لاجل الخشية من الله مشفقون فى اهلهم، او على خلق الله، او المعنى انهم على خشيته مشفقون يعنى انهم بواسطة ادراك لذة الوصال فى الجملة فى الخشية يحبون الخشية ويخافون فوتها فيكون لفظ من صلة للاشفاق فانه قد يتعدى بعلى اذا لوحظ فيه جهة الترحم، وقد يتعدى بمن اذا لوحظ فيه معنى الخوف.
[21.29]
{ ومن يقل منهم } من الخلق او من العباد المكرمين { إني إله من دونه } ظرف لغو متعلق بيقل اى من يقل من غير اذنه انى اله بمعنى المربى فى الطاعة ولذلك فسر انى اله بانى امام، او ظرف مستقر صفة لاله ولفظة من للتبعيض اى اله ثابت بعضا من غيره { فذلك } اسم الاشارة البعيدة لتوهينه وتبعيده عن ساحة الحضور { نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين } لآل محمد (ص) بغصب حقهم او الظالمين بمنع الحق عن المستحق واعطائه لغيره فانه لا يكون الا عن الانانية التى هى نحو آلهة فى مقابل الله تعالى ومغايرة له تعالى.
[21.30]
{ أولم ير الذين كفروا } التقدير الم ينظر الذين كفروا ولم يروا { أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما } يعنى ان السماوات والارض الطبيعيتين كانتا منضمتين مجتمعتين فى وجود واحد جمعى فى مقام المشية، ثم فى مقام العقول، ثم فى مقام النفوس ففتقناهما فى مقام الطبع وفصلناهما، او سماوات الارواح واراضى الاشباح كانتا رتقا فى مقام المشية والعقول والنفوس ففصلناهما، او السماوات والارض الواقعتين فى العالم الصغير كانتا رتقا فى النطفة والجنين ففتقناهما، او السماوات والاراضى كانتا رتقا غير ممطرة وغير منبتة ففتقناهما بالمطر والنبات، وعلى بعض التفاسير استعمال الرؤية اما بجعلها بمعنى العلم، او بادعاء ان الرتق والفتق من الحسيات او كالحسيات، وعدم الرؤية من عدم الالتفات { وجعلنا من المآء كل شيء حي } عطف على فتقنا والتقدير جعلنا من مائها كل شيء حى بالحيوة الحيوانية او بالحيوة النباتية والحيوانية وخلق الحيوان من الماء الذى هو النطفة التى هى مادة له وخلق النبات من الماء الذى هو سبب لخلقه وانباته، او التقدير جعلنا بعد الفتق من الماء كل شيء حى { أ } يعرضون عن تلك الآيات التى هى آيات علمه وحكمته وقدرته وتصرفه تعالى فى الجليل والحقير { فلا يؤمنون } ولا يذعنون به.
[21.31]
{ وجعلنا في الأرض رواسي } بعد فتقهما { أن تميد بهم } قد سبق الآية بتنزيلها وتأويلها { وجعلنا فيها فجاجا } جمع الفج الطريق الواسع بين الجبلين، او مطلقا كالفجاج بالضم ويستفاد من تنزيل الآية السابقة وتأويلها بيان هذه { سبلا } بدل من فجاجا { لعلهم يهتدون } الى معايشهم ومصالحهم ومنافعهم ودفع مضارهم والى بلادهم الصورية ومواطنهم الحقيقية.
[21.32]
{ وجعلنا السمآء سقفا محفوظا } من الاندراس والفناء الى الوقت المعلوم، او من الوقوع على الارض، او من استراق السمع { وهم عن آياتها معرضون } فان الآيات الدالة على وجود الصانع وعلمه وحكمته واعتنائه بخلقه وقدرته كثيرة وهم مثل اهل زماننا كانوا لا يعتبرون بها بل كانوا عنها معرضين.
[21.33]
{ وهو الذي خلق الليل والنهار } الذين هما من آياتها وبها يناط اكثر الآثار السفلية، والجملة عطف على قوله: هم عن آياتها معرضون، او حال عن الفاعل المستتر فى معرضون او عن آياتها، كما ان قوله وهم عن آياتها معرضون حال عما سبق والمعنى جعلنا السماء سقفا محفوظا كثير الآيات والحال انهم معرضون عن آياتها غير ناظرين اليها والحال انا خلقنا الليل والنهار اللذين هما مشهودان لهم وهما من آيات السماء ويترتب عليهما حكم ومصالح كثيرة ولا ينبغى الغفلة والاعراض عنهما { و } خلقنا { الشمس والقمر } اللذين هما من اعظم آياتها ولا يتكون متكون الا بتأثيرهما، وكل من نظر اليهما بالتأمل الذى هو من شأن الانسان يدرك انهما اعظم قدرا واكثر اثرا واشد ظهورا من ان يغفل عنهما او لا يدرك منهما دلالتهما على مبدء عليم حكيم قدير { كل } من الشمس والقمر { في فلك يسبحون } كان الظاهر ان يقول: كل فى فلك يسبح ان قدر كل منهما او يسبحان او يسبح ان قدر كلهما بمعنى كليهما لكنه تعالى للاشعار بكثرة افراد كل من الشمس والقمر طولا كما ورد: ان وراء عين شمسكم هذه تسعا وثلاثين عين شمس، ووراء قمركم هذا تسعة وثلاثين قمرا، وبكثرة افرادهما عرضا كما شاع فى زماننا من حكماء الافرنج ان الكواكب بعضها شموس منيرة بذاتها، وبعضها اقمار مستنيرة من غيرها، اتى بالعبارة هكذا ليكون المعنى كل جماعة من افراد الشمس وافراد القمر فى نوع من الفلك روحانى او جسمانى يسبحون فان الافلاك كالكواكب كما تكون طبيعية تكون روحانية كما قيل:
آسما نهاست در ولايت جان
كارفرماى آسمان جهان
والاتيان بضمير ذوى العقول للاشارة الى انها ذوو شعور وعلم كما قيل:
خر مكس خنفسا حمار قبان
همه باجان ومهرومه بى جان
واستعمال السباحة لتشبيه الفلك بالبحر والنهر وتشبيه الكواكب بالسابح.
[21.34-35]
{ وما جعلنا } التفات من الغيبة الى التكلم كما كان ما قبله التفاتا من التكلم الى الغيبة وهو عطف او حال عن سابقه وانكار لما قالوا من انا نتربص به ريب المنون كأنه قال: وخلقنا الليل والنهار المفنيين بتعاقبهما كما هو مشهود لك وللجميع جميع النفوس والمواليد وما جعلنا { لبشر من قبلك الخلد } خارجا من سنة افناء الليل والنهار حتى تترقب ويترقبوا لك الخلود { أ } ينتظرون موتك دون موتهم { فإن مت فهم الخالدون كل نفس ذآئقة الموت } تعليل لانكار الخلود { ونبلوكم } عطف على كل نفس ذائقة الموت، او على ما جعلنا والاختلاف بالاسمية والفعلية او بالمضى والاستقبال للاشعار بان الاختبار مستمر من الماضى الى الاستقبال { بالشر والخير }.
اعلم، ان الانسان ذو مراتب ولكل مرتبة منها شر وخير خاصان بها فان المرتبة الحيوانية خيراتها ملائمات شهواته وغضباته، والمرتبة البشرية خيراتها ملائمات هذه لكن مع عدم الخروج عن انقياد العقل، والمرتبة القلبية ملائماتها العلوم والاوصاف الجميلة، وشرور كل منافراته؛ وهكذا، وقد يكون خير مرتبة شرا لمرتبة اخرى، وقد يكون خيرا وقد لا يكون شرا ولا خيرا، ومعنى الابتلاء الاختبار والخلاص مما لا ينبغى ان يكون مع الانسان، والاختبار بشر المراتب واضح والاختبار بخيرها بان ينظر هل يشكر ويتوجه فى الخبر الى مفيض الخير او يطغى ويلهو عنه، فان فى الشكر خلاصا للطيفة الانسانية من الشوائب وللنفس من الرذائل، وفى الطغيان خلاصا للطيفة السجينية من شوائب العليين وللنفس من شوب الخصائل { فتنة } مصدر من غير لفظ الفعل { وإلينا ترجعون } وعد ووعيد وهو عطف على كل نفس ذائقة الموت، ومفيد للتعليل لانكار الخلود مثل سابقه، روى ان امير المؤمنين (ع) مرض فعاده اخوانه فقالوا: كيف نجدك يا أمير المؤمنين (ع)؟- قال: بشر، قالوا: ما هذا كلام مثلك! قال (ع) ان الله تعالى يقول ونبلوكم بالشر والخير فتنة؛ فالخير الصحة والغنى، والشر المرض والفقر.
[21.36]
{ وإذا رآك الذين كفروا } بالله او بك او بعلى (ع) { إن يتخذونك } هو جواب لاذا ولم يأت بالفاء فى الجواب مع لزوم الفاء فى الجواب المنفى بان اما لتقدير الفاء او لحذف الجواب بقرينة هذه الجملة والتقدير اتخذوك هزء ان يتخذونك { إلا هزوا } مهزوا به وهو مصدر بمعنى اسم المفعول { أهذا الذي يذكر آلهتكم } حال بتقدير القول اى قائلين: اهذا الذى كان بيننا وكان ضعيفا فينا هو الذى يذكر آلهتكم بسوء ويعيبهم؟! والحال انهم اولى بالاستهزاء لانهم معرضون عن الله وعن خلفائه { وهم بذكر الرحمن هم كافرون } تكرار المسند اليه بالضمير للتأكيد وللحصر الادعائى كأنهم لا كافر سواهم، وتقديم الظرف على عامله لشرافته بالاضافة الى الرحمن وللحصر ايضا يعنى ان للاشياء جهتين؛ جهة ذكر الرحمن وجهة ذكر الشيطان وهوى النفس وانت تعيب عليهم الهتهم بجهتها الشيطانية لا بجهتها الرحمانية فانت اولى بالتصديق و التبجيل وهم كافرون من الاشياء جهة ذكرها للرحمن ناظرون الى جهة ذكرها للشيطان، فهم اولى بالاستهزاء واحق بالتوهين، او المراد بالذكر القرآن او الرسالة او الولاية فان الكل ذكر لله، والباء فى قوله بذكر الرحمن سببية او صلة كافرون.
[21.37]
{ خلق الإنسان من عجل } جملة منقطعة عن سابقها لفظا ومعنى، او مرتبطة معنى جواب لسؤال كان مذكورا او مقدرا كأنه (ص) قال: او امته قالوا مستبطئين لمؤاخذته الى م تمهلهم؟- فقال: خلق الانسان من عجل وهذه عبارة دائرة فى العرب والعجم اذا أرادوا المبالغة فى امر يقولون: انه خلق من هذا الامر كأنه جعل ذلك الامر مادة خلقته، وفى الخبران آدم (ع) لما نفخ فيه الروح اراد ان يقوم قبل اتمام النفخ فقال تعالى: خلق الانسان من عجل { سأوريكم آياتي } فى مؤاخذة المستهزئين { فلا تستعجلون } فى حلول العذاب بهم، وهذه الآية بهذا التفسير تدل على ان قوله { خلق الإنسان من عجل } مرتبط معنى بسابقها.
[21.38]
{ ويقولون } عطف على قوله { أهذا الذي يذكر آلهتكم } فانه فى التقدير يقولون: اهذا الذى يذكر آلهتكم كما اشرنا اليه ويقولون استهزاء بنحو آخر { متى هذا الوعد } الذى تعدون من وعد القيامة او وعد العذاب { إن كنتم صادقين } فى وعدكم.
[21.39]
{ لو يعلم الذين كفروا } اتى بالاسم الظاهر تصريحا بكفرهم واشعارا بعلة الحكم { حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم } حين مفعول يعلم ولو للشرط والجزاء محذوف والمعنى لو يعلمون وقت احاطة النار بهم فى الجحيم او فى البرزخ وعدم قدرتهم على دفعها لعلموا اى منهم ومنكم احق بالاستهزاء او لما استهزؤا او لما استعجلوا الوعد، او لو للشرط وحين ظرف والمعنى لو يكون لهم علم فى وقت احاطة النار بهم يعلمون ما حل بهم من العذاب اولو للتمنى وحين على الوجهين { ولا هم ينصرون } يعنى لا يقدرون على دفع العذاب بأنفسهم ولا يعينهم معين آخر.
[21.40]
{ بل تأتيهم بغتة } اضراب عن عدم علمهم المستفاد من لو يعلمون او اضراب عن عدم كفهم والضمير للنار او للعدة او للقيامة المعهودة بينهم { فتبهتهم } اى تحيرهم بحيث لا يبقى لهم شعور وتدبير لدفعها { فلا يستطيعون ردها } عن انفسهم { ولا هم ينظرون } لتدبير دفعها او لتوبة ومعذرة، او لجبران ما فات منهم بالأعمال الصالحة.
[21.41]
{ ولقد استهزىء برسل من قبلك } تسلية له (ص) عن استهزاء قومه { فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون } اى القول والعمل الذى كانوا به يستهزؤن، او العذاب الذى كانوا به يستهزؤن.
[21.42]
{ قل } ردا عليهم فى اتخاذ الآلهة { من يكلؤكم } اى يحفظكم { بالليل والنهار من الرحمن } اى من عقوبته او من قبله ان اراد بكم سوء والمقصود حملهم على الاقرار بعجز الآلهة، وهذه الآية مثل سوابقها تعريض بمن اتخذ من دون على (ع) اولياء { بل هم عن ذكر ربهم } تذكر ربهم المطلق او ربهم المضاف او عما يذكرهم به ربهم من الآيات الآفاقية والانفسية والآيات العظمى التى أعظمها على (ع)، او المراد بذكر ربهم القرآن او محمد (ص) او على (ع) ابتداء { معرضون } ولهذا لا يتذكرون ان آلهتهم عاجزون وان ليس الحافظ من سخط الله الا الله.
[21.43]
{ أم لهم آلهة } عطف باعتبار المعنى كأنه قال: الهم آلهة تكلؤهم عن عقوبة الرحمن او حال كونها من قبل الرحمن ام لهم آلهة { تمنعهم } من عذابنا او من حوادث الزمان حال كونها { من دوننا } من غيرنا او حال كونها من عندنا { لا يستطيعون نصر أنفسهم } استيناف جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: فما شأن آلهتهم؟- فقال: لا يستطيعون نصر انفسهم فكيف بغيرهم { ولا هم منا يصحبون } اى يحفظون من: اصحب فلانا واصطحبه اى حفظه ومنعه، والمعنى ان آلهتهم لا يستطيعون نصر انفسهم وليسوا بأنفسهم محفوظين من قبلنا، او ليسوا محفوظين من عذابنا لا بأنفسهم ولا بغيرهم.
[21.44]
{ بل متعنا هؤلاء } يعنى ليس لهم آلهة بل متعنا هؤلآء { وآبآءهم } بالاموال والاولاد والاعمار والصحة والامن { حتى طال عليهم العمر } فاغتروا بتمتيعنا واتبعوا اهواءهم { أ } اغتروا بتمتيعنا وغفلوا عن الرجوع الينا { فلا يرون أنا نأتي الأرض } برسلنا { ننقصها من أطرافهآ } باذهاب النفوس النازلة من عالم الارواح اليها المثقلة لها التى تزيدها عن قدرها، ولما كان النفوس السفلية الشيطانية كأنها لا تنقل من الارض بالموت فسر نقصان الارض بموت العلماء فى اخبارنا، وقيل: ان المعنى ننقصها من اطرافها بظهور المسلمين على الكافرين بنقصان ديار المقاتلين واراضيهم وازدياد ديار المسلمين واراضيهم لكن هذا لا يناسب سوق العبارة فى المقام { أفهم الغالبون } على امرنا وحكمنا وقد مرت الآية فى سورة الرعد.
[21.45]
{ قل إنمآ أنذركم بالوحي } بسبب وحى الله الى بالانذار لا بسبب الهوى كما ان تخويفاتكم تكون بالهوى او انذركم بما أوحى الى لا بما اتخيل من نفسى مثلكم ولكن لا ينفعكم انذارى لانكم صم { ولا يسمع الصم الدعآء } اى النداء { إذا ما ينذرون } فلا ينتفعون.
[21.46]
{ ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك } يعنى انهم يستعجلون بالعذاب ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك، النفحة الدفعة من نفح الطيب ونفح الريح بمعنى هبت، ونفح العرق نزا والنفحة من العذاب القطعة منه { ليقولن يويلنآ } كالعاجر عن الدفع والاستنصار من غير توسل بالالهة { إنا كنا ظالمين } يعنى اعترفوا بظلمهم فى اتخاذ الآلهة من دون الله او الاولياء من دون ولى الامر.
[21.47-48]
{ ونضع الموازين القسط } الميزان ما يوزن ويقاس به مقدار الشيء وحاله سواء كان ذلك ذا الكفتين او القبان او الزرع او مقياس البناء والمساح، او احكام الشرائع والملل، او آداب الطريق والسلوك، او كتب الله السماوية، او وجود خلفاء الله تعالى بأعمالهم وأقوالهم وأحوالهم وأخلاقهم ومراتب وجودهم، ولما كان الموازين فى الآخرة كثيرة بحسب النشآت ومراتب الاشخاص جمع الموازين بالجمع الدال على الكثرة وقد سبق فى اول سورة الاعراف تحقيق وتفصيل للوزن والميزان، والقسط بمعنى العدل ومن المصادر التى يوصف بها، يستوى فيه الواحد والجمع والمؤنث والمذكر { ليوم القيامة } اى فى يوم القيامة، او للناس فى يوم القيامة، او لحساب يوم القيامة { فلا تظلم } بنقص ثواب او زيادة عقاب، او بثواب فى موقع العقاب، او بعكس ذلك { نفس شيئا } هو مفعول ثان لتظلم او قائم مقام المصدر { وإن كان } العمل { مثقال حبة من خردل } اى مقدار حبة من خردل، وقرئ مثقال حبة بالرفع على جعل كان تامة { أتينا بها } وقرئ بالمد من باب الافعال او المفاعلة { وكفى بنا حاسبين ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان } الجملة معطوفة على قوله لئن مستهم، او على قوله ونضع الموازين، والاول اولى لتوافق المتعاطفين فى الانشاء، فان لام لقد آتينا موطئة للقسم، والثانى اوفق بحسب تناسب المعنى فان وضع الموازين ليوم القيامة يناسب اتيان الفرقان لموسى لانه ايضا ميزان فكأنه قال: نضع الموازين القسط ليوم القيامة وآتينا موسى فى الدنيا الميزان القسط الذى هو التوراة الفارقة بين الحق والباطل { وضيآء وذكرا } من قبيل عطف اوصاف عديدة لشيء واحد على ان يكون الفرقان والضياء والذكر اوصافا للتوراة، او من قبيل عطف المتباينات ان اريد بالفرقان التوراة او فلق البحر، او سائر المعجزات وبالضياء والذكر غيرها { للمتقين } متعلق بآتينا، وكون الفرقان للمتقين لكونهم منظورين من اتيانه ومنتفعين به، او صفة لضياء وذكرا، او لذكرا فقط.
[21.49]
{ الذين يخشون ربهم بالغيب } صفة بيانية للمتقين، وبالغيب حال من ربهم او من فاعل يخشون، والباء للظرفية، او للمصاحبة، او الباء للسببية، والظرف لغو متعلق بيخشون اى يخشون بسبب غيب اعمالهم من حيث الصحة والبطلان او بسبب غيب جزاء اعمالهم، او بسبب غيب موارد وعده ووعيده عنهم { وهم من الساعة مشفقون } قد مضى قبيل هذا بيان الخشية والاشفاق.
[21.50]
{ وهذا ذكر مبارك } كثير البركة والخيرات وهو ميزان اهل هذا الزمان فى الدنيا { أنزلناه } قد مضى ان الاتيان بالايتاء فى وصف كتاب موسى (ع) وبالانزال والتنزيل فى وصف كتاب محمد (ص) تشريف للقرآن { أفأنتم له منكرون } بعد وضوح صدقه وحجته وبعد كونه ذا نظير فى السابقين.
[21.51-52]
{ ولقد آتينآ إبراهيم رشده } ما به رشده من الحجج والبراهين او الرشد اللائق بحاله من الاهتداء الى كمالاته { من قبل } اى من قبل القرآن او من قبل موسى { وكنا به } اى برشده او بابراهيم { عالمين إذ قال } ظرف لآتينا او لعالمين { لأبيه وقومه ما هذه التماثيل } جمع التمثال بالكسر وهو الصورة والاغلب استعماله فيما لا روح له { التي أنتم لها عاكفون } اللام بمعنى على او للتقوية فان العكوف يتعدى بنفسه ويكون بمعنى الحبس، وبعلى ويكون بمعنى الاقبال، ويجوز ان يتضمن معنى العبادة فيكون اللام للتقوية ايضا.
[21.53]
{ قالوا } فى الجواب مثل اهل كل زمان { وجدنآ آبآءنا لها عابدين } فان الناس لغلبة المدارك الحسية عليهم لا يتجاوزون عن المحسوس ولا يتأملون فى المحسوس وفى صحته وبطلانه خصوصا فيما رأوه من اول التمييز من الآباء والامهات والكبار من القوم ويتلقونه بالقبول ويتمسكون به من غير حجة ولذلك اكتفوا فى الجواب بذكر تقليد الآباء من غير ابراز حجة فان السؤال وان كان بلفظ ما الدال على طلب الحقيقة لكن المقصود كان انكار عبادتها وينبغى ان يجيبوا بما يصحح العبادة لها.
اعلم، انه كما نقل كان بين اوصياء آدم وشيث وبين نوح رجال صالحون كان الناس يأنسون بهم فلما ارتحلوا دخل الناس حزن شديد فصنع بعض الصلحاء لأنس الناس ورفع حزنهم تماثيل اولئك الصلحاء وكانوا يزورونها ويأنسون بها، فلما تمادى الزمان وارتحل الآباء وبقى التماثيل للاولاد واولاد الاولاد جاء الشيطان اليهم وقال: كان آباؤكم يعبدون هذه التماثيل واغتروا بها وبعبادتها، وقيل: كان تلك التماثيل تماثيل الكواكب كانوا يزورونها ويتوسلون بها فى حوائجهم كما ان شريعة العجم المنسوبة الى مهاباد كانت على ذلك.
[21.54-55]
{ قال } ابراهيم (ع) ردا لهم فى عبادتهم وفى تقليدهم { لقد كنتم أنتم وآبآؤكم في ضلال مبين قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين } يعنى تصدق ام تمزح؟.
[21.56]
{ قال } بعد انكار ربوبيتها لحصر الربوبية فى الله { بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن } ادى الدعوى بحيث يدل عقد الحمل على صحتها، وتوصيف المحمول بالذى فطرهن يدل على صحة عقد الحمل { وأنا على ذلكم من الشاهدين } يعنى ليس قولى هذا عن مزاح ولعب بل عن جد ومواطاة قلب.
[21.57]
{ وتالله لأكيدن أصنامكم } اى لأفعلن بهذا فى خفية ما لا يلائمها { بعد أن تولوا مدبرين } حال مؤكدة او مقيدة باعتبار ان التولية بمعنى الاقبال والادبار، وهكذا التولى، قيل: انما قال ذلك فى السر من اصحاب نمرود ولم يسمع ذلك الا رجل منهم فأفشاه، وقيل: كان موعد عيد لهم فكرهوا خروج ابراهيم (ع) معهم ووكلوه ببيت الاصنام، او انه تمارض كما فى الآية وتخلف عنهم فخرجوا صغيرهم وكبيرهم الى عيد لهم فدخل بيت الاصنام وأخذ القدوم وكسر الاصنام.
[21.58]
{ فجعلهم جذاذا } الجذاذ بتثليث الجيم اسم من الجذ بمعنى القطع والاستيصال وقرئ ههنا بالضم والكسر { إلا كبيرا لهم } فى الخلقة او فى التعظيم وعلق الفاس فى عنقه وخرج { لعلهم إليه } اى الى ابراهيم او الى الكبير { يرجعون } فيسألون ابراهيم عن حال الاصنام وكسرهن ولينبههم على جهلهم بذلك او يسألون الكبير فيتنبهون انه ليس قابلا للسؤال فضلا عن العبادة.
[21.59]
{ قالوا } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: فما قالوا بعد ما رجعوا الى الاصنام ووجدوها مكسرة؟- فقال: قالوا { من فعل هذا بآلهتنآ } ان كان من استفهامية فالوقف ههنا، وان كان موصولة فقوله { إنه لمن الظالمين } خبره، وان كان شرطية فهو جزاؤه لكن بتقدير الفاء والمقصود انه ظالم على نفسه بجعلها عرضة للقتل والسياسة، او ظالم على آلهتنا.
[21.60-61]
{ قالوا سمعنا } يعنى قال بعضهم فى جواب هذا القائل: سمعنا قبل ذلك { فتى يذكرهم } ويعيب فيهم { يقال له إبراهيم قالوا } اى قال القوم للجماعة الذين قالوا سمعنا فتى يذكرهم { فأتوا به على أعين الناس } فاكشفوه بالاتيان به على اعين جميع الناس حتى يعرفوه { لعلهم يشهدون } بما سمعتم منه او لعلهم يشهدون على اقراره بان يقر بهذا الفعل فشهدوا على اقراره او لعلهم يحضرون عذابه وعقوبته فجاؤا به وساءلوه.
[21.62-63]
{ قالوا } فى حمله على الاقرار { أأنت فعلت هذا بآلهتنا يإبراهيم قال } ما انا فعلته { بل فعله كبيرهم هذا } لما كان السؤال عن الفاعل بعد كون الفعل مسلم الوقوع كان الموافق للجواب ان يقول: بل كبيرهم فعل ليكون اثباتا للفعل المسلم للكبير ونفيا له عن غيره لكنه قدم الفعل لانه اراد ان يبرز الفعل مبرز المفروض، لان هذه القضية من القضايا الفرضية المتداولة فى العرب والعجم، والانسب بالقضايا الفرضية ان يكون الفعل فرضيا ايضا فانها فى التقدير هكذا بل فعله كبيرهم ان كان ما تقولون من انهم آلهة حقا لان كسر الاله لا يتمشى الا من الاله ولان الكبير ينبغى ان ينفى الغير عن الآلهة ويكسره لاقتضاء كل منهم التفرد بما فيه كماله، وقيل: انها قضية مفروضة وشرطها قوله ان كانوا ينطقون، وقيل: ان المراد به التعجيز والالزام وليس باخبار حتى يكون كذبا، وقيل: ان الوقف على فعله وكبيرهم ابتداء كلام وهو بعيد لفظا ومعنى فان التقدير حينئذ فعله من فعله ويكون جوابا بالفعل عن السؤال عن الفاعل ويكون حذفا للفاعل او اضمارا له من غير قرينة ومرجع، وروى انه ما فعله كبيرهم وما كذب وقد علم وجهه ونسب الى الخبر ان ابراهيم كذب ثلاث كذبات قوله: انى سقيم، وقوله: بل فعله كبيرهم، وقوله فى سارة لما اراد الجبار اخذها وكانت زوجته انها اختى { فاسألوهم } يعنى فاسئلوا جميعهم { إن كانوا ينطقون } والامر للالزام والاقرار بعدم النطق حتى يقروا بعدم الآلهة، والاتيان بضمائر ذوى العقول كان موافقا لاعتقادهم او للاستهزاء.
[21.64]
{ فرجعوا إلى أنفسهم } يعنى صرفوا وجوههم عن ابراهيم (ع) وتوجه بعضهم الى بعض، او رجعوا الى عقولهم من عاداتهم وادركوا بعقولهم صدق مقالته { فقالوا } اى قال بعضهم خطابا لجميعهم { إنكم أنتم الظالمون } فى نسبة الآلهة الى ما لا يقدر على دفع الضر عن نفسه ولا على النطق، او فى نسبة الظلم الى من كسر الاصنام، او فى ارادة السوء بمن كسرها، او فى السؤال عن ابراهيم لا عن الاصنام وليس ابراهيم ظالما كما تفوهتم به بقولكم: من فعل هذا بآلهتنا انه لمن الظالمين.
[21.65]
{ ثم } انتقلوا من عقولهم الى انفسهم وعاداتها واهويتها و { نكسوا على رءوسهم } شبههم فى الانصراف من العقول الى عادات النفوس بمن نكس عن الاستقامة فجعل رأسه فى الاسفل ورجليه فى الاعلى واعترفوا بما هو حجة عليهم قائلين { لقد علمت } يا ابراهيم { ما هؤلاء ينطقون } يعنى بعد ما اعترفوا بانهم هم الظالمون حاجوه بما هو حجة عليهم.
[21.66]
{ قال } ابراهيم (ع) { أ } تجهلون او لا تعقلون { فتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا } هو فى محل المصدر او منصوب بنزع الخافض { ولا يضركم } يعنى بعد ما علم انهم لا يقدرون على دفع الضر عن انفسهم علم انهم لا يقدرون على جلب النفع ودفع الضر عن الغير، وما لا ينطق ولا ينفع ولا يضر لا يستحق العبادة.
[21.67-68]
{ أف لكم } بعد ما بان قبح صنيعهم بحيث لا يمكنهم انكار قبحه اظهر الانزجار منهم ومن معبوداتهم، واف كلمة انزجار وبه يظهر التضجر { ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون قالوا } بعد العجز عن الحجة كما هو ديدن اهل كل زمان من التوسل بالقتل والشتم وسائر التهديدات مثل التكفير والتفسيق بعد العجز عن الحجة والعلم بالخطيئة من انفسهم { حرقوه } يعنى بعد ما استشار نمرود منهم قالوا: حرقوه ولذلك قال الصادق (ع): ان فرعون ابراهيم (ع) واصحابه كانوا لغير رشده وكان فرعون موسى واصحابه لرشده، فانه لما استشار اصحابه فى مسوى (ع) قالوا: ارجه واخاه وارسل فى المدائن حاشرين { وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين } يعنى لا تنظروا الى مقالته فانكم لا تقدرون على محاجته وانصروا آلهتكم، قيل: فجمعوا له الحطب حتى ان الرجل منهم ليمرض فيوصى من ماله لاشتراء الحطب والمرأة تغزل فتشتري به حطبا فلما، ارادوا ان يلقوا ابراهيم فى النار ولم يقدروا على قربها لشدتها جاء ابليس ودلهم على المنجنيق وهو اول منجنيق صنعت فوضعوه فيها ثم رموه فى النار فلما رموه فيها { قلنا ينار كوني بردا }.
[21.69]
{ قلنا ينار كوني بردا } فان النار وان كانت بالنسبة الينا جمادا لا يصح خطابها وامرها لكنها بالنسبة اليه تعالى عاقلة شاعرة مأمورة { وسلما } فى الخبر ان ابراهيم بعد ما قال الله كونى بردا اضطربت اسنانه حتى قال وسلاما { على إبراهيم } لو لم يقل على ابراهيم لصارت بردا وسلاما الى آخر الابد على كل احد ولذلك كانت تحرق غير ابراهيم وفى الخبر لما وضعوه فى المنجنيق التقى معه جبرئيل فى الهواء فقال: يا ابراهيم هل لك الى من حاجة؟- فقال ابراهيم: اما اليك فلا، واما الى رب العالمين فنعم، وانحط جبرئيل وجلس معه يحدثه فى النار ونظر اليه نمرود فقال: من اتخذ الها فليتخذ مثل اله ابراهيم، فقال عظيم من عظماء اصحاب نمرود انى عزمت على النار ان لا تحرقه فخرج عمود من النار نحو الرجل فأحرقه فآمن له لوط، نقل انه بعد ما اتى بابراهيم (ع) الى نمرود وعلم نمرود انه ابن آزر فقال لآزر: خنتنى وكتمت هذا الولد عنى، فقال: هذا عمل امه فدعا نمرود امه فقال لها: ما حملك على ان كتمتنى امر هذا الغلام حتى فعل بآلهتنا ما فعل؟- فقال: ايها الملك نظرا منى لرعيتك قال: وكيف ذلك؟- قالت رأيتك تقتل اولاد رعيتك فكان يذهب النسل فقلت: ان كان هذا الذى يطلبه دفعته اليه ليقتله ويكفه عن قتل اولاد الناس، وان لم يكن يبق لنا ولدنا وقد ظفرت فشانك فكف عن اولاد الناس وصوب رأيها، ووجه عدم احراق النار لابراهيم (ع) ما اشرنا اليه فى اول سورة بنى اسرائيل وفى غيرها من غلبة الملكوت على الملك وبعد غلبة الملكوت على الملك يرتفع حكم الملك فلا يحرق النار الملكية الجسم الملكوتى.
[21.70]
{ و } من تلك الغلبة يقع طى الارض والسير على الماء والهواء من غير غرق وسقوط { أرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين } لانهم فعلوا ما يطفؤن به نور الله فى الارض فجعلنا غاية جهدهم حجة صدق ابراهيم ودليل خسرانهم، ولما رأوا انه لم يحرقه النار امر نمرود ان ينفوه من بلادهم وان يمنعوه من الخروج بماشيته وماله فحاجهم ابراهيم عند ذلك فقال: ان اخذتم بماشيتى ومالى فان حقى عليكم ان تردوا على ما ذهب من عمرى فى بلادكم واختصموا الى قاضى نمرود فقضى على ابراهيم (ع) ان يسلم اليهم جميع ما اصاب فى بلادهم وقضى على اصحاب نمرود ان يردوا على ابراهيم (ع) ما ذهب من عمره فى بلادهم فأخبر بذلك نمرود فأمرهم ان يخلوا سبيله وسبيل ماشيته وماله وان يخرجوه، وقال: انه ان بقى فى بلادكم افسد دينكم واضر بآلهتكم.
[21.71]
يعنى نجيناهما الى الشام، قيل: بركته العامة ان اكثر الانبياء بعثوا منه فانتشرت بركاتهم الدنيوية والاخروية فى العالم وانه اشرف بقاع الارض من حيث النعم الصورية.
[21.72-73]
{ ووهبنا له إسحاق } بعد خروجه الى الشام وبقائه فيها مدة مديدة { ويعقوب نافلة } عطية فان النافلة العطية والغنيمة والنفل النفع { وكلا } اى كل الاربعة او الثلاثة او الاثنين { جعلنا صالحين وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا } لا بأمر الشيطان ولا بأمر انفسهم ولا بشراكة شيء منهما { وأوحينآ إليهم } مثل الوحى الى رسلنا فانهم كانوا رسلا { فعل الخيرات } مطلقة { وإقام الصلاة } مخصوصة اسقط التاء عن المصدر لقيام المضاف اليه مقامه { وإيتآء الزكاة } مخصوصة لكون الصلوة والزكوة اهم الخيرات بل لان ليس الخيرات الا الصلوة والزكوة ولذلك صرح بهما بعد ذكرهما عموما { وكانوا لنا عابدين } لا لغيرنا من الشيطان والنفس والهوى، اشارة الى مقام الاخلاص الذى هو قرة عين السالكين.
[21.74-75]
{ ولوطا } عطف على كلا او على مفعول جعلناهم عطف المفرد، او منصوب من باب الاشتغال، والجملة معطوفة على جملة كلا جعلنا صالحين { آتيناه حكما } حكمة عملية { وعلما } تنكير الحكم والعلم للاشارة الى ان ما اتاه كان يسيرا من كثير { ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث } فى اسناد عمل الخبائث الى القرية مجاز عقلى او فى اطلاق القرية على اهلها مجاز لغوى، او هو مجاز فى الحذف { إنهم كانوا قوم سوء } بفتح السين اسم من المساءة، واضافة القوم اليه للاشعار بالمبالغة فى مساءتهم كأنهم صاروا قوما له ومنتسبين اليه { فاسقين وأدخلناه في رحمتنآ } فى دار رحمتنا او فى رحمتنا التى هى الولاية بان حققناه بها { إنه من الصالحين } المستعدين لذلك فلم يكن فعلنا جزافا من غير سبب.
[21.76]
{ ونوحا } عطف على لوطا، او على مفعول نجينا، او بتقدير سمعنا او شرفنا او اذكر او ذكر { إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله } تكرار نجينا للتأكيد ولعطف اهله على المفعول، ولتعيين ما نجى منه فانه نجى { من الكرب العظيم } الذى لم يبتل احد من الانبياء به وهو غرق تمام الدنيا واهلها او شدة اذى قومه.
[21.77-78]
{ ونصرناه } اى نجيناه بالنصرة { من القوم الذين كذبوا بآياتنا } الآفاقية من الآيات العظام والصغار والانفسية من الواردات الالهية والزجرات العقلانية والملكية والمنامات المنذرة والمبشرة { إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين وداوود } عطف على نوحا او هو بتقدير فعل محذوف مثل نوحا { وسليمان إذ يحكمان في الحرث } فى الزرع او الكرم { إذ نفشت } بدل من اذ يحكمان او ظرف ليحكمان { فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين } جملة حالية بتقدير قد او معطوفة على يحكمان او نفشت والاتيان بالمضارع بعد اذ وفى القضايا الماضية لجعل اذ منسلخة عن المضى او لتصوير الماضى بصورة الحال المشهودة، والمقصود من قوله وكنا لحكمهم شاهدين اى عالمين او حاضرين ان حكمهم لم يكن فى غيبة منا حتى لا يتميز الحق من الباطل عندنا، او كانا عالمين حين الحكم بانهما كانا فى مشهدنا فلم يتفوها بآرائهما بل بوحى منا فلا يقول أحد أنهما حكما بالاجتهاد وخالفا احدهما الآخر كما قيل ذلك، والاتيان بضمير الجمع فى قوله لحكمهم للاشعار بان الحاكمين كانوا متعددين لان داود (ع) جمع جميع اولاده للامتحان، ويجوز ارجاع الضمير الى المتحاكمين والى مجموع الحاكمين والمتحاكمين.
[21.79]
{ ففهمناها سليمان } يعنى اوحينا الى سليمان الحكومة او الغنم من حيث حكم الاضرار بحسب اقتضاء الوقت فكان حكمه ناسخا لما كان سابقا فلم يكن تفهيمنا سليمان تجهيلا لداود (ع) ولذلك قال { وكلا آتينا حكما وعلما } عن الصادق (ع) انه كان اوحى الله عز وجل الى النبيين (ع) قبل داود الى ان بعث الله داود (ع) اى غنم نفشت فى الحرث فلصاحب الحرث رقاب الغنم ولا يكون النفش الا بالليل فان على صاحب الزرع ان يحفظ زرعه بالنهار وعلى صاحب الغنم حفظ الغنم بالليل فحكم داود بما حكم به الانبياء من قبله فأوحى الله عز وجل الى سليمان (ع) اى غنم نفشت فى زرع فليس لصاحب الزرع الا ما خرج فى بطونها وكذلك جرت السنة بعد سليمان وهو قول الله تعالى وكلا آتينا حكما وعلما فحكم كل واحد منهما بحكم الله عز وجل، وفى خبر آخر عنه (ع): اوحى الله الى داود اتخذ وصيا من اهلك فانه قد سبق فى علمى ان لا ابعث نبيا الا وله وصى من اهله وكان لداود اولاد عدة؛ وفيهم غلام كانت امه عند داود وكان لها محبا فدخل داود عليها حين اتاه الوحى فقال لها: ان الله اوحى الى يأمرنى ان اتخذ وصيا من اهلى، فقالت له امرأته فليكن ابنى، قال: ذلك اريد وكان السابق فى علم الله المحتوم عنده انه سليمان فأوحى الله تبارك وتعالى الى داود ان لا تعجل دون ان يأتيك امرى فلم يلبث داود ان ورد عليه رجلان يختصمان فى الغنم والكرم واوحى الله عز وجل الى داود ان اجمع ولدك فمن قضى بهذه القضية فأصاب فهو وصيك من بعدك، فجمع داود ولده فلما ان قص الخصمان قال سليمان يا صاحب الكرم متى دخلت غنم هذا الرجل كرمك؟- قال: دخلته ليلا، قال: قد قضيت عليك يا صاحب الغنم باولاد غنمك واصوافها فى عامك هذا، ثم قال له داود فكيف لم تقض برقاب الغنم وقد قوم ذلك علماء بنى اسرائيل فكان ثمن الكرم قيمة الغنم، فقال سليمان: ان الكرم لم يجتث من اصله وانما اكل حمله وهو عائد فى قابل فأوحى الله عز وجل الى داود ان القضاء فى هذه القضية ما قضى سليمان به، يا داود اردت امرا واردنا امرا غيره فدخل داود على امرأته فقال: اردنا امرا واراد الله تعالى امرا غيره ولم يكن الا ما اراد الله فقد رضينا بامر الله عز وجل وسلمنا؛ وكذلك الاوصياء ليس لهم ان يتعدوا بهذا الامر فيجاوزوا صاحبه الى غيره، وورد غير ذلك باختلاف فى اللفظ وفى المعنى { وسخرنا } التسخير قد مضى فى سورة البقرة انه جعل ارادة المسخر تابعة لارادة المسخر { مع داوود الجبال } ظرف لغو متعلق بسخرنا او مستقر حال من الجبال، واما تعلقه بيسبحن فانه بعيد للزوم تخلل الاجنبى بين المعمول المقدم والعامل، وتعلقه بسخرنا يدل على ان داود مثل الجبال مسخر له تعالى، وجعله حالا من الجبال يشعر بكون الجبال مسخرة لداود (ع) { يسبحن } حال او مستأنفة، قيل: يجوز ان يكون من التسبيح ومن السباحة { والطير } عطف على الجبال او مفعول معه، وقرئ بالرفع على انه مبتدء محذوف الخبر، او عطف على المرفوع المتصل على ضعف { وكنا } من قبل ذلك { فاعلين } امثال ذلك فلا يبعد ان نفعل بداود ذلك وامثاله.
[21.80]
{ وعلمناه صنعة لبوس لكم } اى ما يلبس، والمراد به الدرع بقرينة قوله تعالى { لتحصنكم من بأسكم } وهو بدل من لكم نحو بدل الاشتمال، وقرئ ليحصنكم بالياء التحتانية والضمير حينئذ لداود او للبوس او لله بطريق الالتفات، وقرئ بالتاء الفوقانية والضمير للصنعة او للبوس باعتبار المعنى فان معناه الدرع، وقرئ بالنون { فهل أنتم شاكرون } يعنى اذا كان الامر على هذا المنوال فاشكروا الله تلك النعمة العظيمة.
[21.81]
{ و } سخرنا { لسليمان الريح عاصفة } شديدة الهبوب بحيث كان غدوها شهرا ورواحها شهرا مع انها كانت رخاء وتحريكها كان فى لين { تجري بأمره } بامر سليمان { إلى الأرض التي باركنا فيها } اى الشام، قيل: كان سليمان يسير من الشام بكرة واليه رواحا { وكنا بكل شيء عالمين } فكان اعطاؤنا ما نعطى لمن نعطى وامساكنا ما نمسك ممن نمسك عن علم بالاعطاء والامساك والمصالح المترتبة عليهما.
[21.82]
{ ومن الشياطين من يغوصون له } اظهار نعمة اخرى لسليمان وهى تسخير الشياطين والجنة له، ومن معطوف على الريح او مبتدء خبره من الشياطين كانوا يغوصون فى البحار لاخراج الجواهر النفسية لسليمان (ع) { ويعملون عملا دون ذلك } كبناء المدن والقصور العجيبة وعمل الجفون العظيمة كالجواب واختراع الصنائع الغريبة وصنع ما يشاء من محاريب وتماثيل { وكنا لهم حافظين } حتى لا يخرجوا من امره ولا يفسدوا عليه ملكه واهل مملكته.
[21.83]
{ وأيوب } عطف او بتقدير فعل مثل نوحا { إذ نادى ربه أني مسني الضر } اى بانى مسنى الضر وقرئ بكسر الهمزة بتقدير القول او تضمين النداء معنى القول { وأنت أرحم الراحمين } اكتفى باظهار حاله المقتضية للرحمة وتوصيف ربه بغاية الرحمة عن سؤال العافية وهو ابلغ فى مقام الطلب وأقرب الى الحياء واكمل فى حفظ حرمة المسؤل منه، قيل: كان ايوب (ع) روميا من ولد عيص بن اسحق (ع) استنبأه الله وكثر ماله وولده فابتلاه الله بهلاك اولاده بهدم بيت عليهم وذهاب امواله وبالمرض فى بدنه ثمانى عشرة سنة او ثلاث عشر او سبعا وسبعة اشهر، وان امراته كانت رحمة بنت افرائيم بن يوسف، وفى خبر كانت بنت يوسف بن يعقوب (ع)، وقيل: كان ايوب فى زمان يعقوب، وتزوج ليا بنت يعقوب فقالت له يوما: لو دعوت الله فقال: كم كانت مدة الرخاء؟- فقالت: ثمانين سنة، فقال: استحيى من الله ان ادعوه وما بلغت مدة بلائى مدة رخائى؛ هكذا قيل: وسيجيء فى سورة ص تفصيل حاله.
[21.84]
{ فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر } من الاوجاع والامراض { وآتيناه أهله ومثلهم معهم } نسب الى الخبر انه تعالى احيى له من ماتوا من أهله فى زمان البلاء ومن ماتوا قبل بآجالهم وكذلك رد الله عليه امواله ومواشيه بأعيانها وأعطاه مثلها معها، وقيل: انه تعالى خير ايوب (ع) فاختار احياء اهله فى الآخرة ومثلهم فى الدنيا فأوتى على ما اختار، وقيل: ولد له ضعف ما كان، وقيل: احيى ولده وولد له منهم نوافل، وقيل: كان له سبع بنات وثلاثة بنين، وقيل: سبع بنات وسبعة بنين { رحمة من عندنا } عليه لا من استحقاق له ولا من عند المظاهر { وذكرى للعابدين } يعنى تذكرة لهم بان الصبر على العبادة فى الرخاء والشدة كما صبر ايوب (ع) فى الحالين مورث للنعم الدنيوية والاخروية وموجب للفرج والسرور.
[21.85]
{ وإسماعيل وإدريس وذا الكفل } عطف او بتقدير فعل مثل ما سبق { كل من الصابرين } فان اسماعيل (ع) صبر فى بلد لا زرع به ولا انيس من اول الصبا، وادريس (ع) صبر على دعاء القوم مع شدتهم فى الانكار لانه كان اول من بعث اليهم، واما ذوا الكفل فقد اختلف فيه فقد نسب الى الرضا (ع) انه يوشع بن نون، وقيل: انه الياس (ع)، وقيل: انه زكريا (ع)، وقيل: كان رجلا صالحا ولم يكن نبيا تكفل لنبى وقته بصوم النهار وقيام الليل وان لا يغضب ويعمل بالحق فوفى بذلك، وقيل: كان نبيا ولم يقص الله خبره، وقيل: هو اليسع كان مع الياس وليس اليسع الذى ذكره الله فى القرآن تكفل لملك جبار ان هو تاب دخل الجنة ودفع اليه كتابا بذلك وكان اسمه كنعان فسمى ذا الكفل، ونسب الى الخبر انه كان من الانبياء المرسلين وكان بعد سليمان (ع) بن داود (ع)، والكفل بمعنى الضعف لضعف ثوابه بالنسبة الى اهل زمانه لشرفه وبمعنى النصيب وبمعنى الكفالة والكل مناسب.
[21.86-87]
{ وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين وذا النون } هو مثل ما سبق فى العطف والتقدير، والنون بمعنى الحوت سمى به لابتلائه ببطن الحوت وهو يونس (ع) بن متى { إذ ذهب مغاضبا } لقومه او لربه فان غاضبنى فلان بمعنى اغضبنى واغضبته، وكان حاله مع قومه كذلك، فانه بعث اليهم حين كونه ابن ثلاثين وكان فيه حدة فدعاهم ثلاثا وثلاثين ولم يقبل منه سوى تنوخا العابد وروبيل الحكيم فغضب لذلك ودعا الله على قومه حتى وعده الله نزول العذاب على قومه بعد ما امره بالتأنى والصبر فلم يقبل واصر على الدعاء فأخبر قومه بنزول العذاب بعد المشورة مع روبيل وسؤال روبيل عنه ان يراجع ربه ويسأل دفع العذاب عنهم وابائه عن المراجعة فلما صار موعد العذاب وقد اخرجوا يونس (ع) وتنوخا من بلدتهم وكانت البلدة نينوا من اعمال موصل ورأى عدم نزول العذاب عليهم غضب لذلك وغاضب قومه او غاضب ربه خصوصا على ما ورد انه وكله الله تعالى الى نفسه طرفة عين { فظن أن لن نقدر عليه } اى لن نضيق او لن نقضى عليه ما قضيناه عليه، او لن نكون قادرين على اخذه كما ورد انه وكل الى نفسه فظن ذلك، ومعنى ما ورد انه (ع) وكله الله الى نفسه فخطر على باله ذلك وسمى الخطرة ظنا ولا ينافى الخطرة مقام النبوة فان توبة الانبياء من حيث ولايتهم، وتوبة الاولياء من خطرات القلوب، فنادى اى فضيقنا عليه فى الطريق فدخل سفينة فساهم اهل السفينة فخرج السهم باسمه فألقوه فى البحر فابتلعه الحوت { فنادى في الظلمات } ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمه بطن الحوت، وقيل: ان الحوت ابتلعه حوت آخر { أن لا إله إلا أنت } ان مخففة من المثقلة او تفسيرية { سبحانك إني كنت من الظالمين } تبرى اولا من انانيته بعدما رأى ان انانيته ورأيه صارت سببا لهلاكته واثبت الالهة والرأى له تعالى ثم نزهه عما يورث نقصا فى رأيه ووجوده، ثم اعترف بان دعاءه على قومه وانانيته فى مقابلة انانية الله كانت ظلما منه على قومه وعلى نفسه، ولما كان ذلك منه كناية عن سؤال النجاة قال تعالى { فاستجبنا له ونجيناه من الغم }.
[21.88]
{ فاستجبنا له ونجيناه من الغم } يعنى من بطن الحوت او غم الخطيئة والمغاضبة { وكذلك } الانجاء من بطن الحوت بسبب التبرى من الانانية والاستقلال بالرأى واثبات الانانية لله وتنزيهه من معرفة البشر والاعتراف بالظلم فى اثبات الانانية والمعرفة للنفس { ننجي المؤمنين } قرئ ننجى بنونين من باب الافعال، وقرئ نجى بنون واحدة وتشديد الجيم وسكون الياء على انه مضارع من باب الافعال وادغم النون الثانية فى الجيم، او على انه من باب التفعيل وحذف النون التى كانت فاء او على انه ماض مجهول منسوب الى المصدر، وسكونه بنية الوقف كما قيل، روى عن النبى (ص):
" ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء الا استجيب له "
لان المؤمن اذا خرج من انانيته فى جنب انانية الله واعترف بان رؤية الانانية فى جنب انانية الله ظلم ودعا الله فى هذه الحال استجيب له لا محالة لانه يكون حينئذ مصداقا لقوله تعالى: اجيب دعوة الداع اذا دعان، وفى خبر عن الصادق (ع): عجبت لمن اغتم كيف لا يفزع الى قوله تعالى: لا اله الا انت سبحانك انى كنت من الظالمين فانى سمعت الله يقول بعقبها: فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجى المؤمنين.
[21.89]
{ وزكريآ } مثل ما سبق فى العطف او التقدير { إذ نادى ربه رب } قائلا رب { لا تذرني فردا } بلا ولد ولا عقب يرثنى { وأنت خير الوارثين } استدراك لما يتوهم من انه فى دعائه الولد بقوله: لا تذرنى فردا صرف النظر عن الله ومعيته معه.
[21.90]
{ فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه } فانها كانت قطع حيضها لكبرها وكانت عقيمة قبل الهرم فأصلح الله رحمها وحاضت وحملت او كانت هرمة فجعلها الله شابة حسنة شهية، او كانت سيئة الخلق فصيرها الله حسنة الخلق { إنهم كانوا } استيناف فى مقام التعليل والضمير لزكريا (ع) وزوجه ويحيى (ع) او للانبياء (ع) المذكورين من اول القصص فان كلهم كانوا { يسارعون في الخيرات } التى كانت بينهم وبين الله وبينهم وبين الخلق فى العالم الصغير والكبير { ويدعوننا رغبا ورهبا } ذوى رغب او دعاء رغب او راغبين او للرغبة والرهبة، والرغب محركة من رغب اليه اجتهد فى دعائه او تضرع عليه وهذا نظير قوله تعالى:
ادعوا ربكم تضرعا وخفية
[الأعراف: 55]، وهذه العبارة يجوز ان يراد بها ان بعضهم يدعوه رغبا، وبعضهم يدعوه رهبا، وان يراد انهم يدعونه فى وقت رغبا وفى وقت رهبا، وانهم يدعونه جامعين للوصفين وهذا هو المراد ههنا فان الكامل يكون دائما بين الخوف والرجاء والرهبة والرغبة.
اعلم، ان الانسان بل مطلق الحيوان من اول استقرار نطفته ومادة وجوده فى مقرها واقع بين قوة قبول الفناء والبقاء والاستنزال والاستكمال والنقصان والزيادة، وكل موجود بفطرة وجوده راغب فى بقائه واستكماله وازدياده هارب من فنائه واستنزاله ونقصانه، واذا كان الموجود شاعرا بالشعور البسيط كاكثر انواع الحيوان او بالشعور التركيبى كافراد الانسان كان بحسب شعوره ايضا حين عدم الغفلة هاربا عن منافياته، راغبا فى ملائماته، والكامل هو الذى لم يكن غافلا عن منافياته وملائماته، ومن لم يكن غافلا عن ذلك المذكور كان دائما فى الرهب والرغب والهرب والطلب والخوف والرجاء والخيفة والتضرع والفرار والالتجاء والتوبة والانابة، والتبرى والتولى، وقد يصير الانسان غافلا بحسب الشعور التركيبى عن وجوده وكمال وجوده ونقصانه وقد يكون مغترا وقد يكون آئسا والثلاثة مذمومة فان الممدوح هو السير والسلوك بين الخوف والرجاء والكمال هو استواء الخوف والرجاء بحيث لا يزيد احدهما على الآخر كما فى الخبر { وكانوا لنا } لا لغيرنا { خاشعين } قد مضى معنى الخشوع، والفرق بينه وبين الخضوع والتواضع فى سورة البقرة عند قوله تعالى:
وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين
[البقرة:45].
[21.91]
{ والتي أحصنت فرجها } عطف او بتقدير فعل كسوابقه وهى مريم (ع) كانت حفظت نفسها من ان ينظر الى عوراتها ومن ان يتصرف فيها بالحلال او الحرام { فنفخنا فيها } اى فى التى احصنت فرجها بان نفخ رسولنا الذى هو بمنزلة انفسنا فى جيب مدرعتها كما فى الخبر بعضا { من روحنا } التى هى رب نوع الانسان واضافتها الى نفسه تعالى لتشريفها او منفوخا ناشئا من روحنا { وجعلناها وابنهآ آية } دالة على علمنا وقدرتنا وحكمتنا بان حملت من غير فحل ومن دون زوال بكارتها وتكامل الجنين فى رحمها فى ساعة واحدة مثل كمال الجنين فى تسعة اشهر، وتكلم ابنها وشهادته على طهارة امه وعدم تولده من السفاح فى اول تولده وشهادته على نبوته فى ذلك الزمان { للعالمين } لعدم حاجتها الى عقل او تذكر او تأمل ونظر او تسليم وانقياد او تطهير او لب او اعتبار.
[21.92-93]
{ إن هذه أمتكم } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: ما قلت لهؤلآء الانبياء او العباد بعد بعث الانبياء؟- فقال قلت لهم: ان هذه امتكم، او حال عن الافعال السابقة على سبيل التنازع وكلا الوجهين بتقدير القول اى قلنا للانبياء بعد قبول امرهم واجتماع جمع على شريعتهم: هذه امتكم ومؤتمون بكم، او قلنا للخلق او لمن اتبعهم: هؤلآء الانبياء مأموموكم، او قلنا للانبياء او للاتباع: هذه الطريقة التى هى التوحيد والتسليم طريقتكم، او هو جواب لسؤال مقدر او حال بتقدير القول، وخطاب للحاضرين فى زمان محمد (ص) والمعنى ان هذه الجماعة من الانبياء المذكورين ائمتكم واسوتكم، او هذه الطريقة طريقتكم { أمة واحدة } جماعة واحدة من حيث الطريقة او طريقة واحدة غير متفرقة { وأنا ربكم فاعبدون وتقطعوا } عطف على القول المقدر اى قلنا ان هذه امتكم امة واحدة وتقطعوا { أمرهم } اى امر دينهم اوامر امامتهم بان جعل كل لنفسه دينا وطريقا او اماما ومقتدى، او امر اتباعهم بان جعل كل منهم اتباعهم لأهوية عديدة { بينهم كل إلينا راجعون } جواب لسؤال مقدر ووعد ووعيد كأنه قيل: ما يصير حالهم؟- قال: كل الينا راجعون او حال مفيدة لهذا المعنى يعنى رجوع الكل الينا فنجازيهم على حسب امرهم وطريقهم، وصيغة تقطعوا للمبالغة فى الفعل، وبينهم ظرف لغو متعلق بتقطعوا، او مستقر حال من امرهم والمعنى فرقوا امر دينهم او امر امامتهم او اتباعهم بينهم.
[21.94]
{ فمن يعمل } الفاء للترتيب فى الاخبار { من الصالحات } بعضا من الصالحات { وهو مؤمن } بالايمان العام والبيعة العامة النبوية او بالايمان الخاص والبيعة الخاصة الولوية { فلا كفران لسعيه } كفران السعى كناية عن ضياعة علق عدم ضياع السعى على عمل شيء من الصالحات به يظهر اثر الايمان على البدن او النفس مقيدا بقبول الدعوة الظاهرة او الدعوة الباطنة واذا اعتبر مفهوم القيدين صار المعنى: من لم يعمل شيئا من الصالحات سواء لم يعمل شيئا من السيئات او عمل بعضها او كلها، وسواء كان مؤمنا او كافرا، ومن عمل شيئا من الصالحات او جميعها ولم يكن مؤمنا ضاع سعيه وهو هكذا كما يدل عليه الاخبار، فليس الامر كما يقوله القلندرية من انك اذا عرفت فاعمل ما شئت، فلا تصغوا اخوتى الى اقاويل البطالين من المتصوفة والقلندرية واعملوا بلوازم ايمانكم ما قدرتم ثم تفوزوا ان شاء الله بنتائج ايمانكم واعمالكم { وإنا له } اى لذلك البعض من الصالحات او لسعيه { كاتبون } او لاجل من يعمل من الصالحات كاتبون فى صحائف عمله ما يعمله.
[21.95]
{ وحرام } قرئ حرام بفتح الفاء والمد وحرم بكسر الحاء وسكون الراء، وحرم بصيغة الفعل المبنى للمفعول { على قرية أهلكناهآ أنهم لا يرجعون } قرئ انهم بفتح الهمزة وكسرها وحرام خبر مقدم او مبتدء مكتف بمرفوعه عن الخبر وانهم مبتدء مؤخر او فاعل مغن عن الخبر، او حرام خبر مبتدء محذوف والمراد بالقرية اهلها بطريق المجاز فى الحذف او المجاز فى اللفظ والمعنى ممتنع على اهل قرية اهلكناهم عن الحيوة الانسانية عدم رجوعهم الى جزائنا وعقوبتنا او رجوعهم الى ثوابنا على ان يكون لا زائدة او الى الانسانية او الى الدنيا او ذلك المذكور من عدم ضياع السعى حرام على قرية اهلكناها لانهم لا يرجعون الى الانسانية او الى دار الثواب، او اهلكناها لانهم لا يرجعون عن غيهم على ان يكون تعليلا لاهلكناها وكون انهم بتقدير اللام موافق معنى لقراءة كسر همزة ان وكان الاوفق بمقابلة القرين الاول بحسب الظاهر ان يقول تعالى: ومن عمل من السيئات او من لم يعمل من الصالحات سواء كان مؤمنا ام لا او من لم يؤمن سواء عمل من الصالحات او لم يعمل فلا شكر لسعيه لكنه عدل عنه واداه بحيث افاد هذا المعنى مع شيء زائد وهو هلاكتهم عن الانسانية واهلاك الله لهم وامتناع رجوعهم الى الانسانية او الى دار الثواب.
[21.96]
{ حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج } غاية لعمل الصالحات او لعدم كفران السعى او لحرمة الرجوع او لحرمة عدم الرجوع او لعدم الرجوع عن الغى والمراد بانفتاح يأجوج ومأجوج انفتاح سدهم وقد سبق فى سورة الكهف بيان يأجوج ومأجوج وتأويلهما ووجه منع صرفهما { وهم من كل حدب } مرتفع من الارض { ينسلون } اى يسرعون والضمير ليأجوج ومأجوج او للناس، وقرئ من كل جدث ينسلون وهو يؤيد ارجاع الضمير الى الناس فان الجدث بمعنى القبر.
اعلم، ان امثال هذه من الرموز التى رمزوها الاقدمون من الانبياء والحكماء والمنظور من حكاياتها ليس الا التنبيه على المرموز اليه وليس النظر من الله تعالى ولا من خلفائه الى صورة السمر، والمراد بيأجوج ومأجوج فى العالم الصغير جنود ابليس المتولدة من الجنية التى اتى بها لابن آدم وبقبول الولاية يجعل صاحب الولاية سدا بينهم وبين بنى آدم الذين تولدوا من الحوراء التى اتى بها لابنه الآخر، واذا قرب الساعة انفتح السد وخرج يأجوج ومأجوج واستغرقوا تمام صفحة النفس واكلوا ما وجدوا فيها وهرب بنو آدم من صفحة النفس فرارا منهم فلا يبقى تل ووهد الا كان يأجوج ومأجوج مسرعين فيه وكان الناس مسرعين منه.
[21.97]
{ واقترب الوعد الحق } يعنى ساعة الاحتضار وظهور القائم عجل الله فرجه والقيامة الصغرى { فإذا هي } الاتيان بالفاء واذا المفاجاة لتأكيد لصوق الجزاء بالشرط، والضمير للقصة او مبهم يفسره الابصار { شاخصة } مبتدء مكتف بالمرفوع عن الخبر او خبر مقدم { أبصار الذين كفروا } لا الذين آمنوا فانهم عن الاهوال ذلك اليوم آمنون فان الكفار لهول ذلك اليوم وعدم انسهم به يبقى ابصارهم مفتوحة لا تطرف، واما المؤمن فانه لانسه بالآخرة وبما يرى فى ذلك اليوم كأنه لا يرى امرا هائلا غريبا ولا يكون له امر هائل اذا كان كاملا، وغير الكامل قد يرى اهوال ذلك اليوم لكن لا من حيث ايمانه بل من حيث كفره { يويلنا } بتقدير القول اى قائلين يا ويلنا { قد كنا في غفلة من هذا } الوعد ولم نكن نتفكر فيه ونقبله ونستعد له { بل كنا ظالمين } بل لم نكتف بالغفلة من هذا وكنا عاملين لضد هذا وقد خلقنا الله تعالى للعمل لهذا والانس به.
[21.98]
{ إنكم وما تعبدون } مستأنف جواب لسؤال مقدر بتقدير القول كأنه قيل: ما يقال لهم؟- فقال الله تعالى نقول: انكم وما تعبدون { من دون الله } اى حال كون ما تعبدون بعضا من غير الله او ما تعبدون من دون اذن الله، وفائدة التقييد اخراج المطاعين باذن الله كالانبياء واوصيائهم { حصب جهنم } والحصب الحطب ومطلق ما يرمى به فى النار، او لا يكون الحطب حصبا حتى يسجر به { أنتم لها واردون } لام لها زائدة للتقوية والجملة تأكيد للجملة الاولى والمراد بالخطاب المخاطبون وما يعبدون بطريق التغليب.
[21.99-100]
{ لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها } مستأنف جواب لسؤال مقدر ناش من سابقه كأنه قال: فما حال هؤلاء الآلهة؟- فقال: لو كانوا الهة ما وردوها، او مستأنف منقطع عن سابقه لفظا ومعنى ورد من الله على الحاضرين المخاطبين بعد التسجيل على الآلهة بالورود فى النار، او جواب لسؤال مقدر بتقدير القول كأنه قيل: ما يقال حين الورود؟- فقال تعالى: يقال لهم: لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها { وكل } من العابدين والمعبودين { فيها خالدون لهم فيها زفير } تنفس شديد لشدة التعب { وهم فيها لا يسمعون } لشدة الهول وعدم استشعارهم بالاصوات او لصممهم او لا يسمعون ما ينفعهم ويريحهم، والاشكال بان المعبودين سوى الله لا يكون كلهم مستحقين للنار فان الشمس والقمر وسائر النجوم والملائكة وعيسى (ع) قد عبدوا وليسوا مستحقين للنار ولا راضين بعبادة الناس لهم مدفوع بان الخطاب لعابدى الاصنام او بأنهم مستثنون من هذا الحكم بقوله: ان الذين سبقت فانه بمنزلة الا الذين سبقت كما اشير الى هذا الوجه فى الخبر، او بان المعبود حقيقة فى تلك العبادات هو الشيطان المعنوى والجنى الذى كان قرين العابد فى عبادته كما قال تعالى خطابا للملائكة
أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون، قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون
[سبأ:40-41].
[21.101]
{ إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } جواب لسؤال مقدر ولذلك اكده استحسانا { أولئك } تكرار المبتداء باسم الاشارة البعيدة تفخيم لشأنهم { عنها مبعدون } اى عن عذابها ومسيس ألمها حتى لا ينافى قوله وان منكم الا واردها، وما قيل: ان هذه ناسخة لتلك بعيد جدا.
[21.102-103]
{ لا يسمعون حسيسها } الحسيس صوت يحسن به والجملة حال او مستأنفة جواب لسؤال مقدر او خبر بعد خبر { وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون لا يحزنهم الفزع الأكبر } فزع القيامة الكبرى فانه افزع من فزع القيامة الصغرى، وقيل: هو النفخة الاخيرة، وقيل: هو حين يؤمر بالعبد الى النار وهما راجعان الى الاول، وقيل: هو عذاب النار اذا اطبقت على أهلها وهو عقيب القيامة الكبرى { وتتلقاهم الملائكة } قائلين { هذا يومكم } اى دولتكم او يوم ثوابكم { الذي كنتم توعدون }.
اعلم ان الحسن المطلق هو الولاية المطلقة وكل ما كان متصلا بالولاية او منتهيا اليها من فعل او قول او خلق او حال او علم او اعتقاد او وجدان او شهود فهو حسن بحسنها، فمعنى قوله ان الذين سبقت لهم منا الحسنى ان الذين فاقت وغلبت على فعلياتهم فعلية الولاية التى هى الحسنى وتقدمت على كل فعلياتهم، او ان الذين سبقت على وجودهم الطبيعى فى العوالم العالية لانتفاعهم منا الحسنى التى هى الولاية بان قدرنا لهم ذلك ومنا لغو متعلق بسبقت او مستقر حال من الحسنى وعلى المعنى الاول كان من غلب على فعلياته فعلية الولاية محكوما عليه بالبعد من النار دون من لم يغلب فعلية الولاية فى وجوده وهذا هو الموافق لاعتقاد الشيعة ومذهبهم، فان من لم يغلب الولاية على فعلياته يرد فى البرازخ على نار الدنيا وعلى اى تقدير كان المراد من تولى عليا (ع) وعليه اخبار كثيرة فعن النبى (ص) انه قال لعلى (ع): يا على انت وشيعتك على الحوض تسقون من اجبتم وتمنعون من كرهتم وانتم الآمنون يوم الفزع الاكبر فى ظل العرش، يفزع الناس ولا تفزعون ويحزن الناس ولا تحزنون وفيكم نزلت هذه الآية: { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } (الآية) وفيكم نزلت: { لا يحزنهم الفزع الأكبر } (الآية) وبهذا المضمون عدة اخبار وفى بعض الاخبار فالحسنة ولاية على (ع)، وفى خبر عن الصادق (ع) يبعث شيعتنا يوم القيامة على ما فيهم من ذنوب وعيوب مبيضة مسفرة وجوههم مستورة عوراتهم آمنة روعاتهم، قد سهلت لهم الموارد وذهبت عنهم الشدائد، الحديث، وفى حديث طويل عن النبى (ص) مخاطبا لعلى (ع): وفيكم نزلت هذه الآية: { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى }.
[21.104]
{ يوم نطوي السمآء } ظرف للايحزنهم، او لتتلقيهم او لتوعدون او حال عن اليوم، او عن العائد المحذوف من توعدون او معمول لاذكر مقدرا { كطي السجل } اى الصحيفة التى يكتب فيه الحساب او الملك الذى يرفع اليه كتب الاعمال او هو اسم لكاتب للنبى (ص)، وقرئ السجل كالدلو والسجل كالعتل وهما لغتان فيه { للكتب } قرئ بالافراد والجمع واللام للتعليل اى لاجل الكتابة، او للتقوية اى للمكتوب او للمكتوب فيه، وطى السماء عبارة عن افنائها او لفها كلف الطومار { كما بدأنآ أول خلق نعيده } لفظة ما كافة او مصدرية ولا فرق بينهما فى المعنى، والخلق بمعناه المصدرى، او بمعنى المخلوق، وليس المقصود فردا لا على التعيين من الخلق او المخلوق بل المراد جنس الخلق او جميع افراده واول خلق مفعول لبدأنا او لنعيد المقدر الذى يفسره المذكور، او ظرف لبدأنا او لنعيده المؤخر والمعنى كما بدأنا الخلق فى اول مراتب الخلق او نعيد الخلق فى اول مراتب الخلق والمراد اول مراتب الخلقة او اول افراد الخلق، واول مراتب الخلقة فى جملة العوالم مرتبة المشية، واول افراد الخلق هو الذى يكون فى المشية المسمى بالفرد اللاهوتى، واول الخلق فى عالم الخلق مقابل الامر هو المادة المتسعدة المتميزة من بين المواد لشيء مخصوص كالنطفة المستقرة فى الرحم وضمير نعيده راجع الى الخلق ان كان بمعنى المخلوق، او الى المخلوق المستفاد من الخلق، او لفظة ما موصولة والعائد محذوف، واول خلق حال عن العائد المحذوف، او مفعول به او فيه لبدأنا او لنعيد المقدر والمعنى كالذى بدأناه حال كونه اول خلق، او كالذى بدأناه فى اول مراتب الخلق، او كالكيفية التى بدأنا بها اول الخلق نعيده، والمنظور تشبيه الاعادة بالابداء فى جواز تعلق الارادة والامكان، او تشبيه المعاد بالمبتدء فى كونه عاريا مما خوله الله اياه { وعدا } مفعول مطلق لمحذوف { علينآ } انجازه او ثابتا حتما علينا { إنا كنا فاعلين } جواب لسؤال مقدر مؤكد استحسانا.
[21.105]
الزبور كتاب داود (ع) والكتاب السماوى ومطلق الكتاب والالواح العالية من اللوح المحفوظ ولوح المحو والاثبات، والذكر مصدر بمعنى التذكر وكل ما يتذكر به من الاقلام والالواح الروحانية والجسمانية والكتب السماوية، والانسان الكامل والولاية والنبوة والتوراة، ومن بعد الذكر متعلق بكتبنا او ظرف مستقر حال من الزبور، او خبر مقدم وان الارض (الى آخر الآية) مبتدء مؤخر والجملة مفعول كتبنا لكونه بمعنى القول، وهذا بعيد جدا ووجوه اعتبار المعنى فى كل من وجوه اعتبار اللفظ بحسبه، والعباد الصالحون شيعة على (ع) فانهم يملكون ارض العالم الصغير حين ظهور القائم (ع) بالموت الاضطرارى او الاختيارى، ويملكون ارض الفردوس كذلك، ويملكون ارض العالم الكبير بالتصرف فيها باى نحو شاؤا بعد ظهور القائم (ع) ولذلك فسر الآية باصحاب القائم عجل الله فرجه.
[21.106-107]
{ إن في هذا } الوعد بايراث الارض او فى هذا القرآن او فى هذا الزبور او فى هذا المذكور من الوعيد والوعد { لبلاغا } اى كفاية او بلوغا الى المقصود { لقوم عابدين ومآ أرسلناك إلا رحمة للعالمين } عطف او حال وفيه معنى الاستدراك فانه توهم من قوله لقوم عابدين اختصاص الكتاب والنصح والمواعظ بالعابدين فاستدرك هذا التوهم وقال: ارسلناك رحمة للعالمين فمن تعرض لها اخذ نصيبا منها ومن اعرض عنها حرم منها، والعابد متعرض لها وذكر فى الاخبار فى وجه كونه رحمة للعالمين انه (ص) بعث بالتعريض لا بالتصريح، وان قومه امهلوا ولم يتوعدهم العذاب ولم يصرح لهم بأمر كانوا يخالفونه فيعذبوا كولاية على (ع) وانه رفع المسخ والخسف من هذه الامة، والتحقيق ان وجود خلفاء الله فى الارض رحمة من الله على اهل الارض وبركة ورفع لبلائهم لانهم بفنائهم من انانياتهم وبقائهم بوجود الهى اخروى صاروا عين الرحمة الالهية، وكونهم فى الارض عبارة عن وجود تلك الرحمة فى الارض على جملة موجودات الارض.
[21.108]
{ قل إنمآ يوحى } منقطع عن سابقه لفظا لكنه مرتبط معنى كأنه قال: اذا كنت رحمة للعالمين فقل لهم انما يوحى { إلي أنمآ إلهكم إله واحد } وبلغهم التوحيد الذى هو اصل جميع انواع الرحمة والحصر اضافى او ادعائى كأنه لا يعد سائر اقسام الوحى من الوحى { فهل أنتم مسلمون } مخلصون العبادة من الاشراك لله تعالى، وقرئ فى قراءة اهل البيت مسلمون بتشديد اللام بمعنى مسلمون الوصية لعلى (ع)، وعلى هذا يجوز ان يقال فى تفسير الآية: انما الهكم بحسب مظاهره وخلفائه اله واحد من دون تعدد وشراكة لغيره فهل انتم مسلمون الولاية لهذا الاله الواحد الذى هو على (ع).
[21.109]
{ فإن تولوا } عن التوحيد او تولوا عن وصيتك وولاية خليفتك { فقل } لهم { آذنتكم } اى اعلمتكم الحرب { على سوآء } اى حال كونكم على استواء معنا فى الاعلام حتى تتأهبوا مثلنا للقتال او اعلمتكم التوحيد او الولاية حال كونكم متساوين فى ذلك الاعلام، والاختلاف انما نشأ من قبلكم لا من عدم تسويتى بينكم او حملتكم باعلام الولاية على سواء الطريق او على امر مستوى النسبة الى جميع الامور وهو الولاية { وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون } اى الحرب التى توعدونها او القيامة او عذاب الآخرة او ايراث الارض.
[21.110]
{ إنه يعلم } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: افلا يعلم الله ذلك؟- فقال: انه يعلم { الجهر من القول ويعلم ما تكتمون } فى نفوسكم من القول، او جواب لسؤال مقدر عن علة عدم علمه (ص) فقال: لان الله لا غيره يعلم الجهر من القول والخفايا منه، وهذا من المخفيات المغيبات، والمراد بالجهر من القول هو الكلام المجهور والمكتوم ضده، او المراد بالمجهور مطلق القول الذى يظهر على اللسان، والمكتوم ما كان من قبيل حديث النفس، او المجهور مطلق ما يظهر على النفس سواء كان بطريق حديث النفس او جاريا على اللسان، والمكتوم ما لم يظهر على النفس بعد، او المجهور مطلق ما يظهر على الاعضاء من الافعال والاقوال، والمكتوم ما لم يظهر على الاعضاء من الاحوال والاخلاق والعلوم، او المجهور مطلق ما ظهر على النفس من الافعال والاقوال والصفات والاحوال والعلوم، والمكتوم ما لم يظهر على النفس بعد من المكمونات التى لم يطلع الانسان عليها.
[21.111]
{ وإن أدري لعله فتنة لكم } اى لعل امر الولاية او عليا (ع) او ما توعدون، او جهالة وقت ما توعدون، او تأخير العذاب امتحان لكم، او ضلال، او فضيحة، او اذابة وتخليص { ومتاع إلى حين } اى تمتع او ما يتمتع به يعنى هو جامع بين الوصفين او فتنة لبعض ومتاع لبعض الى وقت يقتضيه مشيته وهو مدة كونكم فى حجب التعينات وقيد الحيوة الدنيا.
[21.112]
{ قل رب احكم بالحق } يعنى اخرج من مشيتك وكل امورك الى ربك واسأله الاصلاح بالحق، وقرئ قال على الماضى ورب بضم الباء واحكم على وزن التفضيل واحكم على الماضى { وربنا الرحمن } المتساوى الرحمة بالنسبة الى الحقير والخطير والبر والفاجر { المستعان } الذى يستعين به الجامد والنامى، والشاعر وغير الشاعر، والمطيع والعاصى فى جميع الامور خصوصا { على ما تصفون } من تكذيبى وعد كتابى من الاساطير، او من الاشراك بالله، او من انكار البعث او من انكار الولاية والاتفاق على ان لا تتركوا هذا الامر لعلى (ع) وقرئ يصفون بالغيبة.
[22 - سورة الحج]
[22.1]
{ يأيها الناس اتقوا ربكم } اى سخط ربكم وعقوبته بترك مخالفة اوامره ونواهيه { إن زلزلة الساعة } استيناف فى مقام التعليل والمراد بالساعة ساعة ظهور القائم عجل الله فرجه عند الاحتضار بالموت الاختيارى او الاضطرارى وساعة القيامة الصغرى او ساعة القيامة الكبرى وظهور الولاية الكلية كما اشير الى الكل فى الخبر { شيء عظيم } فان حال الاحتضار وزلزلته فى العالم الصغير امر لا يتحمله النفوس البشرية والمدارك الحيوانية لانها لخراب النفوس البشرية والمدارك الحيوانية والمبانى الدانية.
[22.2]
{ يوم ترونها تذهل } لغاية الدهشة والوحشة { كل مرضعة عمآ أرضعت } مع ان المرضعة تجعل نفسها فداء لرضيعها { وتضع كل ذات حمل حملها } والمراد بذات الحمل كل ما كان فيه شيء آخر مكمونا لانه يوم تخرج الارض اثقالها ومكموناتها { وترى الناس سكارى } زائلى العقول من غاية الحيرة والوحشة { وما هم بسكارى } حتى يكونوا ملتذين بلذة السكر وكيفه { ولكن عذاب الله شديد } فلذلك يزول عقولهم لا لكيف المسكر.
[22.3]
{ ومن الناس من يجادل } جملة حالية او مستأنفة على مجيء الواو للاستيناف او معطوفة على مقدر كأنه قال: فمن الناس من يسلم ويخاف ويسلم من هولها ومن الناس من لا يسلم ويجادل { في الله } اى فى ذاته وصفاته واحكامه ومظاهره وخلفائه، ومنها المجادلة فى احكام العباد والنظر فيها بالرأى والاستحسان من دون اذن من الله واجازة من خلفائه { بغير علم } فان العلم بالله وصفاته واحكامه وخلفائه لا يحصل الا بالشهود والوجدان وهم قاصرون فيه او بالتقليد لصاحب الشهود والوجدان وهم مستنكفون منه { ويتبع كل شيطان مريد } عطف فيه معنى التعليل يعنى يجادل بغير علم لانه يتبع كل شيطان عات طاغ وباتباعه لا يحصل له الا الجهل والعتو فلا يحصل له علم ولا تقليد لاهل علم.
[22.4]
{ كتب عليه } مستأنف او صفة بعد صفة او حال بتقدير قد { أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير } ثم خاطب الزنادقة من منكرى البعث بعد التحذير عن وحشة البعث فقال { يأيها الناس إن كنتم في ريب }.
[22.5]
{ يأيها الناس إن كنتم في ريب } قد مضى ان الريب هو التزلزل فى الاعتقاد الثابت والاضطراب فيه وهو مقدمة الشك وكثيرا ما يستعمل فى الشك { من البعث } اى بعث الاموات واحيائهم فى يوم الحساب فتفكروا فيما سلف عليكم من الاحوال حتى تعلموا جواز البعث فانكم قد علمتم النشأة الاولى فلولا تذكرون { فإنا خلقناكم من تراب } يعنى انظروا فى مادة خلقتكم فان جزءها الاعظم كان التراب الذى هو اخس العناصر ثم استكمل ذلك التراب فى مراتب استكماله وكل استكمال كان موتا لكم عن صورة وبعثا فى صورة اخرى حتى بلغتم الى اقصى مراتب الكمال البشرى وموتكم عن البشرية وبعثكم بالملكية مثل موتاتكم السابقة وبعثاتكم { ثم من نطفة ثم من علقة } قطعة دم جامدة { ثم من مضغة } قطعة لحم غير متماسك الاجزاء كاللحم الذى يمضغ، وادخال من على المادة يدل على ان المادة ليست هى الانسان ولا جزء منه بل الانسان اسم للفعلية الاخيرة التى هى الروح وان النفس الانسانية جسمانية الحدوث كما عليه الفلاسفة لا انها قديمة او خلقت سابقة على الابدان كما عليه جمع من المتكلمين والفقهاء، وما ورد من خلق الارواح قبل الابدان انما هو بحسب نشأتها المجردة لا بحسب نشأتها المتعلقة وليس التعلق وصفا عرضيا للنفوس كما قيل بل هو مرتبة من مراتب ذواتها ونشأة من نشآت وجوداتها { مخلقة } تامة الخلقة ويدل عليه وزن التخليق الدال على المبالغة { وغير مخلقة } غير تامة الخلقة، او باقية الى تمام زمان خلقته فى الرحم وهو الزمان المعهود للجنين فى الرحم وغير باقية بل ساقطة او خارجة سالمة قبل تسعة اشهر { لنبين لكم } كيفية بعثكم من هذا البعث المشهود لكم، وحذف المفعول ليذهب ذهن السامع كل مذهب ممكن كأنه قال لنبين لكم حكمتنا وقدرتنا وعلمنا ورأفتنا وتوانينا فى الامور واماتاتنا واحياءاتنا وبعثكم ونشركم وجزاءكم وحسابكم { ونقر } قرئ بالرفع والنصب من باب الافعال ومن الثلاثى المجرد بالتكلم والغيبة وليكن الثلاثى المجرد المتكلم مأخوذا من قررت الماء اذا صببته، والمرفوع منه معطوف على خلقنا او حال بتقدير مبتدء او مستأنف والمنصوب معطوف على نبين كأنه قال: غرضنا فى التأنى والتدريج فى الخلقة بيان حكمتنا وقدرتنا على البعث وتقرير نطفكم { في الأرحام } مدة ليكون دليلا على بقائكم فى البرازخ وقيل البعث مثل بقائكم فى الارحام { ما نشآء } اى مدة مشيتنا، او نقر الذى نشأ من النطف ونزيل ما نشاء من الارحام { إلى أجل مسمى } اقله ستة اشهر واكثره تسعة اشهر، وفى خبر اذا حاضت المرءة فى حملها زاد ايام الحمل على التسعة بقدر ايام الحيض، وفى خبر آخر: اذا جاءت به لاكثر من سنة لم تصدق ولو ساعة واحدة، وعن العامة اكثره آخر اربع سنين { ثم نخرجكم طفلا } حال عن المفعول وافراده اما على تقدير نخرج كل واحد منكم او بلحاظ انه اسم جنس يطلق على الواحد والاكثر، او باعتبار انه فى الاصل مصدر مطلق على الواحد والكثير { ثم لتبلغوا } عطف على محذوف اى لتبقوا وترضعوا وتنموا ثم لتبلغوا، او متعلق بمحذوف اى ثم ننميكم ونبقيكم لتبلغوا { أشدكم } كما لكم فى القوة والعقل، قد مضى ان الاشد هو وقت كمال جميع القوى البدنية والنفسانية وهو من ثمانى عشرة سنة او من اول البلوغ الى ثلاثين او اربعين وهو مفرد على لفظ الجمع، او جمع لا واحد له من لفظه، او واحده الشدة بالكسر كالنعمة والانعم، او الشد كالكلب والاكلب او الشد كالذئب والاذؤب لكنه لم يسمع هذان { ومنكم من يتوفى } جملة حالية او عطف باعتبار المعنى كأنه تعالى قال: منكم من يقر بمادته فى الارحام، ومنكم من يسقط، ومنكم من يتوفى قبل البلوغ او حين البلوغ { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } اى ارذل اوقات العمر وهو وقت الخرافة وعدم التفطن بدقائق المقصود والمصنوع وهو يختلف بالنسبة الى الاشخاص فرب معمر لا يصير خرفا فى المئة او اكثر، ورب رجل يصير خرفا فى الخمس والسبعين ولذلك اختلف الاخبار فى بيان وقت ارذل العمر { لكيلا يعلم من بعد علم شيئا } اللام للغاية لان عدم العلم بعد العلم من الغايات العرضية لا انه علة غائية لان العلة الغائية للابقاء هى الاستكمال بالعلم والعمل، لا زوال العلم بعد الاستكمال به، او هو علة غائية بمعنى ان العلوم الدنيوية والادراكات البشرية الحاصلة بالمدارك الدنيوية من الموذيات فى الآخرة ويبقى الله بعض عباده لان يضعف مداركه الدنيوية ويزول عنها مدركاتها ليكون على راحة منها فى الآخرة ولذلك كان خير ابن آدم فى ان يبقى بعد البلوغ الى الشيخوخة كما فى الخبر لان بقاء الادراكات الدنيوية موذ لصاحبها فى الآخرة، ونعم ما قيل:
سينه خود را برو صد جاك كن
دل از اين آلود كيها باك كن
{ وترى الأرض هامدة } خالية عن النبات والجملة خطاب لغير معين وعطف على الجزاء، او على الشرط والجزاء، كأنه خاطبهم جميعا فى مقام الاستدلال على جواز البعث فقال: وترون الارض هامدة (الآية) او الخطاب لمحمد (ص) وعطف باعتبار المعنى وتعريض بالمنكرين للبعث كأنه قال: ترى النطفة وتقليباتها واماتاتها واحياءاتها فكيف تنكر البعث وترى الارض هامدة؟! { فإذآ أنزلنا عليها المآء اهتزت } تحركت ونشطت، شبه الارض فى استسقاء الماء وتحريك الحبوب والعروق للنبت والنمو بمن شرب ونشط وتحرك نشاطا { وربت } انتفخت وارتفعت بالنبات { وأنبتت من كل زوج } اى صنف { بهيج } حسن رائق.
[22.6]
{ ذلك } المذكور من تقليبات النطفة وطروحاتها واماتاتها واحياءاتها وحيوة الارض بعد موتها بانزال الماء عليها { بأن الله هو الحق } يعنى بان للعالم مبدء قادرا عليما حكيما ذا عناية ورأفة بخلقه ولولا ذلك المبدء لما وقع هذه التقليبات التى يعجز عن ادراك دقائقها وادراك نضد اسبابها الحكماء العقلاء { وأنه يحيي الموتى } يعنى بسبب ان عادته تعالى احياء الموتى اى ميت كان فاذا لم يدع الارض الميتة ولا النطفة الميتة ويحييهما فكيف يدع الانسان الذى هو اشرف الكل ولا يحييه بعد موته { وأنه على كل شيء قدير } يعنى ذلك بسبب ان شيمته احياء الموتى مع انه قادر على ذلك فلا يدع البتة الانسان ميتا.
[22.7]
{ وأن الساعة آتية } يعنى ذلك بسبب ان عالم المادة برمتها متجددة ذاتا وصفة من النقص الى الكمال وهذا معنى كون الكون فى الترقى والمتجدد من النقص الى الكمال يخرج لا محالة من حجبه التى هى الحدود المانعة من الحضور عند ربه والخارج من الحدود يقوم عند الرب وليست الساعة الا القيام عند الرب المضاف الذى هو قائم آل محمد (ص) { لا ريب فيها } لا ينبغى الريب فيها اولا يبقى الريب فيها بعد ملاحظة ترقيات النطف والحبوب والعروق او جنس الريب منفى عنها بمعنى ان من تصور الساعة لا يرتاب فيها، ومن ارتاب فيها لم يتصور الساعة فالساعة غير مرتاب فيها، والمرتاب فيها غير الساعة { وأن الله } شيمته انه { يبعث } لا محالة { من في القبور } كما ترى من بعثه جميع القوى المكمونة فى النطف والاراضى فكيف يدع الانسان الذى هو اشرف الموجودات ولا يبعث الارواح والقوى المكمونة فى بدنه.
[22.8]
{ ومن الناس من يجادل في الله } جملة حالية او مستأنفة او معطوفة على مقدر مثل سابقتها، وتكريرها للاستغراق بكل منهما من جهة غير جهة الاخرى فتكون كل لافادة معنى غير مفاد الاخرى { بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير }.
اعلم، ان الانسان ذو مراتب وادراكه فى كل مرتبة غير الادراك الذى فى المرتبة الاخرى فانه فى مقام نفسه المحتجبة عن المعانى الغيبية لا يكون ادراكه الا بصور المعلومات المغايرة للمعلومات المحتملة للمطابقة لها ولعدم المطابقة وفى هذه المرتبة تسمى ادراكاته بالتصور والاوهام والشكوك والظنون والعلوم العادية والتقليدية واليقينية ولكن فى عرف الشرع تسمى جملة تصديقاته الظنية واليقينية بالظنون لما تكرر سابقا ان العلوم فى تلك المرتبة لما كانت مغايرة للمعلومات ومنفكة عنها وجائزا زوالها كالظنون تسمى ظنونا، فان كان ادراكه بجولان نفسه وترتيب مقدمات وفكر ونظر من نفسه يسمى علما برهانيا، وان كان بالتسليم والاخذ من الغير يسمى تقليديا، والتقليد اما يكون بالاستماع من المقلد او بمشاهدة كتاب منه، والى الثلاثة اشار بقوله { بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير } ، وقدم العلم لانه اشرف من التقليد من حيث نفسه وان كان التقليد من حيث الخروج عن الانانية والتسليم اشرف منه فان العلم الحصولى لا يخلو من شوب الانانية التى هى نحو من التفرعن وادعاء الآلهة، وادى العبارة بالهدى والكتاب المنير للاشعار بان التقليد ان كان ممن يصح تقليده بان يكون مجازا من الله ومعلوما صدقه يصح التوسل به والاعتماد عليه فى التكلم والجدال، واما ان كان ممن لا يصح تقليده من امثاله واقرانه ومن آبائه ومعلميه فلا يجوز الاعتماد عليه، ويجوز ان يراد بالكتاب المنير العلم الشهودى الحضورى الذى يكون فى مرتبة القلب والروح لصاحب الشهود والعيان فان المشهود فى تلك المرتبة كالمكتوب الحاضر فى صفحة عند النفس فى الاعيان، وعلى هذا يكون الاقسام الثلاثة بترتيب الاشرف فالاشرف.
[22.9]
{ ثاني عطفه } كناية عن الاعراض والاستكبار { ليضل عن سبيل الله } قرئ يضل من باب الافعال، ومن الثلاثى المجرد، وسبيل الله هو الولاية، والنبوة ايضا سبيل الله لانها سبيل الولاية { له في الدنيا خزي } بلية فضيحة لان حال الجدل وارادة الغلبة على عباد الله والاستكبار عن العباد بلاء عظيم ولظى من جحيم وهو لانهماكه فى غيه لا يستشعر بألمه { ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق } واختلاف المتعاطفتين بالاسمية والفعلية للاشعار بان الخزى لازم جداله غير محتاج الى جعل جاعل وانه ثابت له فى الدنيا من دون اعتبار تجدد بخلاف عذاب الآخرة فانه محتاج الى الجعل ومتجدد كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها قائلين له.
[22.10]
{ ذلك } الخزى والعذاب { بما قدمت يداك } بسبب الذى قدمته يداك، او بتقديم يديك شنائع الاعمال وليس بدون استحقاق واستعداد منك فيكون ظلما، ولما كان اكثر الاعمال جارية على اليدين نسب جميع الشنائع من الافعال والاقوال والاحوال والاخلاق الى اليدين { وأن الله ليس بظلام للعبيد } عطف على ماقدمت يداك، ونفى الظلم كناية عن العدل يعنى ذلك بسبب انه عادل والعدل يقتضى اعطاء كل مستحق حقه وانك استحققت الخزى والعذاب، والظلام للنسبة كالتمار لا للمبالغة.
[22.11-12]
{ ومن الناس من يعبد الله على حرف } الحرف الطرف والجانب، شبه العابد الشاك فى امره المتزلزل فى عبادته بالغازى الغير العازم على القتال الشاك المتزلزل من امر الغلبة الذى يكون دائما على طرف من الجنود فان كان فتح وغلبة يوافق الجند والا يفر وصح تفسيره بالشاك فى الله وبمن اقر بالله وشك فى محمد (ص)، وبمن تزلزل فى امره وترقب الخير والشر بحسب دنياه كما قال { فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه } والمراد بالخير الخيرات البدنية وبالفتنة الشرور البدنية، ويجوز ان يراد بالحرف الكسب يعنى من الناس من يعبد الله مشتملا على كسب منه للدنيا والخيرات البدنية فى عبادته يعنى يجعل عبادته وسيلة لدنياه فان اصابها اطمأن والا انقلب مكبا على وجهه { خسر الدنيا والأخرة } خسر بمعنى ضل وصار مغبونا وباع بنقصان رأس المال ونقص المال مثل اخسر فى الاخير، ونصب الدنيا والآخرة على الظرفية فى الجميع، او على الظرفية فى غير الاخير وعلى كونه مفعولا به فى الاخير، او على التشبيه بالمفعول به فى الجميع، او فى غير الاخير مثل حسن الوجه بنصب الوجه، وخسرانه فى دنياه بانفاد عمره الذى هو بضاعته الثمينة بلا عوض فان العوض فى الدنيا هو التلذذ بمناجاة الله وفراغ القلب عما يشوشه وطهارته عن الحقد والحسد والبخل وسائر الرذائل، وفى الآخرة نعيمها وجناتها ورضوان من الله وهو اكبر، وهذا العابد محروم من الكل، على انه لا يستلذ بمستلذاته الحيوانية ايضا فى الدنيا لعدم اطمينانه واضطرابه فى كل حال { ذلك } الخسران الذى هو الحرمان عن مستلذات الانسان فى الدنيا والآخرة، وعن مستلذات الحيوان { هو الخسران المبين يدعو من دون الله } اى من دون اذن الله او من للتبعيض والظرف مستقر حال من قوله { ما لا يضره وما لا ينفعه } لان مدعوه ومعبوده فى الحقيقة هوى نفسه وهو يزعم انه يعبد الله فى طرف من الدين وهوى نفسه لا يقدر على ضره ولا على نفعه والآية تعريض بمن اقر بمحمد (ص) ورسالته ولم يقر بقوله فى على (ع) ولا بعلى (ع) { ذلك هو الضلال البعيد } نسبة البعد الى الضلال مجاز عقلى والحصر ههنا وفى قوله ذلك هو الخسران المبين حقيقى او ادعائى.
[22.13]
{ يدعو لمن ضره أقرب من نفعه } يدعو بتضمين يقول، ولمن ضره مبتدء واللام موطئة للقسم وقوله { لبئس المولى } خبره ولامه لام جواب القسم اخرت الى الخبر كراهة الجمع بين اللامين كما قيل، او خبر الموصول محذوف اى يقول من ضره اقرب من نفعه مولاى ولبئس المولى ابتداء كلام، او بتضمين يزعم او يعلم ويكون الجملة بجزئيها مفعولين له يعنى بعد ما يظهر له فى الآخرة امر مدعوه يقول او يعلم من ضره اقرب من نفعه بئس المولى ويكون الفعل اذا كان بمعنى يزعم او يعلم ويكون الجملة بجزئيها مفعولين له يعنى بعدما يظهر له فى الآخرة امر مدعوه يقول او يعلم من ضره اقرب من نفعه بئس المولى ويكون الفعل اذا كان بمعنى يزعم او يعلم متعلقا عن مفعوليه بواسطة اللام، او يدعو تأكيد ليدعوا السابق واللام موطئة مثل السابق الا انه لا تعلق حينئذ للجملة بيدعو { ولبئس العشير } المعاشر المصاحب.
[22.14]
{ إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات } كان الاوفق بالمقابلة ان يقول: ومن الناس من يؤمن بالله ويعمل الصالحات لكنه عدل الى هذه العبارة لافادة هذا المعنى وجزائهم بعبارة واحدة ولتشريفهم بالابتداء بجزائهم وبعدم جعلهم قرينا ومقابلا لغيرهم من الاصناف الماضية كأنهم اشرف من ان يذكروا مقابلين لهم والمراد بالايمان الايمان العام الذى هو بمعنى الاسلام الذى لا يحصل الا بالبيعة العامة النبوية وقبول الدعوة الظاهرة فيكون العمل الصالح اشارة الى البيعة الخاصة الولوية وقبول الدعوة الباطنة والايمان الخاص الذى لا يحصل الا بالبيعة الخاصة، او المراد به الايمان الخاص فيكون العمل الصالح اشارة الى العلم بما اخذ عليه فى بيعته فان الله يدخل الذين آمنوا بالبيعة على يد على (ع) ودخول الايمان فى قلبه وامتيازه عن غيره بحصول فعلية الولاية فى وجوده { جنات تجري من تحتها الأنهار } قد مر مرارا بيان كيفية جريان الانهار من تحت الجنات { إن الله يفعل ما يريد } لا مانع له من مراده وقد مر هذه الآية مع تفصيل تام فى بيانها عند قوله تعالى:
ولكن الله يفعل ما يريد
[البقرة:253].
[22.15]
{ من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة } اى من كان من الناس يظن ان لن ينصره الله فيغيظه ذلك او من يطرؤ عليه ما يغيظه فيظن ان لن ينصره الله { فليمدد بسبب } اى بحبل { إلى السمآء } سماء بيته ليخنق نفسه { ثم ليقطع } نفسه بالاختناق { فلينظر هل يذهبن كيده } فى اختناق نفسه { ما يغيظ } اى ما يغيظه او فليمدد بسبب اى حبل الى السماء الدنيا فليجتهد فى الوصول الى السماء ثم ليقطع اى ليستعمل تميزه فلينظر هل يذهبن كيده وحيلته ما يغيظ، او من كان من المؤمنين يظن ان لن ينصره الله محمدا (ص) فيغيظ لذلك فليمدد بسبب الى سماء بيته لاختناق نفسه او السماء الدنيا لحيلة نصر محمد (ص) ثم ليقطع نفسه او ليميز فلينظر، او من كان من الكافرين او المنافقين يظن ان لن ينصره الله محمدا (ص) وكان يغيظ لظن نصره فليمدد بسبب الى سماء بيته لاختناق نفسه، او الى السماء الدنيا لدفع نصره فلينظر (الى أخر الآية).
[22.16]
{ وكذلك } الانزال فى بيان البعث مع البرهان الواضح على بيانه وفى بيان حال المجادل فى الله بغير دليل والعابد على حرف من الدين والمؤمن الثابت على الدين { أنزلناه } اى القرآن { آيات بينات } واضحات او موضحات لحال الناس وصفات الله وخلفائه { وأن الله يهدي من يريد } عطف على كذلك بتقدير اللام او عطف على الضمير المفعول اى انزلنا اليك ان الله يهدى من يريد، وفاعل يريد ضمير للموصول او الله.
[22.17]
{ إن الذين آمنوا } اى اسلموا بالبيعة على يد محمد (ص) فان الايمان صار اسما للاسلام فى بدو الاسلام لكون المسلم مشرفا على الايمان { والذين هادوا } كانوا على اليهودية { والصابئين } الخارجين عن الدين وهم الذين عبدوا الكواكب، وقيل: انهم يزعمون انهم على دين نوح (ع) { والنصارى والمجوس والذين أشركوا } الاصنام او غيرها بالله { إن الله يفصل } اى يميز { بينهم يوم القيامة } وان كانوا فى الدنيا متشابهين غير ممتازين وان الثانية مع مدخولها خبر لان الاولى { إن الله على كل شيء شهيد } استيناف فى مقام التعليل.
[22.18]
{ ألم تر } منقطع عن سابقه لفظا ومعنى او مرتبط بسابقه جواب لسؤال مقدر فى مقام التعليل للتمييز بين الفرق المختلفة ولقدرته على كل شيء كأنه قيل: هل يقدر على التمييز بين النفوس الكثيرة المتشابهة مع كثرتها وشدة تشابهها؟- فقال: يقدر على ذلك لانك ترى كل النفوس البشرية بل كل الموجودات العلوية والسفلية مع كثرتها وتشابهها مسخرة له ساجدة له، والخطاب لمحمد (ص) وحينئذ يكون الرؤية على معناها والاستفهام للانكار والتقرير على المنفى، او الخطاب لغير معين ويكون الاستفهام للتوبيخ يعنى لا ينبغى لك ان لا ترى { أن الله يسجد له } اى يخضع غاية الخضوع، والخضوع فى كل بحسبه، وغاية الخضوع للمختارين ان يخرجوا من اراداتهم واختياراتهم وانانياتهم، ويدخلوا تحت اختيار المسجود له وانانيته، ولما كان السقوط على التراب ظهور ذلك الخروج سمى سجدة الصلوة سجودا، ولما كان كل الموجودات بفطرة وجودها مسخرة تحت امر الحق تعالى كان الكل ساجدة له بفطرة وجودها فيسجد له { من في السماوات } جملة تكونيا واختيارا { ومن في الأرض } تماما تكوينا وبعضهم اختيارا ايضا { والشمس } بجريها { والقمر والنجوم والجبال والشجر } مطلق ما ينبت من الارض او خصوص ماله ساق كما هو معناه اللغوى { والدوآب وكثير من الناس } عطف على من فى السموات فيكون المعنى وكثير من الناس اختيارا، او مبتدء خبره ما بعده والجملة معطوف على جملة الم تر { وكثير } ابتداء كلام على ان يكون كثير من الناس من عطف المفرد، او تكرير وتأكيد للاول { حق عليه العذاب } خبر للاول او الثانى { ومن يهن الله فما له من مكرم } جملة معطوفة او حالية { إن الله يفعل ما يشآء } فى مقام التعليل قد مضى فى سورة البقرة عند قوله تعالى { ولكن الله يفعل ما يريد } بيان تام لهذه الآية.
[22.19]
{ هذان خصمان } مستأنف جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: ما حال من يجادل فى الله والمؤمنين الذين يجادلون الكفار معهم فى الله؟- فقال: هذان خصمان والخصم فى الاصل مصدر يطلق على المؤنث والمذكر والمثنى والمجموع، او هو وصف كذلك وقد يثنى ويجمع كما هنا { اختصموا } اى تجادلوا { في ربهم فالذين كفروا } يعنى الذين يجادلون فى الله بغير علم { قطعت } كناية عن الخياطة واستعمله ههنا تهكما واستهزاء { لهم ثياب من نار } واتى بالماضى للاشعار بتحقق وقوعه { يصب من فوق رءوسهم الحميم } الحميم الماء الحار والماء البارد ضد.
[22.20]
{ يصهر به } اى يشوى او يذاب به { ما في بطونهم والجلود } يعنى يصل اثره من ظاهرهم الى باطنهم فيشوى باطنهم وظاهرهم، وتقديم الباطن للاهتمام به فى مقام التهديد.
[22.21]
{ ولهم } اى خاصة بهم { مقامع } جمع المقمعة كالمكنسة العمود من الحديد وجمع المقمع كالمكحل الخشبة التى يضرب بها رأس الفيل { من حديد } التقييد به للتصريح بانه جمع المقمعة لا المقمع.
[22.22]
{ كلمآ أرادوا أن يخرجوا منها } اى من النار او من المقامع بمعنى الخروج من عذابها { من غم } لا من شوق فانهم ان اشتاقوا وارادوا الخروج من شوق الى المراتب العالية خرجوا لا محالة فان قائد الشوق يقودهم ولا يدعهم فى الجحيم { أعيدوا فيها } بتلك المقامع { و } يقال لهم { ذوقوا عذاب الحريق } اى النار الحريق المحرقة على ان يكون الحريق اسما للمصدر او وصفا يستوى فيه المذكر والمؤنث، او عذاب الماء الحميم الحريق .
[22.23-24]
{ إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات } كان حق العبارة ان يقول والذين آمنوا وعملوا الصالحات قطعت لهم ثياب من النعيم اولهم جنات (الى آخرها) لكنه عدل الى هذه العبارة تشريفا للمؤمنين بجعلهم ارفع شأنا من ان يجعلوا قرينا للكافرين، وافادة لهذا المعنى مع تشريفهم بنسبة معاشرة الجزاء الى الله، واشعارا بان جزاء الكافرين من لوازم اعمالهم وجزاء المؤمنين بمحض التفضل من الله، ولم يقتصر على الايمان كما اقتصر فى جانب الكفار على الكفر لان الكفر كان فى العقوبة بخلاف الاسلام فانه ان لم يقترن بالعمل الصالح الذى هو الولاية او من جملته الولاية لم يكف فى الجزاء بل كان صاحبه مثل المرجين لامر الله غير محكوم عليه بشيء الى وقت الموت بخلاف من تولى عليا فانهم محكوم عليهم بأنهم يدخلهم الله { جنات تجري من تحتها الأنهار } قد مضى مكررا ان المراد من تحت عماراتها او اشجارها او قطعها او المراد بالانهار المعنوية تجرى من كل مرتبة على ما دونها من مراتب الجنان الى عالم الطبع { يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا } قرئ بالنصب وبالجر { ولباسهم فيها حرير وهدوا إلى الطيب من القول } يعنى ارشدهم الله الى الاقوال التى يطيب بها نفوسهم من الاذكار والتحيات والافكار والتخيلات وهو مثل جملة لباسهم فيها حرير عطف على تجرى، او يحلون ان لم يكن جملة يحلون صفة بعد صفة، او هما مع جملة يحلون احوال مترادفة او متداخلة، واذا كان معناه يهدون فيها الى الطيب من القول فالاتيان بالماضى لتحقق وقوعه، وان كان معناه هدوا فى الدنيا فهو على معناه { وهدوا إلى صراط } الله { الحميد } اتى بعنوان الحميد للاشارة الى ان المؤمن العامل بالصالحات لاستكماله فى اوصافه الحميدة وجنوده الكثيرة يهدى الى الله من حيث محموديته بخلاف المجذوب الغير العامل فانه يهدى اليه من حيث سبوحيته وقدوسيته ولذلك قال تعالى خطابا لنبيه (ص)
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني
[آل عمران:31] يعنى فاستنوا بسنتى واعملوا بعملى تصيروا مثل الله متصفين بالصفات الحميدة ويحببكم الله حينئذ لاتصافكم بصفاته وكان المشايخ الحقة من السلف والخلف يأمرون السلاك بحفظ النواميس الشرعية والعمل بجميع الفرائض والسنن الواردة فى الشريعة فلا يصغى الى ما قالته المتصوفة من القلندرية الاباحية ان الشريعة حجاب، وان العارف لا حاجة له الى العمل، وان الواصل اذا عمل كان العمل منه قبيحا.
[22.25-26]
{ إن الذين كفروا } منقطع لفظا ومعنى عن سابقه، او جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: قد عرفنا حال الكافر المطلق والمؤمن فما حال الكافر الصاد عن سبيل الله؟- فقال: ان الذين كفروا { ويصدون } اتى بالمضارع اشعارا بان الكفر امر وحدانى ثابت بخلاف الصد فانه امر متجدد الحصول، وللاشارة الى ان الكافر يصير شيمته الصد على سبيل الاستمرار التجددى { عن سبيل الله } هو سبيل القلب الذى تكوينيه ولاية تكوينية وتكليفيه ولاية تكليفية ولا سبيل لله سواه، وكلما عد سبيل او فسر سبيل الله به فهو سبيل الله لكونه سبيلا الى سبيل القلب { والمسجد الحرام } الصورى او المعنوى وهو القلب { الذي جعلناه للناس سوآء } مفعول ثان لجعلنا او حال وقوله { العاكف فيه } مرفوعه سواء جعل سواء وصفا او مصدرا فى معنى الوصف وقد مضى وجه كون الكعبة موضوعا لانتفاع الناس فى آل عمران، وقرئ سواء بالرفع فيكون خبرا مقدما او مبتدء مكتفيا بمرفوعه عن الخبر { والباد } باسقاط الياء فى الوقف واجرائه حال الوصل على الوقف والمراد بالبادى مطلق المسافر يعنى الخارج الى البادية سواء سكن البادية ام لا، والمراد بالمسجد الحرام الحرم وما حواه او مكة او المسجد نفسه وفى اخبارنا تصريحات بان المراد مكة ودورها لا يجوز اخذ الاجر عليها ولا يجوز ان يجعل عليها ابواب وان اول من جعل على داره مصراعين معاوية وانه صاحب السلسلة التى قال الله تعالى:
في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا
[الحاقة: 32]، وكان الطارين اذا قدموا نزلوا على الحاضرين فى دورهم، وقرئ العاكف بالجر بدلا من الناس وحذف خبر ان اتكالا على جزاء ما يأتى من قوله { ومن يرد فيه } اى من يرد فى المسجد او فى سبيل الله شيئا حذف المفعول لارادة التعميم { بإلحاد بظلم } بدل من قوله بالحاد او صلة للالحاد او هما حالان متداخلان او مترادفان، او بالحاد صلة يرد وبظلم حال، وقرئ يرد بفتح الياء من ورد { نذقه من عذاب أليم وإذ بوأنا } واذكر او ذكر قومك اذ بوأنا { لإبراهيم } اى عينا على ما ورد ان الله أرسل ريحا فكنس مكان البيت فظهر اس البيت الذى نزل لآدم (ع) من الجنة فبنى ابراهيم (ع) البيت على ذلك او لام لابراهيم زائدة { مكان البيت } اى بيت الكعبة ولما كان الظاهر عنوان الباطن فايواء ابراهيم (ع) مكان البيت او تعيينه له كان عنوانا لايوائه الى القلب وتعيين محل القلب له لينجذب اليه ويخلص التوحيد له ولذلك قال تعالى { أن لا تشرك } ان تفسيرية لكون بوأنا فى معنى القول او مصدرية بتقدير اللام { بي شيئا وطهر بيتي } الظاهر والباطن من الاصنام الظاهرة والباطنة ومن النجاسات الظاهرة ولوث الرذائل الباطنة { للطآئفين والقآئمين } الداعين لله فى القيام وبالقيام عنده او القائمين بامور العباد الكافين لهم { والركع } الخاضعين لله او المنحنين لمرمة معاشهم والمكبين على وجوههم غير مرتفعين رؤسهم، او المفتقرين المحتاجين بحسب الدنيا او الآخرة { السجود } المتواضعين غاية التواضع او المبتلين بمرمة معاشهم بحيث لا يمكنهم الخلاص منها فى الكبير او الصغير.
[22.27]
{ وأذن } بالغ فى الاعلام { في الناس } لم يقل اذن الناس للاشعار بان اعلامه لم يكن للجميع بل لمن شاء الله ان يسمعه نداء ابراهيم فانه روى ان ابراهيم (ع) صعد ابا قبيس فقال: يا ايها الناس حجوا بيت ربكم فأسمعه الله من فى اصلاب الرجال وارحام النساء فيما بين المشرق والمغرب ممن سبق فى علمه ان يحج وليس المراد من كان فى زمانه فى اصلاب الرجال وارحام النساء بل من كان يقع فى اصلاب الرجال وارحام النساء الى يوم القيامة وذلك ان ابراهيم (ع) نادى بلسانه الملكوتى وندائه الملكوتى وسمع من سمع باذنه الملكوتى وكل الناس كانوا قبل هذا العالم فى العوالم العالية من العوالم الملكوتية والجبروتية من النفوس والعقول، فمن سمع فى تلك العوالم بتلك الآذان اجاب، ومن لم يسمع وكان اصم من ذلك النداء فى تلك العوالم لم يجب ولم يحج فى هذا العالم، وعلى هذا جاز تفسير اصلاب الرجال وأرحام النساء بالعوالم العالية من العقول والنفوس وان يكون وجودهم فى الاصلاب والارحام كناية عن وجودهم الاجمالى فى العقول والنفوس من دون تفصيل وتمييز، وروى انه لما امر ابراهيم واسماعيل ببناء البيت وتم بناؤه قعد ابراهيم (ع) على ركن ثم نادى: هلم الحج فلو نادى هلموا الى الحج لم يحج الا من كان يومئذ انسيا مخلوقا ولكن نادى هلم هلم الحج الحج فلبى الناس فى اصلاب الرجال لبيك داعى الله لبيك داعى الله، فمن لبى عشرا حج عشرا، ومن لبى خمسا حج خمسا، ومن لبى اكثر فبعدد ذلك، ومن لبى واحدة حج واحدة، ومن لم يلب لم يحج، وفى خبر فأسمع من فى اصلاب الرجال وارحام النساء الى ان تقوم الساعة، وورد فى الخبر ان الخطاب فى قوله تعالى اذن فى الناس لمحمد (ص) فعن الصادق (ع) ان رسول الله اقام بالمدينة عشر سنين لم يحج ثم انزل الله تعالى واذن فى الناس بالحج (الآية) فأمر المؤذنين ان يؤذنوا بأعلى اصواتهم بان رسول الله (ص) يحج فى عامه هذا، فعلم به من حضر بالمدينة واهل العوالى والاعراب واجتمعوا لحج رسول الله وانما كانوا تابعين ينظرون ما يؤمرون به فيتبعونه او يصنع شيئا فيصنعونه { بالحج } اى بقصد البيت للمناسك المخصوصة { يأتوك } لم يقل يأتوا البيت للاشارة الى ان المقصود من تشريع الحج زيارة القلب وصاحبه لا زيارة البيت واحجاره كما ان فى قوله
فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم
[ابراهيم:37] اشارة الى ذلك، والى هذا اشار الباقر (ع) حين رأى الناس يطوفون حول الكعبة بقوله: هكذا كانوا يطوفون فى الجاهلية انما امروا ان يطوفوا ثم ينفروا الينا فيعلمونا ولايتنا ومودتهم ويعرضوا علينا نصرتهم { رجالا } اى مشاة قرئ بكسر الراء وتخفيف الجيم وضمها وتخفيف الجيم وتشديده وكسكارى { و } محمولين بانفسهم او احمالهم { على كل ضامر } لما كان ما حول مكة برار بعيدة خالية من الماء والعشب وكان كل فرس او جمل او استر او حمار يأتى مكة يضمر ويلصق بطنه بظهره اداه بلفظ الضامر، ولما لم يكن الآتون يستوعبون بافرادهم جميع الضامرات التى فى العالم وصفه بقوله { يأتين } يعنى يأتين لقصد صاحبيهن مكة { من كل فج } اى طريق واسع وهو فى الاصل الطريق الواسع بين الجبلين لكن اتسع واستعمل فى مطلق الطريق { عميق } اى بعيد يعنى من كل فج فى اطراف مكة لا فى العالم، وهذه التقييدات خلاف ظاهر الآية ولا بد منها لتصحيح تنزيلها، فان ظاهر الآية هكذا اذن فى الناس جميعا فان اللام فى مثله ليس الا للاستغراق يأتوك باجمعهم رجالا وركبانا على كل ضامر فى العالم يأتين من كل فج عميق فى العالم، والحال انه ما اتوا او لا يأتى جميع الناس ولا كل الضامرات يأتين ولا كل الضامرات الآتيات يأتين الى مكة ولا كل الآتيات الى مكة مركوبات للحاجين ولا كل المركوبات للحاجين يأتين من كل فج عميق فى العالم، لكنه لما اراد التنبيه على التأويل ادى الآية بهذه العبارة فانها باطلاقها وعمومها فى جميع الفاظها صحيحة بحسب التأويل؛ لانه اذا اذن ابراهيم (ع) الذى فى العالم الصغير او محمد (ص) فيه بلسان الرسالة او الولاية فى الناس فى العالم الصغير بحج بيت الله الحرام الذى هو القلب اسمع الله تعالى نداءه لجميع القوى الانسانية الموجودة والمكمونة المجردة عن الاختلاط بالقوى الحيوانية والمختلطة بها البعيدة من حرم الصدر المنشرح بالاسلام المحتاجة فى سيرها الى مكة القلب الى ركوب القوى الحيوانية، وهيج الله بعد الاسماع جميع القوى الانسانية التى هى افراد الانسان فى العالم الصغير واتوا الى القلب وصاحبه وكان الحاضرون حول حرم الصدر وبيت القلب مشاة فى مجيئهم لعدم اختلاطهم بالقوى الحيوانية وعدم احيتاجهم الى ركوبها، وكان المتباعدون عن الحرم والبيت راكبين ومختلطين بالقوى الحيوانية ولذلك كان الحج ماشيا لاهل الحرم افضل ويتدرج الى الفعلية القوى المكمونة الغير الخارجة من القوة الى الفعل، وبعد الخروج من القوة الى الفعلية تأتى الى بيت الله وتطوف حول القلب مشاة وركبانا.
[22.28-29]
{ ليشهدوا } اى ليحضروا { منافع لهم } دينية ودنيوية فان الآتى الى مكة يعمه الرحمة الالهية التى تنزل من الحق على الحاجين والمغفرة والبركات النازلة ايام الحج وبواسطتها يحصل له البركات الدنيوية وينتفع بلحوم الاضاحى، وتنكير المنافع للاشعار بان المراد المنافع الحاصلة فى ايام الحج { ويذكروا اسم الله في أيام معلومات } قيل هى العشر الاول من ذى الحجة وهى الايام المعينة لمناسك الحج، وقيل: هى ايام التشريق يوم النحر وثلاثة بعده، وقيل: ان المراد بالذكر ههنا التسمية على الاضحية، وقيل: المراد بالذكر الذبح لان صحة الذبح بالذكر فسمى به، والحق ان المراد مطلق ذكر الله سواء كان بالتلبية فى الاحرام او بالتضرع والدعاء فى ايام الحج، او بتذكر القيام عند الله فى القيامة بواسطة مشاهدة حال الاحرام الذى هو تذكير للقيام عند الله فى المحشر، او بالذكر عند الذبح، او بالتكبيرات عقيب الصلوات الخمس عشرة اولها صلوة الظهر من يوم النحر، والايام المعلومات هى ايام الحج من اول الاحرام بالحج الى آخر ايام التشريق لان من احرم بالحج علم انه لا يفرغ من مناسكه الا بعد ايام التشريق فى النفر الاول او فى النفر الثانى { على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } وقد مضى فى اول سورة المائدة بيان لبهيمة الانعام، وتقييد الذكر بقوله على ما رزقهم من بهيمة الانعام يشعر اشعارا ما بان المراد الذكر على الذبح { فكلوا منها } اباحة او ندب للاكل وليس الامر للوجوب { وأطعموا البآئس } المراد منه هو الواقع فى الشدة لفقره ولذلك اضاف اليه { الفقير ثم ليقضوا تفثهم } التفث الشعث والاغبرار وقضاؤه ازالته بالغسل والحلق وقلم الاظفار والطيب، او المراد بالتفث مناسك الحج او الاحلال من الاحرام، او ما يلزم الانسان فى الاحرام من تبعة قول او فعل، وقضاؤه تداركه بما يكفره، او المراد بالتفث التعلقات النفسانية الباقية على الانسان فى الاحرام وقضاؤه بلقاء الامام (ع) فان من لقى امامه بملكه او ملكوته ينسلخ من تعلقاته، وفى الاخبار اشارة ما الى كل { وليوفوا نذورهم } التى نذروها فى ايام الحج او قبل الحج للحج، او قبل الحج مطلقا، او المراد بالنذور الكفارات التى تلزم مرتكبى المنهيات فى ايام الحج او المراد مطلق الكفارات، او المراد المناسك فانها كالنذور تلزم الانسان بعد الشروع بوجه { وليطوفوا } اى ليبالغوا فى طواف البيت او ليكثروا الطواف بالبيت بعد ما تطهروا بحسب الظاهر من الشعث اللازم للاحرام وحلقوا وازالوا الوسخ الظاهر والوسخ الباطن من الكفارات والتعلقات بلقاء الامام بملكه وبلقائه بملكوته فان لقاء الامام بملكوته وهو المعرفة بالنورانية باب الوصول الى القلب الذى هو بيت الله فليطوفوا { بالبيت } الظاهر والباطن ولا يدخلوا الا بعد الطواف به الطواف الواجب { العتيق } القديم فانه اول بيت وضع للناس بظاهره كما فى الاخبار انه نزل من الجنة لآدم (ع)، وبباطنه فان القلب الصنوبرى فى ملك البدن العنصرى او بيت وضع للناس فى العالم الصغير، والقلب الروحانى كذلك، او العتيق من الغرق والعتيق من الكثرات وتعلقاتها، او العتيق من تسلط الجبابرة عليه فى الصغير والكبير.
[22.30]
{ ذلك } خبر مبتدء محذوف او مبتدء خبر محذوف اى الامر ذلك او ذلك كذلك او مفعول فعل محذوف اى خذ ذلك { ومن يعظم } عطف او حال { حرمات الله } جمع الحرمة او الحرم بالضم والسكون او الحرم بالضمتين الذى هو جمع الحرام، او الحرم بكسر الحاء او الحرمات جمع الحرمة بضمتين، او الحرمة كالهمزة، وحرمات الله ما يحرم انتهاكه من امر ونهى ومكان وزمان وغيرها كالحرمين والاشهر الحرم والايام المتبركة والشرائع الالهية والكتب السماوية والاخبار النبوية والولوية والبيعة النبوية والولوية والمشاهد المشرفة والمؤمن ونفس الايمان وخلفاء الله من الانبياء واوصيائهم (ع)، وما ورد وقيل من اختصاصها ههنا بمناسك الحج او البيت الحرام والبلد الحرام والشهر الحرام بقرينة ذكرها فى ذيل آية الحج انما هو بيان للمنظور وتخصيص له والا فمفهومها عام وبعمومه ورد، لكن المقصود المنظور فى ذلك المقام هو هذه المذكورات { فهو خير له } اى فالتعظيم خير له من ترك التعظيم لا من هتك الحرمة فانه شر له او الخير منسلخ عن معنى التفضيل { عند ربه } لان تعظيم الحرمات قلما ينفك فى الدنيا عن تلف الاموال او تعب الانفس { وأحلت لكم الأنعام } اى الازواج الثمانية { إلا ما يتلى عليكم } اى تحريمه من الميتة وما اهل لغير الله به والمنخنقة (الى آخر الآية) ومن البحيرة والسائبة (الى آخر الآية) { فاجتنبوا الرجس } الرجس بكسر الراء وسكون الجيم وبالتحريك وبفتح الراء وكسر الجيم القذر والمأثم وكل ما استقذر من العمل، والعمل المؤدى الى العذاب والشك والعقاب والغضب ويصح التفسير بكل، ويكون معنى من فى قوله تعالى { من الأوثان } فى كل مناسبا له، وفسر الرجس من الاوثان فى الخبر بالشطرنج { واجتنبوا قول الزور } تكرار الامر بالاجتناب للاشعار بان كلا مأمور باجتنابه على حياله، والزور بالضم الكذب والشرك بالله ومجلس الغناء ونفس الغناء وما يعبد من دون الله وقد فسر الآية بشهادة الزور وبمطلق القول الكذب وبما كان المشركون يقولونه فى تلبيتهم من قولهم لبيك لا شريك لك الا شريكا هو لك تملكه وما ملك وبالغناء وسائر الاقوال الملهية، وفى الاخبار تصريح ببعضها والحق انه لا اختصاص للوثن بالصنم المصنوع بل كلما ينظر اليه ويتعلق القلب به فهو وثن للنفس بل كل هوى واقتضاء من النفس وكل رأى وانانية منها صنمها، ولا اختصاص للقول المسبب او السبب للزور والانحراف عن الحق بالغناء وشهادة الزور بل افعال القوى النباتية والحيوانية والانسانية وآثار الاعضاء البدنية وادراك المدارك الظاهرة والباطنة والاحوال والاخلاق النفسانية والخطرات القلبية وتصرفات الواهمة كلها اقوال القوى، فاذا كان هذه على سبيل الاستقامة الانسانية يعنى كانت متصلة بطريق الولاية او منتهية اليها كانت اقوال الصدق، واذا لم تكن على ذلك كانت اقوال الزور كائنة ما كانت؛ وعلى هذا كان المعنى فاجتنبوا الرجس الذى هو انانية النفس التى هى صنمها الحقيقى وكلما يتبعها من الاهوية الكاسدة والمعبودات الباطلة والمنظورات الفانية، واجتنبوا كل قول او فعل او خاطر او خيال او تخيل يكون سبب الانحراف عن الحق او مسببا عن الانحراف، ولما كان الاجتناب قيدا ورينا للنفس وحاصلا لها من انانية ما، ومورثا لانانية اخرى اذا كان بالتفات من النفس وهوى منها والمطلوب التجرد من الانانية مطلقة والتطهر من الهوى ولو كان هوى التقرب الى الله.
[22.31]
قال تعالى { حنفآء } اى خالصين من الانانية والهوى ولو كان هوى الخلاص من الهوى { لله غير مشركين به } تأكيد لحنفاء { ومن يشرك بالله } باى نحو من الاشراك حتى الاشراك بهوى الاجتناب من الهوى { فكأنما خر من السمآء } تشبيه للمعقول بالمحسوس لان الانسان من سماء الاطلاق وبالاشراك والتقيد ينزل عن سماء الاطلاق الى ارض التقيد { فتخطفه الطير } اى طير الاهوية والآمال { أو تهوي } عطف على خر او على تخطفه وهو الاوفق { به الريح } اى ريح الشهوات والغضبات والجهالات الشيطانية { في مكان سحيق } اى بعيد شبه المشرك فى حالاته بمن سقط من السماء فان اللطيفة السيارة الانسانية بالاشراك والانانية تسقط من سماء الاطلاق الى ارض التحدد وبعد سقوطه الى مقام التعين والانانية اما يتصرف فيها الآمال والبخل والحسد وامثالها التى هى تتولد فى الانسان من تركب الشهوة والغضب والشيطنة، او تتصرف فيها الشهوة، او الغضب، او الشيطنة التى هى كالبسائط فشبه المتصرف فيه الآمال والسحد وامثالها التى هى كالمواليد بمن تخطفه الطير والمتصرف فيه الشهوة وامثالها التى هى كالعناصر فى البساطة بمن تهوى به الريح فلفظة او للتنويع لا للتخيير فى التشبيه.
[22.32]
{ ذلك } مضى هذه الكلمة قبيل هذا { ومن يعظم شعائر الله } نظير { ومن يعظم حرمات الله } وتأكيد له وقد مضى فى سورة البقرة بيان للشعائر وهى كالحرمات مطلق ما له تعلق بالدين وله حرمة وقد فسرت مثل الحرمات ههنا بملاحظة المقام بمناسك الحج وبالهدى مخصوصا والحق انه على عمومه ورد لكن النظر الى المناسك او الى الهدى بقرينة المقام { فإنها } اى الشعائر { من تقوى القلوب } من قبيل اقامة السبب مقام الجزاء فان التقدير من يعظم صار من المتقين لانها من تقوى القلوب، وكون الشعائر من تقوى القلوب مع ان اكثرها من الكثرات الشاغلة للقلوب عن الله باعتبار ان للقلب وجهين وجها الى الكثرات ووجها الى الوحدة وبهذين الوجهين يصح منه السلوك ويقع منه الجذب، وبسلوكه المشار اليه بقوله تعالى
فاتبعوني يحببكم الله
[آل عمران:31] يكون التقوى منه بحفظ الكثرات واعطاء الحقوق لاهلها، واعطاء الحقوق لاهلها ليس الا بالتزام اوامره تعالى ونواهيه فى الكثرات وبجذبه المشار اليه بقوله تعالى:
إن كنتم تحبون الله
[آل عمران:31] يكون التقوى منه بطرح الكثرات وترك الالتفات الى ما سوى الله فيكون تعظيم الشعائر التى هى اوامر الله ونواهيه القالبية والقلبية وانبياؤه واولياؤه (ع) بقوالبهم الملكية والملكوتية كلها من تقوى القلوب لا الاشتغال بالحضور فقط وطرح ما سوى الحضور.
[22.33]
{ لكم فيها } اى فى الشعائر يعنى البدن التى تهدى الى مكة { منافع } من ظهورها واوبارها والبانها ونتائجها { إلى أجل مسمى } الى ان يجعل هديا فان المنافع تنقطع بعد ذلك كما قيل: او الى وقت النحر، او لكم فى مناسك الحج منافع فى الدنيا بكثرة البركات وفى الآخرة بكثرة الاجور، او لكم فى مطلق العبادات منافع دنيوية بحفظ الدماء والاموال والاعراض وصحة التوارث والتناكح، وفى الآخرة بالاجور وحينئذ يكون قوله الى اجل مسمى قيدا لتحصيل الانتفاع لا لنفس المنافع { ثم محلهآ } اى محل البدن او مناسك الحج { إلى البيت العتيق } يعنى مكة وما حولها فان البيت ههنا اعم من الحرم او محل العبادات وانتهاء حلولها ونزولها الى البيت العتيق المعتق القديم الذى هو البيت المعمور.
[22.34]
{ ولكل أمة جعلنا منسكا } يعنى لا بدع فى الأضحية كما يقوله العجم وتنكر اذى الحيوان ولا فى مناسك الحج كما يقول من لا خبرة له: ان هذه الافعال ليست من افعال العقلاء، ولا فى مطلق العبادات كما يقوله المتصوفة الاباحية لانا جعلنا لكل امة منسكا خاصا من القرابين والاضحيات ومن المناسك المخصوصة فى ايام مخصوصة او من العبادات والاوامر والنواهى القالبية والقلبية والرياضات البدنية والنفسية { ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } قد مر بيان لبهيمة الانعام فى اول سورة المائدة، والتعليل به للاشعار بان المقصود من جميع العبادات وجميع الانتفاعات والالتذاذات هو تذكر المعبود لا غير { فإلهكم } يعنى ان كان متعبداتكم متخالفات فلا ينبغى لكم التخالف والتباغض بسبب ان الهكم { إله واحد } وهذا يقتضى الاتفاق لا الاختلاف { فله أسلموا } اى انقادوا او اجعلوا انفسكم ذوات سلامة من الآفات او القيود التى تورثكم اللجاج والعناد { وبشر } خطاب لمحمد (ص) او لكل من يتأتى منه الخطاب فيكون فى معنى وبشروا عطفا على اسلموا اى اسلموا له وبشروا { المخبتين } من الخبت بمعنى المكان المتسع او من الخبيت بمعنى الحقير ولعل التوصيف بالاوصاف الآتية كان باعتبار المعنيين وفسر بالخاشعين باعتبار تحقير النفس وبالمطمئن الى الله باعتبار معنى الاتساع.
[22.35]
{ الذين إذا ذكر الله } عندهم { وجلت قلوبهم } ناظر الى معنى الحقارة، وقوله { والصابرين على مآ أصابهم } ناظر الى معنى الاتساع فان اتساع القلب يورث تحمل البلايا من غير جزع { والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون } لما كان الصبر هو البقاء على الحال الاولى من دون حدوث شيء وتجدد، واقامة الصلوة عبارة عن دوام التوجه الى الحق الاول تعالى شأنه كان المناسب فيهما الاتيان باسم الفاعل، ولما كان المطلوب من الانفاق تجدده على سبيل الاستمرار اتى به مضارعا دالا على التجدد الاستمرارى.
[22.36]
{ والبدن } البدن بالضم والسكون والبدن بالتحريك والبدن ككتب جمع البدنة كالخشبة وهى سمينة من النوق التى تهدى الى مكة او من النوق والبقر { جعلناها لكم من شعائر الله } من جملة علائم دينه او مناسك بيته { لكم فيها خير } مثل لكم فيها منافع { فاذكروا اسم الله عليها صوآف } اى قياما للنحر مقيدة على سنة محمد (ص) وهى ان تعقل احدى يديها وتقول على ثلاث او ان تربط يداها ما بين الرسغ الى الركبة { فإذا وجبت جنوبها } سقطت على الارض كناية عن خروج الروح منها { فكلوا منها } ولو بقدر اكلة وليس الامر للوجوب فهو اما للاستحباب او الاباحة فان القوم فى الجاهلية كانوا يحرمون الاكل منها، وقيل الامر للوجوب { وأطعموا القانع } الذى يقنع بما اعطى وبما فى يده ولا يسأل { والمعتر } اى المعترى الذى يتعرض للمعروف ولا يسأل { كذلك } التسخير للذبح والاكل { سخرناها لكم } فى سائر منافعكم { لعلكم تشكرون } نعمة تسخيرها او لتذكروا انعامنا عليكم فتشكرونا على جميع نعمنا.
[22.37]
{ لن ينال الله } جواب لسؤال مقدر فانه تعالى لما قال: { ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب } وكان المنظور من شعائر الله ههنا الاضحيات وكان الاضحية ما يهراق دمه ويؤكل لحمه ووصفها الله تعالى بالاقتران بتقوى القلوب صار المقام مقام ان يسأل هل يصل الى الله لحومها ودماؤها؟- فقال جوابا له: لن ينال الله { لحومها ولا دمآؤها ولكن يناله التقوى منكم } وقيل: كانوا فى الجاهلية اذا ذبحوا استقبلوا الكعبة بالدماء فلطخوا حول البيت بها قربة الى الله { كذلك سخرها لكم } كرر هذه الكلمة تأكيدا ومقدمة لغاية اخرى هى قوله { لتكبروا الله على ما هداكم } الى تسخيرها، او الى مناسك بيته، او الى معالم دينه، او الى ذبح القوى البهيمية من النفس، او الى ولى امركم { وبشر المحسنين } عطف على مقدر او باعتبار المعنى كأنه قيل: فكبر الله وبشر المحسنين فى اعمالهم، او العاملين كأنهم يرون الله او المحسنين الى خلق الله، او الذين شيمتهم الاحسان، او المؤمنين بالايمان الخاص الحاصل بالبيعة الولوية فان اصل الاحسان هو الولاية التى هى البيعة الخاصة الولوية التى يعبر عنها بالايمان.
[22.38]
{ إن الله يدافع عن الذين آمنوا } جواب لسؤال مقدر واقع موقع التعليل للتبشير والتنزيل انه يدافع الكفار الذين يقاتلونهم والمقصود التعميم لدفعه تعالى الكفار والبلايا ومكر الماكرين واذى الموذين وجنود الجهل من الجنة والشياطين عن المؤمنين، وفى لفظ يدافع اشعار بان الكفار والبلايا والموذين وجنود الشياطين يتهجمون على المؤمنين ولكن الله يدافعهم عنهم { إن الله لا يحب كل خوان كفور } يعنى يبغضهم، هذا ايضا فى مقام التعليل كأنه قال: ان الله يحب المؤمنين ويبغض الكافرين والماكرين وجنود الشياطين لكنه اتى بلفظ الخوان الكفور اشعارا بان من يهجم على المؤمنين فهو خوان كفور كائنا من كان.
[22.39]
{ أذن } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: اذا كان الله يدافع عن المؤمنين فلا ينبغى للمؤمنين ان يقاتلوا، فقال تعالى: اذن { للذين يقاتلون } من المؤمنين، قرئ اذن مبنيا للمفعول ومبنيا للفاعل وعلى كل من القراءتين قرئ يقاتلون مبنيا للمفعول ومبنيا للفاعل { بأنهم ظلموا } ذكر فى نزول الآية انه كان المشركون يؤذون المسلمين لا يزال يجيء مشجوج ومضروب الى رسول الله (ص) ويشكون ذلك الى رسول الله (ص) فيقول لهم:
" اصبروا فانى لم اؤمر بالقتال حتى هاجر "
فأنزل الله عليه هذه الآية وهى اول آية نزلت فى القتال { وإن الله على نصرهم لقدير } جملة حالية او معطوفة على الفعلية او على ان الله لا يحب كل خوان كفور.
[22.40]
{ الذين أخرجوا } بدل او صفة للذين يقاتلون او للذين آمنوا، او مبتدء خبره الذين ان مكناهم او خبر مبتدء محذوف او مبتدء خبر محذوف، او مفعول فعل محذوف { من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله } من قبيل استثناء المديحة من الذمائم ثانيا وتجرى الآية فى الأئمة كالحسين (ع) واصحابه كما فى الاخبار وفى المؤمنين بشرائط الجهاد والدفاع المقررة فى الكتب الفقهية { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض } قرئ دفع الله من الثلاثى المجرد ودفاع الله من المفاعلة والجملة حالية او معطوفة وفيها معنى التعليل لقوله { أذن للذين يقاتلون } وقد سبق فى آخر سورة البقرة بيان وجوه هذه الآية عند قوله تعالى:
لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض
[البقرة: 251]، { لهدمت صوامع } معابد النصارى لرهبانهم قدمها على سائر المعابد فى الذكر لكونها حقه الى زمان الرسول (ص) وليشيوعها فى ذلك الزمان ولاختصاصها بمن لم يكن له شغل سوى العبادة { وبيع } معابدهم المشتركة { وصلوات } معابد اليهود اصلها ثلوتا بالعبرية فعرب وجعل صلوة وجمع على الصلوات، وقيل: الصوامع معابد النصارى فى الجبال والبرارى، والبيع معابدهم فى القرى، والصلوات معابد اليهود لكونها يصلى فيها، وقيل: الصوامع معابد النصارى، والبيع معابد اليهود، والصلوات ايضا معابد اليهود، وقيل: المراد بالصلوات صلوات شريعة محمد (ص ) من الصلوات الخمس وغيرها { ومساجد } يعنى لولا دفع الله الناس بالوجوه السابقة فى سورة البقرة لفسدت الارض وهدم ما كان يعبد فيه فى زمان كل نبى { يذكر فيها اسم الله كثيرا } وصف للمجموع او للمساجد خاصة كأن غيرها لا يذكر فيها اسمه تعالى لاجل كون الشرائع السالفة منسوخة { ولينصرن الله من ينصره } عطف على قوله تعالى:
لولا دفع الله الناس
[البقرة: 251] فانه فى معنى وليدفعن الله، ونصرة العباد لله لا يكون الا بنصرة خلفائه فى العالم الكبير بطاعتهم والاقتداء بهم وتعظيمهم وتعظيم شرائعهم والا بنصرة خلفائه تعالى فى العالم الصغير من الملك الزاجر والعقل الناهى والآمر واللطيفة الانسانية التى هى خليفة الله فى الارض حقيقة، ونصرة الله تعالى للعباد بالتوسعة فى قلوبهم والتوفيق لطاعاته وتهية اسباب الظفر على اعدائه وعلى أعدائهم الظاهرة والباطنة، ولما كان افعال العباد واوصافهم فعل الله الظاهر فى مظاهر العباد كان نصرة العباد لله هى بعينها نصرة الله للعباد وجالبة لنصرة اخرى من الله كما ان خذلان العباد للطيفة الانسانية بعينه خذلان من الله للعباد وجالب لخذلان آخر { إن الله لقوي } فى مقام التعليل لنصرة يعنى انه قادر غير ضعيف عن النصر { عزيز } غالب لا مانع له من نفاذ امره.
[22.41]
{ الذين إن مكناهم في الأرض } صفة او بدل من الذين آمنوا او من الذين يقاتلون، او من الذين اخرجوا، او ممن ينصره، او خبر للذين اخرجوا، او خبر مبتدء محذوف، او مبتدء خبر محذوف، او مفعول فعل محذوف والمراد بالتمكين فى الارض الاقدار على التصرف فيها باى نحو شاؤوا { أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة } قد مضى فى اول البقرة تحقيق تام للصلوة واقامتها وللزكوة وايتائها { وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر } قد أسلفنا فى سورة البقرة عند قوله تعالى
أتأمرون الناس بالبر
[البقرة: 44] بيانا وافيا للامر بالمعروف والنهى عن المنكر، ولما كان معاملة العبد الكامل بينه وبين الله مقصورا على الصلوة والزكوة كما اسلفنا هناك، ومعاملته بينه وبين العباد محصورا على الامر بالمعروف والنهى عن المنكر اذا عمم الامر والنهى للقولى والفعلى بالصراحة او الالتزام حتى يشملا الاحسانات والتحيات والنصيحات اتى فى مديحتهم بهاتين الصفتين ولم يتجاوز عن الصنفين { ولله عاقبة الأمور } جملة حالية ومديحة اخرى، ولام الامور عوض عن المضاف اليه والمعنى اقاموا الصلوة فى حال كون امورهم المذكورة او مطلق امورهم لله ليس فيها شوب قصد للنفس غير الله، او هى عطف او حال، ووعد للمحسن ووعيد للمسيء من غير نظر الى المؤمنين او غيرهم.
[22.42-44]
{ وإن يكذبوك } عطف على مقدر تقديره فان يصدقوك فهو المطلوب وان يكذبوك فلا تحزن فان التكذيب شيمة الانسان ما لم يخرج من انانيته { فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين } امهلتهم واطلت عمرهم { ثم أخذتهم فكيف كان نكير } اى انكارى عليهم ما فعلوا وتبديلى نعمتهم بالنقمة، او كيف كان نقلى اياهم من حال تسرهم الى حال تسوءهم.
[22.45]
{ فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية } خالية مشتملة { على عروشها } اى سقوفها او قصورها او اسرتها، او ساقطة خربة على عروشها يعنى خربة جدرانها على سقوفها، او ابنيتها الدانية على قصورها العالية، او ساقطة على سرر سلاطينها { وبئر معطلة } عطف على قرية اى كأين من بئر معطلة اهلكنا اهلها { وقصر مشيد } اهلكناها وقد فسر البئر المعطلة بالعالم الذى لا يرجع اليه، والقصر المشيد بالعالم الذى يرجع اليه او الجاهل الذى يتشبه بأهل العلم فيرجع اليه، وفسر بالامام الصامت والامام الناطق، وبالامام الغائب والامام الظاهر، وبفاطمة (ع) وولدها (ع) المعطلين عن ملكهم وحقهم، وبأمر المؤمنين (ع) وأولاده (ع) المنتشرة فى الخلق فضائلهم، وبعلم آل محمد (ص) الذى كان معطلا لا يجدون له اهلا، وبمجدهم وسائر صفاتهم المشهورة لكل احد، وبولاية على (ع) ونبوة محمد (ص)، وبحقيقة الدين التى كانت معطلة فى كل شريعة، وبالملة التى كانت مرتفعة فى زمان كل نبى وبعده.
[22.46]
{ أ } يتثبطون عن المشي بالارجل او عن السير بالانظار { أفلم يسيروا } بأرجلهم او بأنظارهم { في الأرض } اى ارض العالم الكبير، او الصغير او ارض القرآن و الاخبار، او ارض السير واحوال الماضين فينظروا الى احوال الماضين محسنيهم ومسيئيهم فيكون ذلك النظر مورثا لتفكرهم وحصول العقول لهم { فتكون لهم قلوب يعقلون بهآ أو آذان يسمعون بها } يعنى فيحصل لهم مقام التحقيق او مقام التقليد والانقياد فان كلا منهما كمال تام للانسان { فإنها } الضمير للقصة او مبهم يفسره الابصار { لا تعمى الأبصار } التى فى الرؤس بترك السير والنظر { ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } او لا تعمى الابصار ان عميت لان لها كوة الى الدنيا وكوة الى الآخرة، واذا عميت منها الكوة التى الى الدنيا وليس المقصود ابصارها بل المقصود ابصار الكوة التى الى الآخرة ولكن تعمى القلوب ان عميت يعنى تعمى الكوة التى الى الآخرة ان عميت القلوب، فى خبر عن السجاد (ع): ان للعبد اربع اعين عينان يبصر بهما دينه ودنياه، وعينان يبصر بهما امر آخرته؛ فاذا أراد الله بعبد خيرا فتح له العينين اللتين فى قلبه فأبصر بهما الغيب وامر آخرته، واذا أراد الله به غير ذلك ترك القلب بما فيه، وعن الصادق (ع): انما شيعتنا اصحاب الاربعة الاعين؛ عينان فى الرأس وعينان فى القلب، الا وان الخلائق كلهم كذلك الا ان الله عزوجل فتح ابصاركم واعمى أبصارهم، وعن الباقر (ع): انما العمى عمى القلب ثم تلا الآية { ويستعجلونك بالعذاب }.
[22.47]
{ ويستعجلونك بالعذاب } المتوعد به وذلك ان رسول الله (ص) اخبرهم ان العذاب أتاهم فقالوا: فاين العذاب؟ والجملة عطف على لم يسيروا { ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون } تقرير لتأنيه وامهاله وبيان لسبب تأنيه او تهديد عن طول العذاب وطول ايامه وقد مضى فى بنى اسرائيل وسيجيء فى سورة السجدة تحقيق لسعة الايام الربوبية.
[22.48]
{ وكأين من قرية أمليت لها } امهلت اهلها كما امهلت قومك { وهي ظالمة } مثل قومك { ثم أخذتها } فى الدنيا قبل الاحتضار بأنواع المؤاخذة وحين الاحتضار بحضور ملائكة العذاب وملك الموت { وإلي المصير } فاعذبها فى الآخرة بأنواع العذاب الموعودة فى الآخرة.
[22.49]
{ قل } بعد تسليته (ص) بان له فى تكذيب قومه اسوة بالانبياء وان المكذبين مؤاخذون وان المستعجلين بالعذاب يمهلون لكن يؤاخذون فى الدنيا والآخرة امره (ص) ان يعلن دعوته وان ينادى قومه ولا يكترث بتكذيبهم فقال قل { يأيها الناس إنمآ أنا لكم نذير مبين } ظاهر الحجة والصدق او مظهر لصدقى وانذارى.
[22.50]
{ فالذين آمنوا } بالايمان العام والبيعة العامة النبوية وهو عطف من الرسول (ص) او من الله على قول الرسول وهذا هو الظاهر من قوله { والذين سعوا في آياتنا } آياتنا { وعملوا الصالحات } التى اخذوها منى بعد البيعة { لهم مغفرة ورزق كريم } الكريم على كل شيء ما يجمع فضائله.
[22.51-52]
{ والذين سعوا في آياتنا } بالرد والابطال والمنع والجحود { معاجزين } من عاجز عدوه اذا تسابقا فى الدفع والتعجيز { أولئك أصحاب الجحيم ومآ أرسلنا من قبلك } عطف على يستعجلونك بالعذاب وتسلية اخرى له (ص) { من رسول ولا نبي } فى قراءة اهل البيت (ع) ولا محدث وقد سبق تحقيق وتفصيل لمراتب الانسان والفرق بين المحدث والنبى والرسول فى سورة البقرة عند قوله
وإثمهمآ أكبر من نفعهما
[البقرة:219] ولقد بينا هناك الاخبار الواردة فى الفرق بين الرسول والنبى والمحدث والامام بان الرسول يسمع الصوت ويرى فى المنام ويعاين الملك فى اليقظة، وان النبى يسمع الصوت ويرى الملك فى المنام ولا يعاين، وان المحدث والامام يسمع صوت الملك ولا يرى ولا يعاين { إلا إذا تمنى } شيئا من مشتهيات القوى الحيوانية او الانسانية من جهة الدنيا او من جهة الآخرة { ألقى الشيطان في أمنيته } شيئا خلاف متمناه اذا حصل او قرب حصوله والآية تسلية للرسول (ص) مما فعله منافقوا امته او يفعلونه به وبشريعته وكتابه وخليفته وعترته فان امنيته (ص) ان لا يخالف امره، ولا يعصى ربه، ولا يغير شريعته وكتابه، وان يتبع خليفته، ويود عترته؛ فانه روى بطريق الخاصة عن امير المؤمنين (ع) فى حديث فيذكر جل ذكره لنبيه (ص) ما يحدثه عدوه فى كتابه من بعده بقوله: وما ارسلنا من قبلك (الآية) انه ما من نبى تمنى مفارقة ما يعاينه من نفاق قومه وعقوقهم والانتقال عنهم الى دار الاقامة الا ألقى الشيطان المعرض بعداوته عند فقده فى الكتاب الذى انزل عليه ذمه والقدح فيه والطعن عليه فينسخ الله ذلك من قلوب المؤمنين فلا تقبله، ولا يصغى اليه غير قلوب المنافقين والجاهلين، ويحكم الله آياته بان يحمى اوليائه من الضلال والعدوان ومشايعة اهل الكفر والطغيان الذين لم يرض الله ان يجعلهم كالانعام حتى قال بل هم اضل، وروى عن ابن عباس وغيره بطريق العامة ان النبى (ص) لما تلا سورة والنجم وبلغ الى قوله
أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى
[النجم:19-20] ألقى الشيطان فى تلاوته تلك الغرانيق العلى وان شفاعتهن لترجى فسر بذلك المشركون فلما انتهى الى السجدة سجد المسلمون وسجد ايضا المشركون لما سمعوا من ذكر الهتهم ما أعجبهم، وقيل: ان تمنى بمعنى تلا يعنى ما من نبى الا اذا تلا آيات كتابه ألقى الشيطان فى تلاوته فانه يستعمل تمنى الكتاب بمعنى قرأه، وهذا الخبر المروى منهم ان صح فهو مؤول بما لا ينافى مقام النبى، والغرانيق جمع مفرده الغرنيق بضم الغين وفتح النون او كزنبور او كقنديل او كسموئل او كفردوس او كقرطاس والكل بمعنى الشاب الحسن الابيض { فينسخ الله ما يلقي الشيطان } اى المبدلون فى كتابه او شريعته بان ينسخ ما ارادوا مما ألقوا من القلوب او ما يلقى الشيطان او الكفار فى تلاوته بان ينسخ اثره من القلوب او ما يلقى الشيطان فى متمناه حين تمنى على (ع) وفاطمة (ع) او ما يلقى الشيطان فى متمنياته من الجهة الدنيوية الحيوانية بان ينسخ تلك الجهة من نظره { ثم يحكم الله آياته } بان لا تتغير ولا تتبدل ولا تزول عن قلوب المؤمنين ولا عن نظر النبى (ص) { والله عليم } يعلم صلاح عباده فى ان يخلى الشيطان حتى يلقى ما يريد فى متمنى النبى (ص) ليختبر بذلك الخالص والمغشوش فيتميز المؤمن عن المنافق { حكيم } لا يفعل الا لغايات متقنة والا بالنظر الى استعدادات مكمونة قدم المعطوف قبل تمام المعطوف عليه لئلا يتوهم متوهم ان هذا الجعل خال من الحكمة.
[22.53]
{ ليجعل ما يلقي الشيطان } يعنى ليس ما يلقى الشيطان خارجا عن اختيارنا وان كان غير مرضى لنا وانما خلينا بينه وبين ما اراد القاءه لنجعل ما يلقى الشيطان { فتنة } الفتنة الاختبار والضلال والاثم والكفر والفضيحة والعذاب والاضلال واذابة الذهب والفضة والمحنة والاختلاف فى الآراء، والكل مناسب ههنا فان الكل يمكن ان يراد { للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم } الذين لم يبق لقلوبهم استعداد الصحة { وإن الظالمين لفي شقاق بعيد } الجملة حالية والمراد بالظالمين الصنفان المذكوران، ووضع الظاهر موضع المضمر اشارة الى وصف ذم آخر لهم والمعنى ألقى الشيطان ذلك لنجعل ما يلقيه فتنة والحال انهم لا يرجى لهم الخير لكونهم فى معاداة او خلاف بعيد.
[22.54]
{ وليعلم الذين أوتوا العلم } الذى هو نور يقذفه الله فى قلب من يشاء او العلم الذى هو تميز دقائق الكثرات واحكامها { أنه } اى الالقاء او الملقى هو { الحق } النازل { من ربك } بصورةالباطل وعلى لسان الشيطان او يده او الضمير راجع الى كتاب النبى (ص) او دينه او استخلافه ويكون التعريض بالقرآن او دين محمد (ص) او استخلافه او خليفته { فيؤمنوا به } اى يذعنوا به وينقادوا له او يبيعون معه البيعة الخاصة او العامة { فتخبت } اى تتبع وتطمئن او تخشع وتتواضع { له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم } مقابل { إن الظالمين لفي شقاق بعيد } يعنى ان الله لهادى الذين اسلموا الى ولاية على (ع) فان الصراط المستقيم هو الولاية تكوينا وتكليفا، او ان الله لهادى الذين آمنوا بقبول الولاية والبيعة الخاصة الولوية وقبول الدعوة الباطنة ودخول الايمان فى القلب الى صراط مستقيم فى كل الامور حتى فى القرآن وما يلقيه الشيطان فى ما يتمناه الرسول (ص) وما يلقيه الشيطان.
[22.55]
{ ولا يزال الذين كفروا } بالله او بك او بكتابك او بما قلت فى خليفتك او بالولاية في مرية { منه } الضمير راجع الى مرجع ضمير انه الحق من ربك { حتى تأتيهم الساعة } يعنى ساعة الموت وهى ساعة ظهور القائم (ع) وقيام القيامة الصغرى { بغتة } اى فجاءة { أو يأتيهم عذاب يوم عقيم } قيل المراد يوم بدر لانه لم يكن فيه خير للكفار فكان عقيما من الخير، او لم يكن مثله للكفار فى الشدة وخلاف الحسبان فكان عقيما من المثل، وقيل: المراد به يوم القيامة وسمى عقيما لانه لا ليل له او لا نظير له، او لانه لا يلد خيرا للكفار ولا شرا للابرار.
[22.56]
{ الملك يومئذ } يوم الاحتضار او يوم القيامة وهو المناسب لما بعده فلا بد ان يفسر الساعة او اليوم العقيم بيوم القيامة { لله يحكم بينهم فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم } تفصيل لحكمه تعالى.
[22.57]
لما كان المقام مقام التشديد على الكفار ومن يلقى فى متمنى المؤمنين اتى فى جانب الكفار بالفاء فى الخبر واتى باسم الاشارة فيه.
[22.58]
{ والذين هاجروا في سبيل الله } بعدما آمنوا { ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين } لاجتماع جهات الخير فيه لانه مالك لجميع الارزاق ومعط لما يستحقه المرزوق، وبقدر ما يحتاج اليه، ولعلمه بحاجات المرزوق جملة، ولاعطائه بلا عوض ولا غرض من المرزوق وغيره، ولاعطائه ما يحتاج المرتزق فى ارتزاقه كما قيل:
لقمه بخشى آيد از هركس بكس
حلق بخشى كار يزدانست وبس
حلق بخشد جسم راو روح را
حلق بخشد بهر هر عضوى جدا
كوه طور اندر تجلى حلق يافت
تا كه مى نوشيدو مى را بر نتافت
اين كهى بخشد كه اجلالى شود
از دغا واز دغل خالى شود
ولان الرزق ليس الا فى يده ولان رزقه فوق ما يتصور المتصورون فى الحسن والالتذاذ به اتى بهذه الجملة معطوفة او حالا بعد توصيف الرزق بالحسن تفخيما لشأن رزقه وتأكيدا لحسنه.
[22.59]
{ ليدخلنهم مدخلا } مفعول به او مفعول مطلق والمفعول به محذوف، وقرئ مدخلا من المجرد ومن باب الافعال { يرضونه وإن الله لعليم } باحوال المقاتلين لهم وباحوالهم لكنه { حليم } لا يعجل بعقوبة المقاتلين ويرضى من عباده الحلم وعدم تعجيل المكافاة ممن اساء اليهم او قاتلهم، اتى به ههنا عطفا او حالا مقدمة لما بعده.
[22.60]
{ ذلك } قد مضى قبيل هذا نظيره { ومن عاقب } اى جازى الظالم { بمثل ما عوقب به } اى بمثل ما ظلم به سماه عقابا مع ان العقاب يستعمل فى الجزاء بمشاكله قوله: من عاقب { ثم بغي عليه } اى على من عاقب ماكافاة او على من ظلم ابتداء فانه وان لم يذكر صريحا لكنه مذكور بالالتزام { لينصرنه الله } اى لينصرن الله المعاقب او الظالم ابتداء { إن الله لعفو غفور } جواب لسؤال مقدر فى مقام التعليل يعنى ينصر الله المعاقب المقتص الذى بغى عليه لانه عفو لزلاته اللازمة له من اتباعه الهوى فى الامتصاص حيث كان المرضى منه العفو او ينصر الظالم بعد البغى عليه لانه يعفو عن ظلمه بعد ما عوقب بمثل ظلمه.
[22.61]
{ ذلك } يعنى الاذن فى القصاص والنصر للمقتص ان بغى عليه او للظالم بعد الاقتصاص منه ان بغى عليه { ب } سبب { أن الله } لا غيره { يولج الليل في النهار } اى يدخل ليل الاقتصاص مكان نهار العفو، او ليل الظلم مكان نهار العدل، او ينقص من ليل الرذائل ويزيد فى نهار الخصائل { ويولج النهار في الليل } ويدخل او ينقص من نهار الخصائل ويزيد فى ليل الرذائل فاقتصاص المقتص وظلم الظالم كلاهما كانا بتسخير الله وامره التكوينى فان فعل بأحدهما زائدا على قدر الترخيص يعاقب بنصر من بغى عليه وقد مضى فى سورة آل عمران تفصيل لليل والنهار فى نظير الآية { وأن الله سميع } لما يقوله الباغى والمقتص والمقتص منه { بصير } بما يفعله.
[22.62]
{ ذلك } الايلاج والسمع والبصر { بأن الله هو الحق } الكامل فى الحقية بحيث لا يشوبه باطل { وأن ما يدعون من دونه } من الاهوية والآمال الداعية للاصنام والاصنام والكواكب والعناصر وخصوصا رؤساء الضلالة { هو الباطل } الكامل فى البطلان بحيث لا يشوبه حق، والحق الذى لا يشوبه بطلان لا يعزب عن حيطة وجوده وعلمه وقدرته شيء من الاشياء فيبصر كل المبصرات ويسمع كل المسموعات ويقدر على كل المقدورات { وأن الله هو العلي } الذى يعلو كل شيء ويحيط به فيعلمه ويقدر على التصرف فيه بأى نحو شاء { الكبير } الذى كل كبير حقير عنده ومطيع ومنقاد لأمره.
[22.63]
{ ألم تر أن الله أنزل من السمآء مآء } تقرير لعلوه وكبره واحاطة علمه وسمعه وبصره { فتصبح الأرض مخضرة } لا يخفى تعميم الماء والسماء والارض واخضراره بين الصورية والمعنوية فى الكبير والصغير { إن الله لطيف } فى ذاته فلا يدركه مدرك لطيف فى صفاته لطيف فى فعاله فلا يدرك دقائق صنعه والغايات المترتبة عليه والحكم المودعة فيه الا هو { خبير } يعلم بخبرته دقائق كل موجود ومصالح كل مصنوع له.
[22.64]
{ له } بدوا ورجوعا وملكا { ما في السماوات } يعنى السماوات وما فيها كما سبق مكررا انه اذا قيل لزيد: ما فى الصندوق؟- يقصد الصندوق وما فيها خصوصا اذا كان ما فى الصندوق نفيسا { وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد } بذاته من غير حاجة له الى ما فى السماوات وما فى الارض فى ذاته او فى محموديته.
[22.65]
{ ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض } تقرير لمالكيته ومبدئيته وغنائه عما فى الارض وان ايجاد ما فى الارض وتسخيره للانسان والخطاب لمحمد (ص) او لكل من يتأتى منه الخطاب { والفلك } قرئ بالنصب عطفا على ما فى الارض او على اسم ان، وبالرفع مبتدءا { تجري } مستأنف او حال او خبر { في البحر بأمره } التكوينى فان طفو الاخشاب وخرقها للماء وتحريك الرياح او البخار لها كلها بأمره التكوينى { ويمسك السمآء } من الافلاك والكواكب والسحاب وامطارها كلها فى احيازها ومراكزها { أن تقع على الأرض } اى من الوقوع عليها { إلا بإذنه } يعنى اذا اذن الله فى وقوعها على الارض تقع عليها فلا بد من تعميم السماء والارض حتى يصح هذا بان يقال: ان الله يمسك السماء من الافلاك وكواكبها وآثارها، ومن النفوس والعقول والارواح وآثارها من الوقوع على أرض التراب وعلى اراضى المواد من جملة العناصر والافلاك والنطف والبذور والعروق وجملة المواليد الا باذنه فان لم يأذن لم يتصل اثر بذى اثر ولا قوة بذى قوة ولا طبع بذى طبع، ولا نفس وعقل بذى نفس وعقل { إن الله بالناس لرءوف رحيم } تعليل لتسخيره الاشياء للانسان وامساك السماء، والفرق بين الرأفة والرحمة بان يجعل احداهما سجية الرحمة والاخرى اثرها الظاهر على الاعضاء وان كان يستعمل كل فى كل كسائر السجايا.
[22.66]
{ وهو الذي أحياكم } من الجمادية بالحيوة الحيوانية، او من الحيوانية بالحيوة البشرية، او من البشرية بالحيوة الانسانية { ثم يميتكم } عن الحيوة الحيوانية والبشرية عند الموت، او عن الحيوة الانسانية ايضا عند النفخة الاولى { ثم يحييكم } بالحيوة الانسانية او البهيمية او السبعية او الشيطانية عند الرجعة { إن الإنسان لكفور } نعمة الاحياء الاول، ولذلك لا يتنبه لنعمة الاحياء الثانى وهو جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: ما حال الانسان ايشكر ام يكفر؟- او ان الانسان لجحود يعنى سجيته الجحود لانه يجحد الاعادة والمبدء مع الادلة الواضحة على الابداء والاعادة.
[22.67]
{ لكل أمة } كلام منقطع عن سابقه لفظا ومعنى او جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: هل جعل الله طريقا الى ادراك الاحياء بعد الاماتة او الى الوصول الى خيراته بعد الاحياء الثانى؟- فقال: لكل امة { جعلنا منسكا } عبادة او شرعة من العبادات او ذبيحة يتقربون بها، او مكان عبادة، او محل ذبح وقربان { هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر } اى امر عبادتك او امر حجك او شريعتك او مساجدك او ذبيحتك فان كل امة كان ذلك لهم وقد اختلفوا فى الكل بحسب اقتضاء الوقت والمكان والحال يعنى لا ينبغى لهم ان ينازعوك ولا ينبغى لك ان تضطرب بمنازعتهم وتتوانى فى دعوتهم فاثبت على ما انت عليه { وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم } الجملة استيناف جواب لسؤال مقدر فى مقام التعليل.
[22.68-69]
{ وإن جادلوك } فى امر الذبيحة او فى مكانها او فى اكل الذبيحة دون الميتة بقوله: مالكم تأكلون ما تقتلون بأيديكم ولا تأكلون ما يقتله الله؟ او فى سائر ما فسر المنسك به { فقل } على سبيل المتاركة وعدم التعرض للمجادلة { الله أعلم بما تعملون الله يحكم } استيناف فى مقام التعليل كأنه قيل: لم تركت الجواب والتعرض للجدال؟- فقال: لان الله يحكم { بينكم } اى بيننا وبينكم او بينكم ايها المتخالفون { يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون } اى فيما كنتم تخالفون معى او فيما كنتم تختلفون بينكم.
[22.70]
{ ألم تعلم } من جملة ما امر الرسول (ص) ان يقوله لهم، او ابتداء كلام من الله معهم والخطاب عام او خاص بالرسول (ص) { أن الله يعلم ما في السمآء والأرض } فيعلم اختلافكم فيحكم بينكم { إن ذلك في كتاب } تأكيد لعلمه تعالى او تعليل له { إن ذلك على الله يسير } جواب سؤال عن حاله تعالى او عن علة ثبته ذلك فى الكتاب.
[22.71]
{ ويعبدون } عطف على جملة ان جادلوك كأنه قال: ويجادلونك ويعبدون { من دون الله } ظرف لغو متعلق بيعبدون، ولفظة من ابتدائية اى يعبدون من دون اذن الله او حال من قوله { ما لم ينزل به سلطانا } ولفظة الباء سببية، او بمعنى مع، او بمعنى فى، والسلطان بمعنى الحجة والبرهان، او بمعنى الاستقلال والسلطنة، والقيد تقييد لا بيان يعنى يعبدون عبادة اعم من عبادة عبودية وعبادة طاعة معبودا ومطاعا لم ينزل معه برهانا على جواز طاعته او عبادته من الاصنام والكواكب والعناصر والمواليد من النبات والحيوان والانسان يعنى انهم ان عبدوا ما كان معه حجة الهية واذن الهى فى معبوديته ومطاعيته لم يكونوا مذمومين، نسب الى موسى بن جعفر (ع) انه قال: لما نزلت هذه الآية لكل امة جعلنا منسكا جمعهم رسول الله (ص) ثم قال: يا معشر الانصار والمهاجرين ان الله تعالى يقول: لكل امة جعلنا منسكا هم ناسكوه والمنسك هو الامام، ولكل امة نبيها حتى يدركه نبى الا وان لزوم الامام وطاعته هو الدين وهو المنسك، وعلى بن ابى طالب (ع) امامكم بعدى فانى ادعوكم الى هداه فانه على هدى مستقيم فقام القوم يتعجبون من ذلك ويقولون واذن لننازعن ولا نرضى طاعته ابدا وكان رسول الله (ص) يضيق به فأنزل الله عز وجل
ادع إلى سبيل ربك
[النحل:125] (الى آخر الآيات) وعلى هذا فليفسر الآيات هكذا لكل امة جعلنا اماما هم مقتدون به وجعلنا لامتك عليا (ع) اماما يقتدون به فلا ينازعنك فى امر امامته وادع الى ربك فى الولاية انك لعلى هدى مستقيم فى ولاية على (ع) واستخلافه وان جادلوك فى ولاية على (ع) فلا تجادل معهم وقل: الله اعلم بما تعملون بعدى فى حق على (ع) الله يحكم بينكم اى بين على (ع) واتباعه وبينكم فيما كنتم فيه من امر الولاية تختلفون، ويعبدون بعد وفاتك عبادة طاعة من دون اذن الله تعالى خليفة لم ينزل الله على خلافته حجة او لم يجعل فى وجوده سلطنة على غيره { وما ليس لهم به } اى خليفة ليس لهم به من جهة خلافته ومطاعيته { علم } يعنى ان المطاع لا بد وان يكون مأذونا من الله وان يحصل للمطيع علم بكونه مأذونا من الله فمن اطاع مطاعا علم انه لم يكن مأذونا من الله او مطاعا لم يعلم انه مأذون او غير مأذون كان مشركا وظالما، لانه وضع طاعته التى هى اعظم الحقوق فى غير موضعها الذى هو من لم يكن مأذونا من الله او لم يعلم مأذونيته ومنعها عن ذيحقه الذى هو الامام المأذون من الله { وما للظالمين } الذين وضعوا طاعتهم غير موضعها { من نصير } فى امر الآخرة فان النصير هو الامام او من نصبه الامام للنصرة.
[22.72]
{ وإذا تتلى عليهم آياتنا } فى ولاية على (ع) { بينات } واضحات او موضحات لولايته { تعرف في وجوه الذين كفروا } بولايته { المنكر } المنكر من كل شيء ما لا يرضاه العقل او العرف { يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا } لشدة غيظهم { قل أفأنبئكم بشر من ذلكم } الخبر الشديد المورث لغيظكم { النار } قرئ بالرفع خبرا لمحذوف او مبتدء خبر ما بعده، وقرئ بالنصب على الاختصاص وبالجر بدلا من شر { وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير } نسب الى الكاظم (ع) انه قال فى قول الله تعالى: { وإذا تتلى عليهم آياتنا } (الآية) كان القوم اذا نزلت فى امير المؤمنين (ع) آية فى كتاب الله فيها فرض طاعته او فضيلة فيه او فى اهله سخطوا ذلك وكرهوا حتى هموا به وارادوا به وارادوا برسول الله (ص) ايضا ليله العقبة غيظا وخنقا وغضبا وحسدا حتى نزلت هذه الآية يعنى الآية السابقة.
[22.73]
{ يأيها الناس } بعدما اوعد الكفار بولاية على (ع) نادى الناس عموما فقال { ضرب مثل } لبيان حالهم وحال على (ع) { فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له } بالتعاون مثل حال منافقى الامة بحال الاصنام التى لا تقدر على احقر ما يكون { وإن يسلبهم الذباب } الذى هو مثل على (ع) فى ضعف حاله وفى كونه كرارا غير فرار كلما ذب آب { شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب } الذى يدعو مثل هذا المدعو الذى لا يقدر على شيء حقير { والمطلوب } الذى لا يقدر على خلق احقر ولا دفعه عن نفسه.
[22.74]
{ ما قدروا الله } حال او مستأنف جواب لسؤال مقدر والمقصود بقرينة المقابلة ما قدروا عليا (ع) { حق قدره } حيث عدلوا به مثال الاصنام التى لا تقدر على شيء { إن الله } فى مظهر خليفته الذى هو على (ع) { لقوي } ذو قدرة على اى مقدور اراد { عزيز } لا يمنعه مانع من مراده فكيف تشركون بها القوى العزيز مثل هذا الضعيف العاجز الذى لا يمنع مثل الذباب عن السلب منه، ولو لم يكن هذا التمثيل مرادا وكان المرادان الاصنام التى تلطخونها بالزعفران لا تقدر على خلق مثل الذباب وان يسلبها الذباب الزعفران لا يستنقذوه منه لما كان لقوله ضرب مثل فاستمعوا له مساغا، وعلى ما ذكرنا لم يكن حاجة الى تأويل فى قوله ضرب مثل ولا بيان لقوله ضعف الطالب والمطلوب وقد اشير فى الخبر الى ما ذكرنا.
[22.75]
{ الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس } يعنى ان اصطفاء الرسل (ع) سواء كانوا من الملائكة ام من الناس مقصور على الله فما لكم لا تكلون امر الخلافة التى هى رسالة من الله الى الله وتختلقون بآرائكم خليفة { إن الله سميع } باقوال جميع العباد من الملائكة والناس فله ان يصطفى للرسالة لانه يسمع ما يقوله الرسول والمرسل اليهم { بصير } بدقائق مكمونات الكل فلا يخفى عليه شيء من المكمونات حتى تقع خيرية على غير الاصلح ويقع الخطاء فى اختيار الخليفة بخلافكم، ويجوز على ما فسرنا الآية السابقة ان يفسر هذه الآية هكذا الله فى مظهر خليفته الذى هو على (ع) يصطفى من الملائكة رسلا مرسلا الى الانبياء والاوصياء (ع) والى العوالم من عالم الطبع والملكوتين لتدبير امورها وقضاء ما يلزم قضاؤه، ومن الناس رسلا الى العباد من الانبياء والرسل ومن اوصيائهم ومشايخهم ان الله فى مظهر على (ع) سميع بصير، وقد تكرر فيما مضى ان عليا (ع) بعلويته هو المشية وهى تسمى بوجهها الى الخلق بعلى (ع) وبوجهها الى الغيب بالله.
[22.76]
{ يعلم ما بين أيديهم } يعنى يعلم فى مظهره الذى هو على (ع) ما بين ايديهم اى ما بين ايدى الناس او ما بين ايدى الملائكة والناس من الدنيا او الآخرة او من الماضى او المستقبل { وما خلفهم وإلى الله } فى مظهره { ترجع الأمور } وقد ورد فى خطبة منه (ع) اياب الخلق الى وحسابهم على ثم نادى عليا (ع) ورسله الذين هم المؤمنون حقيقة تلطفا وتشريفا لهم وتفخيما لشأنهم بذكر اوصافهم الفخيمة وفضله العظيم بالنسبة اليهم فقال { يأيها الذين آمنوا اركعوا... }.
[22.77]
{ يأيها الذين آمنوا اركعوا } ركوع الصلوة او تواضعوا لربكم { واسجدوا } سجدة الصلوة او تواضعوا غاية التواضع لربكم { واعبدوا ربكم } اى اخرجوا من انانياتكم بركوعكم وسجودكم وصيروا احرارا من عبودية انفسكم وعبيدا لربكم { وافعلوا الخير لعلكم تفلحون } قد مضى مكررا ان الترجى من الله واجب. اعلم ان الآية الشريفة اشارة الى مراتب السالكين واسفارهم فان اسفارهم وان كانت لا حد لها ولا نهاية لكنها بحسب الامهات محصورة فى اربعة كما اسلفنا ذلك مكررا؛ الاول السفر من الخلق الى الحق وفى هذا السفر ينكسر الانانية التى هى من الخلق بحيث لم يبق نسبة الفعل الى نفس السالك بل يرى الفعل من الفاعل الظاهر فى وجوده وحينئذ ينتهى سفره من الخلق الى الحق، وبعد هذا يكون السفر من الحق الى الحق وفى هذا السفر ينكسر انانيته التى هى رؤية الوجود لذاته ورؤية ذاته وما دام ذاته تكون باقية يكون سفره من الحق الى الحق ولم يكن عبدا لبقاء انانية ما عليه فاذا انتهى فى هذا السفر بحيث لم يبق له ذات واثر من ذاته صار عبدا لله فانيا من ذاته ويكون سفره بعد ذلك فى الحق، فان ادركته العناية الالهية وابقاه بعد فنائه يصير محسنا وفاعلا للخيرات فانه فى السفر الاول والثانى بواسطة بقاء الانانية لم يكن فعله خيرا على الاطلاق، وفى السفر الثالث لم يكن فعله منه حتى يكون فاعلا لشيء وفى هذا السفر وهو السفر بالحق فى الخلق يكون له انانية بانانية الله وفاعلية الله ويكون فعله خيرا على الاطلاق والى هذه الاربعة اشارت الآية فانه تعالى اشار بقوله: اركعوا الى السفر من الخلق الى الحق، وبقوله: اسجدوا الذى هو خروج من الانانية حتى من نسبة الذات الى النفس الى السفر من الحق الى الحق، وبقوله: واعبدوا ربكم الى السير بالحق فى الحق، وبقوله: وافعلوا الخير الى السير بالحق فى الخلق، ولا ينافى ذلك الخطاب كمال الكامل حتى ينافى تفسير الآية بالائمة (ع) فان الكامل لكونه جامعا لجميع المراتب يكون له على سبيل الاستمرار سير من الخلق الى الحق وسير مع الحق فى الخلق، وقد اشرنا فى المقدمات وفى تفسير الفاتحة وفيما بعدها الى الاسفار وكيفية السلوك فيها.
[22.78]
{ وجاهدوا في الله حق جهاده } لما كان الخطاب لآل محمد (ص) خاطبهم بهذا الخطاب والا فمثل هذا التكليف لغيرهم تكليف بما لا يطاق بل يقال لهم: جاهدوا فى الله حق جهادكم لا حق جهاده فان حق الجهاد فى الله على الاطلاق وحق الجهاد اللائق بالله ان لا يبقى شيء من انانية العبد ويبقى بعد فنائه بحيث يلاحظ الحق فى الخلق والخلق فى الحق من دون نقصان لشيء منهما، ولحاظ الوحدة والكثرة على ما ينبغى لا يتيسر الا لصاحب الجمع المطلق يعنى صاحب الولاية الكلية والرسالة الكلية كما قيل:
جمع صورت باجنين معنى زرف
مى نيايد جز زسلطان شكرف
{ هو اجتباكم } استيناف فى مقام التعليل { وما جعل عليكم في الدين من حرج } عطف على قوله هو اجتباكم ويفيد التعليل ايضا والدين كما سبق مكررا عبارة عن صورة الملة التى هى الاحكام القالبية الاسلامية، وعن احكام الايمان القلبية، وعن طريق النفس الى القلب، والقلب الى الروح! والروح الى العقل، وهكذا، وما جعل الله لاحد فى شيء من ذلك حرجا فان التكليف بقدر الوسع، واذا بلغ السالك الى الطريق كان له وسعة لا يتصور سعة مثلها فانه ما دام يكون سالكا الى الطريق يكون فى ضيق وحرج وقبض وقلق، واذا بلغ الى الطريق الى الله وهو مثال شيخه وملكوته تبدل ضيقه بالسعة وقبضه بالبسط وقلقه بالاطمينان، وتعبه بالراحة؛ رزقنا الله وجميع المؤمنين { ملة أبيكم إبراهيم } فى هذا اشارة الى ان تنزيل الآية لاهل بيت محمد (ص) كما فسروها لنا واذا اريد بالابوة الابوة الروحانية كان التفسير صرفا من التنزيل الى التأويل وتصدق هذه النسبة على من صار منتسبا الى ابراهيم (ع) بالبنوة، وهذا الانتساب لا يكون الا اذا صدق الاتصال بالبيعة العامة ان لم نقل بلزوم البيعة الخاصة الولوية فى صدق هذه النسبة { هو } اى ابراهيم (ع) او الله { سماكم المسلمين من قبل } يعنى من قبل هذا الزمان او من قبل القرآن او من قبل هذا العالم فى العوالم العالية { وفي هذا } الزمان او القرآن او العالم، وتسمية ابراهيم (ع) لهم مسلمين فى هذا الزمان بواسطة بقاء هذا الاسم لهم منه فى هذا الزمان { ليكون } تعليل للاوامر السابقة، او للمدائح اللائقة، او للمجموع يعنى جاهدوا ليكون { الرسول } واجتباكم ليكون الرسول (ص) { شهيدا عليكم وتكونوا شهدآء على الناس } هذا ايضا يدل على اختصاص الآية بالائمة (ع) { فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } قد مضى فى اول البقرة بيان الصلوة واقسامها واقامتها وبيان الزكوة واطوارها وايتائها { واعتصموا بالله } بالاعتصام بالولاية فان الاعتصام بالله باعتبار مقام الغيب لا يتصور للانسان ما كان شاعرا بذاته فالمراد الاعتصام بخلفائه والاعتصام بطريقه الذى هو طريق الولاية { هو مولاكم فنعم المولى } يعنى اذا كان موليكم فنعم المولى { ونعم النصير } هو.
[23 - سورة المؤمنون]
[23.1]
بالايمان الخاص والبيعة الولوية وقبول الدعوة الباطنة فان المؤمن بمعنى المسلم ان كان واقفا على اسلامه غير سالك او واصل الى الايمان لم يكن له فلاح ولم يكن منفعته سوى المنافع الراجعة الى الدنيا من حفظ الدم وجواز التناكح والتوارث والمعاملة نحو معاملة المسلمين من عدم جواز غيبته وهتك عرضه وغير ذلك، والتوصيف بالاوصاف الآتية يدل على ارادة الايمان الخاص.
[23.2-4]
{ الذين هم في صلاتهم خاشعون } الصلوة بمعنى الدعاء اى دعاء الله للحضور عند الداعى وبمعنى كل ما به يدعى الله من فعل او قول او هيئة او فكر او تخيل ولما كانت الصلوة المشروعة القالبية مركبة من هيأت وافعال واقوال كلها ما به يدعى الله للحضور عنده سميت صلوة، وكذلك الذكر المأخوذ من صاحب الاجازة سواء كان جليا ام خفيا، وهكذا الفكر المصطلح للصوفية من تمثل ملكوت الشيخ عند السالك سواء كان بتعمل من السالك او بغير تعمل منه، ولما كان المقصود من دعاء الله باى صورة كان دخوله فى بيت قلب الداعى او حضور الداعى عنده، وحضور السالك عند الله لا يكون الا بكسر انانيته والخروج من وجوده ولا يكون ذلك الا بالمحبة لله واستشعار الهيبته منه قال الذين هم فى صلوتهم خاشعون لان الخشوع حالة حاصلة من محبة من يخشع له واستشعار الهيبة منه ولا تكون هذه الحال الا مع كسر انانية الخاشع فلو لم يخشع الداعى فى دعائه كان دعاؤه لغوا فالمصلى بالصلوة القالبية الشرعية لما كان قيامه فى الصلوة قيام من يقوم عند الملك المقتدر، وتكبيره اظهارا واستشعارا بعظمة الله بمعنى ان ليس فى ذكره سوى الله ولذلك سمى بتكبيرة الاحرام وكان اقواله كلها دعاء وتضرعا على الله وركوعه وسجوده تواضعا لعظمة الله كان هذا العمل منه لغوا واستهزاء بالله ان لم يكن حاله موافقا لفعله ، ولذلك عقب قوله الذين هم فى صلوتهم خاشعون بقوله { والذين هم عن اللغو معرضون } مقدما على قوله { والذين هم للزكاة فاعلون } مع ان الانسب بذكر الصلوة ان يكون الزكوة عقيبها، واللغو فعل او قول لا يعتد به ولا يترتب عليه فائدته المطلوب منه، ولما كان فائدة الصلوة الخروج من الانانية والعروج الى الملكوت والحضور عند المعبود وكان الاشتغال بالغير والتفات الخيال الى الكثرات منافيا لتلك الفائدة ومسقطا لها كان الصلوة بهذه الحال لغوا؛ فعلى هذا كان قوله: { الذين هم عن اللغو معرضون } تأكيدا لمفهوم قوله { الذين هم في صلاتهم خاشعون } ، وقد سبق فى اول البقرة تفصيل تام للصلوة واقسامها والزكوة وانواعها، واللام فى قوله للزكوة فاعلون زائدة للتقوية او هى للتعليل، والزكوة ههنا بمعنى النماء او الطهارة او الصلاح او التنعم او فضول المال الذى تخرجه لتطهر باقيه ولم يقل للزكوة مؤتون ليذهب ذهن السامع الى كل المعانى والمحتملات.
[23.5]
جمع الفرج بمعنى العورة وهى كل سوأة من المرء والمرأة ينبغى حفظها عن النظر اليها والمراد حفظها عن الوطى او عن النظر اليها.
[23.6]
{ إلا على أزواجهم } لما جعل متعلق الحفظ مثل الاطلاق والاسترسال استثنى المجرور بعلى نحو الاستثناء المفرغ يعنى الذين هم حافظون فروجهم عن الاطلاق وعدم الامساك الا على ازواجهم يعنى لا يحفظونها عن الاطلاق على ازواجهم، وقيل: ان لفظة على ههنا مثل على فى قوله: احفظ على عنان فرسى فان الحبس على الازواج يفيد هذا المقصود { أو ما ملكت أيمانهم } من الاماء لا العبيد وجاء بما للاشعار بانهن من تلك الحيثية كسائر الحيوان فى معاملتهن معاملة غير ذوى العقول، والآية مجملة فانها مطلقة عن بيان الحالات التى تحرم الازواج والاماء فى تلك الحالات { فإنهم غير ملومين } نفى اللوم عنهم مع ان المضاجعة ان كانت بأمر الله ومن الجهة التى ارتضاها الله كان صاحبها مأجورا لان اكثر الناس لم تكن مضاجعتهم الا محض تشهى النفس كسائر افعالهم فلم يكن لهم اجر فيها.
[23.7]
{ فمن ابتغى ورآء ذلك } المذكور من الاسترسال على الازواج والمماليك { فأولئك هم العادون } اى الظالمون او المتجاوزون عن حدود الله.
[23.8]
الامانات كما فى سورة النساء وسيأتى فى سورة الاحزاب عبارة عن كل ما استودع عند انسان ليكون محفوظا سالما ناميا لصاحبه، واذا طالبه صاحبه سلمه له، وتصدق على الامانات الصورية التى يستودعها بعض الناس عند بعض وعلى الامانات التى استودعها الله عند عباده وامائه تكوينا من الامانة الاصلية التى هى اللطيفة السيارة الانسانية التى عرضها الله على السماوات والارض والجبال فأبين من حملها وحملها الانسان ومن سائر ما انعم الله به على عباده من الاعضاء والجوارح والقوى والمدارك والعلوم والمناسك التكوينية، ومن الامانات التى استودعها الله عند عباده بتوسط خلفائه ومظاهره من الاحكام القالبية النبوية، والقلبية الولوية، والاذكار الجلية والخفية، وودائع الوصاية التى استودعها كل امام لامام آخر والمراد بالعهد كما سبق مكررا هو البيعة العامة والخاصة فان العهد المنظور اليه والمسؤل عنه هو الميثاق الذى يحصل بين الانسان وبين الله بتوسط مظاهره بالبيعة على ايديهم وسائر العهود والعقود مثل النذور والعهود وسائر العقود الواقعة بين العباد مقصودة تبعا، ومراعاة الامانة بان لا يقصر فى حفظها وانمائها ان كانت صاحبة نماء وبتحمل ما تحتاج اليه من المأكول والمشروب او المخزن واغلاق الباب والنقل من مكان الى مكان ان كانت مما تحتاج الى ذلك، ومراعاة العهد بان لا يتركه ولا يترك شروطه ولا ينقصه.
[23.9]
{ والذين هم على صلواتهم } قرئ مفردا وجمعا { يحافظون } ولما كان المفرد المضاف الغير المراد به فردا معينا او فردا ما مفيدا للعموم لم يكن بين الجمع والمفرد فرق، والمحافظة المواظبة على الشيء بالذب عنه والحفظ له عن الضياع والمحافظة على الصلوات القالبية والصدرية والقلبية بالذب عنها ودفع الشياطين الجنية والانسية عن المداخلة فيها وحفظ اوقاتها وحفظ حدود كل منها والدوام عليها على كل بحسبه بان لا يترك الصلوة القالبية فى اوقاتها ولا يغفل عن الصلوات الصدرية والقلبية الذكرية والفكرية، وكرر ذكر الصلوة بذكرها اولا بوصف الخشوع فيها الذى هو من احكامها الباطنة، واخيرا بوصف الحفظ عليها الذى هو اعم من حفظ صورتها واحكامها الظاهرة وحفظ معنيها واحكامها الباطنة للاهتمام بشأنها، وللاشارة الى انها ينبغى ان تكون مفتتح الكل ومختتمها، والاتيان بالمضارع ههنا للاشارة الى ان مخلات الصلوة الباطنة والظاهرة متجددة الحدوث استمرارا والمحافظة عليها من اخلال مخلاتها ينبغى ان تكون متجددة الحدوث استمرارا بخلاف سائر الاوصاف.
[23.10]
{ أولئك } العظماء المحضرون باوصافهم العظيمة { هم الوارثون } حقيقة لا غيرهم فان وراثة غيرهم ان كانت من قبيل وراثة الاموال الصورية او الدركات الاخروية الجحيمية لم تكن معدودة من الوراثة، وان كانت من قبيل وراثة درجات الجنان لم تكن وراثة بل كان تطفلا لاولئك العظام فأتى باسم الاشارة البعيدة اشارة الى تفخيمهم واحضارا لهم باوصافهم الحميدة، واتى بضمير الفصل تأكيدا للحكم واشعارا بالحصر، وتعريف المسند ايضا يفيد الحصر.
[23.11]
{ الذين يرثون الفردوس } لم يقل هم الوارثون للفردوس لايهام انهم هم الوارثون لجميع ما يمكن ان يورث ليكون ابلغ فى مدحهم، والفردوس يطلق على الاودية التى تنبت ضروبا من النبت، والبستان الذى يكون فيه جميع ما يكون فى البساتين، وعلى طبقات الجنان، وعلى الطبقة العليا منها ويؤنث ويذكر وهو عربى او رومى او سريانى معرب { هم فيها خالدون } اتى به اشارة الى تمام النعمة فان تمامها بعدم زوالها.
اعلم، ان الانسان من بدو خلقته التى هى خلقة نطفته واولى مادته وقرارها فى قرار مكين يكون بالقوة فى جميع ما يمكن ان يحصل للانسان وكل آن يحصل له فعلية من فعليات الانسانية التى هى فعليات الولاية، وكل فعلية تحصل له تكون مرتبة من الولاية التكوينية التى هى سارية فى جميع الموجودات وبكل بعد من مرتبة المادة وقرب من الولاية يحصل له فعلية من فعليات الولاية ويخلع عنه نقص وعدم من اعدام المادة، وحصول كل فعلية له نحو وراثة من ابيه الذى هو الولاية المطلقة التى هى المشية وهذا الخلع وتلك الوراثة مستمران له الى اوان المراهقة وزمان البلوغ وتميز الخير والشر الانسانيين، فاذا وصل الى ذلك وقع بين تصرف الملك والشيطان وبين النسبة الى الرحمن والنسبة الى الشيطان بالقوة فاذا تصرف فيه الشيطان صار نسبته اليه بالفعل وكلما حصل له فعلية من تصرف الشيطان صار تلك الفعلية ارثا له من الشيطان، وكلما زاد تصرف الشيطان واشتد بحسبها الفعليات الحاصلة له من الشيطان حتى اذا حصل له جميع الفعليات المناسبة لدركات النيران وتمكن فى اتباع الشيطان فيصير وارثا لجميع مال الشيطان وجميع مراتبه بحيث يصير الشيطان من اجزائه واظلاله، واذا تصرف فيه الرحمن صار نسبته اليه بالفعل وكلما حصل له فعلية من تصرف الرحمن صار تلك الفعلية ارثا له من الرحمن، لكن لما كان الشيطان اقرب اليه حين البلوغ من الرحمن جعل الله وسائط بينه وبين خلقه من الانبياء والاوصياء (ع) حتى يكونوا بظاهر بشريتهم موافقين للعباد ويكون العباد مدركين لهم بمداركهم الحيوانية حتى يأنسوا بهم ويتوسلوا الى الله بالتوسل بهم ويكون الرسل (ع) وخلفاؤهم معاونين لهم فى قبول تصرف الرحمن، فمن توسل بهم بالبيعة العامة او البيعة الخاصة تعرض لتصرف الرحمن وحصل النسبة بينه وبين الرحمن وبتلك النسبة يصير ابنا لمن بايع معه البيعة العامة او الخاصة وكلما حصل له من جهة تلك النسبة من الفعليات كان فعلية الولاية والرحمن وكان ارثا له من صاحب الولاية المطلقة حتى حصل له جميع فعليات الولاية المطلقة من طبقات الجنان، والفرق بين هذا الارث والارث الدنيوى الصورى ان الارث الصورى لا يحصل للانسان ما دام المورث لم يرفع يده بالموت عن المال الموروث وعن الوارث، وما لم ينقطع النسبة بينه وبين الوارث، وان الارث المعنوى لا يحصل للانسان ما لم يشتد النسبة بينه وبين الوارث وما لم يضع المورث يده على الوارث وبحسب اشتداد النسبة وقوة وضع اليد يكون زيادة الارث وكثرة المال الموروث وهذا الارث موجب لسعة المورث وكثرة ماله بخلاف الارث الصورى، ولما كان لكل انسان قوة فعلية الجحيم والجنان وكان دركات الجحيم ودرجات الجنان التى كان للانسان قوة الوصول اليها بمنزلة ماله المملوك بالقوة، واذا وصل الى احديهما ترك الاخرى ترك الميت ماله لوارثه، ورد ان منازل اهل الجنان فى الجحيم يرثها اهل الجحيم ومنازل اهل الجحيم فى الجنان يرثها اهل الجنان يعنى يرث كل من المتناسبين منازل الآخر وبهذا التناسب يصح اطلاق التوارث فعلى ما ذكر كان معنى الآية الذين يرثون الفردوس من صاحب الولاية المطلقة او من متناسبيهم من اهل الجحيم.
[23.12]
عطف على قد افلح المؤمنون ووجه المناسبة بينهما ان فلاح المؤمن عبارة عن خلاصه عن نقائص المادة وشوائب العدم وخروجه عن القوة الى الفعلية واول مراتب خلقته ايضا خلاص من العدم وعن نقائص المادة وخروج من القوى الى الفعليات فكأنه علل صحة فلاحه بهذا العطف وقال: ان فلاحه مثل خلقته المشهودة لكم بحسب آثارها فان النشأة الآخرة مثل النشأة الدنيا، ويجوز ان يكون حالا بهذا المعنى، والسلالة ما انسل من الشيء ونكر السلالة والطين للاشعار بانهما كانا نوعين خاصين من السلالة والطين، ومن الاولى ابتدائية متعلقة بخلقنا والثانية بيانية او تبعيضية متعلقة بمحذوف صفة لسلالة، او ابتدائية متعلقة بسلالة، او بمحذوف صفة لسلالة، او هى مع ما بعدها بدل من قوله من سلالة، والمراد بالانسان الجنس وبالسلالة النطفة قبل انفصالها من الاصلاب والترائب وقبل ان تسمى نطفة، وبالطين طين آدم او الغذاء مطلقا او الغذاء المهضوم فى المعدة او الكيد او العروق او الاعضاء فان الكل بوجه تراب خليط بالماء خلطة اتم وابلغ من الطين المعروف، وقيل: المراد بالانسان آدم (ع) ابو البشر، وبالسلالة التراب المأخوذ من اديم الارض.
[23.13]
{ ثم جعلناه نطفة } مستقرا { في قرار } القرار والقراره بفتحهما ما يستقر فيه الشيء { مكين } من المكان بمعنى الموضع او من المكانة بمعنى المنزلة عند الملك، او من التمكن بمعنى الاقتدار، والمراد بالقرار المكين الرحم.
[23.14]
{ ثم خلقنا النطفة } اى صيرنا النطفة { علقة } او خلقنا من النطفة علقة { فخلقنا العلقة مضغة } اتى بثم فى الفقرة الاولى للاشارة الى امتداد الزمان من اول استقرار النطفة فى الرحم الى صيرورتها دما منعقدا بخلاف صيرورة العلقة مضغة فانه لا تراخى بين العلقة والمضغة { فخلقنا المضغة عظاما } يعنى صيرنا وصورنا اولا صورة العظام فانه ما لم يتميز العظام فى بدن الجنين لا يتصور تصوير اللحوم فان اللحوم فى كل موضع بنحو مخصوص وليس تميزها وخصوصياتها الا بتميز محالها التى هى العظام وخصوصياتها { فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر } اتى بثم للاشعار بتراخى مرتبة الانشاء عن الخلق فان الخلق يستعمل فى المكونات الماديات، والانشاء فى المجردات، وقد يخص الخلق بما يحتاج الى مادة ومدة كالمواليد، والاختراع بما يحتاج الى المادة دون المدة كالسماوات والعناصر، والانشاء بالمتقدرات المجردة عن المادة والمدة، والابداع بالمجردات عن الكل وبكلا المعنيين يكون الانشاء اعلى درجة من الخلق، وللاشارة الى ان انشاء نفس الانسان ليس كصيرورة العلقة مضغة بلا فرجة بل لا يكون انشاء نفس الانسان ممتازة عن بدنه الا آخر ايام الحمل او اول ايام الوضع فيكون بين كسوة العظام لحما وبين انشائه نفسا تراخ { فتبارك الله } بمعنى تنزه وتقدس وهذه كلمة خاصة بالله بهذا المعنى يقال فى مقام التعجب من الشىء وتعظيمه وان كان اصله من البركة بمعنى النماء والزيادة فى الخيرات، عقب الانشاء بهذه الكلمة للاشارة الى ان انشاء نفس الانسان امر عظيم ينبغى ان يتعجب منه وينزه منشئه عن وصمة النقص، والتفت من التكلم الى الغيبة ولم يقل تباركنا لان هذه الكلمة صارت كالامثال فى مخاطباتهم ولا تتغير { أحسن الخالقين } يعنى ان الخالقية الحقيقية ان كانت منحصرة فى الله فوسائطه لخلقه من الملائكة والقوى والصناع كثيرة والله تعالى احسن الكل لعدم احتياجه فى خلقه الى شيء من مثال سابق ومادة ومدد وآلة وقوى وجوارح واعضاء.
[23.15]
وجه الاتيان بثم ظاهر
[23.16-17]
{ ثم إنكم يوم القيامة تبعثون ولقد خلقنا فوقكم سبع طرآئق } جمع الطريقة بمعنى السماء لان كل سماء طريقة ومطارقة اى مطابقة للاخرى، او لان السماوات مسير للكواكب او بمعنى الاخدودة فى الارض شبه الطريق والمقصود انكم شاهدتم طبقات الارض التى مررتم عليها من المراتب المذكورة وقد خلقنا فوقكم طبقات السماء ولا بد لكم من المرور عليها قبل الموت او بعد الموت فأعدوا انفسكم للمرور عليها واطلبوا لانفسكم دليلا للمرور عليها فانكم بها اجهل منكم بطرق الارض { وما كنا عن الخلق } اى المخلوق او ايجاد الخلق { غافلين } حتى نهمل ما يحتاج الخلق اليه ولم نخلقه لهم فاطلبوا ما تحتاجون اليه فى السير على طرق السماء تجدوا.
[23.18]
{ وأنزلنا } عطف فيه معنى التعليل { من السمآء } اى من جهة العلو او من السحاب { مآء بقدر } بحيث تنتفعون به ولا يفسد اماكنكم ولا زراعاتكم به ولا نمنعكم بحيث لا يحصل ما به معاشكم ومدد حيوتكم فانه لو كان المطر متتاليا متكاثرا افسد الابنية والزروع، وهكذا القنوات والعيون والسيول والبحار لو كثرت مياهها بحيث احاطت بوجه الارض لافسدت واهلكت ولو لم يكن ماء اصلا لم تكن حيوة ابدا، وانزال الماء بقدر دليل عدم غفلتنا عن الخلق، ولا يذهب عليك ان انزال ماء الحيوة الحيوانية والبشرية من سماء الارواح واسكانه فى ارض البدن الحيوانى والانسانى منظور ايضا { فأسكناه في الأرض } ليستقى به زراعاتكم وبهائمكم وتنتفعون به فى سائر منافعكم { وإنا على ذهاب به لقادرون } فأبقيناه فى الارض ترحما عليكم.
[23.19]
{ فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة } الفاكهة الثمر بأنواعها رطبها ويابسها { ومنها } اى من الجنات او من الفواكه { تأكلون } خص الجنات من بين ما يحصل بسبب الماء ثم خص من الجنات النخيل والاعناب بالذكر لاعجاب العرب بالجنات وبالنخيل والاعناب منها وعدم معرفتهم من الجنات شيئا تعتد به سواها.
[23.20]
{ وشجرة } قرئ بالنصب عطفا على جنات وبالرفع خبر مبتدء محذوف اى من المنشآت شجرة، او مبتدء خبره تنبت بالدهن { تخرج من طور سينآء } قرئ بفتح السين والمد وبكسر السين والمد والقصر، والطور الجبل او فناء الدار والمراد به الجبل الذى ناجى موسى ربه فيه، وسيناء اسم الموضع الذى به هذا الجبل، اواسم حجارة مخصوصة فى ذلك الموضع، وقيل: المراد بالسيناء الجبل المشجر يعنى الكثير الشجر، وقيل: المراد الجبل الحسن، وقيل: السيناء بمعنى البركة، ومعنى طور سيناء جبل البركة وهو ما بين مصر وايلة، وقيل: طور سيناء جبل بالشام، وفى اخبارنا اشارة الى ان طور سيناء نجف الكوفة، وانه الموضع الذى فيه مشهد امير المؤمنين (ع) فعن الباقر (ع) انه كان فى وصية امير المؤمنين (ع) ان اخرجونى الى الظهر فاذا تصوبت اقدامكم واستقبلتكم ريح فادفنونى فهو اول طور سيناء، وعن الصادق (ع): الغرى قطعة من الجبل الذى كلم الله عليه موسى (ع) تكليما، وقدس عليه عيسى (ع) تقديسا، واتخذ عليه ابراهيم (ع) خليلا، واتخذ محمدا (ص) حبيبا، وجعله للنبيين مسكنا، فوالله ما سكن بعد ابويه الطيبين آدم ونوح (ع) اكرم من امير المؤمنين (ع)، والمراد بالشجرة التى تخرج من طور سيناء شجرة الزيتون وخصها بالذكر لانها كثيرة النفع للعرب فانها { تنبت بالدهن } قرئ من الثلاثى المجرد وحينئذ يكون الباء للتعدية او للمصاحبة، وقرئ تنبت من الانبات بمعنى النبت او متعديا، ويكون المفعول محذوفا اى تنبت الثمر بالدهن { وصبغ } اى ادام فان ثمرها ادام { للآكلين } قيل: المراد شجرة الزيتون وهو مثل رسول الله (ص) وامير المؤمنين (ع) فالطور الجبل والسيناء الشجرة.
[23.21]
{ وإن لكم في الأنعام لعبرة } اعتبارا واستدلالا على عنايته تعالى بكم وكمال حكمته وقدرته والجملة معطوفة على قوله: لقد خلقنا، او على قوله: انزلنا من السماء فانهما فى معنى ان يقال: ان لكم فى خلقكم، وان لكم فى انزال الماء من السماء لعبرة { نسقيكم } قرئ بضم النون وفتحها والجملة مستأنفة او حالية { مما في بطونها } من الالبان { ولكم فيها منافع كثيرة } بسبب تسخيرها لكم من الظهور والاصواف والشعور والاوبار والتجمل بها { ومنها تأكلون } اى من لحومها وشحومها.
[23.22]
فى البر والبحر لما كان المراد تعداد النعم بنحو الاعتبار بها اضاف الى الانعام الفلك.
[23.23]
{ ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه } لما ذكر صنعه فى خلق الانسان وتدبيره لامكان بقائه ونبهه على بقائه بعد موته ذكر غاية النعم واصلها واشرفها وهى ارسال الرسل للهداية الى خير السبل ليكون بقاؤه اتم بقاء وعلى اشرف انحاء البقاء { فقال يقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } قرئ غيره بالرفع والجر { أفلا تتقون } أى اتعبدون الاصنام فلا تتقون سخطه.
[23.24]
{ فقال الملأ الذين كفروا من قومه } يعنى قال الرؤساء للاتباع { ما هذا إلا بشر مثلكم } يعنى لا فرق بينه وبينكم حتى يكون مستحقا للتفضل عليكم ويستحق الرسالة دونكم { يريد أن يتفضل عليكم } فيجعلكم اتباعا لنفسه { ولو شآء الله } ان يرسل علينا رسولا { لأنزل ملائكة } للرسالة { ما سمعنا بهذا } اى بارسال رسول من البشر بما يدعوننا اليه من التوحيد { في آبآئنا الأولين } حتى لا نستغرب منه ولا ننكره.
[23.25-27]
{ إن هو إلا رجل به جنة } جنون { فتربصوا به } فاحتملوا منه وانتظروا افاقته { حتى حين قال } الرسول { رب انصرني } عليهم { بما كذبون فأوحينآ إليه } بعد دعائه واجابتنا له وامهالنا لهم مدة متمادية حتى رجع عنه من كان داخلا فى دينه { أن اصنع الفلك بأعيننا } جمع العين بمعنى الباصرة او بمعنى الديدبان، والباء بمعنى فى اى اصنعها فى حضرة اعيننا، او للسببية والمعنى اصنعها بسبب امداد ملائكتنا، وعلى الاول يكون الظرف لغوا متعلقا باصنع او مستقرا حالا من المفعول او الافعل { ووحينا } بتعليمك صنعها { فإذا } صنعتها و { جآء أمرنا وفار التنور } الذى جعلت فورانه بالماء علامة لاهلاك قومك وغرقهم { فاسلك فيها من كل زوجين } قرئ كل منونا وبالاضافة اى من كل نوع من الحيوان مشتمل على الذكر والانثى { اثنين } ذكرا وانثى لئلا يستأصل النوع { وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون } قد سبق الآية فى سورة هود.
[23.28]
لما كان المنقطع الفطرة كالعضو الفاسد الذى يؤذى صاحبه ويفسد ما يجاوره وبقطعه يسلم سائر الاعضاء ويستريح البدن وصار قومه بعد كمال شقاوتهم كالاعضاء الفاسدة وبقطعهم واستيصالهم يستريح الملائكة وخلفاء الله امره تعالى بالحمد على نعمة استيصالهم والا فنوح (ع) كما كان يجادل الله فى دفع العذاب عن قومه كان يحزن على هلاكهم لا انه كان يشكر على استيصالهم.
[23.29-30]
{ وقل رب أنزلني } من السفينة ومن مقام الحضور والاطلاق الى مقام الغيبة والكثرات { منزلا } قرئ من الانزال ومن النزول وهو مصدر او اسم مكان او اسم زمان { مباركا } بالبركة لى فى مالى واولادى واعوانى { وأنت خير المنزلين } قد ورد قراءة هذه الآية وقت النزول فى منزل { إن في ذلك } القصص او فى ارسال نوح (ع) ودعوته واهلاك قومه { لآيات } عديدة على المبدء وتوحيده وعلمه وقدرته وتوانيه بالنسبة الى العاصين من خلقه ورحمته وتدبيره { وإن كنا } اى انه كنا { لمبتلين } يعنى كنا قديما ممتحنين عبادنا بالشر والخير ممتحنين فى ارسال نوح (ع) وتوانينا فى اهلاك قومه.
[23.31]
هم قوم هود او قوم صالح
[23.32]
{ فأرسلنا فيهم رسولا منهم } هو هود او صالح { أن اعبدوا الله } ان تفسيرية وتفسير لارسلنا لان فيه معنى القول { ما لكم من إله غيره أفلا تتقون } مضى الآية قبيل هذا.
[23.33]
{ وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقآء الآخرة } قولا كمنكرى البعث او فعلا وحالا كأكثر اهل كل زمان { وأترفناهم } أنعمنا عليهم بنعمة أبطرتهم { في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون } ذكروا الجملتين لتأكيد التشابه واستغراب التفضيل.
[23.34]
لضياع بضاعتكم التى هى عقولكم باطاعة بشر مثلكم.
[23.35]
{ أيعدكم } استبعاد لهذا الوعد لعدم اقرارهم بالمعاد { أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون } انكم الثانى تأكيد للاول اتى به لطول الكلام والفصل بين ان الاولى وخبرها، او انكم الثانى مبتدء خبره الظرف المتقدم والجملة خبر ان الاولى، او انكم الثانى فاعل فعل محذوف جواب للشرط، او هو مبتدء محذوف الخبر والجملة جواب للشرط بتقدير الفاء، او هو فاعل للظرف والظرف خبر ان الاولى، او خبر ان الاولى محذوف وان الثانية مع خبرها تأكيد لان الاولى وخبرها.
[23.36]
{ هيهات هيهات } قرئ هيهات بتثليث التاء منونا وغير منون وبسكون التاء وبابدالها هاء ساكنة وفى هيهات اثنتان وخمسون لغة هيهات وايهات، وهيهان وايهان، وهايهات وهايهان، وآيهات وآيهان، مثلثات الاخر منونات وغير منونات، وهيهات ساكنة الآخر بالتاء وبالهاء وايها وايآت وهى اسم للبعد، او اسم فعل بمعنى بعد سواء جعل مفردا او جمعا لهيه وهو كلمة طرد وزجر، واذا كان اسما للبعد كان { لما توعدون } خبره، واذا كان اسما للفعل كان ضمير الفاعل مستترا فيه وكان لام لما توعدون للتبيين.
[23.37-38]
{ إن هي إلا حياتنا الدنيا } جواب لسؤال مقدر فى مقام التعليل { نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين } اى مذعنين او لقوله موقنين.
[23.39-41]
{ قال رب انصرني بما كذبون قال } الله اجابة لدعائه { عما قليل ليصبحن نادمين فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثآء } الغثاء ما احتمل السيل من الزبد والهالك والبالى { فبعدا } بعدوا بعدا حذف الفعل واقيم المصدر مقامه والقياس فبعدا لهم لكنه وضع المظهر موضع المضمر للاشعار بعلة الحكم وذم آخر لهم فقال { للقوم الظالمين } واللام للتبيين وهو اخبار او دعاء عليهم والمعنى ان الهلاكة ثابتة للقوم الظالمين.
[23.42-43]
{ ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين } فأهلكوا فى موعدهم المقدر لهم فان قوله { ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون } كناية من اهلاكهم فى موعد اهلاكهم وتهديد للحاضرين.
[23.44]
{ ثم أرسلنا رسلنا تترى } هو من الوتر ضد الشفع والتاء مبدل من الواو كتاء تقوى وهو وصف او مصدر والالف للتأنيث مثل التقوى او للالحاق وعليهما قرئ غير منون ومنونا والمعنى ارسلنا واحدا واحدا لكن المتواترة لا تستعمل الا اذا كان بين الاشياء تعاقب بتراخ فانه اذا لم يكن بينها تراخ يقال بينها مداركة ومواصلة { كل ما جآء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا } فى العقاب والاهلاك { وجعلناهم أحاديث } يتحدث بهم ويسمر بقصصهم وهو جمع الاحدوثة او جمع الاحداث جمع الحديث، او جمع الحديث ابتداء مع شذوذ وحمل الاحاديث عليهم اذا كانت جمع الحديث للمبالغة فى استيصالهم كأنهم لم يبق منهم فى الناس الا حديثهم { فبعدا لقوم لا يؤمنون } مضى نظيره قبيل هذا.
[23.45]
{ ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا } التسع او بمعجزاتنا او بأحكامنا { وسلطان مبين } ظاهر او مظهر والمراد بالسلطان عصاه او برهانه القولى او سلطنته على قهر الاعداء.
[23.46]
{ إلى فرعون وملئه } اى قومه مطلقا او خواصه { فاستكبروا } عن موسى (ع) وقبول دينه { وكانوا قوما عالين } بحسب الدنيا بسبب غلبتهم على اهل ارضهم وعلوتهم على من كان فى مصر.
[23.47]
يعنى ليس لهما فضل بانفسهما ولا بقومهما والعاقل لا يفضل من لا جهة فضل فيه بل لنا عليهما الفضل باستعباد قومهما لان القبطى كانوا يستعبدون السبطى فى الاعمال او لان السبطى كانوا يعبدون فرعون مثل القبطى.
[23.48]
{ فكذبوهما فكانوا } بعد التكذيب بلا فرجة { من المهلكين } عن الحيوة الانسانية دون الحيوانية او صاروا من المهلكين بالاغراق لكن بعد حين، والاتيان بالفاء لان الفاء فى كل شيء بحسبه والاهلاك المتعقب للرسالة بلا فرجة ان تتم الرسالة اوحتجاجاتها.
[23.49]
{ ولقد آتينا موسى الكتاب } كتاب النبوة واحكامها او التوراة { لعلهم يهتدون } اى لعل قومه او لعل فرعون وقومه وهذا يوافق تفسير الكتاب بالنبوة واحكامها.
[23.50]
{ وجعلنا ابن مريم وأمه آية } فان مريم (ع) كانت من اول بلوغها آية الله لانها كانت متعبدة غير ملتفتة الى الدنيا وملاذها، يأتيها رزقها من الله يأتيها فاكهة الصيف فى الشتاء وفاكهة الشتاء فى الصيف وحملت من غير مسيس بشر، وكان مدة حملها اقصر مدة؛ ساعة او اكثر بيسير، فانها لم يظهر على احد انها كانت حاملة وحملت من غير زوال بكارتها وكون عيسى (ع) آية لا حاجة فيه الى التفصيل { وآويناهمآ إلى ربوة } مكان مرتفع، وقرئ الربوة بضم الراء وفتحها، وقرئ رباوة بضم الراء وكسرها، والربوة والرباوة بتثليث الراء فيهما المرتفع من الارض { ذات قرار } للماء بانبساطها واستوائها او للناس بسبب ان من كان فيها ومن دخلها يستقرون فيها لحسن مكانها ووفور النعم فيها { ومعين } اى ذات ماء جار من معن الماء اذا جرى، او من الماعون بمعنى المعروف، او اسم مفعول من العين بمعنى المدرك بالعيون لظهورها وارتفاعها والمراد بها بيت المقدس او دمشق او رملة فلسطين او مصر، وعن ابى جعفر (ع) وابى عبدالله (ع) انها حيرة الكوفة وسوادها والقرار مسجد الكوفة والمعين الفرات.
[23.51]
{ يأيها الرسل كلوا من الطيبات } حال بتقدير القول او جواب لسؤال مقدر بتقدير القول كأنه قيل: ما قال الله للرسل سواء كان الخطاب لمجموعهم دفعة فى عالم الجمع وهو عالم الارواح، او كان الخطاب لكل واحد واحد فى زمانه لكنه تعالى جمعهم فى الحكاية، وقيل: انه خطاب لمحمد (ص) من دون تقدير القول والاتيان بالجمع لجريه على طريقة العرف فى مخاطبة الواحد مخاطبة الجمع، وقد مضى مكررا ان الاكل لا اختصاص له بما يعرفه العرف اكلا بل ادراك كل مدرك وفعل كل عضو وتحريك كل محرك وتحرك كل متحرك اكل له ولما كان مراتب الانسان كثيرة كان طيبات كل مرتبة من جهتها الخلقية ما كانت ملائمة ملذة لها ومن جهتها الحقية ما كانت مباحة مكسوبة بأمر الله مرضية لله سواء كانت موافقة لسائر المراتب او لم تكن { واعملوا صالحا } ليس المراد به فردا مالا على التعيين فان الانبياء ان لم يكونوا مأمورين بجميع الصالحات كانوا مأمورين باكثرها، ولم يكتف تعالى من سائر عباده بفرد ما من الصالحات فكيف بالانبياء فالمراد اعملوا صالحا عظيما فان التنوين والتنكير فى امثاله بعد ما علم انه ليس المراد به فردا ما اما ان يكون للتحقير او للتعظيم، والتحقير ايضا مناف لامر الانبياء (ع) فالمراد هو التعظيم والصالح العظيم الذى لا صالح الا بصلاحه هو الولاية فعلى هذا ينبغى ان يفسر الآية هكذا: يا ايها الرسل كلوا من الطيبات التى هى ارزاق الاعضاء والقوى والمدارك من الاعمال القالبية الشرعية والنفسانية النبوية واعملوا صالحا عظيما هو الولاية والتوجهات والاستعدادات والالهامات والمشاهدات المتعلقة بها { إني بما تعملون } من الاعمال القالبية والقلبية { عليم } ويجوز ان يكون الخطاب للرسل ويكون المقصود بالحكم اممهم من قبيل اياك اعنى واسمعى يا جارة، او يكون الامم مقصودين معهم.
[23.52]
{ وإن هذه أمتكم } اى دينكم او جماعتكم الآمون لكم المؤتمون بكم وسوق العبارة يقتضى ان يقال: هذه اممكم لكنه تعالى لما جمع فى حكاية الخطاب او جمعهم فى اصل الخطاب فى العوالم العالية جمع الامم ايضا فى لفظ الامة فانه يطلق على الواحد والكثير، وقرئ ان مفتوحة الهمزة مشددة ومخففة بالعطف على ما تعملون او بتقدير اللام لتعليل قوله { فاتقون } ، وقرئ ان مكسورة الهمزة بالعطف على انى بما تعملون عليم { أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون } والمقصود من الآية انا ارسلنا الرسل وبعد ما بلغوا واجاب لهم اممهم ووقعوا بيننا وبين عبادنا وصاروا ذوى اضافتين اضافة الينا واضافة الى عبادنا قلنا لهم: يا ايها الرسل انتم ائمة لعبادنا فاعملوا الاعمال القالبية المرضية للنفوس ولنا حتى يتأسى بكم اممكم ولا ينزجروا منكم ولا ينفروا عنكم وعن دينكم، واعملوا الاعمال القلبية التى بها توجهكم الينا واستفاضتكم منا حتى يتم تربيتكم لعبادنا بحسب الظاهر والباطن، لانى بما تعملون من الاعمال القالبية والقلبية عليم، ولان هذه امتكم فليكن المنظور من اعمالكم صلاح حالهم وانا ربكم الذى افيض عليكم ما به قوامكم وما به صلاحكم وصلاح اممكم فاتقون فى عدم مراقبة حال الامم وعدم التوجه الى لاخذ ما به صلاح الامم.
[23.53]
{ فتقطعوا أمرهم بينهم } يعنى كان امة كل رسول فى زمانه امة واحدة بواسطة مراقبة الرسول (ع) واجتماعهم على ملته ففرقوا امر دينهم بعد ذهاب رسولهم باستبداد بعضهم بالرأى وعدم انقيادهم لوصى رسولهم واختيار كل مذهبا ومسلكا كما وقع ذلك فى امة محمد (ص) او تفرقوا بفرق مختلفة لاجل امر دينهم { زبرا } جمع الزبور بمعنى الفرقة، وقرئ زبرا بفتح الباء جمع الزبرة بمعنى القطعة مثل الغرفة والغرف يعنى فرقوا امر دينهم قطعا مختلفة، او تفرقوا حال كونهم فرقا مختلفة، او هو جمع الزبور بمعنى الكتاب يعنى جعلوا دينهم كتبا يتوسلون بها وينصرفون عن صاحب دينهم وقالوا: كفانا كتابنا كما جعل امة محمد (ص) امر دينهم مستندا الى الكتاب السماوى الذى جمعوه والى كتبهم التى دونوها لتصحيح دينهم وعلى التقادير صح جعل زبرا مفعولا ثانيا وحالا { كل حزب بما لديهم فرحون } استيناف جواب لسؤال مقدر فى مقام التعليل يعنى تفرقوا لان كل حزب منهم كانوا بما عندهم من العلوم والمسائل والآراء معجبون فارادوا رواج ما عندهم واستنكفوا عن صاحب دينهم.
[23.54]
{ فذرهم } يعنى اذا كان حال الامم على ما ذكر وحال امتك تصير الى ما ذكر فذر الامم ومنافقى امتك { في غمرتهم } فلا تتعرض لهم بالرد والقبول { حتى حين } اى حين العذاب على يدك او يد خليفتك او حين الموت وظهور على (ع).
[23.55-56]
{ أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات } فيستنكفون لذلك عن وصيك { بل لا يشعرون } انه استدراج لهم ومكر ولذا يحسبون ويستنكفون.
[23.57]
جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: لم لا ينبغى هذا الحسبان؟- فقال: لانا نسارع فى الخيرات لهؤلاء لاولئك وقد مضى بيان هذه الكلمة فى سورة الانبياء عند قوله تعالى:
وهم من خشيته مشفقون
[الأنبياء: 28].
[23.58]
يعنى بجملة آياته خصوصا آياته العظمى من الانبياء والاولياء (ع) يذعنون، او الذين يؤمنون بآيات ربهم بالبيعة العامة او الخاصة او الذين يؤمنون بالبيعة العامة او الخاصة بسبب آيات ربهم بان صارت الآيات الآفاقية والانفسية سببا لان يتوجهوا الى الانبياء (ع) فأسلموا على ايديهم بالبيعة العامة، او الى الاولياء فآمنوا على ايديهم بالبيعة الخاصة.
[23.59]
{ والذين هم } بعد الاسلام او الايمان { بربهم } المضاف وهو ربهم فى الولاية { لا يشركون } بان بايعوا على ايدى غيرهم او توجهوا الى غيرهم او اطاعوا غيرهم او اتبعوا اهواءهم.
[23.60]
{ والذين يؤتون مآ آتوا } يعطون ما اعطوا من الصدقات او من جملة الاعمال الالهية وقرئ يأتون ما اتوا من الثلاثى المجرد يعنى يأتون بما اتوا اى يفعلون ما فعلوا { وقلوبهم وجلة } خائفة من تقصيرهم فى الاعمال لانهم يعملون انهم لا يستطيعون ان يجاهدوا فى الله حق جهاده ولا يجاهدون فيه حق جهادهم وفسر فى اخبارنا هكذا وهو خائف راج، ونقل ان المؤمن جمع احسانا وشفقة والمنافق جمع اساءة وامتنانا { أنهم إلى ربهم راجعون } يعنى قلوبهم وجلة بسبب انهم كانوا فى الرجوع والسلوك الى الله او الى ربهم المضاف، او قلوبهم وجلة من انهم يرجعون بعد الى الله او الى ربهم المضاف مع تقصير، او قلوبهم وجلة من فوت الرجوع الى ربهم ومن انه لا يمكنهم الرجوع الى الحضور عند الرب المضاف بالفكر المصطلح للصوفية الذى هو تمثل صورة الشيخ عند السالك ، او قلوبهم وجلة لانهم كانوا فى السلوك الى ربهم المضاف وكلما قربوا منه استشعروا بعظمته اكثر من السابق وكلما استشعروا بعظمته اشتدت الخشية والهيبة منه عليهم وفى خبر عن امير المؤمنين ثم قال: ما الذى آتوا، آتوا والله الطاعة مع المحبة والولاية وهم فى ذلك خائفون ليس خوفهم خوف شك ولكنهم خافوا ان يكونوا مقصرين فى محبتنا وطاعتنا.
[23.61]
{ أولئك يسارعون في الخيرات } فى مقابل ايحسبون انما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم فى الخيرات وانما نسب الفعل ههنا اليهم للاشعار بان عملهم واوصافهم المذكورة وان لم تكن سببا فاعليا للخيرات ومسارعتها لكنها سبب قابلى لها وانهم ان وصلوا الى خير كان ذلك بعملهم بخلاف المسارعة هناك لانها كانت هناك عبارة عن الامداد بالمال والبنين وليس ذلك الا من الله وليس مسارعة فى الخيرات بل استدراجا ومسارعة من الله فى العقوبة
إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون
[التوبة:55] { وهم لها سابقون } اى لاجلها متصفون بالسبق، او سابقون الناس فى القرب عند الله او سابقون الناس الى الطاعة او الثواب او الجنة او هم آخذون لها قبل الآخرة او قبل الناس وعلى هذا يكون اللام زائدة للتقوية.
[23.62]
{ ولا نكلف } عطف فيه رفع توهم فانه قد يتوهم متوهم انه لا يمكن الجمع بين تلك الاوصاف بحقائقها، او يتوهم ان الفرحين بما عندهم لا يقدرون على الاقدام على الاوصاف فرفع ذلك بقوله لا نكلف { نفسا إلا وسعها } الوسع مثلثة الواو الجدة والطاقة يعنى لا نكلف نفسا الا بقدر طاقتها او ما يسعه طاقتها بان يكون دون طاقتها { ولدينا كتاب ينطق بالحق } رفع توهم آخر فانه قد يتوهم ان الامداد بالاموال والبنين ابطرهم فلا ينبغى ان يمدهم الله فقال: ان امدادنا واستدراجنا كان بسوء فعلهم ولدينا كتاب هو كتاب اعمالهم الذى يكتبه الحفظة او كتاب هو الكتاب السابق على وجودهم من الالواح العالية ينطق بالحق، نسبة النطق الى الكتاب مجاز او لان الكتب العالية كلها حيوة وعلم وشعور ونطق { وهم لا يظلمون } بزيادة العقاب او بالعقوبة من دون استحقاق.
[23.63]
{ بل قلوبهم في غمرة } فى غفلة غامرة { من هذا } الكتاب او مما ذكر من اوصاف الاخبار السابقين او من اتصاف الاخيار بتلك الاوصاف او من القرآن كما فى تفسير القمى { ولهم أعمال من دون ذلك } التفرق فى الدين والفرح بما لديهم والاعجاب بآرائهم او من دون ذلك الجهل والغمرة { هم لها عاملون } مما يكون عبادة للهوى سواء كان بصورة العبادات او بصورة المعاصى.
[23.64]
{ حتى إذآ أخذنا مترفيهم } متنعميهم { بالعذاب } غاية لعملهم او لكون قلوبهم فى غمرة، وخص المترفين لانهم كانوا منشاء لكفرهم وكفر غيرهم؛ ولان المترفين لا يتنبهون ولا يتضرعون بمؤاخذة غيرهم، والمراد بالعذاب عذاب الموت والآخرة، او عذاب الدنيا، وفسر بقتلهم يوم بدر وبالاخذ بالجوع حين دعا عليهم رسول الله (ص) فقال:
" اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف (ع) "
فابتلاهم بالقحط حتى اكلوا الجيف والكلاب { إذا هم يجأرون } جأر كمنع رفع صوته بالدعاء وتضرع واستغاث.
[23.65]
{ لا تجأروا اليوم } بتقدير القول جواب لسؤال مقدر { إنكم منا لا تنصرون } اى لا تنصرون من قبلنا او لا تنصرون من عذابنا.
[23.66]
اى ترجعون والنكص لا يكون الا فى الرجوع عن الخير وقد مضى ان الناس كلهم مفطورون على الخير وذاهبون على فطرة الخير ويشبه الراجع عن الدين والخير ما لم يقطع فطرته بمن يرجع عن المقصد رجوع القهقرى على عقبيه لانه ببقاء فطرته كان وجهه الى مقصده وان يتنزل عما كان فيه من الخيرات الحاصلة له بفطرته او بكسبه.
[23.67]
{ مستكبرين به } اى بالبيت او ببلد مكة، وشهرة افتخارهم واستكبارهم بالبلد الحرام والبيت الحرام اغنت عن ذكره سابقا، او بالقرآن فان تلاوة الآيات تدل عليه، او بمحمد (ص) فان كونه جاريا على السنتهم فى محافلهم قرينة له، ولفظ الباء على الاولين للسببية، او صلة مستكبرين بتضمين مثل معنى التكذيب، ويجوز ان يكون متعلقا بتهجرون، والباء للظرفية على ان يكون الضمير للبيت او الحرم، او للسببية او للالصاق على ان يكون الضمير للقرآن او لمحمد (ص) { سامرا } اسم لجماعة السامرين اى المتحدثين بالليل بما لا فائدة فيه او اسم لمحل السمر { تهجرون } اى تقطعون عن محمد (ص) او تهزأون او تستهزئون او تفجشون قرئ بفتح التاء وضم الجيم وبضم التاء وكسر الجيم.
[23.68]
{ أفلم يدبروا القول } اى الم يكترثوا بك وبادعائك الرسالة فلم يدبروا القرآن او لم يدبروا قولك حتى يعلموا انه ليس من هوى نفسانى وامراض قلبية واغراض دنيوية { أم جآءهم ما لم يأت آبآءهم الأولين } من الكتاب والشريعة والرسول حتى كانوا لم يعرفوا ولم يسمعوا بمثله ولذلك ينكرونه.
[23.69]
{ أم لم يعرفوا رسولهم } بالنسب والحسب وبالصدق والامانة من اول نشوه { فهم له } لا للشريعة والكتاب { منكرون } لعدم معرفتهم بحاله.
[23.70]
{ أم يقولون به جنة } جنون ولذلك ينكرونه { بل } ليس شيء من ذلك فان الشريعة والرسالة والكتاب كانت سيرة الهية جارية من لدن آدم وكان رسولهم معروفا لهم بالحسب والنسب والصدق والامانة بحيث لقبوه محمدا الامين وكان فيهم ما لم يدع الرسالة اعقلهم ولكن { جآءهم بالحق } الذى لم يكن سنخا لهم لانهم كانوا باطلين وسنخا للباطل { وأكثرهم للحق كارهون } لعدم سنخيتهم له وعدم موافقته لاهوائهم.
[23.71-72]
{ ولو اتبع الحق أهوآءهم } الحق المطلق هو الله، والحق المضاف مشيته وهى فعله تعالى ثم الولاية ثم النبوة ثم الرسالة ثم كل ما كان الحقية فيه غالبة والبطلان مغلوبا { لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن } لان اهواءهم لا تتجاوز عما فيه مشتهى نفوسهم من غير ملاحظة غاية لذلك المشتهى ومن غير ملاحظة حقوق من فى عالمهم الصغير ومن فى العالم الكبير ولو لم يراع الحقوق لفسدت السماوات والارض ومن فيهن فى العالم الصغير وفسد من فى العالم الكبير وفسد سماوات العالم الكبير وارضه لفساد غايتهما التى هى صلاح من فيهما { بل أتيناهم بذكرهم } يعنى ان انكار الحق الذى جاء به محمد (ص) امر عظيم وهؤلاء لخروجهم عن الفطرة الانسانية انكروا انكارا اعظم منه وهو انكارهم ذكرهم وشرفهم او وعظهم ونصحهم وقد آتينا نحن ذلك لهم فهو اضراب من الادنى الى الاعلى، والمراد بالذكر الرسول او القرآن او الشريعة او السلطنة { فهم عن ذكرهم } الذى آتيناهم نحن به { معرضون أم تسألهم } يعنى بل ليس المانع شيئا من ذلك ولكن تسألهم { خرجا } فيثقل ذلك الخرج عليهم فينكرون رسالتك لذلك فلا تسألهم ذلك ان كنت تسألهم { فخراج ربك خير } لك من كل خراج فان خراجه كل ما سواه { وهو خير الرازقين } قد سبق بيان كونه خير الرازقين فى سورة الحج.
[23.73]
جملة حالية يعنى ليس انكارهم لانك تدعوهم الى صراط معوج فلم يقبله عقولهم كأنه قال ام تدعوهم الى صراط معوج.
[23.74]
{ وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة } وضع الظاهر موضع المضمر لتعليل الحكم، وللاشارة الى ذم آخر لهم وهو فى معنى لكن الذين لا يذعنون بالآخرة { عن الصراط لناكبون } اى عادلون ولذلك ينكرون وقد فسر الصراط المستقيم فى الآية بولاية على (ع) وعدولهم عن الصراط بعدولهم عن على (ع) او عن الامام، وعن امير المؤمنين (ع) ان الله تبارك وتعالى لو شاء لعرف العباد نفسه ولكن جعلنا ابوابه وصراطه وسبيله والوجه الذى يؤتى منه، فمن عدل عن ولايتنا او فضل علينا غيرنا فانهم عن الصراط لناكبون.
[23.75]
{ ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا } لداموا على الخصومة { في طغيانهم يعمهون } فى طغيانهم متعلق بلجوا او بيعمهون اى يترددون فان العمه بمعنى التردد فى الضلال والتحير فى الطريق، روى انهم قحطوا حتى اكلوا العلهر فجاء ابو سفيان الى رسول الله (ص) فقال: أنشدك الله والرحم الست تزعم انك بعثت رحمة للعالمين قتلت الاباء بالسيف والابناء بالجوع فنزلت { ولقد أخذناهم بالعذاب... }.
[23.76]
{ ولقد أخذناهم بالعذاب } يعنى القتل يوم بدر او الجوع والقتل والخوف { فما استكانوا لربهم } استكان استفعل من الكون بمعنى الذل، او افتعل من السكون اشبع فتحة الكاف وله النظير فى لغتهم مثل المنتزاح فى المنتزح يعنى انهم ما استكانوا حين الابتلاء { وما يتضرعون } والحال ان المقصود من ارسال الرسل وانزال العذاب تضرع العباد واستكانتهم لربهم فكيف يتضرعون حين رفع العذاب عنهم وقد فسر الاستكانة بالدعاء وبالخضوع والتضرع بالدعاء وبرفع اليدين بالدعاء.
[23.77]
{ حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد } يعنى ان شيمتهم العتو فى كل حال حتى اذا انفتح عليهم باب من جهنم او باب عذاب آخر مثل عذاب فتح مكة او باب الى العذاب حين الموت او حين الرجعة كما فى الخبر { إذا هم فيه } اى فى الباب او فى العذاب { مبلسون } متحيرون آئسون عن الخير او مبتلون بالشر.
[23.78]
{ وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة } التفات من التكلم الى الغيبة بالنسبة الى المتكلم، ومن الغيبة الى الخطاب بالنسبة الى المخاطبين وصرف للخطاب من محمد (ص) اليهم والجملة حال او معطوفة والمقصود انه تعالى لم يمنعهم ما به يتدبروا القول فلم يكن منه تعالى اهمال لما يحتاجون اليه فى تدبير القول لكنهم لكفرانهم بانعم الله كفروا بمثل هذه النعم التى هى اصل جميع النعم ولم يستعملوها لما خلقت لاجله من النظر والعبرة وتمييز الحق عن الباطل والمبطل من المحق ولذلك قال { قليلا ما } اى شكرا قليلا { تشكرون } فلا تستعملون النعم فى وجهها، ولما كان المقصود انه لا مانع من قبله فى قبولهم الرسالة اتى بهذه الثلاث التى هى المحتاج اليها فى التدبير والتمييز دون سائر المدارك والقوى.
[23.79]
{ وهو الذي ذرأكم في الأرض } اى خلقكم فيها { وإليه تحشرون } يعنى انه مبدؤكم ومعادكم فلا ينبغى ترك النظر فى نعمه وترك التدبر فى امره ونهيه.
[23.80]
{ وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار } اى تعاقبهما او زيادة كل منهما ونقصانه او اختلاف كل مع الآخر بالزيادة والنقصان او فى الكيفية او فى الاظلام والاضاءة والمراد بالليل والنهار صورتهما المشهودة فان تعيش الانسان واسباب تعيشه منوطة بهما، او اعم منهما كأنه قال: وهو الذى يجعل سائر المتضادات بين العباد كما انه يحيى ويميت ويوجد هذين المتضادين بين عباده، واللام فى مثله يجوز ان يكون هى اللام الداخلة على المبدأ او الغاية او المملوك { أفلا تعقلون } ذلك فتعلموا ان من بيده ذلك كله حقيق بان يتضرع عليه ويسأل منه وينقاد له.
[23.81-82]
{ بل قالوا } يعنى انهم لا يتفكرون حتى يعلموا ان الله هو المبدئ المعيد بل قلدوا آباءهم الجهلة واسلافهم الضالين فقالوا { مثل ما قال الأولون قالوا أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون } يعنى استغربوا البعث الذى ينبغى ان يقروا به.
[23.83]
{ لقد وعدنا نحن وآبآؤنا هذا من قبل } ولو كان حقا لظهر اثره فى تلك المدة المديدة { إن هذآ إلا أساطير الأولين } الاساطير الاحاديث التى لا نظام لها جمع الاسطار والاسطير بكسر الهمزة فيهما والاسطور بضمها وقد يلحق التاء بالثلاثة بمعنى الحديث الذى لا نظام له، واما الاساطير جمع الاسطار جمع السطر بمعنى الخط والكتابة فغير مناسب.
[23.84]
يعنى انهم يقرون ان الخالق هو الله فذكرهم الاقرار ثم نبههم على ان الابداء اصعب من الاعادة.
[23.85]
{ سيقولون لله } يعنى انهم يظهرون فى جوابك اقرارهم بانه المبدء فنبههم بعد ذلك و { قل أفلا تذكرون } ان الاعادة اسهل من الابداء.
[23.86]
يعنى من خالقهما ومدبر امورهما مع عظمهما وكثرة ما فيهما من الملائكة والكواكب.
[23.87]
{ سيقولون لله } وقرئ: سيقولون الله، وهو اوفق بالسؤال { قل } لهم بعد الاقرار بان الله خالقهما ومدبرهما { أفلا تتقون } سخطه فى مخالفته ومخالفة رسوله (ص) فى انكار الاعادة او مطلقا.
[23.88-89]
{ قل من بيده ملكوت كل شيء } يعنى من بيده تدبير كل شيء والتصرف فيه والتسلط عليه فان الملكوت هو باطن الاشياء المسلط عليها والمتصرف فيها باى تصرف شاء { وهو يجير } اى يغيث { ولا يجار عليه } يعنى لا احد يغيث مغضوبه { إن كنتم تعلمون سيقولون لله } وقرئ بدون اللام { قل فأنى تسحرون } اى كيف يخيل اليكم الحق باطلا مع وضوحه او كيف تعمون عن صحة الاعادة مع ظهور الادلة او كيف تخدعون.
[23.90]
{ بل } ليس انكارهم وقولهم ذلك عن خفاء دليل المدعى ولا عن ظهور دليل الانكار لكن { أتيناهم بالحق } الذى هو الولاية فى مظهر الرسول (ص) الذى ليس فى وجوده الا الحق والبعث والحشر، والاقرار بالرسول ليس الا من آثار الحق { وإنهم لكاذبون } مطلقا ليس فى وجودهم جهة صدق حتى يصح تقييد كذبهم بغيرها ومن لم يكن فى وجوده جهة حق وصدق لا يصدق الحق الذى اتيناهم به.
[23.91]
{ ما اتخذ الله من ولد } جواب سؤال مقدر كأنه قيل: قد علم حال منكرى البعث فما حال من جعل لله ولدا ومن جعل معه الهة اخرى اصحيح هذا منهم ام لا؟- فقال: ما اخذ الله من ولد لان الولد ما يكون مماثلا للوالد فى الذات ولوازمها فلو كان لله ولد لكان مثله الها آخر لزمه ما لزم كون الالهة معه ولذلك لم يأت ببرهان بطلانه واكتفى ببرهان تعدد الآلهة { وما كان معه من إله إذا لذهب } اذا ظرف لمحذوف والتقدير لو كان معه اله اذا لذهب { كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض } يعنى لو كان الاله اثنين لا يخلو اما ان يكونا قادرين قويين او عاجزين ضعيفين، او يكون احدهما قادرا قويا والآخر عاجزا ضعيفا، فان كان احدهما قويا والآخر عاجزا يكون الاله واحدا، وان كانا ضعيفين لم يكن شيء منهما الها للضعف الظاهر فيهما، وان كانا قويين قديرين لزم ان يكون كل منهما قادرا عاجزا غالبا مغلوبا؛ وهو محال، وذلك لان اقتضاء الآلهة القدرة التامة واقتضاء القدرة التامة ان يكون كل ما سواه مقدورا له فلو فرض الاله اثنين لزم ان يكون كل واحد منهما قادرا لفرض الآلهة فيه مقدورا لغيره لفرض الآلهة غيره، فهذه الحجة من الله تعالى برهان تام لو انضم اليه بعض المقدمات المذكورة المعلومة من عنوان الالهة ويكون معنى قوله لعلا بعضهم على بعض لعلا كل بعض منهم على كل بعض بجعل اضافة البعض للاستغراق { سبحان الله } بمنزلة النتيجة للسابق { عما يصفون } من الولد والشريك.
[23.92]
اعلم، ان العلم كما مضى فى اول الكتاب وفى سورة البقرة قد يكون بحضور ذات المعلوم عند العالم ويسمى علما حضوريا وهذا علم حقيقة ولا يكون هذا العلم الا باحاطة العالم على المعلوم وصيرورة المعلوم من شؤن العالم واظلاله، وقد يكون بحصول صورة من المعلوم عند العالم تكون تلك الصورة هى المعلومة حقيقة والمعلوم يكون معلوما بالعرض لا بالذات، وان كان مقصودا بالذات، وهذا العلم يسمى بالظن لانفكاك معلومه عنه وجواز عدم مطابقته له، وعلم البارى تعالى شأنه بالاشياء من القسم الاول لان صفحة الاعيان بالنسبة اليه تعالى كصفحة الاذهان بالنسبة الينا، ونسبة جميع الموجودات اليه تعالى كنسبة الصور الذهنية الينا، فكما ان الصور الذهنية محاطة لنا ومنوطة بارادتنا والتفاتنا اذا اردنا بقاءها كانت باقية واذا اردنا فناءها صارت فانية، كذا الموجودات المعلومات له تعالى بالنسبة اليه والمراد بالغيب والشهادة عالم الغيب الغائب عن المدارك الحيوانية وعالم الشهادة المدرك بها، ولما كانت الموجودات بحكم العقل محصورة فيهما فقوله عالم الغيب والشهادة بمنزلة عالم جميع الموجودات، ولما كان علمه بجملة الموجودات بنحو الاحاطة والتسلط على الابقاء والافناء كان قوله { عالم الغيب والشهادة } بمنزلة محيط بجملة الموجودات قاهر على الكل ولذلك اتى بقوله { فتعالى عما يشركون } بنحو التفريع واتى ههنا بفاء التفريع دون قوله { سبحان الله عما يصفون } مع ان كلا منهما تفريع ونتيجة لسابقه، لان فى قوله { سبحان الله } معنى التعجب فانه قلما يستعمل خاليا من التعجب والمناسب لانشاء التعجب القطع عن السابق بخلاف تعالى عما يشركون فانه خال عن التعجب واخبار بنتيجة السابق.
[23.93-94]
{ قل رب إما تريني } ان ترنى { ما يوعدون رب فلا تجعلني في القوم الظالمين } وضع الظاهر موضع المضمر لذم آخر والجملة تهديد لهم بترقب نزول العذاب عليهم.
[23.95-96]
{ وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون ادفع } جواب لسؤال مقدر كأنه قال: فما افعل بهم؟- ادفع { ب } الخصلة { التي هي أحسن } او بالحسنة التى هى احسن او بالدفعة التى هى احسن { السيئة } اى سيئة نفسك او سيئة غيرك والخطاب لمحمد (ص) لكن امته مقصودة بالخطاب وهذا تأديب حسن له ولامته.
بيان فى الدفع بالاحسن الى المسئ
اعلم، ان رفع اساءة المسيء يتعقل بالاساءة اليه بما يتعقل الاساءة اليه من قتله وقطع اطرافه وشقها وضربه زائدا على قدر اساءته او مساويا او ناقصا منه، والعفو عنه والصفح اى تطهير القلب من الحقد عليه والاحسان اليه، والخصلة الحسنى على الاطلاق هى الاحسان الى المسيء فانه يترتب عليه المحبة والوداد ويتعقبه ما فى قوله تعالى
فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم
[فصلت:34]، ولما لم يكن الافعال حسنها وقبحها الا باضافتها الى مباديها وغاياتها، وان كانت متعدية اعتبرت اضافتها الى من وقعت عليه بل قد يعتبر فيهما الاضافة الى المكان والزمان والآلة والحاضرين وغيرهما لم يكن المراد الدفع بالاحسن مطلقا بل الدفع بالاحسن بالاضافة الى الفاعل والمنفعل والمكان والزمان وغير ذلك لان صاحب النفس التى لم ترض من الجانى الا بقتله او باضعاف جنايته لم يكن الدفع منه بالاحسن الا بالاقتصاص، ومن يقدر على كظم الغيظ كان الدفع بالاحسن منه بكظم الغيظ، ومن يقدر على الصفح كان الصفح منه احسن، ومن يقدر على الاحسان الى المسيء كان الاحسان منه احسن، والاحسان الى الجانى الذى يزيد الاحسان فى طغيانه لم يكن حسنا بل كان قبيحا وهكذا ترك التعرض لمن يزيد عدم التعرض فى اعتدائه، وهكذا الحال بالنسبة الى الزمان والمكان والآلات والسامعين والشاهدين فعلى هذا كان معنى الآية انظر الى المسيء وحالاته وزمان رفع اساءته ومكانه فادفع بالتى هى احسن بالنظر الى جميع ما يضاف الدفع اليه السيئة سواء كانت تلك السيئة من جنودك وقواك او من انسان سواك، او من حيوان سوى الانسان فاقتل من ينبغى ان يقتل واقطع من ينبغى ان يقطع اطرافه، واقتص ممن ينبغى ان يقتص منه واضرب من ينبغى ان يضرب، وادب لسانا من ينبغى ان يؤدب لسانا، واحسن الى من ينبغى ان يحسن اليه، وقوله تعالى:
فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم
[فصلت:34] اراد بالاحسان فيه فعلا يلائم ويوافق مرتبة المسيء من غير نظر الى حال الفاعل ولا الى حال المسيء كما يجوز ان يكون المراد بالاحسان ههنا ايضا ذلك بقرينة قوله تعالى { نحن أعلم بما يصفون } فان معناه ولا تتعرض لهم بالزجر والمكافاة لانا نحن اعلم بما يصفون، ولفظة ما مصدرية او موصولة.
[23.97]
{ وقل } اذا ازعجك الشيطان للاساءة الى المسيء { رب أعوذ بك من همزات الشياطين } الهمز الغمز والضغط والطرد والدفع والضرب والعض والكسر، وهمزات الشياطين زعجاتهم وضغطاتهم.
[23.98]
فان حضورهم ليس الا لمناسبة ما بينى وبينهم ويتولد من حضورهم مناسبة اخرى فاعذنى من حضورهم يعنى من مناسبتى لهم وتولد مناسبة اخرى منهم.
[23.99]
{ حتى إذا جآء أحدهم الموت } غاية ليصفون او لكاذبون او لقوله قالوا امثل ما قال الاولون { قال رب ارجعون } اتى بارجعون جمعا اما لتشريك الملائكة معه تعالى او لتعظيم الرب.
[23.100]
{ لعلي أعمل صالحا } فردا من الاعمال الصالحة او صالحا عظيما هو ولاية على بن ابى طالب (ع) لانه يظهر حينئذ ان الرب المضاف كان عليا (ع)، وان لا يقبل عمل الا بولايته وان لا صالح الا هى، وان كل صالح صالح بها { فيما تركت } اى فى الدنيا التى تركتها او فى الاعمال التى تركتها، او فى الولاية التى تركتها وقد فسر فى الاخبار المتروك بالزكوة المتروكة { كلا } جواب وردع لسؤال مقدر كأنه قيل: هل يجيب الله سؤالهم؟- فقال: كلا وارتدع عن هذا السؤال او كأنه قيل: هل يعمل صالحا ان رجع الى الدنيا؟- قال: كلا { إنها كلمة هو قآئلها } وليس اجابة لها او ليس يعمل صالحا ان رجع { ومن ورآئهم } امامهم او خلفهم فان الكفار حين الرجوع الى الآخرة يكونون مقبلين على الدنيا ومدبرين عن الآخرة لتعلق قلوبهم بالدنيا ووراء بتثليث الآخر مبنية، والوراء معرفة باللام بمعنى قدام وخلف { برزخ إلى يوم يبعثون } للحساب او للجنة والنار والمراد يوم القيامة ويوم انتهاء البرزخ وانتقال اهل الجنة واهل النار الى النار.
بيان لترقى الارواح فى البرزخ
والبرزخ هو الحاجز بين الشيئين ويسمى ما بين عالم الطبع وعالم المثال برزخا لكونه بين الدنيا والآخرة فان الدنيا دار ابتلاء وامتحان والآخرة دار راحة وقرار، والبرزخ بينهما هو الذى يدخله الانسان بعد الموت ولا يستقر فيه بل يجوزه سريعا او بطيئا بتعب او براحة، وهو الذى يسمى بهور قوليا وبعده جابلسا كما ان قبله جابلقا وهو المدينة التى لها الف الف باب ويدخله كل يوم ما لا يحصى من خلق الله ويخرج منه كل يوم مثل ذلك وقد سبق الاشارة اليه فى سورة البقرة عند قوله تعالى:
فسجدوا إلا إبليس
[البقرة:34] وفى غيرها، وقد اختلف الاقوال فى ان للانسان بعد الموت ترقيا وتنزلا فقيل: ان الترقى والتنزل والخروج من القوة الى الفعل لا يكون الا فى الدنيا لان حامل القوة وهو المادة لا يكون الا فى الدنيا وبعد الموت والانفصال من المادة لا يكون قوة حتى يكون خروج من القوة الى الفعلية العلوية او السفلية فلا يكون الترقى والتنزل، والمأثور من الانبياء (ع) واتباعهم ان عالم البرزخ عالم فيه يتخلص النفوس عن شوائبها الغريبة فان كانت النفوس سجينية تخلصت من شوائب العليين حتى اذا بلغت الى الاعراف لم يكن عليها من العليين شيء، واذا كان عليينية تخلصت من شوائب السجين، فاذا بلغت النفوس الى الاعراف خالصة من الشوائب الغريبة دخلت كل منها مقرها من الجحيم والجنان وهذا فى الحقيقة طرح للغرائب وظهور لما هو ذاتى وليس خروجا من القوة الى الفعلية بل ظهور للفعلية الحاصلة فلا منافاة بين ما ورد فى الشرائع الالهية وبين ما قاله الحكماء من طريق الموازين العقلية وليس الوقوف فى البرازخ لكل احد بل الخارج الى الفعليات السفلية من غير بقاء اثر من الفعليات العلوية عليه، والخارج الى الفعليات العلوية من غير بقاء شوب من الفعليات السفلية عليه اذا ماتا دخلا مقرهما من غير وقوف، وما ورد ان بعض الناس يمر على الصراط كالبرق الخاطف، اشارة اليهما، وغير هذين الصنفين له وقوف فى البرازخ قليلا او كثيرا معذبا او غير معذب حتى يخلص من الشوائب الغير الذاتية ويدخل مقره، ولا شك فى ان المسلم قد يكون له برزخ، واما المؤمن الذى بايع البيعة الخاصة وقبل الولاية ودخل الايمان فى قلبه ودخل هو فى امر الائمة فاكثر الاخبار تدل على ان ليس له برزخ ويكون برزخه وخلاصه من الشوائب قبل الموت، وعند الموت لا يكون عليه شوب حتى يحتاج الى الوقوف فى البرازخ، وفى بعض الاخبار دلالة على ان المؤمن ايضا قد يوقف فى البرازخ وشهود اهل الشهود يدل على ذلك لكن هذا الوقوف لقليل من المؤمنين الضعيف الايمان، واكثرهم لا وقوف لهم فى البرازخ، والتحقيق ان المؤمن اذا خرج من حدود نفسه او لم يخرج لكن كان فى وجوده قوة مهيجة له على الخروج لا يوقف فى البرازخ، واذا لم يخرج من حدود نفسه ولم يكن له قوة مهيجة على الخروج وكان راضيا ببيت نفسه مطمئنا بارض طبعه يوقف لا محالة فى البرازخ بحسب تفاوت غرائبه وتفاوت تشبثها وقد شوهد لبعض المؤمنين تكرار الموت ونزع الروح فى البرزخ، فاتقوا اخوانى وقوفات البرزخ وموتاتها،
ولتنظر نفس ما قدمت لغد
[الحشر: 18]، فما ورد من ان المؤمن لا يخرج من الدنيا الا بعد طهارته من الذنوب؛ انما هو لمن كان خارجا من حدود نفسه او من كان فيه قوة مهيجة، وما اشعر بوقوفه فى البرزخ كان لمن لم يخرج ولم يكن فيه قوة مهيجة.
[23.101]
{ فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم } الصور بضم الصاد وسكون الواو القرن الذى ينفخ فيه.
شرح فى نفخ الصور
ورد فى الخبار انه قرن من نور ينفخ فيه اسرافيل وله رأس وطرفان فينفخ فيه اسرافيل فيخرج الصوت من الطرف الذى يلى الارض فيموت اهل الارض، ويخرج الصوت من الطرف الذى يلى السماوات فيموت اهل السماوات ثم يمكث الارض والسماوات خالية من اهلها وسكانها ما شاء الله بعدما امات الله جبرائيل وميكائيل واسرافيل وعزرائيل ثم ينفخ الله فى الصور او يبعث الله اسرافيل فيأمره فينفخ فى الصور مرة اخرى وله ثقب بعدد ارواح الخلائق فيخرج الصوت من احد طرفيه الذى يلى السماوات فلا يبقى فى السماوات احد إلا حيى وقام كما كان ويعود حملة العرش ويحضر الجنة والنار وتحشر الخلائق للحساب، وقيل: ان الصور ههنا وفى غير هذا الموضع مما ذكر من امثال الآية جمع الصورة ويؤيد هذا قراءته بضم الصاد وفتح الواو وبكسر الصاد وفتح الواو فانهما ليسا الا جمع الصورة بمعنى الشكل والهيئة، ونسب الى السجاد (ع) انه سئل عن النفختين كم بينهما؟- قال: ما شاء الله، قيل: فأخبرنى يابن رسول الله (ص) كيف ينفخ فيه؟- فقال: اما النفخة الاولى فان الله عز وجل يأمر اسرافيل فيهبط الى الدنيا ومعه الصور وللصور رأس واحد وطرفان وبين رأس كل طرف منهما الى الآخر مثل ما بين السماء الى الارض، فاذا رأت الملائكة اسرافيل قد هبط الى الدنيا ومعه الصور قالوا: قد اذن الله تعالى فى موت اهل الارض وفى موت اهل السماء، قال: فيهبط اسرافيل بحظيرة بيت المقدس وهو مستقبل الكعبة فاذا رآه اهل الارض قالوا: قد اذن الله تعالى فى موت اهل الارض فينفخ نفخة فيخرج الصوت من الطرف الذى يلى الارض فلا يبقى فى الارض ذو روح الا صعق ومات، ويخرج الصوت من الطرف الذى يلى السماوات فلا يبقى فى السماوات ذو روح الا صعق ومات الا اسرافيل، قال (ع): فيقول الله لاسرافيل: يا اسرافيل مت؛ فيموت اسرافيل، فيمكثون فى ذلك ما شاء الله، ثم يأمر السماوات فتمور، ويأمر الجبال فتسير؛ وهو قوله تعالى
يوم تمور السمآء مورا، وتسير الجبال سيرا
[الطور:9-10] يعنى يبسط ويبدل الارض غير الارض يعنى بأرض لم تكسب عليها الذنوب بارزة ليس عليها جبال ولا نبات كما دحاها اول مرة ويعيد عرشه على الماء كما كان اول مرة مستقلا بعظمته وقدرته قال (ع): فعند ذلك ينادى الجبار تبارك وتعالى بصوت من قبله جهورى يسمع اقطار السماوات والارضين:
لمن الملك اليوم
[غافر: 16] - فلا يجيبه مجيب فعند ذلك يقول الجبار عز وجل مجيبا لنفسه:
لله الواحد القهار
[غافر: 16]، وانا قهرت الخلائق كلهم وامتهم انى انا الله لا اله الا انا وحدى، لا شريك لى ولا وزير، وانا خلقت خلقى بيدى، وانا امتهم بمشيتى، وانا احييهم بقدرتى، قال (ع): فينفخ الجبار نفخة اخرى فى الصور فيخرج من احد الطرفين الذى يلى السماوات فلا يبقى فى السماوات احدا لا حيى وقام كما كان، ويعود حملة العرش ويحضر الجنة والنار ويحشر الخلائق للحساب، وقد ورد غير ذلك من الاخبار مفصلا من اراد فليرجع الى المفصلات. ولما كانت النسب الجسمانية من التناسب والمصاهره وهكذا ولاء العتق لا تحصل الا بتوسط المادة الجسمانية والاعتبارات الجرمانية سواء حصل التناسب بين النفسين بتلك النسبة الجسمانية او لم يحصل، وبالنفخة الاولى يخلص النفوس من المادة الجرمانية سواء صارت متعلقة بابدان مثالية او كانت مجردة عن ذلك، وبالنفخة الثانية لا تعود المواد بل الاجسام مجردة عن موادها كان كل نسبة وخلة جسمانية منقطعة فى النفختين الا النسب الروحانية التى تحصل للانسان باحدى البيعتين او بالسنخية والتوادد بين المتناسبين فلا يبقى انساب جسمانية بينهم { يومئذ ولا يتسآءلون } اما فى النفخة الاولى فظاهر واما فى النفخة الثانية ففى موقف الحساب لا فى جميع المواقف فان فى بعض المواقف يقبل بعضهم على بعض يتساءلون.
[23.102-103]
{ فمن ثقلت موازينه } قد مضى تحقيق الوزن والميزان وبيان الموازين فى اول سورة الاعراف فى نظير الآية
فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم
[الأعراف: 8-9] لانهم ضيعوا بضاعتهم التى هى فطرتهم الانسانية ومدة عمرهم من غير اكتساب كمال لنفوسهم فأنفذوا بضاعتهم من غير عوض { في جهنم خالدون } لعدم بقاء الفطرة التى تكون غير ملائمة للجحيم ومخرجة منها.
[23.104]
{ تلفح وجوههم النار } لفح النار بحرها احرقت، والجملتان خبر ان بعد خبر او الذين خسروا انفسهم صفة وفى جهنم خالدون خبره، او فى جهنم خالدون حال وتلفح وجوههم خبر، او الجملتان حالان مترادفتان او متداخلتان او مستأنفتان { وهم فيها كالحون } كلح كمنع كلوحا وكلاحا بضمهما تقلص شفتاه فى عبوس سواء كان فى تبسم او غيره وهذه الجملة حالية او معطوفة.
[23.105-106]
{ ألم تكن آياتي تتلى عليكم } جملة مستأنفة بتقدير القول وجواب لسؤال مقدر كأنه قيل: ما يقال لهم حينئذ؟- فقال: يقال: لتأنيبهم: الم تكن آياتى تتلى عليكم { فكنتم بها تكذبون قالوا } هذا ايضا جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: فما يقولون؟- فقال: يقولون لكنه عدل الى الماضى لتحقق وقوعه { ربنا غلبت علينا شقوتنا } فلم تدعنا نتبع آياتك وقادتنا الى تكذيب الآيات وسوء العاقبة { وكنا قوما ضآلين } بحسب الفطرة.
[23.107]
{ ربنآ أخرجنا منها فإن عدنا } الى ما كنا فيه { فإنا ظالمون } كأنهم اعتذروا عن تكذيب الآيات فى الكرة الاولى بكونهم مقهورين للشقوة وعدم رادع لهم من اتباع الشهوة لا من انفسهم ولا من الخارج لانهم كانوا ضالين عن الطريق فما امكن لهم التوسل بآثار الطريق لعدم ظهورها عليهم وما بلغ اسماعهم دلالة صاحب الطريق لضلالهم عنه وتمنوا الرجوع الى الدنيا لما علموا الطريق وعقباتها، وقالوا: ان رجعنا لا نكذب لما علمنا الطريق وآثارها وعقباتها فلا نخرج ولا نضل عن الطريق، واذا لم نضل عن الطريق لم نضل عن صاحبها، واذا لم نضل عن صاحبها لا نكذب وان نكذب كنا حينئذ ظالمين بوضعنا التكذيب الذى لا ينبغى لنا موضع التصديق الذى كان من شأننا، واما التكذيب السابق فكأنه كان مقتضى ضلالتنا ولم يكن ظلما منا.
[23.108]
{ قال اخسئوا فيها } اخسأ كلمة تقال لزجر الكلب { ولا تكلمون } هاتان الكلمتان اظهار لغاية السخط عليهم وردع لهم عن ساحة حضوره ومحل خطابه.
[23.109]
{ إنه كان فريق من عبادي يقولون } حالا وقالا { ربنآ آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين } يعنى ان جماعة من عبادى وهم الذين تولوا عليا (ع) بالبيعة الخاصة توسلوا بى وتضرعوا على والتجأوا الى.
[23.110]
{ فاتخذتموهم سخريا } قرئ بضم السين وكسرها { حتى أنسوكم } يعنى صاروا بسبب اشتغالكم باستهزائهم اسبابا لنسيانكم { ذكرى } واسبابا لضلالكم لا انكم كنتم ضالين بفطرتكم { وكنتم منهم تضحكون } وهؤلاء كانوا اوليائى وكان الاستهزاء بهم استهزاء بى فجزيتكم ذلك الجزاء واكرمتهم غاية الاكرام.
[23.111]
{ إني جزيتهم اليوم بما صبروا } على استهزائكم وايذائكم { أنهم هم الفآئزون } قرئ بفتح الهمزة مفعولا لجزيتهم، وبكسر الهمزة مستأنفا فى مقام التعليل يعنى جزيتهم احسن الجزاء بان جعلتهم مخصوصين بالفوز والنجاة، او فائزين بمراداتهم، او فائزين بكمالات الانسان ولذائذه مطلقا.
[23.112-113]
{ قال } اى قال الله او الملك الموكل بهم وقرئ قل:على ان يكون امرا للملك الموكل بهم { كم لبثتم في الأرض } اى حين الحيوة الدنيا او فى ارض القبور بعد الموت { عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم } فانهم لدهشتهم ووحشتهم استقلوا مدة لبثهم فى الدنيا او فى القبور { فسئل العآدين } اى الملائكة الموكلين بحفظ الاعوام والشهور والايام علينا يستشهدون الملائكة على صدق مقالتهم او كأنهم يلتفتون انهم مخالطون متحيرون فى تعيين الايام والشهور ويقولون: لا علم لنا بما نقول فاسئل الملائكة.
[23.114]
{ قال } الله او الملك وقرئ: قل مثل سابقه { إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون } لما خالطتم او لفظة لو للتمنى.
[23.115]
{ أفحسبتم } اى اما تأملتم او اهملتم فحسبتم { أنما خلقناكم عبثا } عبث كفرح لعب وكضرب خلط { وأنكم إلينا لا ترجعون } وهذه الجملة مستأنفة جواب لسؤال مقدر بتقدير القول اى نقول: افحسبتم انما خلقناكم من غير استكمال لكم ومن غير استبقاء فكذبتم واتبعتم اهواءكم وأعرضتم عن رسلنا وخلفائنا.
[23.116]
{ فتعالى الله الملك الحق } الذى لا يشوبه باطل عن العبث والفضل الذى لم يكن له غاية { لا إله إلا هو } فلا حاجة له الى من يعضده فيخلق خلقا يعضدونه ثم يهلكهم من غير غاية { رب العرش الكريم } ومن كان ربا للعرش وهو جملة الموجودات لم يكن له حاجة الى الخلق يخلقهم ليجود عليهم.
[23.117]
{ ومن يدع } جملة حالية او معطوفة على لا اله الا هو { مع الله } الذى لا اله الا هو { إلها آخر } من الاصنام والكواكب والظلمة واهريمن او من يدع مع على (ع) اماما آخر { لا برهان له به } لان من يدعو الها له على آلهته برهان كمن يدعو الانبياء والاولياء (ع) لظهور برهان صدقهم فى ادعائهم فهو موحد لا مشرك ومثاب لا معاقب ولكن الذى يدعو الها او اماما لا برهان له على صدقه { فإنما حسابه عند ربه } كناية عن شدة العقاب وسوء الحساب { إنه لا يفلح الكافرون } جواب لسؤال عن العلة كأنه قال: فانه كافر ولا يفلح الكافرون.
[23.118]
{ وقل } خطاب لمحمد (ص) او عام وعطف على مقدر كأنه قال: تذكر او ذكر ما ذكرنا وتوسل بنا واسئلنا وقل { رب اغفر } مساوينا التى يلزمنا من الاشتغال بكثرات وجودنا والكثرات الخارجة من وجودنا من اتباع اهويتنا والنظر الى غيرك فى فعالنا { وارحم } بعد التفضل بالمغفرة { وأنت خير الراحمين } جملة حالية وذكر له تعالى باتصافه بكمال مسؤله استرحاما منه.
[24 - سورة النور]
[24.1]
{ سورة } قد مضى فى اول الفاتحة بيان السورة وقرئ ههنا مرفوعا مبتدء او خبرا لمحذوف او مبتدء و { أنزلناها } خبره ومسوغ الابتداء به كون التنوين للتفخيم او للتنويع، وقرئ بالنصب مفعولا لمحذوف من غير مادة الفعل المذكور، او لمحذوف يفسره قوله انزلناها { وفرضناها } اى وقتناها وعيناها او اوجبنا على الناس ما فيها او فصلناها وميزناها وميزنا ما فيها من الاحكام او أعطيناها { وأنزلنا فيهآ آيات } تدوينية { بينات } اى بينات المعانى او مبينات للمقاصد او احكام تكليفية فى صورة الكلمات والحروف ظاهرات المصالح { لعلكم تذكرون } حكمها ومصالحها فتعملون بها، ثم شرع فى بيان الآيات فقال { الزانية والزاني.... }.
[24.2]
{ الزانية والزاني } اى منهما حكمهما او الزانية مبتدء وقوله { فاجلدوا } خبره، ودخول الفاء بتقدير اما او توهمها لكون المقام للتفصيل او لتضمن المبتدا معنى الشرط لانه بمعنى التى زنت، وقرئ بنصبهما بتقدير فعل ناصب لهما من مادة الفعل المتأخر اى اجلدوا او من مادة اخرى اى اذكروا او احضروا الزانية، وتقديم الزانية مع ان الرجل اولى بالتقديم لان الزنا منها اقبح ولان شأنها بفطرتها ان تمنع الرجال من نفسها فاذا مكنت الرجل منها كانت اولى بالعقاب ولذلك كان حدها مساويا لحده وقال تعالى فاجلدوا { كل واحد منهما مئة جلدة } مع ان شأنها فى الحدود ان يخفف عليها بالنسبة الى الرجال { ولا تأخذكم بهما } متعلق بلا تأخذكم والباء للسببية او للآلة او متعلق بقوله { رأفة } وتقديمه على المصدر لكونه ظرفا { في دين الله } ظرف لغو متعلق باجلدوا او بلا تأخذكم او برأفة شبه دين الله بمكان مخصوص او ظرف مستقر حال من فاعل اجلدوا او من مفعوله وجعله حالا من مفعوله يفيد انهما لا يجلد ان لم يكونا فى دين الله، او حال من مفعول لا تأخذكم او صفة لرأفة وفائدة التقييد به التنبيه على الخلوص من شوب الهوى { إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } قيد للجلد او لعدم أخذ الرأفة والشرط للتهييج { وليشهد عذابهما طآئفة من المؤمنين } اى جماعة اقلها الثلاثة وقيل: اقلها الواحد، وقيل: اقلها ههنا اربعة لان اقل ما يثبت به الزنا شهادة الاربعة، وقيل: منوط عددهم برأى الامام والمقصود من احضار طائفة فى عذابهما تنكيلهما بالتفضيح علاوة على تنكيلهما بالعذاب ليكون تعذيبا شديدا لهما وعبرة لغيرهما، وهذه الآية فى بيان حد الزانيين مجملة؛ فان الزانيين اما يكون كلاهما او احدهما من اهل الذمة او يكونان مسلمين محصنين او غير محصنين، بكرين او غير بكرين، حرين او عبدين، ولكل حكم وهذا حكم الحرين المسلمين الغير المحصنين الغير البكرين، روى ان عمر اتى بخمسة نفر أخذوا فى الزنا فامر ان يقام على كل واحد منهم الحد، وكان امير المؤمنين (ع) حاضرا فقال: يا عمر ليس هذا حكمهم، قال: فأقم انت الحد عليهم فقدم واحدا منهم فضرب عنقه، وقدم الآخر فرجمه، وقدم الثالث فضربه الحد، وقدم الرابع فضربه نصف الحد، وقدم الخامس فعزره؛ فتحير عمر وتعجب الناس من فعله، فقال له عمر: يا ابا الحسن خمسة فى قضية واحدة اقمت عليهم خمسة حدود وليس شيء منها يشبه الآخر؟! فقال امير المؤمنين (ع): اما الاول فكان ذميا فخرج عن ذمته ولم يكن له حد الا السيف، واما الثانى فرجل محصن حده الرجم، واما الثالث فغير محصن حده الجلد، واما الرابع فعبد ضربناه نصف الحد، واما الخامس فمجنون مغلوب على عقله، ونقل ستة نفر وقال: واطلق السادس ثم قال: واما الخامس فكان منه ذلك الفعل بالشبهة فعزرناه وادبناه، واما السادس فمجنون مغلوب على عقله سقط منه التكليف، وتفصيل الزانيين وحكمهما يطلب من الكتب الفقهية.
[24.3]
{ الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحهآ إلا زان أو مشرك } قدم الزانى ههنا لان المقام لبيان حكمهما والرجل مقدم على المرأة واولى بالحكم منها، قيل: هو رد على من يستحل التمتع بالزوانى والتزويج بهن وهن المشهورات المعروفات فى الدنيا لا يقدر الرجل على تحصينهن، وفى الخبر عن الصادق (ع): هن نساء مشهورات بالزنا ورجال مشهورون بالزنا شهروا به وعرفوا به والناس اليوم بتلك المنزلة فمن اقيم عليه حد الزنا او شهر بالزنا لم ينبغ لاحد ان يناكحه حتى يعرف منه التوبة، وفى خبر انما ذلك فى الجهر ولو ان انسانا زنى ثم تاب تزوج حيث شاء، وفى خبر: لم يسم الله الزانى مؤمنا ولا الزانية مؤمنة وذلك لانه تعالى جعلهما فى قبال المؤمنين وقرينين للمشرك والمشركة، فعلى ما ذكر فى الاخبار كانت الآية نهيا فى صورة الاخبار وهو آكد من الاتيان بصورة النهى وهو كناية عن نهى المؤمن والمؤمنة عن نكاح الزانية والزانى والمشركة والمشرك فان الاخبار عن الزانى والزانية بانحصار نكاحهما فيهم يدل على ان عنوان الزنا يقتضى حصر نكاحهما فيهم فكل عفيف وعفيفة رضى بنكاحها منهم كان بمنزلة الزانى والزانية، والعفيف والعفيفة لا يرضيان بجعلهما بمنزلة الزانى والزانية فلا ينكحا من الزانى والزانية والمشرك والمشركة ولذا صرح بهذا المكنى وقال { وحرم ذلك على المؤمنين } يعنى المؤمنين والمؤمنات لكنه اكتفى بالمؤمنين تغليبا، وقيل: ان المعنى ان الذى زنى لا يجامع فى حال الزنا الا التى كانت شريكة له فى الزنا او كانت مشركة وهى اسوء من الزانية يعنى المرأة شريكة له فى الزنا او كانت اسوء حالا من الزنا، وقيل: هذا الحكم كان ثابتا لكل زان وزانية وكان نكاح غير الموصوف بالزنا حراما عليهما سواء كانا مشهورين به ام لا، ثم نسخ هذا الحكم بقوله تعالى:
وأنكحوا الأيامى منكم
[النور: 32] اوالمعنى على الاخبار والمقصود ان الزانى لا يرغب ولا يعقد الا على الزانية لعد السنخية بينه وبين الصالحات فيكون الاخبار عن الكل باعتبار الغالب.
[24.4]
{ والذين يرمون } لما بين حكم الزانى والزانية وحدهما وغلظ عليهما اراد ان يبين ان نسبة الفاحشة الى العباد امر عظيم مستحق قائلها للعذاب مثل عذاب الزانى والزانية غاية الامر ان عذابه دون مرتبة عذابهما بدرجة وان يبين ان اثبات الفاحشة للعباد ليس مثل اثبات سائر الحقوق يكتفى فيها ببينتين حتى لا يجرأ الناس على نسبة الزنا الى العباد فقال: والذين يرمون { المحصنات } اللاتى احصن فروجهن بالعفاف والاسلام والحرية والبلوغ والعقل فان المراد بالاحصان ههنا هذه { ثم لم يأتوا بأربعة شهدآء فاجلدوهم ثمانين جلدة } هذه الآية مجملة كاكثر الآيات فان ظاهرها اختصاص الرامين بالرجال والمرمى بالنساء والحال انه لا فرق فى الرامى والمرمى بين الرجل والمرأة، والعبد والحر، والمحصن وغير المحصن، والبكر وغير البكر، ولا بين ان يكون الرمى فى حضور المرمى او فى غيابه بلا خلاف فى اكثر المذكورات، ولا بين كون الرمى بالصراحة او بالكناية الغير المحتملة غيرها ولكن ينبغى ان يكون الرامى عارفا بمعنى الكلمة فلو قال: انت تزنى او ابوك زنى بك او يا ابن الفاعلة او انت المفعول وانت تعمل عمل قوم لوط، او لست من ابيك، او امى ما زنت فى مقام لا يحتمل سوى التعريض، او انا لست من الزنا تعريضا بالغير فى مقام لا يحتمل غير التعريض، او قال فى مقام السب ما صريحه الرمى مع قصد الرمى مثلا امرأتك الفاعلة او مثل النسبة الى الدياثة مع قصد الرمى كان رميا ولو لم يقصد بلفظة الرمى، او لم يكن صريحة الرمى مثل ان يقول: ولدت من الحرام فإنه مشترك بين الرمى والتوليد من الغذاء الحرام والانعقاد حال الحيض لم يكن رميا، نعم لو قال امثال ذلك فى حضور المسلم كانت هتكا لحرمته وكان قائلها مستحقا للتعزير، ولما جعل تعالى حكم زنا المحصنين وحكم اللواط والسحق القتل اعتبر فى اثباتها اربع رجال من دون اعتبار النساء عوضهم منفردات او منضمات ليكون اثباتها صعبا وجعل على من نسب هذه الى احد من دون الاتيان باربعة رجال حدا حتى لا يجترء احد على نسبة هذه الى الناس ولو رآهم عليها لا يجترء على ابرازها لئلا يفتضح المسلمون من غير جرم او ليتوب المجرم ولا يفتضح ولا يزهق روحه بجرم يمكن ان يتوب عنه ويعبد الله بعده، ولئلا يفترى العامة على الخاصة، ولئلا يجترؤا على الاظهار اذا رأوهم على المتعة فان الله قد علم انهم سينكرونها ويأخذون عليها فجعل الشاهد للزنا اربعة رجال فقط لئلا يجترء من رأى احدهم على التمتع بالمتعة على الاظهار فانه قلما يتفق اطلاع اربعة رجال على الوطى ولو كان حلالا، روى عن الصادق (ع) انه سئل لم جعل فى الزنا اربعة شهود وفى القتل شاهدان؟- فقال: ان الله احل لكم المتعة وعلم انها ستنكر عليكم فجعل الاربعة الشهود احتياطا لكم لولا ذلك لاتى عليكم، وقلما تجتمع اربعة شهادة بامر واحد، وفى رواية قال (ع): الزنا فيه حدان ولا يجوزان يشهد كل اثنين على واحد لان الرجل والمرأة جميعا عليهما الحد، والقتل، انما يقام الحد على القاتل ويدفع عن المقتول { ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون } عطف فيه معنى التعليل، نسب الى الباقر (ع) انه نزل بالمدينة والذين يرمون المحصنات قال فبرأ الله المفترى ما كان مقيما على الفرية من ان يسمى بالايمان قال الله عز وجل
أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون
[السجدة:18] وجعله الله منافقا فقال الله:
إن المنافقين هم الفاسقون
[التوبة:67] وجعله الله من اولياء ابليس قال:
إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه
[الكهف:50]، وجعله ملعونا فقال:
إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة
[النور:23].
[24.5]
روى ان الصادق (ع) سئل: كيف تعرف توبته؟- فقال: يكذب نفسه على رؤس الخلائق حين يضرب ويستغفر ربه؛ فاذا فعل ذلك فقد ظهرت توبته، وفى خبر عن الصادق (ع) القاذف يجلد ثمانين جلدة ولا تقبل له شهادة ابدا الا بعد التوبة، او يكذب نفسه وان شهد ثلاثة وابى واحد يجلد الثلاثة ولا تقبل شهادتهم حتى يقول اربعة رأينا مثل الميل فى المكحلة، ومن شهد على نفسه انه زنى لم يقبل شهادته حتى يعيد اربع مرات كل مرة بازاء شاهد، وعلى هذا يكون قوله : { إلا الذين تابوا } استثناء من قوله: { ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا } ، او من قوله: { وأولئك هم الفاسقون } ، ويجوز ان يكون المراد بالتوبة التوبة الخاصة الجارية على ايدى خلفاء الله فانه اذا حصل هذه التوبة جبت جميع ما سلف، وعلى هذا يجوز ان يكون الاستثناء من قوله { فاجلدوهم ثمانين جلدة } ، والمراد بالاصلاح بعد التوبة والرمى اصلاح نفوسهم بالاعمال الصالحة او استرضاء المرمى وتكذيب نفسه عند من رمى عنده وهتك حرمة المرمى فى حضوره، او تسليم نفسه لاجراء الحد من دون ان يجد فى قلبه حرجا مما قضى عليه.
[24.6]
{ والذين يرمون أزواجهم } لما ذكر حكم قذف الاجنبية اراد ان يبين حكم رمى الازواج حتى لا يتوهم ان رمى الازواج كرمى الاجنبية { ولم يكن لهم شهدآء إلا أنفسهم } فى الاتيان بهذا الاستثناء اشعار بان الرمى قد يكون عن ظن وتخمين وحدس، وقد يكون عن شهود وعيان، وهذا الحكم لمن شهد لا لمن حدس { فشهادة أحدهم أربع شهادات } مكان اربع شهود، قرئ اربع شهادات بالنصب مفعولا مطلقا وحينئذ يكون شهادة احدهم مبتدء محذوف الخبر اى واجبة او عليهم او خبرا محذوف المبتدأ اى الواجب او المعتبر او حكم الله شهادة احدهم، وقرئ بالرفع وحينئذ يكون شهادة احدهم مبتدء واربع شهادات خبره، او يكون شهادة احدهم على الوجوه السابقة واربع شهادات بدلا منه والمراد من احدهم واحد لا على التعيين حتى يفيد العموم البدلى اى شهادة كل واحد منهم اربع شهادات { بالله } متعلق بشهادات او بشهادة احدهم او متنازع فيه { إنه لمن الصادقين } اى فيما رماها والجملة مفعول لشهادة احدهم او لشهادات والعامل معلق عنها او هى خبر عن الشهادة ووجه جواز حملها على الشهادة لكون الشهادة فى معنى القول او مستأنفة جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: ما يقول او ما يشهد؟- فقال: يقول: انه لمن الصادقين.
[24.7]
{ والخامسة } اى الشهادة الخامسة { أن لعنة الله } قرئ بتخفيف نون ان ورفع لعنة الله وتشديد نون ان ونصب لعنة الله { عليه إن كان من الكاذبين } وهذا لعان الرجل وحكمه سقوط حد القذف عنه ولزوم الفرقة بينه وبينها.
[24.8]
{ ويدرؤا عنها العذاب } اى عذاب الرجم { أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين } فيما رماها به.
[24.9]
{ والخامسة } قرئ برفع الخامسة مبتدء وبنصبها عطفا على اربع شهادات بالنصب { أن غضب الله } قرئ بتخفيف النون وغضب فعلا ماضيا وبالتخفيف وغضب الله مصدرا مرفوعا، وقرئ بتشديد النون وغضب الله مصدرا منصوبا { عليهآ إن كان من الصادقين } فيما رماها به، عن الصادق (ع) فى جواب من سأله عن هذه الآية انه القاذف الذى يقذف امرأته فاذا قذفها ثم اقر انه كذب عليها جلد الحد وردت اليه امرأته وان ابى الا ان يمضى فليشهد عليها اربع شهادات بالله انه لمن الصادقين، والخامسة يلعن فيها نفسه ان كان من الكاذبين، وان ارادت ان تدرأ عن نفسها العذاب والعذاب هو الرجم شهدت اربع شهادات بالله انه لمن الكاذبين، والخامسة ان غضب الله عليها ان كان من الصادقين، فان لم تفعل رجمت وان فعلت درأت عن نفسها الحد ثم لا تحل له الى يوم القيامة، قيل: ارأيت ان فرق بينهما ولها ولد مات؟- قال: ثرته امه وان ماتت امه ورثه اخواله، ومن قال: انه ولد زنا جلد الحد، قيل: يرد اليه الولد اذا اقر به؟- قال: لا ولا كرامة ولا يرث الابن ويرثه الابن، وفى خبر: ان الآية نزلت فى رجل من المسلمين جاء الى رسول الله (ص) وادعى انه رأى رجلا مع امرأته، وفى خبر ان عويمر بن ساعدة العجلانى رأى ذلك وجاء الى رسول الله (ص) وتلاعنا، وفى خبر ان هلال بن امية قذف زوجته بشريك بن السمحاء، وعن الصادق (ع) اذا قذف الرجل امرأته فانه لا يلاعنها حتى يقول رأيت بين رجليها رجلا يزنى بها، وعن الباقر (ع) يجلس الامام مستدبر القبلة فيقيمهما بين يديه مستقبلا القبلة بخداء ويبدأ بالرجل ثم المرأة واذا شهد مرتين او ثلاث مرات ونكل جلد الحد، ولا يفرق بينه وبين امرأته، واشير فى الخبر الى انه لما جعل الله للزوج مدخلا لم يجعله لغيره جعل الله شهادته اربع شهادات بالله مكان اربع شهود بخلاف غيره من اب وولد واخ وغيره، ولو قال غيره ذلك قيل له: وما أدخلك المدخل الذى ترى هذا فيه وحدك انت متهم.
[24.10]
{ ولولا فضل الله عليكم ورحمته } قد مضى مكررا ان المراد بالفضل الرسالة وأحكامها والرسول، وبالرحمة الولاية وآثارها وعلى (ع) { وأن الله تواب حكيم } ولفضحكم او عاجلكم بالعقوبة حذف الجواب تفخيما للعقوبة كأنها لا يمكن ان تجرى على اللسان وليذهب ذهن السامع كل مذهب ممكن، ولانه تعالى جرى على طريقة مخاطبات العرف فان الغضوب اذا اشتد غضبه غاية الاشتداد لا يفى شدة غضبه باطالة الكلام واتمام الخطاب فيحذف منه بعضه وان كان اصل الغضب يقتضى اطالة الكلام وتغليظه.
[24.11]
{ إن الذين جآءوا بالإفك } افك كضرب وعلم افكا بالكسر والفتح والتحريك كذب كأفك بالتشديد وافكه عنه كضرب صرفه وقلبه او قلب رأيه { عصبة } اى جماعة { منكم لا تحسبوه شرا لكم } الضمير للافك او الاتيان بالافك المستفاد من جاؤا بالافك { بل هو خير لكم } لان افكهم لا يورث ضررا عليكم بل ينفعكم لانه يكون كفارة لذنوبكم وتخفيفا لاثقالكم { لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم } فان من هؤلآء العصبة من يقول افتراء مع علم بانه افتراء، ومنهم من يقوله ظنا وتخمينا، ومنهم من يقول تقليدا، ومنهم من يستمع، ومنهم من يسمع، ولكل منهم قدر ما اكتسب من الاثم { والذي تولى كبره } معظم الاثم كعبدالله بن ابى سلول فانه كان رأس اصحاب الافك كانوا يجتمعون عنده وكان يحدث الناس بحديث الافك ويشيع ذلك بين الناس ويقول باتت امرأة نبيكم مع رجل حتى اصبحت ثم جاء يقودها والله ما نجت منه وما نجا منها، وقيل: المراد مسطح بن اثاثة، وقيل: حسان بن ثابت، او المعنى الذى تولى كبرياءه وتأنف عن انقياد الرسول (ص) وتوقيره { منهم } اى من هؤلآء العصبة { له عذاب عظيم } قد نقل فى تفاسير الخاصة والعامة ان الآيات نزلت فى عائشة، وسبب نزولها ان الرسول (ص) خرج بها فى غزوة بنى المصطلق وكان الرسول (ص) اذا اراد ان يخرج باحداهن فى غزوة اقرع بينهن وبعدما رجع من تلك الغزوة ودنى من المدينة قامت عائشة حين اذنوا بالرحيل ومشت حتى جاوزت الجيش فلما قضت شأنها اقبلت الى الرحل فلمست صدرها فلم تجد عقدها فرجعت فى التماسها عقدها فحبسها ابتغاؤه واقبل الرهط الذين يحملون هودجها فحملوا هودجها ظنا منهم انها فيه ووجدت عقدها، ورجعت فلم يجد فى المعسكر داعيا ولا مجيبا فبقيت فى المنزل الذى كانت فيه ظنا منها ان القوم سيفقدونها، وكان صفوان بن المعطل السلمى جاء من وراء الجيش فأصبح عند منزلها فعرفها فأناخ راحلته فركبتها فقادها حتى اتيا الجيش، فقال المنافقون ما قالوا فى حقها، فأنزل الله تلك الآيات لتبرئتها، ونقل عن الخاصة انها نزلت فى مارية القبطية وما رمتها به عائشة، روى عن الباقر (ع) انه قال لما هلك ابراهيم بن رسول الله (ص) حزن عليه رسول الله (ص) حزنا شديدا فقالت له عائشة ما الذى يحزنك عليه فما هو الا ابن جريح فبعث رسول الله (ص) عليا (ع) وأمره بقتله فذهب على (ع) ومعه السيف وكان جريح القبطى فى حائط فضرب على (ع) باب البستان فأقبل اليه جريح ليفتح له الباب فلما رأى عليا (ع) عرف فى وجهه الغضب فأدبر راجعا ولم يفتح باب البستان فوثب على (ع) على الحائط ونزل الى البستان واتبعه وولى جريح مدبرا، فلما خشى ان يرهقه صعد فى نخلة وصعد على (ع) فى اثره فلما دنى منه رمى بنفسه من فوق النخلة، فبدت عورته فاذا ليس له ما للرجال ولا له ما للنساء، فانصرف على (ع) الى النبى (ص) فقال له يا رسول الله اذا بعثتنى فى الامر اكون فيه كالمسمار المحمى فى الوبر امضى على ذلك ام اتثبت؟- قال: لا بل تثبت، قال: والذى بعثك بالحق ما له ما للرجال وما له ما للنساء فقال: الحمد لله الذى صرف عنا السوء اهل البيت، وروى حكاية رمى المارية بنحو آخر .
[24.12-13]
{ لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا } عدل عن الخطاب الى الغيبة اشعارا بان الايمان يقتضى ظن الخير بالمؤمن فان الايمان الذى بمعنى الاسلام يقتضى التسليم وعدم الاستبداد بالرأى وعدم التفوه بما يقتضيه الهوى وظن التسليم والانقياد بالمؤمنين ومع ظن التسليم بالمؤمن لا يبقى ظن اتباع الهوى والفاحشة به، وقدم الظرف لان المقصود التوبيخ على عدم ظن الخير حين سماع الافك والتحضيض على ظن الخير حينئذ والا ففى غير زمان الافك يكون ظن الخير مسلما مفروغا عنه، والمراد من المؤمنين والمؤمنات صفوان وعائشة او مارية وجريح، او المراد جملة المؤمنين والمراد من انفسهم من ذكر لكنه اداهم بقوله بأنفسهم للاشعار بان المؤمنين ينبغى ان يكون كل بمنزلة نفس الآخر { وقالوا } عطف على ظن المؤمنين { هذآ إفك مبين لولا جآءوا عليه بأربعة شهدآء فإذ لم يأتوا بالشهدآء فأولئك عند الله هم الكاذبون } وهذا من جملة مقول القول او ابتداء كلام من الله واشارة الى ان المدعى اذا لم يكن عليه البينة المعتبرة فيه مكذب عند الله ويترتب عليه حكم الكذب.
[24.14]
{ ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة } كرر هذه الكلمة لان الاول فى رمى الزوج وهذا فى قضية خاصة هى رمى مارية او عائشة { لمسكم في مآ أفضتم فيه عذاب عظيم } ذكر الجواب ههنا جريا على اقتضاء الغضب التطويل والتغليظ وتصريحا بعظم العذاب وبان سبب هذا الغضب وتغليظ العذاب هو الخوض فى هذا الافك.
[24.15]
{ إذ تلقونه بألسنتكم } يعنى لا بقلوبكم يعنى تديرونه بينكم من غير تحقيق له كأن السنتكم تأخذه وتقبل ما يلقيه غيركم من غير اطلاع ذواتكم وقلوبكم يقال تلقى القول بمعنى قبله، وقرئ: تتلقونه بالتائين على الاصل وتلقونه بالتخفيف من لقيه بمعنى تناوله وتلقونه بكسر حرف المضارعه من هذه المادة وتلقونه من القاه، وتلقونه من ولق بمعنى كذب، وتألقونه من الق بمعنى كذب، وتثقفونه من ثقف اذا طلب ووجد، وتقفونه من وقف بمعنى تبع { وتقولون بأفواهكم } من غير اطلاع قلوبكم واعتقادها { ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا } سهلا لا اثم فيه ولا تبعة له { وهو عند الله عظيم }.
اعلم، ان الازمان متشابهة واهل كل زمان حالهم تشابه حال اهل الزمان السالف والآتى فان اهالى الازمنة السالفة على ما وصل الينا من سيرهم كانوا مثل اهل هذا الزمان، كانوا ينتحلون الدين لاغراض نفسانية لا لغايات انسانية وكانوا يغتابون ويتهمون من كان داخلا فى الدين مثلهم وكانوا يتجسسون عوراتهم ويعيبون عليهم ويلمزون بعضهم بعضا بالالقاب ويسرون بظهور سوءات اخوانهم، ويسائون بظهور محاسنهم، وكل ذلك كان منافيا للدين بل مناقضا للغايات المقصودة من التدين.
[24.16]
{ ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون } ما يصح { لنآ أن نتكلم بهذا سبحانك } لولا قلتم سبحانك تعجبا من الجرأة على مثل هذا القول او تنزيها لله من ان يكون حرم نبيه (ص) فاجرة لان فى فجورها كراهة الناس له وكراهتهم ينافى دعوته { هذا بهتان عظيم } فى نفسه فان نسبة الفجور اعظم بهتان، وبالنسبة الى المبهوت عليه فانها حرم الرسول (ص).
[24.17]
{ يعظكم الله } ينصحكم ويطلب الخير لكم { أن تعودوا } لئلا تعودوا، او كراهة ان تعودوا، او فى ان تعودوا، او يمنعكم بالوعظ من ان تعودوا { لمثله أبدا } ما دمتم فى الدنيا { إن كنتم مؤمنين } شرط للتهييج لان الايمان يقتضى عدم التفوه بمثله فى حق من كان فى دينه.
[24.18]
{ ويبين الله لكم الآيات } اى علامات الاحكام وآثارها او الآيات التدوينية الدالة على الاحكام التكليفية القالبية والقلبية { والله عليم } يعلم ما ينبغى وما لا ينبغى لكم وما يترتب على افعالكم { حكيم } لا يشرع لكم حكما ولا يمنعكم من امر الا لحكمة مقتضية ذلك.
[24.19]
{ إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة } الفاحشة الزنا او ما يشتد قبحه، او كل ما نهى الله عز وجل عنه { في الذين آمنوا } متعلق بتشيع والمعنى الذين يحبون ان تكثر الزنا او سائر الفواحش فى الذين آمنوا، او الذين يحبون ان يكثر ذكر الفاحشة فى الذين آمنوا، او ظرف مستقر حال من الفاحشة، والمعنى ان الذين يحبون ان تظهر الفاحشة الثابتة فى المؤمنين ويكثر ذكرها { لهم عذاب أليم في الدنيا } بالحد المقرر له فى الشريعة أو بالعذاب عند الاحتضار او بالخوف من الافتضاح او باستيحاش المؤمنين منهم { والآخرة والله يعلم } ان لهم عذابا فى الدنيا والآخرة ولذا يمنعكم عن العود { وأنتم لا تعلمون } ولذا تحبون ولا تخافون والجملة معطوفة على جملة ان الذين يحبون، او على اسم ان وخبرها وكلتاهما فى مقام التعليل لقوله يعظكم الله او جملة الله يعلم حالية مفيدة للتعليل، وعن الصادق (ع) انه قال: من قال فى المؤمن ما رأته عيناه وسمعته أذناه فهو من الذين قال الله عز وجل: { إن الذين يحبون } (الآية) وعن الكاظم (ع) انه قيل له: الرجل من اخوانى بلغنى عنه الشيء الذى اكرهه فأسأله عنه فينكر ذلك وقد أخبرنى عنه قوم ثقاة؟- فقال: كذب سمعك وبصرك عن اخيك وان شهد عندك خمسون قسامة وقال لك قولا فصدقه وكذبهم ولا تذيعن عليه شيئا تشينه به وتهدم به مروته فتكون من الذين قال الله تعالى: { إن الذين يحبون } (الآية) وعن رسول الله (ص) من اذاع فاحشة كان كمبتديها.
[24.20]
تكرار هذه الكلمة اشارة الى نهاية قبح هذا القول وشدة الغضب لاجله ونهاية قبح حب شياع الفاحشة فى المؤمنين، وحذف الجواب ههنا للاشعار بشدة القبح وشدة الغضب على حب شياع الفاحشة.
[24.21]
{ يأيها الذين آمنوا } ناداهم اظهارا للطف بهم وترغيبا لهم فى استماع خطابه { لا تتبعوا خطوات الشيطان } فى اشاعة الفاحشة ورمي البريء وغير البريء وقد مضى فى سورة البقرة عند قوله
لا تتبعوا خطوات الشيطان
[البقرة:168] تحقيق الخطوات { ومن يتبع خطوات الشيطان } يضل ويشقى { فإنه يأمر بالفحشآء } البالغة فى القبح { والمنكر } ما لا يعرفه العقل والعرف حسنا وهو ما لا يكون بالغا فى القبح { ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا } زكى يزكو زكاء نما كا زكى وزكى الرجل صلح وتنعم وصفا من الكدورات { ولكن الله يزكي من يشآء } باستعداد من قبله بسبب قوله او فعله { والله سميع } لاقواله المقالية والحالية { عليم } بافعاله واحواله ونياته واستعداداته المكمونة الغير الظاهرة عليه وعلى غيره.
[24.22]
{ ولا يأتل } الا الوا كالضرب والوا كالقعود واليا كالمضى وائتلى قصر وأبطأ وتكبر وآلى وائتلى حلف، وقيل فى نزول الآية: انه آلى جماعة من الصحابة على ان لا يتصدقوا على رجل تكلم بشيء من الافك ولا يواسوهم، وقيل: نزلت الآية فى ابى بكر ومسطح بن اثاثة وكان ابن خالة ابى بكر وكان من المهاجرين ومن البدريين وكان فقيرا ويتحمل نفقته ابو بكر وكان من رؤساء اصحاب الافك فلما خاض فى الافك قطع عنه وحلف ان لا ينفعه بنفع فلما نزل: ولا يأتل { أولوا الفضل منكم والسعة } عاد الى مواصلته والمراد بالفضل هو السعة التى تفضل عما يحتاج اليه الانسان فى انفاقه، والسعة اعم منه ومما كان بقدر حاجة الانفاق بنحو السعة، او احدهما مخصوص بالمال والآخر بسعة القلب من حيث العلم والاخلاق { أن يؤتوا } كراهة ان يؤتوا او على ان لا يؤتوا، او فى ان يؤتوا؛ وهذا على ان يكون لا يأتل بمعنى لا يحلف وان كان بمعنى لا يقصر فهو بتقدير فى اى لا يقصر اولوا الفضل منكم فى ان يؤتوا { أولي القربى } اى اولى قرباهم او اولى قربى الرسول (ص) { والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا } قرئ ان تؤتوا وهذان بالغيبة والخطاب وقد مضى مكررا ان العفو عبارة عن ترك الانتقام سواء كان قرينا لحقد القلب على المسيء او لم يكن، والصفح عبارة عن تطهير القلب عن الحقد عليه لكنهما كالفقراء والمساكين اذا افترقا اجتمعا واذا اجتمعا افترقا، والآية اشارة الى كيفية حسن العمل مع المسيء خصوصا على ما نقل من سبب نزولها فكأنه قال: وليعفوا عن المسيء وليصفحوا ولا يأتل اولوا الفضل فى الاحسان اليه اذا كان اهلا للاحسان { ألا تحبون أن يغفر الله لكم } ترغيب فى المراتب المذكورة بأحسن وجه يعنى ان الله يغفر للمسيء ومن اراد ان يغفر الله له فليشاكل الله فى العفو عن المسيء فان المشاكل لله يغفر الله له لا محالة { والله غفور رحيم } يغفر لمن يغفر عن المسيء ويرحم من يحسن الى المسيء.
[24.23]
{ إن الذين يرمون المحصنات الغافلات } مما قذفن به { المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم } كرره لان الاول لبيان العقوبة الصورية والحدود الدنيوية وهذا لبيان العقوبة الاخروية والحدود الباطنية وللتنبيه على عظم الذنب.
[24.24-25]
{ يوم تشهد عليهم } قرئ بالتاء والياء { ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون يومئذ يوفيهم الله دينهم } اى جزاءهم { الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين } روى انه ليست تشهد الجوارح على مؤمن انما تشهد على من حقت عليه كلمة العذاب.
[24.26]
{ الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات } المراد بالخبيثات والطيبات الاقوال الخبيثة والطيبة بقرينة ذكرها عقيب الافك، او الاعمال الخبيثة والطيبة سواء كانت من سنخ الافعال والاقوال، او العلوم والاخلاق والاحوال، او المراد بها النساء الخبيثات والطيبات بقرينة ذكرها عقيب افك عائشة او مارية، او المراد مطلق ما تسمى بالخبيثات والطيبات سواء كانت من سنخ الاقوال والاوصاف، او من سنخ الذوات من المطعومات والمشروبات والملبوسات والمنظورات والمسكونات والمنكوحات، وعلى تعميم الخبيثات ينبغى تعميم الخبيثين للرجال والنساء بطريق التغليب، وعن الحسن المجتبى (ع) انه قال بعدما حاج معاوية واصحابه وقام من مجلسه: الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات هم والله يا معاوية انت وأصحابك هؤلآء وشيعتك، والطيبات للطيبين الى آخر الآية هم على بن ابى طالب واصحابه وشيعته { أولئك } يعنى صفوان وعائشة او جريح ومارية وامثالهما او الطيبون والطيبات { مبرءون مما يقولون } فيهم من الافك او مما يقوله الخبيثون يعنى من ان يقولوا مثل قولهم { لهم مغفرة ورزق كريم } لطيبوبتهم وطيبوبة هذين.
[24.27]
{ يأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا } مسكونة { غير بيوتكم حتى تستأنسوا } استأنس ذهب توحشه، واستأنسه استأذنه، واستأنس استعلم واستأنس طلب الانس اى الانسان،
" وقيل لرسول الله (ص): يا رسول الله ما الاستيناس؟- قال: يتكلم الرجل بالتسبيحة والتحميدة والتكبيرة ويتنحنح على اهل البيت "
، وهذا يناسب الاستيناس مقابل الاستيحاش والاستعلام، وقيل: اطلع رجل فى حجرة من حجر رسول الله، فقال رسول الله (ص) ومعه مدرى يحك به رأسه:
" لو أعلم انك تنظر لطعنت به فى عينيك انما الاستيذان من النظر "
{ وتسلموا على أهلها } بيان للاستيناس على بعض معانية وحكم آخر على بعض آخر { ذلكم } الاستيناس او الدخول بالاستيناس { خير لكم } وقلنا لكم ذلك او انزلنا عليكم هذا الحكم { لعلكم تذكرون } مصالحه.
[24.28]
{ فإن لم تجدوا فيهآ أحدا فلا تدخلوها } لانه قد يوجد فى بيوت غيركم ما لا يجوز لكم الاطلاع عليه وما يكره صاحب البيت اطلاع الغير عليه { حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا } ولا تلجوا ولا تكرهوا فانه قد يكون صاحب البيت بحال لا يجوز للغير الاطلاع عليه { هو أزكى لكم } انمى لكم او اصفى او انفع لكم { والله بما تعملون عليم } فان ترجعوا عن طيب نفوسكم يعلمه الله ويجازكم به.
[24.29]
{ ليس عليكم جناح } جواب لسؤال مقدر { أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة } من غير استيناس وتسليم { فيها متاع لكم } اى تمتع واستمتاع، فى الخبر انها الحمامات والخانات والارحية وامثالها، وقيل: المراد الخربة يدخل الانسان فيها لقضاء حاجة، وقيل: المراد بيوت التجار والصناع التى يفتح ابوابها لمعاملة الناس، وقيل: انها منازل المسافرين، والحق انه اذا اريد بالمتاع التمتع كان المراد بالبيوت مطلق البيوت التى يكون اذن عام من الشارع او من مالكيها فى الدخول فيها، وان كان المراد بالمتاع الاجناس التى يتمتع بها كان المراد مطلق البيوت التى يكون فيها امتعتكم سواء كانت البيوت مملوكة لكم غير مسكونة لكم ولغيركم، او مملوكة لغيركم غير مسكونة لكم ولغيركم { والله يعلم ما تبدون وما تكتمون } من الافعال والاحوال والاخلاق والنيات والاستعدادات التى لم تشعروا بها بعد فيعلم دخولكم فى بيوت غيركم ونياتكم فى دخولكم فلا تدخلوا من غير استيناس حتى يتهمكم غيركم بالفاحشة او قصدها ولا يقع انظاركم على ما لا يجوز النظر اليه من حريم صاحبى البيوت فيريبكم ولا تقدروا على منع نفوسكم من الفاحشة، وهذا تحذير مما يجعل الانسان معرضا للتهمة ومما يريبه فانه لما شدد على الزانى والزانية وغلظ على من رمى غيره بالفاحشة، حذر المؤمنين عن مواقع الريبة ومواضع التهمة حتى لا يقعوا فى الريبة والفاحشة ويستحقوا عقوبة الفاحشة ولا يوقع الناس فى سوء الظن ورمى الفاحشة فيستحقوا عقوبة المفترين، كما انه حذرهم بالآية الآتية عما يريبهم او يريب غيرهم من النظر الى فروج غيرهم او من ان ينظر الى فروجهم وحذر النساء من ذلك ومن ابداء زينتهن لمن لا يجوز له النظر بالريبة فقال: { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم... }
[24.30]
{ قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم } قد مضى مكررا انه تعالى ما يأتى بالمقول فى امثاله للاشعار بان قوله (ص) لقوة نفسه يؤثر فيهم بحيث يصير سببا لما يذكر بعده من غير اعتبار المقول فى جزم الجواب، وغض طرفه غضاضا بالكسر وغضا وغضاضا وغضاضة بفتحهن حفظه وتحمل المكروه، وغض من بصره نقص منه ووضع من قدره، وقيل: من هنا زائدة والمعنى يحفظوا ابصارهم وانظارهم من النظر الى ما لا يحل لهم النظر اليه، او من النظر الى ما لا ينبغى لهم النظر اليه سواء كان عدم استحقاق النظر من باب الحرمة او من باب الكراهة او من النظر الى ما سوى الله وآياته كما يجيء { ويحفظوا فروجهم } من ان ينظر اليها من لا يحل له النظر اليها كما فى الخبر، او من مطلق النظر اليها سواء كان الناظرون انفسهم او غيرهم حلالا كان النظر او غير حلال على ان يكون النظر الى الفروج مكروها ممن يحل له النظر اليها كنظر صاحبى الفروج ونظر الازواج الى عوراتهم ويكون الامر المقدر اعم من الوجوب والاستحباب، او يحفظوا فروجهم من الوطى الغير الحلال او يحفظوا فروجهم من الوطى الغير الحلال ومن النظر الغير الحلال، او يحفظوا فروجهم من النظر والوطى مطلقا على ان يكون الحكم للبالغين البيعة الخاصة الولوية ويكون الوطى والنظر الى الفروج وكون الفروج منظورا اليها ممنوعا فى حقهم، فان السالك الى الله حكمه حكم المحرم ما لم يتم سلوكه ولم يحل من احرامه للحج الحقيقى فلم يحل لرجالهم التمتع بالنساء وبسائر ملاذ النفس ولا لنسائهم التمتع بالرجال وبسائر ملاذ النفس بل لا يجوز لهم الالتفات الى ما سوى الله وما سوى مقصدهم { ذلك أزكى لهم } اطهر لهم او اصلح او انمى لانه ابعد من الريبة والاشتغال بملاهى النفس { إن الله خبير بما يصنعون } من النظر وترك النظر فيجازيهم بحسبه.
[24.31]
{ وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن } هذا ايضا مجمل محتمل لوجوه ومراد بكل وجوهه فانه يجوز ان يفسر ابداء الزينة بابداء نفس الزينة لمن لا يجوز له النظر الى جسدهن من غير المحارم، وان يفسر بابداء مواضع الزينة لان الزينة مما يجوز للاجانب النظر اليها، وان يفسر بمطلق ابداء الزينة او مطلق ابداء مواضع الزينة من غير النظر الى ناظر ونظرة محرم او غير محرم بان يكون نفس ابداء الزينة بحيث لو نظر ناظر لرآها حراما نظر ناظر ام لم ينظر، وهذا على ان يجعل النهى للبايعات البيعة الخاصة الولوية ويكون حكم السالكات عدم الالتفات الى ما سوى الله ما لم يحللن من سلوكهن واحرامهن فيكون التفاتهن الى الزينة وابداؤها حراما عليهن { إلا ما ظهر منها } من الثياب الظاهرة وزينة المواضع المستثناة ونفس تلك المواضع التى ليست بعورة فى النساء كالخاتم والسوار والكحل والخدين والكفين والقدمين.
اعلم، ان نهى النساء عن ابداء زينتهن ونهى الرجال عن النظر الى زينتهن انما هو لكون الزينة وابدائها والنظر اليها مقدمة للفساد وموروثا للريبة وموجبا للافتتان وقد ورد عن النبى (ص) خطابا لعلى (ع):
" يا على اول نظرة لك والثانية عليك لا لك يعنى ان افتتنت بالنظرة وعدت الى الثانية كانت وبالها عليك "
، وفى رواية
" لكم اول نظرة الى المرأة فلا تتسحبوها بنظرة اخرى واحذروا الفتنة "
فعلى هذا لو خيف من الريبة والافتتان بالنظر الى الوجه والكفين والقدمين وزينتها لم يجز للمرأة ابداؤها ولا للمرء النظر اليها، ولو لم يخف من الريبة جاز ابداء الزينة الظاهرة والمواضع المستثناة وجاز للاجنبى النظر اليها ولو لم يخف من الريبة جاز النظر الى غير الزينة الظاهرة من الزينة الباطنة وغير المواضع المستثناة مثل الرأس والشعر والساق والذراع اذا لم تكن من المسلمات اللواتى لهن الحرمة والرفعة كالاماء واهل البدو اللاتى لا يمكنهن التحفظ عن الاجانب ولا يمكن لمعاشريهن الاحتراز عن النظر اليهن، واختلاف الاخبار ناظر الى اختلاف الاحوال والاشخاص فى الريبة وعدمها والحرمة وعدمها وامكان التحفظ وعدمه { وليضربن بخمرهن } جمع الخمار بالكسر كالخمر بالسكون، والخمار المقنعة التى هى غطاء رأس المرأة المتسدل على جنبيها، كانت النساء يلقين مقانعهن على ظهورهن وتبدو صدورهن فقال تعالى: وليلقين خمرهن { على جيوبهن } حتى لا تبدو صدورهن فان الصدور اشد شيء فى الافتتان بها { ولا يبدين زينتهن } تكرار هذه الكلمة لتفصيل الاجمال السابق { إلا لبعولتهن } فان الزينة لم تكن الا لهم بل النساء مأمورات بالزينة وابدائها للازواج ليتحرك ميلهم اليهن { أو آبآئهن } فانه لا يتصور الريبة والفتنة منهم { أو آبآء بعولتهن أو أبنآئهن أو أبنآء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن } نسب الى الباقر (ع) انه قال: الزينة الظاهرة الثياب والكحل والخاتم وخضاب الكف والسوار، والزينة ثلاث: زينة للناس وزينة للمحرم وزينة للزوج، فاما زينة الناس فقد ذكرناها، واما زينة المحرم فموضع القلادة فما فوقها، والدملج وما دونه، والخلخال وما اسفل منه، واما زينة الزوج فالجسد كله، وعن النبى (ص) انه قال:
" للزوج ما تحت الدرع، وللابن والاخ ما فوق الدرع، ولغير ذى محرم اربعة اثواب، درع وخمار وجلباب وازار "
{ أو نسآئهن } يعنى النساء المؤمنات فان الاضافة الى ضمير المؤمنات تفيد تخصيصا للنساء وبعد اعتبار حيثية الايمان فى الاضافة يعلم ان المراد بهن المخصوصات بالمؤمنات بوصف الايمان لا بالقرابة لعدم اعتبار حيثية الايمان فى القرابة ولا بالمملوكية لهن لعدم اعتبار تل الحيثية فى المملوكية ولذكر المملوكة بعد ذلك، روى عن الصادق (ع) انه لا ينبغى للمرأة ان تنكشف بين اليهودية والنصرانية فانهن يصفن ذلك لازواجهن { أو ما ملكت أيمانهن } من الاماء الغير المسلمة او من العبيد والاماء فانه لا بأس ان يرى المملوك شعر مولاته وساقها اذا كان مأمونا كما فى الخبر، وفى خبر: لا يحل للمرأة ان ينظر عبدها الى شيء من جسدها الا الى شعرها غير متعمد لذلك { أو التابعين } الذين من شأنهم ان يكونوا تابعين كالخادم والخادمة، والسقاء والسقاءة، والاجير والاجيرة، والشيخ والشيخة، والابله والبلهاء، والمولى عليهما، والمجنون والمجنونة { غير أولي الإربة } اى غير ذوى الحاجة الى النساء يعنى ان لم يكن لهم شهوة النساء والا فلا يجوز لهم النظر ولا لهن ابداء الزينة لهم { من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النسآء } اى لم يطلعوا على عوراتهن من حيث انها عورات بان لم يكن فيهم شهوة النساء حتى يتميز العورة منهن عندهم من غيرها، والطفل جنس فى معنى الجمع ولذلك وصف بالجمع { ولا يضربن } لما كان المتبادر من ابداء الزينة ابداءها على الابصار دون ابدائها على الآذان قال: ولا يضربن { بأرجلهن ليعلم } بسماع صوت الزينة من الخلخال وغيره { ما يخفين من زينتهن } فان صوت الخلخال واللباس مما يهيج ميل الرجال { وتوبوا } لما نهى النساء من ابداء ما يريب الرجال من لباسهن وزينتهن وابدانهن امر الرجال بالانصراف عما يريبهم والتوجه الى ربهم، او لما امر الرجال بغض الابصار وحفظ الفروج وامر النساء كذلك امر النساء والرجال بالانصراف مما يهيج الشهوات وبالتوجه الى الله بطريق التغليب فقال: توبوا { إلى الله جميعا } لفظ الجميع وان كان بمعنى المجتمع لكنه يستعمل لمحض تأكيد العموم من دون اعتبار الاجتماع فى زمان الحكم { أيه المؤمنون } رسم فى المصاحف كتابة ايها هذه بدون الالف الاخيرة وقرئ ايه المؤمنون بفتح الهاء وضمها تشبيها للهاء بعد اسقاط الالف بحرف آخر الكلمة واجراء لحركة ضم المنادى عليها { لعلكم تفلحون } ولما امر المؤمنين والمؤمنات بغض البصر وحفظ الفروج وكان ذلك شاقا على ذوى العزوبة قال تعالى { وأنكحوا الأيامى... }.
[24.32]
{ وأنكحوا الأيامى } مقلوب ايايم جمع الايم مشدد الياء من لا زوج له من الرجال والنساء فالمعنى انكحوا من لا زوجة له من الرجال ومن لا زوج لها من النساء { منكم } حال كونهم منكم من حيث الايمان فان الخطاب للمؤمنين بعنوان الايمان ومفهوم مخالفته لا تنكحوا الايامى من غيركم من حيث الايمان سواء كانوا منكم من حيث النسب او لم يكونوا { والصالحين } اى المؤمنين فان المراد بالصلاح ههنا الاسلام او المتعففين فانه ايضا صلاح النفس { من عبادكم وإمائكم } فانهم ان كانوا متزوجين ومزوجات كانوا اسلم من الريبة واصلح للخدمة { إن يكونوا فقرآء } الضمير راجع الى الايامى فقط او اليهم والى الصالحين على القول بتملك العبيد والاماء، او على ان يكون المراد بهم العبيد والاماء الذين أعتقهم مواليهم ويكون الله تعالى أمر المسلمين بتزويجهم وعدم التأنف منهم لكونهم عبيدا واماء، او المعنى ان يكونوا محتاجين الى الازواج بغلبة الشبق والعزوبة، او المراد ان يكونوا فقراء الى الله تعالى محتاجين اليه فى الخلاص من الكثرات والالتذاذ بالتوحيد { يغنهم الله } عن الكثرات { من فضله } بحيث لا يكون الكثرات حجبا لهم ويكونون مشاهدين لله فى الكثرات فان رفع حجاب الكثرة وان كان بالعزلة اسهل ومشاهدة جمال التوحيد فى الوحدة اكمل لكن المعتزل كلما اشتغل بالكثرات للضرورة الداعية اليها لانه خلق محتاجا اليها كانت الكثرات حجبا بل يكون سترها اقوى واشد ولذلك ترى المرتاضين المعتزلين قلما يتحملون واردات المعاشرة مع الخلق ولا يمكنهم المعاملة مع الخلق والاقامة فيهم { والله واسع } لا يعجز من التوسعة عليهم ولا يخاف من عولهم { عليم } بالتسبيبات الخفية فيعلم ان النكاح سبب للغناء وان لم تعلموا انتم ذلك، او عليم باستعداد كل وصلاحه فان لم يغن بعضا بالنكاح كان يعلم منه باستعداده وبان صلاحه فى فقره فلا يقول قائل: نرى بعض من تزوج لا يصير غنيا، او عليم بكم فيعلم ان النكاح يزيد فى فقركم وحاجتكم فيزيله عنكم بعد ما نكحتم بأمره، ولما بين حكم اولياء الايامى وشركائهم فى الايمان بين حكم الايامى انفسهم مع اشعار ما بان الواجب على المؤمنين رفع المانع من نكاح الايامى اذا كان المانع من قبلهم مثل التأنف وملاحظة الكفاءة فى الحسب والنسب وملاحظة الفقر وعدم القدرة على الانفاق او على التعيش لا تهية الاسباب مثل الصداق والنفقة والكسوة فقال { وليستعفف... }.
[24.33]
{ وليستعفف } الايامى من الرجال والنساء { الذين لا يجدون نكاحا } بعدم وجدان الازواج لرجالهم ونسائهم او عدم وجدان ما يحتاجون اليه فى نكاحهم من الصداق والنفقة والكسوة والمسكن او بمنع الاولياء من النكاح وعدم القدرة على مخالفتهم { حتى يغنيهم الله } من فقر الدنيا فيجدوا ما يتيسر لهم النكاح او من الفقر الى وجدان الازواج فيجدوا لانفسهم ازواجا او من الفقر الى رفع منع الاولياء او يغنيهم الله من النكاح بان انسى طبائعهم توليد النطفة وأطفى حرارة النطفة الموجودة فلا توذى بدغدغتها ولا بامتلاء الاوعية بها او بان جعل قلوبهم بسبب الاستعفاف معلقة بالملأ الاعلى ونفوسهم تابعة لها فلا يشتغلون بالطبيعية ولوازمها وملاذها فيغنيهم { من فضله } عن النكاح، او المعنى وليستعفف بالتزويج الايامى من الرجال والنساء الذين لا يجدون نكاحا ووطيا بان لم يكن لهم ازواج ولم يتزوجوا مخافة الفقر حتى يغنيهم الله بالنكاح الذى يخافون الفقر بسببه، وعلى هذا يكون الآية الاولى امرا للمؤمنين واولياء الاعزاب بتزويج الايامى، والآية الثانية امرا للاعزاب انفسهم بالتزويج كما نسب الى الصادق (ع) فى هذه الآية انه قال: يتزوجون حتى يغنيهم الله من فضله، وعنه (ع): من ترك التزويج مخافة العيلة فقد اساء الظن بربه لقوله سبحانه: { إن يكونوا فقرآء يغنهم الله من فضله } ، ونسب الى النبى (ص) انه قال:
" من احب فطرتى فليستن بسنتى، ومن سنتى النكاح "
، وقال (ص):
" يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فانه اغض للبصر واحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فانه له وجاء "
، والوجاء كناية عن قطع الشهوة فانه بمعنى رض الانثيين الذى يذهب بشهوة الجماع، ونسب اليه (ص) انه قال:
" من ادرك له ولد وعنده ما يزوجه فلم يزوجه فأحدث فالاثم بينهما "
، ونسب اليه (ص) انه قال:
" اربع لعنهم الله من فوق عرشه وامنت عليه ملائكته الذى يحصر نفسه فلا يتزوج ولا يتسرى لئلا يولد له، والرجل يتشبه بالنساء وقد خلقه الله ذكرا، او المرأة تتشبه بالرجال وقد خلقها الله انثى، ومضلل الناس يقول للمسكين: هلم اعطك فاذا جاء يقول ليس معى شيء، ويقول للمكفوف: اتق الدابة وليس بين يديه شيء، والرجل يسأل عن دار القوم فيضلله "
{ والذين يبتغون الكتاب } مصدر كاتبه من الكتابة فانه يجعل بين السيد والعبد او الامة كتابا مشتملا على نجوم مال الكتابة واجله وشروط المكاتبة، او اسم بمعنى الصحيفة المكتوب فيها، او بمعنى القدر، او بمعنى الفرض، او هو مصدر من المجرد او المزيد فيه من الكتاب بواحد من المعنيين الاخيرين فانهما يقدر ان مال الكتابة، او المولى يفرض على نفسه عتق عبده باداء مال الكتابة { مما ملكت } اى من العبيد والاماء الذين ملكتهم { أيمانكم } وانما اتى بلفظ ما دون من للاشعار بانهم من حيث المملوكية فى حكم غير ذوى العقول { فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا } أى مالا او حرفة او قدرة على كسب المال او امانة حتى لا يكتسبوا بالحرام مثل السرقة والسؤال والزنا او صلاحا حتى لا يفروا من مال الكتابة { وآتوهم من مال الله الذي آتاكم } اى حطوا من مال الكتابة او ردوا عليهم مما اخذتموه من نجوم مال الكتابة شيئا ايها الموالى، او أعطوهم من الزكوة اعانة على اداء مال الكتابة ايها الموالى او ايها المؤمنون { ولا تكرهوا } ايها الموالى { فتياتكم } اى امائكم الشابات { على البغآء } اى الزنا { إن أردن تحصنا } بيان للاكراه على البغاء فانه لا يتحقق الا بارداتهن التحصن على ان مفهوم الشرط لو كان قيدا لم يكن حجة { لتبتغوا عرض الحياة الدنيا } بكسبهن واجرة البغاء { ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور } لهم اذا تابوا او غفور لهن ما يلزمهن من السوأة اللازمة لهذا الفعل ولو كان بالاكراه او من السوأة اللازمة لهن بعد الاكراه اذا رغبن فى الفعل بمقتضى طبيعتهن { رحيم } يرحمهم او يرحمهن فضلا عن المغفرة، وقرئ فان الله من بعد اكراههن لهن غفور رحيم.
[24.34]
{ ولقد أنزلنآ إليكم آيات مبينات } موضحات وواضحات قرئ بكسر الياء وفتحها، وبان وابان وبين وتبين واستبان كلها لازم ومتعد والمعنى انزلنا اليكم آيات واضحات الاحكام او المقاصد او الحكم والمصالح، او البراهين؛ مثل القضايا التى قياساتها معها، او الصدق والمراد بها معنى اعم من الآيات التدوينية والتكوينية الآفاقية والانفسية من الانبياء والاولياء والعقول ووارداتها { ومثلا } اى حجة او حديثا او شبيها { من الذين خلوا من قبلكم } ويجوز ان يراد بالآيات الآيات التدوينية وبالمثل على (ع) او بالآيات محمد (ص) والعقول فان محمدا (ص) من حيث النبوة نازل من الله وبالمثل على (ع) فانه من حيث الولاية نازل من الله، ومحمد (ص) من حيث النبوة آية بل آيات من الله، وعلى (ع) من حيث الولاية شبيه للماضين جميعا { وموعظة } اى تذكيرا ونصحا وترغيبا وتخويفا، ويجوز ان يكون الآيات والمثل والموعظة اوصافا لذات واحدة ويكون المراد عليا (ع) فانه باوصافه واخلاقه وعلومه ومكاشفاته وقدرته وتصرفاته آيات عديدة دالة على صفات الحق الاول تعالى مبينة لذاته وصفاته كما انه مثل لجميع الانبياء والاولياء (ع) الماضين وهو بذاته وسائر صفاته موعظة { للمتقين } متعلق بموعظة او بانزلنا او اللام للتبيين والظرف مستقر خبر لمبتدء محذوف او حال وانما قال للمتقين وانما قال للمتقين لان غيرهم لا ينتفعون بذلك.
[24.35]
آية النور
{ الله نور السماوات والأرض } اعلم ان الله كما سبق مكررا اسم للذات الواجب الوجود باعتبار مقام ظهوره الذى هو مقام المشية وهى اضافته الاشراقية الى الاشياء وهى فعله وفيضه ونوره المنبسط على جميع الاشياء وبها يخرج الاشياء من الليس المحض الى الايس، ومن العدم الى الوجود، ومن الظلمة الى النور، ومن الخفاء الى الظهور، وان الذات الاحدية بدون هذا العنوان غيب محض لا اسم له ولا رسم ولا خبر عنه ولذلك سمى فى الاخبار بالعمى، وقد فسر الله تعالى فى الآيات بسائر مظاهره من الانبياء والاولياء (ع) فانه فسر الكفر والشرك بالله تعالى فى الاخبار بالكفر والشرك بخلفائه، وان النور اسم للضياء سواء كان ضياء الشمس او القمر او سائر الكواكب، وسواء كان ضياء النار والسراج او الجواهر او غيرها، او هو اسم لشعاع الضياء، او هو اعم وقد نار نورا وانار واستنار ونور وتنور كلها بمعنى اضاء اللازم، وجاء انار ونور متعديين ايضا، والنور اسم لمحمد (ص) او نبوته او رسالته او ولايته او اسم لعلى (ع) او خلافته او ولايته، وقد يطلق على الذى يبين الاشياء مطلقا ضياء وشعاعا كان، او دليلا وبرهانا، او علامة وآثارا، وبهذا المعنى يطلق على الكتب السماوية والخلفاء الالهية، وقد يطلق على الهدى وما به الهدى وبهذا المعنى ايضا يكون الكتب السماوية والرسالات والنبوات والولايات والاقوال والافعال والاحوال والاخلاق الحسنة كلها انوارا وانه لا اختصاص للاسماء بمصاديقها العرفية بل المعتبر فى صدقها هى المعانى المطلقة الحاصلة فى جميع العوالم وجميع المراتب من دون اعتبار خصوصية من خصوصيات المصاديق والعوالم فيها، فان النور اسم للظاهر بذاته من دون وساطة امر آخر المظهر لغيره، والنور العرضى الذى لا يبقى آنين وليس ظاهرا الا على الابصار ولا يكون ظهوره على الابصار الا بعد اجتماعه فى سطح كثيف غليظ لا ينفذ فيه ولا يظهر الا السطوح والالوان والاشكال ولا يظهر الا على الابصار دون سائر المدارك احد مصاديقه من دون اعتبار تلك الخصوصيات فى صدقه، بل نقول: معنى الظاهر بذاته المظهر لغيره ليس حقيقة الا لحقيقة الوجود الذى هو واجب لذاته وموجب لغيره، واما سائر الانوار العرضية والحقيقية التى هى وجودات الاشياء وانوار الرسالة والنبوة والولاية والهداية فهى وان كانت بوجه ظاهرة بذواتها بمعنى انه لا حاجة لها الى نور آخر تظهر هى به لكنها محتاجة الى علة تخرجها وتظهرها والى ما تقع عليه من سطوح المهيات والصدور والقلوب والارواح ومن سطوح الاجسام الماديات فهى ليست فى الحقيقة ظاهرة بذواتها، وان السماوات لا اختصاص لها بالافلاك الطبيعية والكرات العلوية بل كلما كان فيه جهة علو وفاعلية بالنسبة الى ما دونه فهو سماء بالنسبة اليه فالعقول الكلية الطولية والعرضية والنفوس الكلية والجزئية والافلاك الطبيعية كلها سماوات، والارض اسم لما له تسفل وقبول ولا اختصاص لاسم الارض بالارض الغبراء بل عالم الطبع بشراشره وعالما المثال السفلى والعلوى كلها ارض، وقد مضى فى اول سورة الانعام وجه جمع السماوات وافراد الارض وان السماء والارض اسمان للموجود منهما الممتاز بتعين السماوى والارضى او اسمان لنفس مهياتهما من دون اعتبار الوجود معها فعلى هذا صح ان يقال فى بيان الآية: ان الله ذو نور السماوات والارض موافقا لما نسب الى امير المؤمنين (ع) انه قرء: { الله نور السماوات والأرض } على صيغة الماضى من التفعيل سواء اريد من النور النور المحسوس العرضى او الوجود، او الهدى وصح ان يقال: ان الله مبين السماوات والارض ومخرجهما من خفاء العدم الى الوجود، وصح ان يقال: ان الله وجود السماوات والارض سواء اريد منه وجود وجودهما على ان يراد من السماوات والارض الموجودان منهما واعتبر قيد الحيثية فى اضافة النور اليهما او اريد منه نفس وجودهما، فان الله باعتبار مقام ظهوره الذى هو المشية قوام وجودات الاشياء وفاعلها وروحها بوجه ونفس وجودات الاشياء بوجه كما ان الفصول فاعل وجودات الاجناس وقوامها بوجه اخذها بشرط لا، ونفس وجوداتها بوجه اخذها لا بشرط، فان فعل الحق الذى هو المشية هو صورة الاشياء وقوامها وفاعلها، وصح ان يقال ان الله بحسب مظهره الذى هو العقل الكلى او الروح الكلى الذى هو رب النوع الانسانى نور السماوات والارض بالوجوه المذكورة او بحسب مظهره الذى هو النفس الكلية او بحسب مظهره الذى هو عالم المثال نور السماوات والارض او بحسب مظاهره الذين هم انبياؤه واولياؤه (ع) هدى اهل السماوات والارض او مبينون لاهل السماوات والارض او بحسب مظاهره التى هى لطائف الولاية، والنبوة والرسالة نور السماوات والارض فى العالم الكبير او فى العالم الصغير بالوجوه السابقة او بحسب مظاهره التى هى الارواح والعقول والقلوب والنفوس البشرية والنفوس الحيوانية نور السماوات والارض فى العالم الصغير بالوجوه السابقة، او بحسب مظهره الذى هو ضياء الشمس نور السماوات والارض الطبيعيتين بالمعنى المدرك لكل احد، او بحسب مظهره الذى هو مثال اوليائه الظاهر فى صدور السالكين نور السماوات والارض فى العالم الصغير ان لم يكن ذلك المثال قويا على انارة خارج عالم السالك، او فى العالم الصغير والكبير ان صار المثال قويا على انارة الخارج ايضا، والى هذا الوجه اشار العارف الربانى قدس سره بقوله:
كرد شهنشاه عشق در حرم دل ظهور
قد زميان برفراشت رايت الله نور
او بحسب مظهره الذى هو قوة الواهمة والمتخيلة والخيال، او بحسب مظهره الذى هو المدارك الباطنة او هو المدارك الظاهرة { مثل نوره } اى صفته او حديثه { كمشكاة } اى كصفة مشكوة او حديث مشكوة وقد مضى سابقا ان التشبيهات التمثيلية لا يلزم فيها ذكر جميع اجزاء المشبه ولا ذكر جميع اجزاء المشبه به ولا الترتيب بين اجرائهما ولا ذكر جزء مخصوص عقيب اداة التشبية ولا الاتيان بلفظ المثل فى جانب المشبه ولا فى جانب المشبه به ولا الاتيان باداة التشبيه، واضاف النور الى ضمير الله مع ان المناسب ان يقول مثله لانه جعله نفس النور للاشارة الى ان الذات بحسب مقام الغيب ومقام الذات الاحدية لا خبر عنه ولا حكم عليه وانما الخبر والحكم عليه بحسب مقام ظهوره بمراتب ظهوره كما اشرنا اليه والمشكوة الكوة الغير النافذة { فيها } اى فى المشكوة التى لا ينفذ النور منها { مصباح } اى سراج { المصباح في زجاجة } فى تكرار المصباح ظاهرا معرفا تفخيم وتعجيب من شأنه كما ان تنكيره اولا يفيد التفخيم { الزجاجة كأنها كوكب دري } قرئ بضم الدال وكسرها مشدد الياء ومهموز الآخر منسوبا الى الدر او فعولا مشدد العين مضموم الفاء او فعيلا مشدد العين مضموم الفاء او مكسورها من الدرء بمعنى الدفع وعلى اى تقدير فهو بمعنى شديد التلألؤ { يوقد } قرئ بالياء التحتانى وبالتاء الفوقانى مبنيا للمفعول من اوقد، وقرئ توقد ماضيا مبنيا للفاعل من التوقد { من شجرة مباركة زيتونة } فان فى الزيتونة كثرة نفع للعرب من حيث انها طعام وشراب وفاكهة وادام ودهن، وتوقد الكواكب او الزجاجة او المصباح من تلك الشجرة باعتبار توقد فتيلة المصباح بدهن ثمرتها { لا شرقية } لا تكون فى مشرق الحائط حتى لا يقع عليها الشمس مدة من اول النهار { ولا غربية } لا تكون فى مغرب الحائط حتى لا يقع عليها الشمس مدة من آخر النهار فيكون زيتها اصفى وثمرها اشهى لكونه بارزة للشمس طول النهار، او المعنى انها ليست من شجر الدنيا فان شجر الدنيا لا تكون الا شرقية او غربية او شرقية وغربية جميعا بالاضافة الى الجهات المتخالفة، او المعنى انها لا تكون منسوبة الى شروق الشمس بحيث لا يقع عليها ظل فيحترق ثمرها ولا منسوبة الى غرب الشمس بحيث لا يكون الشمس غاربة عنا دائما فلا ينضج ثمرها، او المعنى انها ليست من الشجر الواقع فى جهة الشرق او جهة الغرب من المعمورة فان هاتين الجهتين لشدة حرارة الشمس فيهما يحترق ثمر شجرهما بل تكون واقعة فى وسط المعمورة فيكون ثمرها اتم نضجا غير محترق من حر الشمس وغيرنى من برد الهواء { يكاد زيتها يضيء } لفرط صفائه ولطافته { ولو لم تمسسه نار }.
تطبيق اجزاء المثل بالممثل له على الاحتمالات الاربعة عشر فيه على عدد آل محمد (ص)
اعلم، ان تطبيق هذا المثال على الممثل له اذا علمت ان الممثل له هو المشية او العقل الاول او مطلق العقول او رب النوع الانسانى او مطلق ارباب الانواع او النفوس الكلية او الجزئية او عالم المثال او روح الانسان او عقله او قلبه او نفسه او النفس الحيوانية او مثال خلفاء الله الظاهر على صدر السالك المسمى بالسكينة والفكر عندهم سهل عليك تطبيق اجراء المثل على الممثل له، فانه اذا اريد بالنور المشية كان المشكوة عالم الطبع والزجاجة عالم الارواح مطلقا والمصباح نفس المشية من وجهها الى العالم الذى يسمى بالكرسى والفيض المقدس وكانت الشجرة هى المشية ايضا بوجهها الى الله الذى يسمى بالعرش والفيض الاقدس، او كانت الشجرة هى المادة الاولى او مطلق المادة، او كانت المشكوة عالم المثال او عالم النفوس وباقى اجزاء المثال كما سبق، واذا اريد العقول او النفوس او عالم المثال بالنور الممثل له كانت المشكوة عالم الطبع او عالم المثال والزجاجة عالم النفوس والمثال او عالم النفوس فقط، والشجرة مطلق عالم المشية او جهتها الالهية او جهتها الخلقية او المادة الاولى او المادة المطلقة، واذا اريد النفوس من النور كانت المشكوة عالم الطبع او عالم البرزخ والزجاجة عالم المثال والشجرة هى المشية بما ذكر فيها من الوجوه، او العقول او المادة، اذا اريد عالم المثال كانت المشكوة عالم الطبع والزجاجة عالم البرزخ، والشجرة يجوز ان تكون كل ما سبق عليه وان تكون هى المادة، واذا اريد بالنور الممثل له الولاية او النبوة او الرسالة او الاسلام او الايمان او الروح او العقل او القلب او النفس البشرية او مثال الشيخ كان تطبيق سائر الاجزاء ظاهرا، واذا اريد النبى (ص) او الولى (ع) او الرسول (ص) او المؤمن كان المشكوة ابدانهم الطبيعية او صدورهم المنشرحة بالاسلام، وبالرسالة وخلافتها او قلوبهم المنقوشة فيها احكام النبوة وآثار الولاية والزجاجة نفوسهم او قلوبهم او عقولهم والمصباح بحسبها، والشجرة هى المشية او العقول الكلية وارباب الانواع او النفوس الكلية، او جهة الايحاء وافاضة العلوم اللدنية او ولايتهم او نبوتهم، ويجوز ان يراد بالنور الممثل له الروح النفسانى او الروح الحيوانى او النفس النباتية ويكون الزجاجة الروح الحيوانى او النفس النباتية او الطبع الجمادى والمشكوة النفس النباتية او البخار المتكون فى القلب او فيه وفى الشرائين او الطبع الجمادى او القلب الصنوبرى او هو مع الشرائين او جملة البدن، وفى الاخبار اشير الى بعض الوجوه والى بعض وجوه اخر فعن الصادق (ع) هو مثل ضربه الله تعالى لنا، وعنه (ع) { الله نور السماوات والأرض } قال: كذلك الله عز وجل مثل نوره قال: محمد (ص) كمشكوة قال: صدر محمد (ص) فيها مصباح، قال: فيه نور العلم يعنى النبوة، المصباح فى زجاجة قال: علم رسول الله (ص) صدر الى قلب على (ع) الزجاجة كأنها قال: كأنه كوكب درى يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية قال: ذلك امير المؤمنين على بن ابى طالب (ع) لا يهودى ولا نصرانى يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار قال: يكاد العلم يخرج من فم العالم من آل محمد (ص) من قبل ان ينطق به، نور على نور، قال: الامام فى اثر الامام، وقد ورد عنهم (ع) مع اختلاف فى بيان الوجوه نظير هذا الخبر كثيرا، وعن الباقر (ع) انه تعالى يقول: انا هادى السماوات والارض مثل العلم الذى اعطيته وهو النور الذى يهتدى به مثل المشكوة فيها المصباح فالمشكوة قلب محمد (ص) والمصباح نوره الذى فيه العلم، وقوله: المصباح فى زجاجة يقول: انى اريد ان اقبضك فاجعل الذى عندك عند الوصى، كما يجعل المصباح فى الزجاجة كأنها كوكب درى فأعلمهم فضل الوصى يوقد من شجرة مباركة فأصل الشجرة المباركة ابراهيم (ع) وهو قول الله عز وجل:
رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد
[هود:73] وهو قول الله تعالى:
إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم
[آل عمران:33-34] لا شرقية ولا غربية يقول لستم يهود فتصلوا قبل المغرب ولا النصارى فتصلوا قبل المشرق وانتم على ملة ابراهيم (ع) وقد قال الله عز وجل:
ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين
[آل عمران:67] وقوله: { يكاد زيتها يضيء } يقول: مثل اولادكم الذين يولدون منكم مثل الزيت الذى يعصر من الزيتون يكادون ان يتكلموا بالنبوة ولو لم ينزل عليهم ملك، وعن الصادق (ع) عن ابيه فى هذه الآية: { الله نور السماوات والأرض } ، قال بدأ بنور نفسه مثل هداه فى قلب المؤمنين كمشكوة فيها مصباح، المشكوة جوف المؤمن والقنديل قلبه، والمصباح النور الذى جعله الله فيه، توقد من شجرة مباركة قال: الشجرة المؤمن زيتونة لا شرقية ولا غربية، قال: على سواء الجبل لا غربية اى لا شرق لها ولا شرقية اى لا غرب لها، اذا طلعت الشمس طلعت عليها، واذا غربت غربت عليها، يكاد النور الذى جعله الله فى قلب المؤمن يضيء وان لم يتكلم نور على نور فريضة على فريضة وسنة على سنة يهدى الله لنوره من يشاء، قال: يهدى الله لفرائضه وسننه من يشاء، ويضرب الله الامثال للناس قال: فهذا مثل ضربه الله للمؤمن، قال: فالمؤمن ينقلب فى خمسة من النور مدخله نور، ومخرجه نور، وعلمه نور، وكلامه نور، ومصيره يوم القيامة الى الجنة نور قال الراوى: قلت لجعفر (ع) انهم يقولون مثل نور الرب قال سبحان الله ليس لله مثل اما قال:
فلا تضربوا لله الأمثال
[النحل: 74] ويجوز ان يراد بالمصباح ولاية محمد (ص) مخصوصا فليكن الزجاجة نبوته والمشكوة رسالته، والشجرة لطيفته السيارة الانسانية او مادته الكاملة وجثته العنصرية اللتين كانتا فى حاق الوسط غير مائلتين الى التوحيد ولا الى التكثير كعيسى وموسى (ع) فان احدهما مال الى التوحيد والآخر الى التكثير، ويجوز ان يراد بالمصباح نبوة محمد (ص) فليكن الزجاجة رسالته والمشكوة صدره، والشجرة لطيفته السيارة، او ولايته الكاملة او مادته، وقيل: ان المشكوة ابراهيم (ع) والزجاجة اسماعيل (ع) والمصباح محمد (ص) من شجرة مباركة يعنى ابراهيم (ع) لان اكثر الانبياء من صلبه لا شرقية ولا غربية لا نصرانية ولا يهودية يكاد زيتها يضيء اى يكاد محاسن محمد (ص) تظهر قبل ان يوحى اليه، وقيل: المصباح القرآن، والزجاجة قلب المؤمن، والمشكوة لسانه وفمه، والشجرة شجرة الوحى يكاد حجج القرآن تتضح وان لم تقرأ { نور على نور } خبر بعد خبر لمثل نوره يعنى صفة نوره الذى هو المشية صفة نور على نور فى شدة الاضاءة لتضاعف اضاءته بصفاء زيته وصفاء زجاجته، وجمع المشكوة لنوره على ان المشية التى هى وجود مطلق مقومة لجميع الوجودات المقيدة فهى وجود مطلق وارد على جميع الوجودات المقيدة وهكذا سائر الوجوه المذكورة فى النور، او خبر لمبتدء محذوف اى نور الرب نور على نور بجميع الوجوه المذكورة فى النور او خبر بعد خبر لله اى الله بحسب مظاهره نور على نور، او مبتدء خبر محذوف اى فى المشكوة نور على نور ، او خبر بعد خبر للمصباح، او خبر بعد خبر للزجاجة، او خبر بعد خبر لكأن، او صفة لمصباح، او لكوكب، او خبر مبتدء محذوف اى الكوكب الدرى نور على نور او مبتدء وعلى نور خبره ومسوغه الوصف المقدر اى نور عظيم على نور او مبتدء وخبره { يهدي الله لنوره } وعائده تكرار المبتدأ اى نور على نور يهدى الله اليه { من يشآء }.
وجوه اعراب آية النور
وبيان اعراب الآية بنحو الاجمال ان يقال: الله مبتدء ونور السماوات خبره كما هو الظاهر او بدل منه او صفته ومثل نوره كمشكوة جملة وخبر بعد خبر لله او خبر له او حال او مستأنفة جواب لسؤال مقدر او معترضة وفيها مصباح صفة لمشكوة او مستأنفة او معترضة والمصباح فى زجاجة صفة مصباح او صفة مشكوة او حال من مشكوة والعائد على الاول تكرار الموصوف وعلى الاخيرين يكون مقدرا اى المصباح فيها فى زجاجة، او مستأنفة او معترضة وفى زجاجة خبر المصباح او حال منه والزجاجة كأنها كوكب صفة زجاجة او صفة مصباح او صفة مشكوة، او حال منهما والعائد مثل عائد جملة المصباح فى زجاجة او مستأنفة او معترضة وكأنها كوكب درى خبر الزجاجة او حال منها، ويوقد من شجرة مباركة صفة كوكب او حال منه او خبر بعد خبر لكأن، او خبر للزجاجة او خبر بعد خبر لها، او حال من الزجاجة، او من ضمير كأنها، او صفة زجاجة او حال منه او خبر للمصباح او خبر بعد خبر له، او حال منه او من المستتر فى قوله { في زجاجة } او خبر بعد خبر لله او خبر له ابتداء او حال منه او من نور السماوات او مستأنفة او معترضة وتوفيق التأنيث والتذكير لما يحمل عليه ويوصف به موكول الى تفطن الناظر الخبير، ويكاد زيتها يضيء صفة للشجرة او حال منها أو مستأنفة او معترضة، ونور على نور قد مضى وجوه اعرابه { ويضرب الله الأمثال للناس } يعنى يوصل الى طريق المقصود او يذهب اليه بمن يشاء ويضرب الامثال للتنبيه على طريق المقصود لجميع الناس ليهتدى من يهتدى ويضل من يضل ويحيى من حى عن بينة ويهلك من هلك عن بينة { والله بكل شيء عليم } عطف على الله نور السماوات او على جملة مثل نوره كمشكوة او على جملة يهدى الله لنوره من يشاء، او على جملة يضرب الله الامثال.
[24.36]
{ في بيوت } متعلق بعليم واشارة الى ان مظاهره كما انهم مظاهر له تعالى مظاهر لجميع اسمائه وصفاته، وحجة على ان مظاهره انوار السماوات والارض مثل مقام ظهوره لان المظاهر اذا كانوا مظاهر لعلمه الذى هو من صفاته الحقيقية التى هى اشرف الصفات كانوا مظاهر لاضافاته التى هى اضعف الصفات والمعنى انه كما يعلم بكل الاشياء فى مقام ذاته ومقام ظهوره عليم بكلها فى مظاهره، ويجوز ان يجعل فى بيوت متعلقا بمحذوف يفسره يسبح المذكور بطريق باب الاشتغال، ويجوز تعلقه بالجمل السابقة والمراد بتلك البيوت بيوت خلفاء الله من الانبياء والاولياء (ع) وصدورهم وقلوبهم وولايتهم ونبوتهم وذوات الانبياء والاولياء (ع)، ويجوز ان يراد بالبيوت التى { أذن الله أن ترفع } المساجد الصورية فان المساجد الصورية يجوز ان ترفع على سائر البيوت ولا يجوز ان ترفع البيوت عليها والمساجد الحقيقية اذن الله ان ترفع على كل الموجودات اذنا تكوينيا وارتفاعا تكوينيا واذنا تكليفيا وارتفاعا تكليفيا { ويذكر فيها اسمه يسبح } قرئ مبنيا للمفعول ومبنيا للفاعل بالياء التحتانى وبالتاء الفوقانى، واذا كان مبنيا للمفعول وبالياء التحتانى كان مرفوعه واحدا من الظروف الثلاثة الآتية، واذا كان بالتاء الفوقانى كان مرفوعه السبحة المستفادة من الفعل، واذا كان مبنيا للفاعل كان مرفوعه رجال، وتأنيث الفعل باعتبار صورة الجمع المكسر وجملة يسبح { له فيها بالغدو والآصال } حالية او مستأنفة، والغدو مصدر استعمل بمعنى اوقات الصبح ولذلك حسن مقابلته مفردا مع الآصال جمعا والمراد بالتسبيح تنزيه اللطيفة الانسانية عما يعاوقه عن السلوك الى الرب سواء عدى بنفسه الى الله او الى اسم الله او باللام سواء كان اللام للتقوية او للغاية، فان تلك اللطيفة مظهر لله واسم له وتنزيهها ليس الا لله.
[24.37]
{ رجال } فاعل يسبح المذكور ان قرئ مبنيا للفاعل وفاعل محذوف ان قرئ مبنيا للمفعول، وفى اخبارنا ان رجال خبر مبتدء محذوف كناية عن البيوت اى هم اى البيوت رجال، ويجوز ان يكون رجال مبتدءا خبره يخافون { لا تلهيهم تجارة ولا بيع } التجارة مطلق المعاملة او هى البيع والشرى والبيع من الاضداد يستعمل فى الشرى والبيع كالشرى، فعلى هذا كان ذكر البيع بعد التجارة من قبيل ذكر الخاص بعد العام او من قبيل ذكر المرادف بعد المرادف للتأكيد ان كان البيع اعم من البيع والشرى بطريق عموم الاشتراك، او المراد بالتجارة مطلق المكاسب سواء كان بطريق المعاملة او غيرها وبالبيع التجارة المعهودة { عن ذكر الله } قد مضى فى سورة البقرة عند قوله
فاذكروني أذكركم
[البقرة:152] تحقيق الذكر واقسامه، والذكر سواء كان لسانيا جليا او جنانيا خفيا او صدريا حقيقيا ويعبر عنه بالسكينة والفكر والحضور وهو مثال الشيخ المتمثل عند السالك لقوة اشتغاله بالذكر المأخوذ منه او كان تذكرا لأمره ونهيه عند كل فعل لا ينافى الاشتغال بالمكاسب، بل اذا كان حال السالك ملاحظة امره تعالى ونهيه عند فعاله وكان كسبه بلحاظ امره تعالى وعدم قعوده عن الكسب بلحاظ نهيه تعالى كان كسبه ذكرا بل كان من اشرف اقسام الذكر كما مضى فى سورة البقرة، فان الذكر اللسانى والجنانى عبارة عما يجرى على اللسان او على الجنان ويذكر الانسان بسببه صفات الرحمن وهذا الكسب بذلك اللحاظ يذكر الانسان بسببه صفتى لطفه وقهره واضافتى امره ونهيه، فالرجال لا يتركون الكسب لذكر الله بل يجعلون الكسب ذكرا لله { وإقام الصلاة } قد مضى فى اول البقرة تحقيق وتفصيل للصلوة واقسامها واقامتها { وإيتآء الزكاة } قد مضى هناك بيان الزكوة وايتائها مفصلا روى عن الصادق (ع) انهم كانوا اصحاب تجارة فاذا حضرت الصلوة تركوا التجارة وانطلقوا الى الصلوة وهم أعظم اجرا ممن لا يتجر، وفى خبر: هم التجار الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله اذا دخل مواقيت الصلوة ادوا الى الله حقه فيها، وسئل الصادق (ع) عن تاجر فقيل: صالح ولكنه قد ترك التجارة، فقال (ع): عمل الشيطان، ثلاثا؛ اما علم ان رسول الله (ص) اشترى عيرا اتت من الشام فاستفضل فيها ما قضى دينه وقسم فى قرابته يقول الله عز وجل: { رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله } (الآية) يقول القصاص: ان القوم لم يكونوا يتجرون، كذبوا ولكنهم لم يكونوا يدعون الصلوة فى ميقاتها وهو افضل ممن حضر الصلوة ولم يتجر { يخافون } حال او صفة بعد صفة لرجال او خبر بعد خبر اى هم رجال يخافون او خبر لرجال او جواب لسؤال مقدر فى مقام التعليل { يوما تتقلب فيه القلوب } فى الاحوال من الحزن والسرور والقبض والبسط والخوف والرجاء وغير ذلك من الاحوال المتضادة وذلك لكثرة ما ترى من اسباب ذلك فان ذلك اليوم يوم يعرض فيه الجنة ونعيمها والجحيم وانواع عذابها على الخلق { و } تتقلب { الأبصار } من الانفتاح والانغماز، والشخوص والخشوع، والدوران والسكون، او تتقلب القلوب من اختس احوالها الى اشرفها، او من حالاتها الخسيسة الى اخسها، او الابصار من ابصارها الى العمى او من ضعف الابصار الى حدته، او تتحرك القلوب الى الحناجر والابصار يمنة ويسرة لكثرة المدهشات، او تتقلب القلوب من الشك الى اليقين والابصار مما رأته غيا فتراه رشدا.
[24.38]
{ ليجزيهم الله أحسن ما عملوا } اللام اشارة الى العاقبة او الى العلة الغائية وعلة لقوله تعالى: { يهدي الله لنوره من يشآء } او ل { يضرب الله الأمثال } او لاذن الله او لترفع او ليذكر فيها اسمه، او ليسبح او لقوله لا تلهيهم او لذكر الله واقام الصلوة او ليخافون او لتتقلب فيه القلوب، او للكل على سبيل التنازع، والجزاء باحسن ما عملوا اما بان لا يجزى غيره سواء كان حسنا او قبيحا، او بان يجزى جميع الاعمال حسنها وأحسنها وقبيحها بجزاء احسنها، وهذا هو المراد، وقد مضى فى سورة التوبة فى نظير الآية بيان لوجه جزاء جملة الاعمال بجزاء احسنها { ويزيدهم من فضله } من غير نظر الى عمله واستحقاقه { والله يرزق من يشآء بغير حساب } عطف او حال فى معنى التعليل او عطف فيه معنى الاضراب والترقى فان الظاهر من الزيادة على قدر جزاء العمل ان تكون بقدر وحساب فأضرب عنه وقال بل يرزقهم بغير حساب وانما قال الله يرزق من يشاء بغير حساب لافادة هذا المعنى والتعليل عليه فكأنه قال: بل الله يرزقهم بغير حساب لانهم يشاؤهم الله والله يرزق من يشاء بغير حساب.
[24.39]
{ والذين كفروا } عطف على يهدى الله ومعادل له والمناسب للمعادلة ان يقول: ويضل الله عن نوره من يشاء لكنه للاشارة الى ان الهداية من الغايات الذاتية والاضلال من الغايات العرضية كأنه ليس الا من فعل العبد عدل عنه وقال والذين بالنور يعنى بعلى (ع) وولايته، أو عطف على جملة يسبح له فيها ومعادل له والمعنى لا يسبح له فيها رجال { أعمالهم كسراب } لكنه عدل الى هذا للاشعار بان كون اعمالهم كسراب معلل بكفرهم، وللاشارة الى ان عدم التسبيح مسبب عن كفرهم ايضا، او عطف على جملة رجال على ان تكون خبرا لمحذوف، او عطف على جملة يخافون على ان تكون مستأنفة { بقيعة } القيع والقيعة والقيعان بكسرهن جمع القاع وهى ارض سهلة مطمئنة قد انفرجت عنها الجبال { يحسبه الظمآن مآء حتى إذا جآءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه } وهذا من التشبيهات التمثيلية مثل عمل الكافر الذى يشبه الطاعات التى تصدر عمن قبل الولاية وصار ذا لب بتلقيح الولاية والبيعة الخاصة الولوية بسراب يلمع لمعان الماء الجارى فى بيداء بعيدة فى نضارة صورة عمله وخلوها عن معنى الطاعات وفنائها من غير بقاء اثر منها على النفس وشبه الكافر العامل لهذا العمل او الناظر الى هذا العامل وعمله الذى يطلب الحق وكان الحق مستورا عنه ويفتتن بصورة هذا العمل بظمآن يفتتن بصورة السراب، وشبه توجه العامل او الناظر الى صورة هذا العمل وافتتانه به بافتتان الظمآن واسراعه الى السراب، وشبه فناء العمل من غير اثر منه حين الحاجة اليه بفناء السراب حين الاتيان اليه بعد شدة الحاجة باشتداد الظماء بسبب سرعة الحركة وتهيؤ شرب الماء، وشبه وجدانه الله فى القيامة ومحاسبة الله اياه ومطالبته باماناته التى اودعها عنده بوجدان ذلك الظمآن المسرع الى السراب مع خيبته من مرجوه محاسبا قويا مطاعا كان له على ذلك الظمآن ديون ويطالبه بتلك الديون فوفيه حسابه { والله سريع الحساب } تهديد للكافر والناظر الى صورة عمله فان سرعة الحساب كناية عن عدم فوات الجليل والحقير عنه.
[24.40]
{ أو كظلمات } يعنى ان الذين كفروا بالولاية اما يكونون على صورة الاسلام ويكون عملهم صورة عمل المؤمن او لا يكونون على صورة الاسلام ولا يكون عملهم موافقا لعمل المؤمن، بل يكون بخلاف الشريعة وخلاف عمل المؤمن فيكون بصورته مظلما كما انه لا يكون له لب مثل عمل الكافر السابق الذى كان على صورة الاسلام ولم يكن له ايمان، فشبه اعمالهم المظلمة بظلمات الليل ونفوسهم المظلمة ببحر عميق او بعيد الساحل، واضطرابات نفوسهم بسبب كثرة الآمال والشهوات وكثرة خوفهم بحسبان كل صيحه عليهم بالامواج المتتابعة والمتراكمة، وشبه الاهوية الساترة للحق عن نظره بالسحاب الساترة للشمس الواقعة فوق البحر فانها تصير سببا لشدة الظلمة وكثرة الامواج خصوصا اذا كان معها قطرات من المطر فقال أعمالهم كظلمات { في بحر لجي يغشاه } اى يغشى البحر او العامل { موج } من البحر { من فوقه } اى من فوق الموج او البحر او العامل { موج من فوقه } هذا الضمير كالضمير السابق { سحاب } قرئ بالاضافة ومنونا { ظلمات } قرئ بالرفع مبتدء ومسوغه وصفه المستفاد من التنوين، او خبر مبتدء محذوف، وقرئ بالجر وهو على قراءة تنوين سحاب يكون بدلا من ظلمات { بعضها فوق بعض } وهى ظلمة البحر وظلمه الليل وظلمة الامواج وظلمة السحاب { إذآ أخرج } العامل او اذا اخرج مخرج { يده لم يكد يراها } يعنى لا يريها ولا يقرب رؤيتها او يريها بعد جهة ومشقة بعد ان لم يكد يريها فانه قد يستعمل فى هذا المعنى { ومن لم يجعل الله له نورا } يعنى من لم يهده الله لنوره، وهذا يدل على ان قوله: { والذين كفروا } (الى آخره) معادل لقوله { يهدي الله لنوره من يشآء } ولم يقل: من لم يهتد الى نوره؛ للاشعار بان الاهتداء الى النور مسبب من فعل الله بخلاف الكفر فانه مسبب من استعداد العبد والمراد بالنور الذى يجعله الله للعباد الولاية التى هى كالبذر فى ارض القلب وكالانفحة للبن الوجود وكاللب لجوز الاعمال ولوزها وفستقها، وبها يصير العباد اولى الالباب، والاعمال ذوات الالباب، وبدونها يكون وجود العباد واعمالهم كالجوز الخالى من اللب وهذه هى التى لا تدع العباد ان يخرجوا عن طاعة مشايخهم، وهى التى اذا قويت وصفت النفوس ظهرت بصورة مشايخهم فى قلوبهم وقوله تعالى:
نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم
[التحريم:8] اشارة الى هذا الظهور فانه فى القيامة تصفو النفوس من حجب المادة وتظهر ولايتهم بصورة امامهم، وبظهور هذا النور يكون جميع الخيرات ويدفع جميع الشرور، وتلك الولاية كسفينة نوح يكون المتوسل بها آمنا من امواج الفتن وظلمات الزمن، والى هذه الولاية اشار من قال:
بهر اين فرمود بيغمبر كه من
همجو كشتى ام بطوفان زمن
ما واصحابيم جون كشتى نوح
هركه دست اندر زند يابد فتوح
والى ذلك الظهور اشار بقوله:
جون خدا مرجسم راتبديل كرد
روفتنش بى فرسخ وبى ميل كرد
جونكه باشيخى تودور اززشتئى
روز وشب سيارى ودركشتئى
هين مير الا كه بابرهاى شيخ
تا ببينى عون لشكر هاى شيخ
{ فما له من نور } لانه من ذاته ان يكون ليس فى ذاته وصفاته، ومن الله ان يكون ايسا فى ذلك كله فكأنه تعالى قال: لم يكن له نور لانه ما له من نور من ذاته، وللاشارة الى بعض وجوه التأويل ورد عن الصادق (ع) شرح فى تأويل الآية حتى قال: اذا اخرج يده المؤمن فى ظلمة فتنتهم لم يكد يريها ومن لم يجعل الله له نورا اماما من ولد فاطمة (ع) فما له من نور امام يوم القيامة.
[24.41]
{ ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات } جواب لسؤال مقدر نشأ من قوله { يسبح له فيها } فان تقييد التسبيح بكونه فى تلك البيوت وكونه من رجال مخصوصين يوهم انه لا يسبح له فى غيرها فصار المقام مقام ان يسأل عن تسبيح غير الرجال المذكورين والتسبيح فى غير تلك البيوت فقال تعالى: الم تر خطابا لمحمد (ص) او لمن يتأتى منه الرؤية فان الرائى اذا نظر بادنى تأمل رأى ان جميع الذرات فى جميع الاحوال وجميع الافعال يكونون فى تسبيح الرب والتسبيح للرب، فان الكل يكونون فى الاستكمال الفطرى على الدوام وهذا الاستكمال تنزيه للطيفة التى هى اسم الرب ومرآته عن سمة النقصان وحجب القوى واخراج لها من القوى الى الفعليات، وهذا التسبيح اتم من التسبيح اللسانى الاختيارى الذى يكون اكثر الاوقات مشوبا بالاغراض النفسانية وتدنيسا لتلك اللطيفة وتركا للتسبيح فى الحقيقة وضدا له، وقد سبق مكررا ان المراد بتسبيح الرب سواء عدى بنفسه الى الرب او الى اسم الرب او عدى بالباء او باللام الزائدة للتقوية او باللام التعليلية تنزيه تلك اللطيفة عن شوب القوة والاستعداد فان تلك اللطيفة نازلة الرب واسمه وتنزيهها ليس الا للرب وبتنزيهها يكون تنزيه الرب فالله تعالى شأنه يسبحه ويسبح لاجله جميع من فى السماوات { و } جميع من فى { الأرض } والمراد جميع الموجودات فيهما بطريق التغليب ويكون ذكر الطير بعدهما لكونهما مما ليست فى الارض ولا فى السماء فى الاغلب بل بينهما، او المراد بهما ذوو العقول خاصة وذكر الطير من بين سائر الحيوان لكونها اشرف من اكثر اصنافه واكثر تفطنا { والطير صآفات } اى حال كونها ذوات صفيف الاجنحة فى الجو، وهذا التقييد يشعر بان ذكرها لكونها فى الجو { كل قد علم صلاته } الصلوة الدعاء والرحمة والعبادة المخصوصة الموضوعة فى كل ملة ولكل امة والكل مناسب فان الله يعلم دعاء كل والرحمة اللائقة به وعبادته الخاصة به، وكل من فى الارض والسماء والطير قد علم كيفية دعائه لله وطريق الرحمة الخاصة به والعبادة المخصوصة به، فان طريق رحمة كل وكيفية دعائه لله هو سيره على طريقه الخاصة به وعدم الانحراف منها وهو عبادته الخاصة به فعلى هذا جاز ان يكون ضمير علم راجعا الى الله والى كل { وتسبيحه } كيفية تنزيهه لله بخروجه من قواه الى فعلياته غاية الامر ان غير ذوى العقول يعلم بالشعور البسيط دون الشعور التركيبى كما فى قوله تعالى:
وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم
[الإسراء:44] يعنى بالشعور التركيبى { والله عليم بما يفعلون } فيجازيهم بحسب افعالهم ولا يفوته شيء من افعالهم حتى لا يجزيه.
[24.42]
{ ولله ملك السماوات والأرض } يعنى انه تعالى خالقه ومالكه فكيف لا يعلم افعال خلقه فيه { وإلى الله المصير } يعنى غاية ملك السماوات والارض هو الله او رجوع افعال كل من فى السماوات والارض اليه بمعنى ان الفاعل فى الكل هو الله وان الوسائط بمنزلة الآلات كالقلم واليد والقوة المحركة والقوة الشوقية والارادة للنفس فاذا نظر الناظر الى افعال العباد وانها صادرة منهم لكن نظر الى انهم مسخرون لنفوسهم ونفوسهم مسخرة لارادتها، وارادتها نازلة اليهم من غيرهم علم ان الافعال كلها راجعة بحسب الصدور الى مسخر ارادات العباد وليس الا الله.
[24.43]
{ ألم تر أن الله يزجي سحابا } الجملة مستأنفة فى مقام التعليل لقوله { ولله ملك السماوات والأرض } او لقوله { وإلى الله المصير } ، او للمجموع والخطاب لمحمد (ص) لانه هو الرائى لمثل ذلك لا المحجوب عن مشاهدة فعل الحق فى افعال العباد والطبائع، او لكل من يتأتى منه تلك الرؤية، او لكل راء فان كل راء ينبغى له ذلك، والاستفهام على الاول والثانى للتقرير، وعلى الثالث للتوبيخ، والازجاء السوق { ثم يؤلف بينه } اى بين قطعه المتفرقة { ثم يجعله } بعد جمع قطعه { ركاما } متراكما { فترى الودق } اى المطر { يخرج من خلاله وينزل من السمآء } اى من السحاب فان كل ما علا مطبقا فهو سماء { من جبال فيها } بدل من قوله من السماء والمعنى ينزل من السحاب من القطع المعظمة المرتفعة فى السحاب { من برد } بعض من برد والوجوه الاخر فى اعراب الآية ومعناها ضعيفة جدا { فيصيب به } اى بضرر البرد { من يشآء } من عباده فيهلك حرثه وماله ويخرب دوره { ويصرفه عن من يشآء يكاد سنا برقه } اى سنا برق السحاب او البرد { يذهب بالأبصار } لشدة لمعانه.
[24.44]
{ يقلب الله الليل والنهار } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: ما حال الليالى والايام تكون ذوات غيم وبلا غيم؟- وذوات مطر وبرد وبلا مطر وبرد؟! فقال تعالى: { يقلب الله الليل والنهار } بان يجعل بعضهما حارا رطبا فيحصل فيه بخار فيتولد منه سحاب ومطر وبرد ويجعل بعضما حارا جدا او باردا جدا او يابسا فلا يحصل فيه سحاب او بان يجعل مكان الليل النهار ومكان النهار الليل او بان يجعل الليل طويلا وقصيرا وكذا النهار { إن في ذلك } التقليب { لعبرة لأولي الأبصار } الذين يبصرون الاشياء من حيث حكمها ومصالحها ونضدها وترتيبها وغاياتها المترتبة عليها، فان هؤلآء يعتبرون باختلاف الليل والنهار بالزيادة والنقيصة والبرودة والحرارة والنور والظلمة، ويستدلون بذلك الاختلاف والانتضاد فى الاختلاف والحكم المودعة فيه والغايات المترتبة عليه من تربية جملة المواليد على ان خالقهما عليم حكيم قادر قوى وان ليس هذا الانتضاد فى الاختلاف الا من مبدء حكيم وليس من الدهر كما يقوله الدهريون، ولا من الطبع كما يقوله الطبيعيون، ولا بمحض الاتفاق كما يقوله القائلون بالبخت والاتفاق.
[24.45]
{ والله خلق كل دآبة من مآء } جملة حالية او معطوفة على قوله: { ألم تر أن الله يسبح } (الآية) بلحاظ المعنى فانه فى معنى: الله يسبح له من فى السماوات، والاستفهام والنفى لا يفيد الا تأكيد هذ المعنى، او على قوله: { لله ملك السماوات والأرض } ، او على قوله: { وإلى الله المصير } ، او على: { ألم تر أن الله يزجي } ، بلحاظ المعنى، او على يقلب الله الليل، والمراد بالماء الذى خلق الله منه الدواب هو النطفة ولذلك نكر الماء اشارة الى نوع خاص منه او جنس الماء فانه جزء مادته وبه بقاؤه وحياته { فمنهم من يمشي على بطنه } كالحيات والحيتان والديدان { ومنهم من يمشي على رجلين } كالاناسى والطيور وبعض حشرات الارض { ومنهم من يمشي على أربع } كذوات الاربع من الانعام والسباع وغيرها، ولم يقل: ومنهم من يمشى على اكثر، لان اكثر ما يمشى على اكثر كان اعتماده على اربع، وما كان اعتماده فى المشى على اكثر يكون نادرا، نسب الى ابى جعفر (ع) انه قال: ومنهم من يمشى على اكثر { يخلق الله ما يشآء } وهذا بمنزلة منهم من يمشى على اكثر وجواب لسؤال مقدر كأنه قيل: هل كان فى الحيوان ما يمشى على اكثر؟- فقال: يخلق الله ما يشاء { إن الله على كل شيء قدير } فيقدر على خلق ما يمشى على اكثر من الاربع فهو فى مقام التعليل لقوله تعالى: { يخلق الله ما يشآء } والاتيان بمن التى هى لذوى العقول فى غير ذوى العقول لتغليب ذوى العقول والاقتران به.
[24.46]
{ لقد أنزلنآ } من مقام المشية ومقام الاقلام والالواح { آيات } تدوينية فى صورة الآيات القرآنية التى تلوناها عليكم وآيات تكوينية فى صور طبيعية من مثل تسبيح من فى السماوات وازجاء السحاب وانزال الامطار وتقليب الايام وخلق الدواب كلها من الماء وجعلها مختلفات فى المشي وغيره { مبينات } واضحات او موضحات { والله يهدي من يشآء إلى صراط مستقيم } بسبب تلك الآيات فلا غرو فى عدم اهتداء بعض مع وضوح الآيات الهاديات فان الهداية بيد الله لا غير، والصراط المستقيم هو الولاية وطريق القلب.
[24.47-49]
{ ويقولون آمنا بالله } عطف على الله يهدى سواء جعل معطوفا على قد انزلنا او حالا او يقولون حال بتقدير المبتدأ { وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك } يعنى ان ايمانهم محض قول لمنافاة فعلهم له ولذلك قال { ومآ أولئك بالمؤمنين وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم } وهذا وجه آخر للدلالة على عدم ايمانهم { إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين } وجه آخر للدلالة على عدم ايمانهم وانهم انما توجهوا اليه لجلب النفع فى دنياهم.
[24.50]
{ أفي قلوبهم مرض } فينصرفوا عنه مع يقينهم به بسبب ذلك المرض { أم ارتابوا } فى نبوته { أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون } لا الله ورسوله (ص) حتى يتوهموا انه يحيف عليهم.
[24.51-54]
{ إنما كان قول المؤمنين } جواب لسؤال مقدر عن حال المؤمنين الذين لم يكن ايمانهم محض القول { إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا } هذ الدعاء، او سمعنا حكمه سواء كان لنا او علينا { وأطعنا وأولئك هم المفلحون ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه } قرئ يتقه بكسر القاف والهاء بدون الاشباع على الاصل، وقرئ يتقه بسكون القاف وكسر الهاء بلا اشباع تشبيها له بالكتف فى التخفيف، وقرئ بكسر القاف وكسر الهاء مع الاشباع، وقرئ بكسر القاف وسكون الهاء تشبيها للضمير بهاء السكت { فأولئك هم الفآئزون وأقسموا } اى القائلون آمنا بالله او الذين تولوا { بالله جهد أيمانهم } مفعول مطلق نوعى لاقسموا اى اقسموا مبالغة ايمانهم كما هو عادة الكذاب يكثر الايمان ويؤكدها ويغلظها، او جهد ايمانهم مفعول مطلق لمحذوف هو حال اى يجهدون جهد ايمانهم { لئن أمرتهم } بالخروج فى الغزوات { ليخرجن قل } لهم { لا تقسموا } اى لا حاجة الى القسم لان طاعتك { طاعة معروفة } يرتضيها العقل والعرف ونفعها عائد اليهم لا اليك حتى يحتاجوا الى الاظهار والقسم عليها { إن الله خبير بما تعملون قل } لهم { أطيعوا الله } بالفعل لا بالقول فقط { وأطيعوا الرسول فإن تولوا } اى تتولوا لا تضروه شيئا { فإنما عليه } اى على الرسول (ص) { ما حمل } من تبليغ رسالته وقد بلغ لاهدايتكم الى الطاعة حتى يكون وبال توليكم عليه { وعليكم ما حملتم } من متابعته فضرر التولى عائد عليكم { وإن تطيعوه تهتدوا } الى الايمان الذى هو بضاعتكم لآخرتكم وهو ولاية على (ع) { وما على الرسول إلا البلاغ } اى التبليغ { المبين } الظاهر بحيث لا يخفى على احد او المظهر للمقصود.
[24.55]
{ وعد الله } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: ما لمطيع الرسول؟- او ما لمن اهتدى الى الايمان الحقيقى؟- فقال: وعد الله ووعده لا خلف فيه { الذين آمنوا منكم } بالبيعة العامة النبوية او بالبيعة الخاصة الولوية { وعملوا الصالحات } اللازمات للايمان حتى يستقر ايمانهم { ليستخلفنهم } يجعلهم خلفاء الماضين او خلفاء نفسه { في الأرض } اى ارض العالم الصغير او ارض العالم الكبير بان يخرج الجبابرة المسلطين عليها عنها او يجعلهم منقادين للاسلام طوعا او كرها { كما استخلف الذين من قبلهم } فى الصغير او الكبير.
اعلم، ان الفاظ القرآن لسعته لا تحمل على معنى واحد ولا على وجه واحد بل كان المنظور منها جميع معانيها بجميع وجوهها لسعة المتكلم والمخاطب بها، فالايمان اذا اريد به الاسلام الحاصل بالبيعة العامة النبوية يجوز ان يراد بالعمل الصالح الاعمال اللازمة للاسلام، وان يراد بالاستخلاف التسلط الصورى والغلبة فى الدنيا كما ورد انه لما قدم رسول الله (ص) واصحابه المدينة وآواهم الانصار رمتهم العرب عن قوس واحدة وكانوا لا يبيتون الا مع السلاح ولا يصبحون الا فيه، فقالوا: ترون انا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف الا الله؟- فنزلت هذه الآية وصدقت بعد الغلبة على المدينة ونواحيها وانقياد العرب لهم او بعد فتح مكة كما قيل: انها نزلت فى فتح مكة، وفى رواية عن رسول الله (ص): زويت لى الارض فأريت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك امتى ما زوى لى منها، وفى خبر عن المقداد عن رسول الله (ص) انه لا يبقى على الارض بيت مدر ولا وبر الا ادخله الله تعالى كلمة الاسلام بعز عزيز او ذل ذليل اما ان يعزهم الله فيجعلهم من اهلها واما ان يذلهم فيدينون لها وعلى هذا فمعنى قوله { وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم } ليسلطنهم على مخالفيهم حتى يمكنهم اظهار كلمة الاسلام ولوازمها، ويجوز ان يراد بالعمل الصالح البيعة الولوية الايمانية وبالاستخلاف الاستخلاف فى العلم والتصرف بالنسبة الى العالم الصغير او الى العالم الكبير، ويجوز ان يراد بالاستخلاف استخلاف لطيفتهم الولوية التى تظهر بصورة ولى الامر فى ملكهم الصغير، واذا قويت وتمكنت صارت خليفة لله فى العلم والعمل فى الصغير والكبير، ويجوز ان يراد بالاستخلاف الاستخلاف فى النبوة او الرسالة بعد استخلاف اللطيفة الولوية، واذ اريد بالايمان الايمان الحاصل بالبيعة الولوية يجوز ان يراد بالاستخلاف الاستخلاف فى الملك او الاستخلاف فى العلم والعمل، او الاستخلاف بظهور صورة ولى الامر، او الاستخلاف فى النبوة والرسالة، واذا اريد بالايمان الايمان الشهودى الذى لا يكون الا بشهود ملكوت ولى الامر جاز ان يراد بالعمل الصالح البقاء على الحضور عنده، وبالاستخلاف الاستخلاف فى النبوة او الرسالة، والى هذه المعانى وتلك الوجوه اشير فى الاخبار فانه فسر الذين آمنوا تارة بالمسلمين وتارة بالمؤمنين القابلين للولاية بالبيعة الخاصة الولوية، وتارة بالكاملين فى الايمان من الائمة الاطهار (ع)، والاستخلاف تارة بالاستخلاف فى الملك وتارة بالاستخلاف فى العلم والدين والعبادة، وتارة بالاستخلاف فى ظهور القائم (ع) من اراد الاخبار فليرجع الى المفصلات { وليبدلنهم من بعد خوفهم } من الاعداء الظاهرة فى الكبير ومن الاعداء الباطنة فى الصغير { أمنا يعبدونني لا يشركون بي } بشيء من انواع الشرك الصورى او الباطنى { شيئا } من الاصنام والاهوية والشركاء فى الولاية { ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون } الخارجون عن حكم الله ودينه فان من لم يبلغ الى هذا المقام وبقى استعداد للدخول فيه كان كأنه غير خارج من طريق الانسانية وان لم يكن داخلا فيها بالدخول التكليفى او السلوكى بعد بخلاف من وصل الى هذا المقام وخرج بعد منه فانه خرج من القوة الى الفعل وبالخروج من هذا المقام يبطل الفعلية ولا يكون فيه قوة واستعداد فيكون هو الفاسق حقيقة، واذا اريد بالذين آمنوا المؤمنون التابعون للائمة (ع) من الشيعة كان انجاز الوعد فى حال الحيوة الدنيا او فى حال الاحتضار.
[24.56-57]
{ وأقيموا الصلاة } لما كان قوله تعالى: { وعد الله الذين آمنوا } تعريضا بالحاضرين وامرهم بالايمان والعمل الصالح فكان فى معنى آمنوا واعملوا الصالحات، وكان عملوا الصالحات مجملا واراد ان يفصل الاعمال الصالحة عطف عليه قوله: { وأقيموا الصلاة } ، او قدر آمنوا ولم يصرح به لاستفادته بعينه من قوله { وعد الله الذين آمنوا } بخلاف { وأقيموا الصلاة } فانه لم يستفد من قوله عملوا الصالحات فكأنه قال فآمنوا واقيموا الصلوة { وآتوا الزكاة } قد مضى فى اول البقرة بيان وتفصيل لاقامة الصلوة وايتاء الزكوة { وأطيعوا الرسول } فى سائر ما أمركم به او أطيعوه فى اقامة الصلوة وايتاء الزكوة بمعنى اجعلوا الداعى على صلوتكم وزكوتكم محض أمره (ص) دون غيره من المراياة والصيت وامضاء العادة والمماثلة لامثالكم او حفظ المال او تحصيله او حفظ العيال والعرض والجاه وغير ذلك مما يجعله صاحبوا النفوس غايات لافعالهم وعباداتهم { لعلكم ترحمون لا تحسبن } قرئ بالخطاب والغيبة، ويجوز ان يكون الخطاب لمحمد (ص) وان يكون عاما وعلى قراءة الغيبة فالفاعل مستتر اى لا يحسبن حاسب او الفالع { الذين كفروا } والمفعول الاول محذوف اى لا يحسبنهم الذين كفروا { معجزين } الله عن ادراكهم { في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير } وهذا كلام منقطع عن سابقه لفظا ومعنى.
[24.58]
{ يأيها الذين ءامنوا } كلام منقطع لتعليم ادب من الآداب { ليستأذنكم الذين ملكت } اى ملكتهم { أيمنكم } فى خبر: هى خاصة فى الرجال دون النساء، قيل: فالنساء يستأذن فى هذه الثلاث ساعات؟- قال: لا ولكن يدخلن ويخرجن، وفى رواية اخرى: هم المملوكون من الرجال والنساء والصبيان الذين لم يبلغوا { والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات } يعنى فى كل يوم وليلة { من قبل صلوة الفجر } يعنى فى الاوقات التى يكون الانسان فى الاغلب عاريا من الثياب الساترة للعورات ومن ثياب التجمل ودخول الموالى وغير البالغين المميزين فى تلك الاوقات يوجب رؤية العورات والمساوى ويذهب بهيبة الشخص من الانظار { وحين تضعون ثيبكم من الظهيرة ومن بعد صلوة العشآء } لم يقل فى جوف الليل لانه ليس وقت طواف ودخول او لان الامر بالاذن فى طرفى النهار يكون لاستغراق الليل، او لان وجوب الاذن فى الطرفين يوجب وجوبه فى وسطه بالطريق الاولى { ثلاث عورات لكم } العورة الخلل فى الثغر وغيره وكل مكمن للستر والسوءة والساعة التى هى قمن من ظهور العورة فيها وهى المراد ههنا { ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن } فى ترك الاستيذان والدخول من غير اذن ان شاؤا { طوفون عليكم } استيناف جواب لسؤال مقدر فى مقام التعليل بتقدير مبتدء محذوف اى هؤلآء لاجل حاجتكم اليهم فى خدمتهم وفى تربيتهم كثير الطواف عليكم ، ويكون الاستيذان عسرا عليكم وعليهم { بعضكم على بعض } بدل من الضمير واشعار بأنهم كالاجزاء والابعاض منكم فلا حاجة لهم ولا لكم الى الاستيذان فى غير وقت ظهور العورات، او بعضكم فاعل فعل محذوف او مبتدء خبر محذوف { كذلك } التبيين من تبيين الاحكام مع الاشارة الى عللها وحكمها { يبين الله لكم الأيت } الاخر والاحكام القالبية والقلبية مع حكمها وعللها { والله عليم } يعلم مصالح ما يجعله شريعة لكم { حكيم } ينظر الى دقائق الحكم ويشرع ما يترتب عليه دقائق الحكم.
[24.59]
{ وإذا بلغ الأطفال منكم } لا من المماليك فان حكم اطفالهم وقت البلوغ حكم انفسهم فى الاستيذان فى الاوقات الثلاثة { الحلم فليستأذنوا } فى جميع الاوقات فانه المستفاد من اطلاق الاستيذان ومن مقابلته من غير البالغين الذين كان حكمهم الاستيذان فى الاوقات الثلاثة { كما استأذن الذين من قبلهم } اى الذين كانوا بالغين ومستأذنين من قبلهم { كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم } التكرار لمحض التأكيد والمبالغة فى امر الاستيذان.
[24.60]
{ والقواعد } اللاتى قعدن من طلب النكاح ليأسهن من رغبة الرجال اليهن وعدم ميل الرجال اليهن لكبرهن { من النسآء اللاتي لا يرجون نكاحا } لعدم طمعهن فيه وعدم طمع الرجال فيهن { فليس عليهن جناح } الجملة خبر الموصول ودخول الفاء فى الخبر اما لكون اللام موصولا، او لوصف القواعد باللاتى، او لتوهم اما او لتقديره، ولما امر بالاستيذان وقت ظهور العورة وطرح الثياب استفيد منه لزوم لبس الثياب وستر العورات خصوصا للنساء اللاتى يكون جميع بدنهن عورة قال اما العجائز فليس عليهن جناح { أن يضعن ثيابهن } يعنى بعض ثيابهن وهو الجلباب والخمار كما قرئ ان يضعن من ثيابهن فان اظهار غير الكفين والقدمين والوجه من البدن على غير المحارم كما كان حراما لغير العجائز كان حراما لهن ايضا { غير متبرجات بزينة } اى بشيء من الزينة ومواضعها فان اظهار الزينة ومواضعها سواء كان من العجائز او غيرهن مما يريب الرجال، نعم ورد استثناء الشعور منهن فانه ان لم يكن الرجال ينزجرون من رؤيتها لم يكونوا يرغبون فيها { وأن يستعففن } بالستر وترك وضع الثياب { خير لهن } من الوضع { والله سميع } فلا يقلن للرجال ما يريبهم { عليم } بنياتهن فلا يضعن ثيابهن لقصد ارتياب الرجال.
[24.61]
{ ليس على الأعمى حرج } استيناف منقطع عن سابقه لفظا ومعنى ولذلك لم يأت بأداة الوصل وبيان لادب آخر من آداب المعاشرة وذلك كما روى ونقل ان المرضى كانوا يكرهون معاشرة الاصحاء ومؤاكلتهم لتأنف الاصحاء عن معاشرتهم ولاحتمال انزجارهم من مؤاكلتهم ومعاشرتهم وكان الاصحاء يكرهون مؤاكلتهم لعدم قدرتهم على الاكل مثلهم، وكان الغازون اذا خرجوا الى الغزاء خلفوا الزمنى على بيوتهم وكره الزمنى الاكل منها وكان اذا خرج سرية كانوا يدفعون مفاتيح بيوتهم الى الغازين ليأخذوا ويأكلوا ما يحتاجون اليه فيكرهون الاكل منها دون الاجتماع مع صاحبيها، وكانوا اذا ارادوا ان يطعموا المرضى ولم يكن فى بيوتهم ما يطعمهم به ذهبوا بهم الى بيوت قراباتهم فكره المرضى الاكل منها وكان المرضى يتحرجون بعدم الاستطاعة للجهاد وعدم القدرة على الطاعة وعدم زيارة الرسول (ص) والمؤمنين مثل الاصحاء فرفع تعالى الحرج من ذلك كله لقوله ليس على الاعمى حرج { ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج } وحذف المتعلق ليذهب ذهن السامع كل مذهب ممكن، وقد مضى فى اول الكتاب ان الوجوه المحتملة كلها مقصودة من الفاظ القرآن فكأنه قال: ليس على هؤلآء حرج فى المؤاكلة مع الاصحاء والمعاشرة معهم، ولا فى الاكل من بيوت من خلفوهم عليها ولا فى الاكل والاخذ من البيوت التى اعطاهم صاحبوها مفاتيحها، ولا فى الاكل من بيوت اقرباء الداعين ولا فى التخلف عن الجهاد لا فى عدم الطاعة والزيارة مثل الاصحاء، وكرر لفظ حرج للاشارة الى عدم الفرق بين الثلاثة فى ظن التحرج وعدمه { ولا على أنفسكم } حرج { أن تأكلوا من بيوتكم } متعلق بالمجموع او مختص بالاخير والمعنى ليس على انفسكم حرج فى ان تأكلوا منفردين او مع المعلولين من بيوت انفسكم ولما كان الولد وبيته للوالد جعل بيته داخلا فى بيوتكم ولم يذكره منفردا كما ورد فى حق ولد: انت ومالك لا بيك ، وورد: ان اطيب ما يأكل المرء من كسبه، وان ولده من كسبه { أو بيوت آبآئكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه } بكونكم وكلاء للمالك فى ضيعته او مخزنه او داره، او اعطى المالك المفتاح عارية، او المراد بيت المملوك فان المفاتح جمع المفتح بمعنى المخزن والسيد مالك للمولى ومملوكه { أو صديقكم } فان الصداقة تقتضى السرور بأكل الصديق من بيته ولا اقل من الاذن ولكن كل ذلك ما لم يعلم عدم الاذن من صاحبيها، وما لم يؤد الى السرف والافساد { ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا } مجتمعين مع صاحبى البيوت او مع المعلولين او مع انسان آخر او مع ضيف { أو أشتاتا } متفرقين منفردين فانهم كما قيل كرهوا الأكل من البيوت المذكورة بدون صاحبيها وبعض البطون كان الرجل منهم لا يأكل وحده ويتحرج بالأكل وحده وكانوا لا يأكلون فى بيوت الفقراء فان الغنى كان يدخل بيت الفقير من ذوى قرابته او صداقته فيدعوه الى طعامه فيتحرج عن الأكل وكانوا اذا نزل بهم ضيف يتحرجون الأكل الا معه { فإذا دخلتم بيوتا } ادب آخر واتى بالفاء لانه متعقب للاذن فى دخول البيوت { فسلموا على أنفسكم } يعنى ليسلم بعضكم على بعض فان المعاشرين كلا منهم بمنزلة نفس الآخر، او سلموا على اهل البيوت حتى يردوا السلام عليكم فيكون سلامكم على أهل البيوت سلاما على انفسكم، او سلموا على انفسكم اذا لم تجدوا فيها احدا بان تقولوا؛ السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين او بان تقولوا؛ السلام علينا من عند ربنا { تحية } مفعول مطلق من غير لفظ الفعل { من عند الله } مشروعة من عند الله او نازلة من عند الله فان لسان المسلم حين يسلم بامر الله يكون مسخرا لامر الله، والجارى على اللسان المسخر لله جار من الله { مباركة } لانها دعوة مؤمن لمؤمن بأمر الله ودعوة المؤمن للمؤمن بركة عليهما، واذا كانت بأمر الله وكان الداعى ناظرا الى امره ضوعفت بركتها { طيبة } لما فيها من صيرورة نفسى المسلم والمسلم عليه طيبتين { كذلك يبين الله لكم الآيات } واحكام المعاشرة او الآيات التدوينية فى بيان احكام المعاشرة { لعلكم تعقلون } حكمها ومصالحها او لعلكم تصيرون عقلاء او لعلكم تعقلون الآداب اللازمة فى المعاشرة وتفهمونها فتعملوا بها.
[24.62]
{ إنما المؤمنون } منقطع عن سابقه لفظا ومعنى او هو جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: اذا لم يمتثل المؤمنون تلك الاوامر هل كانوا مؤمنين؟- فقال: انما المؤمنون { الذين آمنوا بالله ورسوله } فلا يتخلفون عما امروا به { وإذا كانوا معه على أمر جامع } للمؤمنين كالجمعة والعيد والقتال والمشاورة { لم يذهبوا حتى يستأذنوه } للذهاب { إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم } يعنى ان الامر مفوض اليك { واستغفر لهم الله } اى للمستأذنين فان الالتفات الى غيرك وغير الله اذا كانوا عندك معصية عظيمة لهم { إن الله غفور } يغفر ما يلحقهم من التوجه والنظر الى غيرك حين لا ينبغى ان ينظروا الا اليك { رحيم } يرحمهم بواسطة التوجه اليك والاستيذان منك، نقل ان الآية نزلت فى حنظلة بن ابى عياش وذلك انه تزوج فى الليلة التى كانت فى صبيحتها حرب أحد فاستأذن رسول الله (ص) ان يقيم عند اهله فأنزل الله عز وجل هذه الآية فأقام عند اهله، ثم اصبح وهو جنب فحضر القتال واستشهد فقال رسول الله (ص)
" رأيت الملائكة تغسل حنظلة بماء المزن فى صفائح من فضة بين السماء والارض فكان سمى غسيل الملائكة ".
[24.63]
{ لا تجعلوا دعآء الرسول } اى دعاءكم ونداءكم للرسول (ص) { بينكم كدعآء بعضكم بعضا } بان تذكروا اسمه او كنيته او تنادوه بصوت رفيع بل اخفضوا من اصواتكم عنده ولا تذكروه باسمه وكنيته بل اذكروه بالفاظ التعظيم مثل يا رسول الله (ص)، ويا نبى الله (ص)، وامثال ذلك، ولا تقولوا: يا محمد (ص)، ويا ابا القاسم (ص) كما فى الخبر، نسب الى الصادق (ع) انه قال: قالت فاطمة (ع): لما نزلت هذه الآية هبت رسول الله (ص) ان اقول له: يا ابه، فكنت اقول: يا رسول الله (ص) فأعرض عنى مرة او ثنتين او ثلاثا ثم اقبل على فقال: يا فاطمة (ع) انها لم تنزل فيك ولا فى اهلك ولا فى نسلك، انت منى وانا منك، انما نزلت فى اهل الجفاء، والغلظة من قريش من اصحاب البزخ والكبر، قولى: يا ابه؛ فانها احيى للقلب وارضى للرب، والمعنى لا تجعلوا دعاء الرسول (ص) لكم او عليكم بالخير او الشر كدعاء بعضكم بعضا للغير او على الغير فى جواز عدم الاجابة او كدعاء بعضكم الله لبعض او على بعض، او المعنى لا تجعلوا دعاء الرسول (ص) لكم الى امر كجهاد وغيره كدعاء بعضكم بعضا { قد يعلم الله } لفظة قد للتحقيق { الذين يتسللون منكم } انسل وتسلل انطلق فى استخفاف يعنى يعلم الله الذين ينطلقون من الجهاد فى استخفاف وهوان بحيث لا يطلع عليه احد او ينطلقون من المسجد كذلك فانه نقل ان المنافقين كانوا يثقل عليهم خطبة النبى (ص) يوم الجمعة فيلوذون ببعض اصحابه فيخرجون من المسجد استتارا من غير استيذان، وقيل: كانوا يتسللون من الجهاد { لواذا } مفعول له او مفعول مطلق بحذف مضاف اى تسلل لواذ او حال واللوذ بالشيء الاستتار والاحتصان به كاللواذ مثلثة واللياذ والملاوذة { فليحذر الذين يخالفون عن أمره } اى عن امر الله او عن امر الرسول (ص) { أن تصيبهم فتنة } بلية او امتحان يظهر ما فى قلوبهم من النفاق فى الدنيا { أو يصيبهم عذاب أليم } فى الآخرة او كلاهما فى الدنيا او فى الآخرة او فى كلتيهما.
[24.64]
{ ألا إن لله ما في السماوات والأرض } بعدما حذرهم بالعذاب على مخالفة امره حقق ذلك بأنه قادر عليه ولا مانع له منه لكون الكل مملوكين له من غير مانع { قد يعلم مآ أنتم عليه } من الافعال والاحوال والاخلاق والنيات والخطرات والمكمونات التى لا استشعار لكم بها، وهذا تعميم لعلمه تعالى بعد تخصيصه بالذين يستللون وتأكيد لتحذيرهم بانه عالم بجميع ما كنتم عليه { ويوم يرجعون إليه } عطف على محذوف اى يعلم الآن ويوم يرجعون او عطف على ما انتم عليه او ظرف لفعل محذوف بقرينة قوله { فينبئهم بما عملوا } او ظرف لينبئهم، وتخلل الفاء اما بتوهم اما، او بتقديرها، او لفظة الفاء زائدة فلا تمنع من عمل ما بعدها فى ما قبلها، وعلى اى تقدير يكون الكلام التفاتا من الخطاب الى الغيبة { والله بكل شيء عليم } تعميم آخر لعلمه تعالى.
[25 - سورة الفرقان]
[25.1]
{ تبارك الذي نزل الفرقان } هواسم للقرآن باعتبار نزوله الى مقام الفرق وعالم الفصل، وباعتبار صدوره عن مقام قلب النبى (ص) الذى يعبر عنه بالبيت المعمور فان المصدر الذى هو قلب النبى (ص) يكون حينئذ من عالم الفرق، وباعتبار فرقة بين الحق والباطل والمحق والمبطل، وباعتبار تفرقه فى النزول طول ثلاث وعشرين سنة، وباعتبار محكماته التى هى مبينات المعنى، وقد مضى فى سورة البقرة عند قوله:
هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان
[آية: 185]، وفى اول آل عمران بيان اجمالى للفرقان والقرآن، وقد سبق ان اختيار التنزيل على الانزال فى القرآن باعتبار انه منزل من مقام الاطلاق الى مقام التقييد ومحتاج الى تعمل شديد من قبل من ينزل عليه بخلاف سائر الكتب السماوية فانها منزلة من مقام التقييد ولا حاجة فيها الى زيادة تعمل من قبل من ينزل عليه، وتعليق تبارك على الموصول للاشعار باعتبار حيثية الصلة فى الحكم كأنه قال: كثر خيرات الذى نزل الفرقان من حيث انه نزل الفرقان وهو يدل على كثرة خيرات الفرقان وهو كذلك لان المتوسل به يكثر خيراته الدنيوية وخيراته الاخروية كما فى الآيات والاخبار وكما يشهد به التجربة والوجدان { على عبده } يعنى محمدا (ص) { ليكون للعالمين } جمع العالم وهو ما سوى الله او ما فى جوف الفلك او ما اشتمل على كثرات متحدات بالوحدة الطبيعية كأفراد النبات والحيوان والانسان او ما اشتمل على افراد كل واحد من تلك الافراد مشتمل على كثرات متحدات بالوحدة الطبيعية كانواع النبات والحيوان ونوع الانسان، او هو اسم جمع لان شرط الجمع بالواو والنون ان يكون مفرده علما لمذكر عاقل او وصفا له، ولان العالمين مختص بذوى العقول والعالم اعم من ذوى العقول كما قيل، وعلى اى تقدير كان المقصود من العالمين المكلفين من الانس والجن لان انذاره (ص) خاص بهم { نذيرا } وللاشعار بان الانذار مختص بشأن الرسالة المشعر به تنزيل الكتاب فان الكتاب لا يكون الا للرسول (ص) اقتصر عليه ولم يذكر التبشير الذى هو من شؤن الولاية.
[25.2-3]
{ الذي له ملك السماوات والأرض } قد تكرر فيما سلف ان اللام فى مثله يدخل على المبدء والغاية والمالك، ولما كان المقصود ذم من اتخذ من دون الله الها ومن انكر الرسول (ص) وكتابه وصف نفسه اولا بكثرة الخيرات ثم بانزال الكتاب على محمد (ص) ليكون كالبرهان على ذم من أنكرهما ثم وصف نفسه بخالقية ملك السماوات والارض ليكون ردا على من زعم ان للشيطان ملكا وهو منعزل عن الله ومقابل ومعاند له { ولم يتخذ ولدا } وهذا رد على من زعم ان عيسى (ع) او عزيرا ابن الله، وعلى من قال: نحن ابناء الله { ولم يكن له شريك في الملك } وهو رد على من زعم ان الاصنام او الكواكب او اهريمن شريك له فى الملك { وخلق كل شيء } رد على من قال بقدم الكواكب او الظلمة او اهريمن { فقدره } اى قدر ذاته واحواله وارزاقه وامد بقائه ووقته ومكانه واجله { تقديرا واتخذوا من دونه } اى من دون هذا الذى ذكر بالاوصاف المذكورة { آلهة } لا يوصفون بشيء من الاوصاف المذكورة بل يوصفون بأضدادها فانهم { لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا } فضلا عن ان يكونوا مالكين للسماوات والارض { ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا } يعنى لا يملكون المنسوبات الاختيارية ولا المنسوبات الغير الاختيارية.
[25.4]
{ وقال الذين كفروا } بالله انكارا لرسالة رسوله (ص) وكتابه { إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون } يعنى لما عجزوا عن معارضته ورأوا حسن نظمه أنكروه وقالوا: كان هذا بمعاونة معاونين له { فقد جآءوا } اى منكروا الرسالة او منكروا الله والرسالة جميعا { ظلما } حيث انكروا ما حقه الاقرار وعبدوا ما حقه الجحود والانكار { وزورا } اى رأيا وقولا منحرفا عن الصواب.
[25.5]
{ وقالوا } هذا القرآن او هذه الاخبار التى يخبر محمد (ص) بها { أساطير الأولين } اى مكتوبات الاقدمين وصلت اليه او الاحاديث المتفرقة التى لا نظام لها كانت من الاولين ووصلت اليه وقد مضى ان الاساطير جمع الأسطار جمع السطر، او جمع الاسطار او الاسطير بكسر الهمزة فيهما، او جمع الاسطور بضم الهمزة وتستعمل الثلاثة بالتاء والمجموع بمعنى الاحاديث التى لا نظام لها { اكتتبها } مستأنف او خبر لأساطير الاولين، واكتتب بمعنى كتب او استكتب او استملأ، وقرئ اكتتبها مبنيا للمفعول على ان يكون اصله اكتتب له الاساطير ثم حذف اللام واتصل الضمير واستتر { فهي تملى عليه بكرة وأصيلا } يعنى تكرر تلك الاساطير عليه حتى يحفظه لانه كان اميا او تملى عليه لتكتب له.
[25.6]
{ قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض } من سماوات الاجسام والارواح وكذا ارضهما، ومن يعلم السر الذى لا يطلع عليه احد من السماوات والارض فى العالم الكبير يعلم السر والجهر من سماوات الارواح وارض الاشباح منكم فاحذروا من ان تقولوا او تفعلوا فى الملأ او الخلأ او تخيلوا او تنووا ما يليق بالله او بمحمد (ص) او بكم { إنه كان غفورا } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: فلم لا يؤاخذ العاصى والعاتى؟- فقال: انه كان غفورا يستر على المساوى ولا يؤاخذ ما بقى فى المعاصى استعداد التوبة { رحيما } يرحمهم فضلا عن ان لا يؤاخذهم.
[25.7]
{ وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام } زعموا ان الرسالة تنا فى البشرية ولوازمها ولذلك قالوا: مالهذا الرسول ليكون حجة على انكارهم { ويمشي في الأسواق } لرفع الحاجات ظنا منهم ان الرسول (ص) لا ينبغى ان يكون محتاجا وهذا خطأ منهم فان الرسول لو لم يكن بشرا او كان بشرا ولكن لم يكن متصفا بلوازم بشريته لما صح رسالته فان الرسول (ص) هو الذى يحفظ حقوق الكثرات ولو لم يكن فيه دقائق الكثرات ممتازة لما صح منه حفظ حقوقها { لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا } وهذا ايضا خطأ منهم فان الملك لو كان يصح ان يراه البشر من غير سنخيتهم معه لكان هو رسولا بل الملك ان ظهر على البشر هلك او جن او غشى عليه فلا يصح نزول الملك اليه بحيث يشاهدوه.
[25.8]
{ أو يلقى إليه كنز } وهذا ايضا خطأ فان مشية الله لم تقتض اجراء الاشياء الا بالاسباب { أو تكون له جنة يأكل منها } لما حصروا الخيرات فى الخيرات الحسية قالوا امثال ذلك { وقال الظالمون } وضع الظاهر موضع المضمر اشعارا بظلمهم وبان هذه الاقوال منهم ليست الا ظلما { إن تتبعون إلا رجلا مسحورا } سحر كمنع خدع وتباعد وكسمع تكبر، والمسحور المفسد من المكان لكثرة المطر او قلة الكلأ.
[25.9]
{ انظر كيف ضربوا لك الأمثال } يعنى فى حقك او مخاطبا لك فانهم شبهوا رسالته من الله بالرسالة من ملك الروم تارة ومن ملك الفرس اخرى، وان رسول الروم او الفرس له خدم وحشم وخيام واموال وربنا تعالى شأنه خالقهما فليكن رسوله اشرف من رسولهما { فضلوا } حيث انحرفوا عن طريق الآخرة وتوجهوا الى الدنيا وشبهوا رسول الله (ص) فى الامور الاخروية برسول الملوك فى امور الدنيا { فلا يستطيعون } الى الآخرة او الى الحق الواقع او المعنى فضلوا عن طريق المحاجة فلا يستطيعون { سبيلا } بالغلبة فى المحاجة، وقصة عبدالله بن ابى امية المخزومى ومحاجته مع الرسول (ص) وتمثيله له ملك الروم والفرس مذكور فى المفصلات.
[25.10]
{ تبارك الذي إن شآء جعل لك خيرا من ذلك } لكنه لم يشأ ذلك لمنافاته للرسالة من الله وترغيب الناس عن الدنيا { جنات تجري من تحتها الأنهار } قد مضى فى آخر آل عمران فى ذيل قوله تعالى
فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم
[آل عمران:195] بيان كيفية جريان الانهار من تحت الجنات { ويجعل لك قصورا } والجملة على قراءة رفع يجعل معطوفة على قوله تبارك الذى يعنى يجعل لك فى الآخرة قصورا، وعلى قراءة الجزم معطوفة على الجزاء، ويصح عطفه على الجزاء على قراءة الرفع ايضا.
[25.11-12]
{ بل كذبوا بالساعة } اضراب من الادنى الى الاعلى يعنى كذبوك فى رسالتك بل كذبوا بالقيامة والآخرة التى هى متفق عليها من الكل { وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا } التغيظ شدة الحر او هو من الغيظ بمعنى الغضب او اشده او سورته وتغيظ السعير لكون عالم الآخرة بشراشره حيا عالما شاعرا محبا لله مبغضا لله { وزفيرا } زفير النار صوت توقدها.
[25.13]
الثبور الهلاك او الويل.
[25.14-18]
{ لا تدعوا } جواب سؤال مقدر بتقدير القول كأنه قيل: ما يقال لهم؟- فقال: يقال لهم: لا تدعوا { اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا قل } لهم { أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزآء } جواب لسؤال مقدر ورفع لتوهم الامتنان بهذا الاحسان { ومصيرا لهم فيها ما يشآءون خالدين } ولما كان تمام الاحسان الى الاضياف حضور ما يشاؤه كل احد وعدم زوال النعمة أتى بهما { كان على ربك وعدا مسئولا ويوم يحشرهم } عطف على هنالك سواء كان للزمان او المكان، او عطف على قل بتقدير اذكر، او ظرف ليقول والفاء زائدة او بتقدير اما او توهمها { وما يعبدون من دون الله } من افراد البشر ومن سائر المواليد ومن الكواكب والاصنام او ما يعبدون عبادة طاعة من دون ولى امرهم { فيقول } خطابا للمعبودين { أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم } بأنفسهم { ضلوا السبيل قالوا } التعبير بالماضى لتحقق وقوعه او لوقوعه بالنسبة الى محمد (ص) فانه كان يشاهد كل ما لم يشاهده غيره من امر الآخرة { سبحانك } عن كون امثالنا اندادا لك وشركاء فى المعبودية { ما كان ينبغي لنآ } يعنى للعابدين ولنا او المراد المعبودون فقط { أن نتخذ } قرئ بالنون مبنيا للفاعل ومبنيا للمفعول { من دونك } من دون اذنك او هو حال من اولياء ولفظ من للتبعيض { من أوليآء ولكن متعتهم } من المشتهيات الدنيوية فاشتغلوا بها عن الآخرة { وآبآءهم } يعنى لم يكونوا فى ضيق فى وقت كونهم مستقلين بأمرهم ولا فى وقت كونهم عيالا لغيرهم فلم يكن لهم اضطرار حتى يتذكروا الآخرة وتكون فى ذكرهم { حتى نسوا الذكر } الذكر يطلق على الكتب السماوية والشرائع الالهية، وعلى الرسالة والولاية، وعلى الانبياء واوصيائهم (ع)، وعلى الولاية التكوينية التى هى فطرة الله التى فطر الناس عليها، وعلى الجهة التى بها يتذكر الله من الاشياء { وكانوا } فى الذر او باصل فطرتهم او صاروا { قوما بورا } هالكين مصدر وصف به ولذلك يطلق على الواحد والاثنين والجماعة والمذكر والمؤنث بلفظ واحد، او مشترك بين جمع بائر ووصف بار بمعنى هلك ومصدره يعنى انهم كانوا هالكين من الحيوة الانسانية وغافلين عن اللطيفة الالهية التى بها يكون تذكر الانسان لله ولامور الآخرة فلم يتذكروا من التوجه الينا امرا الهيا اخرويا بل كان توجههم فى العبادة لنا الى الجهة النفسانية منا الموافقة لجهاتهم النفسانية واهويتهم الكاسدة وشياطينهم المغوية فكانوا فى عبادتنا يعبدون الجن واهويتهم.
[25.19]
{ فقد كذبوكم } عطف على قالوا بتقدير القول اى فيقال للعابدين: فقد كذبكم المعبودون وصرف للخطاب من المعبودين الى العابدين { بما تقولون } الباء بمعنى فى او للسببية او للتعدية نظير كذب بالآيات بمعنى كذب الآيات، ويكون حينئذ بدلا من المفعول والمعنى كذبكم المعبودون فى قولكم انهم آلهة او فى قولكم انكم عبدتموهم، او فى قولكم ربنا هؤلآء اضلونا وقرئ بالغيبة والمعنى كذبكم المعبودون بقولهم: سبحانك (الى آخرها) { فما تستطيعون } ايها المشركون { صرفا } للعذاب عن انفسكم { ولا نصرا } لانفسكم وقرئ بالغيبة فيكون المعنى لا يستطيع المعبودون صرفا ولا نصرا لكم ثم صرف الخطاب الى المكلفين الحاضرين فقال: { ومن يظلم منكم } بالاشراك بالله او باى ظلم كان لكن بشطر ان لا يتوب { نذقه عذابا كبيرا } والشرط مطلق والوعيد غير مقيد لكن الخلف فى الوعيد غير قبيح بل حسن ممدوح ثم صرف الخطاب الى محمد (ص) فقال ردا على من أنكر اكل الرسول (ص) ومشيه فى الاسواق.
[25.20]
{ ومآ أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة } اختبارا وفسادا فان الله جعل الانبياء والاولياء (ع) فتنة وامتحانا للمؤمنين، واختبارا وفسادا للمنافقين، وجعل المؤمنين ارتياضا وامتحانا بافعالهم الغير المرضية للانبياء والاولياء (ع) وبافعالهم الاخروية واتصالهم بالرسالة والولاية اختبارا وفسادا للمنافقين، وجعل المنافقين والكافرين امتحانا للانبياء والاولياء (ع) بايذائهم القولى والفعلى وللمؤمنين كذلك، وعلى هذا كان اضافة بعض الى الضمير لتعريف الجنس المفيد لفرد ما لا على التعيين { أتصبرون } استفهام فى معنى الامر اى اصبروا { وكان ربك بصيرا } جملة حالية فى معنى التعليل سواء قلنا بلزوم قد فى الماضى الذى وقع حالا او لم نقل.
[25.21-22]
{ وقال الذين لا يرجون لقآءنا } اى لقاء حسابنا وثوابنا او لقاء مظاهرنا، وعدم رجاء اللقاء اما بعدم الاعتقاد به او بعدم الالتفات والتوجه اليه وعدم الطلب له كحال اكثر المعتقدين للآخرة { لولا أنزل علينا الملائكة } لرسالة الرب فان الملك اولى بالرسالة من الله من البشر او لتصديق محمد (ص) فى رسالته، او المعنى ان كان ينزل الملك على محمد (ص) فلولا انزل علينا الملائكة فانا ان لم نكن اولى بنزول الملك منه فلسنا بادون منه { أو نرى ربنا } فيخبرنا بنفسه بتكاليفنا او يخبرنا ان محمدا (ص) رسول منى، او ان كان لنا رب يرسل رسولا الينا فلم لا يظهر علينا حتى نريه؟ { لقد استكبروا في أنفسهم } عند أنفسهم { وعتوا } تجاوزوا الحد فى الاستكبار { عتوا كبيرا يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين } يعنى انهم استدعوا نزول الملائكة وهم مجرمون متدنسون بدنس المادة والملائكة مجردون عن المادة مطهرون عن دنسها ولا يظهر المجرد على المادى الا هلك واذا هلك المادى الغير المطهر من ادناسها لم يكن له بشرى بل كان له العذاب، ووضع المجرمين موضع المضمر ليكون كالعلة للحكم { ويقولون } اى الملائكة { حجرا محجورا } حراما محرما يعنى البشرى او الجنة او رؤية الرب او التعوذ فانه لا معاذ لكم او يقول المجرمون ذلك.
[25.23]
{ وقدمنآ إلى ما عملوا من عمل } اى عمل كان مما يحسبونه ذخرا لآخرتهم من الصدق والامانة والوفاء والديانة والانفاقات والصلات والاعمال التى كانت على صورة ملة الهية وعبر بالماضى لايهام انه واقع او اخبار عن وقوعه، او اخبار بان المخاطب حاله ومقامه حال من قامت قيامته ويرى ما سيقع بالنسبة الى الناقصين واقعا { فجعلناه هبآء } الهباء عبارة عن الغبار الذى يرى فى شعاع الشمس { منثورا } صفة هباء او خبر بعد خبر.
[25.24]
{ أصحاب الجنة يومئذ } يوم القيامة او يوم يرون الملائكة { خير مستقرا } اى افضل منزلا { وأحسن مقيلا } مستراحا من هؤلآء فى الدنيا او ليس التفضيل مرادا.
[25.25]
{ ويوم تشقق السمآء } عطف على يومئذ او على يوم يرون الملائكة او متعلق بالحق، او بقوله للرحمن والجملة معطوفة على سابقتها { بالغمام } حال كون السماء متلبسا بالغمام او تشقق بتراكم الغمام وقوته كأن الغمام صار آلة التشقق او تشقق بخروج الغمام الذى قال الله تعالى:
هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة
[البقرة:210] { ونزل الملائكة تنزيلا } فان فى وقت الاحتضار يتشقق سماء الارواح ويظهر الغمام الحاصل فى الروح من كدورات النفس بالشهوات والغضبات وينزل الملائكة رحمة او نقمة.
[25.26-28]
{ الملك } هو بتثليث الميم مصدر ملكه واسم للمملوك وهو مبتدء وقوله { يومئذ } خبره سواء كان بمعناه المصدرى او بمعنى المملوك لكن اذا كان بمعنى المملوك كان التقدير عظمة الملك لئلا يلزم الاخبار بظرف الزمان عن الذات وحينئذ يكون قوله { الحق } خبرا بعد خبر و { للرحمن } كذلك او متعلق بالحق او حال عن المستتر فيه او يومئذ متعلق بالملك او بالحق او بقوله للرحمن والحق خبره، وللرحمن مثل السابق او الحق صفته وللرحمن خبره والمراد بقوله يومئذ يوم الاحتضار والموت او يوم القيامة { وكان } ذلك اليوم { يوما على الكافرين عسيرا ويوم يعض الظالم } عطف على المستتر فى كان او على يومئذ او على يوم تشقق السماء، او متعلق بيقول الآتى والجملة معطوفة على سابقتها وعض الظالم { على يديه } كناية عن غاية ندمه وتحسره فان الغضوب او المتحسر اذا بلغ الغاية فى الغضب او التحسر يعض على انامله ويده { يقول يليتني اتخذت مع الرسول سبيلا } طريقا الى النجاة او طريقا واحدا ولم يتفرق بى الطرق او طريقا عظيما هو طريق الولاية وهذا هو المناسب لقوله { يويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا } ان كان المنظور التعريض بالامة فالمراد بقوله فلانا منافقو الامة وان كان المنظور مطلق الظالم فالمراد بقوله فلانا مطلق الرؤساء فى الضلالة.
[25.29]
{ لقد أضلني عن الذكر } عن الشريعة او الولاية او القرآن او النبى او الولى او على (ع) او العقل او الفطرة { بعد إذ جآءني } الذكر بلسان الرسول (ص) او مطلقا { وكان الشيطان } ابتداء كلام من الله او من قول الظالم { للإنسان خذولا } لانه يدعو الانسان الى امر ثم يتركه ولا ينصره وقت حاجته فى الدنيا او فى الآخرة.
[25.30]
{ وقال الرسول } عطف على يقول يا ليتنى او على يعض الظالم او على تشقق السماء وعلى التقادير فالمعنى على الاستقبال اى يقول الرسول (ص) فى ذلك او عطف على قال الذين لا يرجون وحينئذ يكون على مضية يعنى قال الذين لا يرجون استهزاء بالرسول (ص): لولا انزل علينا الملائكة، وقال الرسول (ص) تشكيا منهم { يرب إن قومي اتخذوا هذا القرآن } يعنى جملة القرآن او قرآن ولاية على (ع) { مهجورا } متروكا، وفى خطبة عن امير المؤمنين (ع) فانا الذكر الذى عنه ضل، والسبيل الذى عنه مال، والايمان الذى به كفر، والقرآن الذى اياه هجر، والدين الذى به كذب.
[25.31]
{ وكذلك } اى مثل جعل الاعداء لك مشتملا على حكم ومصالح عديدة من سوق اتباعك الى دار الآخرة كما قيل:
اين جفاى خلق بر تودرجهان
كر بدانى كنج زر آمد نهان
خلق را با تو جنين بدخو كند
تا ترا ناجار رخ آنسو كند
آن يكى واعظ جو بر منبر بدى
قاطعان راه را داعى شدى
مى نكردى او دعا بر اصفيا
مى بكردى او خبيثان را دعا
مرورا كفتند كاين معهود نيست
دعوت اهل ضلالت جود نيست
كفت نيكوئى ازاينها ديده ام
من دعاشان زين سبب بكزيده ام
جون سبب ساز صلاح من شدند
بس دعاشان برمن است اى هوشمند
ومن نشر فضلك فى العالم وايصال صيتك الى اسماع بنى آدم فان فضل الفاضل ينشره حسد الحاسدين ومن توجيه الناس وترغيبهم الى رؤيتك وصحبتك فان النفوس مفطورة على التوجه الى كل جديد، ومن تمييز المؤمن عن الكافر والخالص عن المنافق، ومن ظهور المعجزات عنك بسبب العداوة ومن تمكينك فى دينك وتمكين اتباعك وتقوية قلوبكم وغير ذلك من المصالح { جعلنا لكل نبي عدوا } المراد بالعدو اما الجنس المطلق على الواحد والكثير، او المراد به معنى الجمع فانه كان لكل نبى اعداء عديدة ولفظ العدو يطلق على الواحد والجمع { من المجرمين } لا المؤمنين { وكفى بربك هاديا ونصيرا } تسلية له (ص) ولامته من شدة الخوف من كثرة الاعداء.
[25.32]
{ وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة } يعنى تارة يقولون: لولا انزل علينا الملائكة سخرية بك، وتارة يقولون: ان كان ما يقول حقا فلم لا ينزل القرآن عليه مجموعا؟ ولاى سبب ينزل عليه آية بعد آية؟! فان الله الذى يدعى هو الرسالة منه قادر على انزال الكتاب جملة وليس يحتاج الى تأمل وترو ومضى زمان لجمعه وتأليفه، ووضع المظهر موضع المضمر لاحضارهم بصفتهم الفظيعة { كذلك } الانزال بالتفريق انزلناه { لنثبت به فؤادك } فانه كلما نزل عليك آية من القرآن ازداد انسك بالرحمن، وكلما ازداد انسك ازداد ثبات قلبك على الدين { ورتلناه ترتيلا } عطف على انزلناه المقدر، والترتيل القراءة بتؤدة والمراد قرأناه عليك مفصولا متفرقا فى ثلاث وعشرين سنة.
[25.33]
{ ولا يأتونك بمثل } اى بحال شبيهة بحالك فى ادعاء الرسالة مثل قولهم: هذا ملك الروم وملك الفرس اذا أرسلوا رسولا كان له خدم وحشم وضياع وعقار وخيام وفساطيط، وحالهم فى الرسالة شبيهة بحالك فى ادعاء الرسالة من الله الذى هو خالق الارض والسماء، بل حالك فى هذا الادعاء اجل وارفع من حالهم واذ ليس لك مثل ما لهم فلم تكن رسولا او بحال شبيهة بحالك فى البشرية مانعة من الرسالة مثل قولهم: انك تأكل وتمشى فى الاسواق مثلنا وهذه الحالة تدل على الاحتياج، والاحتياج ينافى الرسالة من الغنى المطلق، او بحال شبيهة بحالك بل اشرف من حالك ولم ينزل الى صاحبها ملك ولم يصر رسولا فلست انت برسول مثل قولهم: لولا أنزل الينا الملائكة فانه فى معنى قولهم؛ نحن اشرف حالا منه من حيث تربية الآباء وتعليم المعلمين واكتساب الفضائل الانسانية فانا قد تدرسنا فى مدارس العلم وأتعبنا أنفسنا فى تحصيل العلوم والحكمة واكتسبنا الخط والكتابة، ومن حيث الجدة والحسب ولم نصر رسلا فكيف صار هو رسولا من بيننا مع انه لم ير أبا ولم يحصل علما وما كان ذا مال ولم يقرأ ولم يكتب، او بحال شبيهة بحالك فى الرسالة وعدم موافقة حالك لها مثل قولهم لولا انزل عليه القرآن جملة واحدة فانه فى معنى قولهم: حاله فى الرسالة شبيهة بحال الرسل الماضية فلو كان رسولا مثلهم لاتى بكتابة جملة واحدة مثل اتيانهم بكتبهم واذ لم يأت به دفعة مثلهم فليس برسول { إلا جئناك بالحق } بالجواب الحق الثابت الدافع لابطال امثلتهم المبطل لها المبقى لرسالتك من غير معارض ومبطل { وأحسن تفسيرا } اى بيانا من بيانهم لابطال رسالتك.
[25.34]
{ الذين يحشرون } بدل أو صفة من الذين كفروا واظهار لذم آخر وفضيحة اخرى او مبتدء خبره الجملة الآتية او خبر لمحذوف اى هم الذين يحشرون { على وجوههم } يعنى ماشين على وجوههم كما يمشى المستقيم القامة على قدميه او مقبلين على وجوههم { إلى جهنم }.
اعلم، ان الانسان كما خلق ببدنه مستقيم القامة رأسه فى اعلى بدنه ورجلاه على الارض يمشى الى حاجاته البدنية برجليه خلقه بروحه كذلك رأسه المعنوى فى اعلى وجوده ورجلاه المعنويتان فى اسفل وما بقى على فطرته الانسانية كان حاله الباطنية على هذا المنوال، واذا ارتد عن فطرته صار رأسه ووجهه الباطنيان منكوسين من اعلى وجوده الى اواسطه ويتدرج فى الانحطاط والتوجه الى ان وصل رأسه الى مقام رجله وانقلب رجله الى مقام رأسه، ولما كان صورته الاخروية وبدنه الملكوتى تابعة لنفسه بحيث لا يكون نفسه بحال الا ويصير بدنه بتلك الحال كان بدنه الاخروى منكوسا بحيث يكون مشيه على وجهه ورجلاه من اعلاه،
" روى ان رجلا قال: يا نبى الله (ص) كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟- قال: ان الذى أمشاه على رجليه قادر على ان يمشيه على وجهه يوم القيامة "
، وهذا معنى التناسخ الملكوتى وقد يتقوى ذلك بحيث يسرى اثره الى بدنه الملكى فيصير ممسوخا { أولئك شر مكانا وأضل سبيلا } قال كفار مكة لمحمد (ص) واصحابه: هم شر خلق الله فنزل الآية يعنى ان زعموا ان محمدا (ص) واصحابه شر خلق الله فهم حين يسحبون الى النار كانوا شرا منهم او فى هذه الدنيا كانوا شرا منهم واضل سبيلا منهم.
[25.35-36]
{ ولقد آتينا موسى الكتاب } لما ذكر حال محمد (ص) فى رسالته وحال الكفار فى الانكار ذكر الرسل الماضية وانكار المنكرين وتدميرهم ليكون تسلية وتقوية للرسول (ص) والمؤمنين وتهديدا للمنكرين { وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا فقلنا اذهبآ إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا } لما كان المقصود تسلية الرسول (ص) والمؤمنين وتهديد المنكرين والمعاندين من ذكر رسالة موسى (ع) وهارون اقتصر على ذكر ارسالهما وانكار قومهما وتدميرهم من تفصيل كيفية ارسالهما وتدميرهم وكان حق العبارة ان يقول ثم دمرناهم لكن اتى بالفاء لايهام ان التدمير كان عقيب الرسالة بلا مهلة ليكون ابلغ فى التقوية والتهديد والتقدير فذهبا وبلغا رسالتهما وداريا القوم مدة مديدة وبالغ القوم فى الانكار حتى انتهوا فى انكارهم الى ابطال فطرتهم فدمرناهم.
[25.37]
{ وقوم نوح } عطف على مفعول دمرناهم وقوله تعالى { لما كذبوا الرسل } استيناف كلام جواب لسؤال مقدر او مفعول لا ذكر محذوفا ومعطوف على قوله { ولقد آتينا موسى الكتاب } فانه فى معنى اذكر موسى (ع) وقومه وما بعده مستأنف او مفعول لمحذوف يفسره ما بعده وليس من باب شريطة التفسير لعدم جواز تسلط ما بعد لما على ما قبلها، ونسب تكذيب جميع الرسل (ع) اليهم اما لأنهم كانوا انكروا الرسالة او لانهم انكروا نوحا (ع) ومن سبق عليه او لان انكار واحد من الرسل مستلزم لانكار جميع الرسل (ع) { أغرقناهم } جميعا { وجعلناهم للناس آية } دالة على قدرتنا وسخطنا على من خالف رسلنا بحيث لا يخفى على احد { وأعتدنا للظالمين } يعنى لهم لكنه وضع الظاهر موضع المضمر للتصريح بانهم فى تكذيب الرسل (ع) ظالمون، او المقصود تهديد مطلق الظالمين { عذابا أليما } فى الآخرة كما ان التدمير والاغراق كانا فى الدنيا.
[25.38-40]
{ وعادا } عطف على مفعول دمرناهم او على مفعول جعلناهم او على للظالمين بطريق الحذف والايصال، او بالعطف على محله او مفعول لاذكر محذوفا او لاهلكنا محذوفا { وثمودا وأصحاب الرس }.
حكاية اصحاب الرس
الرس البئر المطوية بالحجارة واسم لبئر كانت لبقية من ثمود والحفر والاخفاء ودفن الشيء تحت الشيء، واصحاب الرس على ما روى عن مولانا امير المؤمنين (ع) كانوا يعبدون شجر الصنوبر، وكان لهم اثنتا عشرة قرية على نهر يقال له الرس وسموا قراهم بأسماء الشهور الفرسية وكان فى كل شهر عيد لهم فى قرية من قراهم، وأخذوا أسماء الشهور من اسماء تلك القرى أخذوا لكل شهر اسم القرية التى كان فى ذلك الشهر عيد تلك القرية، وكان فى كل قرية شجرة يعبدونها ويجتمعون عندها فى موسم العيد، وكان الشيطان يحرك تلك الشجرة بعد الاجتماع عندها وعبادتها ويتكلم معهم ويصيح من ساقها قد رضيت عنكم عبادى فطيبوا نفسا، واذا كان عيد قريتهم الكبيرة اجتمعوا عند الشجرة العظيمة التى فيها اكثر مما اجتمعوا فى سائر القرى وذبحوا القرابين اكثر مما ذبحوا فى سائر القرى وكان الشيطان يتكلم من جوف تلك الشجرة كلاما جهوريا ويمنيهم اكثر من السابق، فلما تمادوا فى ذلك ارسل الله تعالى اليهم نبيا من ولد يهود ابن يعقوب فمكث يدعوهم الى التوحيد زمانا طويلا فلما رأى تماديهم فى الطغيان دعا الله ان ايبس اشجارهم فيبست فلما رأوا أشجارهم قد يبست صاروا فرقتين؛ فرقة قالوا سحر هذا آلهتكم، وفرقة قالوا غضب آلهتكم حين رأت هذا الرجل يصرف وجوه الناس عنها ولم تغضبوا لها، واجمعوا على ان يدفنوه فى نهر الرس تحت الشجرة الكبيرة ودفنوه حيا تحت نهر الرس، فسماهم الله اصحاب الرس لكونهم اصحاب القرى الواقعة على نهر الرس او لدفنهم نبيهم حيا، فغضب الله فأرسل عليهم ريحا شديدة الحمرة وصارت الارض من تحتهم حجر كبريت تتوقد واظلتهم سحابة سوداء فألقت عليهم كالقبة جمرا يلتهب فذابت ابدانهم كما يذوب الرصاص فى النار، وقيل: الرس نهر بناحية آذربايجان، روى انه دخل على الصادق (ع) نسوة فسألته امرأة منهن عن السحق فقال: حدها حد الزانى فقال المراة: ما ذكر الله عز وجل ذلك فى القرآن؟- فقال: بلى، فقالت: واين هو؟- قال (ع): هن اصحاب الرس، وفى خبر: دخلت امرأة مع مولاة لها على ابى عبدالله (ع) فقالت ما تقول فى اللواتى مع اللواتى؟- قال (ع): هن فى النار الى ان قالت: ليس هذا فى كتاب الله؟- قال: نعم، قالت: اين هو؟- قال (ع): قوله: { وعادا وثمودا وأصحاب الرس } فهن الرسيات، وفى خبر: ان سحق النساء كانت فى اصحاب الرس، وقيل: ان الرس اسم بئر رسوا فيها نبيهم اى القوا فيها، وقيل: اصحاب الرس كانوا اصحاب مواش ولهم بئر يقعدون عليها وكانوا يعبدون الاصنام فبعث الله اليهم شعيبا فكذبوه فانهار البئر وانخسفت بهم الارض فهلكوا، وقيل: الرس قرية باليمامة قتلوا نبيهم فأهلكهم الله، وقيل: الرس بئر بانطاكية قتل اهلها حبيبا النجار فنسبوا اليها { وقرونا } جمع القرن والقرن له معان عديدة لكن المناسب ههنا ان يكون بمعنى الامة الهالكة التى لم يبق منهم احد، او اهل زمان واحد او الامة بعد الامة { بين ذلك } المذكور من قوم نوح وعاد وثمود واصحاب الرس وقوم موسى { كثيرا وكلا ضربنا له الأمثال } يعنى كلا من الامم الهالكة اجرينا له حكايات عديدة من الماضين مهددة من سخطنا ومرغبة فى رحمتنا كما ضربنا لامتك الامثال العديدة بهذا المنوال { وكلا تبرنا } التبر الكسر والاهلاك كالتتبير { تتبيرا ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء } وهى قرى قوم لوط امطرت بالحجارة { أفلم يكونوا يرونها } حتى يعتبروا بها ولا يحتاجوا فى التنبيه والتهديد الى غيرها { بل } رأوها ولكن { كانوا لا يرجون نشورا } لعدم اعتقادهم بالحشر او ليأسهم من رحمة الله فيكون المعنى لا يرجون نشورا للثواب.
[25.41]
{ وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا } الهزؤ بالضم والسكون والهزؤ بالضمتين مصدرا هزء به ومنه كمنع وسمع بمعنى سخر منه قائلين تهكما بك وتحقيرا لك { أهذا الذي بعث الله رسولا } وهذا الكلام منهم لغاية التحقير والاستهزاء لاتيانهم بالاستفهام التعجبى الدال على منافاة حاله لرسالة الله لحقارته، وباسم الاشارة القريبة الدال على تحقيره، وببعث الله اياه رسولا على سبيل التسليم من حيث انهم جعلوا البعث صلة للموصول دالة على تحققه وتسليمه مع انكارهم له وهذا مبتدء والذى خبره او صفته وخبره قوله { إن كاد ليضلنا }.
[25.42]
{ إن كاد ليضلنا } ان مخففة من الثقيلة او نافية على قول يعنى انه لكثرة ما يدعو ويصر على الدعاء الى آلهة، وكثرة ما يحاج بما يزعمه برهانا، وكثرة ما يظهره مما يزعمه معجزة يكاد يصرف وجوهنا { عن آلهتنا } الى آلهة { لولا أن صبرنا عليها } جواب لولا محذوف بقرينة السابق اى لكاد يضلنا فهو بمنزلة القيد لقوله ان كان ليضلنا { وسوف يعلمون حين يرون العذاب } حال الاحتضار او فى البرازخ او فى القيامة { من أضل } منك ومنهم { سبيلا } لما دل قولهم ان كاد ليضلنا عن آلهتنا على انه ضال ويريد اضلالهم قال تعالى: سوف يعلمون من اضل سبيلا.
[25.43]
{ أرأيت } خطاب لمحمد (ص) والرؤية من رؤية البصر او رؤية القلب او الخطاب عام { من اتخذ } من موصولة ومفعول لرأيت او استفهامية ومفعول معلق عنه العامل { إلهه هواه } قدم المفعول الثانى للاهتمام به والهوى مقصورا المحبة والعشق فى الخبر والشر والمهوى كذلك لكن اذا اضيف الى الانسان او الى نفسه يتبادر منه الهوى فى الشر بالنسبة الى الانسانية، والآله هو الذى يعبده الانسان يعنى يطيعه فى اوامره ونواهيه ويجعل غاية حركاته وسكناته التى يسميها عبادة رضاه، ولما كان الانسان ما لم يصر بالنسبة الى الله والشيطان كالمدارك بالنسبة الى النفس ذا وجهين وجه الى نفسه ووجه الى عقله ووجهه النفسانى يأمره بمهويات النفس التى فيها هلاكه وضلاله، ووجهه العقلانى يأمره بمرضيات العقل التى هى مرضيات الله ومأموراته، وبعبارة اخرى ما لم يخرج الانسان من حكم نفسه ولم يتمكن فى اتباع الرحمن او الشيطان كان عليه حاكمان حاكم الهى عقلانى وحاكم شيطانى نفسانى هذا يزجره وذاك يغويه، فاذا اتبع الشيطان فى اغوائه والنفس فى هواها واراداتها ومهوياتها تدرج فى المحكومية للشيطان والنفس بحيث تمكن فى ذلك ولم يبق فيه مدخل ومخرج للعقل والملك والرحمن، ولا يقبل حكم الله بتوسط الملك والعقل، ولا يحب مرضيات العقل ولا يطلبها بل يطبع الشيطان فى امره بطلب المهويات والمهويات فى جذبها الذى هو أمرها التكوينى والارادات فى تسخيرها له الذى هو امرها فيكون الشيطان معبودا له اولا كما قال تعالى حكاية لقول الملائكة
بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون
[سبأ:41] لكن من حيث لا يشعرون بل يحسبون ان الله يعبدون ثم المهويات ثانيا ثم الاهوية والارادات ثالثا ونعم ما قيل:
اى هواهاى توخدا انكيز
زين خداهاى توخدا بيزار
{ أفأنت تكون عليه وكيلا } حتى تحزن على اتباعهم الهوى وعدم استماعهم منك وتضيق صدرا به، والوكيل فعيل بمعنى المفعول من وكل اليه الامر سلمه اليه وتركه، وتعديته بعلى بتضمين مثل معنى الرقيب.
[25.44]
{ أم تحسب أن أكثرهم يسمعون } فى مقام التقليد { أو يعقلون } فى مقام التحقيق فان السماع اول مقام العلم الذى هو مقام التقليد، والتعقل آخر مقامه الذى هو مقام التحقيق واليهما اشار تعالى بقوله تعالى:
إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد
[ق:37] { إن هم إلا كالأنعام } فى عدم التدبر وعدم تذكر المقصود من التخاطب وفى كونهم محكومين بحكم شهوتهم وغضبهم من دون رادع يردعهم من أنفسهم { بل هم أضل سبيلا } لان الانعام مفطورة على اتباع الشهوات والغضبات وليست ضالة عن طريقها المفطورة عليها، وانما ضلالها يكون بالنسبة الى الانسان وطريقه والانسان مفطور على السلوك الى الله والخروج من جملة الحدود والتعينات واللحوق بعالم الاطلاق، فاذا انصرف عن هذا السير واللحوق ووقف على بعض مراتب البهائم او السباع او الشياطين كان ضالا عن طريقه الخاصة به واضل من كل ضال، لان ضلال كل ضال سوى الانسان والجان يكون بالنسبة الى طريق الانسانية التى لا يترقب منه السير عليها بخلاف ضلال الانسان فانه يكون بالنسبة الى طريقه التى يترقب منه السير عليها.
[25.45]
{ ألم تر } الخطاب لمحمد (ص) فانه اهل لتلك الرؤية وينبغى ان يعاتب على تركها ويؤكد ثبوتها له او عام فان غيره ينبغى ان يرى ويوبخ على تركها { إلى ربك } المضاف وهو ربه فى الولاية، ومد الظل منه عبارة عن صورته المثالية التى اذا تمكن القابل للولاية فى الاتصال بها يرى سعة احاطتها وتصرفها فيما سواها من غير توقف الى مضى زمان او قطع مكان والنقل من مقام او ربك المطلق، ومد الظل منه عبارة عن سعة مفعولاته وكثرة مقدوراته وانتهاء ذلك الظل الى الملكوت السفلى وعالم الجنة والشياطين، او المراد بالظل هو الذى خرج من انانيته وحيى بحيوة الله وبقى ببقاء الله وهم الانبياء والاولياء (ع) فانهم بالنسبة الى الله كالظل بالنسبة الى الشاخص من حيث انه لا انانية له من نفسه ولا استقلال ولا بقاء كما قيل:
سايه يزدان بود بنده خدا
مرده اين عالم وزنده خدا
كيد مد الظل نقش اولياست
كاودليل نورخورشيد خداست
دامن او كير زوتر بيكمان
تا رهى از آفت آخر زمان
اندرين وادى مروبى اين دليل
لا احب الآفلين كوجون خليل
{ كيف مد الظل } قيل على ظاهر التنزيل: الم تر الى فعل ربك، وقيل معناه: الم تعلم، وقيل: ان هذا على القلب والتقدير الم تر الى الظل كيف مده ربك، وقيل: المراد بالظل ما بين الطلوعين فانه ظل ممدود غير مقطوع، وقيل: المراد بالظل ما بين غروب الشمس الى طلوعها { ولو شآء لجعله ساكنا } غير ممدود وغير متحرك الى المد او جعله ساكنا من السكنى بمعنى الاقامة فانه لو شاء الله لم يظهر الشمس حتى يكون الظل دائما، او لم يتبدل اوضاعها حتى يكون الظل بحال واحدة، او لم يرجع الفانى الى البقاء او لم يذهب بالراجع الى البقاء الى حضرته فيكون نبى واحد وولى واحد فى جملة ادوار العالم او لم يذهب بالمكونات ولم يخرجها من القوى الى الفعليات او لم ينزل الوجود من عالم الارواح الى عالم الاكوان { ثم جعلنا الشمس عليه دليلا } يعنى لو شاء لجعل الشمس على الظل دليلا لكنه لم يشأ فجعل الظل دليلا على الشمس فانه بجملة معانيه وبطونه يدل على الشمس، او المعنى ثم لو شاء لجعل الشمس عليه دليلا لكنه شاء وجعل الشمس دليلا على الظل لمن رقى عن رؤية افعال الله الى مشاهدة ذاته فى مظاهر جماله، او المعنى الم تر كيف مد الظل ثم كيف جعل الشمس عليه دليلا لمن صار كذلك وعلى هذين المعنيين فالاتيان بثم للاشعار بان دلالة الشمس على الظل مع انها مدلولة للظل فى اول الامر لا تكون بعد مشاهدة فعل الله فى جملة الافعال الا بتراخ كما ان الالتفات من الغيبة الى التكلم للاشارة الى ان دلالة الشمس على مصنوعاته لا تكون الا بعد حصول مقام الحضور.
[25.46]
{ ثم قبضناه } بعد المد { إلينا قبضا يسيرا } لفظ الينا كالتصريح بان المقصود من الظل هو الانبياء والاولياء (ع)، وجملة الموجودات وقبض ظل الشمس بعد المد محسوس، وقبض الانبياء والاولياء (ع) وقبض جملة الخلق ايضا محسوس فان المكونات كلها من اول خلقتها التى هى مد الظل تكون فى الخروج من القوى الى الفعليات وفى طرح النقائص والاعدام وهذا الخروج والطرح هو قبض الرب اياها اليه، واليسير اشارة الى التدريج فى القبض.
[25.47]
{ وهو الذي جعل لكم الليل لباسا } عطف على الم تر كيف مد الظل باعتبار المعنى، فانه فى معنى هو الذى مد الظل والمراد باللباس الثوب فان ظلمة الليل الساترة للاشخاص عن الانظار شبيهة باللباس الساتر للابدان من الانظار، او الاختلاط فان الليل سبب لاختلاط القوى وآثارها، او الاجتماع مقابل النشر فى النهار فان الليل وقت لاجتماع الاشخاص فى البيوت واجتماع القوى والارواح فى الباطن { والنوم سباتا } اى سبب قطع من الدنيا ومشاغلها او سبب راحة او نوم { وجعل النهار نشورا } اى سبب نشور، ولما كان المقام للامتنان بتعداد النعم وتكرار النعم والبسط فيها كان مطلوبا كرر جعل ههنا ولما كان النوم من نعم الليل كأنه لم يكن نعمة على حيالها لم يكرر جعل هناك.
[25.48]
{ وهو الذي أرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته } فان الرياح الصورية وقت الشتاء والربيع تحرك السحاب وتصير سببا لامطار المطر، واطلاق الرحمة على المطر شائع فى العرب والعجم، ورياح الغموم والاخاويف والاسقام والقبضات والبلايا وسائر ما لا يلايم الانسان تبشر بضد ذلك فان مع العسر يسرين وقد سبق فى سورة الاعراف اختلاف القراءة فى بشرا وغير ذلك { وأنزلنا } لما كان الامتحانات الآلهية موجبة لترقى السالك عن مقام الغيبة الى مقام الحضور ويكون الامتحان فى الغياب قال ارسل الرياح بالغيبة وانزلنا بالالتفات من الغيبة الى الحضور { من السمآء } اى السحاب او وجهة العلو بعد ارسال الرياح { مآء طهورا } اى طاهرا فى نفسه مطهرا لغيره من الاخباث والاحداث فان الطهور للمبالغة فى الطاهر، والبالغ فى الطهارة هو الذى يكون لشدة طهارته مورثا لطهارة مجاوره، وتوصيف الجنس بهذا الوصف يدل على ان الماء ما لم يخرج من حد اطلاق هذا الاسم ولم يصر مضافا ومغلوبا لوصف غيره لم يسلب عنه هذا الوصف قليلا كان ام كثيرا واردا على المتنجس ام واردا عليه المتنجس او ملاقيا له غسالة ام غيرها، كما افتى به بعض الفقهاء رضوان الله عليهم، لكن الاحتياط طريق الرشاد خصوصا فى البلاد التى يكون الماء بها كثيرا حيث لا ينجر الى تعسر وتبذير واسراف.
[25.49]
{ لنحيي به بلدة ميتا } موت البلاد بسكون عروق اراضيها وحبوبها عن الهيجان والحركة والنمو وحيوتها بهيجان تلك ونبتها ونموها { ونسقيه } اى الماء الطهور { مما خلقنآ } بعضا مما خلقنا { أنعاما } مفعول نسقيه، ومما خلقنا حال مقدم او مما خلقنا مفعوله على كون من التبعيضية اسما او قائما مقام الاسم وانعاما بدل او حال منه { وأناسي } جمع الانسى بمعنى الانسان او جمع الانسان باسقاط النون والاتيان بالياء عوضا عنها او بابدالها ياء { كثيرا } قد يوحد الكثير للجميع وقد يطابق ونكر الانعام وخصها بالذكر من بين سائر الحيوان لان كثيرا من الانعام تسقى من الانهار، وكثيرا من الحيوان غنية من الماء، وبعضها يطلب الماء فى المسافات البعيدة، ونكر الاناسى لذلك، وقدم احياء الارض وسقى الانعام على سقى الانسان لان احياء الارض وسقى الانعام ليس الا للانسان وعمدة منافعه واسباب تعيشه منوطة بهما فكان الاهتمام بهما فى مقام تعداد النعم اكثر من سقى الماء الانسان.
[25.50]
{ ولقد صرفناه } اى امر ولاية على (ع) فانه المعهود على الاطلاق والمنظور من كل قول وخطاب، او صرفنا تعداد النعم فى القرآن وسائر الكتب وعلى السنة خلفائنا او صرفنا المطر فى البلدان والبرارى والبحار وفى الاوقات وفى الاوصاف بجعله وابلا وطلا ورضراضا وثلجا وبردا ومتتابعا وغير متتابع { بينهم ليذكروا } بذلك ويقروا بالمبدء والمعاد { فأبى أكثر الناس } الذين نسوا الآخرة ولم يكن لهم هم الا حيوتهم الدنيوية { إلا كفورا } بالولاية او بالنعم المعدودة من حيث انعامنا او بنعمة المطر وانعامنا به، عن ابى جعفر (ع) انه قال: فأبى اكثر الناس من امتك بولاية على (ع) الا كفورا.
[25.51]
لكن لم نشأ لعدم اقتضاء الحكمة ذلك فان توحيد الرسول (ص) تفخيم لشأنه وتوحيد لجهة توجه الخلق وفى هذا التوحيد اصلاحهم وتكميلهم.
[25.52-53]
{ فلا تطع الكافرين } بالله او بك او بالولاية فى اراداتهم واهويتهم { وجاهدهم به } بالقرآن او ترك طاعتهم او بعلى (ع) { جهادا كبيرا وهو الذي مرج } ارسل وخلى { البحرين } البحر العذب والبحر الاجاج { هذا عذب فرات } العذب من الطعام والشراب كل مستساغ، والفرات البالغ فى العذوبة { وهذا ملح أجاج } الملح ضد العذب، والاجاج البالغ فى الملوحة { وجعل بينهما برزخا } حاجزا من قدرته بحسب التنزيل ومن عالم سوى العالمين ومن شيء سوى البحرين بحسب التأويل { وحجرا } الحجر بالتثليث المنع ويستعمل فى المانع والحرام { محجورا } تأكيد للحجر مثل ظل ظليل، قيل: ذلك مثل دجلة تدخل البحر وتشقه ولا يغير احدهما طعم الآخر، وقيل: ذلك مثل الانهار العظيمة جعل الله بينها وبين البحار العظيمة برزخا من الارض مانعا من اختلاطها ، او المراد بالبحرين بحر الفاعلية التى هى عين ذات الفاعل وبحر القابلية التى هى عين ذات القابل، وبالبرزخ الصور المنطبعة التى هو بوجه من جهة القابل، وبوجه من جهة الفاعل، وهى برزخ مانع من اختلاط الفاعلية بالقابلية وتدنسها بها، وهلاك القابلية بالفاعلية، او البحران عالم الارواح المجردة الصرفة وعالم الاجسام المادية، والبرزخ عالم البرزخ وعالم المثال المانع من فناء الاجسام بالاروح واختلاط الارواح بالاجسام، او البحران عالم الاجسام المادية وعالم المثال وما فوقه والبرزخ عالم البرزخ المعبر عنه بهور قوليا، او البحران الملكوتان السفلى والعلوى والبرزخ عالم الاجسام المانع من ظهور احدهما على الآخر فانه لو ظهر احدهما على الآخر لفنى الملكوت السفلى وهلك، او البحران عالم الاجسام وعالم المثال والبرزخ عالم النفوس الحيوانية وكل هذه كما هى جارية فى العالم الكبير تجرى فى العالم الصغير.
[25.54]
{ وهو الذي خلق من المآء } اى ماء البحرين فان المناسب لذكره فى ذيل البحرين ان يكون اللام للعهد يعنى عوضا عن المضاف اليه، او من النطفة فان الانسان مخلوق من النطفة التى هى امشاج من الطينتين السجينية والعلينية اللتين هما من البحرين { بشرا } البشر الانسان ذكرا كان او انثى واحدا او غيره وقد يثنى ويجمع لكن اطلاق البشر على الانسان باعتبار جسمانيتة المحياة بروحانيته { فجعله } بعد ما خلقه { نسبا } اى منسوبا او منسوبا اليه او ذا نسب والنسب القرابة مطلقة او من جانب الأب { وصهرا } اى جعله قرابة بالنسب وقرابة بالمصاهرة فان الصهر مطلق القرابة او الانتساب بالمصاهرة وهو المراد كما ان المراد بالنسب الانتساب بالتوالد، وورد ان المراد بالبشر آدم (ع) وحواء (ع) خلقهما من الماء بان جعل جزء مادتهما الماء او خلقهما من امتزاج الماء العذب الفرات والماء الملح الاجاج، وخلق حواء من ضلعه الايسر فصار ذوى نسب وزوج حواء آدم فصاروا ذوى صهر، وفى اخبار عديدة مضمون ان المراد بالبشر محمد (ص) وعلى (ع) وان الله خلق ماء تحت العرش قبل ان يخلق آدم واسكنه فى لؤلؤ خضراء فى غامض علمه الى ان خلق آدم فلما خلق آدم نقل ذلك الماء من اللؤلؤ فأجراه فى صلب آدم الى ان جعله الله فى صلب عبد المطلب ثم شقه نصفين ومحمد (ص) وعلى (ع) من ذينك النصفين فصارا ذوى نسبين، وتزوج على (ع) فاطمة (ع) فصارا صهرين، وان الآية فى محمد (ص) وعلى (ع) وفاطمة (ع) والحسن (ع) والحسين (ع) وهم البشر وجعلهم الله ذوى نسب وصهر { وكان ربك قديرا } على خلق البشر من الماء وجعله نسبا وصهرا.
[25.55]
{ ويعبدون } اى المشركون او الكافرون او المحجوبون فى حجب الاجسام او الغافلون او المنكرون للولاية وهو المنظور { من دون الله ما لا ينفعهم } من الاشجار والاحجار والكواكب والاصنام والجن والشياطين والاهوية والمهويات ورؤساء الضلالة { ولا يضرهم وكان الكافر } عطف فى معنى الاضراب كأنه قال: بل كانوا لكنه وضع الظاهر موضع المضمر ليكون تصريحا بذمهم بالكفر وتعليلا للحكم، والمراد بالكافر احد الاصناف المذكورة فان كلا كان { على ربه ظهيرا } اى مظاهرا على ربه لان رب الكافر لا يظهر الا بالفطرة الانسانية التى هى الولاية التكوينية او اللطيفة العقلانية وتلك الفطرة مظهر للرب فى الولاية وللرب المطلق والكافر باى معنى كان ساتر لتلك اللطيفة والساتر لتلك اللطيفة نابذ لها خلف ظهره ومظاهر للشيطان على تضعيفه تلك الفطرة فى جملة افعاله سواء كانت بصورة العبادات ام لا، لان الساتر لتلك اللطيفة يكون توجهه فى فعله الى غيره وكل فعل منه خروج من القوة الى الفعلية والخروج من القوة الى الفعلية اذا لم يكن بالتوجه الى تلك اللطيفة صار صاحبه بتلك الفعلية بعيدا من تلك اللطيفة حتى تنقطع منه وصار مرتدا فطريا غير مرجو منه الخير وغير مقبول التوبة، واشير فى الاخبار الى ان المراد بالكافر مخالف الولاية وبربه على (ع)، وقيل: المراد بالكافر ابو جهل وبربه محمد (ص)، ولا ينافى ذلك التعميم كما عرفت وجهه.
[25.56]
تسلية له (ص) ورفع للحرج عنه كأنه ضاق صدره من كفرهم وكونهم مظاهرين عليه وتحرج على ان لا يقدر على تغييرهم عن كفرهم .
[25.57]
{ قل } يا محمد (ص) تسلية لقلبك ومتاركة معهم واتماما للحجة عليهم { مآ أسألكم عليه } اى على الارسال او على التبشير والانذار { من أجر } اى شيئا من الاجر حقيرا حتى تتهمونى بان ادعائى لذلك ليس من الله { إلا من شآء أن يتخذ إلى ربه } فى الولاية او ربه المطلق { سبيلا } اى سبيل كان.
اعلم، ان شأن الرسالة ليس الا الانذار من التوقف فى مسبع النفس والتخويف من مخاوف الوقوف على المشتهيات النفسية التى توجب دخول النار مع الكفار كما قال: انما انت منذر بطريق الحصر وان المقصود من قبول الرسالة والبيعة الاسلامية ليس الا الاهتداء الى الايمان الذى هو طريق الى الله، وقد علمت انه لا يحصل الا بقبول الولاية والبيعة الايمانية فالاسلام فى الحقيقة مقدمة للايمان ودلالة على الطريق الى الله فلم يكن مقصود الرسول (ص) من تبليغه الا ايمان المؤمن لا اسلام المسلم الا من باب المقدمة ولانه يصير المؤمن بشأن ايمانه من اظلال الرسول (ص) من حيث ولايته واجزائه صح ان يقول الرسول لا اطلب منكم على متاعب رسالتى الا ذات من شاء ان يتخذ الى ربه سبيلا، اى من شاء ان يصير مؤمنا وقابلا للولاية واترك الكفار الذين هم اموات ولا تنظر اليهم والى ما فعلوا من عبادة غير الله ومن ايذائك فانهم لا حراك لهم الا بالله وكل امورك الى الله.
[25.58]
{ وتوكل } واعتمد { على الحي الذي لا يموت } اى على الحى بالذات فان من يموت يكون حيوته عرضية يعنى لا تر الافعال من غير الله بل كن فانيا من نسبة الافعال الى غيره وانظر الى علمه تعالى وقدرته وارادته بالذات فان الحيوة يستلزمها واذا كانت ذاتية كانت تلك ايضا ذاتية واعلم، انها فى غير الله بتوسطه حتى تعتمد عليه وتكل امورك اليه ولا تنظر الى فعل وارادة وقدرة من غيره فان مقام التوكل لا يحصل للسالك الا بالفناء من فعله والنظر الى سريان قدرته وارادته وفعله فى الجميع { وسبح بحمده } اى نزهه عن جميع ما لا يليق به بسبب حمده الذى هو سعة وجوده فان تسبيحه لا يكون الا تحميده كما مضى فى اول الفاتحة ان تسبيحه عبارة عن سلب النقائص والحدود عنه، وسلب الحدود ليس الا سلب السلب الراجع الى سعة الوجود، والمراد بالتسبيح منه (ص) ليس الا التسبيح الفعلى الذى هو خروجه عن جميع الحدود وفناؤه عن افعاله وصفاته وذاته يعنى لا تنظر الى حدودك وحدود غيرك وذنوبهم فان الله يقلبهم فى الحدود والذنوب ويجازيهم على ما يستحقونه { وكفى به بذنوب عباده خبيرا } لا حاجة له الى نظرك اليهم.
[25.59]
{ الذي خلق السماوات والأرض } بدل او صفة للذى لا يموت او خبر مبتدء محذوف، او مفعول فعل محذوف، او مبتدء خبره الرحمن او قوله فاسئل { وما بينهما } من الملائكة والمواليد { في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن } قد مضى الآية بتمام اجزائها فى سورة الاعراف وذكرنا هناك كيفية خلق السماوات والارض فى ستة ايام وسر تعقيب خلقهما باستوائه على العرش باداة التراخى، ولما كان استواؤه تعالى على العرش الذى هو جملة المخلوقات بمعنى استواء نسبته الى الجليل والحقير بصفته الرحمانية جعل المسند اليه عنوان وصف الرحمن { فسئل به خبيرا } سألته كذا وعن كذا وبكذا بمعنى فيجوز ان يكون الباء صلة اسئل وخبيرا مفعوله الاول، او خبيرا حالا ومفعوله الاول محذوفا اى اسئله عن حاله حال كونه خبيرا، او اسئله ذاته حال كونه خبيرا، ويجوز ان يكون الباء سببية وخبيرا مفعوله الاول ويكون الكلام على التجريد مثل رأيت بزيد اسدا.
[25.60]
{ وإذا قيل لهم } عطف على يعبدون وذم آخر لهم { اسجدوا للرحمن } لما كان المخاطبون لا يدركون من عناوين الله الا عنوان رحمته الرحمانية علق الحكم على الرحمن دون سائر الاسماء { قالوا } استهزاء او اظهارا للجهل به وسؤالا عنه او انكارا لسجدته { وما الرحمن } والاتيان بما دون من ايضا لذلك { أنسجد لما تأمرنا } بالسجدة له؛ الاستفهام للانكار كأنهم انكروا الايتمار بأمره لا السجدة للرحمن ولذلك لم يقولوا: انسجد للرحمن { وزادهم } امرك او ذكر الرحمن او ذكر سجدة الرحمن { نفورا } منك او من أمرك او من الرحمن او من سجدته.
[25.61]
{ تبارك الذي جعل في السمآء بروجا } جملة انشائية منقطعة عن سابقها والسماء اعم من هذه السماء المشهودة وعوالم الارواح وسماواتها، والبرج بمعنى الركن والحصن والبروج الاثنا عشر المشهورة الموهومة فى الفلك الاطلس المعينة بالاشكال الموهومة من كواكب الفلك الثامن، ويجوز ان يراد بالبروج الكواكب السيارة او الكواكب الكبار المضيئة سيارة كانت ام ثابتة او مطلق الكواكب فان كلا منها حصن او مثل حصن او هى اركان السماء، او ان يراد اللطائف النبوية والولوية المحصور كلياتها فى اثنتى عشرة المنتهى جزئياتها الى حد المحدودة بحسب الامهات الى مائة واربعة وعشرين الفا، او مائة وعشرين الفا، او مائة الف، وان يراد الانبياء والاولياء (ع) فانهم بتعلقهم بابدانهم الارضية اركان الارض وبتجردهم الذاتى عن ارض الطبع اركان السماء، وان يراد الجهات الفاعلية المحيية والمميتة والمفيضة للارزاق والمفيضة للعلوم المعبر عنها باسرافيل وعزرائيل وميكائيل وجبرائيل، ولما كان جميع الخيرات المنتشرة فى العوالم منوطة بالبروج باى معنى كانت مدح نفسه فى هذا الجعل بكثرة البركات { وجعل فيها سراجا } وقرئ سرجا وعلى قراءة الافراد كان المراد به الشمس وعلى قراءة الجمع كان المراد جملة الكواكب المضيئة بانفسها { وقمرا منيرا } والمناسب لقراءة الافراد ان يكون البروج هى الكواكب المضيئة بذواتها، والمراد بحسب التأويل من السراج لطيفة الولاية فانها المضيئة بذاتها ومن القمر لطيفة النبوة والرسالة فانها كاسبة للنور من الولاية.
[25.62]
{ وهو الذي جعل الليل } لم يقل وتبارك الذى جعل الليل ولا الذى جعل الليل حتى يكون تبارك مقدرا لما ذكرنا من ان جملة خيرات العوالم منوطة بالبروج بخلاف تعاقب الليل والنهار فانهما وان كانا موجبين لخيرات العالم لكنهما آلتان لبروز خيرات البروج فى العالم فكأنه قال: وهو الذى جعل الليل { والنهار خلفة } لبروز بركات البروج يعنى جعل كلا منهما بدلا من الآخر حتى ان من فاته امر فى احدهما قضاه فى الآخر، او جعل كلا منهما عقيب الآخر او مخالفا للآخر فى كيفية الضوء والظلمة والبرد والحر { لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا } يعتى انهما نعمتان عظيمتان للانسان لان جميع مصالح معاشه بل جميع مصالح معاده ومعاشه منوطة بتعاقبهما اذا عمم الليل والنهار لجميع معانيهما التنزيلية والتأويلية، لكنهما نعمتان عظيمتان لمن اراد الآخرة مبتديا كان ومقلدا وهو الذى اراد ان يذكر او محققا ومنتهيا وهو الذى اراد الشكور فان الشكور عبارة عن رؤية الانعام فى النعمة والمنعم فى الانعام ويلزمها صرف النعمة لما خلقت له وليس الا فى مقام التحقيق والخروج عن التقليد وهذا بمنزلة قوله تعالى: { لمن كان له قلب } اشارة الى مقام التحقيق
أو ألقى السمع وهو شهيد
[ق:37] اشارة الى مقام التقليد.
[25.63]
{ وعباد الرحمن } جملة مع ما بعدها معطوفة على قوله وهو الذى مرج البحرين او هو الذى خلق من الماء بشرا او على قوله { يعبدون } او قوله { وكان الكافر على ربه ظهيرا } او على قوله { الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما... الرحمن } او على { تبارك الذي جعل في السمآء بروجا } او على { وهو الذي جعل اليل والنهار خلفة } { الذين يمشون على الأرض هونا } صفة لعباد الرحمن وخبره قوله { أولئك يجزون الغرفة } او خبر له اراد تعالى ان يبين علائم مقام العبدية حتى لا يغتر السالكون الى الله بما يلوح من التجليات الغيبية ولا يظنوا انهم وصلوا، ومن الانانية واسر النفس خرجوا، ومقام العبدية والحضور حصلوا؛ فان مقام العبدية لا يحصل للساكت الا اذا خرج من انانيته ولم ير فعلا وصفة الا من الله تعالى، وادنى مراتب هذا المقام بحسب الظهور فى المظاهر ان ينزل السكينة الالهية على السالك ويشاهدها لا بنحو شهود المباين ولا بنحو شهود المحل للحال المنبئ عن الحلول ولا بنحو شهود المتحد للمتحد المنبئ عن الاتحاد، فان شيئا منها ليس من مقام العبدية بل مقام العبدية ان يصير السكينة مالكة ومحيطة بحيث لا يبقى للعبد فعل وصفة وذات وارادة وشعور، لكن مقام الحلول والاتحاد انموذج عن مقام العبدية ومخبر عنه وفى هذا المقام يكون العبد مثل من وقع على رأسه طير عزيز بل اعز من ذاته لا يريد ان يطير عنه بل يرى فناء ذاته فى طيرانه فانه يبالغ ويجتهد فى ان لا يطير عن رأسه فيجتهد فى خفض صوته وسكون أعضائه فلا يحرك يده ولا رجله ولا سائر اعضائه اذا اضطر الى تحريكها الا بتأن ورفق، وان اراد غيره ان يرفع صوته او يتحرك اعضاؤه يلتمس عنده ويسأله ان لا يرفع ولا يحرك اعضاءه عنده فلا يمشى صاحبوا السكينة الا كما يمشى صاحب الطير { وإذا خاطبهم الجاهلون } يعنى بجهلهم لا يعارضونهم بمثل جهلهم فان الجاهل لا يخاطب من حيث الجهل الا بما ليس فيه رضى الله و { قالوا } لينا بهم { سلاما } لئلا يظهر منهم ما ينافى حضورهم وما يكرهه الحاضر عليهم.
[25.64]
يعنى ان لذة خضوعهم وتذللهم ومناجاتهم تغلب على لذة النوم والراحة فلا ينامون الا قدر ما لا بد منه ويتذللون لربهم بالسجود والقيام ويناجونه.
[25.65]
{ والذين } يرون الدنيا ومشاغلها مانعة من حضورهم وعذابا لانفسهم ويرون ان الدنيا الشاغلة ليست الا من جانب جهنم فيستعيذون بربهم و { يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما } الغرام الولوع والشر الدائم والهلاك والعذاب.
[25.66-67]
{ إنها سآءت مستقرا ومقاما والذين إذآ أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا } يعنى ان عباد الرحمن علامتهم التوجه الى الكثرات والعدالة بينها بان ينظروا الى ما لهم من الاموال الدنيوية العرضية والقوى والحشمة والاعضاء والمدارك وينفقوا ما حقه ان ينفق منها ويمسكوا ما حقه ان يمسك، ويعطوا من حقه ان يعطى، ويمنعوا من حقه ان يمنع، فان التقييد بعدم الاسراف والاقتار يفيد هذا المعنى لان الاعطاء لغير المستحق اسراف وان كان من فضول المال ومنع المستحق اقتار وان كان من اصل المال، ومن هذه العلامة يستفاد وجه اضافة العباد الى الرحمن دون سائر الاسماء فانه تعالى برحمته الرحمانية يعطى كلا بقدر استعداده { وكان بين ذلك قواما } عدلا او معتدلا او وسطا.
[25.68]
{ والذين لا يدعون مع الله إلها آخر } لا قالا ولا حالا فان من نزل عليه السكينة بحيث تصير مالكة له لم يبق له جهة دعاء غير الله { ولا يقتلون النفس التي حرم الله } فى العالم الصغير ولا فى العالم الكبير بخلاف من لم يصر عبدا للرحمن سواء صار عبدا للشيطان او لغير الرحمن من اسمائه تعالى فانه يقتل النفس المحترمة من القوى الانسانية او القوى الحيوانية فى طريق الانسانية بغير الحق سواء قتل نفسا فى الخارج او لم يقتل { إلا بالحق } اى بأمر الحق او بسبب امر حق من قصاص وحد او بالحق المطلق بان يكون يده يد الحق.
اعلم، انه ما لم يصر يد القاتل يد الحق او مسخرة لامر الحق وما لم يصر لسان الآمر بالقتل لسان الحق او مسخرا لامره لا يجوز القتل ولا الامر بالقتل سواء كان ذلك فى قصاص وحد ام غير ذلك، ولذلك لا يجوز القتل واجراء الحدود الا من حاكم الهى او من يأمره ذلك الحاكم بحيث يكون المأمور مسخرا لامر الحاكم ومتحركا بأمره، واما من لم يكن كذلك فلا يجوز له القتل ولا الامر بالقتل كما قيل:
آنكه جان بدهد اكر بكشد رواست
نائب است ودست اودست خداست
وعلى هذا كان المعنى لا يقتلون النفس التى حرم الله قتلها الا بالله اى بيد الله { ولا يزنون } لا يتبعون الشهوات.
اعلم، ان ذنوب الانسان منحصرة فى مقتضيات الشيطنة والقوة الغضبية والشهوية وقد اشار تعالى الى امهات مقتضيات الثلاث فان دعاء غير الله من مقتضيات الشيطنة بل نقول مقتضيات الشيطنة منحصرة فى دعاء غير الله لان كل اعجاب بالنفس وكل مراياة ومجادلة وغيرها من مقتضيات الشيطنة لغير الله، وقتل النفس من مقتضيات الغضب، والزنا من مقتضيات الشهوة، وعلى تعميم قتل النفس وتعميم الزنا جملة مقتضياتهما منحصرة فيهما { ومن يفعل ذلك } المذكور من مقتضيات الثلاث { يلق أثاما } عقوبة، او الاثام كما فى الخبر واد فى جهنم او هو من اثمة الله فى كذا كمنع ونصر عده عليه اثما.
[25.69]
{ يضاعف له العذاب } بدل من قوله يلق اثاما او مستأنف جواب لسؤال مقدر { يوم القيامة } ومعنى مضاعفة العذاب انه يضاعف عذابه فى القيامة بالنسبة الى عذابه وحده فى الدنيا او يضاعف فى القيامة بالنسبة الى عذابه فى البرزخ فانه فى البرزخ يعذب بعذاب من نفسه بظهور صورة العصيان عليه واذا وصل الى القيامة يعذب بعذاب من نفسه وبعذاب هو جزاء عمله؛ وبعبارة اخرى يعذب فى البرزخ بتجسم عمله وفى القيامة به وبجزائه وليس المراد انه يضاعف له العذاب بالنسبة الى استحقاقه حتى ينافى عدله { ويخلد فيه } اى فى العذاب او فى الاثام { مهانا } التقييد به للاشعار بان بعضا يعذب لا على وجه الاهانة او هو تأكيد وبيان.
[25.70]
{ إلا من تاب } بالتوبة العامة النبوية على يد نبى (ص) او خليفة نبى (ص) { وآمن } اى قبل احكام الاسلام بالبيعة العامة { وعمل عملا صالحا } بالتوبة الخاصة الولوية وقبول الدعوة الباطنة والبيعة الخاصة الولوية فانه لا صلاح لعمل الا بالولاية الحاصلة بالبيعة الولوية وقبول الدعوة الباطنة، او التوبة كناية عن الاسلام المشتمل على التوبة والبيعة العامة، وآمن كناية عن البيعة الخاصة التى بها يحصل الايمان الخاص، والعمل الصالح عبارة عن العمل بما اخذ عليه فى ميثاقه الذى هو المراد بالوفاء بعهدالله، والحاصل انه لا بد من اخذ الايمان الخاص والبيعة الولوية فى المستثنى حتى يصح ترتب تبديل السيئات حسنات عليه، لان ذلك ليس الا لمن تولى عليا (ع) كما مضى مكررا تصريحا وتلويحا { فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات } قد مضى منا مكررا ان كل فعل من الانسان يوجب فعلية لنفسه وكل فعلية اذا لم تكن مسخرة للعقل كانت مسخرة للشيطان والنفس، وكل فعلية مسخرة للشيطان كانت سيئة النفس، واذا تاب الانسان ودخل تحت حكم العقل بواسطة ولى الامر يصير جيمع فعلياته مسخرة تحت العقل وكل فعلية مسخرة تحت العقل تكون حسنة النفس وهذا هو معنى تبديل السيئات حسنات، كما ان محو السيئات وتكفيرها وغفرانها عبارة عن ازالة حدودها بلا تعمل او بتعمل وستر حدودها فالتائب على يد على (ع) ان كان لنفسه فعلية مسخرة للشيطان تبدل تلك الفعلية بمعنى ان تجعل تلك الفعلية مسخرة للرحمن، وان كان لنفسه نقائص وحدود تزال تلك الحدود ان كانت يجوز زوالها بتفاوت الزوال بالتعمل وعدمه والا تغفر وتستر { وكان الله غفورا } يعنى يغفر له ما لم يبدل ولم يزل من الحدود اللازمة لوجوده { رحيما } يتفضل عليه برحمته بعد التبديل والغفران.
[25.71]
{ ومن تاب } على يد محمد (ص) او يد على (ع) بالتوبة العامة او بالتوبة الخاصة { وعمل صالحا } بالوفاء بعهده الذى اخذ عليه فى توبته وبيعته { فإنه يتوب إلى الله متابا } كما قال
إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم
[الفتح:10] بطريق الحصر وسر ذلك ان الخلفاء حين التوبة والبيعة ينسلخون عن غواشى الطبع وانانياتهم ويصيرون آلات لله من غير مداخلة انانياتهم فى تلك البيعة فالقابل للتوبة والاخذ للميثاق حين البيعة هو الله تعالى بتوسط مظاهره الذين هم كالآلات لله.
[25.72]
{ والذين لا يشهدون الزور } الزور الكذب والشرك بالله تعالى واعياد اليهود والنصارى ومجلس الغناء وما يعبد من دون الله والكل مناسب ههنا، والتحقيق ان الزور كل عمل او عامل منحرفا عن الطريق وعن ولاية على (ع)، ومن صار عبدا للرحمن لا يحب بل يبغض الزور فلا يشهده { وإذا مروا باللغو مروا } بمقتضى عبوديتهم { كراما } لا يرغبون فيه ولا يهتكون حرمة صاحبه.
[25.73]
{ والذين إذا ذكروا بآيات ربهم } التدوينية والتكوينية الموجودة فى الآفاق او الانفس وخصوصا الآيات العظمى سواء ذكرهم بشر مثلهم او نبى او امام او ملك او الله تعالى فى اليقظة او النوم { لم يخروا عليها } لم يسقطوا عليها { صما وعميانا } كاكثر الناس الذين لا يتذكرون من الآيات الا جهاتها الدنيوية الموافقة لاهويتهم وآمالهم وكانوا صما وعميانا من جهاتها الاخروية.
[25.74]
{ والذين يقولون } بمقتضى حفظهم لحقوق الكثرات ومن جملتها ارحامهم وذووا انسابهم مستدعين من الله بمقتضى جهتهم الالهية { ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين } يعنى اجعل لنا قرة اعين ناشئة من ازواجنا او اجعل بعض ازواجنا وذرياتنا قرة اعين لنا او اجعل لنا اولادا متولدة من ازواجنا ومتولدة من ذرياتنا تكون قرة اعين لنا، وقرة العين بمعنى برده كناية عن السرور او عن قرارها عن الاضطراب { واجعلنا للمتقين إماما } ولما كان كل مرتبة اماما لسابقتها وكان من صار عبدا للرحمن مرتبته بعد مرتبة التقوى فانه ما لم يتم التقوى بالفناء التام لا يصير السالك عبدا للرحمن كما فى قوله
يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا
[مريم:85] استدعوا على وفق مقامهم ان يكونوا اماما للمتقين اما بالتمكين فى هذا المقام او بالبقاء وعدم زواله، وفى اخبار عديدة ان الآية فى امير المؤمنين (ع) او فى الائمة (ع) وفى رواية عن الصادق (ع): قد سألوا الله عظيما ان يجعلهم للمتقين ائمة فقيل له كيف هذا يا بن رسول الله (ص)؟- قال: انما انزل الله واجعل لنا من المتقين اماما، وهذا مما أسلفنا فى اول الكتاب من سعة وجوه القرآن بقدر سعة مراتب الخلق، وان القرآن لا مانع من ان يكون نزوله بقراءات مختلفة بحسب اختلاف الناس.
[25.75]
{ أولئك يجزون الغرفة } يعنى الغرفة المعهودة او البناء العالى والجنة العالية { بما صبروا } اى بصبرهم او بالبلايا او الطاعات التى صبروا عليها { ويلقون } من امثالهم من المؤمنين او من الملائكة او من الله { فيها تحية وسلاما } من ذكر الخاص بعد العام.
[25.76-77]
{ خالدين فيها } اى فى الغرفة فان تمام النعمة بعدم زوالها { حسنت مستقرا ومقاما قل } يا محمد (ص) لهؤلآء الكفار بعد اتمام اوصاف عباد الرحمن وجزائهم ترغيبا لهم فى مثلها { ما يعبأ } ما يعتد { بكم ربي لولا دعآؤكم } لله بألسنتكم القالبية والحالية فان الكل ما لم يبطلوا الفطرة يدعون الله حالا وقالا او ما يفعل بعذابكم لولا دعاؤكم مع الله آلهة اخرى، او ما يعتد بكم لولا دعاؤه لكم الى الدين فان سنته جرت بان يدعو الكل الى الدين، او ما يفعل بكم لولا دعاءه لكم الى الدين، او ما يعتد لولا عبادتكم له { فقد كذبتم } الفاء سببية اى كذبتم الرسول (ص) او الله { فسوف يكون } تكذيبكم { لزاما } لكم اى جزاء تكذيبكم يكون لازما لكم فى الدنيا كما فى بدر، او فى الآخرة فانه يكون عذابها لازما غير زائل.
[26 - سورة الشعراء]
[26.1]
قرئ باظهار نون السين وهو الاصل وقرئ باخفائها بخلاف الاصل لان سكونها عرضية لا اصلية.
[26.2]
قد مضى فى اول البقرة وفى غيرها بيان واف لفواتح السور.
[26.3-4]
{ لعلك } يا محمد (ص) { باخع نفسك } بخع نفسه قتله غما { ألا يكونوا مؤمنين } بالله او برسالتك او بولاية على (ع) ولا ينبغى ان تغتم لذلك فانه ليس خارجا عن ارادتنا ومشيتنا لانا { إن نشأ } ايمانهم { ننزل عليهم من السمآء آية } من آياتنا الغيبية حتى تسخرهم تلك الآية وتجبرهم على الايمان المذكور { فظلت أعناقهم لها خاضعين } اى صاروا خاضعين لله او لك لاجل الآية او خاضعين للآية نفسها، وجمع الخاضعين جمع العقلاء اما لكون الاعناق كناية عن انفسهم او لاعطاء حكم المضاف اليه للمضاف لصحة سقوطه، وهذا تسلية له (ص) بان ابائهم عن الاسلام بمشية واردة من الله فما لك تتحسر على ما كان بارادته.
[26.5-6]
{ وما يأتيهم } جملة حالية مبدوة بمضارع منفى بما بتقدير مبتدء على القول بعدم جواز الواو فيها، او من غير تقدير على القول بجواز الاتيان بالواو فيها { من ذكر من الرحمن محدث } مقتض بواسطة كونه جديدا للاقبال عليه { إلا كانوا عنه معرضين فقد كذبوا } الفاء لسببية ما بعدها لما قبلها، او سببية ما قبلها لما بعدها، او لمحض التعقيب يعنى ان تكذيبهم للآيات صار سببا للاعراض عنها، او اعراضهم عن الذكر وعدم تدبرهم فيه صار سببا لتكذيبها، او المعنى كانوا عنه معرضين وبعد الاعراض السابق كذبوك او بالله او بالقرآن فى رسالتك او خلافة وصيك { فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون } ما موصولة والضمير عائده والمراد منه القول او الفعل الذى كانوا بسببه يستهزؤن او الشيء الذى كانوا منه يستهزؤن، او ما مصدرية والضمير لما استهزؤا منه من الرسول (ص) او القرآن او الله او على (ع) وولايته وفى اخبار عديدة ان المراد بالآية فى هذه الآية الصيحة التى يسمعها الفتاة فى خدرها للاعلام بخروج القائم (ع) او ركود الشمس وخروج صدر ووجه فى عين الشمس آية لخروج القائم (ع) وفى بعض الاخبار ان هذه الآية نزلت فى القائم (ع).
[26.7]
{ أولم يروا } اى هؤلآء المنكرون للرسالة او الولاية { إلى الأرض } ارض العالم الكبير او العالم الصغير { كم أنبتنا فيها من كل زوج } من المعدن والنبات والحيوان والانسان { كريم } صفة بيانية فان كلا منها من جهة يكون كريما على من احتاج اليه، او تقييد للزوج وكون الانسان والحيوان وبعض النبات زوجا واضح، او المراد بالزوج ما اقترن بغيره.
[26.8]
{ إن في ذلك لآية } دالة على عدم اهمالنا الانسان الذى هو ارض وسماء بدون اخراج الفعليات التى تكون فيه بالقوة لانا هيأنا الاسباب الطبيعية لاخراج المواليد التى تكون فى الارض بالقوة وتلك الاسباب كالكواكب العلوية والافلاك المتحركة وحركاتها الدورية وانضباط حركاتها التى بها ينوط توليد كل ما بالقوة فى الارض وتسهيل الارض لذلك وحر الصيف وبرد الشتاء واختلاف الليالى والايام وتهييج السحاب وامطار المطر فى وقت وبقدر ينتفع به فلا نهمل الانسان بدون تهية اسباب انبات ما فيه بالقوة، ومن جملة اسبابه ارسال الرسل وانزال الكتب ونصب الاوصياء والخلفاء لهم { و } لكن { ما كان أكثرهم مؤمنين } اى مذعنين بان الانبات منا او ما كان اكثرهم يؤمنون بالله او برسالتك او بولاية على (ع) او ما كانوا مؤمنين فى علم الله فى الذر.
[26.9]
{ وإن ربك لهو العزيز } الغالب فلا تكترث بايمانهم وعدمه { الرحيم } برحمته يمهلهم لعلهم يتوبون.
[26.10]
{ وإذ نادى } معطوف على محذوف متعلق بالعزيز او الرحيم اى هو العزيز الرحيم اليوم واذ نادى { ربك موسى } او متعلق يقال رب انى اخاف او متعلق بمحذوف معطوف على محذوف او معطوف على سابقه باعتبار المعنى فان السابق فى معنى اذكر ذلك فكأنه قال فاذكر ذلك ذكر نبأ اذ نادى ربك موسى (ع) { أن ائت القوم الظالمين } وصفهم بالظلم ليكون كالعلة للامر.
[26.11]
{ قوم فرعون } بدل منه لتعيينهم { ألا يتقون } جملة حالية بتقدير القول يعنى حال كونهم يقال لهم الا يتقون او مستأنفة من الله لانشاء ذمهم، وقرئ بالخطاب فيكون بتقدير القول والمعنى ائت القوم الظالمين حال كونك قائلا لهم الا تتقون.
[26.12-13]
{ قال } موسى (ع) { رب إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري } عن معاشرتهم وتحمل متاعب المعاشرة مع من لا يكون سنخا لى { ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون } للرسالة، ظاهر هذا الكلام ان يكون هذا منه استعفاء من الرسالة كأنه قال: الرسالة منك تستلزم سعة الصدر لان الرسول منك لا بد له من المعاشرة مع الادانى والاعالى ومشاهدة ما لا يرضاه العقل منهم ولا بد له من التكلم والمجادلة مع فصحائهم ومناطيقهم ولو كان بلسانه لكنة لا يغلب بل يغلب وهو مناف لرسالتك، ولا بد ان يكون الرسول منك رغب فيه وفى معاشرته كل احد وانا قتلت منهم رجلا فيطالبونى بدمه ولا يرغبون فى، وهارون سالم من ذلك كله فان له سعة صدر ولسانا طليقا وليس بينه وبينهم دم فأرسل اليه لرسالتك، او المعنى ارسل الى هارون ليكون معاونا لى حتى يكون موافقا لسائر الآيات وعلى المعنى الاول كان موسى (ع) استعفى اولا من الرسالة وابى الله الا رسالته وبعد ما ابى الله الا رسالته استدعى معاونة هارون.
[26.14]
بعد ما استعفى وعين هارون للرسالة ذكر وجها آخر لاستعفائه.
[26.15-16]
{ قال كلا } ردع له عن استعفائه وكأنه كان بعد قوله كلا سؤال موسى (ع) معاونة هارون واجابته تعالى لسؤاله كأنه قال
واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا
[طه:29-34] فقال تعالى: اجبت مسؤلك { فاذهبا بآياتنآ } التسع او بأحكامنا وشرائعنا ولا تخافا { إنا معكم مستمعون فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين } لم يثن الرسول لاستواء المذكر والمؤنث والواحد والاكثر فى فعول بمعنى الفاعل وفعيل بمعنى المفعول، او للاشارة الى انه رسالة واحدة والرسول واحد منهما والآخر معين له.
[26.17]
{ أن أرسل } ان تفسيرية او مصدرية بتقدير الباء { معنا بني إسرائيل } يعنى اطلق من الحبس من كان محبوسا بامرك ومن الاستعباد من تستعبدونه.
[26.18]
{ قال } مستأنف جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: فما فعلوا بعد ذلك؟- فقال: ذهب موسى (ع) الى مصر واجتمع مع هارون وجاءا معا الى فرعون فقالا له: { إنا رسول رب العالمين } ارسلنا اليك ان تخلى عن بنى اسرائيل وترسلهم معنا الى الشام قال فرعون فى جوابهما خطابا لموسى (ع) الذى كان فى حضنه مدة مديدة { ألم نربك فينا وليدا } حملا له على الاقرار حتى يخجل عن تلك الدعوى ويرتدع عن ذلك الادعاء { ولبثت فينا من عمرك سنين } ولم تكن تختلف الى عالم او حكيم وما كنت ترتاض بالمجاهدات والعبادات والرياضات فكيف صرت رسولا من الله الذى لا يراه احد؟! ولا يعلم به عالم؟! وكنت ما دمت فينا سفاكا وقتلت نفسا محرمة.
[26.19]
فأن قوله: { وفعلت فعلتك التي فعلت } كناية عن ذلك { وأنت من الكافرين } بنعمتى يعنى كنت فى ذلك القتل بسبب القتل وانت فى هذا اليوم بسبب عدم حفظ حرمتى وحق خدمتى من الكافرين بنعمتى فكيف تكون رسولا ممن ادعيت الرسالة وادعيت انه خالق السماوات والارضين ولما رأى ان قتل النفس مما لا يمكنه انكاره اقربه.
[26.20]
{ قال فعلتهآ إذا } ولكن لم اكن بكافر كما نسبت الى لانى كنت موحدا لله وعارفا لنعمه وشاكرا له وقتلته باستحقاقه { وأنا من الضالين } اى ضللت طريقى التى كنت اريد السلوك عليها فوقعت عليه او كنت ضالا طريق التوحيد طالبا له، او كنت ضالا عن طريق حسن التدبير مع الاعداء وهو المداراة معهم.
[26.21]
{ ففررت منكم } بسبب ضلالى عن طريق المداراة وقتلى القبطى { لما خفتكم } على نفسى لما وصل الى ان الملأ يأتمرون بى { فوهب لي ربي حكما } من غير كسب لى ومعاناة فى طلبه { وجعلني من المرسلين } بمحض فضله من غير عمل لى فيه، ولما ذكر فرعون بعد ادعاء موسى (ع) الرسالة من الله ثلاثة اشياء مانعة من رسالته بترتيب الاضعف فالاقوى اجاب موسى (ع) من الثلاثة بترتيب الاقوى فالاضعف؛ فانه ذكر اولا كونه مربى لهم والمربى لا يجوز ان يكون حاكما على المربى، وثانيا لبثه فيهم مدة مديدة من عمره من غير كسب للكمالات الانسانية المقتضية للرسالة المستلزمة لجميع الكمالات الكسبية باعتقادهم، وثالثا قتل النفس المحترمة المنافى للرسالة من الله من حيث الظاهر والباطن فان الرسول من الله ينبغى ان يكون بحيث يرغب فيه كل احد والسفاك لا يرغب فيه اكثر الناس، وينبغى ان يكون مطهرا من جميع ما يكون شينا على الانسان حتى يستحق القرب من الله والرسالة منه بحسب الباطن، فاجاب اولا بالاعتراف بالفعلة ونفى الكفر المنافى للرسالة فى تلك الفعلة واثبات الضلالة التى لا تنافى طلب الكمالات الانسانية وحصول الرسالة بل تكون من مقدمات طلب الكمالات فانه ما لم يعلم الانسان ضلاله لم يطلب هداه، وثانيا عن ثانى ايراداته بان الرسالة موهبة من الله وليست بكسب الانسان حتى ينافيها لبثى فيكم من غير كسبى للعلوم العقلية والشرعية، واجاب ثالثا عن اول ايراداته بان تربيتك لم تكن احسانا الى بل كانت اساءة لى لانك ما ربتينى بتجشم من نفسك بل باستعباد قومى فى خدمتى، او باستبعاد قومى فى تحصيل الخدم والحشم والدولة، او باستعباد قومى وقتل اولادهم حتى خافوا منك وخافت امى فألقتنى فى النيل فوقعت فى يدك، او باستعباد قومى حتى استعبدت امى لخدمتى، او اجاب بالاقرار بكون التربية نعمة ثم استدرك توهم كونها احسانا بكونها اساءة فقال آو { تلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل }.
[26.22]
فجعل الجملة استفهامية بحذف همزة الاستفهام او خبرية بدون تقدير الاستفهام وتلك اشارة الى التربية او الى عبادة بنى اسرائيل او الى تعبيدتهم ونعمة خبر تلك وان عبدت بدلا من تلك او خبرا بعد خبر او خبرا ابتداء او خبرا لمبتدء محذوف، او مبتدء لخبر محذوف، ويكون الجملة حينئذ مستأنفة جوابا لسؤال مقدر كأنه قيل: ما هذه النعمة التى انكرتها؟- او اى شيء يمن بها عليك حتى انكرته عليه؟- فقال: هى ان عبدت بنى اسرائيل او ان عبدت بنى اسرائيل تمنه على سواء كانت فى معنى الاستدراك وفى معنى لكن هى ان عبدت بنى اسرائيل او لم تكن.
[26.23]
{ قال فرعون } بعد ما سمع جوابه عن ايراداته للمجادلة معه بالسؤال عن اجزاء ادعائه حتى يعجزه عن بيان قوله وادعائه { وما رب العالمين } الذى ادعيت الرسالة منه، سأله بما هو عن حده وحقيقته ولما لم يكن لله تعالى مهية مركبة حتى يكون له جنس وفصل عدل موسى (ع) عن جواب ما هو الى الجواب بالاعراض الذى هو جواب لاي شيء هو.
[26.24]
{ قال رب السماوات والأرض وما بينهمآ } بدل الاجمال الذى فى العالمين بالتفصيل { إن كنتم موقنين } من اهل الايقان شرط للتهييج والتعيير يعنى انتم اهل النفوس الظانة والشاكة ولستم اهل العقول الموقنة.
[26.25]
{ قال } فرعون بعد ما رأى عدم مطابقة الجواب للسؤال تزييفا لرأى موسى (ع) وتسفيها لعقله { لمن حوله ألا تستمعون } قوله حيث لا يعلم طريقة المحاجة ويدعى دعوى عظيمة ويريد التفوق والرياسة على اهل العلم، ولما رأى موسى (ع) استهزاءه به وبجوابه واحتمل ان ينكر مخلوقية السماوات والارض ومربوبيتهما ويقول انهما قديمان غنيان عدل عنه.
[26.26]
لما رأى فرعون اصراره على جواب ما هو بالاعراض الاضافية التى هى اضعف الاعراض.
[26.27]
{ قال } خطابا لقومه مستهزئا بموسى (ع) { إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون } لانه لا يتنبه بالتنبيه ولا يرتدع عن غيه بالردع ويصر على جهله.
[26.28]
{ قال } مصرا على ما اجاب به معرضا بعدم تنبههم بالتنبيه { رب المشرق والمغرب وما بينهمآ إن كنتم تعقلون } صرح بسفاهتهم بعد ما صرح فرعون بجنونه ومقصوده ان الله الذى تسأل عنه بما هو لاحد له حتى يجاب بما يطابق السؤال بل لا يمكن تعريفه الا باضافاته التى هى مدركة لنا، واصراركم على مطالبة جواب ما هو لعدم تعقلكم من الله ما يليق بجنابه، ولما رأى فرعون اصراره على جوابه الغير المطابق وعدم ارتداعه بالكناية والتصريح.
[26.29]
{ قال } تهديدا له { لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين } قيل هدده بأسوء العقوبة لانه كان له هوة عميقة لا يسجن فيها احد الا يموت فيها، ولما رأى موسى (ع) تهديده.
[26.30]
دال على صدقى فى دعواى وتوسل بامارات صدق دعواه.
[26.31-33]
{ قال } فرعون { فأت به إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضآء للناظرين } ولما كان السحر شائعا فى زمانه وكان يظهر من السحرة امثال هذه كثيرا.
[26.34]
لما لم يكن السحر شائعا فى زمانه وكان يظهر من السحرة امثال هذه كثيرا.
[26.35]
{ يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره } حتى ينزجروا منه ولا يرغبوا فيه وبعد ما اظهر ما ينزجرون منه قال { فماذا تأمرون } شاورهم فى امره استمالة لقلوبهم.
[26.36-51]
{ قالوا أرجه } قد مضى فى سورة الاعراف وجوه القراءة فى أرجه { وأخاه وابعث في المدآئن حاشرين يأتوك بكل سحار عليم فجمع السحرة لميقات يوم معلوم وقيل للناس هل أنتم مجتمعون لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين فلما جآء السحرة قالوا لفرعون أإن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين قال لهم موسى ألقوا مآ أنتم ملقون فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون فألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين قالوا لا ضير إنآ إلى ربنا منقلبون إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانآ أن كنآ أول المؤمنين } قد سبق الآيات بالفاظها او بمعانيها فى سورة الاعراف وغيرها فلا نعيد بيانها.
[26.52]
{ وأوحينآ إلى موسى } بعد ان مكث فيهم مدة مديدة ان اطلب عبادى من فرعون واخرجهم من مصر و { أن أسر بعبادي } الى البحر { إنكم متبعون } يتبعكم فرعون وقومه.
[26.53-55]
لمثيرون غيظنا.
[26.56]
اى انا لجماعة من عادتنا الحزم والحذر فى الامور ومراعاة العاقبة او المعنى انا لجماعة من عادتنا الحذر من الاعداء والتهيؤ لهم بالقوة والسلاح بما امكن، وقرئ حادرون بالدال المهملة بمعنى الاقوياء او المسرعون فى طلب الاعداء او حادون فى النظر.
[26.57]
{ فأخرجناهم من جنات } انيقة { وعيون } غزيرة.
[26.58]
{ وكنوز } عظيمة فان التنكير ههنا للتفخيم والتعجيب { ومقام كريم } ومنازل بهية.
[26.59]
{ كذلك } متعلق باخرجناهم للتعجيب يعنى اخرجناهم من ضياعهم وعقارهم وجميع اموالهم مثل هذا الاخراج العجيب الذى خرجوا بالرغبة منهم راجين العود اليها ولاجل زيادة التعجيب عطف عليه قوله { وأورثناها بني إسرائيل } قبل تمام قصتهم ويجوز ان يكون كذلك خبر مبتدء محذوف جوابا لسؤال مقدر او متعلق فعل محذوف كذلك كأنه قيل: هل امرهم كان كذلك؟! على سبيل التعجب او هل وقع منهم الخروج هكذا؟! فقال: امرهم كذلك، او وقع الخروج كذلك، او كأنه قيل: هل بقوا بعد الخروج او هلكوا؟- فقال: هلكوا كذلك.
[26.60]
اى تبعوهم ومشوا على عقبهم حين شروق الشمس او ادركوهم يعنى بأبصارهم لا بأبدانهم وقت ارتفاع الشمس.
[26.61]
{ فلما تراءى الجمعان } اى قربا بحيث يرى كل منهما الآخر { قال أصحاب موسى } فزعا من فرعون { إنا لمدركون } بالابدان كما ادركونا بالانظار وقالوا: انا لمدركون تأكيدا فى قربهم.
[26.62]
{ قال } موسى (ع) ردعا لقومه عن اضطرابهم { كلا إن معي ربي } بالنصرة والحفظ فلا تبالوا بقرب فرعون وجنوده { سيهدين } الى طريق الخلاص منهم وينجينى من بأسهم ولما وصلوا الى البحر وقفوا متحيرين.
[26.63]
{ فأوحينآ إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر } وهو نهر النيل فضرب البحر { فانفلق } فانشق البحر اثنى عشر طريقا بين كل طريق وطريق ماء كالجبل مشبك بحيث يرى كل فريق صاحبيهم { فكان كل فرق } اى كل قطعة من البحر يفرق بها بين طريق وطريق { كالطود العظيم } كالجبل العظيم، والفرق بكسر اسم لما انفرق كما ان الفرق بالفتح مصدر.
[26.64]
اى قربنا فى هذا المكان مكان البحر فرعون وقومه وأدخلنا البحر موسى وقومه.
[26.65-66]
{ وأنجينا موسى ومن معه } بان اخرجناهم من البحر سالمين { أجمعين ثم أغرقنا الآخرين } بان اطبقنا البحر عليهم.
[26.67]
{ إن في ذلك لآية } دالة لقومك على المبدء وعلمه وقدرته { و } لكن { ما كان أكثرهم مؤمنين } او المعنى ان فى ذلك لآية كانت لقوم موسى وما كان اكثرهم مؤمنين بموسى (ع) والهه فلا تحزن انت على عدم ايمان قومك بالله او بك فانهم ما شاهدوا مثل ما شاهدوا وما ابتلوا مثل ما ابتلوا.
[26.68-69]
{ وإن ربك لهو العزيز الرحيم واتل عليهم } اى على قومك المشركين { نبأ إبراهيم } حتى يعلموا قبح الاشراك ويعلموا ان ابراهيم (ع) ما كان مشركا ولا ينسبوه الى الاشراك ولا ينسبوا اشراكهم اليه ولا يدعوا مع اشراكهم ولاية البيت بانتسابهم الى ابراهيم (ع).
[26.70-72]
{ إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها } اى لعبادتها { عاكفين قال } ابراهيم (ع) { هل يسمعونكم } اى قولكم { إذ تدعون } اى تدعونهم او تدعون شيئا منهم او من غيرهم او تنادون مطلقا.
[26.73]
{ أو ينفعونكم } بعبادتها { أو يضرون } بترك عبادتها وفى هذا الاحتجاج دليل على ان من اخذ دينا لا بد وان يكون اخذه من حجة وبرهان او شهود وعيان ولا يجوز الاخذ من تقليد كالعميان، ولما لم يكن لهم حجة وبرهان التجأوا الى التوسل بالتقليد.
[26.74-76]
{ قالوا } ليس ذلك الذى قلت { بل وجدنآ آبآءنا كذلك يفعلون قال } ابراهيم (ع) { أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآبآؤكم الأقدمون } الذين توسلتم بتقليدهم.
[26.77-79]
{ فإنهم } اتى بضمير العقلاء بلحاظ كونهم معبودين او بضم الآباء اليهم وتغليبهم على غير العقلاء { عدو لي } يستوى فى العدو الذكر والانثى والواحد والاكثر { إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين } اما بتهية اسباب المطعوم والمشروب او بالهام طريق تحصيلهما او بتسهيل الابتلاع والشرب.
[26.80]
بتسبيب الاسباب الطبيعية او بدون الاسباب.
[26.81]
{ والذي يميتني } بعد انقضاء اجلى { ثم يحيين } بنفخة الاحياء او الذى يميتنى استمرارا ثم بعد كل موت يحيين وقد سبق فى اول البقرة عند قوله تعالى { وكنتم أمواتا فأحياكم } [آية: 28] تحقيق تام لتكرار الاماتة والاحياء للانسان.
[26.82]
{ والذي أطمع } عدل عن ارجو للاشعار بانه غير ناظر فيه الى سبب وعمل وتهية حصول للمغفرة من قبله فان المتبادر من الرجاء ان يكون الطمع مسبوقا باسباب وصول المطموع ومن الطمع ان يكون الرجاء غير مسبوق بحصول سبب وصوله { أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين } يوم الجزاء، ولما كان الراجع الى الكثرات بعد الفناء فى الله شأنه ان يكون متوسطا بين الافراط والتفريط فى النظر الى الله وفى النظر الى الكثرات بحيث لا يغلب رؤية الكثرة على رؤية الوحدة ولا رؤية الوحدة على رؤية الكثرة، وكان خطاءه فى الخروج عن التوسط والميل الى احدهما صح من الانبياء (ع) نسبة الخطاء الى انفسهم والتضرع على الله وسؤال المغفرة منه والاستعاذة من عذابه واظهار الخوف منه فلا حاجة فى الآية الى تجشم توجيه وتأويل لتصحيح نسبة ابراهيم (ع) الخطاء الى نفسه، ولما كان المحب حين ذكر اوصاف المحبوب وتصور شمائله يشتد لوعته ويزداد حرقته وتصوره له بحيث يكاد يتمثل او يتمثل المحبوب عنده التفت (ع) من الغيبة الى الحضور فناداه وخاطبه واستدعى منه فقال { رب هب لي حكما... }.
[26.83]
{ رب هب لي حكما } الحكم القضاء النافذ والحكومة بين الناس والامارة عليهم والدقة فى العلم والعمل وفى كل واحد منهما والكل مناسب ههنا والمقصود الرسالة الكاملة او الحكم الباطنى الذى هو من آثار الولاية { وألحقني بالصالحين } بمن كانوا صالحين صلاحا مطلقا فان الكافر ما لم يبطل استعداده لقبول الاسلام صالح بحسب فطرته واستعداده للاسلام، والمسلم صالح بحسب استعداده لقبول الايمان، والمؤمن صالح للعروج على درجات الايمان الى الفناء فى الله، والفانى صالح للرجوع والبقاء بالله، والباقى صالح للنبوة، والنبى صالح للرسالة، والرسول صالح لان يكون من اولى العزم، وصاحب العزم صالح للخلة والامامة بالمعنى الذى ليس فوقه درجة، والامام صالح للخاتمية والجامعية بين الكثرة والوحدة كما ينبغى فقال (ع) ألحقنى دون ادخلنى واتى بالصالحين من غير تقييد للاشارة الى التمكن فى الصلاح المطلق وهو صلاح الصالح الذى صار بالفعل من جميع الجهات ولم يبق فيه قوة واستعداد فلا حاجة الى تأويل فى هذا الدعاء.
[26.84]
لسان الصدق يستعمل فى القول الحسن والثناء الجميل والانسان المعبر عن الشخص فى غيابه وحضوره وقد فسر ههنا بكليهما ففى خبر: لسان الصدق للمرء يجعله الله فى الناس خير له من المال يعنى ذكر خير وقول حسن وثناء جميل خير من المال يأكله ويورثه؛ وقد فسر بمحمد (ص) وعلى (ع) والائمة من نسلهما.
[26.85-86]
{ واجعلني من ورثة جنة النعيم واغفر لأبي } حتى تهديه الى الطريق القويم { إنه كان من الضآلين } عن الطريق وكان دعاؤه (ع) هذا لاحتمال الهداية له وللوعد الذى وعده فلما تبين له ان فطرته منقطعة وانه عدو لله بالذات والفطرة تبرأ منه.
[26.87-88]
{ ولا تخزني } من الخزى بمعنى الهوان او من الخزاية بمعنى الحياء { يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون } فان النسب الاعتبارية التى كانت للانسان تصير منقطعة فى ذلك اليوم لانقطاع الجسم واعتباراته.
[26.89]
استثناء مفرغ اى لا ينفع مال ولا بنون احدا الا من اتى الله بقلب سليم فان السليم القلب ماله واولاده كما ينفعانه فى الدنيا ينفعانه فى الآخرة فانهما فتنة من الله لعباده فمن امتحنه الله تعالى بهذه الفتنة والامتحان وخرج منها سليم القلب صار ممن امتحن الله قلبه للايمان ودخل فى زمرة المؤمنين الممتحن قلوبهم للايمان ولحق بالسابقين؛ ونعم ما قيل:
مال راكز بهر دين باشى حمول
نعم مال صالح كفت آن رسول
جيست دنيا از خدا غافل شدن
نى قماش ونقره وفرزند و زن
آب دركشتى هلاك كشتى است
آب در بيرون كشتى بشتى است
ولذلك منع تعالى من الانفاق فى غير المحل فقال
ولا تؤتوا السفهآء أموالكم التي جعل الله لكم قياما
[النساء:5] وقد قيل:
منفق وممسك محل بين به بود
جون محل باشد مؤثر ميشود
اى بسا امساك كز انفاق به
مال حق را جز بامر حق مده
ويجوز ان يكون الاستثناء متصلا من المال والبنون بتقدير مضاف اى لا ينفع مال ولا بنون الا مال من اتى الله بقلب سليم وبنوه، او متصلا من البنين بدون التقدير، ويجوز ان يكون منقطعا، وسلامة القلب بان يكون القلب سالما من الآفات الحادثة من الرذائل خاليا من الرذائل، وفى خبر: هو القلب الذى سلم من حب الدنيا، وفى خبر: القلب السليم الذى يلقى ربه وليس فيه سواه، قال: وكل قلب فيه شرك او شك فهو ساقط وانما أرادوا بالزهد فى الدنيا لتفرغ قلوبهم للآخرة ، وفى خبر: صاحب النية الصادقة صاحب القلب السليم لان سلامة القلب من هواجس المذكورات تخلص النية لله فى الامور كلها ثم تلا هذه الآية { وأزلفت الجنة للمتقين }.
[26.90]
حال بتقدير قد او عطف على جملة يبعثون، والاتيان بالماضى للاشعار بتحقق وقوعه.
[26.91]
وفى اختلاف الفعلين اشارة الى تشريف المتقين لانه يقرب الجنة منهم لا انهم يساقون اليها، والى توهين الغاوين بان الجحيم تبرز لهم وهم يساقون اليها لا انها تزلف لهم.
[26.92-93]
{ وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون } لفظة ما زائدة او موصولة { من دون الله } قائم مقام المفعول على الاول وحال على الثانى عن العائد المحذوف او ظرف لغو متعلق بتعبدون والمعنى اينما كنتم تعبدون من دون اذن الله { هل ينصرونكم } بدفع العذاب عنكم او انجائكم من معذبيكم { أو ينتصرون } او ينتقمون من معذبيكم او يدفعون العذاب من انفسهم بانفسهم او بغيرهم على ان يكون مطاوع نصر.
[26.94-98]
{ فكبكبوا فيها } اى اسقط الآلهة على رؤسهم او على وجوههم فى الجحيم { هم والغاوون وجنود إبليس } من بنى آدم وبنى الجان فيكون من قبيل ذكر العام بعد الخاص او من بنى الجان فيكون من قبيل عطف المباين { أجمعون قالوا } اى العابدون { وهم } اى العابدون او هم والآلهة واتباع الشياطين { فيها يختصمون تالله إن كنا } انه كنا { لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين } اى الرب المضاف الذى هو على (ع) على ان يكون المراد من اشرك بالولاية.
[26.99]
اى الاسلاف الذين اقتدينا بهم، او امثالنا الذين اغتررنا بهم، او الآلهة الذين خدعونا، او الشياطين.
[26.100-101]
لان كل نسبة وكل خلة تصير منقطعة الا النسبة والخلة فى الله، ولا يشفع الشفعاء الا باذن الله، ولا نسبة ولا خلة ولا جهة الهية لهم حتى يكون شفيع لهم او صديق او حميم، روى عن ابى عبدالله (ع) انه قال: والله لنشفعن لشيعتنا، والله لنشفعن لشيعتنا، والله لنشفعن لشيعتنا حتى يقول الناس فما لنا من شافعين ولا صديق حميم (الى قوله) فتكون من المؤمنين.
[26.102-103]
{ فلو أن لنا كرة } لو للتمنى او للشرط { فنكون من المؤمنين إن في ذلك } فبما قصصناه من قصة ابراهيم (ع) واحتجاجاته، او فى قول المشركين بالله او بالولاية { لآية } لمن تأمل فيها او لمن انسلخ عن حجاب المادة واستكشف فى الدنيا حال المشركين فى القيامة ولا يكون الا لمن قامت قيامته متمكنا فى القيامة او متلونا { وما كان أكثرهم مؤمنين } قد مضى قبيل هذا هذه الكلمة.
[26.104]
قد مضى هذه ايضا.
[26.105]
جواب لسؤال مقدر كأنه قيل بعد حكاية ابراهيم (ع) وقومه: ما فعل قوم نوح المعروف قصتهم؟- فقال: { كذبت قوم نوح المرسلين } ، ونسبة تكذيب جميع المرسلين اليهم قد مضى وجهها فى سورة الفرقان.
[26.106]
الا للعرض او للتحضيض.
[26.107]
{ إني لكم رسول } من الله { أمين } معروف فيكم بالامانة فاقبلوا قولى ولا تنسبونى الى الكذب والخيانة.
[26.108]
{ فاتقوا الله } اى اذا عرفتمونى بالامانة فاتقوا الله فى مخالفتى { وأطيعون } فيما اقول لكم ولا تكذبونى، وقد مضى مكررا ان الانسان فطرى التعلق وانه ان لم يتعلق بخليفة الله تعلق بغيره من مظاهر الشيطان واهوية النفس وآمالها وان الدين هو التعلق بخليفة الله بالبيعة والاقتداء والطاعة وان من تعلق بخليفة الله كان ناجيا لا محالة، وغيره كائنا من كان كان داخلا فى المرجين لامر الله ولذلك كان قول الانبياء (ع) اول تبليغهم امر الامة بالطاعة لانفسهم.
[26.109-110]
{ ومآ أسألكم عليه } اى على التبليغ { من أجر } حتى تتهمونى لذلك وتكذبونى فان الامر لو لم يكن الهيا كان نفسانيا والامر النفسانى لا يخلو عن مقتضيات النفس ومشتهيات الدنيا { إن أجري إلا على رب العالمين فاتقوا الله وأطيعون } كرر الامر بالتقوى والطاعة للاهتمام به فانه لا غاية للرسالة بل لا غاية للانسان الا ذلك، ولترتبه اولا على معرفة الامانة وههنا على عدم طلب اجرة منهم.
[26.111]
وقرئ اتباعك الارذلون كأنهم لم يكذبوا امانته واستغناءه وعدم طمعه فى اموالهم لكنهم جعلوا مانع قبول رسالته اتباع الارذال الدال على رذالة المتبوع الدالة على عدم شأنية الرسالة ولذلك كانوا ينسبون الانبياء (ع) الى الجنون والخبط ومسيس الشياطين وامثال ذلك.
[26.112]
ولم تسمونهم اراذل وليس حن عملهم ولا قبحه بيدى واطلاعى انما كان على ان آخذ البيعة منهم لربى.
[26.113]
{ إن حسابهم } فى عملهم { إلا على ربي } وليس حسابهم على حتى اكون مراقبا لهم فى عملهم { لو تشعرون } ذلك ما أنكرتم على اتباعهم، او لو للتمنى.
[26.114]
كأنهم عرضوا بقولهم واتبعك الارذلون بان يطردهم عن نفسه حتى يؤمنوا.
[26.115]
وليس شأنى طرد احد او مراقبة عمل انما الطرد والمراقبة على شأن الولاية.
[26.116]
{ قالوا } بعدما رأوا انه يحمى اتباعه ولا يطردهم من اتباعه { لئن لم تنته ينوح لتكونن من المرجومين } هددوه بالقتل بأسوء انواعه لما عجزوا عن المحاجة معه كما هو ديدن كل غالب عاجز عن المحاجة.
[26.117-118]
{ قال } بعدما داراهم مدة الف سنة الا خمسين عاما او اقل من ذلك بيسير سائلا من الله شاكيا عليه { رب إن قومي كذبون فافتح } فاقض او فاحكم { بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين } يعنى منهم او من العذاب المسؤل لهم.
[26.119]
{ فأنجيناه } الاتيان بالفاء عقيب الدعاء للاشعار بأن العذاب كان عقيب الدعاء بلا مهلة ليكون ابلغ فى مقام التهديد والا كان بين دعائه ووعد الاجابة له وبين اغراقهم مدة مديدة { ومن معه في الفلك المشحون } بالناس وسائر الدواب.
[26.120]
اتى بثم ههنا وكان حقه الاتيان بالفاء للتفاوت بين الاخبارين.
[26.121-128]
{ إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم كذبت عاد المرسلين إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون ومآ أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين أتبنون بكل ريع } الريع بالكسر والفتح المرتفع من الارض او كل فج او كل طريق او الطريق المنفرج فى الجبل و الجبل المرتفع وبرج الحمام الذى يبنى لان تأوى اليه { آية } علامة { تعبثون } بذلك والمراد به القصور المرتفعة، او القلاع المبنية على الجبال والمرتفعة من الاراضى، او العلائم المبنية للمارة من غير حاجتهم اليه، او الابنية التى تبنى على الطريق للاشراف على المارة والسخرية بهم، او كانوا يبنون ابنية للاجتماع واللعب فيها .
[26.129]
{ وتتخذون مصانع } جمع المصنعة او المصنع بمعنى الحياض تصنع للماء، او المضائف التى يدعى اليها للضيافة، او القرى التى تصنع للزراعة والانتفاع، او المبانى من القصور والحصون { لعلكم تخلدون } يعنى راجين للخلود ولذلك تحكمون بنيانها.
[26.130]
لا مؤدبين يعنى انكم جمعتم بين الافراط فى القوة الشهوية والافراط فى القوة الغضبية.
[26.131]
مضى وجه تكرار هذه.
[26.132]
اى تعلمونه او تعلمون انه ليس الا بامداد الله، كرر اتقوا مقدمة للتنبيه على بعض النعم الذى يعرفون انه من الله حتى يقبلوا ويطلبوا منه الزيادة ويخافوا زواله ولا يخالفوه.
[26.133-134]
عد عليهم من انواع نعمه ما يعده العرب أشرف النعم وأحسنها.
[26.135]
كأنه قال أمرتكم بالتقوى لانى اخاف عليكم زوال تلك النعم بمخالفتكم واخاف اعظم منه وهو عذاب يوم عظيم.
[26.136]
{ قالوا } فى جوابه اظهارا لعدم الاعتداد به { سوآء علينآ أوعظت أم لم تكن من الواعظين } لم يقل ام لم تعظ ليكون ابلغ فى عدم الاعتداد بوعظه.
[26.137]
قرئ خلق بالفتح والسكون بمعنى الافتراء او الفطرة والطبع، وقرئ بالضمتين بمعنى السجية والطبع والمعنى ما هذا الذى تدعيه الا كذب الاولين الذين ادعوا النبوة مثلك، او ما هذا الذى نحن عليه من سجية الحيوة والتعيش اياما ثم الموت الا فطرة الاولين يعنى ان الزمان كان من القديم على الاحياء والاماتة، او ما هذا الذى انت تدعيه الا عادة الاولين من الانبياء (ع) او من المدعين للنبوة، او ما هذا الذى نحن عليه من الدين الا عادة الاولين ونحن بهم مقتدون.
[26.138]
لانه لا بعث ولا حساب ولا عقاب، او لانا نكون على الحق الذى نستحق به الثواب لا العقاب.
[26.139-146]
{ فكذبوه فأهلكناهم } وجه الاتيان عقيب التكذيب قد مر فى السابق { إن في ذلك } المذكور من قصة هود وقومه او من اهلاك قوم هود الذى تظافر به الاخبار { لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم كذبت ثمود المرسلين إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون ومآ أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين أتتركون في ما هاهنآ آمنين } بعد ما اقام على صدق دعواه بينة مما يعرفونه ونفى الطمع الذى هو مورث للاتهام عن نفسه هددهم بالموت والخروج من المنازل والدنيا.
[26.147-148]
اى النضيج او الرطب اللين او النضيد او سريع التفتت وقيل هو الذى ليس فيه نوى.
[26.149]
حاذقين فى النحت او بطرين.
[26.150-151]
المتجاوزين للحد فى المشتهيات او فى الغضبات.
[26.152-159]
قد مضى حكاية نوح وهود وصالح (ع) فى سورة الاعراف وفى سورة هود.
[26.160-166]
{ كذبت قوم لوط المرسلين إذ قال لهم أخوهم } اخوة المعاشرة لا اخوة القبيلة او الدين { لوط ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون ومآ أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم } لستم واقفين على هذا القدر من الظلم لانكم { قوم عادون } فى جملة اموركم، والعادون من عدى بمعنى ظلم او سرق او صرف او وثب او جاوز او من العدو ضد الصديق، او من عدى كعلم بمعنى أبغض.
اعلم، ان التكاليف الاختيارية النبوية او الولوية مطابقة للتكاليف التكوينية الآلهية، والله تعالى كلف جنس الحيوان فى اكثر انواعه بالاجتماع بان ركب الشهوة فيها وجعل فيها ذكرا وانثى وجعل نفوسهما بحيث لا يصبر كل عن الآخر باقتضاء شهوة الوقاع التى جعلها فيه، ولم يكن المقصود من خلق الشهوة الا بقاء النوع فانه لو لم يكن شهوة لم يكن وقاع بين سائر انواع الحيوان، واما الانسان وان كان يمكن الوقاع بمحض التكليف الاختياري النبوى لكن قلما يقع ذلك فان اكثر النفوس لا تعتد بالاوامر التكليفية ولو لم يكن الاوامر التكوينية لم يكونوا يواقعون بمحض الامر التكليفى وفى ذلك فناء النوع او تقليله، ولقصد التناسل جعل تعالى آلة قضاء الشهوة فى الذكر والانثى بحيث يستقر مادة الانسان التى هى النطفة فى مقر مخصوص وجعل الذكر والانثى بحيث كانا عاشقين للولد ومربيين له كالجزء منهما، وغير الانسان من الحيوان لما لم يكن له الشيطنة لا يرغب فى ثقب ليس له ان يطأ فيه فلا يخالف الامر التكوينى وليس له امر تكليفى، واما الانسان فيتدبر بالقوة المتخيلة ووسوسة الشيطان ويتصرف فى امر قضاء الشهوة وقد يخالف بتدبيره وشيطنته الامر التكوينى والامر التكليفى، وما لم يخذله الله يعاقبه فى الدنيا ويؤاخذه على مخالقة الامر التكوينى وجعل له عقوبة وحدا على مخالفة الامر التكليفى، ولما كان فى الخروج عن الامر التكليفى فى هذا المورد افساد كلى فى الارض بقطع النسل وجعل المرء على طبيعة المرأة وجعل النفس خارجا من الحياء وأخس من نفس الحيوان فى القوة الحيوانية جعل الله عقوبة من أتى الذكران أشد من جميع العقوبات.
[26.167]
{ قالوا لئن لم تنته يلوط } عما تنهى عنه { لتكونن من المخرجين } من قرينا.
[26.168]
{ قال } لهم { إني لعملكم من القالين } لا لأنفسكم فانكم صنائع ربى ولا اقدر ان اقليكم ولكن عملكم لكونه مخالفا لامره التكوينى والتكليفى كان مغضوبا لى تخرجوننى من قريتكم او لم تخرجونى ثم انصرف عنهم والتجأ الى الله فقال { رب نجني وأهلي مما يعملون فنجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزا }.
[26.169-171]
{ رب نجني وأهلي مما يعملون فنجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزا } من اهله وهى امرأة لوط { في الغابرين } فى الباقين الماكثين فى القرى على ما قيل انها لم تخرج مع لوط، او فى الغابرين فى العذاب على ما قيل انها خرجت واصابها فى الطريق حجر فأهلكها.
[26.172]
{ ثم دمرنا } اى أهلكنا { الآخرين } بالخسف او بايتفاك القرى وانقلابها ثم أمطرنا على من كان غائبا من القرى الحجارة من السماء او امطر عليهم الحجارة ثم انقلب قراهم بهم.
[26.173-176]
{ وأمطرنا عليهم مطرا } عجيبا وهو امطار الحجر { فسآء مطر المنذرين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم كذب أصحاب الأيكة المرسلين } الأيك الشجر الملتف الكثير او الجماعة من كل شجر حتى من النخل والواحدة الايكة او الاجمة الكثير الشجر والمراد بأصحاب الايكة اهل مدين او جماعة كانوا بقرية قرب مدين ولم يكونوا من قبيلة شعيب (ع) بعث شعيب عليهم كما بعث على اهل مدين، ولانهم لم يكونوا من قبيلته.
[26.177-181]
{ إذ قال لهم شعيب } ولم يقل اخوهم شعيب { ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون ومآ أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين } اى من جملة من شيمته التطفيف فى الكيل والميزان.
[26.182-183]
{ وزنوا بالقسطاس المستقيم ولا تبخسوا الناس } اى لا تنقصوا من الناس { أشيآءهم } اولا تظلموا الناس فى اشياءهم وعلى الاول يكون بيانا لمفهوم مخالفة اوفوا وزنوا، وعلى الثانى يكون اعم لان ظلم الناس فى الاشياء اعم من ان ينقصوا فيما يعطونهم او يزيدوا فيما يأخذون منهم { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } تعميم بعد تخصيص.
[26.184-185]
يعنى المسحورين المصابين بالسحر حتى فسد عقولهم ولا يدرون ما يقولون، والتضعيف للمبالغة او من المجوفين الذين لهم سحر اى رية ويحتاجون الى الاكل والشرب والترويح بالهواء او من المتباعدين من الانسانية.
[26.186-188]
{ ومآ أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك } اى انه نظنك { لمن الكاذبين فأسقط علينا كسفا } جمع الكسفة كالكسف بالكسر والفتح { من السمآء إن كنت من الصادقين قال } بعد ما لم ينجح فيهم المحاجة { ربي أعلم بما تعملون } فان رآكم مستحقين للعذاب واسقاط السماء عليكم فعل بكم، وان رآكم مستحقين للتوبة ومستعدين لرحمته وفقكم.
[26.189-191]
{ فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة } اى يوم السحابة التى اظلتهم فانه كما نقل اصابهم حر شديد سبعة ايام وحبس عنهم الريح ثم غشيتهم سحابة فلما غشيتهم خرجوا اليها طلبا للبرد من شدة الحر فأمطرت عليهم نارا فأحرقتهم وكان من أعظم الايام والوقائع ولذلك قال تعالى { إنه كان عذاب يوم عظيم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم } ولما ذكر قصص الانبياء الماضين وهلاك اقوامهم لتكذيبهم ليكون تسلية للرسول (ص) وتهديدا لقومه المكذبين ذكر القرآن او قرآن ولاية على (ع) وامارات صدقه ليكون اقرب الى القبول والانذار.
[26.192]
عطف على السابق باعتبار المعنى كأنه قال: وان شعيبا لمن المرسلين وانك لمن المرسلين وان القرآن او قرآن ولاية على (ع) لتنزيل رب العالمين.
[26.193]
يعنى جبرئيل فانه من جملة الارواح وامين على امر الله.
[26.194]
{ على قلبك } اى صدرك او قلبك الحقيقى المقابل للصدر والنفس فان الولاية فى القلب كما ان الرسالة واحكامها وكتبها فى الصدر { لتكون من المنذرين } اى من الرسل الذين شأنهم الانذار لا من المبشرين فقط فان البشارة المنفكة عن الانذار شأن الولاية المنفكة عن الرسالة، اتى بالغاية قبل تمام المغيى للاشعار بان الانذار انما هو بنفس القرآن او الولاية لا بكونه بلسان عربى، هذا على تقدير كون قوله تعالى { بلسان عربي مبين }.
[26.195]
متعلقا بقوله نزل واما اذا كان متعلقا بكونه من المنذرين فكان من اجزاء الغاية لا المغيى، والمراد باللسان العربى هو لغة العرب مجازا فان استعمال اللسان فى القول كثير والمراد بالمبين الفصيح الظاهر الكلمات والحروف، او الظاهر المعانى والواضح المقاصد، او المبين للمقاصد، او المبين للالسن فانه كما فى الخبر يبين الالسن ولا تبينه الالسن فان لغة العرب لسعتها وسعة التصرف فى هيآت كلماتها تبين جميع اللغات بمحض التصرف فى هيآت كلماتها وليست تلك السعة فى سائر اللغات فلا يبين سائر اللغات بدون التقييدات لكلماتها لغة العرب فان الضرب بتصريفاته فى هيآته يدل على عدة معان متخالفة لا يمكن تبيينها بسائر اللغات الا بضم قيودات عديدة فان الضرب يفيد معناه المصدرى وهيئة ضرب يفيد المعنى المصدرى مع زمانه ونسبته وفاعله وذكورة فاعله ووحدته وهكذا سائر متصرفاته وليس سائر اللغات كذلك فهو يبين الالسن بهيآت كلماته ولا تبينه الالسن الا بضمائم وقيودات لكلماتها.
[26.196]
{ وإنه } اى القرآن باوصافه او بمعانيه واحكامه او قرآن ولاية على (ع) { لفي زبر الأولين } اى كتبهم.
[26.197]
{ أو لم يكن لهم آية أن يعلمه } اى القرآن باوصافه او بمعانيه واحكامه او قرآن ولاية على (ع) { علماء بني إسرائيل } فان انبياء بنى اسرائيل اثبتوا فى كتبهم واخبروا اممهم بمجيء محمد (ص) وكتابه ووصاية وصيه الذى هو ابن عمه وصهره وخليفته فان العلماء كانوا يخبرون بأنه مكتوب فى كتبهم ويبشرون بمجيئه، وكانت اليهود يستفتحون بمحمد (ص) واوصيائه (ع) على اعدائهم، وقد ورد فى اخبار عديدة ان الآيات فى ولاية على (ع)، وفى خبر: ان ولاية على (ع) مكتوبة فى جميع صحف الانبياء ولم يبعث الله رسولا الا بنبوة محمد (ص) وولاية وصيه على بن ابى طالب (ع).
[26.198]
{ ولو نزلناه } اى القرآن او قرآن ولاية على (ع) { على بعض الأعجمين } الذين لا يفصحون عن الكلمات او الذين هم غير العرب او سائر افراد الحيوان العجم.
[26.199]
لعدم افصاحه عن الكلمات والمقاصد لانهم بعد انزالنا القرآن عليك مع افصاحك عن كلماته ومقاصده ما آمنوا فلو انزلناه على ذى لكنة بلسانه كان عدم الايمان كالسجية لهم، وللاشارة الى هذا المعنى قال ما كانوا به مؤمنين بتخلل كان لعدم افصاحه، او له وللعناد مع على (ع)، او المعنى لو انزلناه على عجمى ما كانوا ليؤمنوا للحمية التى كانت لهم مع العجم، او له وللعناد مع على (ع)، او المعنى لو انزلناه على حيوان غير ناطق فنطق به اعجازا منا ما كانوا ليؤمنوا به مع انه يكون دليل صدقه حينئذ معه لشدة بعدهم ونفرتهم من الحق، او لها ولشدة عنادهم مع على (ع)، روى عن الصادق (ع) لو نزلنا القرآن على العجم ما آمنت به العرب وقد نزل على العرب فآمنت به العجم فهذه فى فضيلة العجم.
[26.200]
{ كذلك } اى مثل سلوك الكفر فى قلوب هؤلاء { سلكناه } اى الكفر { في قلوب المجرمين } او مثل نزول القرآن على قلبك بلسان عربى مبين سلكناه فى قلوب المجرمين ومع ذلك لا يؤمنون به، او مثل سلوك القرآن فى قلوب هؤلاء الكفار حال كونهم متنفرين منه غير مؤمنين به سلكنا قرآن الولاية فى قلوب المجرمين حال كونهم متنفرين منه.
[26.201]
ولا ينفع نفسا ايمانها حينئذ، واشير فى اخبار عديدة الى ان المراد بالمجرمين بنوا امية وانهم لا يؤمنون بعلى (ع) حتى يروا العذاب الاليم.
[26.202]
{ فيأتيهم } العذاب الاليم { بغتة وهم لا يشعرون } بمجيئه لعدم تقدم امارة له.
[26.203]
يعنى انهم قبل مجيئه يستهزؤن به ويستعجلون به استهزاء فاذا جاءهم يسألون النظرة.
[26.204]
تهويل وتهديد لهم.
[26.205]
{ أفرأيت } يا محمد (ص) او الخطاب عام { إن متعناهم سنين } عديدة مديدة.
[26.206]
من العذاب.
[26.207]
{ مآ أغنى عنهم } شيئا من عذاب الله { ما كانوا يمتعون } فى الدنيا وقد صرح فى اخبار عديدة ان قوله افرأيت (الى الآخر) نزلت فى بنى امية وان رسول الله (ص) رآهم فى منامه يصعدون منبره بعده يضلون الناس عن الصراط القهقرى فأصبح كئيبا ونزل عليه جبرئيل وسأل عن حزنه فقال (ص):
" رأيت فى منامى كذا فعرج ثم نزل "
وجاء بهذه الآية تسلية للرسول (ص) وجاء بسورة انا انزلناه تسلية له (ص) بان ليلة القدر التى اعطيت خير من الف شهر يكون فيها ملك بنى امية.
[26.208]
عطف فيه استدراك توهم ان العذاب الجائى بغتة كان ظلما.
[26.209]
{ ذكرى } مفعول له واسم للتذكير { وما كنا ظالمين } معذبين من غير استحقاق ومن غير تذكير لهم بالعذاب.
[26.210]
{ وما تنزلت به } اى بالقرآن او قرآن ولاية على (ع) { الشياطين } كما زعم المشركون ان القرآن النازل على محمد (ص) من قبيل ما يلقيه الشيطان على الكهنة.
[26.211]
ان ينزلوه يعنى ليس شأن القرآن الذى هو كلام الله والآتى به هو الملك والمتلقف محمد (ص) الذى هو اعلى من الملك ان يلقنه الشياطين ولا الشيطاين يقدرون ان يأخذوه وينزلوه لان الشياطين عالمهم ظلمانى اسفل العوالم والقرآن ومحمد (ص) والملائكة عالمهم نورانى اعلى العوالم فاذا وصل القرآن الى الشياطين فروا بل هلكوا كما قيل:
ديو بكريزد از آنقوم كه قرآن خوائند
[26.212]
{ إنهم عن السمع } اى سمع القرآن وكلام الملك { لمعزولون } فان قول الملك وخطاب القرآن شهاب رادع للشيطان.
[26.213]
{ فلا تدع مع الله } يعنى اذا كان القرآن من الله من غير شراكة لغيره، او اذا كان ولاية على (ع) من الله فلا تدع مع الله او مع على (ع) { إلها } اى معبودا او ذا ولاية { آخر } وهذا على: اياك اعنى واسمعى يا جارة { فتكون من المعذبين } مثل بنى امية الذين عدلوا عن على (ع) الى غيره فحتم لهم عذاب اليم.
[26.214]
خص العشيرة الاقربين مع انه مأمور بانذار الخلائق اجمعين، اما لانهم اقرب الى القبول من غيرهم فاذا انذروا قبلوا لمناسبة القرابة بينهم وبينه ولاطلاعهم على خفايا احواله وانه لا مداهنة فيه ولا يطلب الدنيا دون غيرهم، او لانهم ان آمنوا سهل عليه (ص) دعوة الغير وسهل على الغير قبول دعوته لاستظهاره بهم واعانتهم له ومشاهدة الغير لايمان المطلعين على خفايا احواله، وان لم يؤمنوا تنفر عنه الاباعد مستدلين بأنه ان كان حقا كان اتباعهم له اولى من اتباعنا، او لانه ان انذر عشيرته يعلم انه الهى وانه بدأ بعشيرته فلا يدع غير عشيرته، او لانه يمكنه جمعهم وانذارهم دون غيرهم، وقد نقل من طريق العامة والخاصة ان محمدا (ص) بعد نزول هذه الآية قال لعلى (ع): يا على اصنع لهم غذاء فصنع غذاء قليلا فجمعهم رسول الله (ص) فى الشعب فأكلوا كلهم من ذلك الغذاء القليل وشبعوا فبدرهم ابو لهب فقال: هذا ماسحركم به الرجل فسكت (ص) يومئذ ولم يتكلم بشيء ثم دعاهم من الغد على مثل ذلك الطعام ثم انذرهم فقال: يا بنى عبد المطلب انى انا النذير اليكم من الله عز وجل والبشير فأسلموا وأطيعونى تهتدوا ثم قال (ص): من يواخينى ويوازرنى ويكون وليى ووصيى بعدى وخليفتى فى اهلى ويقضى دينى؟ فسكت القوم فأعادها ثلاثا؛ كل ذلك يسكت القوم ويقول على (ع): انا، فقال (ص) فى المرة الثالثة: انت، فقام القوم وهم يقولون لابى طالب: اطع ابنك فقد امر عليك، وفى رواية العامة: ايكم يقوم ويبايعنى؟ واعاد لهم الكلام ثلاث مرات وسكت القوم ثم قال: ليقومن قائمكم او ليكونن فى غيركم ثم لتندمن فقام على (ع) فبايعه واجابه، ثم قال: ادن منى فدنا منه ففتح فاه ومج فى فيه من ريقه وتفل بين كتفيه وثدييه، فقال ابو لهب: فبئس ما حبوت به ابن عمك ان اجابك فملأت فاه ووجهه بزاقا، فقال (ص): ملأته حكمة وعلما، وعن طريق العامة والخاصة: وانذر عشيرتك الاقربين ورهطك منهم المخلصين عن الرضا: وانذر عشيرتك الاقربين ورهطك المخلصين قال هكذا فى قراءة ابى بن كعب وهى ثابتة فى مصحف عبدالله بن مسعود قال هذه منزلة رفيعة وفضل عظيم وشرف عال حين عنى الله عز وجل بذلك الآل فذكره لرسول الله (ص)، ويجوز ان يكون المراد بالعشيرة الاقربين الذين كانوا بحسب مرتبتهم الروحانية عشيرته واقرب منه، ويكون المعنى انذر بحسب مقامك العالى عشيرتك الاقربين وتنزل عن مقامك العالى الى مقام التابعين.
[26.215]
{ واخفض جناحك } خفض الجناح استعارة للتذلل والتواضع من جهة المحبة من خفض جناح الطيور لازواجها يعنى تنزل وتواضع عن مقامك العالى { لمن اتبعك من المؤمنين } فانهم لا يقدرون على سماع كلامك بحسب مقامك العالى وانذرهم بلسان ومقام يناسب مقام المؤمنين التابعين.
[26.216]
{ فإن عصوك } اى عشيرتك او اتباعك المؤمنون فانهم بحسب حدود مقامهم وتعيناتهم النازلة يعصونك { فقل إني بريء مما تعملون } ولا تقل انى بريء منكم فانهم ان كانوا اتباعك كانت براءتك منهم براءة من اللطيفة الالهية، كما مضى مكررا ان الاسماء والاحكام اسماء وجارية على الفعلية الاخيرة من الاشياء فخطاب اتباعك والبراءة منهم يكون خطابا وبراءة من الفعلية الاخيرة التى هى فعلية الرسالة او فعلية الولاية، وفعلية الرسالة والولاية ليست الا الهية، وان لم يكونوا اتباعك ولم يكونوا مرتدين عن الفطرة بابطال الفطرة الانسانية كان فعليتهم الاخيرة فعلية الانسانية، وان كانت محتجبة تحت غيرها من الفعليات الاخر وكانت البراءة منهم براءة من الانسانية التى هى ايضا لطيفة الهية، نعم ان قطع الفطرة صح ان يقال: انى بريء منك كما حكى الله تعالى عن ابراهيم (ع) بقوله:
فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه
[التوبة:114] يعنى تنزل عن مقامك العالى وشاركهم فى مقامهم النازل فان خالفوك فى التقيد بحدود مقامهم فأظهر نزاهة ذاتك عن تلك الحدود وقل لهم انى بحسب مقامى العالى منزه عن حدود تلك المقامات وتعيناتها وان شاركتكم فى بعض لوازمها لئلا تستوحشوا منى حتى لا يتوهموا انك تكون مثلهم.
[26.217]
{ وتوكل على العزيز } الذى لا يقع فى ملكه الا ما يشاؤه يعنى اخرج من رؤية الافعال من الفاعلين وانظر فى جملة الافعال الى الفاعل الحق حتى تشاهد ان العامل هو يد الله فتكل امرك وامرهم اليه ولا تحزن على عصيانهم { الرحيم } الذى لا يشاء لعباده الا ما هو صلاحهم ولا يشاء لاعدائه الا ما هو صلاح عباده المؤمنين او صلاح نظام العالم فلا تحزن على ما فيه صلاح عامله او صلاح المؤمنين او صلاح نظام الكل.
[26.218]
للصلوة وحدك كما فى الخبر او تقوم فى الليل للصلوة او تقوم فى الناس، او تقوم بقيام جميع مراتبك للحضور عند ربك او تقوم بالعروج عن مقام الكثرات والخروج من بينهم.
[26.219]
وقت الصلوة بالجماعة او تقلبك من قيامك وانحنائك فى المنحنين المنكوسين فى الكثرات المبتلين بها، او تقلبك فى الخاضعين المتواضعين لله، او تقلبك فى الاصلاب والارحام المطهرة اللاتى كانت للساجدين لله فانه لم يكن الا من نكاح صحيح من لدن آدم (ع) وكانت آباؤه موحدين.
[26.220]
{ إنه هو السميع } لا سميع سواه { العليم } لا عليم سواه فان سمع كل سامع وعلم كل عليم سمعه وعلمه النازلان، وفى خبر: قال رسول الله (ص):
" لا ترفعوا قبلى ولا تضعوا قبلى فانى اريكم من خلفى كما اريكم من امامى "
؛ ثم تلا هذه الآية يعنى اذا كنتم فى الصلوة فلا ترفعوا رؤسكم من السجدة ولا تضعوها للسجدة قبلى، والاستشهاد بالآية يدل على ان الامر بالتوكل كان من الله وان المأمور بالتوكل هو نفسه باعتبار مقام نفسه وان المتوكل عليه هو نفسه ايضا بحسب مقام روحه الذى هو مقام الولاية وهو الموصوف بالعزة والرحمة وبالرؤية فى جميع الاحوال.
[26.221]
{ هل أنبئكم } لما ذكر ان القرآن ما تنزل به الشياطين اشتقاق نفوس السامعين لبيان من تنزل عليه الشياطين وما تنزلون به فقال تعالى هل انبئكم { على من تنزل الشياطين } من موصولة والظرف متعلق بانبئكم او استفهامية والظرف متعلق بتنزل.
[26.222]
{ تنزل على كل أفاك } من افك كضرب وعلم افكا بالفتح والكسر والتحريك كذب، او من افكه عنه كضرب صرفه وقلبه او قلب رأيه، او من افك فلانا جعله يكذب { أثيم } يعنى ان الشياطين لما كانوا بحسب وجودهم وذواتهم كاذبين منحرفين عن الصراط المستقيم ومنكوسين مقلوبين لا يتنزلون الا على الكذاب المنكوس الذى بفطرته يصرف قوى وجوده ومن خارج وجوده عن الحق والاستقامة للزوم السنخية بين النازل والمنزل عليه والاثيم الذى يفعل الافعال التى لم تكن على الصراط المستقيم الانسانى.
[26.223]
{ يلقون } اى الشياطين { السمع } يعنى يصعدون الى السماء لاستراق السمع من الملائكة ويستمعون منهم ثم يتنزلون الى اسناخهم من الانس ويخبرونهم { و } لكن { أكثرهم كاذبون } فان مسموعاتهم وان كانت حقة لكنها اذا وصلت اليهم ودخلت اصماخهم تنصرف عن وجهتها الحقانية وتصير باطلة فان وجودهم كالمرآة المعوجة التى لا يرى فيها الصور الا على خلاف ما هى عليه، او يلقى الشياطين المسموع الى اسناخهم الانسية او يلقى الافاكون السمع للشياطين وينقادونهم لاستماع اكاذيبهم، وضمير اكثرهم راجع الى الشياطين او الى الافاكين فان الكل يكونون بحال اذا وصل الصدق اليهم صار كذبا وانما قال اكثرهم لان القليل من الشياطين والقليل من الافاكين فطرتهم باقية على الاستقامة ولا يصير الحق فى وجودهم باطلا ويبقى الصدق على صدقه فى وجودهم.
[26.224]
{ والشعرآء } جمع الشاعر والشاعر من شعر به كنصر وكرم شعرا بالكسر وشعرا بالفتح علم به وفطن له وعقله، ولما كان الشاعر الآتى بالكلام الموزون سريع التفطن بالالفاظ المتناسبة المتناسقة والمعانى الدقيقة غلب فى العرف اسم الشعر على كلامه الموزون؛ واسم الشاعر عليه، ولما كان الاغلب ان الشعراء يظهرون الاباطيل والاكاذيب بصورة الحق بتمويهات وتزيينات نقل عن الشعر والشاعر اسم الشعر والشاعر الى كلام باطل مموه ظاهر بصورة الحق والى قائله، ومنه القياسات الشعرية للقياسات الوهمية الباطلة المموهة الظاهرة بصورة القياس الحق الصادق، ولما كان القرآن ذا وجوه بحسب طبقات الناس ويراد منه كل وجوهه بحسب طبقات الناس والمراد بالحمل على احسن الوجوه كما مضى فى المقدمات الحمل على أحسن الوجوه الاضافى صح تفسير قوله تعالى: { والشعرآء يتبعهم الغاوون } بالذين يأتون بالكلام المنظوم كما نقل ان المراد شعراء العرب كانوا يأتون بالكذب والاباطيل وكانوا يهجون النبى (ص) وكان جمع من الغاوين يجتمعون اليهم ويستمعون كلامهم وذكروا اسماءهم وعددهم، وصح تفسيره بالقصاص الذين كانوا فى الاسواق والمحافل ينقلون الحكايات والاسمار التى لا اصل لها ولا حقيقة، وصح تفسيره بالوعاظ الذين يعظون ولا يتعظون، وبالفقهاء والقضاة الذين يفتون ويقضون بين الناس من غير اذن واجازة من الله او من خلفائه كفقهاء العامة وقضاتهم فانهم ايضا يقولون ولا يفعلون ما يقولون، وعن الصادق (ع) هم القصاص، وعنه (ع): هم قوم تعلموا وتفقهوا بغير علم فضلوا واضلوا، وعنه (ع) نزلت فى الذين غيروا دين الله وخالفوا امر الله، هل رأيت شاعرا قط يتبعه احد؟! انما عنى بذلك الذين وضعوا دينا بآرائهم فتبعهم على ذلك الناس، وعن الباقر (ع): هل رأيت شاعرا يتبعه احد؟! انما هم قوم تفقهوا لغير الله فضلوا واضلوا.
[26.225]
{ ألم تر أنهم } اى الشعراء { في كل واد } من اودية النفس والخيال { يهيمون } يتحيرون، شبه تخيلاتهم التى لا ثبات لهم عليها ولا يرون حقا منها ولا يعتقدون صدقها بالاودية التى هى المفارج بين الجبال او التلال التى لا يرى ما حولها الارتفاع الجبال والتلال المحيطة بها ولم يكن فيها طريق ولا يدرى السالك فيها اين مخلصها سواء كان المراد بالشعراء القائلين للشعراء او القصاص والوعاظ او الفقهاء والقضاة.
[26.226]
فان الكل حالهم ذلك فان الشعراء يغرقون فى جميع ما يقولون كما قيل: " كاز اكذب او ست احسن او " والقصاص والوعاظ شأنهم وشغلهم تزيين الكلام وتجديد النشاط للاستماع بحكايات جديدة واسمار غير مسموعة كذبا او غير كذب عاملين كانوا او غير عاملين، وفقهاء العامة شغلهم الافتاء من غير عمل.
[26.227]
{ إلا الذين آمنوا } بالبيعة العامة او الخاصة { وعملوا الصالحات } على الشروط والكيفية المأخوذة فان الشاعر منهم لا يقول ما لم يكن فيه رضى الله والناقل والواعظ ايضا كذلك ويفعل ما يقول اولا ثم يقول ثانيا، والفقيه منهم لا يتكلم بدون الاذن والاجازة، وبعد الاجازة يصير باطله صحيحا وكذبه صدقا وظنه يقينا { وذكروا الله كثيرا } فى شعرهم وقصصهم ومواعظهم ومسائلهم الفقهية { وانتصروا } انتقموا عمن يفعل بهم { من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا } فى مقام واما الذين ظلموا من الشعراء بان يقولوا ولا يفعلوا ويكون ظاهرهم بخلاف باطنهم فسيعلمون { أي منقلب ينقلبون } تهديد لهم بسوء العاقبة.
[27 - سورة النمل]
[27.1]
قرئ بالجر عطفا على القرآن، وبالرفع عطفا على آيات القرآن، وتنكيره للتفخيم.
[27.2-3]
قد مضى الآيات بتمام اجزائها فى اول البقرة بما لا مزيد عليه.
[27.4]
{ إن الذين لا يؤمنون } جواب سؤال مقدر كأنه قيل بعد ما قال: هدى وبشرى للمؤمنين فما حال غير المؤمنين؟- ان الذين لا يؤمنون { بالآخرة زينا لهم أعمالهم } التى يعملونها لدنياهم وبهوى انفسهم حتى لا ينصرفوا عنها، او زينا اعمالهم التى امرناهم بها وكانت لائقة بانسانيتهم لعلهم ينتهون عن غيهم ويرغبون فى اعمال الخير واعتقاد المبدء واليوم الآخر { فهم يعمهون } اى يترددون ولا يطمئنون على اعمالهم النفسانية ولا ينسلخون عنها بالكلية.
[27.5]
{ أولئك الذين لهم سوء العذاب } فى الدنيا فان التحير والتردد فى الامر عذاب عاجل على انهم يحسبون كل صيحة عليهم ولا يطمئنون على امر { وهم في الآخرة هم الأخسرون } لانهم بعدم اعتقادهم لليوم الآخر لا يعملون له ويعملون لمشتهياتهم الفانية فيفنون بضاعتهم التى جعلها الله لهم بضاعة للآخرة ويأخذون عوضها عذابا فى الآخرة.
[27.6]
{ وإنك لتلقى القرآن } عطف على ان الذين لا يؤمنون والجامع اشتراكهما فى كونهما جوابا للسؤال المقدر كأنه قال: ما حال غير المؤمنين؟ وما حالى فى شهودى للآخرة الذى هو فوق الايمان بها بالغيب؟- فقال: حال غير المؤمنين كذا وحالك انك تلقى القرآن اى المقام الجامع بين الوحدة والكثرة { من لدن حكيم } فى عمله او فى عمله وعلمه ويكون قوله { عليم } تأكيدا وقد مضى مكررا ان الحكمة عبارة عن اللطف فى العمل واتقانه بحيث يكون ذا غايات عديدة مترتبة متقنة، واللطف فى العلم بحيث يكون ادراك الشيء مستلزما لادراك مباديه وغاياته الجلية والدقيقة الخفية، وقد تستعمل الحكمة فى كل منفردا عن الآخر.
[27.7-8]
{ إذ قال موسى } ظرف لعليم او حكيم، ويكون تقييد علمه تعالى او حكمته مع اطلاقهما فى حقه تعالى للاشعار بان ما وقع لموسى (ع) وما وقع منه لم يكن الا بعلمه وحكمته وكان مشتملا على دقائق الغايات ودقائق الاعتبارات فيكون فى الحقيقة تقييدا لما وقع له ومنه (ع) وبعلمه تعالى وحكمته، او متعلق بقوله لتلقى القرآن والمعنى حالك انك تمكنت فى الحضور عند ربك وترفعت عن جميع المقامات والشهودات اذ كان موسى (ع) مشاهدا لبعض آياته ومضطربا فى مشاهداته نظير: كنت نبيا وآدم بين الماء والطين { لأهله إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس } قرئ بشهاب قبس بطريق التوصيف وبطريق الاضافة والشهاب الشعلة من النار واختلاف الكلمات فى الحكايات المكررة اما للاشارة الى انها منقولة بحسب المعنى والمنقول بحسب المعنى يؤدى بألفاظ مختلفة مترادفة او متوافقة فى اداء المقصود، او للاشارة الى ان السؤالات واجوبتها كانت كثيرة وكلما ذكر حكاية منها يذكر بعضها { لعلكم تصطلون فلما جآءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين } لما قال من فى النار ومن حول النار وتوهم منه انه محاط قال تعالى: سبحان الله من ان يكون محاطا لانه رب العالمين ورب العالمين لا يكون محاطا لشيء من مربوباته.
[27.9]
يعنى ان المتكلم معك هو الله فتنبه واستعد لما يلقى اليك فالهاء ضمير المتكلم وانا خبره والله بدله، ويجوز ان يكون الهاء ضمير الشأن وانا الله جملة مفسرة له، نقل انه بعد ما سمع هذه الكلمة سأل البرهان عليها فقال تعالى { وألق... }.
[27.10]
{ وألق } معطوف على محذوف جواب للسؤال المقدر او المذكور والتقدير ايقن ذلك وألق { عصاك } ويجوز ان يكون عطفا على بورك حتى يكون مثل بورك تفسيرا لنودى، وان يكون عطفا على انه انا الله فانه فى معنى قال يا موسى انه انا الله وألق عصاك فألقاها فصارت حية حية متحركة فنظر فرآها حية متحركة { فلما رآها تهتز } تتحرك { كأنها جآن } حية غير عظيمة فان الجان حية غير عظيمة غير موذية كحلاء العينين، قيل: انها فى ذلك المقام صارت حية غير عظيمة غير موذية لانها كانت اول ما رآها فلم يجعلها الله حية عظيمة مثل ما صارت عند ملاقاة فرعون لئلا يستوحش كثيرا ومع ذلك خاف منها و { ولى مدبرا } حال مؤكدة { ولم يعقب } لم يرجع على عقبه او لم ينظر الى عقبه { يموسى } جواب سؤال مقدر بتقدير القول اى قلنا يا موسى { لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون } يعنى ان الخوف ليس الا من بقايا الانانية تبقى على العبد والمرسلون اذ بلغوا الى مقام الحضور وكانوا عند الرب لم يكن عليهم شيء من انانياتهم فلم يكن لهم ما عليه يخافون من الانانية وما يلزمها من نسبة الاموال والافعال والصفات اليها.
[27.11]
{ إلا من ظلم } استثناء منقطع يعنى لكن من ظلم { ثم بدل حسنا بعد سوء } بتدارك ظلمه فيما له تدارك وبالاستغفار والتوبة فيما ليس له تدارك فانه يخاف ولكن اغفر له وارحمه { فإني غفور رحيم } او استثناء متصل ويكون المراد بالظلم بقايا اثر النفس عليهم حتى لا ينافى عصمة الانبياء (ع) يعنى الا من كان باقيا عليه من انانيته شيء فانه ظلم بوجه على انسانيته، ويؤيد هذا المعنى قراءة الا من اظلم من باب الافعال ثم بدل هذا الظلم حسنا حتى لا يمنع ظلمه من رسالته، وتبديله حسنا بان لا يستبد بتلك الانانية ويلتجيء الى ويتضرع على ويستوحش من انانيته ويستغفرنى فانى لا اؤاخذه بتلك الانانية واغفرها له وارحمه باعطاء منصب الرسالة لانى عفور رحيم.
[27.12]
{ وأدخل يدك في جيبك } جيب القميص معروف والمقصود ان يدخل يده تحت قميصه وثيابه ويضعه على قلبه ليطمئن من الرهب ويتأثر يده من ضوء قلبه كما قال واضمم اليك جناحك من الرهب { تخرج بيضآء من غير سوء } اى من غير علة البرص { في تسع آيات } قد اختلف الاخبار فى تعيين التسع وفى خبر عن النبى (ص): هى ان لا تشركوا به شيئا، ولا تسرفوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التى حرم الله الا بالحق، ولا تمشوا ببريء الى سلطان ليقتل، ولا تسخروا، ولا تأكلوا الربوا، ولا تقذفوا المحصنة، ولا تولوا للفرار يوم الزحف، وعليكم خاصة يا يهود ان لا تعتدوا فى السبت، وكان يهودى سأله عن الآيات فلما سمع منه قبل يده وقال: اشهد انك نبى، وفى اخبار كثيرة فسر الآيات التسع بما كان يظهر منه من المعجزات مثل الجراد والقمل والضفادع وغير ذلك مع اختلاف فى تعيينها فان الظاهر على يده وبواسطته كان اكثر من التسع، والظرف حال من فاعل تخرج او ظرف لغو متعلق بفعل من افعال الخصوص حالا من فاعل ادخل مثل ذاهبا او مرسلا فى تسع آيات، ويحتمل ان يكون اليد من جملة التسع او زائدة على التسع { إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين } فذهب فى الآيات الى فرعون وقومه.
[27.13-14]
{ فلما جآءتهم آياتنا مبصرة } من ابصره اذا نظر اليه ورآه فيكون نسبته الى الآيات مجازا عقليا، او من ابصره اذا جعله بصيرا، وقرئ مبصرة بفتح الميم والصاد بمعنى محل التبصر، او مصدرا بمعنى ذوات ابصار { قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها } اى جحدوا موسى بسبب الآيات مكان الاقرار بها لكمال عنادهم مع الحق وفسوقهم او جحدوا الآيات من حيث انها آيات الهية وقالوا انها سحر { واستيقنتهآ أنفسهم ظلما وعلوا } اى استكبارا { فانظر كيف كان عاقبة المفسدين } وقد سبق فى سورة الاعراف تفصيل الآيات وكيفيتها وكيفية ابتلائهم بها وعاقبة امرهم.
[27.15]
{ ولقد آتينا داوود وسليمان علما } عظيما فان ما آتاهما الله وان كان بالنسبة الى علم الله وعلم محمد (ص) وآله (ع) حقيرا لكنه فى نفسه عظيم كثير، او شيئا يسيرا من علم آل محمد (ص) وبهذا القدر اليسير تجاوب داود (ع) الجبال والطيور وعلم سليمان (ع) منطق الطيور وسائر الحيوان وسخر الجن والطيور والحيوان والرياح { وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين } يعنى انهما اظهرا شكرا لنعمة العلم والمقصود تفضيلهم على كثير من العباد من زمن آدم (ع) او على كثير من عباد زمانهم بادخال الملائكة فيهم او قالوا ذلك لاحتمالهم او علمهم بكون بعض العباد الحامدين افضل منهم او لهضم انفسهم ولتعليم الغير طريقة الشكر وان الشاكر على النعم لا ينبغى ان يغتر بالنعم ويعجب بنفسه بل ينبغى ان يرى فى كل الاحوال لغيره فضلا على نفسه حتى لا يبتلى بالغرور والاعجاب بالنفس، وفيه دلالة على فضل العلم بالنسبة الى سائر النعم حيث ذكر تعالى شكرهما عقيب ايتاء العلم معلقا على التفضيل على العباد بسبب العلم مع انهما اوتيا ملكا عظيما وسلطنة وسيعة.
[27.16]
{ وورث سليمان داوود } ما ينبغى ان يرثه منه من الرسالة والعلم والملك والسلطنة، ولذلك حذف المفعول الثانى، قيل للجواد (ع): انهم يقولون فى حداثة سنك فقال: ان الله اوحى الى داود (ع) ان يستخلف سليمان وهو صبى يرعى الغنم فأنكر ذلك عباد بنى اسرائيل وعلماؤهم، فأوحى الى داود (ع) ان خذ عصا المتكلمين وعصا سليمان (ع) واجعلهما فى بيت واختم عليهما بخواتيم القوم فاذا كان من الغد فمن كانت عصاه قد اورقت واثمرت فهو الخليفة فأخبرهم داود (ع) فقالوا: قد رضينا وسلمنا { وقال } اظهارا لنعم الله شكرا لها { يأيها الناس علمنا } اتى بعلم مبنيا للمفعول للتبرى من الانانية وان العلم الذى اعطاه الله تعالى كان من محض فضل الله لا من نفسه { منطق الطير وأوتينا } اتى ههنا باوتينا لما ذكر { من كل شيء } انما قال من كل شيء لانه لا يمكن للممكن ولو بلغ ما بلغ ان يؤتى كل شيء الا ان يخصص الشيء بالممكنات وحينئذ لا يكون لغير الخاتم ان يقول واوتينا كل شيء، وفى خبر: ليس فيه من وانما هى واوتينا كل شيء، وبعدما ذكر انه ليس من نفسه فخمه وعظمه تعظيما لانعام الله ونعمه فقال { إن هذا لهو الفضل المبين } عن الصادق (ع) اعطى سليمان بن داود (ع) مع علمه معرفة المنطق بكل لسان ومعرفة اللغات ومنطق الطير والبهائم والسباع وكان اذا شاهد الحروب تكلم بالفارسية، واذا قعد لعماله وجنوده واهل مملكته تكلم بالرومية، واذا خلا بنسائه تكلم بالسريانية والنبطية: واذا قام فى محرابه لمناجاة ربه تكلم بالعربية، واذا جلس للوفود والخصماء تكلم بالعبرانية، وعنه عن ابيه (ع): اعطى سليمان بن داود (ع) ملك مشارق الارض ومغاربها فملك سبعمائة سنة وستة اشهر ملك اهل الدنيا كلهم من الجن والانس والشياطين والدواب والطير والسباع واعطى علم كل شيء ومنطق كل شيء وفى زمانه صنعت الصنائع العجيبة التى سمع بها الناس وذلك قوله علمنا (الآية) وقد كثر فى اخبارنا ان الائمة (ع) اعطوا جميع ما اعطى سليمان (ع) ولهم الفضل عليه.
[27.17]
{ وحشر لسليمان جنوده من الجن } قدم الجن لان معظم الامور التى تتمشى من الجنود مثل سرعة السير والاخبار بالوقائع الواقعة فى النواحى وصنع الصنائع العجيبة التى يحتاج اليها السلاطين كان منهم { والإنس والطير } خصها من بين سائر الحيوان للاحتياج اليها فى التظليل { فهم يوزعون } يحبسون حتى يلتحق اولهم بآخرهم اذا كان من وزع كوضع بمعنى كف، او يعزون اذا كان من اوزعه بمعنى اغراه، او يدبر امورهم ويعلمون من وزع اذا دبر امور الجيش، او يجعلون جماعات من الاوزاع بمعنى الجماعات، او يقسمون من الايزاع كالتوزيع بمعنى التقسيم.
[27.18]
{ حتى إذآ أتوا } اى فساروا حتى اذا اتوا { على واد النمل } قيل هو واد بالطائف كثير النمل، وقيل: هو واد بالشام كثير النمل، وفى تفسير القمى قعد على كرسيه وحملته الريح فمرت به على واد النمل وهو واد ينبت فيه الذهب والفضة وقد وكل به النمل وهو قول الصادق (ع) ان لله واديا ينبت الذهب والفضة وقد حماه الله باضعف خلقه وهو النمل لو رامته البخاتى ما قدرت عليه، ونسب الى الرواية ان نمل سليمان كانت كأمثال الذئاب والكلاب { قالت نملة } هى رئيسها واميرها كما قيل { يأيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم } بدل من ادخلوا بدل الاشتمال او مستأنف جواب لسؤال مقدر وهو نهى وليس بنفى مجزوم فى جواب الامر كما قيل لان نون التأكيد لا يدخل فى النفى والفعل الموجب فى غير الضرورة { سليمان وجنوده وهم لا يشعرون } هذا تبرئة من النملة للنبى (ع) من الظلم.
[27.19]
{ فتبسم ضاحكا من قولها } لتعجبه من قدرة الله واسماعه قول النمل خصوصا من المسافة البعيدة، او من نعمة الله عليه بان اقدره على سماع كلام النمل وفهم مقصده، او من فطانة النمل وتميزه بين الحاطم وغيره ومعرفته لسليمان وجنوده، وهذا يدل على انه وجنوده كانوا يمشون مشاة وراكبين لا انهم يسيرون فى الهواء بمركب الريح { وقال } تبجحا بنعم الله واظهارا لشكرها { رب أوزعني } الهمنى او اولعنى { أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي } اشارة الى هذه النعمة اى نعمة افهام نطق الحيوان او جنس النعمة التى انعمها عليه { وعلى والدي } باعطائهما ولدا مثلى او لسائر نعمهم { وأن أعمل صالحا ترضاه } ليكون عملى شكرا فعليا لانعمك { وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين } فى الدنيا او فى الآخرة او فيهما.
[27.20-21]
{ وتفقد } تجسس { الطير } طلبا لفقدانهم فلم ير منها الهدهد { فقال مالي لا أرى الهدهد } اصله ماله لا اراه لكنه قلب واستعمل فى هذا المعنى فى العرب والعجم، او هو على الاصل { أم كان من الغآئبين لأعذبنه عذابا شديدا } بنتف ريشه والقائه فى الشمس، او بجعله مع غير جنسه كما قيل { أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان } حجة { مبين } واضح فى عذره او موضح عذره فى غيبته وتفقده للطيور وعتابه للهدهد على غيبته لجريه على طريقة الملوك وامراء الجند فان امير العسكر اذا فقد واحدا من اجزاء العسكر عاتبه واخذه بجرمه لان كلا من اجزاء العسكر له شغل وعمل اذا فقد بدون الاذن والبدل اختل امر العسكر، ولعل فقدان واحد منها يصير سببا لهلاك الكل وكان الهدهد كما فى الخبر يدله على الماء لانه كان يرى الماء فى بطن الارض كما يرى احد الدهن فى القارورة، او كان الطير تظل كرسيه من الشمس فبان الشمس على حجره.
[27.22-23]
{ فمكث } سليمان او الهدهد فى غيبته زمانا { غير بعيد } او مكانا غير بعيد ثم رجع الى سليمان { فقال أحطت بما لم تحط به } يعنى علمت بما لم تعلم به واطلعت على ما لم تطلع عليه { وجئتك من سبإ } مدينة بارض اليمن، قيل: بعث الله الى سبأ اثنى عشر نبيا ونقل
" عن النبى (ص) انه سئل عن سبإ فقال: هو رجل ولد له عشرة من العرب تيامن منهم ستة وتشاءم اربعة "
، وعلى هذا كانت المدينة سمى باسم هذا الرجل { بنبإ يقين إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء } لسعة مملكتها ووجدان كل ما يحتاج الانسان اليه فيها والمرأة كانت بلقيس بنت شراحيل بن مالك بن ريان كما قيل، وقيل: كان ابوها شرجيل وكان آباؤها الى اربعين ابا ملكا { ولها عرش عظيم } عظمه بالنسبة اليها او بالنسبة الى سائر العروش والا كان ثلاثين ذراعا فى عرض ثلاثين ذراعا فى ارتفاع ثلاثين، وقيل: كان ثمانين فى ثمانين، وقيل: كان مقدمه من ذهب مرصع بالياقوت الاحمر والزمرد الاخضر، ومؤخره من فضة مكللة بالوان الجواهر وعليه سبعة ابيات على كل بيت باب مغلق.
[27.24]
{ وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم } التى يعملونها من عبادتهم للشمس وسائر ما يعملونها لدنياهم وآخرتهم حتى يرتضون اعمالهم، وهذا هو المانع من طلب الحق واتباع اهله { فصدهم } بهذا التزيين والارتضاء { عن السبيل } اى سبيل الحق { فهم لا يهتدون } اليه، قيل: لم يكن الهدهد عارفا بذلك وانما اخبر بذلك كما يخبر مراهقوا صبياننا لانه لا تكليف الا على الملائكة والانس والجن، وهذا من غفلته من ادراك الموجودات بل نقول: كل الموجودات شاعرون عالمون ولكن لا شعور لهم بشعورهم:
وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم
[الإسراء:44] لعدم شعورهم بشعورهم فكان جملة الموجودات ينادون جهارا بهذا القول:
ما سميعيم و بصيريم و خوشيم
يا شما نامحرمان ما خامشيم
جون شما سوى جمادى ميرويد
محرم جان جما دان كى شويد
از جمادى درجهان جان رويد
غلغل اجزاى عالم بشنويد
فاش تسبيح جمادات آيدت
وسوسه تأويلها بر بايدت
جون ندارد جان توقنديلها
بهر بينش كرده تأويلها
[27.25]
{ ألا يسجدوا } قرئ بتخفيف اللام من الاعلى انه كان يا قوم اسجدوا فحذف المنادى وحينئذ يكون من كلام الهدهد بتقدير القول جوابا لسؤال مقدر كأنه قيل: ما قلت لهم؟- فقال: قلت لهم: يا قوم اسجدوا او من كلام سليمان (ع) خطابا لقومه بعدما ذكر الهدهد اهل سبا وسجدتهم للشمس او من الله خطابا لقوم سليمان (ع)، وقرئ بتشديد اللام وحينئذ يجوز ان يكون ان تفسيرية ولا يسجدوا نهيا وتفسيرا لقوله تعالى: صدهم فان الصد القولى فى معنى القول كأنه قيل: صدهم بقول اى لا يسجدوا، وان يكون ان ناصبة بدلا من اعمالهم او بتقدير اللام او الباء متعلقا بيسجدون او زين او صدهم او لا يهتدون، او لفظة لا زائدة وهو بتقدير الى متعلق بيهتدون، او بدون التقدير بدل من السبيل والمعنى فصدهم عن السبيل عن السجدة { لله الذي يخرج الخبء } الخبأ بالفتح والسكون مصدر فى معنى ما يخفى او مشترك بين المصدر والوصف بمعنى المفعول كالخبيئ { في السماوات والأرض }.
اعلم، ان السماوات تطلق على الكرات العلوية المحيطة بالارض المشهودة بحركات كواكبها، وعلى نفس الكواكب وعلى المجردات عن المادة من عالم المثال الى عالم المشية، والارض تطلق على الارض المحسوسة الواقعة فى حيز المركز، وعلى جملة الماديات من البسائط والمواليد علوية كانت ام سفلية، وعلى مراتب المواد من الهيولى الاولى الى البشرية التى تعد سبعا ويعبر عنها بالاراضى السبع وعلى معنى يشمل المثاليات العلوية والسفلية وجملة الاستعدادات القريبة والبعيدة التى كانت للمواد، والمواليد فى الحقيقة وجودات ضعيفة للمستعدذ لها فهى المستعد لها المستوردة فى المواد والمواليد لعدم بروزها بعد بحدودها ووجوداتها القوية وجميع الفعليات الفائضة من العلويات والجهات الفاعلة على الماديات والجهات القابلة موجودة بنحو الاجمال والبساطة فى الجهات الفاعلة لكنها مختفية بنحو التفصيل والتميز ومن حيث وجوداتها الخاصة فى الجهات الفاعلة فلا اختصاص للمخبوءات بالحبوب والعروق المختفية تحت الارض ولا بالكواكب المختفية فى السماء وقد اشير بالفارسية الى ما اشرنا بقوله:
ايكه خاك شوره را تو نان كنى
وايكه نان مرده را توجان كنى
عقل وحس را روزى وايمان دهى
ايكه خاك تيره را توجان دهى
ميكنى جزو زمين را آسمان
ميفزائى در زمين از اختران
{ ويعلم ما تخفون } من الافعال والاحوال والاقوال والنيات والعزمات والخيالات والخطرات والمكمونات التى لا شعور لكم بها { وما تعلنون } كذلك، وقرئ الفعلان بالغيبة يعنى الا يسجد والله الذى يستحق العبادة لكمال دقته ولطفه فى العمل بحيث يخرج جميع مكمونات الارواح والاجساد فيخرج جميع مكمونات وجودكم ويجازيكم عليها ولكمال دقته ولطفه فى العلم بحيث يعلم جميع ما تخفونه علمتموها او لم تعلموها وجميع ما تعلمونه فيجازيكم عليها.
[27.26]
{ الله } خبر الذى او بدل منه او مبتدء خبره { لا إله إلا هو رب العرش العظيم } الى ههنا آخر حكاية قول الهدهد او آخرها يهتدون او الا يسجدوا على تخفيف اللام ابتداء كلام من الله او من سليمان (ع) او الا يسجدوا لله آخر الحكاية والذى يخرج الخبأ ابتداء كلام كذلك، او الله لا اله الا هو ابتداء كلام من الله، او من سليمان (ع).
[27.27]
{ قال سننظر أصدقت } فى هذا الاخبار { أم كنت من الكاذبين } لم يقل ام كذبت لانه قلما ينفك المخبر عن زيادة ونقيصة فى حكايته وليس مقصوده (ع) النظر فى انه ادخل فى اخباره كذبا بل مقصوده ان ينظر انه كذب وهو متعمد فى كذبه او صدق فى اصل اخباره دخل فيه كذب ما او لم يدخل.
[27.28]
{ اذهب بكتابي هذا } قد سبق مكررا ان امثال هذه مستأنف وجواب لسؤال مقدر { فألقه } قرئ بسكون الهاء تشبيها لهاء الضمير بالواو والياء الضميرين، او تشبيها لها بهاء السكت او اجراء للوقف مجرى الوصل { إليهم ثم تول عنهم } باخفاء حالك عنهم حتى تتمكن من استماع قولهم { فانظر ماذا يرجعون } يتكلمون بعضهم لبعض، وقيل: الكلمتان على التقديم والتأخير والاصل فانظر ماذا يرجعون ثم تول عنهم للذهاب الينا وايصال خبرهم، قيل: قال الهدهد انها فى حصن منيع قال سليمان (ع): ألق كتابى على قبتها، فجاء الهدهد فألقى الكتاب فى حجرها فارتاعت من ذلك وجمعت جنودها، وقيل: اتاها الهدهد وهى مستلقية على قفاها فألقى الكتاب على نحرها، وقيل: كانت له كوة مستقبلة للشمس تقع الشمس عندما تطلع فيها فاذا نظرت اليها سجدت؛ فجاء الهدهد الى الكوة فسدها بجناحيه فارتفعت الشمس ولم تعلم فقامت تنظر فرمى الكتاب اليها، فلما قرأت الكتاب جمعت الاشراف وهم يؤمئذ ثلاثمائة واثنا عشر قيلا.
[27.29]
سماه كريما لختمه، او لجودة مضمونه، او لتصدره ببسم الله، او لغرابته من حيث انه القى اليه مع انه لم يكن لاحد فى حصنه مدخل ومخرج، او لجلالة مرسله.
[27.30-31]
أى منقادين او مقدرين للاسلام الذى هو دين الهى.
[27.32]
قالت ذلك لانهم كانوا وزراءها واصحاب شورها وبمنزلة اعضاء دولتها.
[27.33-34]
{ قالوا نحن أولو قوة } نقدر على القتال مع السلاطين من حيث قوة الابدان ومن حيث العدد وتهية الاسباب { وأولو بأس شديد } يعنى بأسنا فى القتال شديد لانا شجعان وتدربنا القتال ولنا الحذاقة والمهارة فى امر القتال { و } لكن { الأمر } اى امر الصلح والقتال { إليك } ونحن مطيعون لك { فانظري ماذا تأمرين قالت } بطريق الشورى { إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلهآ أذلة } يعنى انهم ان غلبونا افسدوا بلادنا واذلوا اعزتنا { وكذلك يفعلون } تأكيد للتفصيل السابق او معترضة من الله لتصديقها وكأنه تأثر قلبها من الكتاب ولان للصلح واراد ان يستميل قومها للصلح بطريق الشور لا بطريق الامر.
[27.35]
لانها كانت تعلم عادة الملوك وانهم يرضون بالهدايا، فقالت، نرسل اليه بهدية فان قبلها فهو سلطان يريد الملك ويجوز المقاتلة معه، وان ردها واصر على طلب ما اظهر من الدين فهو رسول الهى وليس لنا ان نقاتل معه؛ واختلف فى هديتها فقيل: كانت وصفاء ووصائف البستهم لباسا واحدا حتى لا يعرف ذكر من انثى، وقيل: البست الغلمان لباس الجوارى والجوارى لباس الغلمان، وقيل: كانت صفائح من ذهب فى اوعبة من الديباج، وقيل: كانت خمسمائة غلام جعلتهم فى لباس الجوارى وحليهن، وخمسمائة جارية جعلتهن فى لباس الغلمان وحليهم، وحملت الجوارى على خمسمائة مكة والغلمان على خمسمائة برزون؛ على كل فرس لجام من ذهب مرصع بالجواهر، وبعثت اليه خمسمائة لبنة من ذهب وخمسمائة من فضة، وتاجا مكللا بالدر والياقوت، وعمدت الى حقة فجعلت فيها درة يتيمة غير مثقوبة وخرزة جزعية مثقوبة معوجة الثقب ودعت رجلا من اشراف قومها اسمه المنذر بن عمر وضمت اليه رجالا من قومها اصحاب رأى، وعقل وكتبت اليه كتابا بنسخة الهدية وقالت فيها: ان كنت نبيا فميز بين الوصفاء والوصائف، وأخبر بما فى الحقة قبل ان تفتحها، واثقب الدرة ثقبا مستويا، وادخل الخرزة خيطا من غير علاج انس ولا جن فانطلق الرسول بالهدايا، واقبل الهدهد مسرعا الى سليمان (ع) فأخبره الخبر فأمر سليمان (ع) الجن ان يضربوا لبنات الذهب ولبنات الفضة ففعلوا ثم امرهم ان يبسطوا من موضعه الذى هو فيه الى بضع فراسخ ميدانا واحدا بلبنات الذهب والفضة، وان يجعلوا حول الميدان حائطا شرفها من الذهب والفضة، ففعلوا، ثم قال للجن: على باولادكم فاجتمع خلق كثير فأقامهم على يمين الميدان ويساره، ثم قعد فى مجلسه على سريرة ووضع له اربعة آلاف كرسى عن يمينه ومثلها عن يسارة وامر الشياطين ان يصطفوا صفوفا فراسخ، وامر الانس فاصطفوا فراسخ، وامر الوحوش والسباع والهوام والطير، فاصطفوا فراسخ عن يمينه ويساره، فلما دنا القوم من الميدان ونظروا الى ملك سليمان تقاصرت اليهم انفسهم ورموا بما معهم من الهدايا ووقفوا بين يدى سليمان (ع) ونظر اليهم نظرا حسنا، وكانت بلقيس اوصتهم ان نظر اليكم نظر غضب فانه سلطان وان نظر نظر لطف فهو نبى، وقال سليمان (ع): ما وراءكم؟- فاخبره رئيس القوم بما جاؤا به وأعطاه كتاب الملكة، فنظر فيه وطلب الحقة، وأخبرهم بما فيه، وثقب الدرة بالارضة، وسلك الخيط فى الخرزة بدودة بيضاء، وميز بين الجوارى والغلمان، ورد هداياها اليها كما قال تعالى { فلما جآء سليمان قال أتمدونن بمال فمآ آتاني الله... }.
[27.36]
{ فلما جآء سليمان قال أتمدونن بمال فمآ آتاني الله } وقد رأيتم شطرا منه { خير ممآ آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون } يعنى انكم بهدية بعضكم لبعض تفرحون اذا كان من الاعراض الدنيوية لا انا لان فرحى بهدية القلب السليم والايمان الصحيح.
[27.37]
{ ارجع إليهم } ولم يذكر رجوع الهدايا لعدم الاعتداد بها { فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها } وقد رأيتم شيئا منها { ولنخرجنهم منهآ } اى من سبا او من عند بلقيس { أذلة وهم صاغرون } تأكيد للاذلة فلما رجعوا اليها وقصوا القصة علمت انه رسول من الله وعزمت على الخروج الى سليمان (ع) فلما علم بعزمها ورأى ان قلبها متعلق بعرشها.
[27.38]
{ قال } لاشراف جنوده { يأيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين } وقيل: ان هذا القول كان منه بعد ما وصلت بلقيس الى مكان قريب منه فانه كان مهيبا لا يبتدء بالكلام عنده حتى يكون هو الذى يسأل عنه فخرج يوما فجلس على سريره فرأى غبارا قريبا منه فقال: ما هذا؟ فقالوا بلقيس يا رسول الله وقد نزلت منا بهذا المكان وكان ما بينه وبين الكوفة على قدر فرسخ فقال: ايكم يأتينى بعرشها عند ذلك.
[27.39]
{ قال عفريت من الجن } العفريت بكسر العين النافذ فى الامر المبالغ فيه مع ذكاء وفطنة { أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك } اى من مجلسك الذى تقضى فيه وكان يجلس فيه، من غدوة الى نصف النهار { وإني عليه لقوي } فلا يفوتنى شيء من اجزائه بل آتيك به بجميع اجزائه من غير ان افصل اجزاءه { أمين } لا اخون فى شيء منه فقال سليمان (ع): اريد اسرع من ذلك.
[27.40]
{ قال الذي عنده علم } يسير { من الكتاب } القرآنى التكوينى الذى يتنزل فيصير فرقانا بصورة الكتب السماوية او بصورة الشرائع الالهية والرجل كان آصف بن برخيا وزير سليمان (ع) وابن اخته، وقيل: كان رجلا اسمه بلخيا، وقيل: كان اسمه اسطوم، وقيل: كان هو الخضر (ع)، وقيل: كان الذى عنده علم من الكتاب جبرائيل، وقيل: كان سليمان (ع) نفسه { أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك } قد حققنا فى مطاوى ما اسلفنا خصوصا فى اول سورة بنى اسرائيل ان الانسان ذو جزئين؛ جزء ملكى وجزء ملكوتى فاذا غلب الجزء الملكى كما فى اغلب الناس استهلك الجزء الملكوتى وحكمه فلم يظهر منه اثر وحكم، واذا غلب الجزء الملكوتى صار الجزء الملكى مستهلكا من غير بقاء اثر وحكم منه، ولما كان الملكوت حكمها عدم التقيد بالزمان والمكان بل الاحاطة بهما والتجرد منهما كان جميع الزمانيات والازمنة عندها كالآن وجميع المكانيات والامكنة كالنقطة وكان من غلب عليه الملكوت يقدر على تعرف حال الآتين والماضين، وعلى سير المشرق والمغرب فى آن واحد، وكان كل ما اتصل به من الاجسام الثقيلة يصير بحكمه من عدم التقيد بزمان ومكان كما ان عباء محمد (ص) ونعليه خرجت من حكم الملك بسبب اتصالها به وسارت بسيره فى الملكوت والجبروت بل فوق الامكان، اذا علمت ذلك، فاعلم ان آصف (ع) علم الاسم الاعظم الذى هو لطيفته الملكوتية ودعا الله تعالى بتلك اللطيفة يعنى انه تشأن بشأن تلك اللطيفة وفعل فعله بشأن تلك اللطيفة فصار ملكه مغلوبا لا حكم له، فلم يكن المسافة بينه وبين عرش بلقيس مانعة من اتصال يده الملكوتية به ولا الجبال والتلال حائلة بين نظره ويده وبين العرش، وبعد اتصال يده بالعرش صار العرش بحكم الملكوت وارتفع عن الزمان والمكان فلم يبق له حاجة فى حركته الى مدة ومضى زمان ولم يكن الجبال والتلال مانعة من حركته فوصل يده الى العرش واتى به فى آن واحد وهذا معنى قوله: قبل ان يرتد اليك طرفك يعنى فى اقصر من طرفة العين لا ما قالوه وفسروه به { فلما رآه } يعنى مد يده واتى به فى اقل من طرفة العين فلما رآه سليمان (ع) { مستقرا عنده قال } اظهارا لانعمام الله ورؤية للمنعم فى الانعام { هذا } اى اتيان وزيرى به قبل طرفة العين { من فضل ربي } على { ليبلوني أأشكر أم أكفر } هذه النعمة او مطلق نعمه { ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني } عنه وعن شكره { كريم } لا يمنع من كفر انعامه ويزيد من شكر افضاله، واختلف فى وجه الاتيان بعرشها؛ فقيل: انه اعجبته صفته فاراد ان يراه واحب ان يملكه قبل ان تسلم فيحرم عليه اخذ مالها، وهذا شبيه باقوال العامة، او اراد ان يختبر بذلك عقلها وفطنتها، او اراد ان يظهر معجزة عليها حين ورودها لانها خلفته فى دارها واوثقته ووكلت به ثقاه، وقيل كانت بلقيس محبة لها، فاراد ان لا يكون قلبها متعلقا بغيره وقت الورود.
[27.41]
{ قال } سليمان (ع) { نكروا لها عرشها } بتغيير هيئتها وصورتها وكان منظوره استخبارها كما قال { ننظر أتهتدي } الى معرفته { أم تكون من الذين لا يهتدون } او المعنى ننظر اتستدل بحضور العرش على صدقى ونبوتى وقدرة الله ام لا تهتدى.
[27.42-43]
{ فلما جآءت قيل } لها { أهكذا عرشك قالت كأنه هو } لم تثبته ولم تنكره لما رأت من مماثلته له فى جميع اجزائه واوضاعه وهيآته، ولما رأت من بعض تغييرات فيه بحسب الوانه واشكاله، وهذا من كمال العقل والحزم حيث لم تتبادر بتصديق وتكذيب وتثبتت فى امره، وقيل: عرفته لكن لما قالوا: اهكذا عرشك بطريق التشبيه اجابت بقولها: كأنه هو بطريق التشبيه لتطابق الجواب للسؤال، وقيل: كانت حكيمة فلو قالت: هو هو؛ خشيت التكذيب، ولو قالت: ليس به، خشيت ان تكذب، فقالت كلمة لا تكذب فيها، فقيل لها: هو عرشك، فما اغنى عنك اغلاق الابواب ولا قوة الحراس واهتمامهم بالحراسة وما اعجزنا بعد المسافة ولا عظمة العرش وثقله، فقالت { وأوتينا العلم } برسالة سليمان (ع) وان امره الهى غير بشرى { من قبلها } اى من قبل تلك الآية الظاهرة لنا من العرش واتيانه، او من قبل هذه الساعة، ويجوز ان يكون هذا من كلام سليمان (ع) او الذى قال: اهكذا عرشك، او قوم سليمان والمعنى واوتينا العلم بقدرة الله على امثال هذه قبل هذه الآية او قبل بلقيس، او اوتينا العلم بمجيء بلقيس او اسلامها قبل مجيئها فأتينا بعرشها { وكنا مسلمين وصدها ما كانت تعبد من دون الله } اى صد بلقيس سليمان او العرش حين رأته حاضرا عندها عن كونها تعبد من دون الله او عن التى تعبدها من دون الله وهى الشمس او صدها عن الايمان كونها تعبد من دون الله، او التى تعبدها من دون الله { إنها كانت من قوم كافرين } فى موضع التعليل وبعدما انقضى السؤال والجواب عن العرش.
[27.44]
{ قيل لها ادخلي الصرح } الصرح هو الموضع المنبسط من غير سقف، وقيل: انه قصر من زجاج، وقيل: كل بناء من زجاج او صخر او غير ذلك موثق فهو صرح، قيل: لما اقبلت بلقيس امر سليمان (ع) الشياطين ببناء الصرح من قوارير واجرى تحته الماء وجمع فى الماء الحيتان والضفادع ودواب البحر ثم وضع له فيه سرير فجلس عليه { فلما رأته حسبته لجة } قيل قالت: ما وجد ابن داود (ع) عذابا يقتلنى به الا الغرق وانفت ان تجبن فلا تدخل { وكشفت عن ساقيها } فلما رآها سليمان (ع) وكان عليهما شعور كرهتها سليمان فاستشار الجن فى ذلك فعملوا الحمامات وطبخوا النورة وكان اول ما صنعت النورة { قال } لها سليمان (ع): ليس ههنا ماء { إنه صرح ممرد } مملس { من قوارير قالت } بعد ما علمت انها اساءت الظن بنبى الله (ع) { رب إني ظلمت نفسي } بالظن السوء بنبيك { وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين } وللاشارة الى ضعفها وعدم استقلالها باسلامها قال: اسلمت مع سليمان (ع) واختلف فى امرها؛ فقيل: انه تزوجها سليمان واقرها على ملكها، وقيل: انه زوجها من ملك يقال له تتبع وردها الى ارضها، وامر اميرا من امراء الجن باليمن ان يطيعه ويعمل له، فصنع له المصانع باليمن.
[27.45-46]
{ ولقد أرسلنآ إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان } مؤمنون وجاحدون { يختصمون قال } صالح (ع) لهم بعد ما قالوا فأتنا بما تعدنا ان كنت من الصادقين { يقوم لم تستعجلون بالسيئة } بالعذاب { قبل الحسنة } اى قبل سؤال الرحمة { لولا تستغفرون الله } لولا تطلبون مغفرته وعفوه عما فعلتم { لعلكم ترحمون } منه.
[27.47]
{ قالوا اطيرنا } تشأمنا { بك وبمن معك } يعنى انك منذ ادعيت واتيت بدين جديد ابتلينا بالقحط والجدب والامراض وليس الا بشؤم دينك الجديد، وقد مضى فى سورة الاعراف وجه اطلاق التطير على التشأم { قال } لهم صالح (ع) { طائركم } اى سبب خيركم وشركم او سبب شركم { عند الله بل أنتم قوم تفتنون } تختبرون بالخير والشر لعلكم تذكرون ان هذه بشؤم اعمالكم فتلتجؤن الى الله وتصدقون رسوله (ع)، او المعنى انتم قوم تعذبون بتلك البلايا بشؤم اعمالكم.
[27.48]
{ وكان في المدينة } مدينة صالح (ع) { تسعة رهط } الرهط ويحرك قوم الرجل وقبيلته وتكون من ثلاثة او سبعة الى عشرة او ما دون العشرة ولا واحد له من لفظه وكان هذه الارهط من اشراف قوم صالح (ع) وهم الذين سعوا فى عقر الناقة { يفسدون في الأرض } ارض مدينتهم ونواحيها وارض عالمهم الصغير { ولا يصلحون } حتى يجعل اصلاحهم جبرانا لافسادهم.
[27.49-50]
{ قالوا تقاسموا بالله } امر ومقول للقول او ماض وبدل من قالوا او حال من فاعله والمعنى تحالفوا بالله لئلا يتخلف بعض { لنبيتنه } اى لندخلن عليه فى الليل لقتله { وأهله ثم لنقولن لوليه } اى ولى دمه قرئ الفعلان بالنون وفتح الآخر وبالتاء وضم الآخر { ما شهدنا مهلك أهله } هلاكهم او وقت هلاكهم او مكان هلاكهم يعنى ما علمناه فكيف بتولينا وانما قالوا مهلك اهله ولم يقولوا مهلكه اشعارا بان مهلكه اصعب من مهلك اهله ومن لم يشهد مهلك اهله لم يشهد مهلكه بالطريق الاولى، او وروا بذلك وكان مقصودهم ما شهدنا مهلك اهله فقط بل مهلكه ومهلك اهله ولذا قالوا { وإنا لصادقون ومكروا مكرا ومكرنا مكرا } تسمية فعل الله بالمكر اما من باب صنعة المشاكلة او للتشبيه بمكر العباد والا فالماكر لعجزه عن اعلان الاساءة يخفى الاساءة ويظهر ارادة الاحسان ليقدر على انفاذ اساءته والحق تعالى شأنه ليس عاجزا عن انفاذ مراده حتى يخفيه لعجزه { وهم لا يشعرون } باساءتنا المختفية.
[27.51]
{ فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم } قرئ بكسر الهمزة على الاستيناف بجعله جوابا لسؤال مقدر، وقرئ بفتح الهمزة على ان يكون بتقدير اللام او الباء او فى، او على ان يكون بدلا من اسم كان او خبرا لكان وكيف يكون حينئذ حالا او على ان يكون انا دمرناهم خبر مبتدء محذوف { وقومهم أجمعين } قيل كان لصالح (ع) بالحجر التى هى بلاد ثمود مسجد فى شعب يصلى فيه وقد وعدهم نزول العذاب بعد ثلاثة ايام فقال التسعة الارهاط يزعم انه يفرغ منا بعد ثلاثة فانا نفرغ منه ومن اهله قبل الثلاثة فذهبوا الى الشعب ليقتلوه فوقع عليهم صخرة فطبقت عليهم فم الشعب فهلكوا ثم وهلك الباقون فى اماكنهم بالصيحة.
[27.52]
{ فتلك بيوتهم خاوية } من خوى الدار مكسور العين ومفتوحها اذا خلت، او من خوت مفتوح العين فقط اذا تهدمت، وقيل: ان هذه البيوت بوادى القرى بين المدينة والشام { بما ظلموا } بظلمهم وفى هذه الآية دلالة على ان الظلم يخرب البيوت { إن في ذلك لآية لقوم يعلمون } خرابها، او يعلمون قصصهم او لهم علم وعقل.
[27.53]
{ وأنجينا الذين آمنوا } به او بالله { وكانوا يتقون } يعنى صار سجيتهم التقوى لان تخلل كان يفيد هذا المعنى، قيل: كانوا رابعة آلاف خرج بهم صالح (ع) الى حضرموت وسميت حضرموت لان صالحا (ع) لما دخلها مات.
[27.54]
{ ولوطا } عطف على مجموع الى ثمود صالحا { إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة } التى هى اتيان الذكور { وأنتم تبصرون } بصراء، او تعلمون قبحه، او ترون بعضكم من بعض.
[27.55]
{ أإنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النسآء } بدل تفصيلى من قوله اتأتون الفاحشة { بل أنتم قوم تجهلون } تفعلون افعال الجهال او تجهلون قبح هذه الافعال وسوء عاقبتها، او تجهلون القيامة والدار الآخرة، او انتم صاحبوا الجهل.
[27.56]
لما لم يكن لهم جواب بالحجة هددوه بالقتل والاخراج، ولما لم يكن لوط (ع) من اهل قريتهم قالوا أخرجوه وعللوه بطهارتهم عن مثل افعالهم.
[27.57-59]
{ فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها } اى كونها { من الغابرين وأمطرنا عليهم مطرا } عجيبا وهو مطر الحجر { فسآء مطر المنذرين قل الحمد لله } بعدما ذكر قصص الانبياء (ع) وما خصهم به من الآيات الدالة على صدقهم وقدرة الله وحكمته ومن الانتصار لهم من اعدائهم امر الرسول (ص) بالحمد شكرا لنعمه التى انعم بها على رسله لان انعام الرسل كان مقدمة لارساله وانعاما عليه { وسلام } عطف على الحمد لله يعنى وقل سلام { على عباده الذين اصطفى } لانك علمت تخصيص الله اياهم (ع) من بين العباد فحيهم بتحية خواص الله ، او مستأنف من الله تحية لرسله (ع) { ءآلله خير أما يشركون } اى اقوام الرسل (ع) من الاصنام والكواكب والعجل والملائكة والشياطين والاهوية.
[27.60]
{ أمن خلق السماوات والأرض } ام منقطعة متضمنة للاستفهام، ومن موصولة بدل من الله، ولما كان المقصود الزامهم على ان الله خير مما يشركون وانهم فى اختيار غير الله عليه سفهاء وكان ما بعد ام فى تلك الفقرات الآتية اوضح فى هذا المعنى وابلغ اضرب عن قوله آلله خير ام ما يشركون وقال بل من خلق السماوات والارض خير ام ما يشركون، ويجوز ان يكون من استفهامية وام منقطعة غير متضمنة للاستفهام ويكون الكلام مستأنفا { وأنزل لكم من السمآء مآء فأنبتنا به حدآئق } رياضا وبساتين { ذات بهجة } ذات منظر صحيح يبتهج به، والتفت الى التكلم للاشعار بان انبات الحبوب واللبوب والعروق التى هى جماد وانماؤها واخراج الاوراق والغصون والاثمار عليها خارج عن عهدة الاسباب الطبيعية من دون حضور الله واسبابه الغيبية، وللاشارة الى ان الناظر الى الاسباب ينبغى ان يكون نظره اليها بحيث ينتقل منها الى مسبب الاسباب فاذا نظر الى سبب او سببين ينبغى ان ينتقل الى المسبب وتمثل وحضر عنده المسبب { ما كان لكم أن تنبتوا شجرها } وان كنتم فى غاية الاهتمام وفى غاية التدبير والتربية فانه لو لم يختلف عليها الايام والليالى ولم يكن حر النهار وبرد الليالى ما نبتت وما نمت، وتخلل كان فى امثال هذا لنفى الصحة والامكان اى ما صح وما امكن لكم { أإله مع الله } مما يعدونه آلها { بل } ليس اله مع الله ف { هم قوم يعدلون } بالله غيره او يعدلون عن الحق.
[27.61]
{ أمن جعل الأرض قرارا } يمكن لكم التعيش عليها او يمكن لكم تحصيل معايشكم منها { وجعل خلالهآ أنهارا } هى عمدة اسباب معايشكم { وجعل لها رواسي } بسببها يمكن جريان الانهار وتوليد المياه وبها سكون الارض؛ هذا بحسب التنزيل وبحسب التأويل لا يكون لكم خير ولا شر ولا قليل ولا كثير الا بها ولولاها لفنى الكل ولم يبق ذرة من الذرات { وجعل بين البحرين حاجزا } مانعا من اختلاط الماء العذب بماء الملح الاجاج وبحسب التأويل جعل بين عالم الشرور وعالم النور حاجزا مانعا من اختلاط عالم الزور وافساده لكم ولعالمكم وقد مر فى سورة الفرقان بيان البحرين وحاجزها { أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون } ليس لهم علم وملحقون بالبهائم او اكثرهم لا يعلمون الله وصفاته.
[27.62-64]
{ أمن يجيب المضطر إذا دعاه }.
معنى المضطر
اعلم، ان الانسان من اول استقرار مادته فى مقرها الذى هو الرحم جماد بالفعل، ونبات بالقوة القريبة، وحيوان بالقوة البعيدة، وانسان طبيعى ملكى بالقوة التى هى ابعد، وانسان ملكوتى وجبروتى بالتى هى ابعد، ولكنه فى تلك الحال يقتضى بفطرته القرار فى الرحم والاغتذاء بدمها وسائر رطوباتها ويتشبث بها ويجذب من رطوباتها، ثم يصير نباتا بالفعل، ثم حيوانا مثل حيوانية الخراطين حتى يتولد فيصير حيوانا بالفعل وانسانا ملكيا بالقوة حتى اذا بلغ الى مقام التميز والمراهقة فيصير انسانا ضعيفا بالفعل وكذلك شيطنته تكون ضعيفة وقوته الشهوية والغضبية تكون قوية بحيث تغلب الانسانية والشيطانية، وبشهوته يطلب المشتهى ويجذبه، وبغضبه يدفع من يمانعه عنه ويغضب عليه، وبشيطانيته الضعيفة يحتال فى تحصيله حيلا ضعيفة، وبانسانيته الضعيفة يخجل من ظهور بعض افعاله خجلة ضعيفة، فاذا بلغ الى مقام البلوغ والرشد واستعد لتعلق التكليف به صار انسانيته وشيطانيته قويتين كما ان شهوته وغضبه يصيران قويين، وبشهوته القوية يشتد طلبه لمشتهياته، وبغضبه القوى يشتد دفعه وغضبه على من يمانعه، وبشيطنته القوية يشتد حيلته فى طلبه، وبانسانيته يشتد انزجاره وخجلته عما ينافى انسانيته، فان ساعده التوفيق ودعاه الداعى الآلهى دعوة ظاهرة او دعوة باطنة وقبل الدعوة وبايع البيعة العامة او البيعة الخاصة وصار مسلما او مؤمنا وعمل بما اخذ عليه فى بيعته صار انسانيته فى الاشتداد وسلك الى الله وادبر عن العالم واسبابه، حتى انه يقطع النظر عن الاسباب ويتوجه بشراشره الى مسبب الاسباب، وهذا اضطرار تكليفى فان الاضطرار هو قطع النظر عن الوسائل والاسباب والتوجه الى مسبب الاسباب والتوسل به واليه اشار الصادق (ع) بقوله: فالاضطرار عين الدين، وقد مضى تفصيل للدعاء وطريقه فى سورة البقرة عند قوله تعالى:
إذا سألك عبادي عني فإني قريب
[البقرة:186]، واذا لم يتمسك بذيل نبى (ع) او وصى نبى (ع) ولم يبايع بيعة اسلامية او بيعة ايمانية كان قواه البهيمية والسبعية والشيطانية فى الاشتداد وقوته الانسانية فى الضعف فى اغلب الناس وفى اغلب الاوقات حتى يختفى الانسانية تحت القوى الثلاث ويكون الحكم لتلك القوى والآثار منها فقط لكن هذا الانسان قد يبتلى حتى يعجز الشيطنة عن الاحتيال وييأس الشهوية عن المشتهى والآمال ويحسر الغضبية عن الدفع والبسط فان المدركة تدرك المشتهى والشيطنة باستعمال المتخيلة واظهار الواهمة والخيال الصور والمعانى عليها تتصرف وتحتال للوصول اليه وتحرك العمالة لطلبه، واذا وجدت مانعا ودافعا لها عن الوصول حركت الغضبية لدفعه فان تيأس عن الوصول سكنت المتخيلة عن الحركة والتصرف، والواهمة والخيال عن اظهار المعانى والصور، والعمالة عن الطلب، والشهوة والغضب عن الاشتهاء والدفع، وحينئذ يظهر الانسانية من غير حاجب ومعاوق ولما كان فطرتها التضرع والالتجاء الى الله والسؤال منه تضرعت بفطرتها والتجأت وسألت؛ وهذا هو الاضطرار التكوينى الفطرى وكلا الاضطرارين لما كان مظهرا لانسانية الانسان وكان اللطيفة السيارة الانسانية لطيفة الهية كان لسانها لسان الله وسؤالها سؤال الله وسؤال الله من نفسه لا يرد بل يجاب، والى هذا الاضطرار وكون لسان الداعى حين الاضطرار لسان الله اشار المولوى قدس سره بقوله:
هم دعا از من روان كردى جوآب
هم ثباتش بخش وكردان ستجاب
هم تو بودى اول آرنده دعا
هم تو باش آخر اجابت را رجا
جون خدا از خود سؤال وكد كند
بس سؤال خويش راكى رد كند
هم دعا ازتو اجابت هم زتو
ايمنى از تو مهابت هم ز تو
وهذا المضطر ان كان اضطراره تكليفيا غلب لا محالة على القوى الثلاث وملكهم فى الصغير واذا ملك فى العالم الصغير ينتهى مالكيته الى المالكية فى العالم الكبير وليست هذه المالكية وتلك الاجابة الا من الله تعالى وان كان اضطراره تكوينيا وبقى على اضطراره انتهى اضطراره الى الاضطرار التكليفى، والاضطرار التكليفى يصير سببا للمالكية والاستخلاف فى العالمين { ويكشف السوء } اجابة لدعائه، والسوء اعم من الواردات الغير الملائمة لانسانية الانسان وحيوانيته ومن تبعات الذنوب ومن النقائص اللازمة له من الانانية والحدود { ويجعلكم } التفت من الغيبة الى الخطاب للاشعار بان المضطر اذا صار اهلا للخلافة يصير له حالة الحضور والتخاطب وبدون حصول حالة الحضور له لم يكن له شأنية الخلافة { خلفآء الأرض } خلفاء ارض العالم الصغير والكبير كما ذكر، واما التفسير بخلافة الماضين بايراث ارضهم واموالهم فلا يناسب ذكره بعد اجابة المضطرين وكشف السوء عنهم خصوصا على ما ورد عنهم ان الواو فى القرآن للترتيب، عن الصادق (ع) ان الآية نزلت فى القائم من آل محمد (ص) هو والله المضطر اذا صلى فى المقام ركعتين ودعا الله عز وجل فأجابه ويكشف السوء ويجعله خليفة فى الارض { أإله مع الله قليلا ما } اى تذكر قليلا او شيئا قليلا اى قليل من آلاء الله { تذكرون أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر } باعطاء القوى والمشاعر وانضباط الكواكب فى حركاتها { ومن يرسل الرياح } كرر من لان ارسال الرياح جنس سوى جنس الهداية { بشرا بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى الله عما يشركون أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السمآء } بتسبيب الاسباب السماوية من اشعة الكواكب وتخالف الليل والنهار وتحريك السحاب وانزال الامطار، او المراد سماء عالم الارواح ورزق الانسان من العلوم والاحوال والاخلاق والمكاشفات { والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } يعنى ان هذه الافعال لا يجوز ان تنسب الى معبوداتكم وهذه هى افعال الله فلا يجوز ان يكون شيء من معبوداتكم شريكا له تعالى فى ذلك، واذا لم يكن شريكا له تعالى فى ذلك لم يكن شريكا له فى العبادة، فان استحقاق العبادة ليس الا بهذه.
[27.65]
{ قل } يا محمد (ص) { لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله }.
معنى الغيب
اعلم، ان السماء تطلق على ما له علو وارتفاع وتأثير فيما دونه، والارض تطلق على ما له دنو وانفعال، وهذان المعنيان لا اختصاص لهما بالسماء والارض الطبيعيتين بل جملة عالم الارواح بهذا المعنى سماوات وجملة عالم الاجسام الملكية والملكوتية العلوية والسفلية اراض، والغيب ما كان غائبا عن نظر من كان ذلك الغيب غيبا له سواء كان مشهودا حاضرا لغيره او لم يكن، والمراد بمن فى السماوات والارض من كان متحددا بحدودهما غير خارج من حجب تعيناتهما، فان الانسان الملكى هو الذى يكون محتجبا تحت حدود الملك ويكون ادراكاته مقصورة على المحسوسات فان المدرك فى ادراكه لا بد وان يكون سنخا للمدرك بل متحدا معه فالمدرك اذا كان ملكيا كان مدركه ايضا ملكيا وهذا المدرك يكون جميع ما فى السماوات من السماوات الطبيعية وسماوات الارواح غيبا بالنسبة اليه والانسان الملكوتى لا يتجاوز ادراكه الملكوت ولا يكون مدركه مجردا صرفا ويكون المجردات عن التقد رغيبا بالنسبة اليه والانسان الجبروتى المتحدد بحدود العقول لا يتجاوز ادراكه الى عالم المشية وعالم المشية غيب بالنسبة اليه فصح ان يقال: لا يعلم جميع المتحددين بحدود سماوات الارواح واراضى الاشباح الغيب الذى هو عالم الاسماء والصفات الا الله ويكون الاستثناء منقطعا ان خصص لفظة من الموصولة بالممكنات، او متصلا ان لم تخصص.
علم الائمة (ع)
والاشكال بان الائمة كانوا يعلمون علم ما كان وما هو كائن وما يكون الى يوم القيامة وان عليا (ع) واصحابه كانوا يعلمون علم المنايا والبلايا والانساب غير وارد، فانهم غير من فى السماوات والارض لعدم تحددهم بحدودهما لخروجهم الى مقام الاطلاق الذى هو المشية وفى ذلك المقام لا فرق بينهم وبين حبيبهم فعلمهم فى ذلك المقام علم الله، واما سائر مقاماتهم المقيدة بحدود السماوات او الارض فانهم فى تلك المقامات يعلمون بتعليم الله اى بتعليم مقامهم المطلق الذى لا فرق بينهم وبينه بمعنى انهم فى ذلك فانون من انانياتهم وباقون بوجود الله لا بوجوداتهم فهم يعلمون بعلم الله الغيب عن السماوات والارض ويعلمون بتعليم الله سائر مقاماتهم المحدودة بحدودات المقامات النازلة، روى ان امير المؤمنين (ع) اخبر يوما ببعض الامور التى لم يأت بعد فقيل له: اعطيت يا امير المؤمنين علم الغيب؟- فضحك وقال: ليس هو بعلم غيب انما هو تعلم من ذى علم؛ وانما علم الغيب علم الساعة وما عدده الله سبحانه بقوله: ان الله عنده (الآية) فيعلم سبحانه ما فى الارحام من ذكر او انثى، وقبيح او جميل، وسخى او بخيل وشقى او سعيد، ومن يكون للنار حطبا او فى الجنان للنبيين مرافقا فهذا علم الغيب الذى لا يعلمه الا الله، وما سوى ذلك فعلم علمه الله نبيه (ص) فعلمينه ودعا لى ان يعيه صدرى وتضم عليه جوارحى، وبعد ما سبق لا حاجة لك الى بيان اجزاء الحديث { وما يشعرون أيان } اى فى اى مقام من مقامات البعث { يبعثون } فان المحدود بحد من حدود السماوات والارض لا يعلم وقت قيامه من مرقد حده ولا مقام قيامه منه والمطلق من ذلك الحد يعلم وقت بعثه ومقامه بعلم الله لا بعلم نفسه.
[27.66]
{ بل ادارك علمهم في الآخرة } اى يفنى علمهم فى الآخرة او يتكامل ويتلاحق علمهم فى الآخرة او فنى علمهم فى حق الآخرة بمعنى انهم لا يعلمون شيئا من الآخرة او تلاحق اسباب علمهم فى حق الآخرة من الآيات والعلامات الدالة على وجود الآخرة، قرئ بل ادارك مغير تفاعل وبل ادرك من باب الافعال، وبل ادرك من الافتعال وبل درك بفتح اللام وسكون الدال الخفيفة من باب الافعال بنقل حركة الهمزة الى اللام وحذفها وبل اءدرك وبل اتدارك وبلى ادرك وبلى اءدرك وام ادرك وام تدارك { بل هم في شك منها } اى من الآخرة { بل هم منها عمون } فان الشاك فى شيء يتصور ذلك الشيء ثم يشك فى ثبوته او يثبته او ينفيه وهؤلاء كانوا عميانا من امر الاخرة لا يدركونها لا بالتصور ولا بالتصديق، وترتب الاضرابات ووجه ترتبها بحسب معانى الادراك موكول الى ذوق الناظر.
[27.67]
{ وقال الذين كفروا } بالآخرة والبعث { أإذا كنا ترابا وآبآؤنآ أإنا لمخرجون } جواب اذا محذوف وقوله اءنا لمخرجون تأكيد للاول والتقدير ءاذا كنا ترابا نخرج ءانا لمخرجون.
[27.68]
{ لقد وعدنا هذا نحن وآبآؤنا من قبل } ووعد آباؤنا من قبلنا او من قبل وعدنا ولم يظهر منه شيء { إن هذآ إلا أساطير الأولين } الاحاديث التى لا نظام لها والاسمار التى لا حقيقة لها جمع الاسطار جمع السطر، او جمع الاسطار او الاسطير بكسر الهمزة فيهما او الاسطور بضم الهمزة بدون التاء او مع التاء فى الكل كما مضى سابقا.
[27.69]
{ قل } لهم { سيروا في الأرض } اى ارض الطبع فى العالم الكبير او الصغير او السر واخبار الماضين او ارض القرآن واخبار الانبياء (ع) { فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين } الذين اجرموا بانكار الآخرة ثم انكار الرسل (ع) وعدم طاعتهم فى امر الآخرة.
[27.70]
{ ولا تحزن عليهم } يعنى انك لغاية رحمتك تريد ان يكون جميع العباد مطيعين مرحومين واذا لم يطيعوا او يستحقوا العذاب تحزن عليهم ولا ينبغى ان تحزن عليهم لان عدم ايمانهم وطاعتهم مسبوق بمشيتنا { ولا تكن في ضيق مما يمكرون } فان الله ناظر اليك واليهم والى مكرهم ولا ينفذ مكرهم الا بمشيتنا واذا شئنا نفاذه كان لحكم ومصالح راجعة اليك.
[27.71]
{ ويقولون متى هذا الوعد } وعد العذاب او وعد القيامة او الرجعة { إن كنتم صادقين } استبطئوا العذاب او الساعة استهزاء بقرينة ردف لكم بعض الذى تستعجلون او سألوا عن وقتها استهزاء.
[27.72]
{ قل عسى أن يكون ردف لكم } قرب منكم او تبعكم { بعض الذي تستعجلون } من العذاب، قيل: هذا البعض عبارة عن القتل والاسر يوم بدر او العذاب عند الموت او الذى فى البرازخ.
[27.73-74]
{ وإن ربك لذو فضل على الناس } فلذلك يمهلهم لعلهم يتوبون وينعم عليهم بأنواع النعم الظاهرة والباطنة لعلهم يشكرون { ولكن أكثرهم } لا يشعرون بالنعم لأنهم كالانعام ف { لا يشكرون وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم } مما يخفونه من غيرهم من النيات والعزمات والارادات والاخلاق والاحوال والخيالات والخطرات، او يعلم ما تكن صدورهم من انفسهم من المكمونات التى لا شعور لهم بها { وما يعلنون } من الاقوال والافعال او ما يعلنون على غيرهم وعلى انفسهم حتى يكون الخيالات والخطرات فيما يعلنون.
[27.75]
{ وما من غآئبة } مصدر او اسم مصدر بمعنى ما غاب او اسم خالص بمعناه او وصف بمعنى خصلة او ذرة غائبة { في السمآء والأرض إلا في كتاب مبين } ظاهر بنفسه او ظاهر ما فيه او مظهر ما فيه، وهذا من قبيل التعميم يعنى يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون بل جميع الذرات الغائبة عن جميع الخلق فى السماوات والارض.
[27.76]
{ إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل } كلام منقطع عن سابقه لفظا ومعنى او جواب لسؤال مقدر عن علة الحكم ولذلك لم يأت باداة الوصل { أكثر الذي هم فيه يختلفون } من الجنة واوصافها، والجحيم وآلامها، والخلود وعدمه، والتشبيه والتنزيه، وسائر الاوصاف الربوبية والنبى الموعود الذى بشر به موسى (ع) وسائر الانبياء (ع) واحكام التوراة التى يخفون اكثرها واختلفوا فيها.
[27.77]
{ وإنه لهدى } ذو هدى او هاد او سبب هداية، او حمله على القرآن للمبالغة { ورحمة } سبب رحمة { للمؤمنين } فان غيرهم لا ينتفعون به او يكون ضلالة ونقمة عليهم.
[27.78]
{ إن ربك يقضي } جواب سؤال مقدر كأنه قيل: ما يفعل الله بهم فى اختلافهم؟- فقال: يقضى { بينهم بحكمه } الذى يكون لائقا بهم لا بحكمهم الذى اخترعوه من عند انفسهم { وهو العزيز } الذى لا يمنع من نفاذ حكمه { العليم } الذى يعلم دقائق استحقاقهم.
[27.79]
{ فتوكل على الله } يعنى فانظر الى قضائه النافذ فيهم وتصريفه التام لهم على ما يشاء واسترح من تعب النظر الى افعالهم وتوكل على الله فى امورك وجملة افعالهم واقوالهم { إنك على الحق المبين } فلا تشك فيما انت فيه فيزول توكلك، وهذا تسلية له (ص) ولامته ومنع لهم عن الارتياب.
[27.80]
{ إنك لا تسمع الموتى } جواب سؤال مقدر كأنه قال: افلا اقول شيئا؟- فقال: لا تقل لهم شيئا لانهم موتى وانك لا تسمع الموتى { ولا يسمع الصم الدعآء } يعنى انت لا تقدر على اسماعهم لانهم موتى عن الانسانية وهم لا يقدرون على سماع نداء الانسان لانهم صم عن نداء الانسان، وقرئ لا تسمع بالخطاب والصم بالنصب { إذا ولوا مدبرين } فلا يفهمون الاشارة ايضا ومدبرين حال تأكيدى او غير تأكيدى.
[27.81]
{ ومآ أنت بهادي العمي عن ضلالتهم } لعجزهم عن رؤية الطريق كلما اريتهم الطريق { إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا } اى من يشرف على الايمان او من يصدق ويذعن بآياتنا التكوينية الحاصلة فى الآفاق او فى الانفس خصوصا الانبياء والاولياء (ع) او التدوينية او يؤمن بالبيعة العامة او الخاصة { فهم مسلمون } بالبيعة العامة او منقادون للاستماع.
[27.82]
{ وإذا وقع القول عليهم } اى قول ظهور القائم عجل الله فرجه فى العالم الصغير والعالم الكبير وفسر بنزول العذاب بهم عند اقتراب الساعة { أخرجنا لهم دآبة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون } وهذه من علامات ظهور القائم (ع) ويكون عند طلوع الشمس من مغربها وفسر الدابة بأمير المؤمنين (ع) وانه يخرجه الله فى احسن صورة ومعه ميسم يسم به اعداءه، وعنه (ع): وانى لصاحب العصا والميسم والدابة التى تكلم الناس، وعنه (ع) فى حديث: معها اى الدابة خاتم سليمان (ع) وعصا موسى (ع) تضع الخاتم على وجه كل مؤمن فينطبع فيه: هذا مؤمن حقا، وتضع العصا على وجه كل كافر فيكتب: هذا كافر حقا.
[27.83]
{ ويوم نحشر من كل أمة فوجا } يعنى يوم الرجعة ويوم ظهور القائم (ع) فى الصغير او فى الكبير، ويجوز ان يراد يوم القيامة وهو عطف على اذا او مقدر باذكر { ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون } يحبس اولهم على آخرهم حتى يتلاحقوا.
[27.84-85]
{ حتى إذا جآءوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أما ذا كنتم تعملون ووقع القول عليهم } اى العذاب الموعود { بما ظلموا } الآيات اى آل محمد (ص) { فهم لا ينطقون } باعتذار لعدم امكان النطق لشدة العذاب او لعدم الاذن لهم فى النطق، فى خبر عن الصادق (ع): الآيات امير المؤمنين (ع) والائمة (ع)، فقال الرجل: ان العامة تزعم ان قوله عز وجل: ويوم نحشر من كل امة فوجا عنى يوم القيامة فقال: فيحشر الله عز وجل يوم القيامة من كل امة فوجا ويدع الباقين؟- لا؛ ولكنه فى الرجعة، واما آية القيامة فهى وحشرناهم فلم نغادر منهم احدا.
[27.86]
{ ألم يروا } جواب سؤال مقدر كأنه قيل: هل يكون ذلك؟- فقال: انه سيكون فانه لم يدعكم فى الدنيا مهملين مع انها مقدمة للآخرة وهيأ لكم جميع ما تحتاجون اليه فى تعيشكم فلا يدعكم فى الآخرة مهملين الم يروا { أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه } بالنوم وسكون القوى عن هيجانها، والروح عن انتشارها، والنفس عن خيالاتها { والنهار مبصرا } مجاز عقلى او بمعنى سبب ابصار او بمعنى الجاعل بصيرا { إن في ذلك لآيات } عديدة دالة على علمه تعالى وقدرته وحكمته ورأفته بعباده وتربيته لهم بأحسن ما يكون وعدم اهماله لهم فى الدنيا التى هى مقدمة لدار آخرتهم وقنطرة للعبور الى منازلهم فلا يهملهم فى الآخرة من غير حساب وثواب وعقاب او من غير بقاء وحيوة { لقوم يؤمنون } بالله او بالآخرة.
[27.87]
{ ويوم ينفخ } عطف على يوم نحشر { في الصور } هو كما مضى جمع الصورة سواء كان مخفف الصور بضم الصاد وفتح الواو او كان بنفسه جمعا، او هو قرن من حديد ينفخ فيه النفخة الاولى لاماتة الاشياء، والنفخة الثانية لاحيائها وبعثها، ويحتمل ان يراد النفخة الاولى ويكون قوله { ففزع من في السماوات ومن في الأرض } فزع الموت، وقيل: ينفخ ثلاث نفخات؛ نفخة الفزع، ونفخة الاماتة، ونفخة الاحياء، ويجوز ان يراد نفخة الاحياء فيكون المراد بالفزع فزع الحيوة بعد الموت { إلا من شآء الله } ان لا يفزعوا او لا يموتوا، وهم الملائكة الذين هم باقون ببقاء الله لا ببقاء انفسهم، موجودون بوجود الله لا بوجود انفسهم، وكذلك الانبياء (ع) الذين كانوا على تلك الحال، وقيل: هم جبرائيل وميكائيل واسرافيل وعزرائيل (ع)، وقيل: روى فى خبر: ان المراد بهم الشهداء فانهم لا يفزعون فى ذلك اليوم والمراد بالآمنين من جاء بالحسنة فانه تعالى قال: { وهم من فزع يومئذ آمنون } كما يجيء { وكل } من الفزعين { أتوه داخرين } وان كان المراد بالفزع فزع الموت كان المراد به ان كلهم بعد احيائهم يأتونه صاغرين.
[27.88]
{ وترى الجبال } الخطاب لمحمد (ص) او عام، وان كان الخطاب لمحمد (ص) كان المراد انك ترى الجبال ببصرك البشرى او كان الكلام على اياك اعنى واسمعى يا جارة { تحسبها جامدة } اى واقفة ساكنة فى امكنتها فان الجمود قد يستعمل فى الوقوف عن الحركة كما يستعمل مقابل السيلان { وهي تمر مر السحاب } اى تسير نحو سير السحاب فى سرعة الحركة وقطع المسافة، وهذا يجوز ان يكون اشارة الى تجدد الامثال بنحو الاتصال ويكون الانعدام والانوجاد بنحو الاتصال غير محسوس بالانظار كما ان الدائرة المحسوسة الحاصلة من الحركة التوسطية التى تكون للشعلة الجوالة غير موجودة فى نفس الامر ولكن بواسطة اتصال الانعدامات والانوجادات ترى بالابصار دائرة؛ وعليه العرفاء الكاملون وبتلك الآية يستشهدون، ويجوز ان يكون اشارة الى حركة الارض دون الشمس؛ وعليه الطبيعيون من الافرنج وعليه بناء هيئتهم الجديدة، وان يكون اشارة الى انحلال الابدان واغتذائها ببدل ما يتحلل منها، وان يكون اشارة الى تبدل انانية النفس بانانية الله وانانية العقل او تبدل انانية العقل بانانية الشيطان، وان يكون اشارة الى سير النفوس الكاملة فان سيرهم يكون كل آن الى عرش ربهم، واليه اشار المولوى قدس سره:
سير زاهد هر مهى تا بيشكاه
سير عارف هر دمى تا تخت شاه
وان يكون اشارة الى القيامة ووقت ان يكون الجبال كالعهن المنفوش فانها حينئذ تكون فى الحركة السريعة لا يدرك بالابصار حركتها لبعد اطرافها وعدم احاطة النظر باطرافها لكن قوله تعالى { صنع الله } فى مقام مدحه يدل على المعانى السابقة { الذي أتقن كل شيء } بحيث لا يدرك ما فيه من الاوصاف ويدرك على خلاف ما له من الاوصاف { إنه خبير بما تفعلون } تعليل لقوله: ترى الجبال تحسبها جامدة؛ باعتبار لازم الحكم الذى هو العلم برؤيتها وحسبانها كذلك او هو بمنزلة النتيجة لقوله: اتقن كل شيء فانه اذا اتقن كل شيء أتقن كل نفس وتعلقها ببدنها وتصرفها فى حركاتها وسكناتها فهو خبير بما تفعلون من الخير والشر وهو وعد ووعيد ولذلك عقبه بقوله { من جآء بالحسنة فله خير منها }.
[27.89]
{ من جآء بالحسنة فله خير منها } الى العشرة الى ما شاء الله، اوله خير ناش من تلك الحسنة { وهم من فزع يومئذ آمنون } والمراد بالحسنة الجنس او الحسنة المعهودة التى هى ولاية على (ع) الحاصلة للانسان بالبيعة الخاصة الولوية وبالتوبة والتلقين فانه اذا لم يبايع الانسان مع ولى امره لم يحصل له لب كما اذا لم يؤبر النخلة لم يحصل لها ثمر، واذا حصل له لب بالولاية ولم يستر فعليته الحاصلة بالولاية بأغشية الأهوية والآمال يكون آمنا من جميع ما يفزع غيره يوم القيامة وهذا هو المراد بقرينة قرينه الذى هو قوله تعالى { ومن جآء بالسيئة }.
[27.90]
{ ومن جآء بالسيئة } فانه اذا اريد بالسيئة الجنس لزم ان يكب صاحبها فى النار وليس كذلك وأذا اريد بالسيئة محبة اعداء اهل البيت وولايتهم صح ان يقال { فكبت وجوههم في النار } مقولا لهم { هل تجزون إلا ما كنتم تعملون } وقد فسر الحسنة والسيئة فى اخبار عديدة بولاية اهل البيت (ع)، وبغضهم قل لهم.
[27.91]
{ إنمآ أمرت أن أعبد رب هذه البلدة } يعنى مكة فانها شريفة عندكم وربها يستحق العبادة { الذي حرمها } جعلها حراما هتكها { وله كل شيء } تعميم بعد تخصيص { وأمرت أن أكون من المسلمين } المنقادين.
[27.92]
{ وأن أتلو القرآن } عليكم وادعوكم بتلاوته ولا ابالى بردكم وقبولكم { فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه } لا لى { ومن ضل فقل إنمآ أنا من المنذرين } لا من الهادين حتى احزن على ضلالكم.
[27.93]
{ وقل الحمد لله } على ما انعم على وعلى ما امرت ولم يكلفنى ما لم اطقه من دعوة القوم وهدايتهم، او على جعله الولاية آيته العظمى { سيريكم آياته } عند مشاهدتها حال الاحتضار او فى القيامة وخصوصا الآيات العظمى { فتعرفونها } من حيث كونها آيات { وما ربك بغافل عما تعملون } تهديد لهم واضافة لرب الى محمد (ص) بالخطاب، وجمع تعملون اشارة الى لطيفة هى عدم لياقتهم لاضافة الرب اليهم.
[28 - سورة القصص]
[28.1-2]
اى الظاهر او المظهر الذى هو عبارة عن القلم الا على او عن اللوح المحفوظ او القرآن التدوينى.
[28.3]
اى لانتفاعهم فان غيرهم لا ينتفعون به.
[28.4]
{ إن فرعون } جواب سؤال مقدر كأنه قيل: ما ذلك النبأ { علا في الأرض } اى ارض مصر { وجعل أهلها شيعا } بان جعل القبطى مكرما بانواع الكرامة والسبطى مهانا بانواع الاهانة او جعل السبطى فرقا متفرقة فى الاستعباد والاعمال الشاقة فانهم كانوا أهل مصر واحق بها لكن قوله تعالى { يستضعف طآئفة منهم } يدل على المعنى الاول { يذبح أبنآءهم } بدل من يستضعف { ويستحيي نساءهم } يعنى يستبقى البنات او يتجسس حياء النساء لطلب الحمل او لطلب العيب { إنه كان من المفسدين } فى الارض بمنع اهلها من طلب كمالهم والوصول الى رسول او امام، او بالقتل والاستعباد من غير استحقاق.
[28.5]
{ ونريد } كان المناسب ان يقول واردنا لكنه عدل الى المضارع للاشارة الى استمرار هذه الارادة ماضيا ومستقبلا، والى جهة التأويل فان فرعون عالم الصغير عال فى ارضه ويريد الله ان يمن على موسى هذا العالم وقومه، والى تسلية الرسول (ص) فانه بعد ما اطلع على ما سيقع باهل بيته حزن عليه فقال تعالى نريد على سبيل الاستمرار { أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض } فلا تحزن فان استضعاف اهل بيتك سبب لمنتنا عليهم { ونجعلهم أئمة } يقتدى بهم { ونجعلهم الوارثين } للارض بظهور القائم عجل الله فرجه ولارض عالمهم الصغير بخلاصها من يد فرعون وقومه.
[28.6]
{ ونمكن لهم في الأرض } فى العالم الكبير فى جملة الارض او فى ارض مصر او فى ارض وجودهم { ونري فرعون وهامان وجنودهما } اى فرعون موسى (ع) او فرعون اهل البيت او فرعون العالم الصغير { منهم } من المستضعفين { ما كانوا يحذرون } منهم من ذهاب ملكهم على يد رجل من بنى - اسرائيل، قيل: عاش فرعون اربعمائة سنة وكان قصيرا دميما وهو اول من خضب بالسواد، وعاش موسى (ع) مائة وعشرين سنة.
[28.7]
{ وأوحينآ إلى أم موسى } بعد ما ولدت موسى (ع) { أن أرضعيه فإذا خفت عليه } من القتل واطلاع الحرس { فألقيه في اليم ولا تخافي } عليه من الغرق والضياع والقتل { ولا تحزني } على فراقه { إنا رآدوه إليك } سالما لتقر عينك ويكون انسا لك { وجاعلوه من المرسلين } قيل: حملت ام موسى (ع) ولم يظهر حملها ولم تكن عليها موكلة من فرعون فولدته ولم يعلم به احد وارضعته ثلاثة اشهر لا يبكى ولا يتحرك، فلما خافت عليه عملت له تابوتا مطبقا ثم ألقته فى البحر باذن الله فانها كانت اوحى اليها من الله فى ذلك بتوسط ملك او فى رؤيا او بالهام قلب، وقيل: كان فرعون وكل بها امرأة لتعرف حملها وكانت لم تظهر حملها عليها وولدت موسى (ع) فلما رأته الموكلة رأت بين عينيه نورا فأحبته حبا شديدا وقالت: احفظى ولدك فانى احبه حبا شديدا اظن انه الذى يكون هلاك القبطى بيده فلما خرجت القابلة من عندها ابصرها العيون فجاؤا ليدخلوا على ام موسى (ع) فقالت: اخته: يا اماه هذه الحرس بالباب فلفته فى خرقة فوضعته فى تنور مسجور فدخلوا وتجسسوا ولم يجدوا منه اثرا وانطلقت ام موسى (ع) اليه وقد جعل الله النار عليه بردا وسلاما، فلما رأت الحاح فرعون فى الطلب وضعته بوحى من الله فى التابوت وألقته فى اليم.
[28.8]
{ فالتقطه آل فرعون } وكان لفرعون قصور على شط النيل فلما ألقته فى النيل وضرب به الماء نظر فرعون من قصره ومعه آسية امرأته الى سواد فى النيل ترفعه الامواج والرياح تضربه حتى جاءت به الى باب قصر فرعون فأمر فرعون بأخذه فأخذ ورفع اليه، فلما فتحه وجد فيه صبيا فقال: هذا اسرائيلى فألقى الله فى قلب فرعون لموسى (ع) محبة شديدة وكذلك فى قلب آسية واراد فرعون ان يقتله فقالت آسية: لا تقتلوه كما سيجيء { ليكون لهم عدوا وحزنا } اللام للعاقبة او للغاية لكنه اتى بها ليكون تهكما بهم { إن فرعون } تعليل للسابق { وهامان وجنودهما كانوا خاطئين } اى عاصين لربهم.
[28.9]
{ وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك } قيل: قال فرعون قرة عين لك لا لى { لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا } قالت ذلك لأنها لم يكن لها ولد ولا لفرعون { وهم لا يشعرون } انه موسى (ع) الذى خراب ملكهم بيده.
[28.10]
{ وأصبح فؤاد أم موسى فارغا } خاليا من العقل لغلبة الدهشة وخاليا من كل شيء الا من ذكر موسى (ع) او من الحزن لاتكالها على وعد الله او فارغا من تذكر الوحى الذى اوحته الله تعالى اليه بنسيانها الوحى، وقرىء فزعا بالفاء والزاء المعجمة والعين المهملة، وقرعا بالقاف والراء والعين المهملتين، وفرغا بالفاء والراء المهملة والغين المعجمة، والكل مناسب ههنا { إن كادت } انها كادت { لتبدي } غمها { به } او لتبدى بخبرة على ان يكون الباء للتعدية دون الهمزة، وقيل: انها كادت تبدى امرها عندما دعاها فرعون للرضاع سرورا به { لولا أن ربطنا على قلبها } حتى لا ينزعج ولا يضطرب فى فراغه لفراق موسى (ع) { لتكون من المؤمنين } المصدقين بالوحى وصدق الوعد او من المؤمنين بالله.
[28.11]
{ وقالت لأخته } بعدما القته فى البحر ومضى عليه ثلاثة ايام كما فى البحر { قصيه } تجسسى اثره حتى ترى ما حاله وما فعل به فذهبت الى قصر فرعون { فبصرت به } ابصرته { عن جنب } عن بعيد { وهم لا يشعرون } انها اخته او لا يشعرون بنظرها اليه.
[28.12]
{ وحرمنا عليه المراضع من قبل } اى قبل مجيء اخته بثلاثة ايام كما مضى وكان فرعون اغتم لذلك غما شديدا { فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون } فقالوا نعم؛ فجاءت بامها فلما اخذته بحجرها والقمته ثديها التقمه وشرب ففرح فرعون واهله واكرموا امه فقال فرعون لها: ربيه لنا فانا نفعل بك ونفعل.
[28.13]
{ فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق } برده اليها { ولكن أكثرهم } اى اكثر الخلق او اكثر قوم فرعون { لا يعلمون } ان وعد الله حق او ليس لهم علم.
[28.14-15]
{ ولما بلغ أشده } قد مضى فى سورة الانعام بيان الاشد { واستوى } قيل: المراد ببلوغ الاشد بلوغ ثلاث وثلاثين سنة، وبالاستواء بلوغ الاربعين، او المراد ببلوغ الاشد شدة تمام القوى والاعضاء كما ينبغى واوله زمان بلوغ ثمان عشرة سنة { آتيناه حكما } دقة فى العمل بحيث يعجز عن مثل عمله امثاله { وعلما } عظميا فان التنوين للتفخيم { وكذلك نجزي المحسنين ودخل المدينة } يعنى بعد ما استوى وذلك ان بنى اسرائيل كانوا فى الشدة والبلاء وكانوا يستريحون الى اخبارهم بمجيء موسى (ع) وهلاك فرعون فخرجوا ذات ليلة مقمرة الى شيخ لهم عنده علم فقالوا: كنا نستريح الى الاحاديث فحتى متى نحن فى هذا البلاء؟! قال: والله انكم لا تزالون فيه حتى يجيء الله بغلام عن ولد لاوى بن يعقوب اسمه موسى (ع) بن عمران، غلام طوال جعد، فبيناهم كذلك اذ اقبل موسى (ع) يسير على بغلة حتى وقف عليهم فرفع الشيخ رأسه فعرفه بالصفة فقال له: ما اسمك؟- قال: موسى (ع)، قال: ابن من؟- قال: ابن عمران، فوثب اليه الشيخ فأخذ بيده فقبلها وثاروا الى رجله فقبلوها فعرفهم وعرفوه واتخذ شيعة فمكث بعد ذلك ما شاء الله وقد ظن قوم فرعون به ودخل المدينة اى مصر او مدينة اخرى من ارض مصر { على حين غفلة من أهلها } قيل: حين القيلولة، او بين المغرب والعشاء، او كان يوم عيد لهم وقد اشتغلوا بلعبهم وانما دخل على حين الغفلة لان موسى (ع) بعد كبره يركب فى موكب فرعون وجاء ذات يوم ليركب قيل له: ان فرعون ركب فركب فى اثره فلما كان وقت القائلة دخل المدينة ليقيل، وقيل: ان بنى اسرائيل كانوا يجتمعون الى موسى (ع) ويستمعون كلامه فاشتهر ذلك منه واخافوه وكان لا يدخل مصر الا حين غفلة اهلها، وقيل: ان فرعون بعدما اشتهر ذلك منه امر باخراجه من البلد { فوجد فيها رجلين يقتتلان } اى يختصمان { هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى } بجمع كفه او بعصاه كما قيل { فقضى عليه } فقتله { قال } موسى (ع) { هذا } الاقتتال او تعجيل قتله او هذا الكافر { من عمل الشيطان إنه عدو } لبنى آدم { مضل مبين } لكن قوله تعالى { قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم }.
[28.16]
يدل على ان مقصودة ان هذا القتل الصادر منى من عمل الشيطان؛ وهذا لا ينافى ما عليه الشيعة من عصمة الانبياء فان الانبياء (ع) معصومون من المعاصى لا من ترك الاولى، وبعبارة اخرى انهم معصومون من الذنوب التى هى ذنوب بالنسبة الى غيرهم لا من الذنوب التى هى ذنوب بالنسبة اليهم فان حسنات الابرار سيئات المقربين، وتوبة الانبياء (ع) من الالتفات الى غير الله فلا غرو ان يكون موسى (ع) عد فعله يعنى تعجيله فى قتل من استحق القتل من دون ملاحظة المفاسد التى تترتب عليه ذنبا له واستغفر منه ونسب الظلم الى نفسه مع انه كان مستحقا للقتل، وبعد ما فرغ من استغفاره لترك الاولى نظر الى قوته.
[28.17]
{ قال رب بمآ أنعمت علي } من القوة التى اقدر بها على القتل بوكز { فلن أكون ظهيرا للمجرمين } كما صرت ظهيرا فى هذه الكرة.
[28.18]
{ فأصبح } موسى (ع) فى اليوم الثانى { في المدينة خآئفا } من فرعون وقومه لشياع خبر اجتماع السبطى عليه وشياع قتله القبطى { يترقب } الاخبار من فرعون وقومه فى حقه { فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لغوي مبين } قاتلت بالامس رجلا وتقاتل اليوم الآخر.
[28.19-22]
{ فلمآ أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يموسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس } قيل: لما قال موسى (ع) انك لغوى مبين هم ان يؤذيه وقال: لاوذينك فلما اراد ان يبطش بالقبطى ظن السبطى انه اراد ان يبطشه فقال الاسرائيلى: اتريد ان تقتلنى (الى آخره) وقيل: قال القبطى ذلك { إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين وجآء رجل من أقصى المدينة } آخرها { يسعى } يسرع فى السير وذلك ان خبر قتل القبطى وصل الى فرعون فتشاوروا فأمر فرعون بقتل موسى (ع) وبعث فى طلبه وكان الرجل ابن عم فرعون او ابن عم موسى (ع) وهو مؤمن آل فرعون كان مؤمنا وكاتما لايمانه ستمائة سنة وكان خازنا لفرعون وكان اسمه حزقيل، وقيل: شمعون وقيل: سمعان { قال يموسى إن الملأ يأتمرون بك } يتشاورون فى اخذك وقتلك { ليقتلوك فاخرج } من ارض مصر { إني لك من الناصحين فخرج منها خآئفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين ولما توجه تلقآء مدين قال عسى ربي أن يهديني سوآء السبيل } فى دينى ودنياى، ومدين لم يكن فى سلطان فرعون وسمى باسم مدين بن ابراهيم، قيل: كان بينه وبين مدين مسيرة ثلاثة ايام، وقيل: مسيرة ثمانية ايام ولم يكن موسى (ع) يعرف الطريق ولذلك قال: عسى ربى ان يهدينى سواء السبيل ولعله كان طالبا لشعيب (ع) واراد مدين لملاقاة شعيب، وقيل: انه لم يقصد موضعا بعينه لكنه وقع على طريق مدين، وقيل: دله ملك على طريق مدين.
[28.23]
{ ولما ورد مآء مدين } وهو بئر كانت لهم { وجد عليه أمة من الناس يسقون } لمواشيهم من البئر { ووجد من دونهم امرأتين تذودان } تمنعان غنمهما عن الماء { قال ما خطبكما } ما شأنكما تذودان اغنامكما عن الورد { قالتا لا نسقي } اغنامنا عند مزاحمة الناس { حتى يصدر الرعآء } قرئ من باب الافعال ومن الثلاثى المجرد وننتظر فضول الماء فنسقى به ولا نقدر نحن على السقى من البئر { وأبونا شيخ كبير } لا يقدر على ان يتولى السقى بنفسه.
[28.24]
{ فسقى } اغنامهما { لهما } قيل: رفع حجرا كان على بئر كان لا يقدر على رفع ذلك الحجر عنها الا عشرة رجال وسألهم ان يعطوه دلوا فناولوه دلوا وقالوا له: انزح ان امكنك وكان لا ينزحها الا عشرة فنزحها وحده وسقى لهما بدلو واحدة وكان لم يأكل منذ ثلاثة ايام { ثم تولى إلى الظل } وهو جائع { فقال رب إني لمآ أنزلت إلي من خير } هو الجوع الذى به يطلب الانسان الغذاء وبالغذاء يكون بقاؤه وتعيشه ولولا الجوع لا يطلب الغذاء فلا يتيسر له التعيش والعبادة ويكون مريضا محتاجا الى المعالجة { فقير } اى محتاج الى الغذاء، قيل: سأل نبى الله (ع) فلق خبز يقيم به صلبه، وعن على (ع): ما سأله الا خبزا يأكله لانه كان يأكل بقلة الارض لقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه لهزاله وتشذب لحمه فأجابه الله حيث سأل شعيب (ع) عن بنتيه بعد عودهما سبب سرعة عودهما فقصتا له القصة فقال لأحديهما: ادعيه فذهبت اليه كما قال تعالى { فجآءته إحداهما تمشي على استحيآء }.
[28.25]
{ فجآءته إحداهما تمشي على استحيآء } بحيث لا يمكنه الكلام ولا المشى على ما ينبغى بين يدى الرجال { قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا } فلما قالت اجر ما سقيت لنا كره ذلك موسى (ع) واراد ان لا يتبعها ولكن لم يجد بدا من متابعتها لجوعه وخوفه فخرج معها وكانت الريح تضرب ثوبها فتبين لموسى (ع) عجزها، فجعل يعرض عنها مرة ويغض مرة فناداها يا امه الله كونى خلفى وارينى الطريق بحصاة فانا من قوم لا ينظرون من ادبار النساء فلما دخل على شعيب (ع) اذا هو بالعشاء مهيأ، فقال له شعيب: اجلس يا شاب فتعش فقال له موسى (ع): اعوذ بالله، قال شعيب (ع): ولم ذاك الست بجائع؟- قال: بلى ولكن اخاف ان يكون هذا عوضا لما سقيت لهما وانا من اهل بيت لا نبيع شيئا من عمل الآخرة بملأ الارض ذهبا فقال له شعيب (ع): لا والله يا شاب ولكنها عادتى وعادة آبائى نقرى الضيف ونطعم الطعام، فجعل يأكل ثم قص قصته كما قال تعالى { فلما جآءه وقص عليه القصص قال } شعيب { لا تخف نجوت من القوم الظالمين } لان ارضنا ليست فى مملكته.
[28.26]
{ قالت إحداهما يأبت استأجره } لرعى الغنم { إن خير من استأجرت } هذا { القوي الأمين } اتى باسم الظاهر مقام الضمير للدلالة على وصفيه اللذين هما سبب استيجاره قال شعيب (ع) اما قوته فقد عرفته برفع الحجر الذى لا يرفعه الا عشرة وباستقاء الدلو التى لا يستقيها الا عشرة فمن اين عرفت امانته؟- قالت: انى كنت قدامه فقال: كونى فى خلفى ودلينى على الطريق بالحصاه فانا من قوم لا ينظرون فى اعجاز النساء، فمن هذا عرفت امانته، فلما قالت ذلك زاده ذلك رغبة فيه.
[28.27-28]
يعنى لا اجعل السنتين جزء الصداق بل اجعلهما تفضلا منك، قيل: لم يجعل ذلك مهرا بل انكحها على مهر وجعل ذلك شرطا، وقيل: بل جعل ذلك مهرا، وما فى اخبارنا يدل على انه جعل ذلك مهرا؛ فعن الصادق (ع) ان عليا قال: لا يحل النكاح اليوم فى الاسلام باجارة بان يقول: اعمل عندك كذا وكذا سنة على ان تزوجني اختك او ابنتك قال: هو حرام لانه ثمن رقبتها وهى احق بمهرها، وبهذا المعنى اخبار اخر كثيرة، وورد فى اخبارنا ان المنكوحة كانت صغراهما وهى التى قالت ان ابى يدعوك وقالت: يا ابت استاجره وان موسى (ع) قضى أوفى الاجلين.
[28.29-30]
{ فلما قضى موسى الأجل } فى حديث قال موسى (ع) لشعيب (ع) بعدما رعى له عشر سنين: لا بد لى ان ارجع الى وطنى وامى واهل بيتى فمالى عندك؟- فقال شعيب (ع): ما وضعت اغنامى فى هذه السنة من غنم بلق فهو لك فعمد موسى (ع) عندما اراد ان يرسل الفحل على الغنم الى عصاه فقشر منها بعضها وترك بعضها وغززها فى وسط مربض الغنم والقى عليها كساء ابلق ثم ارسل الفحل على الغنم فلم تضع الغنم فى تلك السنة الا بلقا فلما حال عليه الحول حمل موسى (ع) امرأته وزوده شعيب (ع) من عنده وساق غنمه فلما اراد الخروج قال لشعيب (ع): ابغى عصا تكون معى وكانت عصى الانبياء (ع) عنده قد ورثها مجموعة فى بيت فقال له شعيب (ع): ادخل هذا البيت وخذ عصا من بين العصى فدخل فوثبت اليه عصا نوح وابراهيم (ع) وصارت فى كفه فأخرجها ونظر اليها شعيب (ع) فقال: ردها وخذ غيرها، فردها ليأخذ غيرها فوثبت اليه تلك بعينها، فردها حتى فعل ذلك ثلاث مرات، فلما رأى شعيب (ع) ذلك قال له: اذهب فقد خصك الله عز وجل بها فساق غنمه فخرج يريد مصر فلما صار فى مفازة ومعه اهله اصابهم برد شديد وريح وظلمة وجنهم الليل، فنظر موسى (ع) الى نار قد ظهرت كما قال الله تعالى فلما قضى موسى الاجل (الآية) { وسار بأهله } وجنهم الليل وتفرقت ماشيته واصابهم برد شديد وريح وابتليت زوجته بالطلق كما قيل { آنس من جانب الطور نارا }.
اعلم، ان الله اذا اراد بعبد خيرا ابتلاه اولا بشدائد سدت جهات حيله وقطعت طرق رجاء خياله من غير الله حتى اضطر الى التوجه الى الله وسأله بلسان حاله او قاله فيجيبه تعالى على حسب استعداده واستحقاقه، لانه يجيب المضطر اذا دعا بحاله او قاله، كما اراد مقام الرسالة لموسى (ع) فابتلاه بظلمة الليل والسحاب وبالثلج والبرد وتفرق الماشية ووضع حمل الاهل وعدم ظهور النار من زناده حتى انقطع جهات حيل خياله وطرق رجائه فاضطر الى التوجه الى جهة غيبه، فان موسى (ع) لما اضطر الى التوجه الى جهة غيبه ظهر له من جانب طور النفس الذى هو البقعة المباركة والجانب الايمن من النفس نور بصورة النار الظاهرة من الشجرة وقد ظهرت تلك النار وتلك الشجرة فى جبل كان يسمى بالطور او سمى بعد ذلك بالطور، وقد مضى الاختلاف فى محل ذلك الجبل فلما آنس من جانب الطور نارا توجه اليه واطمئن من استيحاشه ولما اطمئن من استيحاشه { قال لأهله امكثوا إني آنست نارا } تسلية لها وتسكينا لفزعها ووحشتها { لعلي آتيكم منها بخبر } اى بخبر الطريق او خبر النار وصاحبها او خبر من نأنس به او خبر المعمورة { أو جذوة من النار } فى الجذوة ثلاث لغات؛ بتثليث الجيم وقرئ بها وهى القطعة المشتعلة من النار او الجمرة او الجذمة التى هى قطعة خشب متوقدة بالنار بعضها يكون نارا وبعضها خشبا غير مشتعل { لعلكم تصطلون فلمآ أتاها نودي من شاطىء الوادي الأيمن } اى ايمن موسى (ع) او ايمن النفس او هو وصف من اليمن بمعنى البركة { في البقعة المباركة } كثيرة الخير لانها كانت من الشام وبركة اراضى الشام ظاهرة، وكذا بركات طور النفس عن الصادق (ع) شاطئ الوادى الايمن الذى ذكره الله تعالى فى القرآن هو الفرات، والبقعة المباركة هى كربلاء { من الشجرة } قيل: كانت نابتة على الشاطئ { أن يموسى إني أنا الله رب العالمين } ذكر فى الحديث: انه اقبل نحو النار يقتبس منها فاذا شجرة ونار تلتهب عليها، فلما ذهب نحو النار يقتبس منها اهوت اليه ففزع وعدا ورجعت النار الى الشجرة؛ فالتفت اليها وقد رجعت الى الشجرة، فرجع الثانية ليقتبس فأهوت نحوه فعدا وتركها، ثم التفت وقد رجعت الى الشجرة فرجع اليها الثالثة فأهوت اليها فعدا ولم يعقب اى لم يرجع فناداه الله عز وجل ان يا موسى (ع) انى انا الله رب العالمين قال موسى: فما الدليل على ذلك؟- قال الله عز وجل: ما فى يمينك يا موسى؟- قال: هى عصاى، قال: القها يا موسى فالقيها فاذا هى حية تسعى، ففزع منها موسى وعدا؛ فناداه الله عز وجل: خذها ولا تخف انك من الآمنين، وقد مضى وجه تكرار هذه القصة اكثر من سائر القصص، ووجه اختلاف الالفاظ المكررات لكون الحكايات ترجمات للمحكى، والترجمة تؤدى بالفاظ مختلفة او لكثرة السؤال والجواب والاقوال فى المحكى وقد نقل فى كلما ذكر القصة بعض من المحكى.
[28.31]
{ وأن ألق } عطف على ان يا موسى { عصاك } فألقيها فصارت حية حية متحركة { فلما رآها تهتز كأنها جآن } هى الحية التى تكون كحلاء العينين لا توذى { ولى مدبرا } ولم يكن خوفه (ع) من النار وعدوه منها ولا خوفه من الحية نقصا، بل الخوف منه فى مثل تلك الحال التى انسلخ فيها من كل الكثرات ورجع الى مقام الوحدة يدل على كماله وقوة نفسه في مقام بشريته لعدم زوال كثراته وعدم فنائه عن اهل مملكته فى مثل تلك الحال التى يفنى كل من حصلت له عن جميع كثراته وعن جميع اهل مملكته ولا يحفظ حق شيء من كثراته، وحق البشرية الخوف والفرار من النار المحرقة ومن الحية الموذية وحفظ حقوق الكثرات فى مثل تلك الحال من اتم الدلائل على الكمال، وهكذا الحال فى طلب الدليل بعد سماع انى انا الله من الشجرة { ولم يعقب } لم يلتفت الى عقبه او لم يرجع على عقبه بخلاف حال فراره من النار { يموسى } قيل او نودى يا موسى { أقبل ولا تخف إنك من الآمنين } من المخاوف.
[28.32]
{ اسلك يدك في جيبك تخرج بيضآء من غير سوء } يعنى من غير علة البرص فادخلها فى جيبه واخرجها منه فاضاءت له الدنيا { واضمم إليك جناحك من الرهب } من اجل الرهب حتى يسكن خوفك فان وضع اليد والعضد على القلب يعين على سكونه عن اضطرابه { فذانك } قرئ بتخفيف النون وتشديدها { برهانان } اى احياء العصا وابيضاض اليد ناشئان { من ربك } منتهيان { إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين } لما استفاد موسى (ع) ان انتهاء البرهانين الى فرعون وملائه ليس الا على يده.
[28.33-34]
{ قال } فى الجواب استعفاء او طلبا للمظاهرة بهارون على ما مضى عند قوله
فأرسل إلى هارون
[الشعراء:13] من سورة الشعراء ان الظاهر ان موسى (ع) استغفى اولا وبعد ردعه من استعفائه طلب المظاهرة بأخيه { رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا } الردء العون والمادة والعدل الثقيل، وقرئ ردا بتخفيف الهمزة { يصدقني إني أخاف أن يكذبون } ولا ينطلق لسانى فردهم وردعهم وان اتيت بحجة فى جوابهم بلسان غير طلق لا يقبلوا منى لقتلى منهم نفسا وغيظهم على.
[28.35]
{ قال } اجابة لمسؤله { سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا } اجابة من مسؤله وتفضل عليه بالزيادة على مسؤله اعنى وعد النصر لهما وعدم وصول الضرر منهم اليهما { فلا يصلون إليكما } بضرر { بآياتنآ } الباء سببية والظرف متعلق بلا يصلون او بالغالبون { أنتما ومن اتبعكما الغالبون } فاطمأن موسى (ع) بوعده تعالى وذهب الى فرعون.
[28.36-37]
{ فلما جآءهم موسى بآياتنا بينات } الباء للتعدية او للمصاحبة والمراد بالآيات العصا واليد البيضاء وجمعهما لان فى كل كان دلالات على صدقه فى رسالته وتوحيد الله، او المراد هاتان مع الحجج الدالة على صدقه { قالوا } جهلا وعنادا { ما هذآ إلا سحر } قد مضى بيان السحر وتحقيقه فى سورة البقرة عند قوله يعلمون الناس السحر { مفترى } على الله { وما سمعنا بهذا } الذى ادعاه من توحد الآله { في آبآئنا الأولين وقال } وقرئ بغير واو { موسى } بعدما انكروه وانكروا رسالته ولم يقبلوا معجزاته وحججه مستشهدا بالله وعلمه { ربي أعلم بمن جآء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار } يعنى العاقبة المحمودة كان العاقبة الغير المحمودة ليست بعاقبة عرض بنفسه كأنه قال ربى اعلم بانى جئت بالهدى وان لى العاقبة المحمودة فلا ابالى بردكم وانكاركم { إنه لا يفلح الظالمون } حق العبارة ان يقول وبمن لا يجيء بالهدى ولا يكون له عاقبة الدار لكنه عدل اليه تعريضا بهم واثباتا لظلمهم ونفيا للهدى وحسن العاقبة عنهم بالبرهان كأنه قال: انه لا يفلح الظالمون بالهدى وحسن العاقبة وانتم ظالمون بانكار الله الذى هو خالق الخلق وعبادة غيره وانكار رسالتى.
[28.38]
{ وقال فرعون } بعدما عجز عن الحجة وخاف عن المعارضة لاجل الحية مقبلا على قومه تخليطا عليهم وتسكينا لنفسه عن الخوف { يأيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري } هذا الكلام منه يدل على عجزه عن الحجة وغاية خوفه من موسى (ع) وعصاه حيث لم يدع الآلهة لنفسه صريحا ونفى علمه بالاله الذى ادعى موسى واظهر شكه الذى هو الاقرار بالعجز عن الحجة وهى كلمته الاولى التى اخذه الله تعالى عليه وكلمته الآخرة قوله: انا ربكم الاعلى وكان بين الاولى والآخرة اربعون سنة كما نسب الى الخبر ولما ظهر عجزه عن الحجة وخوفه من موسى (ع) اراد التمويه على قومه بان الاله الذى ادعاه موسى (ع) ان كان حقا كان مثلى فى جهة ومكان وكان يمكن لى الوصول اليه فقال { فأوقد لي } اى للبناء لى { يهامان على الطين } لتحجير الطين، قيل: انه كان اول من عمل الآجر { فاجعل لي صرحا } قصرا عاليا الى عنان السماء { لعلي أطلع إلى إله موسى } ولو لم يكن مقصوده التمويه ما تكلم بمثل هذا الكلام فانه كان حكيما عالما بانه لا يمكن بناء قصر يمكن الوصول منه الى السماء { وإني لأظنه من الكاذبين } فى الحديث فبنى هامان له فى الهواء صرحا حتى بلغ مكانا فى الهواء لا يتمكن الانسان ان يقوم عليه من الرياح القائمة فى الهواء فقال لفرعون: لا نقدر ان نزيد على هذا فبعث الله عز وجل رياحا فرمت به فاتخذ فرعون وهامان عند ذلك التابوت على التفصيل الذى ذكر فى الاخبار.
[28.39]
{ واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق } مطلقا او بعد رجوعه من الهواء زائدا على استكباره سابقا، والاستكبار بغير الحق ما لم يكن بكبرياء الله او بأمر الله مثل التكبر مع المتكبر { وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون } بالبعث.
[28.40]
{ فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم } كما مر تفصيله وفيه تحقير لهم وتفخيم لشأن الآخذ لان الله تعالى جعلهم مع كثرتهم مثل شيء يؤخذ بالكف وينبذ وجعل اخذ الآخذ فى السعة والعظمة بالنسبة الى كثرة جنوده مثل اخذ ما يؤخذ بكف { فانظر كيف كان عاقبة الظالمين } تعريض بالامة وظالميهم.
[28.41]
{ وجعلناهم أئمة } قدوة لجمع كثير والمعنى جعلنا جميعهم ائمة متبوعين لاهالى ممالكهم او جعلنا متبوعيهم ائمة { يدعون إلى النار } عن الصادق (ع) ان الائمة فى كتاب الله امامان قال الله تبارك وتعالى: وجعلناهم ائمة يهدون بأمرنا لا بأمر الناس يقدمون امر الله قبل امرهم وحكم الله قبل حكمهم قال: { وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار } يقدمون امرهم قبل امر الله وحكمهم قبل حكم الله ويأخذون باهوائهم خلاف ما فى كتاب الله عز وجل، والمقصود من نقل هذا الخبر تنبيه نفسى وجملة الغافلين وتذكرة اخوانى وجملة الطالبين بان تقديم امر الله على امر الناس يعنى على امر نفس العامل فانه من جملة امر الناس لا اختصاص له بائمة الهدى فقط، بل كل فرد من افراد الناس امام لأهل مملكته وكل فعل يصدر منه اما المنظور فيه امر الله وحكمه قبل النظر الى امر نفسه وحكمها او المنظور فيه امر نفسه وحكم نفسه قبل النظر الى امر الله وحكمه؛ فان كان الاول كان اماما يهدى بأمر الله لاهل مملكته قبل أمر نفسه، وان كان الثانى كان اماما يدعو لاهل مملكته الى النار، مثلا اذا كان لك شريك فى قصعة ثريد وكنت جائعا ولم يكن الثريد كافيا لك ولشريكك او كان فى القصعة شيء لذيذ ولم يكن اللذيذ كافيا لكما وكان ارادتك ان لا تأكل ازيد من شريكك بل تريد ان تأكل مساويا له او اقل بان تؤثره على نفسك ولم يكن مقصودك المرائاة او التمدح او غير ذلك من اغراض النفس كنت من القسم الاول، وان لم تكن كذلك كنت من القسم الثانى، فاوصيكم اخوانى ونفسى بعدم الغفلة عن ذكر الله عند فعالكم فانكم ان تكونوا متذكرين لله عند الفعال امكن لكم تذكر امر الله وتقديمه على امر انفسكم والا غلبتكم انفسكم وقدمت امرها على امر الله ولذلك قيل: اعلى مراتب الذكر تذكر امر الله ونهيه عند كل فعل وترك { ويوم القيامة لا ينصرون } لان النصر حينئذ محصور فى الله وهؤلاء لا اتصال لهم بالله بتوسط خلفائه لانكارهم الله وخلفاءه.
[28.42]
{ وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة } اللعنة الطرد من الرحمة او قول اللهم العنهم، وقوله تعالى فى هذه الحيوة الدنيا ان كان حالا من المفعول كان المعنى اتبعناهم طردا من الرحمة او لعن اللاعنين حال كونهم فى هذه الحيوة الدنيا وهذه اوفق بمقابلة ما يأتى وان كان متعلقا باتبعناهم او باللعنة او حالا من اللعنة كان المعنى اتبعناهم لعنة من غير تعرض بكونهم فى الدنيا او فى الآخرة { ويوم القيامة هم من المقبوحين } كناية عن عدم شمول رحمته تعالى لهم ونزول نقمته بهم يوم القيامة.
[28.43]
{ ولقد آتينا موسى الكتاب } النبوة والرسالة واحكامهما او التوراة { من بعد مآ أهلكنا القرون الأولى } مثل قوم نوح وهود وصالح وابراهيم وشعيب (ع) او المراد بالقرون قوم فرعون فانهم كانوا امما عديدة اهلكوا بالغرق { بصآئر } جمع البصيرة بمعنى الحجة فانها ما به يبصر القلب، وبصائر حال او بدل من الكتاب { للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون } نسب الى النبى (ص) انه قال:
" ما اهلك الله قوما ولا قرنا ولا امة ولا اهل قرية بعذاب من السماء منذ انزل التوراة على وجه الارض غير اهل القرية التى مسخوا قردة "
الم تر ان الله تعالى قال: { ولقد آتينا موسى الكتاب } (الآية).
[28.44]
{ وما كنت بجانب الغربي } اى بجانب الجبل الذى هو الطور او الوادى الذى فيه الطور الغربى منك او من موسى (ع) فان الجبل على قول انه كان فى الشام كان غربيا بالنسبة الى مكة والمدينة وبالنسبة الى مصر ومدين، او المعنى وما كنت بجانب الطرف الغربى من الطور { إذ قضينآ إلى موسى الأمر } انهينا اليه امر النبوة حين استنبئناه بعد الرجوع الى مصر او امر التوراة والواحها حين اعطيناه فى الطور اوامر نور الولاية حين اندك الجبل وخر موسى (ع) صعقا واهلك قومه السبعين فان الكل من الاخبار المغيبات التى لا تعلم الا بطريق الوحى او اخبار من شاهدها { وما كنت من الشاهدين } لها حتى تعلمها بالشهود.
[28.45]
{ ولكنآ أنشأنا } اى لكنا اوحيناها اليك فتعلمها كما هو وليس من شهودك ولا من السماع ممن يشهدها ولا من اخبار من يخبرها صحيحا لانا انشأنا { قرونا } امما كثيرة متتابعة { فتطاول عليهم العمر } فلم يبق ممن شهدها احد ولم يبق ممن اطلع عليها من طريق الاخبار الصحيحة احد حتى يخبرك بها، ولم يبق الاخبار على صحتها بل تغيرت وانحرفت فلم يكن علمك بها صحيحا الا من طريق الوحى فالمستدرك فى الحقيقة هو وحى تلك الاخبار فحذف وادخل اداة الاستدراك على علة اثبات الوحى { وما كنت ثاويا في أهل مدين } قرية شعيب (ع) { تتلوا عليهم آياتنا } الجملة صفة ثاويا او مستأنفة وعلى الاستيناف فالضمير المجرور لاهل مدين او لاهل مكة والمعنى انك لم تكن فى اهل مدين حتى يكون اخبارك عنهم عن شهود وليس يخبرك احد بأخبارهم الصحيحة لتطاول الازمنة واندراس الاخبار وتحريفها فليس اخبارك عنهم الا بالوحى الذى ليس الا للرسول { ولكنا كنا مرسلين } لك فاخبارك يكون بوحى منا والمستدرك ههنا ايضا هو الوحى لكنه ادخل اداة الاستدراك على الارسال لانه المقصود من الايحاء اليه.
[28.46]
{ وما كنت بجانب الطور إذ نادينا } موسى (ع) بنداء انى انا الله او بالنداء الذى سمعه اصحابه السبعون او نادينا امتك وهم فى اصلاب الرجال وارحام النساء كما يأتى { ولكن } اخبرك ربك بذلك { رحمة من ربك لتنذر } بذلك الخبر او ليكون دليلا على رسالتك فتنذر بعد ثبوت رسالتك { قوما مآ أتاهم من نذير من قبلك } لوقوعهم فى زمان الفترة واندراس آثار الانبياء (ع) السالفة { لعلهم يتذكرون } بمبدئهم ومعادهم وثوابهم وعقابهم عن النبى (ع) لما بعث الله عز وجل موسى بن عمران واصطفاه نجيا وفلق له البحر ونجى بنى اسرائيل واعطاه التوراة والالواح رأى مكانه من ربه عز وجل فقال: رب لقد اكرمتنى بكرامة لم تكرم بها احدا من قبلى فقال الله جل جلاله: يا موسى اما علمت ان محمدا (ص) افضل عندى من جميع ملائكتى وجميع خلقى، قال موسى (ع): يا رب فان كان محمد (ص) اكرم عندك من جميع خلقك فهل فى آل الانبياء اكرم من آلى؟- قال الله جل جلاله: يا موسى (ع) اما علمت ان فضل آل محمد (ص) على جميع آل النبيين كفضل محمد (ص) على جميع المرسلين، فقال موسى (ع): يا رب فان كان آل محمد (ص) كذلك فهل فى امم الانبياء افضل عندك من امتى؟ ظللت عليهم الغمام، وانزلت عليهم المن والسلوى، وفلقت لهم البحر؟ فقال الله جل جلاله: يا موسى اما علمت ان فضل امة محمد (ص) على جميع الامم كفضله على جميع خلقى قال موسى (ع): يا رب ليتنى كت اراهم فأوحى الله عز وجل اليه: يا موسى لن تراهم وليس اوان ظهورهم ولكن سوف تراهم فى الجنان جنات عدن والفردوس بحضرة محمد (ص) فى نعيمها يتقلبون وفى خيراتها تبجحون، افتحب ان اسمعك كلامهم؟- قال: نعم الهى، قال الله جل جلاله: قم بين يدى واشدد مئزرك قيام العبد الذليل بين يدى الملك الجليل؛ ففعل ذلك موسى (ع) فنادى ربنا عز وجل: يا امة محمد (ص)؟- فأجابوا كلهم وهم فى اصلاب آبائهم وارحام امهاتهم: لبيك لبيك لا شريك لك لبيك ان الحمد والنعمة والملك لك، لا شريك لك، قال: فجعل الله عز وجل تلك الاجابة شعار الحاج، ثم نادى ربنا عز وجل: يا امة محمد (ص) ان قضائى عليكم ان رحمتى سبقت غضبى، وعفوى قبل عقابى، فقد استجبت لكم قبل ان تدعونى، واعطيتكم من قبل ان تسألونى، من لقينى بشهادة ان لا اله الا الله وحده لا شريك له وان محمدا (ص) عبده ورسوله صادق فى اقواله محق فى افعاله، وان على بن ابى طالب (ع) اخوه ووصيه من بعده ووليه ويلتزم طاعته كما يلتزم طاعة محمد (ص) وان اولياءه المصطفين الطاهرين المطهرين المثابين بعجائب آيات الله ودلائل حجج الله من بعدهما اولياؤه ادخله جنتى وان كانت ذنوبه مثل زبد البحر، قال: فلما بعث الله محمدا (ص) قال: يا محمد وما كنت بجانب الطور إذ نادينا امتك بهذه الكرامة ثم قال عز وجل لمحمد (ص): قل: الحمد لله رب العالمين على ما اختصنى به من هذه الفضيلة، وقال لامته: قولوا الحمد لله رب العالمين على ما اختصنا به من هذه الفضائل.
[28.47]
{ ولولا أن تصيبهم مصيبة } اى لولا كراهة ان تصيبهم مصيبة { بما قدمت أيديهم } بجهالتهم { فيقولوا } بعد ذلك اعتراضا علينا واعتذارا عن جهالتهم { ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا } فنعلم ان لك آيات { فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين } فلم تصبنا تلك المصيبة بجهالتنا ما ارسلناك اليهم لعدم استعدادهم واستحقاقهم لرسول مثلك.
[28.48-49]
{ فلما جآءهم الحق من عندنا } اى الرسول او رسالته او كتابه او معجزاته تأنفوا عنه واستكبروا عن قبول رسالته { قالوا } ردا لرسالته: { لولا أوتي مثل مآ أوتي موسى } من المعجزات الظاهرة من اليد والعصا وفلق البحر او من الكتاب جملة { أ } قبلوا من موسى (ع) { ولم يكفروا بمآ أوتي موسى من قبل } يعنى ليس سؤالهم من محمد (ص) مثل ما اوتى موسى (ع) عن صدق نية وطلب دليل بل كان ذلك منهم محض تعنت واستكبار عن القبول فان اسلافهم لم يقبلوا من موسى (ع) وهؤلآء اسناخهم فلو اتى بمثل ما اوتى موسى (ع) لم يقبلوا، او المعنى الم يكفر هؤلآء الموجودون من كفار قريش بما اوتى موسى (ع) { قالوا } اى الاسلاف { ساحران } يعنى موسى وهارون (ع)، وقرئ سحران على المبالغة، او قال الموجودون محمد (ص) وموسى ساحران او كتابهما سحران { تظاهرا } تعاونا او تطابقا { وقالوا إنا بكل } منهما او بكل من الانبياء { كافرون قل } لهؤلاء الذين هم اسناخ اسلافهم او لهؤلاء الموجودين: من كفار قريش { فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهمآ } من كتابى وكتاب موسى { أتبعه إن كنتم صادقين } فى ان موسى وهارون (ع) او محمدا (ص) وموسى (ع) ساحران او كتابى وكتابه سحران.
[28.50]
{ فإن لم يستجيبوا لك فاعلم } هذا من قبيل اياك اعنى واسمعى يا جارة والا فهو عالم بدون ذلك { أنما يتبعون أهوآءهم } وليس لهم صدق نية فى سؤالهم ولا برهان لهم فى انكارهم { ومن أضل ممن اتبع هواه } يعنى لا اضل منه فان العبارة وان كان اعم من هذا المعنى لكنه لا يستعمل الا فيه فان كان لا اضل منه فلا محاجة معه { بغير هدى من الله } الباء للسببية او للمصاحبة والظرف بيان لاتباع الهوى وانه لا يكون الا بغير هدى، او تقييد بمعنى ان اتباع الهوى قد يكون مسببا من الهدى وامر الله وامر خلفائه (ع) ومصاحبا له، وقد يكون مسببا عن غير امر الله وامر خلفائه ومصاحبا لغير امر الله فان كل الافعال الموافقة لمقتضيات النفوس يكون صاحبوها بوجه متبعين لأهوية انفسهم فان كانوا فى هذا الاتباع ناظرين الى امر الله وامر خلفائه كانوا متبعين لأهوية انفسهم بهدى من الله والا كانوا متبعين لأهويتهم بغير هدى فالحذر الحذر اخوانى من الغفلة عن الامر الالهى عند فعالكم حتى لا تكونوا مصاديق قوله تعالى: { ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله } عن الكاظم (ع) فى هذه الآية يعنى من اتخذ دينه رأيه بغير امام من ائمة الهدى، وعن الصادق (ع) مثله { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } تعليل لكون المتبع للهوى اضل الناس، او لاتباع الهوى بغير هدى من الله.
[28.51]
{ ولقد وصلنا } جملة حالية واستدراك لما توهم من قوله { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } انه تعالى اهملهم ولم يأت لهم باسباب الهداية يعنى انا لا نهديهم لعدم قابليتهم وقبولهم والا فنحن لم نهملهم ووصلنا { لهم القول } فى الاحكام والمواعظ والنصائح والعبر والمواعيد بل وصلنا لهم الاقوال الحقيقية الذين هم خلفاؤنا فى الارض وقد فسر فى الاخبار بامام بعد امام { لعلهم يتذكرون } ما لهم وما عليهم فلا يتبعون الهوى بغير هدى من الله.
[28.52]
{ الذين آتيناهم الكتاب من قبله } اى من قبل محمد (ص) او من قبل القرآن { هم به يؤمنون } لا شك ان جميع اهل الكتاب ما آمنوا به ولا شك ان اكثر من آمن به لم يكونوا بالاوصاف الآتية فالمراد بهم الكاملون من مؤمنيهم فانهم الذين آتاهم الله الكتاب حقيقة كأن غيرهم كان الكتاب فيهم عارية او المراد بهم الكاملون من امة محمد (ص) فانهم آتاهم الله كتاب النبوة واحكامها ومعرفة المعروف والمنكر من قبل قبول رسالة محمد (ص) تكوينا، او المراد بهم الائمة (ع) كما فى الاخبار فانهم الكاملون فى ان آتاهم الله الكتاب تكوينا من اول صباوتهم.
[28.53-54]
{ وإذا يتلى } الكتاب اى احكام النبوة او اذا يتلى القرآن { عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنآ } لما نعرفه تكوينا من وجودنا { إنا كنا من قبله } اى من قبل قبول رسالة محمد (ص) او من قبل القرآن ونزوله او من قبل المتلو وتلاوته { مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا } الصبر حبس النفس على ما لم تصبر عليه من البلاء والمعصية والطاعة والمؤمن اذا آن كان له اجر واذا حبس نفسه على كتمه وعدم اذاعته فى وقت يكون الاذاعة شينا عليه او على صاحبه او على اخوته، او يكون الاذاعة سببا للصيت والمراياة كان له اجر اخر { ويدرؤن بالحسنة السيئة } يعنى بحسنات اقواهم وافعالهم واخلاقهم وعقائدهم سيئاتها او بالحسنة بالنسبة الى المسيء سيئة المسيء او بالتقية سيئة الكفار بالنسبة اليهم او الى صاحبهم او اخوانهم او بالتقية الاذاعة وبالمداراة التبرز بالمعارضة مع الخلق، او بالحلم جهل الجاهل او بالحسنة من افعالهم البلايا التى قدر عليهم او على غيرهم فانهم فى الخلق امان لهم من البلايا، وفى الاخبار اشارة الى كل ذلك { ومما رزقناهم ينفقون } قد مر فى اول البقرة تفصيل تام لهذه الكلمة.
[28.55]
{ وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه } اللغو كلما لم يكن له غاية عقلانية دنيوية او اخروية والعاقل لا يركن الى مالا غاية له عقلانية { وقالوا لنآ أعمالنا ولكم أعمالكم } يعنى لا يتعرضون لهم بالرد والانكار { سلام عليكم } سلام مودع متتارك { لا نبتغي الجاهلين } وصحبتهم لانهم كانوا اضدادا للجاهلين فهم بحالهم وقالهم يقولون: لا نبتغى مجالسة الجاهلين.
[28.56]
{ إنك لا تهدي من أحببت } هدايته او من كان محبوبا لك فكيف بغيره والجملة جواب سؤال ناش من سابقه كأنه (ص) قال: هل يكون هداية هؤلاء بسعيى وانا اهديهم؟- او قال (ص): هل ابالغ فى هداية ارحامى واحبابى؟- او جواب لسؤاله (ص) وجهده فى هداية ارحامه خصوصا على ما نقل من العامة انه نزل فى ابى طالب (ع) ومبالغة محمد (ص) فى ايمانه وعدم قبوله { ولكن الله يهدي من يشآء } هدايته او من كان محبوبا له { وهو أعلم بالمهتدين } اى المستحقين للهداية وانت لا تعلمهم، او لست اعلم منه بهم او هو اعلم بمن اتصف بالهدى حقيقة وبمن قبل رسالتك عارية.
فى اسلام ابى طالب (ع)
اعلم، انه نقل بطريق العامة ان الآية نزلت فى ابى طالب (ع) وذكروا اخبارا عديدة فى حقه مشعرة بذمه وعدم اسلامه وذكر بعض الخاصة ايضا بعضا من اخبارهم التى لا يليق بشأنه فان جلالة شأنه (ع) اجل وامنع من ان يبلغها عقول الرجال فكيف بأصحاب البحث والجدال وارباب الظن والخيال لانه كما استفيد من الاخبار انور نورا وافخم قدرا بعد الانوار الاربعة عشر من جميع الانبياء والاولياء (ع) وانه كان مستودعا لودائع الوصاية من جميع الانبياء والاولياء(ع) التى ينبغى ان تسلم الى محمد (ص) الذى كان خاتم كل الانبياء (ع) وحامل ودائعه ينبغى ان يكون سنخا له، وفى مرتبة الشرافة مناسبا له، وانه كان مربيا لمحمد (ص) من اول صباه بل كان مرضعا له من ثدى نفسه مدة وانه اخبر كثيرا قبل ولادته وبعدها بولادته ونبوته وشرافته وانه كان من اوصياء عيسى (ع) وان كل الاوصياء ينبغى ان يكونوا راجعين اليه وآخذين منه. روى فى الكتب المعتبرة عن الكاظم (ع) انه سئل: اكان رسول الله (ص) محجوبا بابى طالب (ع)؟- فقال: لا؛ ولكنه كان مستودعا للوصايا فدفعها اليه، قيل: فدفع اليه الوصايا على انه محجوج به؟- فقال: لو كان محجوجا به ما دفع اليه الوصية، قيل: فما كان حال ابى طالب (ع)؟- قال: اقر بالنبى (ص) وبما جاء به ودفع اليه الوصايا ومات من يومه، ولو لم يكن فى حقه (ع) سوى هذا الخبر لكفى فى الدلالة على جلالة شأنه وفخامة قدره لدلالة على انه كان مستودعا للوصايا التى ينبغى ان تدفع الى محمد (ص)، وانه كان اداها اليه ومات من يومه، وروى ان امير المؤمنين (ع) كان ذات يوم جالسا بالرحبة والناس مجتمعون اليه فقام اليه رجل فقال: يا امير المؤمنين (ع) انك بالمكان الذى انزل الله به وابوك يعذب بالنار...! فقال له: مه، فض الله فاك والذى بعث محمدا (ص) بالحق نبيا لو شفع ابى فى كل مذنب على وجه الارض لشفعه الله تعالى فيهم، لابى يعذب بالنار وابنه قسيم النار؟- ثم قال: والذى بعث محمدا (ص) بالحق ان نور ابى طالب (ع) يوم القيامة ليطفئ انوار الخلق الا خمسة انوار؛ نور محمد (ص) ونورى ونور فاطمة (ع) ونور الحسن ونور الحسين (ع) ومن ولده من الائمة (ع) لان نوره من نورنا الذى خلقه الله عز وجل من قبل خلق آدم (ع) بألفى عام.
[28.57]
{ وقالوا } عطف على قوله: { قالوا إنا بكل كافرون } يعنى قال قريش او عشيرتك او ابو طالب (ع) على قول العامة { إن نتبع الهدى معك } اى رسالتك { نتخطف من أرضنآ } روى عن امير المؤمنين (ع) انها نزلت فى قريش حين دعاهم رسول الله (ص) الى الاسلام والى الهجرة ، وعن النبى (ص) انه قال: والذى نفسى بيده لادعون الى هذا الامر الابيض والاسود ومن على رؤس الجبال ومن فى لجج البحار، ولادعون اليه فارس والروم فجبرت قريش واستكبرت وقالت لابى طالب: اما تسمع الى ابن اخيك ما يقول والله لو سمعت بهذا فارس والروم لااختطفتنا من ارضنا ولقلعت الكعبة حجرا حجرا، فأنزل الله تعالى هذه الآية { أولم نمكن لهم } اى الم نرزقهم فى حال كفرهم من كل ما يرزق مع ان مكانهم واد غير ذى زرع ولم نجعل لهم { حرما آمنا } ذا امن او آمنا ساكنوه مكانا ومحلا لسكناهم فكيف يكون حالهم اذا كانوا موحدين مستحقين لكرامتنا { يجبى } اى يجمع { إليه ثمرات كل شيء } لم يقل كل نبات لقصد تعميم الثمرات لكل خير ومال فانه لا اختصاص لجمع الاشياء اليه بالفواكه بل يجبى اليه كل ما يحصل من النباتات والاشجار والانعام والصنائع وانفس الانعام بل يجبى اليه ثمرات القلوب وخيرات الآخرة ولذلك قال تعالى { رزقا من لدنا } يعنى ان الثمرات الدنيوية وان كان رزقا من الارض لكن ثمرات الآخرة والقلوب من ارزاقنا اللدنية، وكذلك بركات ثمرات الارض وما كان منها رزقا للارواح { ولكن أكثرهم لا يعلمون } ان ذلك لهم من فضلنا وحكمتنا وقدرتنا وينسبون ذلك الى انفسهم او اكثرهم لا علم لهم.
[28.58]
{ وكم أهلكنا من قرية } عطف على قوله { أولم نمكن } وجمع بين الوعد والوعيد والترغيب والترهيب { بطرت معيشتها } بطر اهلها السعة معيشتها { فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا } من سوء افعالهم فاتقوا يا اهل مكة مثل افعالهم { وكنا نحن الوارثين } لمساكنهم واموالهم واجسادهم وارواحهم.
[28.59]
{ وما كان ربك مهلك القرى } اى ما كان فى سجيته ان يهلك القرى من دون تنبيه لهم وتذكير فلا يهلكها { حتى يبعث في أمها } قريتها العظيمة التى كان رجوع الكل اليها { رسولا } وهذا على الاغلب والا فقد بعث الله بعض الرسل (ع) من الرساتيق وكانوا لا يخرجون منها ويكون رجوع القرى العظيمة اليها، او على الاشارة الى التأويل فان الرسل (ع) اينما كانوا واينما بعثوا كانوا اصل القرى الانسانية ومرجعها ومعظمها وكان الرسول الذى هو اللطيفة الانسانية التى اتصفت بصفات الروحانيين يبعث اولا فى تلك القرية العظيمة التى هى مملكة وجود الرسول (ع) ثم يبعث منها الى سائر القرى الانسانية { يتلو عليهم آياتنا } التدوينية والآفاقية واحكامنا التى هى لوازم الرسالة { وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون } بتكذيب الرسل (ع) وسائر انواع الظلم والكفر واصل الكل انكار الرسل (ع).
[28.60]
{ ومآ أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها } هذا جمع بين التزهيد والتشويق كما ان الاول كان جمعا بين الانذار والتبشير { وما عند الله خير } مما اوتيتم يعنى ان كان ما اوتيتم خيرا باعتقادكم فما عند الله خير منه، او لفظ الخير مجرد عن معنى التفضيل والا فلا نسبة بين ما عند الله وما عندكم { وأبقى } مما عندكم على اعتقادكم { أفلا تعقلون } ذلك او لا يكون لكم عقل فتتركون ما عند الله وتأخذون ما عندكم.
[28.61]
{ أفمن وعدناه وعدا حسنا } تأكيد للتزهيد والتشويق { فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا } الذى لا بقاء له ويكون لذته مشوبا بالالم وراحته بالتعب وغناه بالحاجة ويكون عاقبته الحسرة والندامة { ثم هو يوم القيامة من المحضرين } للحساب او العقاب.
[28.62]
{ ويوم يناديهم } عطف على يوم القيامة او بتقدير اذكر او ذكر او متعلق بقوله { قال الذين حق عليهم القول } { فيقول } للمشركين { أين شركآئي الذين كنتم تزعمون } انهم شركائى من الاصنام والكواكب والاهوية والوسائل وشركاء الولاية فى كل عصر وزمان.
[28.63]
{ قال الذين حق عليهم القول } من مدعى الربوبية ومن مدعى الولاية والرسالة وممن جعلهم المشركون شركاء الله او شركاء الولاية لكن المنظور شركاء الولاية { ربنا هؤلاء الذين أغوينآ } اشارة الى المشركين والاتباع { أغويناهم } بصرفهم عنك أو عن ولى امرهم { كما غوينا } بأنفسنا { تبرأنآ إليك } منهم فانهم كانوا اعداء لنا وكنا نظنهم احبابا { ما كانوا إيانا يعبدون } بل كان معبودهم ومطاعهم اهويتهم.
[28.64]
{ وقيل } للاتباع { ادعوا شركآءكم } فى الولاية والطاعة او فى الربوبية { فدعوهم فلم يستجيبوا لهم } لعجزهم عن الجواب او اشتغالهم بانفسهم { ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون } استيناف بصورة التمنى واظهار انه ينبغى ان يتحسر عليهم، او حال بتقدير القول اى مقولا فيهم لو انهم كانوا يهتدون الى الولاية لما كانوا فى العذاب.
[28.65]
{ ويوم يناديهم } عطف على سابقه { فيقول ماذآ أجبتم المرسلين } فى دعائهم اياكم الى الله والى قبول رسالتهم والمراد بالمرسلين اعم من الرسل وخلفائهم.
[28.66]
{ فعميت عليهم الأنبآء } من المعامى والاعماء الاراضى التى لا اثر لها ولا علاقة فى الاذهان ولا عمارة فيها، شبه الاخبار بالاراضى وانمحائها عن قلوبهم بعدم العلامة وعدم العمارة فيها، او هو مقلوب عموا عن الاخبار للاشعار الى انقلاب احوالهم كأنهم لا يميزون بين ان يقال عموا عن الاخبار او عميت عليهم، ولا يهام ان عماهم لشدته سرى الى الاخبار { يومئذ فهم لا يتسآءلون } لان التساؤل لا يكون الا بعد بروز آثار الاخبار فى الاذهان.
[28.67]
{ فأما من تاب } عن شركه بالربوبية او عن شركه بالولاية وتاب على يد ولى امره { وآمن } بقبول ولايته فى ضمن بيعته فان الفلاح محصور على من قبل ولاية على (ع) بالتوبة على يده او يد خلفائه والبيعة معه { وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين } الاتيان باداة الترجى على عادة الكبار وقد مضى مكررا ان الترجى من الله واجب، او المعنى عسى من تاب ان يكون من المفلحين فان التائب ليس من قبله الا رجاء الفلاح.
[28.68]
{ وربك } لا غيره فان التقديم للحصر { يخلق ما يشآء } لان غيره عاجز عن حفظ نفسه بعدما خلقه الله فكيف يخلق غيره وحفظه { ويختار ما كان لهم الخيرة } اى الاختيار او المختار فان الخيرة اسم مصدر تستعمل فى المختار ايضا لان غيره جاهل بما هو خير له لا يتميز خيره عن شره عنده ولا يعلم مآل حاله ومختاره فلا يمكنه اختيار ما هو خير له والآيات تعريض بالامة واشراكهم بعلى فى الولاية واختيارهم بآرائهم اماما لانفسهم وان كان نزوله فى غيرهم، واعراب قوله وربك يخلق (الآية) ان الواو حالية والجملة حال من الجمل السابقة ويختار اما عطف على يشاء وحينئذ يكون لفظة ما نافية او موصولة بدلا من ما يشاء، او عطف على يخلق وما نافية او موصولة { سبحان الله } انشاء تسبيح او اخبار تنزيه او كلمة تعجب وتعجيب على اى تقدير فالمقصود ان الله فى مظهره الذى هو على (ع) منزه { وتعالى عما يشركون } فى الولاية والخلافة وما فى عما يشركون مصدرية او موصولة وفى الاخبار اشارات الى هذا التعريض والتأويل من اراد الاطلاع فليرجع الى المفصلات من كتب التفاسير والاخبار.
[28.69]
{ وربك } لا غيره { يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون } قد تكرر فيما مضى ان مكنونات الصدور تصدق على الارادات والعزمات والخيالات والخطرات ولكن المكنونات حقيقة هى القوى المكمونة فى النفوس التى لم يطلع عليها صاحبوها ولم يعلم بها الا الله والا من كان من الله، واما ما كان من قبيل الخطرات والخيالات فهو معلن لصاحبه وللملائكة الموكلة به وهذه الجملة عطف فى معنى التعليل فان اختيار الخيرة لا يتأتى الا ممن يعلم القوى المكمونة التى لا ظهور لها لا لصاحبها ولا لغيره.
[28.70]
{ وهو الله } عطف وكالنتيجة لسابقه فان الذى كان محصورا فيه خلق ما يشاء واختيار الخيرة لكل مخلوق وعلم الجليات والخفيات كان محصورا فيه الآلهة، واستحقاق العبادة وجميع اضافات المبدئية وجميع الصفات المحمودة لكل محمود فى الدنيا والآخرة لكونه مبدء لها وكون فاعل الشيء اولى به من قابله فكأنه قال فهو الله { لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة } فى الدار الاولى والدار الآخرة او فى النظرة الاولى التى لا نظر فيها الا الى المخلوق لان الخالق هو الذى يكون ظاهرا فى المخلوق بصورته فما ينسب الى المخلوق فى النظرة الاولى فهو منسوب الى الخالق وفى النظرة الآخرة التى يفنى فيها كل تعين ومهية ويبقى فيها الخالق بخالقيته { وله الحكم } فيهما { وإليه ترجعون } بعد العود او فى نظر البصير لان الكل فى نظره يرجع بوجوده وافعاله واوصافه الى الله بمعنى ان البصير يرى وجود الكل وجودا لله ظاهرا بصورته وكذا افعاله واوصافه.
[28.71]
{ قل أرأيتم } قد مضى فى سورة الانعام بيان لهذه الكلمة عند قوله تعالى: قل ارأيتكم ان اتاكم عذاب الله { إن جعل الله عليكم الليل سرمدا } دائما طويلا { إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضيآء } لما كان المقصود من النهار الضياء الذى به يبصرون ويتعيشون اتى موضع النهار بالضياء { أفلا تسمعون } ولما كان الضياء بنفسه مطلوبا ونافعا ويكون طلب المكاسب والمعايش بسبب الانتفاع به لم يأت بوصف للضياء مثل قرينه.
[28.72]
لما كان العنوان فى القرين الاول الليل وكان المناسب لعنوان الليل السماع دون الابصار اتى هناك بقوله افلا تسمعون توبيخا او تقريرا لسماعهم بخلاف القرين الثانى فان العنوان فيه النهار والمناسب له الابصار وايضا لما كان السماع اشارة الى مقام التقليد والابصار الى مقام التحقيق كما قال تعالى: ان فى ذلك لذكرى لمن كان له قلب اى بصيرة قلبية بها يبصر الاشياء كما هى، او ألقى السمع يعنى فى مقام التقليد والمتابعة كان المناسب لليل السماع المشار به الى مقام التقليد وللنهار الذى هو محل الابصار وسبب الشهود الذى هو التحقيق الابصار الذى هو سبب التحقيق.
[28.73]
{ ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار } عطف على ارأيتم ونتيجة لسابقه { لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله } لف ونشر مرتب { ولعلكم تشكرون } اى لعلكم تتنبهون نعمه العديدة المندرجة فى اختلاف الليل والنهار وان فى اختلافهما حيوة كل ذى حيوة وبقاءه ونماء كل ذى نماء وكماله، وانه لولا اختلافهما لما وجد من المواليد شيء فتشكروا تلك النعم المندرجة فى اختلافهما، وتشكروا نفس تلك النعمة التى هى الليل والنهار.
[28.74]
لما كان المقصود من هذه الآية التعريض بالامة واشراكهم بالولاية وكان اصل الدين والتوحيد توحيد الولاية واصل الالحاد والكفر والاشراك الكفر والاشراك بالولاية كررها بالفاظها وبغير الفاظها.
[28.75]
{ ونزعنا من كل أمة شهيدا } ولما كان المقصود التعريض بالامة فسروا هذه الآية بفرق امة محمد (ص) وبامامهم الذى هو من آل محمد (ص) وهو شهيد عليهم { فقلنا هاتوا } ايها الامم المشركة بولاية امامكم والكافرة بها { برهانكم } على اشراككم { فعلموا أن الحق لله } فى مظاهره الذين هم شهداؤه عليهم { وضل عنهم ما كانوا يفترون } من ائمتهم الباطلة والاتيان بالافعال المذكورة ماضيات للاشارة الى تحقق وقوعها.
[28.76-77]
{ إن قارون كان من قوم موسى } استيناف جواب لسؤال ناش من سابقه من حيث تعريضه كأنه قيل: الا ينفعهم ايمانهم بمحمد (ص) بعد انكارهم لعلى (ع)؟- فقال تعالى: بغيهم على على(ع) ذهب بايمانهم وبما عملوا فى ايمانهم لان قارون كان من قوم موسى (ع) { فبغى عليهم } ولم ينفعه كونه من قوم موسى (ع) وخسف به الارض ببغيه { وآتيناه من الكنوز مآ إن مفاتحه } جمع المفتح بالكسر بمعنى المفتاح او جمع المفتح كمخزن بمعنى الخزانة والكنز { لتنوء بالعصبة } ناء بالحمل نهض به مثقلا وناء به الحمل اثقله والعصبة بالضم من الرجال والخيل والطير ما بين العشرة الى الاربعين، وقيل: ما بين العشرة الى خمسة عشر، وقيل: اربعون رجلا، وقيل: ما بين ثلاثة الى العشرة، وقيل: الجماعة المطلقة عن تعيين العدد { أولي القوة } وهذا ايضا تعريض بالامة ومترفيها ومن يفرح بما آتاه الله ويتأنف عن خلفائه (ع) يظن ان النعمة له باستحقاقه من دون ظن الاستدراج بها { إذ قال له قومه } متعلق بقوله بغى عليهم او بأتيناه { لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين وابتغ فيمآ آتاك الله الدار الآخرة } بانفاقها على مستحقيها وفى سائر مصارف البر { ولا تنس نصيبك } الاخروى { من الدنيا } اى مما آتاك الله فى الدنيا او من امتعة الدنيا من الاموال والقوى والمدارك والصحة والفراغ والشباب وغير ذلك بان تأخذ من جميع ذلك ما ينبغى ان يؤخذ للآخرة او المعنى لا تنس نصيبك الذى انت محتاج اليه فى دنياك بان تنفق كل ما آتاك الله من الدنيا فيكون على المعنى الاول تأكيدا لقوله: { وابتغ } (الآية) وعلى الثانى يكون تأسيسا وامرا بالتوسط بين التبذير والتقتير { وأحسن } الى العباد او فى اعمالك او احسن النعمة بالشكر لها وصرفها فيما خلقت لها اوصر حسنا { كمآ أحسن الله إليك } بتوفير نعمه { ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين } عن الصادق (ع): فساد الظاهر من فساد الباطن، ومن اصلح سريرته اصلح الله علانيته، ومن خان الله فى السر هتك الله ستره فى العلانية، واعظم الفساد ان يرضى العبد بالغفلة عن الله تعالى، وهذا الفساد يتولد من طول الامل والحرص والكبر كما أخبر الله تعالى فى قصة قارون فى قوله: { ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين } وكانت هذه الخصال من صنع قارون واعتقاده، واصلها من حب الدنيا وجمعها ومتابعة النفس وهواها، واقامة شهواتها وحب المحمدة وموافقة الشيطان واتباع خطواته، وكل ذلك مجتمع تحت الغفلة عن الله ونسيان منته، والمقصود من نقل هذا الخبر تنبيه نفسى وجميع اخوانى، فانا قلما ننفك عن الغفلة التى هى اصل كل فساد ومنبع كل شر، وفقنا الله وجميع المؤمنين لذكره وعدم الغفلة عنه.
[28.78]
{ قال } استنكافا عن قبول قولهم واعجابا بنفسه { إنمآ أوتيته على علم عندي } يعنى اورده الله على علم وكمال عندى فلم لا افرح به وابذله على من لم يكن له هذا الكمال؟! او المعنى اوتيته حال كونى مشتملا على علم خاص بى وهو العلم بوجوه المكاسب وتحصيل الارباح، أو حال كونى مشتملا على علم خاص بى هو علم الكيميا كما قيل، وقيل: ان موسى (ع) علم قارون شيئا من الكيميا وعلم ابنه شيئا وعلم يوشع (ع) شيئا فخدعهما قارون وتعلم منهما ما علمهما موسى (ع) من ذلك { أولم يعلم } تعريض بالامة وبطرهم واعتمادهم على الحيوة الدنيا ومتاعها يعنى الم يعلم ان حيوته ووجوده ليس باختياره فكيف باعراضه الدنيوية التى لا نسبة بينه وبينها الا محض الاعتبار الذى اعتبره العرف او الشرع، والم يعلم { أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا } للمال والاولاد والقوى والخدم والحشم { و } لكن { لا يسأل عن ذنوبهم المجرمون } يعنى ان الله اذا اراد ان يذنب العبد بسبب سوء استحقاقه اعماه عما يبصر قبح ذنبه وسوء عاقبته فى الذنب فلا يسأل عن سبب ذنبه لان الله اوقعه عليه بسبب سوء استعداده الذى لا يعلم هو به، او المعنى لا يسأل المجرمون عن ذنوبهم حتى يعتذروا عنها ويجيبوا مثل قوله تعالى:
فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جآن
[الرحمن:39] او المعنى لا يسأل المجرمون الماضون عن ذنوب هؤلاء الحاضرين كما قيل، ولما كان الاعراض الدنيوية لارباب النفوس واهويتها مورثة للاستكبار والاعجاب بالنفس وتحقير العباد صار قارون المبتلا باهوية النفس معجبا بنفسه متكبرا على غيره.
[28.79]
{ فخرج على قومه في زينته } قيل: انه خرج على بغلة شهباء عليه الارجوان وعليها سرج من ذهب ومعه اربعة آلاف على زيه { قال الذين يريدون الحياة الدنيا يليت لنا مثل مآ أوتي قارون } كما هو عادة اهل الدنيا فى كل زمان { إنه لذو حظ عظيم } كان ما هو فيه فى نظرهم من اعظم النعم لغفلتهم عن انه مستعقب للزوال والعقاب وحرمان ما اعده الله لعباده فى الآخرة.
[28.80]
{ وقال الذين أوتوا العلم } بالدنيا واعراضها وآفاتها والآخرة وعقابها وثوابها ودرجاتها { ويلكم ثواب الله } فى الدنيا بحصول الالتذاذ بمناجاته والفراغ من الاشتغال بمتاعب الدنيا وحرصها وآمالها وفى الآخرة بما اعده لعباده { خير } مما ترونه على قارون من زينة الدنيا فانه معرض للزوال وصاحبه محل للآفات والبلايا والمكاره والغموم { لمن آمن } بالتوبة والبيعة على ايدى خلفائه (ع) ايمانا عاما او ايمانا خاصا بالبيعة الخاصة الولوية { وعمل صالحا ولا يلقاهآ } اى هذه الموعظة او هذه الكلمة { إلا الصابرون } عن الدنيا وآمالها فان المبتلى بالدنيا وآمالها يكون اصم من النصائج والمواعظ الاخروية.
[28.81]
{ فخسفنا } بشوم عمله وسوء اعجابه بنفسه { به وبداره الأرض } روى ان موسى (ع) باهله بأخيه هارون (ع) وبنيه فخسف به وبأهله وماله ومن وازره من قومه، وقيل: دعا قارون امرأة من بنى اسرائيل بغيا فقال لها: انى اعطيك الفين على ان تجيئى غدا اذا اجتمعت بنو اسرائيل عندى فتقول: قد راودنى موسى (ع) فأعطاها خريطتين عليهما خاتمه فلما جاءت بيتها ندمت وقالت: ما بقى لى الا ان افترى على نبى الله (ع)؟! فلما اصبحت اقبلت ومعها الخريطتان حتى قامت بين بنى اسرائيل وقالت: ما قالها قارون وقالت: معاذ الله ان افترى على نبى الله (ع) وهذه دراهمه عليها خاتمه، فغضب موسى (ع) فدعا الله عليه فخسف به وبداره الارض، وقيل: كان قارون ممن يحبه موسى (ع)، وكان يقرء التوراة مع القوم فى التيه، وكان احسن صوتا منهم، فلما طال التيه على القوم ودخلوا فى التوبة والبكاء امتنع قارون من الدخول معهم فى التوبة فدخل عليه موسى (ع) فقال له: يا قارون قومك فى التوبة وانت قاعد ههنا؟! ادخل معهم والا ينزل بك العذاب فاستهان به فخرج موسى (ع) من عنده مغتما، فجلس فى فناء قصره فأمر قارون ان يصب عليه رماد قد خلط بالماء فصب عليه فغضب موسى (ع) غضبا شديدا وكان فى كتفه شعرات كان ذا غضب خرجت من ثيابه وقطر منها الدم فقال موسى (ع): يا رب ان لم تغضب لى فلست لك بنبى فأوحى الله عز وجل اليه: قد امرت الارض ان تطيعك فمرها بما شئت، وقد كان قارون قد امر ان يغلق باب القصر فأقبل موسى (ع) فأومى الى الابواب فانفرجت ودخل عليه فلما نظر اليه قارون علم انه قد اوتى بالعذاب فقال: يا موسى اسألك بالرحم الذى بينى وبينك فقال له موسى (ع): يا بن لاوى لا تزدنى من كلامك، يا ارض خذيه فدخل القصر بما فيه فى الارض ودخل قارون فى الارض الى ركبتيه، فبكى وحلفه بالرحم، فقال له موسى: يا ابن لاوى لا تزدنى من كلامك، يا ارض خذيه فابتلعيه بقصره وخزائنه، وهذا ما قال موسى (ع) لقارون يوم اهلكه الله عز وجل فعيره الله عز وجل بما قاله لقارون فعلم موسى (ع) ان الله تبارك وتعالى قد عيره بذلك فقال: يا رب ان قارون دعانى بغيرك ولو دعانى بك لاجبته فقال الله عز وجل: يا ابن لاوى لا تزدنى من كلام، فقال موسى (ع): يا رب لو علمت ان ذلك لك رضا لاجبته فقال الله: يا موسى وعزتى وجلالى وجودى ومجدى وعلو مكانى لو ان قارون كما دعاك دعانى لاجبته ولكنه لما دعاك وكلته اليك، وعن الباقر (ع) ان يونس (ع) لما آذاه قومه الى ان قال: فألقى نفسه فى اليم فالتقمه الحوت فطاف به البحار السبعة حتى صار الى البحر المسجور وبه يعذب قارون فسمع قارون دويا فسأل الملك عن ذلك فأخبره انه يونس ان الله حبسه فى بطن الحوت فقال له قارون: اتأذن لى ان اكلمه؟- فأذن له فسأله عن موسى (ع): فأخبره انه مات فبكى ثم سأله عن هارون (ع) فأخبره انه قد مات فبكى وجزع جزعا شديدا، وسأله عن أخته كلثم وكانت مسماة له فأخبره انها ماتت فبكى وجزع جزعا شديدا، قال فأوحى الله الى الملك الموكل به ان: ارفع عنه العذاب بقية ايام الدنيا لرقته على قرابته { فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين } بنفسه فاحذروا يا امة محمد (ص) من البغى على من نصبه الله اماما للعباد واحذروا من الاستكبار والاختيال بما آتاكم الله من الاموال والجاه واحذروا من الاختيال بالزينة والثياب الفاخرة، وفى خبر: ونهى ان يختال الرجل فى مشيته، ومن لبس ثوبا فاختال فيه خسف الله به من شفير جهنم وكان قرين قارون لانه اول من اختال فخسف الله به وبداره الارض.
[28.82]
{ وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون } بعد خسفه { ويكأن الله } وى كلمة تعجب مثل ويك ويستعمل ايضا بمعنى الويل وتدخل على كان مخففة ومشددة فههنا يحتمل ان يكون ويكأن مركبة من وى وكأن وان يكون مركبة من ويك وان بمعنى التعجب وان يكون من وى وكاف الخطاب وان، وان يكون من ويك مخفف ويلك وان، واذا كان ان منفصلا فليقدر مثل اعلم قبلها حتى يكون عاملها { يبسط الرزق لمن يشآء من عباده ويقدر } وليس بسط الرزق وتقديره بمشية العباد كما قال قارون ولا لهوان او كرامة من الله { لولا أن من الله علينا } بعدم اعطائنا مثل ما اعطى قارون كما كنا نتمناه { لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون } مثل قارون.
[28.83]
{ تلك الدار الآخرة } جواب لسؤال ناش من السابق كأنه قيل: فمن ينجو من العذاب ومن يدخل الجنات؟- فقال: تلك الدار الآخرة { نجعلها } مقرا { للذين لا يريدون علوا في الأرض } لان المستعلى فى الارض منازع لى، والمنازع لى لا يدخل دارى { ولا فسادا } لان المفسد موذ لعبادى وخلقى { والعاقبة } الحسنى { للمتقين } من ذلك او لمن كان شيمته التقوى عن جميع ما ينبغى ان يتقى منه.
[28.84]
{ من جآء بالحسنة فله خير منها } جواب سؤال آخر كأنه قيل: فما حال من جاء بالحسنة ولم يكن من المتقين؟ ومن جاء بالسيئة ولم يكن من المريدين للعلو والفساد؟ { ومن جآء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون } اى نفس ما كانوا يعملون على تجسم الاعمال او جزاء ما كانوا يعملون.
[28.85]
{ إن الذي فرض عليك القرآن } اى عين عليك او فرض او سن عليك العمل بما فيه من اعماله واخلاقه { لرآدك إلى معاد } اى الى مكة فان المعاد هو المحل الذى كنت فيه ثم خرجت منه واردت العود اليه.
اعلم، ان القرآن اسم لمقام الجمع ولما كان كتاب محمد (ص) مصدره مقام الجمع الذى هو مقام المشية التى هو مقام الجمع المطلق والبرزخ بين الوجوب والامكان ومجمع بحرى الوجوب والامكان سماه الله تعالى بالقرآن، وفرض القرآن على محمد (ص) عبارة عن ايصاله الى ذلك المقام الذى لم يصل اليه احد من الانبياء (ع)، ولما كان محمد (ص) مبدء نزوله هذا المقام يصدق على هذا المقام انه معاد محمد (ص)، ولما كان محمد (ص) محيطا بالكل وله مقام فى الدنيا ومقام فى نفوس العباد فاذا خرج من الدنيا صح ان يقال اذا عاد اليها: انها معاده، وكذا نفوس العباد فصح التفسير بان الذى فرض عليك العمل بالقرآن لرادك الى مكة، وصح التفسير بان الذى عين واثبت عليك مقام الجمع لرادك الى ذلك المقام او الى الدنيا او الى نفوس العباد حين احتضارهم او حين حسابهم كما اشير اليها فى الاخبار والاقوال، وعن السجاد (ع) انه قال: يرجع ا ليكم نبيكم (ص) وامير المؤمنين (ع) { قل ربي أعلم من جآء بالهدى } ما يهدى به الى الجنة ونعيمها او الى الله وقربه من الاعمال الحسنة او من جاء بوصف الاهتداء الى الدين وهذا جواب لادعاء كان مذكورا فانهم كثيرا كانوا ينسبون محمدا (ص) الى الضلال او جواب لسؤال ناش من قوله: { من جآء بالحسنة فله خير منها } (الآية) كأنه قيل: من الذى يجيء بالحسنة؟ ومن الذى يجيء بالسيئة؟- { ومن هو في ضلال مبين } وخالف بين الفقرتين لايهام ان الضال واقف فى جهنام نفسه، والمهتدى مهاجر من دار شركه الى ربه.
[28.86]
{ وما كنت } عطف باعتبار المعنى فان المقصود من قوله: { قل ربي أعلم } (الآية) تسليته كأنه قال: انت على الهدى وما كنت { ترجو أن يلقى إليك الكتاب } يعنى النبوة والقرآن { إلا رحمة من ربك } استثناء مفرغ فى موضع التعليل او منصوب بنزع الخافض اى الا برحمة من ربك او استثناء منقطع والمعنى لكن اعطيت الكتاب رحمة من ربك { فلا تكونن ظهيرا للكافرين } فان الكتاب نعمة والنبوة نعمة عظيمة فلا تصرفهما فى اعداء المعطى، وهذه وما بعدها خطاب له (ص) على اياك اعنى واسمعى يا جارة.
[28.87]
{ ولا يصدنك عن آيات الله } التكوينية من احكام الرسالة وغرائب الآخرة بان لا تعمل بها وتنسيها وعن آياته التدوينية بان لا تعمل بها وتتركها { بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك } بالقول بتذكير الآيات وبالافعال والاخلاق والاحوال بالعمل بالآيات، او المعنى ولا يصدنك عن آيات الله النازلة فى على (ع) وادع الى على { ولا تكونن من المشركين } بولاية على (ع).
[28.88]
{ ولا تدع مع الله إلها آخر } من الاصنام والكواكب والاهوية، او لا تدع مع على (ع) فى ولايته وليا آخر وهذه تأكيد لقوله: { ولا تكونن من المشركين } { لا إله إلا هو } تعليل للنهيين السابقين { كل شيء هالك } تعليل لقوله تعالى: { لا إله إلا هو } { إلا وجهه } اى الا وجه الله او وجه ذلك الشيء وان كان رجوع الضمير الى الله جاز ان يكون المراد وجه الله الذى به يتوجه الى الاشياء وان يكون وجه الشيء الذى به يتوجه الى الله يعنى كل شيء هالك الا وجه ذلك الشيء الذى به يتوجه الى الله فيكون الاضافة لادنى ملابسة.
اعلم، ان الوجه اسم لما يتوجه به ولا اختصاص له بوجه بدن الانسان وان فى كل شيء لطيفة غيبية الهية هى مقومة لذلك الشيء، ومبقية ومشخصة له، وهى فاعليته تعالى وقضاءه وعلمه، وتلك اللطيفة هى تحفظه وتربيه وتبلغه الى كماله الخاص به ان لم يعقه عائق، والى تلك اللطيفة اشار من قال بالفارسية:
يكى ميل است با هرذره رقاص
كشاند ذره را تا مقصد خاص
داوند كلخنى را تا بكلخن
رساند كلشنى را تا بكلشن
واليها اشار الآخر بقوله:
كرزجاهى عكس ما هى وانمود
سر بجه دركرد وآنرا مى ستود
در حقيقت مادح ماه است او
كرجه جهل او بعكسش كردرو
مدح او مه راست نى آن عكس را
كفر شدآن جون غلط شد ماجرا
وهذه اللطيفة هى التى بها يتوجه الاشياء الى غاياتها وكمالاتها الخاصة بها، وبها يتوجه الانسان الى الآخرة والى الله تعالى والى خلفائه (ع)، وبها يتوجه الله الى الاشياء والى الانسان فتلك اللطيفة بوجه وجه الاشياء وبوجه وجه الله، ولما كانت تلك اللطيفة هى المسماة بالولاية التكوينية المعبر عنها بالحبل من الله وهى ما بها توجه الاشياء تكوينا، وللانسان توجه آخر تكليفى وذلك التوجه التكليفى لا يكون الا بالولاية التكليفية المعبر عنها بالحبل من الناس لانها لا تحصل الا بتوسط المظاهر البشرية بالبيعة الخاصة الولوية وبها يدخل الايمان فى القلب ويحصل نسبة الابوة والبنوة بين المظاهر وبايعيهم صح تفسير الوجه فى الآية بالدين اى الولاية التكليفية او الحاصل بالولاية التكليفية وبالانبياء والاولياء (ع) وبكل مطيع لله ولرسوله (ص)، وقد فسر وجه الله فى اخبار كثيرة بالانبياء والائمة (ع) وبدين الله وبمن اطاع الله ورسوله (ص)، اذا عرفت هذا فاعلم ان الحدود والتعينات اعتباريات محضة لا وجود لها حقيقة وانما الوجود والبقاء لتلك اللطيفة، ولذلك قيل: الاعيان الثابتة ما شمت رائحة الوجود ابدا وانما هى باقية على ما هى عليه من انها ليست موجودة من ذواتها وانما الوجود لتلك اللطيفة بالذات ولها بالعرض فهى اى الاشياء المتكثرة الممتازة التى هى عين تلك الحدود هالكة اى غير موجودة من الابد الى الازل وتلك اللطيفة موجودة من الابد الى الازل فالباقى من كل شيء هو تلك اللطيفة، والهالك كل ما سواها من الحدود والاعتبارات { له الحكم } لا لغيره لان غيره هالك { وإليه ترجعون } لا الى غيره والضميران المجروران صح رجوعهما الى الوجه والى الله لان تلك اللطيفة هى المحاكمة فى الاشياء وعلى الاشياء واليها يرجع وجود كل شيء بعد ملاحظة فناء جميع حدوده.
[29 - سورة العنكبوت]
[29.1]
قد مضى فى أول البقرة تفصيل تام لجملة فواتح السور.
[29.2]
{ أحسب الناس } استفهام انكارى توبيخى { أن يتركوا } قائم مقام المفعولين لحسب { أن يقولوا } لأن يقولوا، أو بأن يقولوا، أو فى أن يقولوا، أو هو بدل من أن يتركوا بدل الاشتمال { آمنا وهم لا يفتنون } لا يبتلون ولا يمتحنون حتى يظهر لطيفة ايمانهم ويخلص حقيقة ولايتهم وهذا لا يكون فلا ينبغى هذا الحسبان بل ينبغى لمن آمن بقبول الرسالة أو الولاية ان يوطن نفسه على الامتحان كالمريض الذى يسلم بدنه الى الحجام والفصاد للشرط وجرح الفصد، وهذا الامتحان قد يكون بالتكاليف البدنية والمالية، وقد يكون بالمصائب فى الأنفس والأموال، وقد يكون باذى الخلق شتما وضربا وإجلاء وقتلا.
[29.3]
{ ولقد فتنا الذين من قبلهم } ممن ادعى الإيمان العام بالبيعة العامة النبوية او الايمان الخاص بالبيعة الخاصة الولوية والجملة حالية واللام لام القسم { فليعلمن الله } الفاء سببية اى فتناهم بسبب انه ينبغى ان يعلم الله { الذين صدقوا } والعلم ههنا بمعنى العرفان ومتعد الى مفعول واحد، او المفعول الثانى محذوف، والتقدير ليعلمن الله الذين صدقوا صادقين او متميزين من غيرهم { وليعلمن الكاذبين } وقرئ وليعلمن المنافقين وقرئ فى كليهما بضم الياء وكسر اللام من اعلم بمعنى جعله ذا علامة، او من العلم بمعنى العرفان، او من العلم المتعدى الى المفعولين.
[29.4-5]
{ أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا } الآية الأولى تسلية للمؤمنين وهذه تخويف للمسيئين { سآء ما يحكمون من كان يرجو لقآء الله } اى يرغب ويطلب او يخاف ويهرب فان الرجاء قد يستعمل بمعنى الخوف فيكون تهديدا وترغيبا { فإن أجل الله لآت } فليثبت الراغب على رغبته، وليزعج الخائف عما يخوفه { وهو السميع } لاقوالكم القالية والحالية { العليم } بجميع اعمالكم ونياتكم فليحذر المسيء وليرغب المحسن وهذه الجملة جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: هل يقع لقاء الله.
[29.6]
{ ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه } جملة حالية او معطوفة لاستدراك توهم نشأ من ترغيبه تعالى فى العمل وتخويفه من المعصية فانه يتوهم منه ان الله ينتفع بالطاعة ويستضر بالمعصية { إن الله لغني عن العالمين } لا ينتفع بطاعتهم ولا يستضر بمعصيتهم.
[29.7]
{ والذين آمنوا وعملوا الصالحات } عطف على من جاهد (الآية) نحو عطف التفضيل على الاجمال ورفع لتوهم نشأ من قوله: فانما يجاهد لنفسه كأن متوهما توهم ان المجاهد ينتفع بمجاهدته من دون التفات من الله وفعل منه بالنسبة اليه ولم يذكر المقابل لقوله: ومن جاهد فانما يجاهد لنفسه فان الموافق للمقابلة والمقصود ان يقال: ومن تقاعد فانما يتقاعد على نفسه ولم يذكر المقابل ههنا ايضا فان المنظور بحسب اقتضاء المقام ان يقول: والذين كفروا وعملوا السيئات لنجزينهم جهنم لعدم الاعتناء بهم وبذكرهم ولان حكمهم يعلم بالمقايسة والمقابلة ولاكتفائه عن ذكرهم فى مقابل المؤمنين بقوله: ومن الناس من يقول (الآية) وبقوله: وقال الذين كفروا (الآية) كأنه اجل شأن المؤمنين من ان يذكر المنافقين والكفار فى مقابلهم ومقارنين لهم { لنكفرن } اى لنزيلن { عنهم سيئاتهم } كلها { ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون } قد مضى تحقيق هذه الآية فى اواخر سورة التوبة وفى غيرها.
[29.8]
{ ووصينا الإنسان بوالديه حسنا } قد مضى فى سورة البقرة وفى سورة النساء بيان للوالدين وتعميم لهما وبيان للاحسان اليهما، ولما كان الاهتمام بتعظيم الوالدين ولا سيما الروحانيين بعد تعظيم الله وتوحيده اكثر من سائر الطاعات بل لا يصدق الطاعة على عمل لم يكن فيه تعظيم الوالدين الروحانيين بعد تعظيم الله كرر الله تعالى التوصية باحسان الوالدين وقرنه بتوحيده ونهى الاشراك به فى كثير من مواضع الكتاب، ولما ذكر حال الذين آمنوا وعملوا الصالحات ولم يكن يحصل الايمان الا بالبيعة العامة النبوية او البيعة الخاصة الولوية وبكل منهما يحصل الابوة والبنوة الروحانيتان ولم يكن فى الاعمال الصالحة عمل اصلح من الاحسان الى الوالدين الروحانيين عطف عليه التوصية باحسان الوالدين، ولما كان الوالدان الجسمانيان بعد الوالدين الروحانيين اعظم حقا من كل ذى حق لم يكن فى الاعمال الصالحة اصلح من الاحسان اليهما بعد الاحسان الى الوالدين الروحانيين { وإن جاهداك } اى الوالدان الروحانيان على ما ورد فى الخبر فيكون الضمير راجعا الى الوالدين الروحانيين السفليين بطريق الاستخدام وهما الشيطان والنفس واظلالهما، او الوالدان الجسمانيان { لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهمآ } ونذكر بعض الاخبار فى سورة لقمان فى ذيل هذه الآية ان شاء الله تعالى { إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون } فى موضع تعليل للسابق.
[29.9]
كرره اهتماما بشأنهم.
[29.10-11]
{ ومن الناس } فى موضع والذين قالوا آمنا ولم تؤمن قلوبهم { من يقول آمنا بالله فإذآ أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله } يعنى اذا اوذى حالكونه فى طاعة الله، او اذا اوذى فى حق الله وفى الايمان به بان آذاه انسان او اصابة ضر فى بدنه وماله جعل فتنة الناس مثل عذاب الله وانصرف عن طاعة الله والايمان به وهذا هو عين النفاق { ولئن جآء نصر من ربك } بالفتح والغنيمة { ليقولن إنا كنا معكم } كما هو ديدن طالبى الدنيا كلما وجدوا اضرارا بدنياهم انصرفوا واذا ظنوا انتفاعا فى دنياهم اقبلوا { أ } ليس الله يعلم نياتهم ولا يعذبهم عليها { و ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين } ليظهر علمه بهم او ليميزهم، كرر هذا ايضا اهتماما بالترغيب والترهيب.
[29.12-13]
{ وقال الذين كفروا } هذا فى موضع والذين كفروا { للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم } قيل: كان الكفار يقولون للمؤمنين: كونوا معنا فان الذى تخافون انتم منه ليس بشيء فان كان حقا نتحمل نحن ذنوبكم فيعذبهم الله عز وجل مرتين مرة بذنوبهم ومرة بذنوب غيرهم { وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون وليحملن أثقالهم } اثقال ذنوبهم { وأثقالا مع أثقالهم } من غير ان ينقص من اثقال المفترين شيء { وليسألن يوم القيامة } اى ليؤاخذن فان السؤال كثيرا ما يستعمل فى المؤاخذة والعقوبة { عما كانوا } عن كونهم او عن الذى كانوا او عن شيء كانوا { يفترون } من الشركاء فى الوجوب او فى العبادة او فى الطاعة او فى الولاية او من الاقوال والافعال التى يفترونها على الله.
[29.14-15]
{ ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه } لما ذكر حال المؤمنين والمنافقين والكافرين بنحو كلى اراد ان يبين حالهم بامثلة جزئية وبدأ بنوح (ع) والمؤمنين به والكافرين به لانه اول نبى كان حكاية رسالته وانكار قومه وهلاكهم معروفة عندهم { فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما } عن الباقر (ع) انه كان يدعوهم سرا وعلانية فلما ابوا وعتوا قال: رب انى مغلوب فانتصر { فأخذهم الطوفان وهم ظالمون فأنجيناه وأصحاب السفينة } اى الذين آمنوامعه، او دخلوا فى الفلك معه { وجعلناهآ آية للعالمين } اى جعلنا السفينة من حيث صنعها من غير بحر وماء ومن حيث انجائها وانجاء اهلها آية للعالمين بحيث بقى آثارها فى الافواه والاخبار وانتشرت فى العالم.
[29.16-17]
{ وإبراهيم } عطف على نوحا او بتقدير اذكر او ذكرهم { إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم } من تقليد الآباء واخذ الدين بالرسم والعادة وعبادة الاصنام من غير حجة، وخير اما خال من معنى التفضيل او الاتيان بصيغة التفضيل لاعتقادهم بان ذلك خير { إن كنتم تعلمون إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون } من عند انفسكم من دون برهان { إفكا } اى كذبا فى ادعاء انها الهة او معبودات او شفعاء وهذا ابتداء كلام من الله او هو من قول ابراهيم (ع) { إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا } فاذا كانوا لا يملكون لكم رزقا { فابتغوا عند الله الرزق } لانه هو الذى يملك رزق كل مرزوق، وهذا ايضا يحتمل كونه من قول ابراهيم (ع) ومن قول الله تعالى { واعبدوه } لاستحقاقه بمالكية الرزق { واشكروا له } لانه المالك للنعم كلها ومعطيها { إليه ترجعون } تعليل لسابقه.
[29.18]
{ وإن تكذبوا } يجوز فيه الوجهان ايضا، ويجوز ان يكون هذا ابتداء كلام وخطاب من الله تعالى لامة محمد (ص) ومعترضة بين حكايات قول ابراهيم (ع) يعنى ان تكذبوا فلا غرو فيه فان هذا ديدن اسناخكم من القديم { فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ } اى تبليغ رسالته { المبين } وليس عليه حفظكم من التكذيب وسائر المعاصى.
[29.19-20]
{ أولم يروا } قرئ بالغيبة على تقدير القول او على كونه ابتداء كلام من الله معترض بين الحكاية، وقرئ بالخطاب على انه من الحكاية وموافق لسابقه او على انه ابتداء كلام من الله معترض { كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده } يعنى كيف يبدأ الله الخلق من العناصر او من عالم الارواح ثم يعيده الى العناصر او ثم يعيده اليه ورؤيتهم لذلك برؤية انهم لم يكونوا فى اول خلقتهم على شيء من صفات الاخرويين ويتدرجون فى صفات الكمال ويستكملون بصفات الروحانيين، او المعنى على التوبيخ يعنى ينبغى لهم ان يستكملوا نفوسهم حتى يشاهدوا اعادة الله اياهم { إن ذلك على الله يسير قل } خطاب لابراهيم او ابتداء كلام خطاب لمحمد (ص) { سيروا في الأرض } ارض الطبع، او ارض القرآن والاخبار، او ارض سير الامم الماضية، او ارض وجودكم حتى تشاهدوا حال المكذبين والمصدقين، او تعلموا حالهم من مشاهدة آثارهم، او تشاهدوا ابداء الخلق واعادته { فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشىء النشأة الآخرة } يعنى حتى تعلموا ان الله ينشئ النشأة الآخرة فان شهود الابداء يؤدى الى العلم بالنشأة الآخرة كما قال: لقد علمتم النشأة الاولى فلولا تذكرون { إن الله على كل شيء قدير } فما لهم ينكرون الاعادة مع انها مشهودة لهم.
[29.21-22]
{ يعذب من يشآء } حالية او مستأنفة جواب لسؤال مقدر { ويرحم من يشآء وإليه تقلبون ومآ أنتم بمعجزين } الله عن ادراككم وعذابكم { في الأرض } حالكونهم فى الأرض او هو ظرف لمعجزين { ولا في السمآء } لو كنتم فى السماء او هو كناية عن الآخرة { وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير } لا فى الدنيا ولا فى الآخرة فما لكم تعبدون غيره وتتوسلون بغيره وقد مضى مكررا بيان الولى والنصير وان النبى بنبوته وخليفته بخلافة النبوة نصير، والولى بولايته وخليفته بخلافة الولاية ولى يتولى اصلاح العبد وتربيته.
[29.23-24]
{ والذين كفروا بآيات الله ولقآئه } من حيث انها آيات من الآيات التكوينية فى الآفاق والانفس واعظمها الآيات العظمى من الانبياء والاولياء (ع) والآيات التدوينية من الكتب السماوية واحكام النبوة والرسالة، وهذا ابتداء كلام من الله ان لم يكن سابقه من الله { أولئك يئسوا من رحمتي } هذا مقابل لقوله: الذين آمنوا وعملوا الصالحات (الآية) لكن مقابلته له فى اللفظ وعطفه عليه بعيد بحسب اللفظ، وقوله: اولئك يئسوا من رحمتى دعاء عليهم او اخبار بانه ينبغى ان يئسوا، او اخبار بانهم يائسون بالفعل من رحمته { وأولئك لهم عذاب أليم فما كان جواب قومه } قوم ابراهيم (ع) { إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه } كما سبق قصته فأجمعوا ان يحرقوه فجمعوا الحطب اكثر ما يكون ثم اوقدوا النار ثم اسقطوه فيها { فأنجاه الله من النار } على ما سبق تفصيله { إن في ذلك } الانجاء { لآيات } دالات على مبدء عليم حكيم قادر محيط { لقوم يؤمنون } باحدى البيعتين او لقوم يذعنون بالله وملائكته وكتبه ورسله (ع) واليوم الآخر.
[29.25]
{ وقال } ابراهيم (ع) او قال الله { إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا } قرئ مودة بينكم بالنصب والاضافة وبالرفع والاضافة وبالنصب منونة وبنصب بينكم يعنى ان اتخاذ الاوثان آلهة ليس عن اعتقاد دينى وطلب شفيع اخروى وخوف عقاب الهى بل محض المودة الدنيوية وان يحبكم اقرانكم ورؤساكم مثل اكثر المتزهدين فى دين الاسلام يتجشمون مرارة الزهد وتعب منع النفس عن لذائذها محض المراياة والصيت وان يقولوا فى حقه { ثم يوم القيامة يكفر بعضكم } بعض العابدين { ببعض } آخر منهم، او بعض العابدين والمعبودين ببعض آخر منهم، او يكفر العابدون بالمعبودين { ويلعن بعضكم بعضا } او يكفر كل بعض من العابدين والمعبودين بكل بعض ويلعن كل بعض كل بعض فان العابدين لما كان عبادتهم للاصنام مودة بينهم فى الحيوة الدنيا ولم يكن فى عبادتهم جهة آلهية بل كان عبادتهم لها ساترة للجهة الالهية ويظهر يوم القيامة ان توادهم وعبادتهم كانت مانعة لهم عن موائدهم الاخروية ومؤدية لهم الى العذاب الاليم كانت تورث بغض كل للآخر ولعن كل للآخر والمعبودون ينكرون عبادتهم لهم وينسبونهم الى الاهوية والجنة ويلعنونهم لانهم يلعنهم اللاعنون { ومأواكم النار وما لكم من ناصرين } الاقتصار ههنا على الناصر لان فى النار ليس الا النصرة ان كانوا ينصرون واما الولاية فانها بعد الخروج من النار.
[29.26-27]
{ فآمن له لوط وقال إني مهاجر } من وطنى مع ابراهيم (ع) الى الشام ومن موطن نفسى بايمانى على يد ابراهيم (ع) { إلى ربي } فى الولاية وهو مقام القلب والعقل { إنه هو العزيز الحكيم ووهبنا له } بعد هجرته الى الشام ومكثه بها مدة طويلة { إسحاق ويعقوب } بعد اسحاق (ع) { وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب } اى الرسالة او جنس الكتاب السماوى { وآتيناه أجره في الدنيا } بان صار عزيزا فى الدنيا واعطيناه اموالا كثيرة من اموال الدنيا وجعلنا له لسان صدق فى الدنيا بانه ليس احد الا وهو يمدحه { وإنه في الآخرة لمن الصالحين } الذين لم يبق عليهم شوب فساد.
[29.28-33]
{ و } ارسلنا { لوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل } بتعرضكم للمارة لاجل الفاحشة فيمتنعون عن السفر على بلادكم او تقطعون سبيل الولد او تقطعون السبيل بنهب اموال المارة، وقيل: كانوا يرمون ابن السبيل بالخزف فايهم اصابه كان اولى به ويأخذون ماله وينكحونه ويغرمونه ثلاثة دراهم وكان لهم قاض يقضى بذلك { وتأتون في ناديكم المنكر } عن الرضا (ع): كانوا يتضارطون فى مجالسهم من غير حشمة ولا حياء ، وقيل: المراد به جملة القبائح فانه كان مجالسهم تشتمل على انواع القبائح مثل الشتم والصفع والقمار وضرب المخراق وحذف الاحجار على من مر بهم وضرب المزامير وكشف العورات واللواط، وقيل: انهم كانوا يأتون الرجال فى مجالسهم { فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله } تهكما به { إن كنت من الصادقين قال رب انصرني على القوم المفسدين ولما جآءت رسلنآ إبراهيم بالبشرى } بالولد بعد اليأس منه { قالوا } لابراهيم (ع) بعد التفصيل الذى وقع بينهم كما سبق { إنا مهلكو أهل هذه القرية } قرية لوط { إن أهلها كانوا ظالمين قال إن فيها لوطا } بعدما جادلهم فى عدم اهلاكهم وبعدما قال لهم ان كان فيها واحد من المؤمنين اهلكتموهم؟- وقالوا له: لا، قال: ان فيها لوطا { قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين ولمآ أن جآءت } زاد ان ههنا لتأكيد لصوق الجزاء بالشرط بخلاف حكاية الرسل مع ابراهيم (ع) فان التأكيد لم يكن هناك مطلوبا ولم يكن اخبارهم باهلاك قوم لوط الا بعد مدة من ورودهم عليه { رسلنا لوطا سيء بهم } ورد عليه المساءة بسبب مجيئهم لما كان يعلم من حال قومه وتفضيحهم للمارة { وضاق بهم ذرعا } كناية عن ضيق الخلق وعدم الطاقة فان طويل اليد يسع من الاعمال ما لا يسعه قصيرها { وقالوا } بعدما رأوا مساءته { لا تخف ولا تحزن } مما تخاف وتحزن عليه { إنا منجوك } من هذه القرية او من العذاب الذى جئنا له { وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين } الاتيان بالماضى لتحقق وقوعه.
[29.34-35]
{ إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السمآء } عذابا منها { بما كانوا يفسقون ولقد تركنا منهآ آية بينة لقوم يعقلون } هى منزل لوط بقى عبرة للسيارة او اثر تقليب القرى وخرابها.
[29.36-38]
{ وإلى مدين أخاهم } فى المعاشرة والقبيلة { شعيبا فقال يقوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الأخر ولا تعثوا في الأرض مفسدين فكذبوه فأخذتهم الرجفة } الزلزلة الشديدة فيها الصيحة { فأصبحوا في دارهم جاثمين وعادا وثمودا } اى اذكر، او ذكرهما، او ارسلنا اليهما فحذف حرف الجر ونصبا { وقد تبين لكم من مساكنهم } بعض مساكنهم عند المرور عليها او تبين لكم من مساكنهم ما فعلنا لهم { وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل } الذى ينبغى ان يسلكه الانسان وهو سبيل الآخرة وسبيل الولاية { وكانوا مستبصرين } قادرين على الابصار او ذوى بصر او ذوى فطانة وبصيرة باطنية.
[29.39]
{ وقارون وفرعون وهامان } اى ذكرهم او اذكر او ارسلنا اليهم { ولقد جآءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين } فائتين او معجزين.
[29.40-41]
{ فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا } الحاصب الريح للتى تجمد التراب او المراد من الحاصب من يسقط الحصباء فان كان المراد به الريح كان المراد قوم هود فانه تعالى اهلكهم بريح صرصر عاتية وان كان المراد به المعنى الثانى كان المقصود قوم لوط { ومنهم من أخذته الصيحة } كاهل مدين وقوم صالح { ومنهم من خسفنا به الأرض } كقارون { ومنهم من أغرقنا } كقوم نوح وفرعون وقومه { وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون مثل الذين اتخذوا من دون الله } متعلق باتخذوا او حال من قوله تعالى: { أوليآء } اى اتخذوا اولياء حال كون الأولياء بعضا من غير الله { كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت } ولما كانت الولاية تطلق على ولاية المعاشرة وهى المحابة بين الخلق والمؤالفة وتطلق على قبول السلطنة والحكومة الحاصل بالبيعة العامة او الخاصة وكل منهما يعتمد الصاحب فيه على الصاحب الذى تولاه ويجعله ظهرا لنفسه وحصنا لوقت حاجته، كانت قد تمثل بالبيت وقد تمثل بالحبل وقد تمثل بالحصن، وقد يقال لها الظهر والوليجة والمعتمد والاستن وغير ذلك واذا كانت الولاية بالبيعة الالهية حصل من الوالى فى المولى عليه صورة ملكوتية هى ما بها الاتصال بين الوالى والمولى عليه وهى حافظته من كل آفة وهى حصنه المانع من تصرف الشيطان نحو تصرف يخرجه من تلك الولاية وبتلك الاعتبارات تسمى بالحبل والبيت والحصن وغير ذلك، واذا لم تكن آلهية او لم تكن حاصلة بالبيعة كان اعتماد المولى عليه على الولى واتصاله به وتحفظه من الآفات بولايته من محض تخيل المولى عليه لا من امر حاصل من الوالى فيه وما كان محض تخيل المولى عليه لم يكن له اثر فيه فى نفس الامر وكان كالعنكبوت التى تتخذ من ريقها بيتا ليحفظها عن الحر والبرد ومن سائر الآفات الواردة عليه من سائر الحشرات ومن الرياح وغيرها والحال انه لا يحفظها من شيء من ذلك { لو كانوا يعلمون } ان تلك الولاية ليست الا محض التخيل من غير امر حاصل منها فى نفس الامر لامتنعوا منها، او لفظة لو للتمنى، او المعنى لو كانوا من اهل العلم لعلموا ان كل ما يدعونه ليس غير الله وانما هو بحسب مداركهم الجزئية يتراءى غير الله.
[29.42]
{ إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء } ما نافية وما تدعون منقطع عن سابقه او متصل به ويعلم معلق عن العمل فيه وهذا اوفق بالمعنى الاخير لقوله لو كانوا يعلمون يعنى ان كلما تدعونه وتتخيلون انه غير الله ليس غير الله بل الظاهر فيه هو الله والباطن فيه ايضا هو الله لكنكم لتقيدكم وتحددكم بالمدارك الجزئية التى لا تدرك الا الكثرات المتغايرات المتحددات لا تدركون منها الواحد الاحد المقوم لها وتدعونها من حيث انها متغايرات كل من الآخر والكل مع الله والله يعلم ذلك ويعلم ان المقوم للكل والظاهر فيه والباطن فيه هو الله، وان كل ما يدعونه كانوا فى تلك الدعوة داعين لله لا غيره، ولما كان العبادة بنية العابد والنية لا تكون الا بالعلم بالمنوى وهؤلاء لا يعلمون ذلك حتى ينووا عبادة الله فى تلك العبادة كانوا مؤاخذين فى تلك الدعوة والعبادة لا مأجورين وقد مضى فى سورة البقرة عند قوله تعالى ولكن الله يفعل ما يريد ما يبين هذا المطلب ويحققه وقد قيل بالفارسية بيانا لهذا المطلب:
اكر مؤمن بدانستى كه بت جيست
يقين كردى كه دين در بت برستيست
اكر كافر زبت آكاه بودى
جرا در دين خود كمراه بودى
او لفظة ما موصولة والمعنى ظاهر ، او مصدرية ومن شيء بيان للمصدر والشيء عبارة عن الدعاء اليسير او ما استفهامية مفعول تدعون { وهو العزيز } الغالب الذى لا يغلبه شيء حتى يكون معبودا من دونه { الحكيم } الذى صنع صنع المخلوقات بنحو لا تكون خالية منه ومع ذلك لا يدركه الا قليل من عباده فيها للطفه فى صنعه وهذا المعنى يناسب كون ما نافية.
[29.43]
{ وتلك الأمثال } اى مثل العنكبوت ونظائره، او مثل العنكبوت وامثال الامم الماضية وانبيائهم (ع) { نضربها للناس } لتنبيههم وتذكيرهم { وما يعقلهآ } اى ما يدركها من جهة المقصود منها والنظر الى غاياتها { إلا العالمون } الذين فتح الله عليهم باب العلم بولاية على (ع) الحاصلة لهم بالبيعة الخاصة الولوية، واما غيرهم فلا يدركون من الامثال والاسمار والحكايات الا ظواهرها التى هى مبعدة لهم عن المقصود ومدركة بالخيال دون العقل، عن النبى (ص) انه تلا هذه الآية فقال:
" العالم الذى عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه ".
[29.44]
{ خلق الله السماوات والأرض بالحق } قد مضى مكررا هذه الآية { إن في ذلك } اى فى خلق السماوات والارض بحيث يتم بخلقهما امر المواليد واستمرار الفيض من الواهب الفياض بحيث لولاهما لما استتم امر المواليد ولما استمر الفيض ولما وجد غاية الايجاد وهو الانسان او فى خلق السماوات والارض متلبسات بالغايات الحقة او بالتنضيدات الحقة التى لا شوب باطل فيها { لآية } عظيمة او المراد بها الجنس اى آيات عديدة { للمؤمنين } بالبيعة العامة او الخاصة او للمذعنين بالله والآخرة.
[29.45]
{ اتل } جواب لسؤال مقدر كما ان قوله تعالى خلق الله السماوات (الآية) كان جوابا لسؤال مقدر كأنه قيل: هل لتعقل الامثال آية ومنبه؟- فقال جوابا: خلق الله السماوات والارض بالحق وفى خلقهما آيات عديدة منبهة على تعقل الامثال كما ان فيها آيات عديدة دالة على مبدء عليم حكيم قدير مريد رحيم رؤف وكأنه قيل بعد ذلك: هل لنا منبه على تذكر الآيات المودعة فى خلق السماوات والارض؟- فقال تعالى: اتل خطابا لمحمد (ص) على: اياك اعنى واسمعى يا جارة او خطابا عاما { ما أوحي إليك } بتوسط جبرئيل او ما اوحى اليك بسبب محمد (ص) { من الكتاب وأقم الصلاة } حتى تستعد لتذكر الآيات وتمتع من الملاهى التى تحجبك عن تذكر الآيات { إن الصلاة تنهى عن الفحشآء والمنكر } قد مضى فى اول البقرة وفى سورة النساء عند قوله
لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى
[النساء:43] تفصيل لمعانى الصلوة ومراتبها واقامتها، ولما كانت الصلوة القالبية بالمواضعة الالهية مانعة من الاشتغال بغيرها ولو كان مباحا كانت ناهية عن الفحشاء والمنكر القالبى بالمواضعة، والصلوة القلبية المأخوذة من صاحب اجازة الالهية تكون مانعة عن الفحشاء والمنكر فى مرتبة القلب، وكذلك الصلوة الصدرية التى هى السكينة القلبية المسماة بالفكر والحضور عندهم وهى ملكوت ولى الامر واول مقام معرفة على (ع) بالنورانية تنهى حالا او باللسان عن جملة الفحشاء والمنكر، وصلوة المصلى الذى هو مستغرق فى شهود جمال الوحدة ناهية له عن الالتفات الى غير الله وهذا الالتفات هو نكره فى ذلك المقام، والصلوة التى هى عبارة عن الرسول (ص) او الامام (ع) تنهى عن الفحشاء والمنكر اللذين هما مقابلان لهما من اصناف البشر وقد فسر الصلوة بكل وفسر الفحشاء والمنكر باعداء الرسول (ص) والامام (ع)، نقل: انها ما لم تنه الصلوة عن الفحشاء والمنكر لم تزدد من الله عز وجل الا بعدا، وروى ان فتى من الانصار كان يصلى الصلوات مع رسول الله (ص) ويرتكب الفواحش، فوصف ذلك لرسول الله (ص) فقال: ان صلوته تنهاه يوما، فلم يلبث ان تاب، وعلى هذا كان معنى الآية ان الصلوة تنهى فى المستقبل صاحبها عن الفحشاء والمنكر { ولذكر الله أكبر } ان اريد بالصلوة الصلوة القالبية كان المراد بذكر الله ذكر الله للعبد، او الذكر القلبى، او الذكر الذى هو الفكر، او ذكر اوامره ونواهيه عند كل فعال الذى يحمل العبد على الامتثال والانتهاء، وان كان المراد الصلوة القلبية كان المراد بذكر الله ذكر الله للعبد او واحد مما ذكر بعد الذكر القلبى وهكذا الحال فى سائر مراتب الصلوة، وان كان المراد بالصلوة الرسول (ص) او الامام (ع) كان المراد بذكر الله ذكر الله للعبد او مقام نورانيتهما فانه ذكر الله حقيقة { والله يعلم ما تصنعون } فيعلم صلوتكم وذكركم لله ويجازيكم على حسبهما على انهما ينبهانكم على تذكر الآيات والجملة حالية.
[29.46]
{ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي } بالمجادلة التى { هي أحسن } من المجادلات او بالطريقة التى هى احسن، او بالكلمة التى هى احسن والجدل والجدال بمعنى القتل فان المجادل يريد ان يقتل المجادل له الى مذهبه وذلك يتصور بالسيف والضرب والحبس والمكالمة بالشتم والخشونة وابطال الحق واثبات الباطل ولكنه خص فى العرف بصرف الخصم عن مذهبه بالمباحثة والمكالمة العلمية، والمراد باهل الكتاب كل من آمن بنبى وكل من انتحل ملة لهية فيشمل اهل ملة الاسلام ومنتحليها كما يشمل الزردشتيين والمهاباديين، او المراد المعروفون بهذا الاسم وهم اليهود والنصارى لكن يشمل الحكم اهل الاسلام بطريق التعريض او بطريق القياس الاولوى، ولما كان اهل الملة الالهية ومنتحلوها بواسطة نسبتهم الى نبى او انتحالهم النسبة اليه ذوى حرمة فى الجملة خصهم بالذكر من بين اقسام الكفار اشعارا بان المشركين لا حرمة لم ولا مداراة معهم، والمجادلة الحسنة ان لا يظهر باطلا ولا يبطل باطلا بباطل ولا يقول ما يغيظ المجادل ولا يعنته ولا يزجره، ولا يقول مالا يتحملة، وينصف فى حق اظهره خصمه ولا يرده ولا يتكلم بما يخجله، ولا يكون همة الغلبة عليه بل يكون همته اصلاحه ولو كان ذلك بان يجعل نفسه مغلوبة ان رأى صلاحه ولينه فى ذلك { إلا الذين ظلموا منهم } فى المجادلة او ظلموكم بالمقاتلة او ظلموا انفسهم باللجاج وعدم الاستماع الى حقكم وهذا ترخيص فى المجادلة بغير الاحسن مع الظالمين منهم مثل قوله
لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم
[النساء:148] لكن لا ينبغى الخروج من حق او الدخول فى باطل { وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم } بالاقرار بحقية كتابهم ودينهم حتى تكسر سورة لجاجهم { وإلهنا وإلهكم واحد } باظهار الاتحاد معهم فى المبدء والمعبود حتى يدل ذلك على انكم متحدون معهم غير مغايرين لهم فيرغبهم ذلك فى مخالطتهم وموادتهم لكم { ونحن له } اى لالهكم الذى هو الهنا { مسلمون } لا لغيره حتى تعادونا بذلك وقد سبق فى سورة النحل عند قوله:
وجادلهم بالتي هي أحسن
[النحل:125] شطر من بيان الآية.
[29.47]
{ وكذلك } اى مثل انزال الكتاب اليهم، او مثل انزال الامر بالمجادلة بالتى هى احسن، او مثل انزال الامر بان تقولوا آمنا بالذى انزل اليكم (الى آخر الآية) { أنزلنآ إليك الكتاب } اى كتاب النبوة او القرآن { فالذين آتيناهم الكتاب } اى القرآن وهم آل محمد (ص) او فالذين آتيناهم احكام النبوة بقبول الرسالة بالبيعة العامة او بقبول الولاية بالبيعة الخاصة، او فالذين آتيناهم الكتاب اى الانتعاش او الاستعداد لامور الآخرة تكوينا { يؤمنون به } اى يذعنون او يؤمنون بالبيعة العامة او الخاصة بالقرآن او بمحمد (ص) او بكتاب النبوة او بعلى (ع) فانه المنظور من كل منظور { ومن هؤلاء } يعنى من اهل الكتاب وهم اليهود والنصارى او من هؤلاء المشركين او من هؤلاء الذين آتيناهم القرآن وآمنوا به بالبيعة { من يؤمن به } اى يؤمن باحدى البيعتين او يذعن قلبا بمحمد (ص) او بالقرآن او باحكام النبوة او بعلى (ع) { وما يجحد بآياتنآ } التى اعظمها على (ع) { إلا الكافرون } وهذا تعريض بمنافقى الامة الذين جحدوا عليا (ع).
[29.48]
{ وما كنت تتلوا } جملة حالية او معطوفة ورد لمن زعم او قال انه اخذه من غيره او التقطه من كتب السابقين { من قبله } اى من قبل القرآن { من كتاب ولا تخطه } اى القرآن او الكتاب المطلق { بيمينك إذا لارتاب المبطلون } يعنى لكان ارتيابهم فى موقعه والا فهم كانوا مرتابين ومن اعظم آيات صدقه فى دعواه انه (ص) كان يتيما فقيرا راعيا لم يختلف الى معلم ولم يختلط مع عالم ولم يتعلم الخط ولم يكن فى كتاب وقد جاء بكتاب وشريعة قد حار فى درك دقائقهما الحكماء، وعجز عن استقصاء العلوم المندرجة فيهما العلماء، واستحصر عن بلوغ لطائفهما العرفاء، واعترف ببراعة كتابه فى البلاغة البلغاء، وعن مولانا ومقتدانا على بن موسى الرضا (ع): ومن آياته انه كان يتيما فقيرا راعيا اجيرا لم يتعلم كتابا ولم يختلف الى معلم ثم جاء بالقرآن الذى فيه قصص الانبياء (ع) واخبارهم حرفا بحرف، واخبار من مضى ومن بقى الى يوم القيامة.
[29.49]
{ بل هو } اى كتاب النبوة او كتاب الولاية والقرآن صورتهما وهو اضراب عن قوله تعالى: فالذين آتيناهم الكتاب (الآية) فانه لا يدل على ازيد من الايمان التقليدى وهذا يدل على الايمان التحقيقى بالكتاب بل على التحقق بالكتاب على طريقة اتحاد العاقل والمعقول يعنى هو بنفسه { آيات } دالات على المبدء وصفاته وعلى الرسالة واحكامها وصدق الآتى، او المراد ان صاحب الرسالة وصاحب الولاية بولايتهما ونورانيتهما آيات { بينات } واضحات او موضحات { في صدور الذين أوتوا العلم } لم يقل فى صدور الذين كسبوا العلم اشعارا بان العلم نور يقذفه الله فى قلب من يشاء وليس يحصل بكسب، نعم الكسب يعد الرجل لقذف هذا العلم، واتى بالفعل مبنيا للمفعول للاشارة الى ان الفاعل لا يحتمل ان يكون غير الله تعالى والمراد بمن اوتوا العلم هم الاوصياء (ع) كما فى اخبار كثيرة عنهم (ع) { وما يجحد بآياتنآ إلا الظالمون } كرر هذا للاهتمام بالتعريض بالامة واشعارا بان الجاحد كما انه كافر ظالم ايضا.
[29.50]
{ وقالوا } عطف بلحاظ المعنى كأنه قال جحد الظالمون الآيات وقالوا { لولا أنزل عليه آيات من ربه قل } لهم بالتنزل عن مقامك الولوى وباظهار العجز بحسب مقامك البشرى { إنما الآيات عند الله } وليس شيء منها عندى حتى آتى بمقترحكم { وإنمآ أنا نذير مبين } ظاهر او مظهر لانذارى وصحته وقد مضى ان الرسول (ص) لا بد وان يكون ذا شأنين؛ شأن الانذار برسالته وشأن التبشير بولايته لكنه لما كان شأن الرسالة فيه غالبا كان قد يتكلم بشأن الرسالة ويحصر شؤنه فيه كما انه حصر جملة شؤنه ههنا فى الانذار الذى هو شأن الرسالة لا الولاية.
[29.51]
{ أولم يكفهم } انك كنت يتيما غير مختلف الى احد ولم تتعلم من احد ولم يكفهم فى الدلالة على صدقك حتى يقترحوا آية اخرى { أنآ } لا غيرنا { أنزلنا عليك الكتاب } احكام الرسالة او صورة القرآن مع انك كنت اميا وكتابك كان مشتملا على دقائق الحكم بحيث يعجز عن ادراكها العقلاء والحكماء حالكونهم { يتلى عليهم } وليس مخفيا عليهم { إن في ذلك } الانزال او فى ذلك الكتاب او فى ذلك المذكور من استمرار تلاوة الكتاب { لرحمة } من حيث دلالته على صدق رسالتك { وذكرى } لحقيتك اى دلالة حقيتك { لقوم يؤمنون } باحدى البيعتين او لقوم يذعنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، واللام لتبيين مفعول الرحمة والذكرى يعنى غير المؤمنين لكونهم غير متوجهين الى الآخرة وغير مهتمين بالله وبمن يدعو الى الله لا يتأملون فيه ولا يتفكرون فى دلالته فيستمعونه استماع الاسمار فلا ينتفعون به ولا يتذكرون، روى ان اناسا من المسلمين اتوا رسول الله (ص) بكتف كتب فيها بعض ما يقوله اليهود فقال: كفى بها ضلالة قوم ان يرغبوا عما جاء به نبيهم الى ما جاء به غير نبيهم فنزلت الآية { قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا... }.
[29.52]
{ قل } لهم بعدما لا ينفع فيهم هذه الآيات اظهارا لاعراضك عنهم والتجائك الى ربك حتى يكسر سورة لجاجهم فان الاصرار على الدعوة مع اللجوج يزيد فى لجاجته { كفى بالله بيني وبينكم شهيدا } فان كنت كاذبا يعلم كذبى ويعذبنى عليه، وان كنتم انتم كاذبين يعلمه ويعذبكم عليه { يعلم ما في السماوات والأرض } فاحذروا من العناد معه ومع رسوله { والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون } جملة حالية او معطوفة وبمنزلة النتيجة.
[29.53]
{ ويستعجلونك بالعذاب } بمثل ما قالوا عند توعيدك بالعذاب فائتنا بما تعدنا او بقولهم ان كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء { ولولا أجل مسمى لجآءهم العذاب } يعنى عدم اتيان العذاب ليس لما قالوا من انه ليس ما قلت حقا ولا لكرامتهم علينا بل لان لكل امر وقتا لا يتجاوزه { وليأتينهم } فى الدنيا وفى حال بقائهم مثل اتيان العذاب ببدر وغيرها ومثل البلايا فى الاموال والانفس او فى حال احتضارهم على ايدى الملائكة او فى الآخرة فى البرازخ او فى القيامة { بغتة } من غير تقدم امارة له او من غير استشعار منهم باماراته لانهماكهم فى الملاهى { وهم لا يشعرون } بمجيئه حين اتيانه، او لا يشعرون فى الحال بانه يأتيهم بعد والا لما سألوه.
[29.54]
{ يستعجلونك بالعذاب } كرر هذا القول للاشعار بان الاول كان بحسب عذاب الدنيا والثانى بحسب عذاب الآخرة، او لان الاول كان مقدمة للتهديد باتيان العذاب والثانى للتهديد باحاطته بهم فى الحال ولكنهم لا يشعرون به، او المنظور من التكرير المبالغة فى تسفيههم بالتجرى على ما ينبغى التحرز عنه ولو كان محتملا غير متيقن { وإن جهنم لمحيطة بالكافرين } وضع المظهر موضع المضمر اشعارا بعلة الحكم واظهارا لكفرهم بنفاقهم يعنى انهم كافرون وكل كافر واقع فى وسط جهنم ومعذب بانواع عذابها وان كان لا يشعر به فهم فى استعجالهم فى العذاب واقعون فى العذاب.
اعلم، ان النفس الانسانية بمقتضياتها الحيوانية انموذج الجحيم ولهباتها وانواع عذابها فان كان الانسان الواقع فى مقام النفس وهو الذى يكون فى الغيب من الله ومن الآخرة منقطعا عن الولاية ومستورا منه الوجهة الولوية كان واقعا فى جهنم وواقفا عليها ومحاطا بها، وان لم يكن منقطعا عن الولاية بان كان مؤمنا بها كانت عليه بردا وسلاما ولم يحس بها او احس بها وبآلامها لكن تكون تطهيرا له عن شوائبه الغريبة، وكون النفس الانسانية انموذج الجحيم ووجوب عبور الانسان عليها وعنها احد وجوه قوله تعالى:
وإن منكم إلا واردها
[مريم:71] وهى الجسر الممدود على متن جهنم وقد مضى فى سورة التوبة بيان اجمالى فى نظير هذه الآية لاحاطة جهنم بالكافرين.
[29.55-56]
{ يوم يغشاهم العذاب } مفعول للكافرين او ظرف لمحيطة او ظرف لفعل محذوف وهو اذكر او ذكرهم { من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول } قرئ بالغيبة وبالتكلم { ذوقوا ما كنتم تعملون يعبادي الذين آمنوا } بالبيعة على يد محمد (ص) البيعة العامة او على يد على (ع) البيعة الخاصة { إن أرضي واسعة } فاذا لم يتيسر لكم عبادتى فى ارض فاخرجوا منها الى ارض يمكن لكم توحيد عبادتى { فإياي } دون غيرى { فاعبدون } عن الصادق (ع): اذا عصى الله فى ارض انت بها فاخرج منها الى غيرها.
[29.57-59]
{ كل نفس ذآئقة الموت } فى مقام التعليل { ثم إلينا ترجعون والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون } قد مضى بيان الصبر والتوكل مشروحا وكذلك بيان جريان الانهار من تحت الجنات.
[29.60]
{ وكأين من دآبة } لا تحصى نوعا وفردا { لا تحمل } الخطاب عام او خاص بمحمد (ص) او بمن يزعم ان لا مدخلية فى الامور لشيء سوى الاسباب الطبيعية كالطبيعية اعتقادا او حالا كاكثر الناس { رزقها الله يرزقها وإياكم } فان الانسان فى بادى النظر يظن ان الرزق منوط بالاسباب الطبيعية لكن دقيق النظر يحكم بان لا مدخلية لشيء من الاسباب الطبيعية فى ارتزاق الانسان وليس الارتزاق الا بالاسباب الالهية وان الاسباب الطبيعية حجب على الاسباب الالهية ونعم ما قيل:
اى كرفتار سبب بيرون مير
لبيك عزل آن مسبب ظن مبر
هرجه خواهد آن مسبب آورد
قدرت مطلق سببها بردرد
اين سببها برنظرها برده هاست
كه نه هرديدا ارصنعش راسزاست
ديده بايد سبب سوارخ كن
تا حجب رابر كنداز بيخ وين
تا مسبب بيند اندر لا مكان
هرزه بيند جهدو اسباب دكان
{ وهو السميع } لاقوالكم القالية والحالية والاستعدادية التى لا شعور لكم بها { العليم } بمقدار الاستعداد وقدر الاستحقاق وعمدة اسباب الرزق هى السماوات والارض والشمس والقمر.
[29.61]
{ ولئن سألتهم } اى المتقيدين بالاسباب الغافلين عن مسبب الاسباب { من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر } اللاتى بها توليد المواليد وارتزاق المرتزقين { ليقولن الله فأنى يؤفكون } منه الى الاسباب ولا يكتفون به من الاسباب.
[29.62]
{ الله يبسط الرزق لمن يشآء من عباده ويقدر له } اى لمن يبسط او لغيره ممن يشاء فان من فيمن يشاء مطلق يجوز ارجاع الضمير اليه من غير اعتبار التقيد ببسط الرزق والجملة حالية او مستأنفة وتعليل لانكار الصرف عنه فى طلب الرزق، او تعليل لجملة الله يرزقها واياكم { إن الله بكل شيء عليم } فيعلم ما يصلح عباده من بسط الرزق وقبضه.
[29.63]
{ ولئن سألتهم من نزل من السمآء مآء فأحيا به الأرض من بعد موتها } لما كان الاسباب القريبة للرزق بعد السماوات والارض والشمس والقمر وامطار الامطار واحياء الارض بانبات النبات اتى به بعد السؤال عن السماوات والارض وتسخير الشمس والقمر { ليقولن الله قل } بعد اقرارهم بذلك { الحمد لله } شكرا لانعامه عليك بتبصيرك ذلك، او قل لهم بعد ذلك: جميع الصفات التى يحمد عليها لله فان جميع الخيرات المنتشرة المحسوسة التى لا يتجاوز مداركهم عنها محصورة فى خلق السماوات والارض والشمس والقمر وامطار الامطار وانبات النبات فهؤلاء لا يجحدون الله وتسبيبه لاسباب الرزق { بل أكثرهم لا يعقلون } فيتوسلون بالاسباب وينصرفون عن مسببها لعدم تعقلهم لا لانكارهم.
[29.64]
{ وما هذه الحياة الدنيآ إلا لهو ولعب } الجملة حالية او معطوفة باعتبار المعنى كأنه قال: انه هيأ اسباب الحيوة الدنيا الدانية التى حيوة جميع احيائها مشوبة بالممات، ووجودها مشوب بالاعدام، وجدها لهو او لعب ولم يتركها بدون تهية اسباب الوجود والبقاء والتعيش باعتراف المقر والمنكر فكيف بالحيوة الآخرة التى حيوة جميع اجزائها عين ذواتهم، ووجودها خالص من شوب النقص ولذاتها مبرأة من شوب الالم فان الحيوة الدنيا حيوة بالعرض { وإن الدار الآخرة } بجميع اجزائها { لهي الحيوان } محصورا فيها الحيوة او المعنى انهم مهتمون بامر الحيوة الدنيا التى يرون انها كلعب الاطفال غير باقية وغير مترتب عليها فائدة وان الدار الآخرة لهى الحيوان { لو كانوا يعلمون } لامتنعوا من الاهتمام بامر الحيوة الدنيا ولكانوا مهتمين بامر الحيوة الآخرة او لفظ لو للتمنى وقد مضى الفرق بين اللهو واللعب وان الاول ما لا يكون له غاية لا عقلانية ولا خيالية، والثانى ما لا يكون له غاية عقلانية ويكون له غاية خيالية وان كان الاول ايضا لا يخلو عن غاية خفية.
[29.65]
{ فإذا ركبوا في الفلك } عطف باعتبار المعنى كأنه قال اذا كانوا فى البر مطمئنين كانوا غافلين عن الله والآخرة مهتمين بامر الحيوة الدنيا فاذا ركبوا فى الفلك وخافوا على الحيوة الدنيا { دعوا الله مخلصين له الدين } اى الطريق اليه لا الملة او الاسلام او الايمان فان الآية عامة لذوى الملل الآلهية وغيرهم { فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون } بالله او بالآخرة او بالدين او يصيرون مشركين.
[29.66]
{ ليكفروا } هذا من قبيل
فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا
[القصص:8] اى صار غاية اشراكهم الكفران { بمآ آتيناهم } من نعمة الانجاء او مطلق النعم { وليتمتعوا } فى حيوتهم الداثرة فان من كان متذكرا لأنعم الله وانعامه لا يتيسر له التمتع بمستلذات الحيوانية { فسوف يعلمون } عقوبة الاشراك ووبال التمتع فى الحيوة الحيوانية او سوف يعلمون ان ذلك كان خطاء ووبالا.
[29.67-68]
{ أ } يكفر اهل مكة بنعمه ويشركون به { ولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا } اى لهم فان الحرم قديما وحديثا كان بالمواضعة آمنا اهله من الصدمات الواردة على سائر البلاد وسائر العرب وكان آمنا بمشية الله من تعرض المتعرضين له مثل تعرض ملك اليمن لخرابه { ويتخطف الناس من حولهم } بالقتل والاسر { أ } اهواءهم يتبعون { فبالباطل } الذى هو اهواءهم اولا، والشياطين ثانيا، والاصنام والكواكب او شركاء الولاية ثالثا { يؤمنون وبنعمة الله } التى هى جعل الحرم آمنا لهم او جملة نعم الله او الولاية التى هى اصل كل النعم { يكفرون ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا } مفعول به لافترى اذا كان على التجريد، او مفعول مطلق من غير لفظ الفعل وهذه العبارة تستعمل فى اظلمية المفترى وان كانت بمفهومها اللغوى اعم منه، والافتراء على الله اعم من ان يجعل مالم يأذن به شريكا له او يفتى او يقضى بين الناس او يؤم الناس به او يترأس من غير اذن واجازة من الله وخلفائه، فان الاجازة من الله او خلفائه تجعل وجود المجاز كالانفحة التى فى كل لبن وصل اليها كيفية بها تنعقد وتصير جبنا وبدون الاجازة لا يؤثر ملاقاة العالم ولا قوله ولا البيعة معه بل يكون العالم اضر على ضعفاء العقول من جيش يزيد لعنه الله على اصحاب الحسين (ع ) لان ملاقاة العالم حينئذ والبيعة معه يبطل استعداد الملاقى فى الاغلب، ومن هذا يعلم حال من يقول: لا حاجة لى الى الاجازة بل الناس محتاجون الى اجازتى { أو كذب بالحق } اى الامر الثابت او الولاية فانها الحق حقيقة وسائر الاشياء حقيتها لا تكون الا بها { لما جآءه } من نبى وقته (ع) نبصبه وتعيينه لولى الامر { أليس في جهنم مثوى للكافرين } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: ما حال المفترى والمكذب واين يكون مقامه؟- فقال: حاله انه كافر فانه ما لم يستر الحق ووجهته لا يمكنه الافتراء والتكذيب، وكل كافر مثواه جهنم، لكنه اداه بهذه العبارة تأكيدا له واشعارا بان كفر مثله لا حاجة له الى البيان.
[29.69]
{ والذين جاهدوا } عطف على قوله: ومن اظلم فانه فى معنى لا اظلم ممن ترك المجاهدة فينا واستبد برأيه وتوسل بانانيته وقوى انانيته بالافتراء علينا والتكذيب للحق، والذين جاهدوا بالقتال الظاهر او بالقتال الباطن، او اتعبوا انفسهم او بالغوا فى الجهد والتعب { فينا } اى فى طلبنا او فى محبتنا او فى طريقنا التى هداهم خلفاؤنا اليها او فى تعظيمنا او فى التوسل بنا بالتوسل الى خلفائنا { لنهدينهم } اى لنسلكنهم او لنوصلنهم او لنرينهم { سبلنا } المعوجة والمستقيمة جميعا { وإن الله لمع المحسنين } وضع الظاهر موضع المضمر للاشارة الى قياس اقترانى يعنى من هديناه سبلنا جميعا صار محسنا او من جاهد فينا كان محسنا، وكل من كان محسنا كان الله معه لان الله مع المحسنين، او المراد بالمجاهدين من كان فى الطريق وفى السفر الاول والثانى، والمراد بالمحسن من سار فى الخلق بالحق ومن سار فى السفر الرابع فانه المحسن على الاطلاق كما مضى فى سورة المائدة عند قوله تعالى
ثم اتقوا وأحسنوا
[المائدة:93] والمعنى الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا، والذين وصلوا الينا ثم عادوا الى الخلق كان الله الذى هو غيب عن المجاهدين حاضرا معهم، ووجه الالتفاتات فى تلك الآيات موكول الى ذوق الناظر، والله موفق للرشاد.
[30 - سورة الروم]
[30.1-3]
{ الم غلبت الروم في أدنى الأرض } اى ادنى ارضهم من ارض فارس او ارض العرب { وهم من بعد غلبهم سيغلبون } قرئ الفعلان مبنيين للمفعول، وقرئ الاول مبنيا للمفعول والثانى مبنيا للفاعل وهى القراءة المشهورة، وقرئ بالعكس، قيل: ان الفرس غزت الروم فوافوهم باذرعات وقيل: بالجزيرة فغلبوا عليهم وبلغ الخبر مكة ففرح المشركون وشمتوا بالمسلمين وقالوا: انتم والنصارى اهل كتاب ونحن وفارس اميون، وقد ظهر اخواننا على اخوانكم وليظهرن عليكم، فنزلت، وفى خبر: ان رسول الله (ص) بعدما هاجر الى المدينة واظهر رسالته كتب كتابا الى ملك الروم وكتابا الى ملك فارس فعظم ملك الروم كتاب الرسول (ص) وعظم رسوله، واهان ملك فارس كتابه (ص) واهان برسوله، وكان بين الروم والفرس مقاتلة فغلبت الفرس الروم فساء ذلك المسلمين لما كانوا احبوا ملك الروم وابغضوا ملك الفرس، فنزلت الآية: { الم غلبت الروم } يعنى غلبتها فارس فى ادنى الارض وهى الشامات وما حولها وهم يعنى فارس من بعد غلبهم الروم سيغلبون يعنى يغلبهم المسلمون.
[30.4-5]
{ في بضع سنين } وهى ما بين الثلاث الى العشر فلما غزا المسلمون فارس وافتتحوها فرح المسلمون بنصر الله عز وجل قيل: اليس الله عز وجل يقول { في بضع سنين } وقد مضى من نزول الآية سنين عديدة حتى افتتح المسلمون فى امارة عمر فارس؟- فقال الامام: الم اقل لك ان لهذا تأويلا وتفسيرا والقرآن ناسخ ومنسوخ اما تسمع لقول الله عز وجل { لله الأمر من قبل ومن بعد } يعنى اليه المشية فى القول ان يؤخر ما قدم ويقدم ما اخر فى القول الى يوم تحتم القضاء بنزول النصر فيه على المؤمنين، وبناء ما ذكر على قراءة الفعلين مبنيين للمفعول، وروى عن اهل البيت (ع) ان قوما ينسبون الى قريش وليسوا من قريش بحقيقة النسب، وهذا مما لا يعرفه الا معدن النبوة وورثة علم الرسالة وذلك مثل بنى امية ذكروا انهم ليسوا من قريش وان اصلهم من الروم وفيهم تأويل هذه الآية الم غلبت الروم معناه انهم غلبوا على الملك وسيغلبهم على ذلك بنو العباس، وبناء هذا على قراءة غلبت مبنيا للفاعل وسيغلبون مبنيا للمفعول.
اعلم، ان القرآن كما سبق فى الفصل الحادى عشر والثانى عشر فى اول الكتاب ذو وجوه بحسب معانيه وذو وجوه بحسب الفاظه وقراءاته، وانه يجوز ان يكون مرادا بجميع وجوهه ومنزلا بجميع قراءاته وانه كثيرا ما يختلف المعانى والوجوه اختلافا تاما مؤديا الى ارادة الضدين من اللفظ بحسب حقائقه ومجازاته وتعريضاته وكناياته فعلى هذا صحت التفسيرات المختلفة التى وردت عنهم (ع) باعتبارات القرائات الثلاث وصح تفسير الروم ببنى امية بناء على تشبيههم باهل الروم فى الكثرة، او فى الاهتمام بالدنيا واعتباراتها، او فى اخذ المذهب محض الرسم والملة، او فى اختلاف المذاهب وكثرتها، وصح تفسيره باهل المودة والسلامة، وصح تفسيره بملك النفس واهويتها المتضادة المتخالفة، وعلى هذا التفسير والتفسير الاول ورد: ان فرح المؤمنين بنصر الله يكون عند قيام القائم عجل الله فرجه، وفى خبر: فرح المؤمنون فى قبورهم بقيام القائم (ع) ومعنى قوله تعالى { لله الأمر من قبل } انه لا يخرج الامر من قدرته من قبل غلبتهم ومن بعد غلبتهم، او من قبل ان يقضى ومن بعد ان يقضى، فانه يتصرف فيه متى لم يمضه باى نحو شاء فيكون اشارة الى جواز البداء { ويومئذ } يوم غلبة الروم، او مغلوبية فارس بالمسلمين او مغلوبية بنى امية او مغلوبية جنود الجهل واهوية النفس بظهور القائم (ع) { يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشآء } فلا اختصاص بنصره بالمؤمن بل ينصر المؤمن تارة والكافر اخرى لكن المنظور من نصرهما صلاح المؤمن واصلاحه { وهو العزيز } الغالب الذى لا يدفع عن مراده { الرحيم } الذى لا يفعل ما يفعل الا برحمته، وصيرورة الرحمة فى بعض القوابل غضبا وعذابا انما هو من قبل القابل.
[30.6]
{ وعد الله } اى وعد الله نصرهم وفرح المؤمنين وعدا { لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون } عدم خلف وعده، او نصره للمؤمنين، او نصره لمن يشاء، او كيفية وعده، او كيفية نصره؛ ولذلك لا يرون من النصر الا الغلبة فى الظاهر دون الغلبة فى الباطن .
[30.7]
{ يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا } او المعنى اكثر الناس لا علم لهم فان العلم هو الادراك الاخروى الذى يكون فى الاشتداد الى جهة الآخرة وصاحب هذا الادراك قليل واكثر الناس ادراكهم مقصور على ما يعينهم فى حيوتهم الدنيوية دون الحيوة الاخروية او لم يكن ادراكهم للامور الاخروية فى الاشتداد الى جهة الآخرة بل كان مصروفا عن جهة الآخرة الى جهة الدنيا ولذلك قال تعالى: { يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا } ، ولفظة من بيانية او ابتدائية او تبعيضية اى يعلمون امرا ظاهرا يدركه المدارك الظاهرة الحيوانية وهو عبارة عن الحيوة الدنيا ولوازم بقائها او امرا ظاهرا هى الآثار الناشئة من الحيوة الدنيا من مقتضياتها وملائماتها ومنافراتها، او امرا هو بعض من الحيوة الدنيا وقد عد فى الاخبار مثل علم النجوم من جملة ذلك، ونعم ما قيل:
مرغ جانش موش شد سوراخ جو
جون شنيد از كربكان او عرجوا
زان سبب جانش وطن ديد وقرار
اندر اين سوراخ دنيا موش وار
هم در اين سوارخ بنائى كرفت
در خود سوراخ دانائى كرفت
بيشه هائى كه مر او را در مزيد
اندراين سوراخ كارآيد كزيد
زانكه دل بركند از بيرون شدن
بسته شد راه رهيدن از بدن
{ وهم عن الآخرة } التى هى باطن الحيوة الدنيا وجهة غيبها وبعض منها { هم غافلون } الاتيان بضمير الفصل لتأكيد الحكم وللاشعار بالحصر، واستعمال الغفلة دون الجهل وامثاله للاشعار بان الآخرة معلومة لكل احد بل مشهودة لهم فى النوم حين الرؤيا خصوصا عند الرؤيا الصادقة بل فى اليقظة بالآثار الدالة على وجوده من التقليبات والدوائر التى تكون فى العالم الكبير وفى العالم الصغير، وعدم النظر والتوجه اليها ليس الا محض الغفلة عنها لا للجهل بها، وقد مضى فى الفصل الاول والثانى والثالث فى اول الكتاب وعند قوله تعالى:
لقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق
[البقرة:102]، من سورة البقرة تحقيق وتفصيل للعلم والفرق بينه وبين الجهل المشابه للعلم؛ من أراد فليرجع اليها.
[30.8]
{ أ } لم يرجعوا الى مداركهم الباطنة { ولم يتفكروا في أنفسهم } فى حق انفسهم حتى يجدوا ان فيها سماء وارضا يعنى روحا وجسدا وان حيوة الجسد التى هى الحيوة الدنيا ليست الا بالحيوة الروحية التى هى الحيوة الاخروية حتى يعلموا الآخرة ولا يكونوا غافلين عنها، او المعنى او لم يتفكروا عند انفسهم حتى يعلموا { ما خلق الله السماوات } اى سماوات الارواح { والأرض } اى ارض الاشباح { وما بينهمآ إلا بالحق } الذى هو حقيقة الحيوة الدنيا والآخرة حتى يعلموا ان فى الداثرات التى منها الحيوة الدنيا حقا باقيا ثابتا فلم يغفلوا عنه وطلبوا الوصول اليه وهو جهة الآخرة والجملة معلق عنها لم يتفكروا فانه فى معنى لم يعلموا { وأجل مسمى } فانهم وان لم يكونوا يحصل لهم بالتفكر علم بدثور سماوات الطبع وارضه فى العالم الكبير لكن يحصل العلم بدثورهما فى العالم الصغير وان لهما اجلا معينا بحسب الاسباب الطبيعية من العمر الطبيعى واجلا معلقا بحسب القواطع والموانع من الوصول الى اجله الطبيعى { وإن كثيرا من الناس بلقآء ربهم لكافرون } ولذلك يعملون الاعمال السيئة واذا تفكروا ان اعمال هؤلاء الكثير نشأت من كفرهم بلقاء ربهم اجتنبوا مثل اعمالهم والجملة عطف على جملة ما خلق الله السماوات او معلق عنها لم يتفكروا مثل المعطوف عليها.
[30.9]
{ أ } لم يخرجوا من اوطانهم الصورية ومن بيوت نفوسهم { ولم يسيروا في الأرض } الطبيعية وفى ارض وجودهم وارض القرآن والسير الحسنة والغير الحسنة { فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم } والضمائر الثلاثة للكثير من الناس او لمرجع الضمير الفاعل لقوله { أولم يتفكروا } { كانوا أشد منهم قوة } بحسب البدن والمال والاعوان { وأثاروا الأرض } بتقليب وجهها لاستنباط المياه واستخراج المعادن وللزراعة وغرس الاشجار وغير ذلك من التصرفات والمقصود انهم أثاروا الارض اكثر مما أثاروها بقرينة قوله تعالى: { وعمروهآ أكثر مما عمروها } وابادهم الله تعالى ولم ينفعهم قوتهم واثارتهم وعمارتهم فلا ينبغى لكم ان تغتروا بقوتكم واثارتكم وتعميركم { وجآءتهم رسلهم بالبينات } اى احكام الرسالة او المعجزات فاغتروا بقوتهم وكذبوا الرسل مثلكم فخذلهم الله او اهلكهم { فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } بتعريضها لسخط الله.
[30.10]
{ ثم كان } عطف على او لم يتفكروا باعتبار المعنى فانه فى معنى لم يتفكروا او على او لم يسيروا باعتبار المعنى كأنه قيل: لم يسيروا ثم كان عاقبتهم، او عطف على كانوا انفسهم يظلمون يعنى كانوا انفسهم يظلمون ثم كان { عاقبة الذين أساءوا السوءى } هذا من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر للاشعار بسببية الاساءة للسيئة التى هى اكبر التى هى تكذيب آيات الله والاستهزاء بها، او المقصود تخصيص هذا الوصف بالمسيئين منهم السوءى لا المسيئين السيئة، او ليس من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر بل المقصود بيان حكم من اساء السوءى من غير تعرض للمذكورين والسوءى تأنيث الاسوء، او مصدر، ولفظة ثم للتعقيب فى الوجود او للتعقيب فى الاخبار { أن كذبوا بآيات الله } واعظمها الانبياء والاولياء (ع) { وكانوا بها يستهزئون } والاستهزاء بالآيات اعظم جرما من التكذيب واعراب الآية ان السوءى خبر كان او اسمها على اختلاف القراءة برفع عاقبة الذين ونصبها وان كذبوا بدل منه او بتقدير اللام او السوءى مفعول مطلق او مفعول به لاساؤا وان كذبوا خبر كان او اسمها.
[30.11]
{ الله يبدأ الخلق ثم يعيده } هذه جملة منقطعة مقدمة لقوله: يوم تقوم الساعة (الى آخرها) والمراد بالاعادة الاعادة الى البرازخ { ثم إليه ترجعون } يعنى بعد المكث فى البرازخ ترجعون اليه لا الى غيره.
[30.12]
{ ويوم تقوم الساعة } عند الرجوع اليه { يبلس المجرمون } من الخلق اى يئسون او يتحيرون لغاية الدهشة.
[30.13]
{ ولم يكن لهم من شركآئهم } فى الوجوب، او فى الآلهة، او فى العبادة، او فى الطاعة، او فى الولاية، او فى الوجود والشهود { شفعاء } يشفعون لهم عند الله كما قال بعض المشركين: هؤلاء شفعاؤنا عند الله { وكانوا بشركآئهم كافرين } الباء صلة كافرين او سببية.
[30.14]
{ ويوم تقوم الساعة يومئذ } تأكيد ليوم تقوم الساعة { يتفرقون } يعنى يتفرقون فرقتين فرقة الى الجنة وفرقة الى النار، او المعنى انهم كانوا مجتمعين فى الدنيا على الاكل والشرب وكيفيتهما والوقاع والشكل والنوع وهكذا فى البرازخ وفى القيامة وحين ظهور كل بصورته الملكوتية التى يحشر عليها يتفرقون انواعا مختلفة واشكالا متخالفة فبعضهم يحشرون على صور الخنازير بل على صور يحسن عندها القردة والخنازير، وبعضهم على صور الكلاب وسائر السباع، وبعضهم على صور الحشرات، وبعضهم على احسن الصور، ويتفرقون الى مقاماتهم فى الجنة والنار.
[30.15]
{ فأما الذين آمنوا } تفصيل لتفرقهم اجمالا { وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون } من احبره اذا سره او انعم عليه.
[30.16]
{ وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقآء الآخرة } قالا كالطبيعيين والدهريين ومنكرى المعاد او حالا كاكثر الناس { فأولئك في العذاب محضرون } فى العذاب ظرف لغو متعلق بمحضرون او مستقر حال عن فاعله.
[30.17]
{ فسبحان الله } جواب لشرط مقدر وسبحان مصدر فى معنى التسبيح او بمعناه اللازم ومقدر بفعل الامر اى اذا كان الامر هكذا فسبحوا الله او فليسبح الله سبحانا { حين تمسون } تدخلون فى المساء { وحين تصبحون } اى تدخلون فى الصباح وهما وقتا اختلاط النور والظلمة.
[30.18]
{ وله الحمد } جملة حالية او خبر فى معنى الانشاء وعطف على سبحان الله { في السماوات } سماوات الطبع وسماوات الارواح { والأرض } ارض الطبع وارض عالمى المثال { وعشيا } وقت العصر وهو وقت دخول فضيلة صلوة العصر الى آخر النهار { وحين تظهرون } تدخلون فى الظهر وهو ساعة الزوال او المراد وقت ارتفاع الشمس الى انقضاء وقت فضيلة صلوة الظهر، خص التسبيح بالمساء والصباح لان هذين وقت اختلاط النور والظلمة وانموذج اختلاط ظلمة الطبع ونور الروح وظلمة المقام الدانى ونور المقام العالى، وينبغى للانسان حينئذ تنزيه لطيفته الانسانية التى هى انموذج الله واسمه تعالى عن الظلام بخلاف اوقات النهار فانها اوقات استواء النور من دون اختلاط الظلام، ولا حاجة للانسان الى تنزيه اللطيفة حينئذ، ولم يذكر السماوات لان السماوات مقام تنزه الله والواقع فى تلك المقام لا حاجة له الى تنزيه ولم يذكر الارض اتباعا لعدم ذكر السماوات والا فالواقع فى الارض محتاج الى تنزيه اللطيفة الانسانية، ويجوز ان يكون قوله عشيا وحين تظهرون عطفا على حين تمسون، ويكون اشارة الى استغراق التسبيح لجميع الاوقات واستغراق الحمد لجميع الامكنة والمقامات، وعليه قيل: ان ذكر الاوقات اشارة الى الصلوات الخمس.
[30.19]
{ يخرج الحي من الميت } استيناف جواب لسؤال مقدر ناش من السابق { ويخرج الميت من الحي } قد مضى الآية فى سورة يونس مع تفسيرها { ويحيي الأرض بعد موتها } يعنى يحيى ارض الطبع فى العالم الكبير بانبات نباتها بتهييج العروق المكمونة والحبوب المستورة فيها، وانباتها بأنواع النبات والاشجار وقت الربيع، وارض العالم الصغير باحياء قواها الارضية الداثرة بالحيوة الانسانية، الباقية بعد موتهما فى الشتاء، وحين الصبا وبعده الى زمان البيعة باحدى البيعتين { وكذلك } اى مثل اخراج الحى من الميت واخراج الميت من الحى واخراج النبات من الارض بارسال الامطار عليها { تخرجون } فى النفخة الثانية او تكون فى الخروج من اول انعقاد نطفكم واولى موادكم فانه تعالى لا يزال من اول انعقاد النطفة فى الرحم يخرج آنا فآنا المكمونات التى تكون بالقوة فى النطفة الى الظهور والفعلية، او مثل احياء الارض باخراج نباتها وقواها المكمونة فيها تخرجون، وقرئ تخرجون مبنيا للمفعول ومبنيا للفاعل من الثلاثى المجرد، ورد عن الكاظم (ع) بيانا لوجه من وجوه الآية فى قوله: { ويحيي الأرض بعد موتها } ليس يحييها بالقطر ولكن يبعث الله رجالا فيحيون العدل فتحيى الارض لاحياء العدل ولاقامة الحد فيه انفع فى الارض من القطر اربعين صباحا.
[30.20]
{ ومن آياته } عطف على جملة الحى فانه فى معنى قوله من آياته أن { يخرج الحي من الميت } { أن خلقكم من تراب } باعتبار خلق آدم (ع) ابيكم منه او باعتبار خلق مادتكم مما يحصل من التراب ويغلب عليه التراب { ثم إذآ أنتم بشر تنتشرون } تتحركون وتدبون وليس للارض حركة ولا قدرة على الحركة.
اعلم، ان فى خلق الانسان الذى له علم وارادة وقدرة واختيار واستعداد للتصرف فى الملكوتين وتسخير اهلهما واستعداد للترقى عن هذا العالم والحركة الى السماء او الى عوالم الارواح من العناصر التى لا شعور لها ولا قدرة ولا اختيار مع كون الغالب فى مادته الماء والارض اللتين هما انزلها آيات عديدة دالة على علمه تعالى وقدرته وحكمته واحاطته وتدبيره واناطة افعاله بغايات عديدة متقنة، وتصريفه فى عالم الارواح وعالم الطبع بما لا يمكن ادراك كيفية تصريفه وتمزيجه للقوى الروحانية مع القوى الارضية بحيث لا يمكن التميز بينهما، ويشتبه على كثير ان القوى الروحانية ليست الا القوى الجسمانية حتى قالوا: ان النفس الانسانية جسم سار فى البدن كسريان الماء فى الورد.
[30.21]
{ ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم } يعنى من جنسكم { أزواجا لتسكنوا } لتميلوا { إليها } فتسكنوا عن الحركة عنها فان الازواج لو لم يكن من جنسكم لكنتم نافرين عنهن بعد قضاء حاجاتكم { وجعل بينكم } ايها الازواج او ايها الاناسى { مودة ورحمة } محبة وتعطفا ورقة حتى يكون تلك المحبة سببا لاجتماعكم وبقاء اجتماعكم وتلك الرقة سببا لحراسة بعضكم بعضا وللاهتمام بخيره واصلاحه { إن في ذلك } المذكور من خلق الازواج من انفسكم وجعل المودة والرحمة بينكم او فى جعل المودة والرحمة بينكم او فى اخراج الحى من الميت (الى آخر الآية) { لآيات لقوم يتفكرون }.
مراتب التحقيق فى العلم
اعلم، ان الانسان بحسب افراده ذو عرض عريض وذو مراتب كثيرة وهكذا بحسب حالات كل فرد ذو عرض عريض؛ فمنهم من يكون غافلا عن الله وآياته ولا كلام معهم ولا خطاب ولا آية لهم ولا دلالة
وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون
[يوسف:105]، ومنهم من يتنبه بان الدنيا مقدمة الآخرة وان ليس المقصود من الانسان ان يتعيش فى الدنيا كتعيش الحيوان فيتفكر فى كيفية خلقته وخلقة سائر المواليد فيتنبه من خلقتها بان لها مبدء قديرا عليما حكيما، ومنهم من يستعد بهذا التفكر لافاضة الحق الاول تعالى عليه نور العلم، فيفيض عليه نور العلم فان العلم نور يقذفه الله فى قلب من يشاء فيصير صاحب اولى مراتب العلم التى هى تكون سببا للتحير والانصات، فان اولى مراتب العلم مفسرة بالانصات كما عن النبى (ص) والتحير يصير سببا لطلب من يعلمه طريق الوصول الى دار العلم ومعدن النور، ومنهم من يصل الى عالم وقته بعد طلبه وينقاد له ويستمع منه وهذه المرتبة ثانية مراتب العلم كما فى الخبر المأثور عن الرسول (ص)، ومنهم من يخرج من مقام الاستماع الذى هو مقام التقليد والعلم التقليدى فيجد ذوق معلوماته او يشاهد معلوماته او يتحقق بمعلوماته وهذه المراتب هى مراتب التحقيق فى العلم اذا علمت ذلك فاعلم، ان الآيات من قوله { يخرج الحي من الميت } (الى قوله) { وهو العزيز الحكيم } منزلة على مراتب افراد الانسان، وكلما كان منزلا على مراتب الانسان بحسب افراده كان منزلا على مراتبه بحسب احوال شخص واحد، وكلما كان منزلا على مرتبة دانية كان لصاحب المرتبة العالية ايضا لسعته واحاطته؛ بخلاف ما كان لصاحب المرتبة العالية فانه خاص به وليس لصاحب المرتبة الدانية نصيب منه، فقوله: { يخرج الحي من الميت } (الى قوله) { وجعل بينكم مودة ورحمة } لصاحب التنبه والتفكر يعنى ليس له غيره، لا ان صاحب العلم لا يدرك تلك الآيات ولا يلتذ بها.
[30.22]
{ ومن آياته خلق السماوات والأرض } اى سماوات الطبع وارضه او سماوات الارواح وارضى الاشباح فى العالم الكبير او الصغير { واختلاف ألسنتكم } يعنى اختلاف لغاتكم فانه يعبر كثيرا فى العرب والعجم من اللغات والكلمات الجارية على الالسن بالالسن او اختلاف السنتكم فى كيفية التأدية مع انكم من نوع واحد { و } اختلاف { ألوانكم إن في ذلك لآيات } دالات على علمه وحكمته تعالى وكمال عنايته بخلقه وقدرته وارادته وسلطنته ووحدته، او دالات على احوال صاحب الالسن والالوان كما فى الخبر { للعالمين } قرئ بفتح اللام وعليها فليخصص بالذين حصل لهم العلم فان العالمين بفتح اللام مخصوص بذوى العقول بخلاف العالم الذى هو مفرده فانه اعم من ذوى العقول وغيرهم، وذووا العقول فى الحقيقة هم الذين حصل لهم الشعور الانسانى وليسوا الا الذين قذف الله فى قلوبهم نور العلم، وقرئ بكسر اللام وهم الذين قذف الله فى قلوبهم نور العلم لا الذين حصلوا الصور الادراكية من امثالهم ومن الدفاتر، وقدم هذا الصنف على المستمعين باعتبار اولى مراتب العلم فان المستمع هو الذى حصل له مرتبة السماع الذى هو ثانية مراتب العلم كما فى الخبر النبوى (ص) ولم يقل لقوم يعلمون كسابقه ولا حقه اشعارا بان حصول العلم خصوصا مرتبته الاولى تلوينا لا يكفى فى ادراك تلك الآيات وروى عن الصادق (ع) ان الامام اذا ابصر الرجل عرفه وعرف لونه وان سمع كلامه من خلف حائط عرفه وعرف ما هو، ان الله يقول: { ومن آياته خلق السماوات والأرض } (الآية) قال وهم العلماء فليس يسمع شيئا من الامر ينطق به الا عرفه ناج او هالك فلذلك يجيبهم بالذى يجيبهم، وهذا الخبر بيان لاحد وجوه الآية واعتبر (ع) آخر مراتب العلم، وقرأ (ع) العالمين بكسر اللام او حمله على معنى يوافق كسر اللام وجعل دلالة الآيات على احوال صاحب الالسن والالوان وعلى هذا فليكن المراد بالسماوات والارض سماوات الارواح وارض الاشباح فى العالم الصغير لتكون فيها آيات دالات على احوال صاحب السماوات والارض.
[30.23]
{ ومن آياته منامكم بالليل والنهار } فائدة التقييد بهما مع انه لا يكون منام فى غيرهما اطلاق المنام عن التقييد فانه لو لم يذكرهما عقيب المنام لتوهم ان المراد هو المنام بالليل لكونه معدا للمنام دون اليوم ولذلك لم يقيد الابتغاء بهما ففى المنام المطلق آيات دالات على حكمة الحق تعالى واتقان صنعه وكيفية خروج النفس من البدن بالموت، ودالات على عالم آخر سوى عالم الكون والفساد، وبقاء ذلك العالم واحاطته بعالم الطبع وكون صور جميع الاشياء ثابتة فيه وكيفية احاطة الحق تعالى بجملة الموجودات { وابتغآؤكم من فضله } يعنى فيهما فان فى ابتغاء الفضل الذى فيه كمال النفس بحسب ظنها سواء كان المراد بالفضل السعة وسائر ما يحتاج الانسان اليه فى الدنيا او كمالات الانسان وسعة النفس بحسب امور الآخرة آيات دالات على مبدء ذى كمال وسعة وفضل فانه لولا مبدء الكمال والفضل لم يطلب الانسان شيئا منه { إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون } الذين هم صاحبوا المرتبة الثانية من العلم وهى مرتبة الاستماع والتقليد واليه اشار تعالى بقوله:
أو ألقى السمع وهو شهيد
[ق:37].
[30.24]
{ ومن آياته يريكم البرق } كان الموافق للسابق واللاحق ان يقول: ومن آياته ان يريكم البرق لكنه لما لم يرد ان يقول اراءة البرق من آياته عدل عنه، والظرف لغو متعلق بيريكم، اما جعل يريكم بتقدير ان او واقعا موقع المصدر فيذهب بنكتة العدول عن صريح ان او المصدر فانه لما اراد ان يبين ان تلك الآيات آيات لمن صار علمه تحقيقيا ولذلك قال: يريكم وان البرق المشهود انما ينشأ من الآيات الغيبية التى يكون صاحب التحقيق منتظرا لها دائما قال: من آياته يريكم دون ان يريكم { خوفا } اراءة خوف او هو بتقدير اللام وليس مفعولا له او هو حال عن المفعول { وطمعا } والمقصود الخوف من الصاعقة والطمع فى الغيث { وينزل من السمآء مآء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون } يحققون فى العلم بالخروج من حد التقليد فان التعقل عبارة عن ادراك الشيء بالعقل لا بمحض التقليد وهم الذين يكون لهم قلب المشار اليهم بقوله:
لمن كان له قلب
[ق: 37] وهذا مقام التحقيق فى العلم ووجدان آثار المعلوم والالتذاذ بالعلم وفوقه مقام الشهود والعيان فى ادراك المعلوم وهو خاص بالانبياء والاولياء (ع) وفوقه مقام التحقق بالمعلوم وهو مقام بعض الانبياء والاولياء (ع).
[30.25]
{ ومن آياته أن تقوم السمآء والأرض بأمره } لا بآلة ومقيم اى السماء والارض فى العالم الصغير والعالم الكبير { ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض } عطف على ان تقوم بتأويل مفرد اى ثم خروجكم من الارض اذا دعاكم دعوة من الارض { إذآ أنتم تخرجون } او هو عطف على مجموع من آياته ان تقوم السماء عطف الجملة ولم يكن حينئذ من جملة آياته ولم يقل ههنا ان فى ذلك لآيات لقوم كذا لان هذه الآيات خاصة بالمشاهدين، وليس للعالمين الغير المشاهدين فيها حق ونصيب والمشاهد من حيث انه مشاهد من صقع الله لا من جانب الخلق والله تعالى لا حاجة له الى آية فلم يقل: ان فى ذلك لآيات للمشاهدين وهذه هى الآيات العليا وليست الا للصنف الاعلى من الانسان، وقد سلف الاشارة الى ان كلما كانت آية للصنف الادنى فهى آية للصنف الاعلى ايضا من دون عكس وقد سبق الآية فى سورة النحل مع بعض الاشارات والنكات.
[30.26]
{ وله من في السماوات والأرض } اى السماوات والارض ومن فيهما يعنى ليس فيهما احد يكون شريكا له تعالى { كل له قانتون } خاضعون منقادون وليسوا مقابلين له كما يقول الثنوية بالنور والظلمة او بيزدان واهر يمن فلا ند له ولا ضد.
[30.27]
{ وهو الذي يبدأ الخلق } لا غيره كما يقول الثنوية والابليسية ان اهريمن مبدأ الشرور { ثم يعيده وهو أهون عليه } اى الاعادة اسهل على الله بالقياس الى قدركم واصولكم والا فليس شيء عليه اصعب من شيء، او الضمير المجرور راجع الى الخلق، ومعنى كون الاعادة اسهل كونها غير محتاجة الى مادة وآلة وتربية لحصول مادته واقتضاء فطرته الصعود الى اصله بخلاف الابداء فانه محتاج الى تهية مادة وتربية العلويات وحافظية الارضيات وايتلاف المتخالفات ومزجها وكسر سورتها، وقيل: الاهون منسلخ عن معنى التفضيل { وله المثل الأعلى } اى الصفات العليا { في السماوات والأرض } عن الصادق (ع): ولله المثل الاعلى الذي لا يشبهه شيء ولا يوصف ولا يتوهم فذلك المثل الاعلى، او المقصود ولله المشابه الاعلى فى السماوات من ارباب الانواع والعقول وفى الارض من الانبياء والاولياء (ع) روى عن الرضا انه قال، قال النبى (ص) لعلى (ع): وانت المثل الاعلى، وفى خبر: نحن كلمة التقوى وسبيل الهدى والمثل الاعلى { وهو العزيز } الذى لا يغلب { الحكيم } الذى لا يفعل ما يفعل الا لحكم ومصالح وغايات متقنة.
[30.28]
{ ضرب } الله { لكم } لانتفاعكم واتعاظكم او لاحوالكم فى اشراككم بالله مماليكه حتى تتنبهوا وتعلموا ان هذا الاشراك خطاء محض { مثلا } لحاله وحال شركائه بزعمكم { من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركآء } بيان للمثل كأنه قال: المثل كون المماليك مع انهم ليسوا مملوكين لكم حقيقه شركاء لكم { في ما رزقناكم } مع كون الرزق منا ونسبته اليكم محض اعتبار ولا ترضون به فكيف ترضون او كيف يرضى الله تعالى بجعل مماليكه الحقيقية التى لا وجود لهم من انفسهم فكيف بسائر الصفات شركاء له فى مملوكاته الحقيقية لكنه عدل الى هذا تأكيدا لنفى رضاهم بشراكة مماليكم حتى يكون تأكيدا لنفى الشريك لله تعالى { فأنتم فيه سوآء } عطف على مدخول الاستفهام يعنى لستم ترضون بمساواتهم لكم فكيف ترضون او يرضى الله بمساواة مماليكه له، او عطف على حزب الله والفاء للتعقيب فى الاخبار وبعض اجزاء المعطوف يكون محذوفا والتقدير فانتم ايها الاحرار فيما رزقناكم مساوون للمماليك او انتم ايها الاحرار والمماليك فيه مساوون ولا ترضون بشراكة المماليك لكم مع مساواتهم لكم فى كل الجهات فكيف ترضون او يرضى الله بشراكة المماليك له { تخافونهم } جملة حالية او مستأنفة والمعنى هل تخافونهم { كخيفتكم أنفسكم } فتجعلونهم شركاء لخوفكم، او المعنى فانتم ومماليككم فى الرزق سواء من كل الجهات سوى اعتبار نسبة المالكية اليكم وتخافونهم كخيفتكم من الاحرار، وينبغى لكم ان ترضوا بشراكتكم ولا ترضون فكيف يرضى الله بشراكة مماليكه له مع انهم ليسوا مساوين له بجهة من الجهات ولا يخافهم بشيء من الخوف { كذلك } التفصيل والتمثيل لاشراكهم { نفصل الآيات } فى كل شيء { لقوم يعقلون } يحققون فى العلم والادراك بعدما خرجوا من مقام التقليد ولقوم يدركون ادراك الانسان لا ادراك الحيوان سواء كان ذلك الادراك تقليدا او تحقيقا، فان التعقل يستعمل فى الادراك الانسانى المطلق كما يستعمل فى الادراك العقلانى الذى لا يكون الا بالتحقيق دون التقليد، قيل: كان سبب نزولها ان قريشا والعرب كانوا اذا حجوا يلبون وكانت تلبيتهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك ان الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك؛ وهى تلبية ابراهيم والانبياء (ع) فجاءهم ابليس فى صورة شيخ فقال لهم: ليست هذه تلبية اسلافكم قالوا: وما كانت تلبيتهم؟- قال: كانوا يقولون: لبيك اللهم لبيك لا شريك الا شريكا هو لك، فتفرق قريش من هذا القول فقال لهم ابليس: على رسلكم حتى آتى على آخر كلامى، فقالوا: ما هو؟ فقال: ألا شريك هو لك تملكه وما يملكك ، الا ترون انه يملك الشريك وما ملكه، فرضوا بذلك وكانوا يلبون بهذا قريش خاصة فلما بعث الله عز وجل رسوله (ص) انكر ذلك عليهم وقال: هذا شرك فأنزل الله تعالى: { ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركآء في ما رزقناكم فأنتم فيه سوآء } اى ترضون انتم فيما تملكون ان يكون لكم فيه شريك واذا لم ترضوا انتم ان يكون لكم فيما تملكون شريك فكيف ترضون ان تجعلوا لي شريكا فيما املك.
[30.29]
{ بل اتبع الذين ظلموا } وهذا اضراب عن مقدر كأنه قيل: هل لهم برهان مع وضوح بطلان الاشراك؟- فقال: ليس لهم برهان بل اتبع الذين ظلموا انفسهم بالاشراك بالله ما لم يأذن به الله، ووضع الظاهر موضع المضمر ذما لهم بذلك { أهوآءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله } يعنى فأضلهم الله بالخذلان ولا يهدى احد من اضله الله { وما لهم من ناصرين } ينصرونهم من عذاب الله.
[30.30]
{ فأقم } اى اذا لم تكن تهدى من اضل الله ولم تكن تنصرهم فلا تحزن عليهم وانصرف عن الاهتمام بالخلق واقم عن الانحراف لهم { وجهك للدين } اى الطريق الى الله { حنيفا } ظاهرا او خالصا وهو حال عن الوجه، او عن المضاف اليه الوجه، او عن الدين والمراد بالدين هو الطريق الى الله التكوينى وهو الولاية التكوينية او الطريق الى الله التكليفى وهو الولاية التكليفية وقد فسر اقامة الوجه للدين باقامته فى الصلوة جانب القبلة من غير التفات الى اليمين والشمال وبالولاية { فطرت الله } منصوب على الاغراء او على المدح او بتقدير خذ، او مصدر لفعل محذوف دل عليه المذكور بعده، والفطرة هى الخلقة التى خلق الناس بل جميع الموجودات عليها وهى الولاية السارية فى كل الموجودات تكوينا المطابق لها الولاية التكليفية التى كلف بها جميع الاناسى { التي فطر الناس عليها } والتفاسير المختلفة التى وردت عن المعصومين (ع) فى الآية راجعة الى ما ذكرنا { لا تبديل لخلق الله } فلا تحزن على ما قالوا فى وصيك ومنعه عن مقامه فانه لا يقدر احد على تبديل الولاية التكوينية والتكليفية { ذلك } المذكور من اقامة الوجه للدين او ذلك الدين الحنيف او الولاية التكليفية هو { الدين القيم } لا غير { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } ان الدين القيم هو الولاية التى هى الطريق الى الله فلذلك تمسكوا بصورة الاسلام وتوقفوا عليها واهتموا بها واعرضوا عن الولاية التى هى الدين حقيقة، وصورة الاسلام ليست الا هداية اليها.
[30.31]
{ منيبين إليه } الىهذا الدين الذى هو الطريق من القلب الىالله فانهم على الاستمرار فى الانابة من الكثرات اليه بصنع الله الذى اتقن كل شيء فانهم على الدوام فى الزكوة التى هى تصرم الفعليات الناقصة وبذلها تكوينا والصلوة التى هى التلبس بالفعليات الكاملة التى هى الانابة الى القلب وطريقه، او منيبين الى الله فان الانابة الى طريق القلب والانابة الى الله والانابة الى القلب شيء واحد والتفاوت اعتبارى وهو حال من فاعل اقم بضميمة الامة الى الرسول (ص) او من الناس { واتقوه } اى الدين او الله { وأقيموا الصلاة } قد مضى معنى الصلوة واقامتها فى اول البقرة { ولا تكونوا من المشركين } بالله فى الوجوب او فى العبادة او فى الطاعة او فى الدين او فى اقامة الصلوة.
[30.32]
{ من الذين فرقوا دينهم } اى طريق توجههم او طاعتهم او صلوتهم او ولايتهم بان اتخذ كل منهم طريقا او طاعة او صلوة غير ما للآخر، فاختلف كل مع الآخر، او فرق كل دينه بان جعل لنفسه طرقا عديدة او طاعات عديدة (الى الآخر)، او فرق كل دينه على اهوية عديدة كرجل متشاكس فيه رجال، وقرئ فارقوا دينهم اى طريقهم الانسانى الذى فطرهم الله عليه وهو الولاية التكوينية او فارقوا ولايتهم التكليفية بعدم العمل بما وصل اليهم من ولى امرهم، او فارقوا عليا (ع) وقد سبق فى آخر سورة الانعام بيان تام لهذه الآية { وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون } الجملة حالية او صفة لشيعا، او مستأنفة لبيان حالهم، او التعليل لتفرقهم.
اعلم، ان الانسان لما كان فطرى التعلق فان تنبه وعلم ان كمالاته الانسانية غير حاصلة له وان ما هو الحاصل له ليس كمالا كاملا له، بل له كمالات مفقودة غير متناهية فان افتقد ما فقده ولم يكن المفتقد الا السالك الى الله بقدم الصدق لم يكن فرحا بما عنده بل كان منزجرا مدبرا عنه، ومن لم يكن مفتقدا لما فقده لم يكن له تعلق الا بما كان حاصلا له من الكمالات الصورية من العلوم والعقائد والصفات والاخلاق والمكاشفات والاموال والاولاد فكان كل حزب بما لديهم فرحون حتى الكناس بكماله فى كنسه، والساحر فى سحره، والتاجر فى تجارته، والعالم فى علمه، والعابد فى عبادته، والزاهد فى زهده، والعارف فى عرفانه.
[30.33]
{ وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه } لما يرتفع حينئذ حجاب النفس ومانع الرجوع والسلوك الى الله { ثم إذآ أذاقهم منه رحمة } نعمة بعد الخلاص من ذلك الضر { إذا فريق منهم } لا كلهم لان بعضهم لا يغلب عليهم الواهمة ولا تمنعهم من شكر النعمة كما كانوا حال الضر لا يمنعهم الواهمة عن الالتجاء ودعاء كشف الضر { بربهم يشركون } بربهم المطلق يسوون الاصنام والكواكب والاهوية، او بربهم المضاف يسوون غير ولى امرهم.
[30.34]
{ ليكفروا } اى بحصول كفرانهم، او اللام للغاية وليست داخلة على العلة الغائية يعنى فيحصل لهم بعد الاشراك الكفران { بمآ آتيناهم } من كشف الضر والنعمة { فتمتعوا } التفات للمبالغة فى التهديد { فسوف تعلمون } ان اشراككم او تمتعكم كان وبالا عليكم.
[30.35]
{ أم أنزلنا } بل ءانزلنا { عليهم سلطانا } حجة او ذا سلطنة من الملائكة { فهو يتكلم بما كانوا به يشركون } لفظة ما موصولة او مصدرية والمعنى فهو يتكلم بالاشراك الذى كانوا يشركون، او باشراك شريك كانوا به يشركون، او بكونهم بالله يشركون، او بكونهم بعلى (ع) يشركون فى الولاية وهذا هو المنظور.
[30.36]
{ وإذآ أذقنا الناس رحمة } نعمة وسعة فى المال والاولاد او صحة فى الجسم والاولاد { فرحوا بها } لتعلقهم بماعندهم من النفس وقواها وملائماتها { وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون } من رحمة الله.
[30.37]
{ أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر } حتى يشكروا فى السراء ويسألوا فى الضراء ولا يفرحوا بالموجود ولا ييأسوا حين فقدانه { إن في ذلك } اى فى اختصاص البسط والتقدير بالله تعالى الذى من شأنه ان يراه كل راء لظهور آثاره من حيث انه يرى ان صاحبى الحيل الدقيقة فى تحصيل المعيشة محرومون عن السعة فى المعيشة وصاحبى البلاهة والبلادة مرزوقون سعة المعيشة { لآيات } عديدة دالة على علمه تعالى وعنايته بخلقه وتدبيره لهم وحكمته فى تدبيره وعجزهم عن تحصيل ما ارادوا وتسخرهم لغيرهم { لقوم يؤمنون } بالبيعة الخاصة فانه بهذا الايمان يفتح باب القلب وبفتحه يدرك من الآيات حيثية كونها آيات.
[30.38]
{ فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل } يعنى اذا كان البسط والتقدير بيده تعالى فلا تبخل بما فى يدك وآت كل ذى حق حقه وقد مضى الآية مع تفصيل فى تفسيرها فى اول سورة بنى اسرائيل { ذلك خير للذين يريدون وجه الله } يعنى اعطاء الحق لذى الحق ومنه اعطاء الامامة لعلى (ع) واعطاء السعة فى الصدر والقلب لمستحقيها خير للسالكين الى الله والطالبين لوجهه الذى هو ملكوت ولى امرهم، وان كان شرا للمنافقين الذين رضوا بالحيوة الدنيا واطمأنوا بها { وأولئك هم المفلحون } فان الفلاح منحصر فى البائعين بالبيعة الخاصة السالكين الى الله تعالى الطالبين لظهور ملكوت ولى امرهم.
[30.39]
{ ومآ آتيتم } هذا خبر فى معنى النهى ولذلك حسن عطفه على الامر، ولما كان النبى (ص) اصلا فى الخطاب الاول بل كان اصل الحقوق الخلافة وكان اعطاؤه منحصرا فيه (ص) خصه هناك بالخطاب، ولما كان المنظور من الحكم الثانى امته جمعهم معه بالخطاب او صرف الخطاب عنه (ص) اليهم { من ربا } ما من شأنه ان يرد مع الزيادة من قرض او هدية لقصد العوض، وخص هذا فى الاخبار بالهدية التى يتوقع المكافاة عليها بأزيد منها فانه ورد عن الصادق (ع) قال: الربا رباء ان؛ ربا يؤكل وربا لا يؤكل، فاما الذى يؤكل فهديتك الى الرجل لتصيب منه الثواب افضل منها فذلك الربا الذى يؤكل وهو قول الله عز وجل { ومآ آتيتم من ربا } (الآية) واما الذى لا يؤكل فهو الذى نهى الله عنه واوعد عليه النار، وعن الباقر (ع) هو ان يعطى الرجل العطية او يهدى الهدية ليثاب اكثر منها فليس فيه اجر ولا وزر، وقرئ: اتيتم بالقصر بمعنى ما جئتم اليه لاعطائه من ربا { ليربو } قرئ بالياء التحتانية مفردا من الثلاثى المجرد، وبالتاء الفوقانية جمعا من باب الافعال { في أموال الناس فلا يربو عند الله ومآ آتيتم من زكاة } اى هدية او صدقة او قرض { تريدون وجه الله } قد مضى قبيل هذا ان المراد بوجه الله هو ملكوت ولى الامر { فأولئك } التفات من الخطاب الى الغيبة تفخيما لهم بالاتيان باسم الاشارة البعيدة { هم المضعفون } يعنى انه يربو عند الله ويربو فى الدنيا، فعدل عن يربو عند الله للاشارة الى الزيادة فى الدنيا وفى الآخرة، عن امير المؤمنين (ع): فرض الله الصلوة تنزيها عن الكبر، والزكوة تسبيبا للرزق، وعن الصادق (ع): على باب الجنة مكتوب: القرض بثمانية عشر، والصدقة بعشرة، ولا اختصاص للربا بالمال ولا للزكوة بل يجريان فى الاعمال والعرض والجاه والقوى وقوتها.
[30.40]
{ الله الذي خلقكم } جملة منقطعة عن سابقها { ثم رزقكم } فما لكم تبخلون { ثم يميتكم } فما لكم تجمعون وتدخرون { ثم يحييكم } فما لكم لا تدخرون لحيوتكم الباقية بالاعطاء من الفانيات والارباء عند الله { هل من شركآئكم من يفعل من ذلكم من شيء } الزام لهم على الاقرار بعجز الشركاء وابطال شراكتهم { سبحانه وتعالى عما يشركون } قرئ بالغيبة والخطاب.
[30.41]
{ ظهر الفساد في البر والبحر } الفساد ضد الصلاح وهو فى كل شيء ان يكون على ما يقتضيه طبيعته، والفساد ان يكون خارجا عما يقتضيه طبيعته، وقد يستعمل الفساد فى اخذ المال ظلما وفى الجدب والمراد بظهور الفساد كثرته بحيث لم يكن من شأنه ان يكون مخفيا او غلبته على الصلاح، او على العدل او على الرخاء، والمراد بالبحر نفس البحر او القرى الواقعة فيها وعلى سواحلها { بما كسبت أيدي الناس } يعنى ان الفساد فى الارض ليس الا بشوم اعمال الاناسى فيها سواء اريد بالفساد خروج الاشياء عن المجرى الطبيعى او الظلم والجدب، قال الصادق (ع): حيوة دواب البحر بالمطر فاذا كف المطر ظهر الفساد فى البر والبحر وذلك اذا كثرت الذنوب والمعاصى، وقال الباقر (ع): ذلك والله حين قالت الانصار: منا امير ومنكم امير { ليذيقهم } الله او الفساد { بعض الذي عملوا } اى جزاء بعض اعمالهم فان جزاء الكل لا يكون الا فى الآخرة { لعلهم يرجعون } عن المعاصى.
[30.42]
{ قل } يا محمد (ص) { سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل } كانوا يعملون السيئات فأذاقهم الله بعض جزائها حتى تعتبروا بذلك وتتيقنوا بان الاعمال لا تكون بلا جزاء لا فى الدنيا ولا فى الآخرة، وقد سبق مكررا تفسير الارض بارض العالم الصغير والعالم الكبير وارض القرآن والاخبار والسير الماضية { كان أكثرهم مشركين } يعنى ان شركهم ابتلاهم بسوء العاقبة فى الدنيا والآخرة فانتهوا عن الشرك واحذروا عن سوء عاقبته.
[30.43]
{ فأقم وجهك للدين القيم } كرره لان كل واحد تفريع على امر وللاهتمام باقامة الوجه للدين، ولان الاول خطاب له (ص) وهذا خطاب له وتعريض بامته { من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله } اى لا يرده الله او لا يرده ولا يمنعه احد من تصريف الله { يومئذ يصدعون } يتصدعون اى يتفرقون وقد مضى بيانه فى هذه السورة عند قوله { ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون }.
[30.44]
{ من كفر } بيان لتفرقهم او بيان لعلة تفرقهم { فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون } اى يسوون منازلهم فى الجنة ويصلحونها بأعمالهم لانفسهم لا لغيرهم، عن الصادق (ع) انه قال: ان العمل الصالح ليسبق صاحبه الى الجنة فيمهد له كما يمهد لاحدكم خادمه فراشه.
[30.45]
{ ليجزي الذين آمنوا } علة لاقم وجهك او للقيم او ليأتى يوم او لقوله لا مرد له او ليصدعون والمراد بالايمان الايمان العام الحاصل بالبيعة العامة النبوية وقبول الدعوة الظاهرة، وبالعمل الصالح الايمان الخاص الحاصل بالبيعة الخاصة الولوية وقبول الدعوة الباطنة، او المراد بالايمان الايمان الخاص الحاصل بالبيعة الولوية ويكون قوله { وعملوا الصالحات } اشارة الى العمل بما أخذ عليه فى عهده وبيعته { من فضله } يعنى لا يكون جزاؤهم بسبب عملهم فانه لا يدخل احد الجنة بعمله بل يكون بمحض فضله { إنه لا يحب الكافرين } سوق العبارة كان مقتضيا ان يقول: ويجزى الذين كفروا لكنه عدل الى هذا اشارة الى ان جزاء الكافرين ليس من الغايات بالذات انما هى من تبعة اعمالهم وكفرهم وقد مضى مكررا ان امثال هذا يستعمل فى معنى ببعضهم وان كان بمفهومه اعم منه.
[30.46]
{ ومن آياته } الجملة معطوفة على جملة الله الذى خلقكم فانه فى معنى من آياته ان خلقكم ثم رزقكم ثم اماتكم (الى آخرها) { أن يرسل الرياح مبشرات } يعنى ارسال الرياح لحمل السحاب وتحريكه الى ما اراده من الامكنة ثم امطار الامطار وتوسعة الرزق عليكم بها من جملة آياته الدالات على مبدء عليم حكيم قدير مريد رؤف رحيم { وليذيقكم من رحمته } عطف على مبشرات فانه فى معنى ليبشركم به { ولتجري الفلك بأمره } اى بأمره للرياح فانه لولا الرياح لما جرى الفلك على متن الماء سواء كان تلك الرياح بامر من الله او بصنع من الناس كالفلك التى تجرى بالابخرة المصنوعة { ولتبتغوا من فضله } يجرى الفلك فى البحر او بمطلق ما يحصل من الامطار والرياح { ولعلكم } تتنبهون بان تلك النعم من الله وان لا يقدر احد على امثاله ف { تشكرون } نعمه.
[30.47]
{ ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجآءوهم بالبينات } كما أرسلناك الى قومك فجئتهم بالبينات فكذب الاقوام رسلهم كما كذبك قومك { فانتقمنا من الذين أجرموا } من اقوام الرسل فليحذر قومك من تكذيبك ومن انتقامنا، واصبر انت والمؤمنون على اذاهم فانا ننصركم وننتقم من المجرمين { وكان حقا علينا نصر المؤمنين } ومن كان حقا على الله ان ينصره على عدوه فلا يحزن من معاداة احد وهو تسلية تامة للمؤمنين وتقوية لقلوبهم وتفخيم لشأنهم من حيث انه تعالى جعلهم ذوى حق عليه؛ عن النبى (ص):
" ما من امرء مسلم يرد عن عرض اخيه الا كان حقا على الله ان يرد عنه نار جهنم يوم القيامة "
ثم قرأ: وكان حقا علينا نصر المؤمنين، وعن الصادق (ع) قال: حسب المؤمن نصره ان يرى عدوه يعمل بمعاصى الله.
[30.48]
{ الله الذي يرسل الرياح } جملة مستأنفة فى مقام التعليل { فتثير سحابا فيبسطه } الله { في السمآء كيف يشآء } سائرا وواقفا، سريعا وبطيئا، غليظا ورقيقا، ذا مطر وثلج وبرد وخاليا عن ذلك { ويجعله كسفا } قطعا متراكمة بعد بسطه او يبسطه تارة ويجعله كسفا اخرى { فترى الودق } اى المطر { يخرج من خلاله فإذآ أصاب به من يشآء من عباده } يعنى بلادهم { إذا هم يستبشرون } بمجيء الخصب.
[30.49]
{ وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم } المطر { من قبله } تأكيد { لمبلسين } لآئسين من المطر والخصب.
[30.50]
تعميم بعد التحضيض للتأكيد.
[30.51]
{ ولئن أرسلنا } على الزروع وسائر النبات والاشجار التى هى آثار رحمة الله وبها احياء الارض { ريحا فرأوه } اى اثر رحمة الله او السحاب { مصفرا } يعنى مصفر الاوراق بالريح الحار او خاليا من المطر { لظلوا من بعده يكفرون } بالله وانعامه من حيث انهم لا يتفكرون انه تعالى رحيم بعباده ولا يفعل بهم ما يفعل الا لغاية راجعة اليهم وانه ليس منه الا الرحمة ولكن قد تصير الرحمة فى بعض القوابل نقمة وليست الا من قبل القابل.
[30.52]
{ ف } هم ليسوا احياء بالحيوة الانسانية ولا سامعين ولا مبصرين بالسمع والبصر الانسانيين و { إنك لا تسمع الموتى } عن الحيوة الانسانية فلا تحزن على عدم سماعهم ولا تلومن نفسك فى عدم هدايتهم { ولا تسمع الصم الدعآء } يعنى ان حيوتهم حيوة حيوانية وانهم صم عن السماع الانسانى { إذا ولوا مدبرين } يعنى ان الصم اذا كانوا مقبلين يمكن افهامهم بالاشارة وهؤلاء صم وكانوا مدبرين ولو كانوا مقبلين يفهمهم الله كما قيل:
نى غلط كفتم كه كركر سرنهد
بيش وحى كبر يا سمعش دهد
[30.53]
{ ومآ أنت بهاد العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن } اى يذعن او يؤمن بالبيعة العامة او الخاصة { بآياتنا } واعظمها الانبياء والاولياء (ع) واصل الكل على (ع) { فهم مسلمون } منقادون لك او مسلمون بالبيعة الاسلامية او مسلمون لوصيك.
[30.54]
{ الله الذي خلقكم } مستأنف فى مقام الامتنان واظهار الآيات كأنه قال الله لا غيره الذى خلقكم { من ضعف } وهذا من جملة آياته فما لكم تصرفون عنه الى غيره يعنى خلقكم من مادة ضعيفة فاذا انتم اقوياء خصماء، او جعل الضعف بمنزلة مادته مبالغة فى ضعف مادته، وقرئ فى الكل بضم الضاد وفتحها والمعنى واحد { ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا } فى سن الكهولة { وشيبة } فى سن الهرم او كليهما فى سن الهرم { يخلق ما يشآء } من ضعف وقوة وشيبة وشبيبة وليس خلقه ما يشاء غير منوط بحكمة فانه لا يشاء الا ما هو الاصلح بحال خلقه { وهو العليم } بخلقه وما فيه صلاحهم { القدير } على ما يشاء فلا يشاء الا ما يعلم ان فيه صلاحهم.
[30.55]
{ ويوم تقوم } عطف على قوله { الله الذي خلقكم } ، او حال بتقدير مبتدء يعنى هذا كيفية خلقتهم وامتداد امدهم ويوم تقوم { الساعة } اى القيامة الصغرى او الكبرى { يقسم المجرمون } منهم لغاية دهشتهم واختلال مداركهم من وحشتهم { ما لبثوا } فى الدنيا ان كان المراد بالساعة ساعة الاحتضار، او فى الدنيا والبرازخ ان كان المراد القيامة الكبرى بعد البرازخ { غير ساعة كذلك } الانصراف عن الحق ومما كان معلوما لهم مشهودا غير غائب { كانوا } فى دنياهم { يؤفكون } عن الحق الذى هو مشهود لهم من امر الآخرة وصحة الرسالة وصدق الامامة والخلافة.
[30.56]
{ وقال الذين أوتوا العلم } عطف على جملة كذلك كانوا يؤفكون، الاتيان بالماضى للاشارة الى تحقق وقوعه، او للاشارة الى انه قد مضى بالنسبة الى مقام المخاطب الذى هو محمد (ص) والايمان اى الاذعان والانقياد، او المراد بالعلم العلم باحكام الرسالة وقبولها فانه كثيرا يستعمل العلم فى قبول احكام الرسالة والعلم بها تقليدا او تحقيقا، وبالايمان الايمان الخاص الحاصل بالبيعة الخاصة الولوية وقبول الدعوة الباطنة فيكون فى معنى قوله قال الذين اوتوا الاسلام بقبول الدعوة الظاهرة والايمان بقبول الدعوة الباطنة، او المراد بالعلم العلم التحقيقى، وبالايمان الايمان الشهودى الذين لا يجتمعان الا فى من صار خليفة لله كما عن الرضا (ع) حين يصف الامامة فانه قال: فقلدها عليا (ع) بامر الله عز وجل على رسم ما فرض الله تعالى فصارت فى ذريته الاصفياء الذين آتاهم الله تعالى العلم والايمان بقوله: وقال الذين اوتوا العلم { والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله } اى مكتوب الله وهو عالم الطبع وعالم البرازخ والبدن الطبيعى والبدن البرزخى فان الكل كتاب الله الذى كتبه بيده { إلى يوم البعث } يعنى لبثتم من اول خلقتكم فى عالم الطبع والبرازخ الى يوم القيامة الكبرى { فهذا يوم البعث } ولا يعلم امد ذلك الا الله وانتم لغاية وحشتكم لم يبق لكم شعور بتلك المدة الطويلة { ولكنكم كنتم لا تعلمون } تلك المدة ولا هذا اليوم لتحيركم وعدم بقاء شعور لكم، وعلى ما بينا الآية لا حاجة فيها الى التكلفات التى ارتكبها المفسرون.
[30.57]
{ فيومئذ } هذا من جملة قول الذين اوتوا العلم او هو من قول الله { لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون } اى لا هم يسترضون فانه من العتبى بمعنى الرضا، لا من العتب بمعنى الامر الكريه، اولا هم يلامون على ان يكون من العتاب بمعنى الملامة يعنى لا يلامون لاسقاطهم عن درجة الملامة.
[30.58]
{ ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل } يتعظ به وينذر ويبشر به ولكنهم لا يتعظون ولا ينذرون { ولئن جئتهم } عطف او حال { بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم } ايها الرسول (ص) والمؤمنون { إلا مبطلون } يعنى انهم لغاية شقوتهم يزيد الامثال والانذار فى عنادهم بحيث اذا رأوا آية منك دالة على صدقك انكروها ونسبوك الى الابطال.
[30.59]
اى لا يتصفون باول مراتب العلم فان من لا يتصف باول مراتب العلم الذى هو نور يقذفه الله فى قلب من يشاء يكون مطبوعا على قلبه وان كان مليا بجملة المدركات الكسبية.
[30.60]
{ فاصبر } يا محمد (ص) على انكارهم ونسبتك الى الابطال، او فاصبر على انكارهم لخلافة خليفتك { إن وعد الله } بنصرتك واظهار دينك على الاديان او بنصرة خليفتك واحقاق حقه { حق } لا يتغير { ولا يستخفنك الذين لا يوقنون } اى لا يحملنك على الجهل ولا يصرفنك عما انت عليه من الحق.
[31 - سورة لقمان]
[31.1-5]
قد مضى فى اول البقرة وفى غيرها ما فيه غنية عن تفسير تلك الآيات.
[31.6-10]
{ ومن الناس من يشتري لهو الحديث } الاشتراء يستعمل فى المعاوضة المطلقة سواء كان العوضان من الاعيان ام غيرها، وسواء كان قرينا بصيغة خاصة ام لا، فيصدق على بذل الاموال على الوعاظ والقصاص والنقال للاسمار، وعلى بذل القوى والاستعدادات والاعمار فى الاستماع الى ما فيه حظ النفس والخيال دون العقل، سواء كان المسموع من القرآن والاخبار او من الاباطيل والاسمار، ولهو الحديث عبارة عما يشغلك عن الله والآخرة من الاقوال اللسانية والافعال الاركانية والاحاديث النفسية سواء كان ذلك الشاغل قرآنا وخبرا من المعصوم وعبادة شرعية او كان لغوا فى ذاته ومعصية فان فى كل قول وفعل جهة عقلانية وجهة شيطانية، فان كان الاستماع او الاشتغال به من جهته العقلانية كان ذلك حديثا صحيحا عقلانيا، وان كان صورته صورة الاباطيل والعصيان، وان كان الاستماع او الاشتغال به من جهته الشيطانية كان ذلك لهو الحديث، وان كان صورته صورة القرآن والاخبار المعصومية، ومقصوده تعالى ههنا ان القرآن وآياته هدى ورحمة للمحسنين وضلال ونقمة للمسيئين لكنه عدل عن ذلك تنزيها للقرآن عن نسبة الاضلال والنقمة اليه وتصريحا بان الضلال والنقمة ليس الا من قبل انفسهم فانهم بسوء استعدادهم وصنيعهم يضلون بالقرآن الذى هو هداية من الله ويصير القرآن فى اسماعهم كالاسمار لهو الحديث { ليضل } قرئ بفتح الياء وضمها، واللام مثل اللام فى
ليكون لهم عدوا وحزنا
[القصص:8]، او هى اللام الداخلة على العلة الغائية فان من الناس من يشتغل بالملاهى وليس مقصوده الضلال او الاضلال او كان مقصوده الاهتداء لكن يضل ويضل من حيث لا يشعر، ومنهم من يشتغل لقصد الاضلال كمن يحصل العلم لافساد الشريعة { عن سبيل الله بغير علم } بالاشتراء او بغير علم بان الاشتراء المذكور ضلال واضلال، او بغير علم بضلاله واضلاله، او متصفا بغير علم ، وحينئذ يكون تنكير العلم للجنس او لفرد ما لكن يكون مستغرقا لوقوعه بعد غير الذى هو فى معنى النفى، او يكون التنوين للتفخيم اى بغير علم عظيم هو العلم بالولاية { ويتخذها } اى يتخذ سبيل الله وليس سبيل الله الا سبيل الولاية { هزوا أولئك لهم عذاب مهين وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم إن الذين آمنوا } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل بعدما ذكر جزاء المسيئين ما جزاء المحسنين؟- فقال: ان الذين آمنوا بالبيعة العامة او بالبيعة الخاصة { وعملوا الصالحات } على وفق ما اخذ عليهم فى بيعتهم، ووضع الظاهر موضع المضمر للفصل بين هذا الحكم وبين ذكر المحسنين، وللاشارة الى ان المحسن ليس الا من آمن وعملوا الصالحات { لهم } لا لغيرهم { جنات النعيم خالدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم خلق السماوات بغير عمد ترونها } بيان لعزته وحكمته، عن الرضا (ع) انه قال: ثم عمد ولكن لا ترونها، وقد مضى هذا فى اول سورة الرعد { وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم } قد مضت الآية فى اول سورة النحل { وبث فيها من كل دآبة وأنزلنا من السمآء مآء فأنبتنا فيها من كل زوج } اى من كل صنف فان كل صنف باعتبار ما دونه وما فوقه يسمى زوجا او كل نبات باعتبار كونه بريا وبستانيا زوج { كريم } الكرم فى كل شيء بحسبه وكرم النبات باعتبار كثرة منافعه بدأ بخلق السماوات فانها اشرف من الارض، ثم بذكر خلق الارض فى ضمن القاء الرواسى عليها، ثم بذكر خلق المواليد من الاشرف الى الاخس.
[31.11]
{ هذا } المذكور من السماوات والارض والجبال والمواليد { خلق الله } اى مخلوق الله { فأروني ماذا خلق الذين من دونه } حتى يكونوا مستحقين للشراكة معه وللعبادة لهم فان الشريك لا بد وان يكون مثل الشريك الآخر فى شيء من صفاته { بل الظالمون في ضلال مبين } التفات من الخطاب الى الغيبة ووضع الظاهر موضع المضمر توصيفا لهم بالظلم فى اشراكهم، وبيانا لعلة الحكم، ولفظ بل اضراب من تعجيزهم الى التصريح بضلالهم.
[31.12]
{ ولقد آتينا لقمان الحكمة } عطف على جملة خلق السماوات فانه لما عد اصول النعم التى انعم بها على عباده ذكر الشاكر على نعمه وعد شكره حكمة فان الحكمة هى دقة النظر فى القوة العلامة واتقان الصنع فى القوة العمالة، ولم يكن الشكر الا من دقة النظر واتقان الصنع القلبى والبدنى فانه كما سبق فى سورة البقرة عند قوله تعالى
فاذكروني أذكركم واشكروا لي
[البقرة:152]عبارة عن ملاحظة انعام المنعم فى النعمة وملاحظة حق المنعم فىالانعام المستلزم لتعظيم المنعم وصرف النعمة لما خلقت لاجله وليس هذه الملاحظة الا دقة النظر ولا ذلك التعظيم والصرف الا اتقان الصنع القلبى والبدنى وقد ذكر فى نسبه انه كان ابن باعورا من اولاد ازد بن اخت ايوب (ع) او خالته عاش حتى ادرك داود (ع) { أن اشكر لله } بملاحظة حقه وعظمته فى كل ماله مدخلية فى وجودك وبقائك وهو كل موجود فى العالم الكبير من المحسوسات وغير المشهودات، وفى العالم الصغير من كل ماله مدخلية فى وجودك او فى كمال وجودك، ولفظة ان تفسيرية وتفسير للحكمة فانه كما تكون تفسيرا للمجمل المحذوف تكون تفسيرا للمجمل المذكور، او مصدرية بتقدير اللام، او تكون مع ما بعدها بدلا من الحكمة { ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه } جملة حالية او معطوفة على جملة لقد آتينا لقمان (الآية)، او على الحكمة، او على ان اشكر على ان يكون ان مصدرية، ويكون بدلا وعليهما فليقدر قبلهما مضاف حتى تصير مفردة والتقدير ان اشكر لله ومضمون من يشكر فانما يشكر لنفسه، او عطف على اشكر سواء جعلت ان تفسيرية او مصدرية لكن بتقدير القول والتقدير ان اشكر لله وقل لغيرك: من يشكر فانما يشكر لنفسه لان نفعه عائد اليه { ومن كفر } كفران النعم بترك ملاحظة المنعم وتعظيمه فى النعمة وترك صرفها فى وجهها لا يضر الله شيئا { فإن الله غني } عن حمد الحامدين وشكر الشاكرين { حميد } بنفسه حمد ام لم يحمد، وفى خبر شكر كل نعمة وان عظمت ان يحمد الله عز وجل عليها، وفى خبر: وان كان فيما انعم عليه حق اداه، وفى خبر: من انعم الله عليه بنعمة فعرفها بقلبه فقد أدى شكرها، وفى خبر اوحى الله عز وجل الى موسى (ع): يا موسى اشكرنى حق شكرى فقال: يا رب وكيف اشكرك حق شكرك وليس من شكر اشكرك به الا وانت انعمت به على؟- قال: يا موسى الآن شكرتنى حين علمت ان ذلك منى.
شرح فى احوال لقمان
وعن الصادق (ع) انه سئل عن لقمان وحكمته التى ذكره الله عز وجل فقال: اما والله ما اوتى لقمان الحكمة بحسب ولا مال ولا اهل ولا بسط فى جسم ولا جمال ولكنه كان رجلا قويا فى امر الله مستودعا فى الله ساكتا سكيتا عميق النظر طويل الفكر حديد النظر مستغن بالعبر لم ينم نهارا قط ولم يره احد من الناس على بول ولا غائط ولا اغتسال لشدة تستره وعمق نظره وتحفظه فى امره ولم يضحك من شيء قط مخافة الاثم، ولم يغضب قط ولم يمازح انسانا قط، ولم يفرح بشيء اتاه من امر الدنيا ولا حزن منها على شيء قط، وقد نكح من النساء وولد له الاولاد الكثير وقدم اكثرهم افراطا فما بكى على موت احد منهم، ولم يمر برجلين يختصمان او يقتتلان الا اصلح بينهما، ولم يمض عنهما حتى تحابا (او تحاجزا) ولم يسمع قولا قط من احد استحسنه الا سأل عن تفسيره وعمن اخذه فكان يكثر مجالسة الفقهاء والحكماء وكان يغشى القضاة والملوك والسلاطين فيرثى للقضاة مما ابتلوا به، ويرحم الملوك والسلاطين لغرتهم وطمأنينتهم فى ذلك، ويعتبر ويتعلم ما يغلب به نفسه ويجاهد به هواه ويحترز به من الشيطان، وكان يداوى قلبه بالتفكر والعبر وكان لا يظعن الا فيما ينفعه، ولا ينظر الا فيما يعينه، فبذلك اوتى الحكمة ومنح العصمة وان الله تبارك وتعالى امر طوائف من الملائكة حين انتصف النهار وهدأت العيون بالقائلة فنادوا لقمان حيث يسمع ولا يراهم، فقالوا: يا لقمان هل لك ان يجعلك الله خليفة فى الارض تحكم بين الناس؟- فقال لقمان: ان امرنى ربى بذلك فالسمع والطاعة لانه ان فعل بى ذلك اعاننى عليه وعلمنى وعصمنى، وان هو خيرنى قبلت العافية، فقالت الملائكة: يا لقمان لم قلت ذلك؟- قال: لان الحكم بين الناس باشد المنازل من الدين واكثر فتنا وبلاء وما يخذل ولا يعان ويغشاه الظلم من كل مكان وصاحبه منه بين امرين، ان اصاب فيه الحق فبالحرى ان يسلم، وان أخطأ أخطأ طريق الجنة، ومن يكن فى الدنيا ذليلا ضعيفا كان اهون عليه فى المعاد من ان يكون فيه حكما سريا شريفا، ومن اختار الدنيا على الآخرة يخسرهما كلتيهما تزول هذه ولا يدرك تلك، قال: فعجبت الملائكة من حكمته واستحسن الرحمن منطقه، فلما امسى واخذ مضجعه من الليل انزل الله عليه الحكمة فغشاه بها من قرنه الى قدمه وهو نائم وغطاه بالحكمة غطاء فاستيقظ وهو احكم الناس فى زمانه، وخرج على الناس ينطق بالحكمة ويبثها فيهم قال: فلما اوتى الحكم بالخلافة ولم يقبلها امر الله عز وجل الملائكة فنادت داود (ع) بالخلافة فقبلها ولم يشترط فيها بشرط لقمان (ع) فأعطاه الله عز وجل الخلافة فى الارض وابتلى فيها غير مرة كل ذلك يهوى فى الخطاء ويقيله الله تعالى ويغفر له، وكان لقمان يكثر زيارة داود (ع) ويعظه بمواعظه وحكمته وفضل علمه، وكان داود يقول له: طوبى لك يا لقمان اوتيت الحكمة وصرفت عنك البلية، واعطى داود الخلافة وابتلى بالحكم والفتنة، ولما كان الحكمة لا تحصل الا بمعرفة امام الزمان فسرها الصادق (ع) بمعرفة امام زمانه، ولما كانت لا تحصل بحسب جزءها العلمى الا بالفهم والعقل فسرها الكاظم (ع) بالفهم والعقل، وقد ذكر من حكم لقمان ووصاياه لابنه وغيره فى المفصلات من اراد فليرجع اليها.
[31.13]
{ وإذ قال } عطف على قوله تعالى لقد آتينا فانه فى معنى اذكر اذ آتينا لقمان الحكمة واذ قال { لقمان لابنه وهو يعظه يبني لا تشرك بالله } قدم من مواعظه وآثار حكمته النهى عن الاشراك لان التوحيد اصل جملة المواعظ واساس جميع انواع الحكم { إن الشرك لظلم عظيم } لانه لا يغفره الله ويغفر ما دون ذلك فان ظلم العبد لنفسه بتقصيره فى حقوق الله يغفره الله، وظلمه لغيره فى ماله او بدنه او عرضه لا يدعه الله لكن ليس لا يغفره الله فانه بعد المقاصة مغفور بخلاف الشرك فانه ناش من انانية النفس وما دام للنفس انانية لا يغفرها الله، فاعظم اقسام الظلم هذا القسم.
[31.14]
{ ووصينا الإنسان بوالديه } يعنى وصيناه بالاحسان اليهما فان هذه العبارة مستعملة فى هذا المعنى وقد مضى فى سورة البقرة وسورة النساء عند قوله
وبالوالدين إحسانا
[النساء: 36] بيان الوالدين والاحسان اليهما واقسامهما { حملته أمه وهنا } حمل ضعف او واهنة { على وهن } فانه كلما يمضى من زمان حمل الولد يحصل وهن آخر { وفصاله في عامين } اى فى انقضاء عامين على الاغلب وعلى ما ينبغى ان يفطم والجملتان معترضتان جواب لسؤال مقدر فى مقام التعليل كما ان مجموع قوله تعالى { ووصينا الإنسان } (الى قوله) { يبني إنهآ إن تك } (الآية) كان معترضا للاشعار بالاهتمام بأمر الوالدين كالاهتمام بامر التوحيد كما مضى فى السورتين المذكورتين انه تعالى لكمال الاهتمام بامر الوالدين قرنهما بتوحيده وبالنهى عن اشراكه فى عدة مواضع { أن اشكر لي } ان تفسيرية او مصدرية وبدل مع ما بعدها عن الوالدين بدل الاشتمال { ولوالديك } ولكمال الاهتمام بالوالدين ذكر شكر الوالدين قرينا لشكره { إلي المصير } فى مقام التعليل ولم يقل ان اشكر لى واشكر لوالديك لئلا يتوهم ان شكر الوالدين امر مغاير لشكر الله بل شكر الله ليس الا شكر الوالدين كما عن الرضا (ع) فانه قال امر بالشكر له وللوالدين فمن لم يشكر والديه لم يشكر الله اقول: وليس ذلك الا من جهة كون شكر الله مندرجا فى شكر الوالدين.
[31.15-16]
{ وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما } لما كان الوالدان التكوينيان كما مضى فى سورة البقرة والنساء بحسب كل مرتبة من مراتب وجود الانسان وكل شأن من شؤنه غير الوالدين بحسب المرتبة الاخرى والشأن الآخر وهكذا بحسب التكليف والاختيار كان الشيطان والنفس والديه كما ان العقل والنفس ومحمدا (ص) وعليا (ع) كانا والديه، فكما يجوز ان يكون المراد بالوالدين الوالدين الجسمانيين يجوز ان يراد بهما الوالدان الروحانيان، وكما يجوز ان يراد بالوالدان التكوينيان يجوز ان يراد التكليفيان فجاز ان يراد بالوالدين فى قوله { ووصينا الإنسان بوالديه } الجسمانيان والروحانيان، وبالضمير فى قوله { وإن جاهداك } الجسمانيان او الروحانيان اللذان هما والداه بحسب مقام جهله تكوينا او تكليفا بطريق الاستخدام، وقد ورد اخبار كثيرة دالة على ان محمدا (ص) وعليا (ع) افضل آباء هذه الامة وان حقهما اعظم من حق آبائهم الجسمانيين، وان من ارضاهما ارضى الله والديه الجسمانيين، فعن جعفر بن محمد (ع): من رعى حق ابويه الافضل محمد (ص) وعلى (ع) لم يضره ما ضاع من حق ابوى نفسه وسائر عباد الله فانهما يرضيانهما بشفاعتهما، وعن على بن محمد (ع): من لم يكن والدا دينه محمد (ص) وعلى (ع) اكرم عليه من والدى نسبه فليس من الله فى حل ولا حرام ولا قليل ولا كثير، وعن امير المؤمنين (ع) انه قال: الوالدان اللذان اوجب الله لهما الشكر هما اللذان ولدا العلم وورثا الحكم، وامر الناس بطاعتهما ثم قال: الى المصير فمصير العباد الى الله والدليل على ذلك الوالدان ثم عطف على ابن حنتمة وصاحبه فقال فى الخاص والعام: وان جاهداك ان تشرك بى يقول فى الوصية وتعدل عمن امرت بطاعته فلا تطعهما ولا تسمع قولهما، ثم عطف القول على الوالدين فقال: { وصاحبهما في الدنيا معروفا } ، يقول عرف الناس فضلهما وادع الى سبيلهما وذلك قوله { واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم } قال الى الله ثم الينا فاتقوا الله ولا تعصوا الوالدين فان رضاهما رضا الله وسخطهما سخط الله، وقد ورد اخبار كثيرة فى حفظ حق الوالدين الجسمانيين ايضا وطاعتهما والترحم عليهما والدعاء لهما وان كانا لا يعرفان الحق، روى انه جاء رجل الى النبى (ص) فقال: اوصنى ، فقال (ص): لا تشرك بالله شيئا وان حرقت بالنار الا وقلبك مطمئن بالايمان ووالديك فأطعهما وبرهما حيين كانا او ميتين وان امراك ان تخرج من اهلك ومالك فافعل فان ذلك من الايمان، وعن الصادق (ع): بر الوالدين واجب وان كانا مشركين ولا طاعة لهما فى معصية الخالق ولا لغيرهما فانه لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق { وصاحبهما في الدنيا معروفا } صحابا معروفا يعرفه العقلاء بالحسن، والمعروف بالنسبة الى انواع الوالدين يختلف فان المعروف بالنسبة الى محمد (ص) وعلى (ع) ان لا نخالف قولهما لا فى الظاهر ولا فى الباطن وان تطيعهما فى كل ما امراك به، وان تحبهما وتبايع معهما، وترابط معهما المرابطة القلبية بان تكون متوجها اليهما ومتذكرا لهما ومصورا لصورتهما فى كل حال، والمعروف بالنسبة الى والديك الجسمانيين لا يخفى على احد { واتبع سبيل من أناب } يعنى لا يكن صحابتك المعروفة مخرجة لك من طريق الولاية وصارفة لك من توجهك الى طريق قلبك فان الاهتمام بشأن الوالدين ليس الا لسلامة البقاء على طريق القلب وطريق الولاية فلا يكن اهتمامك بالوالدين مخرجا لك عن الولاية { ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون يبني إنهآ إن تك مثقال حبة من خردل } ضمير انها للقصة او للاشراك والتأنيث باعتبار الخير الذى هو مثقال حبة فان المثقال بصحة سقوطه يكسب التأنيث من المضاف اليه، او باعتبار الخصلة كأنه قال: ان خصلة الاشراك، وقيل: ان الضمير للعمل سيئة كان او حسنة باعتبار الخصلة، وقرئ مثقال بالرفع بجعل الضمير للقصة وكون كان تامة { فتكن في صخرة } يعنى تكن فى جوف اصلب الاشياء { أو في السماوات } يعنى فى ابعد الاماكن { أو في الأرض } اى فى اقرب الاماكن اليكم { يأت بها الله } يحضرها ويحاسب عليها، قيل: ان ابن لقمان سئل فقال: أرأيت الحبة تكون فى مقل البحر ايعلمها الله؟- فقال: انها اى الحبة التى سألتها ان تك مثقال حبة (الآية)، وقيل: ان المراد ان الرزق ان كانت مثقال حبة من خردل يأتيك بها الله { إن الله لطيف } فى علمه وعمله فيعلم مثقال حبة من خردل وان كانت فى اخفى الاماكن واصلبها او ابعدها او اقربها ويقدر على الاتيان بها من تلك الاماكن لدقته فى علمه { خبير } ويجوز ان يكون المراد باللطيف لطفه فى عمله، وبالخبير لطفه فى علمه، وعن الصادق والباقر (ع): اتقوا المحقرات من الذنوب فان لها طالبا لا يقولن احدكم اذنب واستغفر الله ان الله يقول: ان تك مثقال حبة من خردل (الآية).
[31.17]
{ يبني أقم الصلاة } قد مضى فى اول البقرة وفى سورة النساء عند قوله
لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى
[النساء:43] بيان تام لاقسام الصلوة واقامتها { وأمر بالمعروف وانه عن المنكر } قد مضى فى سورة البقرة عند قوله { أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم } [آية: 44] بيان للامر بالمعروف والنهى عن المنكر { واصبر على مآ أصابك } من البلايا او المشقة والاذى فى الامر بالمعروف والنهى عن المنكر { إن ذلك من عزم الأمور } مما ينبغى ان يعزم عليه لكونه فرضا من الله او فرضا تكوينيا للنفس الانسانية وللاهتمام بهذه الامور اتى بقوله: { إن ذلك من عزم الأمور } بين المتعاطفات.
[31.18]
{ ولا تصعر خدك للناس } لا تمل خدك عنهم فى المعاشرة معهم ولا تعرض عمن يكلمك استخفافا به، وقيل: المعنى لا تذل للناس طمعا فيما عندهم { ولا تمش في الأرض مرحا } المرح شدة الفرح اى تكبر عنهم فرحا بما عندك { إن الله لا يحب كل مختال فخور } الاختيال والفخر متقاربا المفهوم فانهما خصلتان ناشئتان من ملاحظة النفس وانانيتها والفرح بها، وملاحظة الغير وتحقيره فى جنب نفسه لكن فى الاختيال ملاحظة النفس غالبة، وفى الفخر ملاحظة الغير وتحقيره غالبة.
[31.19]
{ واقصد في مشيك } يعنى عن الاسراع فان المقصود التوسط بين الاختيال الظاهر بالتأنى فى المشى وبين خفة النفس وعدم وقارها الظاهر بالاسراع فى المشى { واغضض من صوتك } اى انقص من صوتك ولا ترفعه قدر ما يمكن لك رفعه فالمقصود التوسط بين الخفض بحيث لا يسمعه من اردت اسماعه ولا يزيد على قدر اسماعه { إن أنكر الأصوات } اشدها زجرا { لصوت الحمير } عن الصادق (ع) انه قال: هى العطسة القبيحة والرجل يرفع صوته بالحديث رفعا قبيحا الا ان يكون داعيا او يقرأ القرآن وقد اقتصر تعالى شأنه من حكاية مواعظه على ما هو اصل اصول الدين وهى الاشراك بالله او الاشراك بالنبوة او الولاية وعلى ما هو اصل اصول الاعمال الشرعية من اقامة الصلوة والامر بالمعروف والنهى عن المنكر والصبر عليها او على البلايا، لكن المقصود الصبر على الصلوة ما بعدها حتى يمكن عده من جانب الاعمال الشرعية القالبية لان الصبر على البلايا معدود من الاخلاق النفسية وعلى ما هو اصل اصول آداب المعاشرة وقد ذكرنا قبيل هذا ان ما نقل من مواعظه كثيرة من اراد فليرجع الى المفصلات.
[31.20]
{ ألم تروا } جواب لسؤال مقدر ناش من قوله { لقد آتينا لقمان الحكمة } كأنه قيل: لقد آتيت لقمان الحكمة فما لنا لم نؤت الحكمة؟- فقال تعالى: قد آتيناكم اسباب حصول الحكمة فيكم من مدارككم الظاهرة ومدارككم الباطنة وتسخير جميع ما فى السماوات وجميع ما فى الارض لكم بحيث يمكن لكم الاستدلال بها على مبدء عليم قدير مريد رحيم رؤف لطيف فى علمه وعمله متقن لصنعه، وعلى ان الانسان اشرف الموجودات، وان الكل مخلوق لاجل بقائه وانتفاعه، وان ليس المقصود منه تعمير هذه الدار الفانية والا كان مثل سائر المواليد موجودا لاجل غيره، وانه ينبغى له ان لا يتوقف على تعيش هذا العالم بل لا بد ان يجعل تعيشه فى الدنيا مقدمة للآخرة، وان كل ما لم يكن مقدمة للآخرة من جهات هذا العالم فهو فان غير باق لا ينبغى للعاقل ان يتوسل به ويتوقف عليه وليس الحكمة الا هذا فان لم تتفكروا ولم تتصفوا بها كان من قبلكم { أن الله سخر لكم ما في السماوات } من الكواكب والملائكة الموكلة بالسماوات وكواكبها بحيث لم يتوانوا آنا ما من تحريك الاجسام التى بها وبتحريكها يتولد المواليد وتبقى { وما في الأرض } من الدواب والنبات والمعادن بحيث لا يتأبى من تصرفكم باى تصرف شئتم فما فى السماوات مسخر لله لاجل انتفاعكم وما فى الارض مسخر لله ولكم لاجل انتفاعكم { وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة } النعم الظاهرة كل ملائم لك له تعلق بظاهرك المحسوس من المأكول والمشروب والملبوس والمسكن والمركوب والمنكوح والعز والعرض والحشمة والصيت والمدارك الظاهرة والاعضاء وغير ذلك، وأشرف الكل ما له تعلق بظاهرك ومع ذلك يكون جالبا للنعم الباقية الاخروية من الرسول ورسالته وقبول رسالته بالبيعة العامة والدعوة الظاهرة واحكام رسالته والعمل بها، والنعم الباطنة ما له تعلق بباطنك من المدارك الباطنة والادراكات الدقيقة بالتفكرات الدقيقة والنفس والقلب والعقل والاستعداد للخروج من هذه الدار، واشرف الكل الولى (ع) وولايته وقبول ولايته بالبيعة الخاصة الولوية وقبول الدعوة الباطنة واحكام الولاية، وقد اشير الى ذلك فى الاخبار فعن الباقر (ع) وولايته وقبول ولايته بالبيعة الخاصة الولوية وقبول الدعوة الباطنة واحكام الولاية، وقد اشير الى ذلك فى الاخبار فعن الباقر (ع) اما النعمة الظاهرة فالنبى (ص) وما جاء به من معرفة الله وتوحيده واما النعمة الباطنة فولايتنا اهل البيت (ع) وعقد مودتنا، وعن الكاظم (ع): النعمة الظاهرة الامام الظاهر والباطنة الامام الغائب، وكأنه كان اشارة الى الفكر المصطلح للصوفية من ظهور ملكوت ولى الامرعلى صدر السالك { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير } قد مضى الآية بتمام اجزائها فى سورة الحج.
[31.21]
{ وإذا قيل لهم اتبعوا مآ أنزل الله } اعرضوا و { قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آبآءنا } كما كان عليه اهل كل زمان فانه اذا قيل لهم: اتبعوا ولى امركم وعالم وقتكم يقولون: نحن على ما كان عليه اسلافنا { أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير } يعنى لا ينبغى التقليد لمن لم يكن حاله معلوما لك بل ينبغى ان يكون الانسان مقلدا لعالم حى قد ميز حاله وعلم انه مجاز من المعصوم بواسطة او بلا واسطة ولا اقل من العلم بانه يفعل ما يقول ويقول ما يفعل، ولا يكون كالمدعين الذين يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم.
[31.22]
{ ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى } قد مضى اول الآية فى سورة النساء مع تفصيل وتحقيق فى بيانها وآخرها فى سورة البقرة { وإلى الله عاقبة الأمور } يعنى عاقبة جملة الامور ينتهى الى الله بمعنى ان ايجاد الاملاك والافلاك والعناصر ليس الا لايجاد المواليد، وجميع الحركات الارادية والطبيعية وسكناتها وجميع المواليد ليست الا لايجاد الانسان وقد خلقه الله لاجل نفسه، او المعنى كل امر ينتهى عاقبته الى الله بمعنى ان كل فعل غايته ينتهى الى امر ليس هو مقصودا بذاته بل هو مقصود لاجل الغير الى ان ينتهى الى غاية الغايات ونهاية النهايات، او المعنى ينتهى عاقبة كل الامور الى الله فى النظر واللحاظ بمعنى ان الناظر اذا نظر الى امر وجده صادرا عن فاعل، واذا نظر الى ذلك الفاعل وجده مسخرا لغيره فى ذلك الفعل، وهكذا الى ان ينتهى الى المسخر الحقيقى الذى هو الله فيكون فاعل كل امر هو الله لكنه يكون فى هذا اللحاظ عاقبة جملة الفواعل.
[31.23]
{ ومن كفر } يعنى بالولاية فان اسلام الوجه لله ليس الا بالولاية فالكفر المقابل لاسلام الوجه لله لا يكون الا بالكفر بالولاية بترك البيعة مع ولى الامر او انكاره يعنى من كفر بعلى (ع) { فلا يحزنك كفره } فانه لا يضرك ولا يضر عليا (ع) ولا يفوتنا لانه { إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا } لانا عالمون بدقائق اعمالهم وخفاياها { إن الله عليم بذات الصدور } اى المكمونات التى فى الصدور من القصود والنيات او من الاستعدادات التى لا شعور لصاحبيها بها فكيف بأعمالهم ودقائق اعمالهم وخفاياها.
[31.24-25]
{ نمتعهم قليلا } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: ان كان الله عالما باعمالهم فما لنا نراهم متمتعين بانواع النعم معافين من انواع البلاء؟- فقال نمتعهم قليلا حتى نأخذ بذلك التمتع ما اعطيناهم وما بقى فيهم من بقية الله حتى يخلصوا للنار { ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله } لانه لا جواب لهم سواه يعنى ان سألت مشركى مكة والا فالزنادقة ومنكرو المبدء لا يقولون ذلك { قل الحمد لله } الذى لا ينكره ولا ينكر خلقه لظهوره وظهور برهانه من اشرك به، او المعنى ان سألت الخلق طرا من خلق السماوات والارض قالوا كلا بلسان حالهم الناطق تكوينا: ان الله خالقهما وان لم يكن لهم شعور بهذا اللسان ونطقه لكنك لفتح مسامعك الاخروية لسماع الكلمات التكوينية تسمع نطقهم بذلك وشهادتهم فقل الحمد لله على شهادة الكل بذلك وعلى فتح مسامعى الاخروية لتلك الشهادة، وفى الاخبار اشارة الى هذا المعنى فعن رسول الله (ص)
" كل مولد يولد على الفطرة "
يعنى على المعرفة بان الله عز وجل خالقه فذلك قول الله عز وجل ولئن سألتهم { بل أكثرهم لا يعلمون } لا علم لهم بل ادراكاتهم ليست الا جهالات، او لا يعلمون ان السنتهم ناطقة بذلك لعدم شعورهم بألسنتهم التكوينية الاستعدادية.
[31.26]
{ لله ما في السماوات والأرض } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: هذا حال السماوات والارض فما حال ما فى السموات والارض؟ { إن الله هو الغني } استيناف فى مقام التعليل او جواب لسؤال آخر عن حاله كأنه قيل: اله حاجة اليها؟ فخلقها لحاجته؟- فقال: ان الله هو الغنى لا غنى سواه فلا يكون له جهة حاجة { الحميد } الذى لا حميد سواه بمعنى ان كل ما يتصور ان يكون له من صفات الكمال كان حاصلا له وكلما ما يتصور ان يكون متصفا به من سلوب النقائص كان متصفا به فلا يتصور جهة حاجة لمثل هذا.
[31.27]
{ ولو أنما في الأرض } جملة حالية او معطوفة لتأكيد هذا المعنى { من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله } قد مضى بيان هذه الآية فى آخر سورة الكهف فلا نعيده { إن الله عزيز } فى مقام التعليل يعنى انه عزيز وعزته مانعة من ان تعد مقاماته او تنفد كلماته جملة مراتب الاعداد وجملة السائلات التى يصح ان تكون مدادا، والنباتات التى يصح ان تكون اقلاما فانه لو غلب شيء على مقاماته او كلماته كانت متناهية وكلما كان متناهيا كان فانيا غير غالب { حكيم } لا يخرج تلك الكلمات الغير المتناهية الا بقدر استعداد موادها واستحقاق اعيانها الثابتة.
[31.28]
{ ما خلقكم } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: ان كانت الكلمات غير متناهية فكيف يحاسب الله تعالى كلها فى يوم واحد؟- فقال: ما خلقكم جميعا { ولا بعثكم إلا كنفس واحدة } اى كخلق نفس واحدة وبعثها، وقيل: بلغنا والله اعلم انهم قالوا: يا محمد (ص) خلقنا اطوارا نطفا ثم علقا ثم انشأنا خلقا آخر كما تزعم وتزعم انا نبعث فى ساعة واحدة: فقال الله: ما خلقكم ولا بعثكم الا كنفس واحدة انما يقول له كن فيكون { إن الله سميع بصير } جواب سؤال مقدر فى مقام التعليل يعنى انه سميع لكل مسموع، بصير لكل مبصر؛ فان حذف المفعول ليس الا للتعميم ومن كان كذلك كان لا يشغله شأن عن شأن فلا يمنعه خلق نفس ولا بعثها عن خلق اخرى وبعثها.
[31.29]
{ ألم تر } الخطاب عام او خاص بمحمد (ص) والجملة جواب لسؤال آخر مقدر فى مقام التعليل للجملة الاولى او لقوله: ان الله سميع بصير { أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل } قد مضى بيان ايلاج الليل والنهار فى آل عمران { وسخر الشمس والقمر كل يجري } جملة حالية او مستأنفة لبيان حالهما { إلى أجل مسمى } يعنى كل يجرى دورة الفلك الى وقت معين مضبوط بحيث يستخرج المستخرجون دوراتهما ومدة دوراتهما سنين قبل وقوعها ولا يقع تخلف فى استخراجهم، او المعنى كل يجرى الى اجل مسمى عند الله وهو وقت خراب الدنيا وطى السماء كطى السجل للكتب { وأن الله بما تعملون خبير } وليس هذا الا لان الله لا يشغله شأن عن شأن ولا وصف عن وصف ولا علم عن علم.
[31.30]
{ ذلك } العلم بكل شيء وايلاج الليل فى النهار والنهار فى الليل وتسخير الكواكب { بأن الله هو الحق } بحقيقة الحقية فان الحق بحقيقة الحقية كما يقتضى الوجوب الذاتى يقتضى الاحاطة بجميع الاشياء والعلم بالكل على السواء وعدم ممانعة شأن من شأن وعلم من علم { وأن ما يدعون من دونه } من الشركاء من الاصنام والكواكب وغيرها او من شركاء على (ع) فى الولاية هو { الباطل } فانه لو كان شوب حقية فيها لزاحمته تعالى فى شؤنه وفى علومه، او ذلك المذكور من الجدال بغير علم الى قوله:
إن الله خبير بما تعملون
[الحشر: 18] بان الله هو الحق وان ما يدعون من دونه الباطل { وأن الله هو العلي الكبير } كعلو النفس بالنسبة الى قواها واعضائها وككبرها كذلك فلذلك يكون خبرته بالكل على السواء وتصرفه فى الكل سواء.
[31.31]
{ ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله } جواب لسؤال مقدر فى مقام التعليل لعلوه وكبره يعنى انك يا محمد (ص) ترى ببصيرتك ان الفلك تجرى على الماء بتسبيبات رقيقة كان الطبيعيون عميانا منها وينسبون جريها الى الاسباب الطبيعية غفلة عن الاسباب الآلهية، او الخطاب عام والمعنى ينبغى ان ترى يا من يمكن منه الرؤية { ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبار } على النظر الى انعام الله والتوجه الى تسبيب الله فان غيره لا يدرك من آياتها شيئا { شكور } ناظر الى انعام الله وتعظيمه فى انعامه والمراد بالصبار الشكور هو المؤمن الذى ليس ساهيا عن صلوته فان فى الخبر: الايمان نصفان نصف صبر ونصف شكر، وقيل: المراد راكب البحر فانه بين خوف ورجاء وصبر وشكر.
[31.32]
{ وإذا غشيهم موج } من البحر { كالظلل } مرتفعا فوق رؤسهم { دعوا الله مخلصين له الدين } اى طريق الدعاء او الطاعة او الطريق مطلقا، وقد تكرر فيما سلف انه اذا ارتفع مانع الفطرة من الخيال وحيله خلص الانسانية لربه وخلص الطريق الى الله من الطرق الشيطانية { فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد } اى منهم من يبقى على خلوصه ومنهم من يعود اليه خياله وحيله ويجحد آيات ربه { وما يجحد بآياتنآ إلا كل ختار } اى غدار فان الختر الغدر او اقبحه والخديعة { كفور } كثير الستر للطريق اى الولاية وهى طريق القلب الى الله او كفور للنعم.
[31.33]
{ يأيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده } قرئ يجزى من الثلاثى المجرد بمعنى لا يقضى، ومن باب الافعال بمعنى لا يكفى { ولا مولود هو جاز } اى مولود شأنه ان يكون جازيا عن ابيه وعن اقربائه { عن والده شيئا إن وعد الله } باتيان القيامة ونشر الكتاب والحساب والمجازاة فيها { حق } لا شوب كذب فيه { فلا تغرنكم الحياة الدنيا } عن آخرتكم واليوم الموعود لكم حتى تغفلوا عنه وعن العمل له { ولا يغرنكم بالله الغرور } اى الشيطان بأن طول آمالكم وارجاكم التوبة عند الموت واجرأكم على معاصى الله وجمع الدنيا من الحل والحرام.
[31.34]
{ إن الله } لا غيره { عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت } عن الصادق (ع) هذه الخمسة اشياء لم يطلع عليها ملك مقرب ولا نبى مرسل وهى من صفات الله تعالى، وفى نهج البلاغة فهذا هو علم الغيب الذى لا يعلمه أحد الا الله، وقيل: ان الحارث بن عمرو اتى رسول الله (ص) فقال: متى قيام الساعة؟ وانى قد القيت حبا فى الارض فمتى السماء تمطر؟ وحمل امرأتى ذكر ام انثى؟ وما اعمل غدا؟ واين اموت؟ فنزلت هذه الآية.
اعلم، ان فى الاخبار دلالة على انحصار علم هذه الاشياء الخمسة فى الله واستدلوا على الانحصار بهذه الآية وقد بلغ الينا ان الانبياء واوصياءهم (ع) وبعض اتباعهم كانوا يخبرون ببعض هذه الخمسة، وظاهر هذه الآية لا تدل على ثبوت العلم لله تعالى فى موت الانفس ومحل موتها فضلا عن الدلالة على حصر العلم به فيه تعالى فنقول: قد فسرت الساعة بساعة الموت والاحتضار، وهى القيامة الصغرى، وبساعة ظهور القائم (ع) وبالقيامة الكبرى، وان الساعة من السوع بمعنى الضياع والهلاك، وكل ذلك فيه معنى الضياع لضياع التعينات عند الموت وعند ظهور القائم (ع) وعند القيامة الكبرى، اما ساعة الموت فقد كانوا يخبرون عنها بل الحذاق من الاطباء كانوا يخبرون عنها، واما ظهور القائم (ع) فانه ملازم للموت الاختيارى او الاضطرارى لانه من يمت يره ويظهر القائم (ع) ايضا عند القيامة الكبرى ، والقيامة الكبرى لا يعلمها النبى والوصى والمؤمن من حيث نبوته ووصايته وايمانه، ولكن لما كان للآلهة درجات والكاملون بعد الخروج من جهة خلقيتهم يسيرون فى الجهة الحقية ودرجات الآلهة حتى يقفوا بعد الكمال على الاعراف، والاعراف مقام القيامة الكبرى، لم يكن استبعاد فى علمهم بساعة القيامة الكبرى للعباد من حيثية الآلهة لا من الحيثية الخلقية وتنزيل الغيث والعلم بوقت نزوله ومكانه وقدره قد يجيء من الانبياء واوصيائهم (ع) واتباعهم لكن لا من الحيثية الخلقية بل من حيثية الآلهة، وهكذا الحال فى البواقى، فالعلم بهذه الخمسة وبكل ما غاب عن المدارك البشرية ليس الا لله سواء كان العلم بها فى المظاهر الالهية او فى مقام المشية او فى مقام الاحدية، ونسب الى الائمة انهم قالوا: ان هذه الاشياء الخمسة لا يعلمها على التفصيل والتحقيق الا الله، واما دلالة الآية على علمه تعالى وحصر العلم بها فيه تعالى فنقول: تقديم المسند اليه وتقديم الظرف فى قوله: { إن الله عنده علم الساعة } يدل على الحصر، وعطف ينزل الغيث على المسند يدل على حصر تنزيل الغيث، وتنزيل الغيث مستلزم للعلم به، والعدول عن علم تنزيل الغيث للاشارة الى حصر تنزيل الغيث مع الاشارة الى العلم به وقوله { إن الله عليم خبير } مع قوله: ما تدرى نفس يدل على حصر العلم بموت الانفس ومحل موتها فيه تعالى.
[32 - سورة السجدة]
[32.1-2]
قد مضى فى اول البقرة وفى غيرها ما به الغنية عن بيان الآية ههنا.
[32.3]
{ أم يقولون افتراه بل هو } اى الكتاب او تنزيل الكتاب { الحق من ربك لتنذر قوما مآ أتاهم من نذير من قبلك } لكونهم فى زمان الفترة وخمود آثار الرسالة وخمود اوصياء الرسل (ع) فيه { لعلهم يهتدون } الى الولاية التى هى طريق الآخرة.
[32.4-5]
{ الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش } قد مضى الآية فى سورة الاعراف { ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع } الشفيع بمنزلة النصير وقد تكرر بيانه فى ما مضى { أفلا تتذكرون يدبر الأمر من السمآء إلى الأرض } اى ينزل الامر مع ملاحظة حسن دبره وعاقبته من سماء الارواح الى اراضى الاشباح على استمرار { ثم يعرج } الامر من الارض { إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون }.
اعلم، ان ايام الآخرة ليست فى عرض ايام الزمان بل هى فى طولها بمعنى ان ايام الدنيا قوالب لايام الآخرة وهى بمنزلة الارواح لايام الدنيا، وكل مرتبة من مراتب الآخرة سعتها واحاطتها بالنسبة الى مراتب الدنيا مضاعفة، فكل يوم من ايام الآخرة بالنسبة الى يوم من ايام الدنيا يضاعف سعته بعشر ومائة والف وعشرة آلاف الى خمسين الفا هذا بالنسبة الى ايام الدهر، واما ايام السرمد فلا تحد بشيء لعدم نهايتها وتحددها، وقد مضى شطر من تحقيق هذا المطلب فى اول بنى اسرائيل، والمراد بالامر الذى يدبره من السماء الى الارض ثم يعرج من الارض الى السماء هو الوجود الفعلى الذى هو المشية التى هى امره تعالى وفعله وكلمته واضافته الى غير ذلك من الاسماء فانه يتنزل من سماء المشية الى سماء الارواح ثم الى سماء النفوس الكلية، ثم الى سماء النفوس الجزئية، ثم الى اراضى الاشباح النورية، ثم الى اراضى الاشباح الظلمانية، ثم يبتدء فى العروج من عالم الطبع، او من عالم الجنة الى اراضى الاشباح النورية، ثم الى النفوس الجزئية، ثم الى النفوس الكلية، ثم الى الارواح، ثم الى المشية.
[32.6]
{ ذلك } العظيم البعيد عن الانظار والاوهام والعقول { عالم الغيب } اى عالم عالم الغيب { والشهادة } اى عالم الشهادة { العزيز } اى الغالب الذى لا يمنعه عن مراده مانع { الرحيم } الذى لا يدع عباده بلا دعوة ولا داع وان اصروا على مخالفته وعصيانه.
[32.7]
{ الذي أحسن كل شيء } برحمته وعلمه وعنايته بحسب صورة ذلك الشيء وسيرته وجعله مستعدا لطلب كمالاته فلا يدعهم بلا داع حتى لا يقبح نشأتهم الاخروية { خلقه } بدل من كل شيء على قراءة سكون اللام وصفة لشيء، او بدل من احسن او مستأنف جواب لسؤال مقدر على قراءة فتح اللام، وقيل: المعنى احسن معرفة كل شيء مثل قوله: قيمة المرء ما يحسنه اى يحسن معرفته { وبدأ خلق الإنسان } اى آدم او مطلق الانسان { من طين } لان الماء والتراب اظهر اجزاء عنصره واغلبها.
[32.8]
{ ثم جعل نسله } النسل الخلق والولد { من سلالة } السلاله ما انسل من الشيء والمراد ما انسل من الغذاء فى الهضم الرابع { من مآء مهين } من بيانية.
[32.9-10]
{ ثم سواه ونفخ فيه من روحه } اضاف الروح الى نفسه تشريفا والمراد بالروح هو رب النوع لكنه لما كان اثر ظهور هذا الروح الحيوانى والنفسانى وهما شبيهان بالريح ومتحركان كالريح استعمل النفخ فيه وقد مضى فى سورة بنى اسرائيل بيان للروح { و } بعد نفخ الروح فى الشهر الرابع فيكم { جعل لكم السمع } لصيرورة الانسان بعد الاتصاف بالسمع والبصر والفؤاد قابلا للتخاطب التفت من الغيبة الى الخطاب { والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون وقالوا أإذا ضللنا } لتبعيد القائلين هذا القول عن ساحة الحضور التفت من الخطاب الى الغيبة { في الأرض } بتفتت اجزائنا واعضائنا واختلاطها بتراب الارض { أإنا لفي خلق جديد } لتأكيد التعجب والتعجيب والانكار كرر الاستفهام { بل هم بلقآء ربهم كافرون } لما كان قوله تعالى قالوا ائذا اضللنا فى مقام ذمهم وان هذا القول منهم ليس عن علم بل محض تخمين وخيال كان فى معنى ان ليس قولهم عن علم وتحقيق بل هم بلقاء ربهم اى حسابه فى الآخرة كما ورد فى الخبر او لقاء ربهم المضاف اللقاء الفطرى الذى كان ربهم فى الولاية ملاقيا به فطرة لهم كافرون ولذلك تمسكوا بالخيال واهويتهم واعرضوا عن العلم وآثاره.
[32.11]
{ قل } لهم جوابا لتعجبهم من بعثهم بعد الضلال فى الارض لا تصيرون ضالين فى الارض بل { يتوفاكم } يعنى يأخذ جميعكم وجميع اجزاء وجودكم بحيث لا يبقى منكم أحد ولا جزء فى الارض ولا يضل منكم شيء فى الارض حتى تقولوا كيف نبعث بعد الضلال وانما الضال فى الارض هو مادتكم التى ليست منكم { ملك الموت الذي وكل بكم } اى بقبض ارواحكم وجميع اجزائكم واحصاء امدكم وآجالكم { ثم إلى ربكم ترجعون } يعنى بعد قبض ملك الموت جميع اجزائكم ترجعون الى ربكم المضاف الذى هو ربكم فى الولاية.
[32.12]
{ ولو ترى } لو للتمنى او للشرط، واذا كانت للشرط كان الجزاء محذوفا اى لرأيت امرا عجيبا والجملة حالية بتقدير القول على الاول والخطاب عام او خاص بمحمد (ص) { إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم } المضاف يقولون { ربنآ أبصرنا } بعد رجوعنا اليك او فى الدنيا لكن لم نعمل قالوا ذلك اعترافا بتقصيرهم { وسمعنا } منك وقبلنا او سمعنا فى الدنيا من انبيائك (ع) لكن لم نعمل { فارجعنا } الى الدنيا { نعمل صالحا } بعدما رأينا عظمتك وشاهدنا عقوبتك { إنا موقنون } من غير شك وريب.
[32.13]
{ ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها } اهتدائها ورشدها او اسباب هديها من غير ملاحظة استعداد واستحقاق لكن لم نشأ لئلا يكون مشيتنا جزافا غير مسبوقة بملاحظة استعداد { ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } لئلا يقع ارادتى جزافا ويكون عذاب المعذبين وثواب المطيعين من جهة استعدادهم.
[32.14-15]
{ فذوقوا بما نسيتم لقآء يومكم هذآ إنا نسيناكم } اى تركناكم { وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون إنما يؤمن بآياتنا } مستأنف جواب لسؤال مقدر كأنه قال: اليس هؤلاء مؤمنين بالآيات مع وضوحها وظهورها حتى يكونوا منسيين؟- فقال: ليس هؤلاء مؤمنين بآياتنا انما يؤمن بآياتنا { الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا }.
سجدة واجبة
اعلم، ان المذعن بالآيات من حيث انها آيات عظمة الله وقدرته وسعته اذا ذكر بها لم ينظر منها الى حدودها وتعيناتها بل ينظر اليها من حيث انها آيات عظمة الله فيتذكر بها عظمة الله فلا يتمالك من تذكر عظمة الله ووجدانها فيخر ساجدا لعظمة الله، كما عن مولانا جعفر الصادق (ع) انه صاح فى الصلوة وخر مغيشيا عليه فسئل عن ذلك فقال: كررت الآية حتى سمعتها من قائلها فلم يثبت جسمى لمعاينة قدرته { وسبحوا } اى نزهوا لطيفتهم الانسانية التى هى وجه الرب واسمه ومظهره ونفسه بوجه { بحمد ربهم } اى بسبب حمد ربهم يعنى بسبب سعة وجوده بحيث لا يشذ عنه وجود وتعين وجود فان التسبيح ليس الا تنزيه الرب من النقائص والحدود، وتنزيهه من النقائص والحدود ليس الا بسعة وجوده بحيث لا يخرج منه وجود وليس ذلك الا حمده وسعة كمالاته { وهم لا يستكبرون } عن الله او عن تسبيحه، او عن الخرور والسجود، او عن الايمان والطاعة، او لا يستكبرون فى انفسهم.
[32.16]
{ تتجافى جنوبهم عن المضاجع } من جفا السرج عن فرسه رفعه { يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون } قد مضى صدر الآية فى سورة الاعراف وذيلها فى اول البقرة، عن الباقر (ع) فى هذه الآية انه قال: لعلك ترى ان القوم لم يكونوا ينامون، لا بد لهذا البدن ان تريحه حتى يخرج نفسه فاذا خرج النفس استراح البدن ورجع للروح قوة على العمل، قال نزلت فى امير المؤمنين (ع) واتباعه من شيعتنا ينامون فى اول الليل فاذا ذهب ثلثا الليل او ما شاء الله فزعوا الى ربهم راغبين مرهبين طامعين فيما عنده فذكر الله فى كتابه فأخبركم بما اعطاهم انه اسكنهم فى جواره وادخلهم جنته وآمنهم خوفهم واذهب رعبهم، وفى خبر عن الصادق (ع) فى هذه الآية انه قال: لا ينامون حتى يصلوا العتمة.
[32.17]
وقد ذكر فى اخبار كثيرة بيان ما اخفى لهم من قرة اعين من اراد فليرجع الى المفصلات.
[32.18-20]
{ أفمن كان مؤمنا } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل على سبيل التعجب: الهم ذلك؟- فقال: ليس لهم ذلك فمن كان مؤمنا { كمن كان فاسقا لا يستوون أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات } بيان لعدم استوائهم { فلهم جنات المأوى نزلا } اى معدة او منزلا { بما كانوا يعملون وأما الذين فسقوا فمأواهم النار } عدل عن قوله لهم الجحيم نزلا اشعارا بان الفاسق لا اعتناء به حتى يكون العذاب نزلا له بل العذاب من تبعة اعماله التى تلحقه { كلمآ أرادوا أن يخرجوا منهآ أعيدوا فيها } اعلم، ان اهل الجحيم مثل اهل الدنيا يريدون الخروج من الجحيم من غم يستولى عليهم لكن لما كان ارادة خروجهم من الغم ولم يكن لهم قائد شوق للخروج لا يخرجون بل يعادون فيها ولو كان ارادة خروجهم من الشوق لخرجوا فى اسرع زمان { وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون } قيل: ان جهنم اذا دخلوها هووا فيها مسيرة سبعين عاما فاذا بلغوا اسفلها زفرت بهم جهنم فاذا بلغوا اعلاها قمعوا بمقامع الحديدة فهذه حالهم.
[32.21]
{ ولنذيقنهم من العذاب الأدنى } الادنى من الدنى بمعنى الساقط الضعيف او من الدنو بمعنى القرب وعلى اى تقدير فالمراد بالعذاب الادنى عذاب الدنيا، او عذاب القبر، او عذاب البرزخ لكن اداة الترجى بعده يناسب عذاب الدنيا { دون العذاب الأكبر } عذاب الاحتضار او عذاب القبر او عذاب البرزخ او عذاب القيامة { لعلهم يرجعون } عن غيهم او يرجعون فى الرجعة للعذاب الاكبر، وفسر العذاب الادنى بالعذاب حين خروج الدابة والدجال، وقد كثر الاخبار فى ان الآيات نزلت فى على (ع) والوليد بن عقبة فان الفاسق الوليد بن عقبة قال لعلى (ع): انا والله ابسط منك لسانا، واحد منك سنانا، وامثل جثوا منك فى الكتيبة، فقال على (ع): اسكت انما انت فاسق فأنزل الله هذه الآيات.
[32.22]
{ ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه } قد مر مرارا ان المراد من امثال هذه العبارة اثبات اظلمية المفضل عليه وان كان مفهوم العبارة اعم منه { ثم أعرض عنهآ } مع وضوح الآيات واقتضاء التذكير بها الاقبال عليها { إنا من المجرمين منتقمون } يعنى انا من مطلق المجرم منتقمون والمعرض عن الآيات بعد التذكر بها كان اعظم جرما من كل مجرم.
[32.23]
{ ولقد آتينا } عطف على مقدر اى آتيناك الكتاب ولقد آتينا { موسى الكتاب } كما آتيناك فليس ايتاء الكتاب امرا غريبا حتى تكون او يكونوا فى مرية منه { فلا تكن في مرية من لقآئه } اى من لقاء الكتاب اليك يعنى من نزوله عليك، او من لقاء الكتاب الى موسى (ع)، او من لقائك لموسى (ع) فى الدنيا قبل موتك، او من لقائك لموسى (ع) ليلة الاسراء، او فى الآخرة، او من لقاء موسى لك كذلك، وقيل: فلا تكن فى شك من لقاء الاذى كما لقى موسى (ع) الاذى من قوله { وجعلناه هدى لبني إسرائيل } كما جعلنا كتابك هدى للعالمين.
[32.24]
{ وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا } لا بامر انفسهم { لما صبروا } فاصبر انت وبنوك حتى نجعل منكم ائمة { وكانوا بآياتنا يوقنون } فلا تشك انت وبنوك.
[32.25]
{ إن ربك هو يفصل بينهم } بين بنى اسرائيل كما يفصل بين قومك فلا تحزن على اختلافهم او بين الخلق المختلفين فيفصل بين قومك او بين قومك { يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } من امر الوصاية والوصى، او من احكام الشريعة، او من الكتاب وستر بعض منه وتبديل بعض، او من تصديق الرسل (ع) وتكذيبهم.
[32.26]
{ أولم يهد لهم } لقومك او لقوم موسى (ع) والجملة معطوفة على مقدر اى الم يتفكروا، وفاعل يهد ضمير كتابك او كتاب موسى (ع) او الله او مبهم يفسره قوله { كم أهلكنا من قبلهم من القرون } يسمعون اخبارهم وان لم يكونوا يرون اهلاكهم ولكن يرون آثارهم لانهم { يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون } لما كان الاطلاع على اهلاك الماضين بسماع اخبارهم استعمل السماع ههنا.
[32.27]
{ أولم يروا أنا نسوق المآء إلى الأرض الجرز } ارض جرز بالضمتين وجرز بالضم والسكون وجرز بالفتح والسكون، وجرز بالتحريك ومجروزة لا تنبت او اكل نباتها او لم يصبها مطر { فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون } لما كان الاطلاع على سوق ماء المطر وماء السيل وماء الانهار الى الاراضى بالرؤية وهكذا اخراج الزرع واكل الانعام والانفس من نباتها استعمل الابصار واسقط ههنا قوله ان فى ذلك لايات اكتفاء بما ذكر فى قرينه.
[32.28]
{ ويقولون متى هذا الفتح } المراد بالفتح المسؤل او المستهزء به هو ظهور القائم عجل الله فرجه واستنارة الارض بنور ربها وارتفاع الاختلاف عن اهلها، وليس فى العالم الصغير الا حين الموت الاختيارى او الاضطرارى فانهم لما اخبرهم رسول الله (ص) بظهور القائم (ع) وظهور الدين وجعل الاديان كلها دينا واحدا سألوا على سبيل الاستفهام او التهكم والاستهزاء عنه والجملة عطف على لم يهد او لم يروا يعنى ان آيات هذا الفتح كثيرة من اهلاك القرون الماضية واحياء الارض بعد موتها ولا يتفكرون فيها ويقولون: متى هذا الفتح؟! { إن كنتم صادقين } فى هذا الاخبار.
[32.29-30]
{ قل } فى جوابهم لا تستعجلوا هذا الفتح فان { يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم } فانه يوم بروز المكسوبات لا يوم كسب الخيرات { ولا هم ينظرون فأعرض عنهم } اى عن الجواب والسؤال معهم، او عن دعوتهم، او عن ذواتهم فانهم لا يتأثرون بمجاورتك { وانتظر } يوم الفتح { إنهم منتظرون } لذلك اليوم.
[33 - سورة الأحزاب]
[33.1]
{ يا أيها النبي } نداء له (ص) باياك اعنى واسمعى يا جارة، او نداء له والحكم له (ص) وعلى اى تقدير فهو تلطف به وتعظيم لشأنه { اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين } قيل: نزلت فى ابى سفيان وعكرمة بن ابى - جهل وابى الاعور السلمى قدموا المدينة ونزلوا على عبدالله بن ابى بعد غزوة احد بامان من رسول الله (ص) ليكلموه فقاموا وقام معهم عبدالله بن ابى وعبدالله بن سعد بن ابى سرح وطعمة بن ابى رق فدخلوا على رسول الله فقالوا: يا محمد (ص) ارفض ذكر آلهتنا اللات والعزى والمناة وقل: ان لها شفاعة لمن عبدها وندعك وربك فشق ذلك على النبى (ص) فقال عمر بن الخطاب: ائذن لنا يا رسول الله (ص) فى قتلهم فقال:
" انى اعطيتهم الامان "
وامر رسول فأخرجوا من المدينة ونزلت الآية ولا تطع الكافرين من اهل مكة والمنافقين من اهل مدينة { إن الله كان عليما } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: لا ينبغى النهى عن اجابتهم فان فى اجابتهم مصالح عديدة من استمالتهم وخمود نائرة الحرب وسلامة المسلمين وقوتهم وشوكتهم بذلك ومخالطة المشركين معهم واستماع آيات الله منهم وغير ذلك فقال ان الله كان عليما بالمصالح المترتبة على ما ينهى عنه دونكم { حكيما } دقيقا لطيفا فى علمه وصنعه.
[33.2]
{ واتبع ما يوحى إليك } دون ما يقولون لك { من ربك إن الله كان بما تعملون } يا امة محمد او يا محمد (ص) وامته { خبيرا } وقرئ بالغيبة.
[33.3]
{ وتوكل على الله } لا على ما يقولون { وكفى بالله وكيلا } لامورك فلا تكل امورك على مشورة غيرك.
[33.4]
{ ما جعل الله } جواب لسؤال مقدر ناش عن الحصر المستفاد من قوله: لا تطع الكافرين واتبع ما يوحى اليك كأنه قيل: لا منافاة بين اتباع الموحى وبين المداراة مع الكافرين واتباع ما يشيرون اليه فقال: ما جعل { لرجل من قلبين في جوفه } يحب ويتبع الله بهذا ويحب ويتبع بذاك الكافر، وقيل: نزلت فى ابى معمر حميد بن معمر بن حبيب الفهرى وكان لبيبا حافظا لما يسمع وكان يقول: ان فى جوفى لقلبين اعقل بكل واحد منهما افضل من عقل محمد (ص) ثم انهزم يوم بدر مع من انهزم واحدى نعليه فى يده والاخرى فى رجله، فقيل له فى ذلك فقال: ماشعرت الا انهما فى رجلى فعرفوا يومئذ انه لم يكن له الا قلب واحد وعن على (ع) انه: لا يجتمع حبنا وحب عدونا فى جوف انسان ان الله لم يجعل لرجل قلبين فى جوفه، فيحب بهذا ويبغض بهذا، وعن الصادق (ع) فمن كان قلبه متعلقا فى صلوته بشيء دون الله فهو قريب من ذلك الشيء بعيد عن حقيقة ما اراد الله منه فى صلوته، ثم تلا هذه الآية { وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم } زعمت العرب ان من قال لزوجته: انت على كظهر امى صارت زوجته كأمه فى حرمة المواقعة فقال تعالى ردا عليهم: ما جعل ازواجكم (الآية) { وما جعل أدعيآءكم أبنآءكم } الدعى كالغنى من تبنيته فعيل بمعنى المفعول ومن كان متهما فى نسبه، نزلت فى زيد بن حارثة الكلبى عتيق رسول الله (ص) وسبب ذلك على ما نقل عن القمى عن الصادق (ع) ان رسول الله (ص) اشترى زيدا بعد تزويجه خديجة (ع) فلما نبئ (ص) دعا زيدا الى الاسلام فأسلم وكان يدعى مولى محمد (ص) فاتى حارثة ابا طالب (ع) وقال له: قل لابن اخيك: اما ان يبيعه، واما ان يفاديه، واما ان يعتقه، فلما قال ذلك ابو طالب (ع) لرسول ا لله (ص) قال: هو حر لوجه الله فليذهب حيث شاء، فقام حارثة واخذ بيد زيد وقال: يا بنى الحق بشرفك وحسبك فقال: لست افارق رسول الله (ص) ابدا فغضب ابوه وقال: يا معشر - قريش اشهدوا انى بريء منه وليس هو ابنى فقال رسول الله (ص): اشهدوا ان زيدا ابنى ارثه ويرثنى وكان يدعى زيد بن محمد (ص) فلما هاجر رسول الله (ص) زوجه زينب بنت جحش وأبطأ عنه يوما فأتى رسول الله (ص) منزله فاذا زينب جالسة وسط حجرتها تسحق طيبا بفهر لها، فنظر اليها رسول الله (ص) وكانت جميلة فوقعت فى قلب رسول الله (ص) فقال: سبحان خالق النور وتبارك الله احسن الخالقين، ثم رجع وجاء زيد الى منزله فأخبرته زينب بما وقع فقال زيد: هل لك ان اطلقك حتى يتزوجك رسول الله؟.
فقالت: اخشى ان تطلقنى ولم يتزوجنى رسول الله (ص) فجاء زيد الى رسول الله فقال: هل لك ان اطلق زينب حتى تتزوجها؟- فقال: لا، اذهب واتق الله وامسك عليك زوجك ثم حكى الله عز وجل فقال: امسك عليك زوجك واتق ا لله وتخفى فى نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله احق ان تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها (الى قوله) وكان امر الله مفعولا فزوجه الله تعالى من فوق عرشه فقال المنافقون: يحرم علينا نساء ابنائنا ويتزوج امرأة ابنه زيد، فأنزل الله عز وجل فى هذا: وما جعل ادعياءكم ابناءكم (الى قوله) يهدى السبيل وسيأتى فى هذه السورة اخبار اخر فى كيفية تزويج رسول الله (ص) زينب لزيد ولنفسه { ذلكم قولكم بأفواهكم } من غير اعتقاد لكم به ومن غير حقيقة له فى الواقع فلا تأثير لهذا القول فى ترتب الاحكام الشرعية { والله يقول الحق } الثابت الذى له حقيقة فى نفس الامر و ينبغى ان يعتقد { وهو } لا غيره { يهدي السبيل } الى الحق.
[33.5]
{ ادعوهم لآبآئهم } بان تقولوا زيد بن حارثة دون غير آبائهم وان كان الغير يدعونهم ابناءهم { هو أقسط عند الله } اعدل من غير شوب ظلم وتجاوز عن الحق { فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين } فادعوهم اخوانا { ومواليكم } فادعوهم احبابا { وليس عليكم جناح فيمآ أخطأتم به } بدعائهم الى غير آبائهم قبل النهى او بعد النهى بالنسيان عن النهى او بسبق اللسان { ولكن ما تعمدت قلوبكم } اى فيما تعمدت قلوبكم او ما تعمدت قلوبكم مبتدء خبره محذوف { وكان الله غفورا رحيما } يغفر للمخطئ وللمتعمد بعد التوبة ويرحمه تفضلا منه عليه.
[33.6]
{ النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } مستأنف جواب لسؤال ناش من نفى بنوة زيد لمحمد (ص) وان نسبة البنوة لمحمد (ص) قول بافواههم من غير حقيقة له كأنه قيل: اذا لم يكن لنسبة بنوة زيد الى محمد (ص) حقيقة فما النسبة بينه وبين امته حتى يقال: انه ابو امته؟- فقال تعالى جوابا لهذا السؤال: ان المنفى هو الابوة الجسمانية والاحكام الشرعية القالبية من حرمة نكاح حليلة الابن انما هى للابوة والبنوة الجسمانيتين واما الابوة الروحانية التى تحصل بحصول صورة من الاب فى وجود الابن بواسطة البيعة العامة او الخاصة وبتلك الصورة يحصل نسبة الابوة والبنوة فانما هى ثابتة له (ص) بالنسبة الى كل الامة، ولما كانت تلك الكيفية الحاصلة بالبيعة صورة نازلة منه (ص) وهى تصير الفعلية الاخيرة للابن وشيئية الشيء تكون بالفعلية الاخيرة وتلك الفعلية تكون اولى باسم ذلك الشيء من سائر فعلياته السابقة لاستهلاكها تحت تلك الفعلية وتكون تلك الفعلية صورة نازلة من محمد (ص) كان محمد (ص) اولى بمن باع معه احدى البيعتين من سائر فعلياته التى تنسب اليه وتكون نفسه عبارة عنها فالنبى يكون اولى بالمؤمنين من انفسهم فى جميع ما ينسب اليهم من الاعمال والاقوال والاحوال والاخلاق والاحكام والآلام، ولا تظنن انه (ص) حينئذ يكون اولى بهم فى معاصيهم لان المعاصى ناشئة عن الحدود والنقائص، والحدود والنقائص انما هى ناشئة من الفعليات السابقة وراجعة الى الاعدام لا الى الفعليات فأنفسهم تكون اولى بها من الفعلية الاخيرة وقد سبق فى سورة البقرة عند قوله تعالى:
وبالوالدين إحسانا
[البقرة:83] تحقيق وتفصيل تام للولادة الروحانية، ومن هذا يعلم ان خلفاء محمد (ص) الذين كانوا مأمورين بأخذ البيعة العامة او الخاصة عن الخلق كانوا اولى بمن بايعوا معهم من انفسهم مثل محمد (ص) وكانوا آباء لمن آمنوا بهم من غير فرق ولذلك ورد: ان الائمة كانوا بعد محمد (ص) اولى بالمؤمنين مثل محمد (ص) من انفسهم { وأزواجه أمهاتهم } قرأ الصادق (ع) ههنا: وهو اب لهم.
بيان فى الابوة الروحانية والقالبية
اعلم، انه (ص) لما صار بحسب مقام بشريته محكوما بحكم روحه بحيث لم يكن له بحسب مقام قالبه الا آثار روحه وكان نسبته الى امته نسبة الابوة كان جاريا على قالبه حكم الابوة الروحانية فكان ازواجه بالنسبة الى امته مثل ازواج الآباء بالنسبة الى الاولاد ولذلك كن محرمات على امته وان كانت امته بالنسبة اليه بحسب مقام بشريتهم غير محكومين بحكم الفعلية الاخيرة التى كانوا بحسبها ابناء له فلا يجرى على قوالبهم حكم ارواحهم ولم يكن ازواجهم بالنسبة اليه مثل ازواج الابناء بالنسبة الى الآباء، مع انه (ص) بحسب قالبه حكمه بالنسبة اليهم حكم الآباء بالنسبة الى الاولاد ولذلك قال تعالى شأنه:
ما كان محمد أبآ أحد من رجالكم
[الأحزاب: 40] يعنى انه اب لجهاتهم الروحانية ورجالكم الذين هم محكومون بحكم القوالب غير منسوبين اليه بالبنوة فليس هو ابا لرجالكم القالبية وان كان ابا لامته من حيث انهم رجال روحانيون آلهيون ولذلك قال تعالى: النبى اولى بالمؤمنين يعنى من حيث ايمانهم وازواجه امهاتهم يعنى امهات المؤمنين من حيث ايمانهم، لا يقال: ان كان الرسول (ص) بحسب قالبه محكوما بحكم زوجه فينبغى ان لا يجوز له نكاح نساء امته ولا نكاح ازواج امته لانا نقول: هو (ص) محكوم بحسب قالبه بحكم روحه لكن امته ليسوا محكومين بحكم ارواحهم فلم تكن امته اولادا له بحسب قوالبهم وشرف امومة المؤمنين وشرف مضاجعة الرسول (ص) مانع من ان لا تكون ازواجه امهات للامة ومحرمات عليهم بحسب قوالبهم، ولكن ليس هذا الحكم اى جريان حكم النسبة الروحانية على القوالب الجسمانية جاريا بين المؤمنين والمهاجرين يكون بعض منهم اولى ببعض من قراباتهم الجسمانية فى الوصاية اوفى الامارة او فى الارث او غير ذلك بل { وأولو الأرحام } الجسمانية { بعضهم أولى ببعض } فى ذلك من الاقرباء الروحانية { في كتاب الله } اى القرآن او مطلق كتبه المنزلة من السماء او فى كتابه العلوى من اللوح المحفوظ ولوح المحو والاثبات او فى مفروض الله او فى احكام الرسالة، وقد مضت الآية فى آخر سورة الانفال وقد ذكر ههنا موافقا لما ورد فى الاخبار انها نزلت لنسخ التوارث بالهجرة والنصرة لكن لا اختصاص لها بالتوارث ولا بالامامة ولا بسائر الحقوق بل تجرى فى كل حق واحسان وانفاق، وما ورد ههنا انها نزلت فى الامرة وانها جرت فى ولد الحسين (ع) من بعده بيان لاهم مواردها { من المؤمنين والمهاجرين } ذكر المهاجرين بعد المؤمنين من قبيل ذكر الخاص بعد العام للاهتمام بالخاص ولفظة من بيان لاولى الارحام او هى التفضيلية { إلا أن تفعلوا إلى أوليآئكم معروفا } استثناء متصل مفرغ يعنى ان اولى الارحام بعضهم اولى ببعض فى كل الامور الا فى فعلتكم الى اوليائكم فى الدين معروفا فانهم حينئذ يصيرون اولى بتلك الفعلة من اولى الارحام او فى كل حال الا فى حال ان تفعلوا، او استثناء منقطع يعنى لكن فعلتكم الى اوليائكم معروفا تكون حسنا والمراد بالفعلة المعروفة الوصية وجعل الاولياء اوصياء، او الوصية بشيء للاولياء { كان ذلك في الكتاب مسطورا } اى فى الكتاب العلوى من اللوحين او فى الكتاب التدوينى الآلهى النازل اليكم من القرآن والكتب السالفة.
[33.7]
{ وإذ أخذنا } عطف على فى كتاب الله او على فى الكتاب، او على مقدر والتقدير: النبى اولى بالمؤمنين فى ذلك الزمان وفى وقت اخذنا ميثاق النبيين، او التقدير اولوا الارحام بعضهم اولى ببعض فى هذا الزمان ووقت اخذ الميثاق من النبيين، او معطوف على مقدر تقديره: تذكر ذلك واذكر اذ اخذنا { من النبيين ميثاقهم } فى هذا العالم بأخذ الانبياء واوصيايهم (ع) بالبيعة منهم الميثاق او فى عالم الذر بأخذنا بانفسنا ميثاقهم { ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم } ذكر هؤلاء الخمسة بعد ذكر الانبياء عموما للاهتمام بشأنهم لكونهم اولى العزم من الانبياء (ع) { وأخذنا } جملة حالية بتقدير قد، او عطف على اخذنا، او مستأنف على مجيء الواو للاستيناف { منهم ميثاقا غليظا } ضمير منهم راجع الى النبيين (ع) او الى المخصوصين المذكورين بعد النبيين.
[33.8]
{ ليسأل } الله او السائل { الصادقين عن صدقهم } اى عن كيفيته ومقداره حتى يجازيهم بحسبهما { وأعد للكافرين عذابا أليما } عطف او حال ولم يقل ويسأل الكافرين او يعذب الكافرين للاشعار بان سؤال الكافرين وعذابهم ليس من الغايات الذاتية.
[33.9]
{ يأيها الذين آمنوا } ناداهم اولا تنشيطا لهم حتى يكونوا على تيقظ لاستماع ما يأتى { اذكروا نعمة الله عليكم إذ جآءتكم جنود } يعنى الاحزاب فان ابا سفيان جمع الاحزاب من الاعراب قريش والقبائل التى كانت حول مكة وبنى غطفان من النجد وبنى قريظة وبنى النضير من حول المدينة { فأرسلنا عليهم ريحا } شديدة الهبوب بحيث لا تبقى خيمة ولا نارا لهم، وشديدة البرد بحيث لا يتمالكون من بردها { وجنودا } من الملائكة { لم تروها } لعدم امكان رؤية الملائكة للناظر البشرى { وكان الله بما تعملون بصيرا } من حفر الخندق والخروج من المدينة وتجبين بعض لبعض وارادة بعض للفرار وقولهم ان بيوتنا عورة وما هى بعورة، وقرئ لما يعملون اى ما يعمله قريش من التخريب عليكم.
[33.10]
{ إذ جآءوكم من فوقكم } من اعلى المدينة وهو جانب المشرق والشمال { ومن أسفل منكم } وهو جانب المغرب والجنوب فان بنى غطفان جاؤا من فوقهم وقريش من اسفلهم { وإذ زاغت الأبصار } مالت وتحيرت من شدة الخوف والدهشة لكثرة الاعداء { وبلغت القلوب الحناجر } كناية عن اضطراب القلوب فان القلوب عند غلبة الخوف تضطرب وتتحرك من اسفل الى اعلى، واذا اريد المبالغة فى اضطرابها يقال بلغت فى تحركها من اسفل مقامها الى الحناجر { وتظنون بالله الظنونا } الانواع من الظن او المظنونات العديدة المتخالفة، وقرئ الظنون بحذف الالف فى الوصل، وقرئ بحذف الالف فى الوصل والوقف، والمراد بالظنون ظن كذب محمد (ص)، وظن تكذيب الله لمحمد (ص) وظن الاستيصال ، وظن الغارة على المدينة، وظن صدق محمد (ص) والاطمينان بالله والنصرة من الله والغلبة على الاعداء وهزيمتهم.
[33.11]
{ هنالك ابتلي المؤمنون } بكثرة الجنود من الاعداء مع قلتهم وبالظنون المتخالفة وارادة الفرار { وزلزلوا زلزالا شديدا } وكان المنظور من ذلك الابتلاء وهذا الزلزال خلوص ايمان المؤمن وظهور نفاق المنافق.
[33.12]
{ وإذ يقول } عطف على اذ جاءتكم { المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله } من الظفر واعلاء الدين والسلطنة على اهل الارض { إلا غرورا } وعدا مموها باطلا يغرنا به.
[33.13]
{ وإذ قالت طآئفة منهم يأهل يثرب لا مقام لكم } ليس ههنا مقام قيام لكم { فارجعوا } الى منازلكم { ويستأذن فريق منهم النبي } للرجوع { يقولون إن بيوتنا عورة } العورة الخلل فى الثغر وغيره والمعنى ان بيوتنا ذوات عورة { وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا } من الزحف.
[33.14]
{ ولو دخلت عليهم } يعنى لو دخل الاعداء بيوتهم او المدينة غالبا عليهم { من أقطارها } من جوانب البيوت او المدينة { ثم سئلوا الفتنة } اى الكفر او المقاتلة مع المسلمين { لآتوها وما تلبثوا بهآ } مع الفتنة او فى المدينة او البيوت او ما تلبثوا فى اعطاء الفتنة او بسبب اعطاء الفتنة لعدم وثوقهم بدينهم { إلا يسيرا } اى الا تلبثا يسيرا او زمانا يسيرا.
[33.15]
{ ولقد كانوا عاهدوا الله } على يد محمد (ص) { من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسئولا } عن الوفاء به والنقض له.
[33.16-18]
{ قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل } فانه لا بد من الموت او القتل لكل احد ولا ينجو احد من احدهما { وإذا } يعنى اذا فررتم { لا تمتعون إلا قليلا قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا قد يعلم الله المعوقين منكم } المثبطين عن الغزو وعن الموافقة مع الرسول (ص) ولفظة قد للتحقيق { والقآئلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا } منهم او اتيانا او زمانا او بأسا قليلا والمراد بالبأس الحرب.
[33.19-20]
{ أشحة عليكم } الشح بالتثليث البخل والحرص، وجاء من باب علم ونصر وضرب والمعنى بخلاء على خيركم او بخلاء ثابتين على ضرركم او حريصون على ضرركم { فإذا جآء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم } فى رؤسهم من شدة الخوف { كالذي يغشى عليه من } نزول { الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد } سلقه بالكلام آذاه، شبه الالسنة بالاسنة واثبت لها الحدة استعارة بالكناية وترشيحا للاستعارة يعنى انهم جمعوا بين البخل والجبن وشده الاذى حين الأمن { أشحة على الخير } حال من الالسنة او من فاعل سلقوكم او منصوب على الذم { أولئك لم يؤمنوا } اخلاصا { فأحبط الله أعمالهم } التى عملوها فى ظاهر الاسلام { وكان ذلك } الحبط { على الله يسيرا يحسبون الأحزاب لم يذهبوا } بعدما ارسل الله عليهم الريح والملائكة وبعد هزيمتهم لشدة خوفهم ودهشتهم { وإن يأت الأحزاب } كرة ثانية { يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون } كل قادم عليهم من المدينة { عن أنبآئكم ولو كانوا فيكم } فى الكرة الثانية او لو بقوا فيكم ولم يرجعوا الى المدينة فى الحال الحاضر { ما قاتلوا إلا قليلا } وقد ذكر قصة الاحزاب وجماعاتهم من الاعراب ومجيئهم الى المدينة وقتل عمرو بن عبد ود وهزيمتهم وجبن المنافقين من اصحاب رسول الله (ص) وتجبينهم لغيرهم فى المفصلات؛ من اراد فليرجع اليها.
[33.21]
{ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } اى خصلة حسنة ينبغى ان يتأسى بها او هو من باب التجريد مثل رأيت بزيد اسدا { لمن كان يرجو الله } بدل من قوله تعالى لكم بدل البعض من الكل، او اللام للتبيين بتقدير مبتدء محذوف { واليوم الآخر وذكر الله كثيرا } يعنى تلك الاسوة لا تكون الا لمن جمع بين جراء الله وذكره كثيرا وهذه الجملة معترضة بين حكاية حال المسلمين والاحزاب جاء الله بها تلطفا بالمسلمين وتعريضا بالمنافقين وتذكيرا للخالصين.
[33.22-23]
{ ولما رأى المؤمنون } الخالصون { الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله } بخلاف غير الخالصين فانهم قالوا ما وعدنا الله ورسوله الا غرورا { وما زادهم إلا إيمانا وتسليما من المؤمنين رجال } جواب سؤال مقدر كأنه قيل: ما حال الخالصين؟ ايكونون متساوين؟- فقال: من المؤمنين رجال { صدقوا ما عاهدوا الله عليه } عند البيعة مع محمد (ص) بالاجابة له فى شروطه والمعنى قالوا ما عاهدوه صدقا لا كذبا كالمنافقين او صدقوا فيما عاهدوه { فمنهم من قضى نحبه } للنحب معان كثيرة منها الخطر العظيم والحاجة والوقت والنوم والشدة والمدة والموت والاجل والنذر، والكل مناسب ههنا فان المراد قضاء عمره { ومنهم من ينتظر } النحب { وما بدلوا } ما عاهدوا الله عليه { تبديلا } شيئا من التبديل، فيه تعريض باهل النفاق وقد ورد أخبار كثيرة ان الآية نزلت فى حمزة وجعفر وعبيدة وعلى (ع)، وفى بعض الاخبار انها نزلت فى المؤمنين من شيعة آل محمد (ص)، وفى خبر عن الصادق (ع) المؤمن مؤمنان؛ فمؤمن صدق بعهد الله ووفى بشرطه وذلك قول الله عز وجل: رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه وذلك لا يصيبه اهوال الدنيا ولا اهوال الآخرة وذلك ممن يشفع ولا يشفع له، ومؤمن كخامة الزرع يعوج احيانا ويقوم احيانا، فذلك ممن يصيبه اهوال الدنيا واهوال الآخرة، وذلك ممن يشفع له ولا يشفع، وفى خبر عنه (ع): لقد ذكركم الله فى كتابه فقال: من المؤمنين رجال صدقوا (الآية) انكم وفيتم بما اخذ الله عليه ميثاقكم من ولايتنا وانكم لم تبدلوا بنا غيرنا، وعنه (ع) انه قال؛ قال رسول الله (ص):
" يا على (ع) من احبك ثم مات فقد قضى نحبه، ومن احبك ولم يمت فهو ينتظر، وما طلعت شمس ولا غربت الا ظلت عليه برزق وايمان ".
[33.24]
{ ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شآء } تعليل لصدقوا ومن الغايات المترتبة عليه يعنى صدقوا فيصير صدقهم مورثا لان يجزيهم الله اجرهم وان يجعلهم الله ميزانا لنفاق المنافق ويعذبهم بنفاقهم { أو يتوب عليهم } ان تابوا ورجعوا عن النفاق الى الصدق، او ان وفقوا للتوبة، او تعليل لو عدنا الله، او لصدق الله، او لقوله ما زادهم الا ايمانا، وحينئذ يكون ايضا من الغايات المترتبة عليه، او تعليل لو عدنا الله، او لصدق الله، او لقوله ما زادهم الا ايمانا، وحينئذ يكون ايضا من الغايات المترتبة عليه، او تعليل لقوله لقد كان لكم فى رسول الله اسوة حسنة او لقوله جاءتكم جنود او لارسلنا عليهم ريحا، او لكان الله بما تعملون بصيرا او لجاؤكم من فوقكم او لابتلى المؤمنون والفاصل لما كان من متعلقات المعلول لم يكن مانعا من تعلق العلة بها وعلمها فيها { إن الله كان غفورا رحيما } تعليل لقوله او يتوب عليهم.
[33.25]
{ ورد الله الذين كفروا } حال عن واحدة من الجمل السابقة المناسبة له او عطف على قوله قالوا هذا ما وعدنا الله او على قالت الاعراب او على يقول او على ابتلى المؤمنون او على زلزلوا او على زاغت الابصار او جاؤكم او جاءتكم يعنى اذكروا نعمة الله اذ رد الله الذين يعنى الاحزاب { بغيظهم } حقدهم { لم ينالوا خيرا } منكم من ظفر وغنيمة { وكفى الله المؤمنين القتال } بارسال الريح والملائكة عليهم، وفى اخبار كثيرة ان المعنى كفى الله المؤمنين القتال بعلى بن ابى طالب (ع) يعنى فى تلك الغزوة او مطلقا فانه دخل على الكفار وهن بقتل عمرو بن عبد ود وتقوى المؤمنون ولم يبق لهم حاجة الى القتال بحيث يقتل المؤمنون فى القتال ولذلك ورد: ضربة على يوم الخندق افضل من عبادة الثقلين { وكان الله قويا } لا يمكن لاحد مدافعته وممانعته عن مراده { عزيزا } غالبا كل غالب.
[33.26-29]
{ وأنزل الذين ظاهروهم } يعنى ظاهروا الاحزاب { من أهل الكتاب من صياصيهم } وهم بنو قريظة فانهم نقضوا عهد الرسول (ص) وظاهروا الاحزاب وقصتهم وقصة نقض عهدهم بوسوسة حى بن اخطب الذى كان من بنى النضير ونزولهم من صياصيهم وقتلهم واسر نسائهم وذراريهم مذكورة فى المفصلات { وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها } وهى ارض خيبر افتتحها الله بالصلح من دون وطئ خيل وجمل بعد بنى قريظة، وقيل: هى مكة، وقيل: هى الروم وفارس، وقيل: هى كل ارض تفتح الى يوم القيامة، وقيل: هى كل ما أفاء الله على رسوله (ص) مما لم يوجف بخيل ولا ركاب { وكان الله على كل شيء قديرا يأيها النبي } خطاب آخر خاص به (ص) ناداه بعدما قالت بعض نسائه حفصة او زينب بنت جحش ان طلقنا وجدنا اكفاء فى قومنا، وسببه على ما قاله القمى انه لما رجع رسول الله (ص) من خيبر واصاب كنز آل ابى الحقيق قالت ازواجه: اعطنا ما اصبت فقال لهن رسول الله (ص): قسمته بين المسلمين على ما امر الله فغضبن وقلن لعلك انك ترى ان طلقتنا انا لا نجد الاكفاء من قومنا يتزوجونا؟ فانف الله تعالى لرسوله (ص) فأمره الله تعالى ان يعتزلهن فاعتزلهن رسول الله (ص) فى مشربة ام ابراهيم تسعة وعشرين يوما حتى حضن وطهرن ثم انزل الله هذه الآية فقال: { قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما } لا للمسيئات الخارجات بالسيوف فقامت ام سلمة اول من قامت فقالت: قد اخترت الله واخترت رسوله (ص) فقمن كلهن فعانقنه وقلن مثل ذلك فأنزل تفخيما لشأنه (ص) وتخييرا له ترجى من تشاء منهن وتؤوى اليك من تشاء.
[33.30]
{ ينسآء النبي } ثم قطع مخاطبة النبى (ص) وخاطب ازواجه تفخيما لشأنهن من حيث انهن ازواج النبى (ص) { من يأت منكن بفاحشة مبينة } قبحها او ظاهرة على الانظار كالخروج بالسيف وقد فسرت فى الاخبار بالخروج بالسيف وبالخروج على على (ع) تعريضا بفعلة عائشة { يضاعف لها العذاب ضعفين } يعنى فى الآخرة والا فعلى (ع) احسن اسرها فى الدنيا بعد ما قاتل وقتل مقاتليها وقال فى حقها: ولها حرمتها، { وكان ذلك } التضعيف { على الله يسيرا } ولما كان المقام للتهديد اتى بالتيسير قبل ذكر تضعيف الاجر للمحسنات منهن لئلا يتوهم انه لتضعيف الاجر.
[33.31]
{ ومن يقنت منكن } من يتواضع او يطع { لله ورسوله وتعمل صالحا } ما، او صالحا عظيما هو ولاية على بن ابى طالب (ع) { نؤتهآ أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما } كل ذلك بشرافة قرب النبى (ص) فان عصيان القريب من الرسول (ص) اعظم قبحا وطاعته اعظم اجرا.
[33.32]
{ ينسآء النبي } تشريف آخر لهن بتكرار النداء والخطاب { لستن كأحد من النسآء } بسبب قرب النبى (ص) وشرافته { إن اتقيتن } ان كنتن على سجية التقوى، او اتقيتن سخط الله، او اهوية النفس والطرق المختلفة النفسانية { فلا تخضعن بالقول } اى لا تظهرن قولكن لمخاطبيكن بحيث يظهر معها محبتكن لهم { فيطمع الذي في قلبه مرض } فيكن { وقلن قولا معروفا } اى بعيدا من الريبة.
[33.33]
{ وقرن في بيوتكن } قرئ بكسر القاف وحينئذ يجوز ان يكون من الوقار ومن الفرار، وقرئ بفتح القاف وحينئذ يكون من القرار فان قر استعمل من باب علم ومن باب ضرب { ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى } تلويح بعائشة وفعلتها بالنسبة الى على (ع) فانه كما روى عن النبى (ص) عاش يوشع بن نون بعد موسى ثلاثين سنة وخرجت عليه صفوراء بنت شعيب زوجة موسى (ع) فقالت: انا احق منك بالامر فقاتلها فقتل مقاتليها واحسن اسرها، وان ابنة ابى بكر ستخرج على على (ع) فى كذا وكذا الفا من امتى فيقاتلها فيقتل مقاتليها ويأسرها ويحسن اسرها وفيها انزل الله تعالى: وقرن فى بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الاولى يعنى صفوراء بنت شعيب (ع) { وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله } فى سائر ما امركن ونهيكن { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا } جواب لسؤال مقدر كأن اهل البيت (ع) سألوا، ما يريد بامر نساء النبى (ص) ونهيهن والاهتمام بشأنهن؟- فقال تعالى فى الجواب: انما يريد الله بالاهتمام بامر نساء النبى (ص) تطهير اهل بيته الذين هم اصحاب الكساء، او هم الائمة وشيعتهم فان المقصود من جميع الاوامر والنواهى التى وردت فى الشريعة المطهرة تطهير اهل البيت (ع) يعنى الائمة وشيعتهم فان الكل مقدمة للولاية والبيعة الخاصة الولوية، وصاحبوا الولاية هم الائمة (ع) وخلفاؤهم ومن اجازوهم لاخذ البيعة او لتبليغ الاحكام القالبية، وقابلوا الولاية شيعتهم الذين بايعوا معهم البيعة الخاصة الولوية، وعن طريق العامة والخاصة ورد اخبار كثيرة فى تفسير اهل البيت بأصحاب الكساء الذين هم على (ع) وفاطمة (ع) والحسن (ع) والحسين (ع) وقد ورد عن طريق الخاصة انها جرت بعدهم فى الائمة (ع) عن الصادق (ع) انه قال يعنى الائمة وولايتهم من دخل فيها دخل فى بيت النبى (ص) ولكن الله عز وجل انزل فى كتابه لنبيه (ص) انما يريد الله (الآية) وكان على (ع) والحسن (ع) والحسين (ع) وفاطمة (ع) فأدخلهم رسول الله (ص) تحت الكساء فى بيت ام سلمة ثم قال:
" اللهم ان لكل نبى اهلا وثقلا، وهؤلاء اهل بيتى وثقلى، فقالت ام سلمة: الست من اهلك؟ فقال انك على خير ولكن هؤلاء اهلى وثقلى "
، وقال فى آخر الحديث:
" الرجس هو الشك والله لا نشك فى ربنا ابدا "
، وقد ذكر فى المفصلات الاخبار، من اراد فليرجع اليها، وللاشارة الى ان المقصود اهل البيت (ع) قال: عنكم لا عنكن، وللاهتمام بشأن اهل البيت (ع) وان المنظور من تأديب نساء النبى (ص) تطهير اهل البيت جاء بهذه الجملة معترضة بين احكام نساء النبى (ص).
[33.34]
{ واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله } حتى تكن على ذكر من الله { والحكمة } حتى تكن حكيمات فى اموركن { إن الله كان لطيفا } فى صنعه { خبيرا } او المراد باللطف هو الدقة فى العلم والعمل والجملة جواب لسؤال مقدر وتعليل لقوله اذكرن ما يتلى.
[33.35]
{ إن المسلمين والمسلمات } وهذا تعليل لما سبق من قوله ومن يقنت منكن (الى آخر الآيات) والمراد بالمسلمين صورة من بايع على يد محمد (ص) او خلفائه البيعة العامة النبوية بقبول الدعوة الظاهرة والانقياد تحت احكام الشريعة، وحقيقة من انقاد باطنا تحت احكام الشريعة بحيث لا يتأتى منه خلافها، وبهذا المعنى ورد عن النبى (ص):
" المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه "
{ والمؤمنين والمؤمنات } المؤمن من صورة من بايع على يد محمد (ص) او خلفائه البيعة الخاصة الولوية بقبول الدعوة الباطنة والانقياد تحت احكام الطريقة وقبول احكام القلب، وحقيقة من صار متخلقا بالاخلاق الحسنة ومتطهرا من الرذائل وصار امينا فى قومه رحيما كريما وزينا حييا، الى غير ذلك من الاخلاق، وبهذا المعنى ورد عن النبى (ص):
" المؤمن من امن جاره بوائقه، وما آمن بى من بات شبعان وجاره طاو "
، وورد:
" المؤمن من ائتمنه المؤمنون على اموالهم وانفسهم "
، وقد سبق فى اول البقرة تفصيل للاسلام والايمان وان الايمان يدخل بسبب كيفية فى القلب بتلك الكيفية يقع نسبة الابوة والبنوة بين المؤمن ومن بايع على يده، ويقع الاخوة بين البايعين والاسلام ما عليه المناكح والمواريث وحقن الدماء واشار اليه تعالى بقوله:
قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم
[الحجرات:14] { والقانتين والقانتات } اى المتواضعين او القائمين فى الصلوة، او المطيعين والمطيعات { والصادقين والصادقات } اى الخارجين فى اقوالهم وافعالهم واحوالهم واخلاقهم من الاعوجاج { والصابرين والصابرات } على المصائب او الطاعات او عن المعاصى { والخاشعين والخاشعات } قد مضى تحقيق معنى الخشوع والفرق بينه وبين الخضوع والتواضع فى سورة البقرة عند قوله تعالى: وانها لكبيرة الا على الخاشعين { والمتصدقين والمتصدقات } من الاعراض الدنيوية والقوى البدنية والحشمة والجاه وكل ما ينسبه الانسان الى نفسه ومن انانياتهم { والصائمين والصائمات } عن الوجود المنسوب اليهم بانتهاء تقويهم عند ابتداء حشرهم الى الرحمن { والحافظين فروجهم والحافظات } فروجهم بعد حشرهم الى اسم الرحمن بعودهم الى الكثرات وملاحظة العورات التى كانت لهم حين رجوعهم الى الحق تعالى وغفلتهم عنها { والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما } روى ان اسماء بنت عميس لما رجعت من الحبشة مع زوجها جعفر بن ابى طالب عليه السلام دخلت على نساء رسول الله (ص) فقال: هل فينا شيء من القرآن؟ قلن: لا، فأتت رسول الله (ص) فقالت: يا رسول الله ان النساء لفى خيبة وخسار فقال:
" ومم ذلك "
؟- قالت: لانهن لا يذكرن بخير كما يذكر الرجال فأنزل الله تعالى هذه الآية.
اعلم، ان الآية اشارة الى جميع مراتب السلوك بعد الايمان الخاص الحاصل بالبيعة الولوية ودخول الايمان فى القلب فان الاسلام تنبه وسبب للهداية الى الايمان ولا بد من حصوله للانسان حتى يحصل له الايمان، والايمان الحاصل بالبيعة الخاصة الولوية وقبول الدعوة الباطنة، ونفس تلك البيعة سبب للتوجه الى الله، وبعد التوجه الى الله يكون السلوك الى الطريق او الى الله، واول ما يحصل بعد الايمان للسالك هو المحبة لله والاستشعار بعظمته وعظمة مظاهره والاستشعار بالهيبة منه، ويحصل من ذلك الاستشعار التواضع الذى هو حالة حاصلة من امتزاج الهيبة والمحبة مع غلبة الهيبة، ويحصل من تلك الحالة الطاعة، وليس المراد بالقنوت ههنا الا التواضع او الطاعة او القيام فى الصلوة، وبالقنوت يحصل الخروج من الاعوجاج وبالصدق والخروج من الاعوجاج يحصل الصبر فى موارده، وبالصبر يحصل الخشوع الذى هو حالة حاصلة من امتزاج الهيبة والمحبة مع غلبة المحبة، وبغلبة المحبة يحصل التصدق وطرح ما يمنع المحب عن خدمة المحبوب، وبذلك الطرح يحصل الصوم الذى هو انتهاء التقوى، وبانتهاء التقوى يحصل الرجوع والبقاء بعد الفناء ومراعاة حقوق الكثرات من المنع والاعطاء والبذل والحفظ، وفى مراعاة الكثرات وحقوقها يحصل الذكر الكثير، فان الذكر الكثير هو الذى يكون بتذكر الامر والنهى الآلهيين عند كل فعل، ولا يكون ذلك الا بعد الرجوع الى الكثرات بالله وهو آخر الاسفار التى تكون للسلاك.
[33.36-38]
{ وما كان لمؤمن ولا مؤمنة } عطف على مقدر مستفاد من السابق كأنه قال: فما كان لمؤمن ولا مؤمنة ان يدعوا تلك المغفرة العظيمة وذلك الاجر العظيم وما كان لمؤمن ولا مؤمنة اى ما صح وما جاز { إذا قضى الله ورسوله أمرا } اى حكم الله او حتم او بين { أن يكون لهم الخيرة } اسم للاختيار ويقع على المختار ايضا { من أمرهم } لانهما اولى بهم وابصر بامرهم وارحم بهم منهم نزلت حين خطب الرسول زينب بنت جحش لزيد مولاه وغضبت هى واخوها وقالت: بنت عمتك تنكحها لمولاك؟ فلما نزلت قالت: رضيت وجعلت امرها بيده، وقيل: نزلت فى ام كلثوم بنت عقبة بن ابى معيط وكانت وهبت نفسها للنبى (ص) فقال: قد قبلت وزوجها زيد بن حارثة فسخطت هى واخوها وقالا: انما اردنا رسول الله فزوجنا عبده فنزلت: وقد مضى فى سورة القصص ان نزول الآية ان كانت فى شيء غير الخلافة فالمنظور منها الخلافة يعنى ما كان لاحد ان يختار الامام من عند نفسه على من اختاره الله ورسوله (ص) للامامة { ومن يعص الله ورسوله } فى ما يختار انه لهم يعنى فى الامامة التى يختار انها لهم { فقد ضل ضلالا مبينا وإذ تقول } عطف على مقدر عام او خاص والتقدير ما كان لمؤمن ولا مؤمنة اذا قضى الله ورسوله امرا ان يكون لهم الخيرة من امرهم فى اى وقت كان او فى وقت نصب على (ع) بالخلافة، واذ تقول { للذي أنعم الله عليه } بالاسلام والتوفيق لاطاعتك وخدمتك { وأنعمت عليه } بالعتق والزوجة وبذل ما يحتاج اليه { أمسك عليك زوجك واتق الله } مع انك علمت ان مختار الله ومختارك ان تصير زينب زوجتك { وتخفي في نفسك ما الله مبديه } من كون نكاح مختارك ومختار الله { وتخشى الناس } وملامتهم بان يقولوا يتمنى زوجة الغير { والله أحق أن تخشاه } ان كان هذا مما يخشى، روى عن السجاد (ع) ان الذى اخفاه فى نفسه هو ان الله سبحانه اعلمه انها ستكون من ازواجه وان زيدا سيطلقها فلما جاء زيد وقال له: اريد ان اطلق زينب، قال له: امسك عليك زوجك فقال سبحانه: لم قلت: امسك عليك زوجك؟ وقد اعلمتك انها ستكون من ازواجك { فلما قضى زيد منها وطرا } حاجة كانت له اليها وملها وطلقها وانقضت عدتها { زوجناكها } وفى قراءة اهل البيت (ع) زوجتكها وهذا ادل على تعظيمه (ص) فانه ادل على مباشرة التزويج بنفسه دون سفرائه وخلفائه { لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيآئهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له } اى فيما قدر الله له قدرا حتما فانه تعالى قدر له (ص) قدرا حتما ان تكون زينب من ازواجه، نسب الى الباقر (ع) انه قال زوج رسول الله (ص ) زينب زيدا فمكث عند زيد ما شاء الله ثم انهما تشاجرا فى شيء الى رسول الله (ص) فنظر اليها رسول الله فأعجبته فقال زيد: يا رسول الله (ص) اتأذن لى فى طلاقها فان فيها كبرا وانها لتؤذينى بلسانها؟- فقال رسول الله (ص): اتق الله وامسك عليك زوجك واحسن اليها، ثم ان زيدا طلقها وانقضت عدتها فأنزل الله عز وجل نكاحها على رسوله (ص)، وعن الرضا (ع) فى حديث ان الله تعالى عرف نبيه (ص) اسماء ازواجه فى دار الدنيا واسماء ازواجه فى الآخرة وانهن امهات المؤمنين واحد من سمى له زينب بنت جحش وهى يومئذ تحت زيد بن حارثة فاخفى (ص) اسمها فى نفسه ولم يبده لكى لا يكون احد يقول من المنافقين انه قال فى امرأة فى بيت رجل انها احد ازواجه من امهات المؤمنين وخشى قول المنافقين قال الله عز وجل: وتخشى الناس والله احق ان تخشاه يعنى فى نفسك وان الله عز وجل ما تولى تزويج احد من خلقه الا تزويج حواء من آدم (ع)، وزينب من رسول الله (ص) بقوله عز وجل: فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها، وفاطمة (ع) من على (ع)، وعنه (ع): ان رسول الله (ص) قصد دار زيد بن حارثة فى امر اراده فرأى امرأته تغتسل فقال لها: سبحان الله الذى خلقك وانما اراد بذلك تنزيه الله عن قول من زعم ان الملائكة بنات الله (الى ان قال) فقال النبى (ص) لما رآها تغتسل: سبحان الله الذى خلقك ان يتخذ ولدا يحتاج الى هذا التطهير والاغتسال، فلما عاد زيد الى منزله اخبرته امرأته بمجئ الرسول (ص) وقوله لها: سبحان الله الذى خلقك فلم يعلم زيد ما اراد بذلك فظن انه قال ذلك لما اعجب من حسنها، فجاء الى النبى (ص) فقال: يا رسول الله (ص) ان امرأتى فى خلقها سوء وانى اريد طلاقها، فقال له النبى (ص): امسك عليك زوجك واتق الله (الآية) وقد كان الله عز وجل عرفه عدد ازواجه وان تلك المرأة منهن فاخفى ذلك فى نفسه ولم يبده لزيد وخشى الناس ان يقولوا: ان محمدا يقول لمولاه ان امرأتك ستكون لى زوجة، فيعيبونه بذلك فأنزل الله واذ تقول (الآية) ثم ان زيد بن حارثة طلقها واعتدت منه فزوجها الله تعالى من نبيه وانزل بذلك قرآنا فقال عز وجل: فلما قضى زيد منها وطرا (الآية) ثم علم عز وجل ان المنافقين سيعيبونه بتزويجها فأنزل ما كان على النبى من حرج فيما فرض الله له { سنة الله } سن ذلك المذكور من تزويج ازواج الادعياء او من رفع الحرج فيما فرض لهم واباح سنة { في الذين خلوا من قبل } يعنى فى الانبياء الذين خلوا من قبلك بقرينة الذين يبلغون (الى آخره) { وكان أمر الله قدرا مقدورا } يعنى ان امره قدر سابقا فى الالواح بحيث لا يكون فيه تخلف فما لهم يلومون فى امر يكون قدرا مقدورا غير متخلف عنه.
[33.39]
{ الذين يبلغون رسالات الله } صفة او بدل من الذين خلوا، او خبر مبتدء محذوف، او مفعول فعل محذوف { ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا } فينبغى ان لا يخشى الا منه.
[33.40]
{ ما كان محمد أبآ أحد من رجالكم } قد مضى بيان هذه الكلمة فى اول السورة عند قوله: وازواجه امهاتهم ولما توهم من نفى ابوته لرجالهم انتفاء النسبة بينه وبين امته استدرك ذلك بانه (ص) ما كان ابا احد من رجالكم الجسمانيين ولكنه اب لامته من حيث انهم مؤمنون ورجال ونساء روحانيون فقوله تعالى { ولكن رسول الله } واقع موقع قوله تعالى ولكنه او رجاله الروحانيين { وخاتم النبيين } هذه الكلمة للترقى عن كونه ابا لامته فكأنه قال: بل هو اب لجميع المرسلين واممهم لانه خاتمهم والخاتم ينبغى ان يكون محيطا بالكل ومنسوبا الى الكل نسبة الاب الى الاولاد، وقرئ هذه الكلمة بكسر التاء وفتحها { وكان الله بكل شيء عليما } لا انتم فيعلم هو النسبة الجسمانية والروحانية بين الاشياء ويعلم مقدار كل وحكم كل بحسبه وقدره لا انتم فلا تقولوا لما يحكم الله به: لم كان كذا؟ او لو لم يكن ذلك كذلك! فانه رد من الجاهل على العالم، او تأمل من الجاهل فى حكم العالم.
[33.41]
قد مضى فى سورة البقرة بيان الذكر ومراتبه وانواعه، عن الصادق (ع) ما من شيء الا وله حد ينتهى اليه الا الذكر فليس له حد ينتهى اليه (الى ان قال) فان الله عز وجل لم يرض منه بالقليل ولم يجعل له حدا ينتهى اليه ثم تلا هذه الآية، وعنه (ع): تسبيح فاطمة الزهراء من الذكر الكثير الذى قال الله: اذكرو الله ذكرا كثيرا، وفى خبر: من ذكر الله فى السر فقد ذكر الله كثيرا.
[33.42]
{ وسبحوه } بالقول والفعل { بكرة وأصيلا } اشارة الى استغراق الاوقات، او المراد التسبيح فى هذين الوقتين لشرافتهما، وذكر التسبيح بعد الذكر تخصيص بعد التعميم، او تقييد بعد الاطلاق ان اريد بالذكر الذكر اللفظى او النفسى لا التنزيه الفعلى وقد مضى الفرق بين التسبيح والتقديس فى سورة البقرة عند قوله تعالى:
ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك
[البقرة:30] ومضى فى مطاوى ما سلف ان المراد بتسبيح الرب وتسبيح اسمه وبتسبيح الله هو تنزيه اللطيفة الانسانية التى هى اسم للرب بوجه ورب بوجه ومظهر لله بوجه عن حدودها ونقائصها، وجملة الاعمال والاقوال الشرعية مقدمة لهذا التنزيه كما ان جملة الرياضات والمجاهدات وسائر الاعمال القلبية نفس ذلك التنزيه.
[33.43]
{ هو الذي يصلي عليكم } اى يرحمكم او ينزل الرحمة عليكم { وملائكته } يعنى ويستغفر لكم ملائكته فان الصلوة من العباد الدعاء ومن الله الرحمة ومن الملائكة الاستغفار، وهذه الكلمة فى موضع التعليل للامر بالذكر الكثير { ليخرجكم من الظلمات } ظلمات نقائص المادة وحدود الطبع واهوية النفس ورذائلها { إلى النور } اى نور الايمان والطاعة والاخلاق الحسنة ونور عالم الاطلاق { وكان بالمؤمنين رحيما } لان فعليتهم الاخيرة التى هى عبارة عن صورة نازلة عن ولى امرهم رحمة من الله وجاذبة لرحمة اخرى منه كما انها ولى امرهم بوجه.
[33.44]
{ تحيتهم يوم يلقونه } اى يلقون حسابه وحسبه او يلقون مظاهره وائمتهم (ع) لان المؤمن بعد طى البرازخ يلقى امامه سواء كان طى البرازخ بالاختيار وبالسلوك حتى حضروا عند امامهم فى الدنيا، او بالاضطرار ووصولهم الى الاعراف وحضورهم عند امامهم فى الآخرة { سلام } لان المؤمن بعد الحضور عند امامه يصير سالما من جميع الآفات والنقائص، واضافة التحية الى الضمير من قبيل اضافة المصدر الى الفاعل او الى المفعول اى تحية بعضهم لبعض، او تحية الله وملائكته لهم والجمله حالية او مستأنفة معترضة جواب لسؤال مقدر { وأعد لهم أجرا كريما } لا منة فيه ولا نقص.
[33.45]
{ يأيها النبي إنآ أرسلناك شاهدا } متحملا للشهادة ممن ارسلت اليهم وعليهم، او مقدرا لتأدية الشهادة عليهم ولهم، او حاضرا عليهم فى اعمالهم { ومبشرا } للمؤمنين { ونذيرا } للكافرين.
[33.46]
{ وداعيا إلى الله } لكل الناس { بإذنه } قيد الدعاء بقوله باذنه اشعارا بان الدعاء اذا لم يكن باذن من الله كان ضلالا واضلالا { وسراجا منيرا } يستضاء بك ويستنير البصائر منك.
[33.47]
{ وبشر المؤمنين } عطف على محذوف تقديره فأنذر الكافرين وادع الناس اجمعين وبشر المؤمنين { بأن لهم من الله فضلا كبيرا } واقتصر على ذكر المعطوف اشعارا بان المقصود بالذات هو تبشير المؤمنين.
[33.48-49]
{ ولا تطع الكافرين والمنافقين } فيما يقولون فى حق فقراء المؤمنين، او فى ترك التعرض لاصنامهم، او فى حق على (ع) وخلافته { ودع أذاهم } هذه الكلمة اسم مصدر لايذاء ومضاف الى الفاعل او الى المفعول { وتوكل على الله } فى كل امورك { وكفى بالله وكيلا يأيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها } اى ايام عديدة تعدونها عليهن { فمتعوهن } وجوبا بنصف ما فرضتم ان كنتم فرضتم لهن فريضة او بما يتمتع امثالهن ان لم تكونوا فرضتم لهن فريضة، او متعوهن استحبابا بعدما اديتم اليهن نصف مهرهن او نصف مهر الامثال { وسرحوهن سراحا جميلا } اى طلقوهن او ارسلوهن من بيوتكم من غير اذى ومنع حق.
[33.50]
{ يأيها النبي إنآ أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن } اى مهورهن فان المهر اجر للبضع { وما ملكت يمينك ممآ أفآء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك } افرد العم والخال دون العمة والخالة لارادة الجنس من الخال والعم وتوهم الافراد من العمة والخالة لو افردتا لوجود التاء التى توهم الافراد { اللاتي هاجرن معك } القيود الثلاثة ليست قيودا للاحلال لما سيأتى من الاخبار ان الله تعالى احل له ما شاء من النساء وانما ذكر القيود تشريفا له (ص) فى الاولين وتشريفا للنساء فى الاخير، وقيل: انها قيود للاحلال، ونقل عليه خبر من طريق العامة وانما ذكر احلال الازواج مع انهن كن محللات له وكن فى بيوته رفعا لما قال بعض وتوهم بعض من انه (ص) حرم على امته ازيد من اربع ونكح هو ازيد من اربع ولا ينبغى ان يكون كذلك، والدليل عليه قوله قد علمنا ما فرضنا عليهم فى ازواجهم معترضة بين بيان احلال ازواجه { وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي } التفت من الخطاب الى الغيبة اشعارا بان هذا الحكم لشرافة النبوة { إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك } تأكيد لما استفيد من اختصاص هذا الحكم بحيثية النبوة، وخالصة مصدر لمحذوف اى خلص هذا الحكم خلوصا لك، او اسم فاعل والتاء للمبالغة وحال عن محذوف اى قلنا هذا الحكم خالصة، او حكمنا هذا الحكم خالصة، او التاء للتأنيث والتقدير ذكرنا هذه الهبة خالصة لك، وغير ما ذكر من وجوه اعرابها ضعيف جدا { من دون المؤمنين } الظرف حال من الضمير المجرور فى لك، عن الباقر (ع): جاءت امرأة من الانصار الى رسول الله (ص) فدخلت عليه فى منزل حفصة والمرأة متلبسة متمشطة فقالت: يا رسول الله (ص) ان المرأة لا تخطب الزوج وانا امرأة أيم لا زوج لى منذ دهر ولا ولد فهل لك من حاجة؟ فان يك فقد وهبت نفسى لك ان قبلتنى، فقال لها رسول الله (ص) خيرا ودعا لها، ثم قال: يا اخت الانصار جزاكم الله عن رسول الله خيرا فقد نصرنى رجالكم ورغبت فى نساؤكم، فقالت لها: حفصة ما اقل حياءك واجرأك وانهمك للرجال.،! فقال لها رسول الله (ص): كفى عنها يا حفصة، فانها خير منك رغبت فى رسول الله فلمتها؟! وعيبتها؟! ثم قال للمرأة انصرفى رحمك الله، فقد اوجب الله لك الجنة لرغبتك فى وتعرضك لمحبتى وسرورى، وسيأتيك امرى ان شاء الله، فأنزل الله عزوجل وامرأة مؤمنة (الآية) قال فأحل الله عز وجل هبة المرأة نفسها لرسول الله (ص) ولا يحل ذلك لغيره وقد ذكر ان هذا الحكم من خصائصه (ص) وليس لغيره ان ينكح بهبة المرأة نفسها من دون مهر، وقيل: ان الرسول (ص) لم يكن عنده امرأة وهبت نفسها له، وقيل: بل كانت عنده ميمونة بنت الحارث بالهبة، وقيل: هى زينب بنت خزيمة المكناة بام المساكين، وقيل: كانت امرأة من بنى اسد يقال لها ام شريك، وقيل: كانت خولة بنت حكيم، وعن الصادق (ع) انه قال: تزوج رسول الله (ص) بخمس عشرة امرأة ودخل بثلاث عشرة منهن، وقبض عن تسع فاما اللتان لم يدخل بهما فعمرة والشنباء، واما الثلاث عشرة اللاتى دخل بهن فأولهن خديجة بنت خويلد ثم سودة بنت زمعة ثم ام سلمة واسمها هند بنت ابى امية، ثم ام عبدالله عائشة بنت ابى بكر، ثم حفصة بنت عمر، ثم زينب بنت خزيمة بن الحارث ام المساكين، ثم زينب بنت جحش، ثم ام حبيبة رملة بنت ابى سفيان، ثم ميمونة بنت الحارث، ثم زينب بنت عميس، ثم جويرية بنت الحارث، ثم صفية بنت حى بن اخطب، والتى وهبت نفسها للنبى خولة بنت حكيم السلمى وكان له (ص) سريتان يقسم لهما مع ازواجه مارية القبطية وريحانة الخندقية، والتسع اللواتى قبض عنهن عائشة، وحفصة، وام سلمة، وزينب بنت جحش، وميمونة بنت الحارث، وام حبيبة بنت ابى سفيان، وصفية وجويرية وسودة، وافضلهن خديجة بنت خويلد، ثم ام سلمة، ثم ميمونة { قد علمنا ما فرضنا عليهم في } حق { أزواجهم } من العدد والقسم { وما ملكت } اى فى حق ما ملكت { أيمانهم } من الاماء من التوسعة عليهن فى المعيشة وعدم التضييق عليهن فى الخدمة والاقتصار على المملوكة ان لم يطيقوا الحرة والاقتصار على حرة واحدة ان خافوا عدم العدالة وهذه الجملة معترضة وجواب لسؤال مقدر كأنه قيل: لم احلت للرسول (ص) ازيد من الاربع ولم يحل لامته ازيد منها؟ بل لم يحل لهم اكثر من واحدة ان خافوا ان لا يعدلوا؟- فقال: قد علمنا سبب ذلك فيه وفيهم وليس هذا الحكم فيه وفيهم من غير سبب واستحقاق والجاهلون للاسباب يلومونه على ما فرض الله عليه { لكيلا يكون عليك حرج } متعلق باحل او بخالصة لك او بعامل امرأة مؤمنة يعنى انك خرجت من التقييد وصرت مطلقا ولا ينبغى ان يكون عليك حرج فيما اردت { وكان الله غفورا } فيغفر ما يلزمك من تعدد الازواج من تكدر قلبك بالكثرات وتعدد الازواج، او يغفر لمن يلومك فى تعدد الازواج من جهله بسببه { رحيما } يرحمك فيحفظك مما يشينك فى الدنيا من تعدد الازواج، او يرحمك فى الآخرة بالتوسعة عليك فى مقامك، او يرحمهم فيحفظهم مما يخرجهم من الايمان فى ملامتك، او يرحمهم فى الآخرة.
[33.51]
{ ترجي من تشآء منهن وتؤوي إليك من تشآء } قد مضى سبب نزول هذه الآية عند قوله تعالى: يا ايها النبى قلا لازواجك ان كنتن تردن الحيوة الدنيا (الآية) والمعنى تقدم من تشاء من نسائك فى المضاجعة والايواء اليك من غير نظر الى القسم فيكون الآية توسعة عليه فى القسم بين نسائه، او المعنى تعزل من تشاء منهن بغير طلاق وترد اليك من تشاء بعد عزلك تسعة وعشرين يوما، او المعنى تطلق من تشاء وتمسك من تشاء، او المعنى تترك نكاح من شئت من نساء امتك وتنكح من شئت منهن، وعلى اى تقدير فالجملة جواب لسؤال مقدر وتوسعة له (ص) بالنسبة الى ازواجه ونكاحه، وهل كان تخييره لنسائه بين اختيار الدنيا واختيار الله ورسوله (ص) طلاقا لهن بعد اختيارهن الدنيا او كن محتاجات الى الطلاق وكذلك عزله (ص) وارجاؤه لهن؟ فعن الباقر (ع) انه سئل عن رجل خير امرأته فاختارت نفسها بانت؟- قال: لا، انما هذا شيء كان لرسول الله (ص) امر بذلك ففعل، ولو اخترن انفسهن لطلقهن وهو قول الله تعالى: قل لازواجك ان كنتن (الآية) { ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك } من دون عقد جديد { ذلك } التخيير والتوسعة عليك، او ذلك الاذن فى ترك القسم والتسوية بينهن، او ذلك الاذن فى ابتغاء من عزلت، او ذلك الاذن فى نكاح الواهبات لانفسهن وتركك لنكاحهن { أدنى أن تقر أعينهن } اى اعين ازواجك { ولا يحزن } بترك القسم لهن وترك التسوية بينهن { ويرضين بمآ آتيتهن كلهن } قرئ تقر من الثلاثى المجرد مبنيا للفاعل، وقرئ من باب الافعال مبنيا للمفعول، واعينهن بالرفع فيهما، وقرئ من باب الافعال مبنيا للفاعل، واعينهن بالنصب، وقرئ كلهن بالرفع تأكيدا لضمير يرضين، وبالنصب تأكيدا لضمير آتيتهن { والله يعلم ما في قلوبكم } جمع ازواجه او امته او الجميع معه (ص) فىالخطاب، او صرف الخطاب عنه الى امته، او الى امته وازواجه { وكان الله عليما } عطف بمنزلة التعليل { حليما } فلا يعاجلكم بعقوبة ما فى قلوبكم لحلمه، لا لجهله، ولا لعجزه.
[33.52]
{ لا يحل لك النسآء من بعد } اى من بعد الاجناس المذكورة فى الآية السابقة كما قيل وكما هو ظاهر الآية { ولا أن تبدل بهن من أزواج } اخر غير المذكورات فى الآية السابقة، وقيل: ان منعه من نكاح غيرهن ومن تبديلهن مكافاة لهن على اختيارهن الله ورسوله (ص)، وقد ورد فى اخبار كثيرة مضمون ما ورد عن الباقر (ع) من انه انما عنى به لا يحل لك النساء التى حرم الله عليك فى هذه الآية
حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم
[النساء:23] (الى آخرها) ولو كان الامر كما يقولون كان قد احل لكم ما لم يحل له لان احدكم يستبدل كلما اراد ولكن الامر ليس كما يقولون من الله عز وجل احل لنبيه ان ينكح من النساء ما اراد الا ما حرم فى هذه الآية فى سورة النساء، وفى بعض الاخبار: احاديث آل محمد (ص) خلاف احاديث الناس { ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شيء رقيبا } حتى على عدد الازواج بالنسبة اليك والى امتك، والحصر فى العدد والاقتصار على اشخاص معنية من دون الزيادة عليهن ومن دون استبدالهن.
[33.53-54]
{ يأيها الذين آمنوا } تأديب للامة كيف ينبغى ان يعاملوا الرسول (ص) الذى هو اب لهم؟ وكيف يكون معاملتهم مع ازواجه؟ { لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم } لعلهم كانوا يدخلون بيوت النبى (ص) وبيوت بعضهم من غير اذن واستيناس فنزلت هذه الآية وآية الامر بالاستيناس { إلى طعام } تعدية الاذن بالى لتضمين معنى الدعوة { غير ناظرين إناه } اى ادراكه ونضجه يعنى لا تدخلوا بعد الدعوة قبل نضج الطعام وادراكه للاكل، فان ذلك يضيق المنزل عليه وعلى اهل بيته { ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا } لما ذكر من تضييق المنزل عليه وعلى اهل بيته { ولا مستأنسين لحديث } اى لحديث محمد (ص) او لحديث بعضكم بعضا وهو عطف على غير ناظرين اناه، او حال عن عامل محذوف والتقدير ولا تمكثوا مستأنسين لحديث { إن ذلكم كان يؤذي النبي } لما ذكر من تضييق المنزل ولانه ربما يريد الخلوة فى بيته او مع بعض نسائه { فيستحيي منكم } فى ان يأمركم بالخروج { والله لا يستحيي من الحق } فيأمركم بعدم اللبث عنده { وإذا سألتموهن متاعا } اى نساء النبى (ص) { فاسألوهن من ورآء حجاب } عن القمى انه لما تزوج رسول الله (ص) بزينب بنت جحش وكان يحبها فاولم ودعا اصحابه وكان اصحابه اذا اكلوا يحبون ان يتحدثوا عند رسول الله (ص) وكان يحب ان يخلو مع زينب فانزل الله عز وجل: يا ايها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبى (الى قوله) من وراء حجاب وذلك انهم كانوا يدخلون بلا اذن، وعن الصادق (ع): كان جبرئيل اذا اتى النبى (ص) قعد بين يديه قعدة العبد وكان لا يدخل حتى يستأذنه وكانت النساء قبل ذلك يبرزن للرجال الاجانب من غير حجاب كما كانت النساء يبرزن فى الملل الباطلة للرجال من غير حجاب ولا شك ان دواعى الريبة تكون اكثر اذا كن بلا حجاب { ذلكم أطهر لقلوبكم } من الريبة { وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله } عطف للتعليل للجمل السابقة وللتمهيد لما يأتى { ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا } لما سبق ان ازواجه امهاتهم { إن ذلكم كان عند الله عظيما إن تبدوا شيئا } كارادة نكاحهن بان تقولوا بالسنتكم { أو تخفوه } بان لا تظهروه بالسنتكم { فإن الله كان بكل شيء عليما } تهديد ووعيد، عن القمى فى نزول الآية: انه لما انزل الله النبى اولى بالمؤمنين من انفسهم وازواجه امهاتهم، غضب طلحة فقال يحرم محمد (ص) علينا نساءه ويتزوج هو بنسائنا، لئن امات الله محمدا (ص) لنركضن بين خلاخيل نسائه كما ركض بين خلاخيل نسائنا، فأنزل الله تعالى: وما كان لكم ان تؤذوا رسول الله (الآية) ولا اختصاص لهذا الحكم بالمدخول بهن فان المعقودة الغير المدخول بها فى حكم ازواج الآباء، قيل: لما قبض رسول الله (ص) وولى الناس ابو بكر اتته العامرية والكندية اللتان لم يدخل بهما رسول الله (ص) وألحقهما باهلهما وقد خطبتا، فاجتمع ابو بكر وعمر وقالا لهما اختارا ان شئتما الحجاب وان شئتما الباه فاختارتا الباه فتزوجتا فجذم احد الزوجين وجن الآخر. وقد روى ان هذا الحكم يجرى فى الوصى ايضا يعنى لا يجوز لمن آمن به ان ينكح زوجه.
[33.55]
{ لا جناح عليهن } استيناف جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: هل حكم الحجاب جار فى المحارم؟ او جواب لسؤال مذكور على ما روى انه لما نزلت آية الحجاب قال الاقارب: يا رسول الله (ص) أو نكلمهن نحن ايضا من وراء حجاب؟ فقال: لا جناح عليهن { في آبآئهن ولا أبنآئهن ولا إخوانهن ولا أبنآء إخوانهن ولا أبنآء أخواتهن ولا نسآئهن } اى النساء المؤمنات { ولا ما ملكت أيمانهن } قد مضى فى سورة النور بيان نسائهن وبيان ما ملكت ايمانهن { واتقين الله } صرف الخطاب عن المؤمنين اليهن تنشيطا لهن للايتمار { إن الله كان على كل شيء شهيدا } حتى على نيتكن وابداء زينتكن.
[33.56]
{ إن الله وملائكته } استيناف جواب لسؤال ناش من الاهتمام بشأن النبى (ص) وتفخيمه واسترضائه كأنه قيل: ما بال النبى (ص) وقد بالغ الله فى تعظيمه وتحفظ نسائه؟! او ابتداء كلام منقطع عن سابقه وتمهيد لامر المؤمنين بالصلوة عليه { يصلون على النبي يأيها الذين آمنوا صلوا عليه }.
اعلم، ان الاخبار فى فضيلة الصلوة على محمد وآل محمد وانها افضل من جملة الاذكار من طريق الخاصة والعامة اكثر من ان تحصى؛ ففى بعض الاخبار: من صلى عليه فى دبر كل صلوة الصبح وصلوة المغرب قضى الله له مائة حاجة، سبعين فى الدنيا وثلاثين فى الآخرة، وفى بعضها: ان ملكا قائم الى يوم القيامة ليس احد من المؤمنين يقول: صلى الله على محمد وآله وسلم الا وقال الملك: وعليك السلام، ثم يقول الملك: يا رسول الله (ص) ان فلانا يقرئك السلام فيقول رسول الله (ص): وعليه السلام، وفى بعضها: كل دعاء محجوب عن السماء حتى يصلى على محمد وآل محمد، وفى بعضها: اذا كان ليلة الجمعة نزل من السماء ملائكة بعدد الذر فى ايديهم اقلام الذهب وقراطيس الفضة لا يكتبون الى ليلة السبت الا الصلوة على محمد وآل محمد، وفى بعضها: ثواب الصلوة عليه وآله الخروج من الذنوب كهيئة يوم ولدته امه، وفى بعضها: لم يبق عليه من ذنوبه ذرة، وفى بعض: من صلى على محمد وآل محمد عشرا صلى الله عليه وملائكته الفا، وفى بعضها: من صلى على النبى صلوة واحدة صلى ا لله عليه الف صلوة فى الف صف من الملائكة، ولم يبق شيء مما خلق الله الا صلى على العبد لصلوة الله وصلوة ملائكته؛ فمن لم يرغب فى هذا فهو جاهل مغرور قد برأ الله منه ورسوله (ص) واهل بيته (ع)؛ وفى بعضها: ما فى الميزان شيء اثقل من الصلوة على محمد وآل محمد، وفى بعضها: من صلى على ولم يصل على آلى لم يجد ريح الجنة وان ريحها ليوجد من مسيرة خمس مائة عام، وفى بعضها: اذا صليت العصر يوم الجمعه فقل: اللهم صل على محمد وآل محمد الاوصياء المرضيين بافضل صلواتك، وبارك عليهم بافضل بركاتك، والسلام عليهم وعلى ارواحهم واجسادهم ورحمة الله وبركاته، فان من قالها بعد العصر كتب الله عز وجل له مائة الف حسنة ومحا عنه مائة الف سيئة، وقضى له بها مائة الف حاجة، ورفع له بها مائة الف درجة، وفى بعضها: صلت الملائكة على وعلى على (ع) سبع سنين وذلك انه لم يصل معى احد غيره، وفى بعضها: صل على النبى (ص) كلما ذكرته، او ذكره ذاكر عندك فى اذان وغيره، وقد أفتى كثير بوجوب الصلوة عليه اذا ذكرته او ذكره ذاكر عندك،
فضيلة الصلوة على النبى (ص) واسرارها
وقد اختلف الاخبار فى بيان اللفظ الذى يصلى به عليه، ويستفاد من جملتها واختلافها ان المقصود هو التوجه والاقبال عليه على سبيل التعظيم ولا اعتبار لخصوصية لفظ مخصوص فى ذلك ولذلك اختلف الاخبار فى تعيين اللفظ، والسر فى فضل الصلوة والاهتمام بها والتأكيد فيها عند ذكر محمد (ص) وتفضيلها على سائر الاذكار كما اشير اليه فى الاخبار ان اللطيفة السيارة الانسانية التى هى الامانة العظمى التى اخرجها الله من خزانته الخاصة به وامرها على سماوات الارواح والعقول والنفوس وعلى اراضى الاشباح النورية والاشباح الطبيعية التى يعبر عنها بالسماوات الطبيعية والاراضى الطبيعية وجبال المواليد، فأبين ان يحملنها لما رأين انها من مقام الاطلاق وليس لائقا لحملها الا ما فيه استعداد الخروج من مقام التقيد والحدود والوصول الى مقام الاطلاق والوجوب، ورأين ان كلا منهن له مقام معلوم وحد مخصوص ليس له استعداد الخروج من ذلك المقام وهذا الحد، بخلاف هيكل الانسان ومادة صاحب النطق والبيان فانه كان فيه استعداد الخروج من الحد والوصول الى الاطلاق فحملها الانسان انه كان ظلوما على جميع حدوده وتعيناته جهولا لجميع الكثرات وحقوقها عند ظهور سلطان الله ووصول الامانة الى الخزانة وبعد الحمل رأى ان لها سراقا من عالم الجنة والشياطين يترصدون الفرصة لسرقتها وقطع طريقها، وانه لا يمكنه حفظها بدون معاون من سنخ الجنة والشياطين، فسأل الله بلسان حاله حفاظا ومعاونين فاجابه الله تعالى ووكل عليه من عالم الملائكة ما يكفيه فى حفظها، ورأى ان لها سراقا من الشياطين الانسية فسأل معاونين من اسناخهم فأجابه الله تعالى وارسل الانبياء والرسل وخلفاءهم (ع) ليكونوا معاونين له فى حفظها وايصالها الى الخزانة، وامرهم باعانة العباد وامر العباد باتباعهم، ولما كانت الاعانة والاتباع فى ذلك لم يكن ممكنا الا بالاتصال الروحانى بخلفاء الله (ع) ودخول الحافظ الذى هو صورة نازلة منهم فى قلوب العباد وهو المعبر عنه بالايمان الداخل فى القلب وذلك الاتصال وهذا الدخول اى دخول الحافظ فى قلوب العباد لا يمكن الا بالاتصال الصورى والتوجه التام من الخلفاء والاستغفار للعباد والتوبة والانقياد التام من طرف العباد وهذه هى البيعة التى كانت معمولة من لدن آدم (ع) الى زمان الخاتم (ص) وكانت مقررة عندهم بشرائطها، وما لم يكن العباد يبايعون احدى البيعتين لم يكونوا داخلين فى الدين ولم يسموا مسلمين ولا مؤمنين، واذا كان واحد منهم يبايع احدى البيعتين لم يكن له عمل اعظم من التوجه الى من بايع معه والنظر اليه والجلوس معه والخدمة والتعظيم له والتأمل فى شؤنه وجذبه بحسب روحانيته الى نفسه وانجذاب نفسه بكثرة تذكر شؤنه اليه.
ولمذا كان محمد (ص) اصل جميع الخلفاء وكل الخلفاء كانوا اظلاله وشؤنه كان كلما يحصل من جميع الخلفاء (ع) يحصل منه (ص)، وكلما يلزم لجميع الخلفاء من النظر والخدمة والتعظيم والتذكر والتأمل فى شؤنهم يلزم له وحده، وكان كل من بايع واحدا من الخلفاء كان كمن بايع محمدا (ص) فكان كل من دخل فى الاسلام او الايمان لم يكن له عمل اعظم قدرا وافخم اجرا من التوجه الى محمد (ص) والتذكر له والدعاء له وطلب الرحمة عليه والانجذاب اليه بحيث يظهر هو او احد من خلفائه بحسب ملكوته على صدره ولذلك ورد عن ابى عبدالله (ع) انه قال: جاء رجل الى رسلول الله (ص) فقال: اجعل نصف صلواتى لك؟- قال: نعم، ثم قال: اجعل صلواتى كلها لك؟- قال: نعم، فلما مضى قال رسول الله (ص): كفى هم الدنيا والآخرة، وفى خبر عنه (ع): ان رجلا اتى رسول الله (ص) فقال: يا رسول الله (ص) انى جعلت ثلث صلواتى لك، فقال له: خيرا، فقال: يا رسول الله (ص) انى جعلت نصف صلواتى لك، فقال له: ذلك افضل، فقال: انى اجعل كل صلواتى لك؟ فقال: اذن يكفيك الله عز وجل ما اهمك من امر دنياك وآخرتك، فقال له رجل اصلحك الله كيف يجعل صلواته له؟ فقال ابو عبد الله (ع) لا يسأل الله عز وجل الا بدأ بالصلوة على محمد وآله، وامثال هذه الاخبار كالقرآن ذات وجوه وهى مرادة بكل وجوهها بحسب مراتب الناس فان الصلوة تكون بمعنى الدعاء، والغائب عن الحضور لا يكون صلوته لمحمد (ص) الا دعاءه له، ويكون بمعنى الصلوة المشروعة المشتملة على الافعال والاذكار المخصوصة، والحاضر عند محمد (ص) يجوز ان يكون معنى صلوته له دعاءه له وان يكون معنى صلوته له ان يكون فى صلوته المشروعة غير ناظر الى غيره، ويكون المخاطب فى الصلوة بل المتكلم بل الفاعل محمدا (ص) كما هو شأن من حصل له حالة الحضور عند شيخه، ومن حصل له هذه الحالة كفى جميع مهماته، بل حصل له جميع خيرات الدنيا والآخرة، بل يكون له الغناء عن الدنيا والآخرة، ولذلك كان المشايخ رضوان الله عليهم مهتمين بتحصيل هذه الحالة للسالكين ولم يكن للسالكين منظور الا حصول هذه الحال، وكان مشايخ العجم يأمرون السلاك بجعل صورة الشيخ نصب عيونهم تعملا حتى يحصل بتلك التعمل هذه الحال، وبعدما يقال لهم: ان هذا كفر وتقيد بالصورة واشتغال عن المعبود المسمى بالاسم، يجيبون بان هذا كفر وتشبه بعبادة الاصنام لكنه كفر فوق الكفر والايمان؛ واليه اشار المولوى قدس سره:
آينه دل جون شود صافى وباك
نقشها بينى برون از آب وخاك
هم ببينى نقش وهم نقاش را
فرش دولت را وهم فراش را
جون خليل آمد خيال يا رمن
صورتش بت معنى او بت شكن
شكر يزدان راكه جون او شدبديد
در خيالش جان خيال او نديد
وهذا الشعر اشارة الى ان الحضور لدى الشيخ وان كان ظاهره قيدا وكفرا بحسب المعنى والواقع اطلاق عن القيد لا انه تقيد به.
ومعنى الصلوة من الله الرحمة عليه ومن الملائكة تزكيته كما فى الخبر، او طلب نزول الرحمة من الله عليه، ومن العباد طلب الرحمة من الله تعالى عليه، ولما كان المؤمن من فعليته الاخيرة هى الصورة النازلة من ولى امره وهى صورة نازلة من محمد (ص) كان طلبه الرحمة من الله على محمد (ص) طلبا للرحمة على فعليته الاخيرة فكان صلوته على محمد (ص) دعاء لنفسه ولذلك ورد فى خبر عن الرضا (ع): وانما صلوتنا رحمة عليه ولنا قربة، ولما كان محمد (ص) مظهرا تاما لله كان من توجه اليه وطلب الرحمة من الله عليه توجه الله اليه بمضمون: من تقرب الى شبرا تقربت اليه باعا؛ اكثر من توجهه الى الله بعشر او بمائة او بالف او باكثر بحسب استعداد المصلى، وتوجه الله اليه ليس الا صلوته ونزول رحمته على العبد، ولما كان الله حقيقة كل ذى حقيقة كان اذا توجه الى شيء توجه كل الاشياء اليه، فاذا صلى الله على عبد لم يبق شيء الا وصلى عليه خصوصا الملائكة المقربون لقربهم من الله تعالى ولذلك اقتصر فى بعض الاخبار على ذكر الملائكة، وفى بعضها اشير الى انه لا يبقى شيء الا وصلى عليه { وسلموا تسليما } يستفاد من بعض الاخبار ان المراد بقوله سلموا تسليما التحية الاسلامية، ومن بعضها ان المراد التسليم والانقياد له فيما جاء به من عند الله، ومن بعضها ان المراد الانقياد له فيما جاء به من خلافة على (ع)، ومن بعضها ان المراد الانقياد لوصيه (ع).
[33.57]
{ إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة } الجملة جواب لسؤال مقدر وتعليل لقوله: ما كان لكم ان تؤذوا رسول الله، وانما قال يؤذون الله مع ان المقصود ايذاء الرسول (ص) اشارة الى ان ايذاء رسول الله (ص) ايذاء لله تعالى { وأعد لهم عذابا مهينا } تعريض بمن آذى عليا (ع) وفاطمة (ع) فانه صلى الله قال: فاطمة بضعة منى فمن آذاها فقد آذانى، وقال: من آذاها فى حيوتى كمن آذاها بعد موتى، ومن آذاها بعد موتى كمن آذاها فى حيوتى، ومن آذاها فقد آذانى، ومن آذانى فقد آذى الله، وهو قول الله عز وجل: ان الذين يؤذون الله ورسوله، وعن على (ع) انه قال وهو آخذ بشعره فقال: حدثنى رسول الله (ص) وهو آخذ بشعره، فقال: من آذى شعرة منك فقد آذانى، ومن آذانى فقد آذى الله، ومن آذى الله فعليه لعنة الله.
[33.58]
{ والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا } بغير معصية منهم استحقوا بها الايذاء { فقد احتملوا بهتانا } كذبا يعنى ان اذاهم بنسبة شيء اليهم لم يفعلوه ولم يكن فيهم، او المقصود ان ايذاء المؤمن ليس الا امرا باطلا وكل باطل كذب وبهتان { وإثما مبينا } نزول هذه الآية فى ايذاء على (ع) وفاطمة (ع) لا ينافى عمومها لجميع المؤمنين والمؤمنات، قال فى تفسير البيضاوى فى هذه الآية: روى انها نزلت فى منافقين يؤذون عليا (ع)، والسر فى ذلك ان المؤمن من حيث ايمانه ليس الا ولى امره، وايذاؤه من حيث ايمانه ليس الا ايذاء ولى امره، وايذاء ولى أمره قرين لايذاء محمد (ص) وعلى (ع) وهو ايذاء الله.
[33.59]
{ يأيها النبي } ادب آخر لنساء النبى (ص) وسائر الامة { قل لأزواجك وبناتك ونسآء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن } كن لا يغطين وجوههن وسائر مواضع زينتهن بجلبابهن فأمرهن الله تعالى بستر الوجوه والصدور بالجلابيب حتى يتميزن عن سائر النساء بذلك، والجلباب للنساء ثوب وسيع يلبسنه فوق الثياب دون الملحفة او هو الملحفة { ذلك أدنى أن يعرفن } بتميزهن من الاماء والقيان وسائر النساء { فلا يؤذين } قيل: كان سبب نزولها ان النساء كن يخرجن الى المسجد ويصلين خلف رسول الله (ص) فاذا كان بالليل وخرجن الى صلوة المغرب والعشاء الآخرة والغداة يقعد الشباب لهن فى طريقهن فيؤذونهن ويتعرضون لهن { وكان الله غفورا رحيما } فيغفر تقصيرهن فيما سلف ويرحمهن بتعليم آداب المعاشرة لهن.
[33.60]
{ لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض } لما اراد تهديد اهل الريبة الذين كانوا يتعرضون للنساء فى الطرق ضم معهم المنافقين والمرجفين { والمرجفون في المدينة } الذين يرجفون اى يخوضون فى اخبار الفتن ويثيرون الفتن بين الناس { لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيهآ إلا قليلا } زمانا او جوارا قليلا، او هو مستثنى من الفاعل.
[33.61]
{ ملعونين } حال من فاعل لا يجاورونك { أينما ثقفوا } حال آخر منه او من مرفوع ملعونين { أخذوا وقتلوا تقتيلا } يعنى ان لم ينتهوا يخرجوا من المدينة بأسوء حال جامعين بين اللعن والطرد من الرحمة فى الدنيا والآخرة وبين التضييق بالقتل والاخذ وبين لعن الناس لهم وبين التضييق عليهم بالقتل اينما ثقفوا.
[33.62-63]
{ سنة الله في الذين خلوا من قبل } من الانبياء (ع) ومرجفى اممهم { ولن تجد لسنة الله تبديلا يسألك الناس عن الساعة } قد مر مرارا ان الساعة فسرت بساعة الموت وهى القيامة الصغرى وبساعة ظهور القائم (ع) وهى ايضا قيامة اخرى اختيارية او اضطرارية وبالقيامة الكبرى وفيهما ايضا يكون ظهور القائم (ع)، ولما كان كل ذلك فى طول الزمان لا فى عرضه ولا يمكن للمحجوبين بحجب الزمان والمكان ادراكها، ولا يعلمها الا من خرج من حدود الزمان والمكان ولحق بالملأ الاعلى وعلم بعلم الله الذى هو عند الله لا عند الخلق امره الله ان يجيبهم بالاجمال، فقال { قل إنما علمها عند الله } وانتم تكونون عند الناس ولا يعلم العلم الذى يكون عند الله الا من كان عند الله وعلم بعلم الله { وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا } يعنى ان الساعة وان كانت فى طول الزمان والمتقيدون بالزمان متباعدون منها غاية البعد لكنها قريبة منهم غاية القرب لانها بمنزلة الروح للزمان والزمانيات وروح الشيء اقرب من كل شيء اليه.
[33.64-66]
{ إن الله لعن الكافرين } كان المناسب ههنا ان يكون المراد بالكافرين الكافرين بالساعة { وأعد لهم سعيرا خالدين فيهآ أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا يوم تقلب } متعلق بقوله لا يجدون او بيقولون { وجوههم في النار يقولون يليتنآ أطعنا الله وأطعنا الرسولا } فى حق على (ع).
[33.67]
{ وقالوا ربنآ إنآ أطعنا سادتنا } وقرئ ساداتنا على جمع الجمع { وكبرآءنا فأضلونا السبيلا } قرئ الرسول والسبيل بالالف للوقف على الفتح بالالف واجراء الوصل على حال الوقف.
[33.68]
{ ربنآ آتهم ضعفين من العذاب } لضلالهم واضلالهم ايانا { والعنهم لعنا كبيرا } وقرئ كثيرا بالثناء المثلثة، القمى كناية عن الذين غصبوا آل محمد (ص) حقهم يا ليتنا اطعنا الله واطعنا الرسولا يعنى فى امير المؤمنين (ع) والسادة والكبراء هما اول من بدأ بظلمهم وغصبهم فأضلونا السبيلا اى طريق الجنة والسبيل امير المؤمنين (ع).
[33.69]
{ يأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا } فى حقه وآذوه، وكان مناسب المقام من حمل الآيات فى ايذاء الرسول وايذاء المؤمنين على ايذائه فى على (ع) وايذاء على (ع) وفاطمة (ع) ان يكون المعنى لا تكونوا فى ايذاء الرسول او فى ايذاء على (ع) كالذين آذوا موسى { وكان عند الله وجيها } وذلك ان موسى كان حييا لا يغتسل الا فى موضع لا يراه احد فقال بعض إنه عنين وقال بعض: انه ليس له ما للرجال، وقال بعض: ان به عيبا اما برص او ادرة فذهب مرة يغتسل ووضع ثوبه على حجر فمر الحجر بثوبه فطلبه موسى (ع) فرآه بنو اسرائيل عريانا كأحسن الرجال فبرأه الله مما قالوا.
[33.70]
لما نهى المؤمنين عن ايذاء الرسول (ص) بنسبة ما لا يليق به اليه من انه يريد ان يجعل ابن عمه اميرا علينا، او ليس ما يقوله فى حق على (ع) من الله تعالى او امثال ذلك اراد ان يأمرهم بان يقولوا قولا صدقا لا شوب بطلان فيه ولا يتولد منه شين على القائل او المقول فيه او احد من المؤمنين ولا يكون فيه اذى احد من المؤمنين.
[33.71]
{ يصلح لكم أعمالكم } التى تعملونها ان كان فيها خلل وفساد يعنى ان اللسان رئيس سائر الاعضاء فان صلح وصلح ما يجرى عليه يصلح الله جميع اعمال الاعضاء { ويغفر لكم ذنوبكم } عن الصادق (ع) انه قال لعباد بن كثير الصوفى البصرى: ويحك، يا عباد غرك ان عف بطنك وفرجك؟! ان الله عز وجل يقول فى كتابه: يا ايها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم اعمالكم، اعلم، انه لا يقبل الله منك شيئا حتى تقول قولا عدلا، وهذا الخبر يدل على ان اهل العلم والعرفان اذا لم يكونوا مجازين فى القول لا ينبغى ان يقولوا حقا فان اصل سداد القول بان يكون باذن من الله، ولا سيما اذا كان فيما يتعلق بدين الله، واذا اجيزوا لا ينبغى ان يقولوا الا ما علموه وعرفوه انه حق، فالويل كل الويل لمن تشبه باهل الحق من الصوفية والعلماء! فيجرى على لسانه كل ما خطر على قلبه من غير اذن واجازة من الله فى القول { ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما } يعنى من يطع الله ورسوله فى ولاية على (ع) كما فى الاخبار.
[33.72]
المراد بالامانة كما اشير اليه فى سورتى النساء والمؤمنون وغيرهما وفى هذه السورة قبيل هذا اللطيفة السيارة الانسانية التى لم يكن فى خزانة الحق تعالى شأنه جوهر ابهى وامثل منها، فأخرجها من خزانته الغيبية وعرضها على سماوات العقول والنفوس وسماوات الافلاك الطبيعية بان امرها عليها ثم عرضها على اراضى العناصر ثم على جبال المواليد فأبى الكل من حملها لما لم يكن لها بأهل، لان هذه الجوهرة بذاتها كانت تقتضى محلا مأمنا عليه حفاظ كثيرة لكثرة سراقها وحسادها ومستعدا للخروج من التقيد والحدود والوصول الى عالم الاطلاق، وكل تلك المذكورات اما لم يكن مستعدا للخروج من الحدود او لم يكن مستعدا اولا مأمنا ولا عليه حفاظ، فأشفق كل منها عليها ومن فنائها وهلاكها وتضرع على الله ان يعفيه منها، ثم عرضها على المولود الاخير وغاية الكل ونهاية الجميع فوجده اهلا لحمله، ونظر الانسان الى استعداده وقوة الخروج عن الحدود فاشتاق اليها وتقبلها وسأل الحفاظ والمعاونين من سنخ الجنة والشياطين وسأل الحفاظ من سنخ الاناسى فأعطاه الله ذلك، وبهذا البيان للامانة يجتمع المختلفات من الاخبار ويتوافق المتخالفات منها ؛ فقد فسرت فيها بمطلق التكليف، وبالصلوة، وبالامامة والامارة، وبالخلافة، وبمنزلة محمد (ص) وآل محمد، وبتمنى منزلتهم، وبمطلق الامانة، وبولاية على بن ابى طالب (ع)، وبشهادة حسين بن على (ع)، وبالخلافة المغصوبة، وباختلاف التفاسير فى الامانة يختلف تفسير الانسان بعلى (ع) وحسين (ع) وآدم (ع) وغاصبى الخلافة ومطلق الانسان وهكذا الظلوم والجهول، فمن اراد الاطلاع على اختلاف الاخبار فليرجع الى كتب التفاسير والاخبار.
[33.73]
{ ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات } تعليل لعرض الامانة او لحملها الانسان كما ان قوله: انا عرضنا الامانة كان تعليلا لقوله اتقوا الله وقولوا قولا سديدا او لقوله يصلح لكم ويغفر ذنوبكم كأنه قال: اتقوا سخط الله وعذابه لانا لم نعرض الامانة على السماوات والارض الا لتميز المنافق والمشرك عن المؤمن والا لعذاب المنافق وثواب المؤمن او يصلح لكم اعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم لانا لم نعرض الامانة الا لذلك، وتقديم عذاب المنافق ونسبة العذاب الى الله لكون السورة نازلة فى تفضيح المنافقين ولذلك كان اول السورة نهيا لمحمد (ص) عن طاعة المنافقين، ونقل عنهم ان سورة الاحزاب فضحت نساء قريش من العرب وكانت اطول من سورة البقرة ولكن نقصوها وحرفوها فادى تعالى شأنه عذاب المنافقين كأنه هو الغاية، ونسب العذاب الى نفسه لذلك، ولان يختم السورة بثواب المؤمنين ورحمتهم { ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما } فالغاية بالذات ليست الا مغفرة الله ورحمته للمؤمنين فهو استدراك لما يتوهم من كون الغاية بالذات هو عذاب المنافقين او عذابهم ورحمة المؤمنين.
[34 - سورة سبإ]
[34.1]
{ الحمد لله } قد مضى تفسيره فى اول الحمد { الذي له ما في السماوات } اى سماوات الارواح وسماوات الافلاك { وما في الأرض } اى ارض عالمى المثال وعالم الطبع فان الكل بالنسبة الى الارواح اراض وارض العنصر وقد تكرر ان اللام فى مثل هذا تستعمل فى المبدئية والمرجعية والمالكية وتكرر ايضا انه اذا قيل: لزيد ما فى الصندوق، يدل على ان الصندوق وما فيه له خصوصا اذا كان ما فى الصندوق نفيسا { وله الحمد في الآخرة } اى يخصه الحمد فى الدار الآخرة او يخصه فى آخرة مراتب الحمد فانه يتراءى ان يكون غيره محمودا ايضا ما دام الانسان فى الدنيا او فى مراتب الحمد وبعد النظر الدقيق وفى دار الآخرة التى يتراءى كل شيء كما هو يعلم ان الحمد خاص به { وهو الحكيم } فى فعاله او فى فعاله وعلومه { الخبير } بكل شيء مع اتقان العمل والدقة فى العلم.
[34.2]
{ يعلم ما يلج في الأرض } اى ما يدخل فى ارض عالم المثال العلوى من اشعة العقول والنفوس، ومن صور علوم العقول والنفوس، ومن الافاضات اللاتى تفيض عليها من العالم المثال العلوى التى بها بقاؤها ورزقها، والتى تفيض عنها الى ما دونها من عالم الطبع وعالم الجنة ويعلم ما يلج فى الارض التى هى جملة عالم الطبع من اشعة العقول والنفوس وعالم المثال، ومما يفيض عليها مما به بقاؤها ورزقها، ومن الصور التى تفيض على اجرامها، ومن الوجود الذى يتجدد على جملة اجزائها آنا فآنا ويعلم ما يلج فى الارض العنصرية من اشعة العقول والنفوس وعالم المثال واشعة كواكب الافلاك وصور المواليد والقوى والاستعدادات التى تدخل فيها بعد امتزاجها بسائر العناصر وتولد المواليد منها وهكذا الاستعدادات التى تدخل فى جملة المواليد ويعلم المياه التى تدخل فيها من البحار والانهار والامطار وما يستحيل من الهواء اليها ومن الاجزاء الرشية الهوائية التى تدخل فى تجاويفها، ومن الحبوب والعروق التى تدخل فيها، ويعلم ما يلج فى الارض التى هى عالم الجنة من القوى والاستعدادات، ومن الاناسى الذين يدخلون فى عالمهم من الاشقياء الذين يصيرون من سنخهم، ومما يفيض عليها من العلويين ومن القوى والاستعدادات التى تتولد فيها من تأثير العلويين، ويعلم ما يلج فى عالم البرزخ المسمى بهور قوليا فى لسان الاقدمين فانه مدينة لها الف الف باب، وفى النزول يدخل فيها كل يوم من ابوابها المشرقية ما لا يحصى عددهم من الملائكة النازلة، ويدخل فيها من تلك الابواب ما لا يحصى مما يفيض على ما دونها من عالم الطبع وعالم الجنة، وفى الصعود يدخل فيها كل يوم بل كل آن ما لا يحصى عددهم من الملائكة الصاعدين والنفوس البشرية المنخلعة عن الابدان الصاعدة الى المثال العلوى وعالم الارواح، او النازلة الى عالم الجنة والجحيم { وما يخرج منها } يمكن ان يعلم ذلك بالمقايسة { وما ينزل من السمآء وما يعرج فيها وهو الرحيم } الذى يرحم عباده وخلقه بان لا يقطع مدد حيوتهم ورزقهم منهم مع ما يرى منهم من قبائح اعمالهم ومع ما يعرج منهم الى السماوات من الاعمال السيئة التى ينبغى ان يعذبوا عليها { الغفور } الذى يستر قبائح اعمالهم عن الاناسى والملائكة بل عن انفسهم.
[34.3]
{ وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة } اى القيامة او ظهور القائم او الرجعة انكروها واستبطأوها استهزاء { قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين } قد مضى فى سورة يونس (ع) تفسير الآية وقدم الارض هناك واخرها ههنا، ووجه تقديم السماوات ظاهر، ووجه تقديم الارض مضى هناك.
[34.4]
لا تعب فيه ولا تبعة له، تقديم جزاء المؤمنين ونسبة الفعل الى الله اشعار بان الغاية جزاء المؤمنين وانه غاية بالذات منسوبة الى الله بالذات ولذلك غير الاسلوب ولم يقل وليجزى الذين سعوا فى آيات الله وقال { والذين سعوا في آياتنا... }.
[34.5]
{ والذين سعوا في آياتنا } الآفاقية من الانبياء والاولياء عليهم السلام بالاستهزاء بهم وتوهينهم وايذائهم وضربهم وقتلهم واخفاء احوالهم واخلاقهم وسننهم عن الناس وتلبيس احكامهم وآياتنا الآفاقية الاخر باخفائها عن الناس وعن انفسهم وآياتنا التدوينية باخفائها وتحريفها وتأويلها الى ما يوافق باطلهم { معاجزين } الناس عن اعلان حقهم واظهار آية حقهم او معاجزين المدعين لدلالة الآيات على الحق عن ادعائهم او معاجزين الله وخلفاءه، وقرئ معجزين بمعنى مثبطين عن الايمان وعن النظر الى دلالة الآية على الحق { أولئك لهم عذاب من رجز أليم } تنوين عذاب للتفخيم والتهويل، والرجز مطلق العذاب وحينئذ يكون من للتبعيض، او بيانية ويكون تنكيره للتفخيم، او المراد منه عبادة الاوثان ويكون من للتعليل او للابتداء، او المراد منه الشرك ويكون التنكير للتفخيم والتنويع ولفظة من كسابقها، والمراد بالشرك العظيم هو الشرك بالولاية، او المراد منه القذر ويكون لفظة من كسابقها واليم قرئ بالرفع صفة لعذاب وبالجر صفة لرجز.
[34.6]
{ ويرى الذين أوتوا العلم } يرى بمعنى يعتقد او يعلم والمراد بالعلم الذى اوتوه هو النور الذى يقذفه الله فى قلب من يشاء ولذلك قال تعالى: اوتوا العلم ولم يقل كسبوا العلم واولى درجات هذا العلم هو النور الذى يجعل الانسان متحيرا فى امره لا يدرى ما يقول ولا يفعل فيسكت عن الكلام ويتحير فى طلب اصله كيف يطلب، ولذلك
" قال (ص) حين سئل عن العلم: انه الانصات "
{ الذي أنزل إليك من ربك هو الحق } قرئ الحق منصوبا وعليه فالذى انزل اليك مفعول اول ليرى وهو ضمير الفصل والحق مفعوله الثانى وقرئ الحق مرفوعا وعليه يجوز ان يكون الذى انزل اليك صفة للعلم ومفعول يرى محذوفا وجملة هو الحق مستأنفة، ويجوز ان يكون الموصول مفعولا ليرى ويكون يرى متعديا لواحد، او المفعول الثانى محذوفا وهو الحق جملة مستأنفة، ويجوز ان ان يكون الموصول مفعولا اولا وجملة هو الحق مفعولا ثانيا والمراد بالذى انزل اليه (ص) جملة ما انزل اليه او المعهود مما انزل اليه فى ولاية على (ع) والمراد بالذين اوتوا العلم على (ع) او جملة المؤمنين { ويهدي إلى صراط العزيز الحميد } عطف على جملة هو الحق او عطف على جملة يرى الذين اوتوا العلم ويكون حينئذ ضمير الفاعل راجعا الى البعض المستفاد من الذين اوتوا العلم يعنى يهدى كل بعض منهم بوجوده وفعله وقوله وخلقه وحاله كعلى (ع) وبعض المؤمنين او ببعضها كبعض آخر منهم.
[34.7]
{ وقال الذين كفروا } هذه الجملة مقابلة لقوله تعالى ويرى الذين اوتوا العلم وهما معطوفتان وفيهما معنى التعليل وكان المناسب للمقابلة ان يقول ويقول الذين كفروا لكنه للاشعار بثبات اقوال المؤمنين وافعالهم واستمرارها اتى هناك بالمضارع وللدلالة على عدم ثبات اقوال الكافرين وافعالهم فانها كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الارض اتى بالماضى ههنا { هل ندلكم على رجل ينبئكم } بامر عجيب كانوا يعنون النبى (ص) ويستهزؤن به { إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد } بالبعث بعد الموت.
[34.8]
{ أفترى على الله كذبا } فى نسبة ذلك الى الله او فى ادعاء الرسالة من الله { أم به جنة } اى جنون لا يقول ما يقول عن قصد وشعور { بل الذين لا يؤمنون بالآخرة } وضع الظاهر موضع المضمر اشعارا بعلة الحكم { في العذاب } الذى جعلهم كالمجنون فى عدم الاعتناء بقولهم { والضلال البعيد } نسبة البعد الى الضلال مجاز عقلى يعنى انهم مفترون وانهم كالمجنون لا الرسول.
[34.9]
{ أفلم يروا } اى الم ينظروا او عموا فلم يروا؟ { إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السمآء والأرض } سماء الارواح وارض الاشباح فان الانسان من اول الخلقة متوجه الى عالم الآخرة وعالم الارواح ومدبر عن عالم الاشباح، وايضا ارض الطبع تحت قدميه فهى كشيء خلفه وسماء الطبع فوق رأسه فهى بما بين يديه اشبه او لفظة من تبعيضية والمعنى الم ينظروا الى ما بين ايديهم؟ حال كونه بعضا من السماء وبعضا من الارض، او ابتدائية والمعنى الم يروا الى ما بين ايديهم من الحوادث الماضية؟ حالكونه ناشئا من حركات السماء وتأثرات الارض او من الحوادث الآتية؟ على اختلاف تفسير ما بين ايديهم وما خلفهم والانسان ان نظر الى سماء الطبع وما فيها من الكواكب وما منها من الآثار الحادثة فى الارض ونظر الى ارض الطبع وما يحدث فيها بواسطة اشعة الكواكب ودوران الافلاك ايقن ان له مبدء حكيما ومرجعا باقيا، وكذلك ان نظر الى نفسه وبدنه واتصالهما وتعانقهما وتعاشقهما، ونظر الى انحلال البدن واستكمال النفس بكمالاتها اللائقة بها ايقن بفناء البدن وبقاء النفس وان لهما محدثا مدبرا حكيما عليما قادرا مختارا { إن نشأ نخسف بهم الأرض } الجملة بدل عن قوله الى ما بين ايديهم نحو بدل الاشتمال فيكون العامل معلقا عنه والمعنى الم يروا الى السماء والارض والى انا ان نشأن نخسف بهم الارض { أو نسقط عليهم كسفا من السمآء } او الجملة مستأنفة معترضة { إن في ذلك } النظر والفكر او فى ما بين ايديهم وما خلفهم من السماء والارض او فى قدرتنا على خسف الارض واسقاط الكسف من السماء { لآية } دالة على المبدء والمعاد { لكل عبد منيب } الى باطنه مشتغل بنفسه عن غير نفسه او منيب الى ربه بالرجوع الى ولى امره او الى ولى امره بالتوبة على يده والبيعة معه.
[34.10]
{ ولقد آتينا داوود منا فضلا } جملة حالية او معطوفة على مقدر والمعنى، لم لا ينظرون الى ما بين ايديهم؟ او الى ما خلفهم من الحوادث الماضية؟ حتى ايقنوا بالمبدء العليم الحكيم، والحال انا آتينا داود منا فضلا يدل على ذلك او التقدير لقد احدثنا فى ما مضى آيات عجيبة دالة عل كمال قدرتنا وخبرتنا ولقد آتينا داود منا فضلا { يجبال } حال او مستأنف بدل تفصيلى من آتينا والكل بتقدير القول اى قلنا يا جبال { أوبي } رجعى نداءه بالتسبيح بصدائك { معه والطير } قرئ بالرفع عطفا على الجبال او على المستتر فى اوبى واكتفى عن التأكيد بالمنفصل بفاصل ما، وقرئ بالنصب عطفا على محل جبال او على الضمير المجرور على ضعف فى العطف على الضمير المجرور بدون اعادة الجار، او مفعولا معه، وقد مضى الآية مع بيانها فى سورة الانبياء { وألنا له الحديد } مثل الشمعة يطيعه فى اى شكل اراد.
[34.11-12]
{ أن اعمل } ان تفسيرية او مصدرية { سابغات } دروعا واسعات واكتفى بالسابغات لشهرة صنع الدروع من الحديد من داود (ع) { وقدر في السرد } فى خلقها ونسجها ومساميرها بحيث يمكن لبسها وتمنع السيف والسهم والسنان من النفوذ فيها، ولا يكون ثقيلا يعجز اللابس عن حملها، ولا خفيفا لا يمنع المذكورات من النفوذ { واعملوا صالحا } ضم اهله او عشيرته او امته معه فى الخطاب، وتنكير صالحا اما للتحقير والاكتفاء منهم بصالح ما او للتفخيم والاشعار بالصالح الحقيقى الذى هو الولاية { إني بما تعملون بصير ولسليمان } اى ألنا لسليمان (ع) { الريح } بمعنى سخرناها له { غدوها } اى سيرها فى طرف الصبح { شهر ورواحها } اى سيرها فى طرف العصر { شهر } قيل كانت الريح تحمل كرسيه او بساطه فتسير به بالغداة مسيرة شهر وبالعشى مسيرة شهر { وأسلنا له عين القطر } اى الصفر، قيل: اسال له النحاس من معدنه ينبع منه نبوع الماء من الينبوع ولذلك سماه عينا وكان ذلك باليمن { ومن الجن من يعمل بين يديه } اى بين يدى سليمان (ع) { بإذن ربه } الضمير للموصول او لسليمان { ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير } فى الدنيا او فى الآخرة.
[34.13]
{ يعملون له ما يشآء من محاريب } اى قصور رفيعة سميت بها لمنعها من الاستيلاء عليها والقدرة على المحاربة فيها { وتماثيل } اى صور، عن الصادق (ع): والله ما هى تماثيل الرجال والنساء ولكنها الشجر وشبهه { وجفان } جمع الجفنة بمعنى القصعة { كالجواب } جمع الجابية الحوض الضخم { وقدور راسيات } ثابتات على الاثافى لا تنزل عن مكانها لعظمها { اعملوا } اى قائلين اعملوا { آل داوود شكرا وقليل من عبادي الشكور } الكثير الشكر الذى لا يغفل عن النعمة والانعام وتعظيم المنعم وصرفها فى وجهها ومع ذلك لا يمكن لاحد اداء الشكر حقه، لان الشكر نعمة اعظم من كل نعمة يشكر عليها.
[34.14]
{ فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض } اى الارضة وهى بتحريك الراء دويبة معروفة تأكل الخشب وتجعله كالارض وفعلها يسمى ارضا بمعنى اكل الخشب وجعله كالارض لانها تجعل سطح الخشب من الطين الذى تجعله عليه كالارض واضافتها الى الارض اضافة الفاعل الى الفعل او اضافة الفاعل الى ما يجعل المنفعل مثله، ومفعول دلهم راجع الى الجن او الى الانس او الى المجموع { تأكل منسأته } اسم آلة من نسأه اذا طرده او دفعه او ساقه { فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين } روى عن الرضا (ع): ان سليمان بن داود (ع) قال ذات يوم لاصحابه: ان الله تعالى وهب لى ملكا لا ينبغى لاحد من بعدى سخر لى الريح والانس والجن والطير والوحوش وعلمنى منطق الطير وآتانى من كل شيء، ومع جميع ما اوتيت من الملك ما تم لى سرور يوم الى الليل وقد احببت ان ادخل قصرى فى غد فاصعد اعلاه وانظر الى ممالكى ولا تأذنوا لاحد على لئلا يرد على ما ينغص على يومى، قالوا: نعم، فلما كان من الغد اخذ عصاه بيده وصعد الى اعلى موضع من قصره ووقف متكئا على عصاه ينظر الى ممالكه مسرورا بما اوتى فرحا بما اعطى اذ نظر الى شاب حسن الوجه واللباس قد خرج عليه من بعض زوايا قصره فلما بصر به سليمان (ع) قال له: من أدخلك الى هذا القصر؟ وقد اردت ان اخلو فيه اليوم؟ فباذن من دخلت؟- قال الشاب: ادخلنى هذا القصر ربه وباذنه دخلت، فقال: ربه احق به منى: فمن انت؟- قال انا ملك الموت، قال: وفيما جئت؟- قال: جئت لاقبض، قال: امض لما امرت به فهذا يوم سرورى، وابى الله عز وجل ان يكون لى سرور دون لقائه، فقبض ملك الموت روحه وهو متكى على عصاه، فبقى سليمان (ع) متكئا على عصاه وهو ميت ما شاء الله والناس ينظرون اليه وهم يقدرون انه حى فافتتنوا فيه واختلفوا، فمنهم من قال: قد بقى سليمان (ع) متكئا على عصاه هذه الايام الكثيرة ولم يتعب ولم ينم ولم يأكل ولم يشرب، انه لربنا الذى يجب علينا ان نعبده، وقال قوم: ان سليمان (ع) ساحر وانه يرينا انه واقف متكئ على عصاه بسحر اعيننا، وليس كذلك فقال المؤمنون: ان سليمان (ع) هو عبدالله ونبيه يدبر الله امره بما يشاء فلما اختلفوا بعث الله عز وجل الارضة فدبت فى عصاه فلما اكلت جوفها انكسرت العصا وخر سليمان (ع) من قصره على وجهه، فشكرت الجن للارضة صنيعها فلاجل ذلك لا توجد الارضة فى مكان الا وعندها ماء وطين وذلك قول الله عز وجل: فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته الا دابة الارض تأكل منسأته يعنى عصاه فلما خر تبينت الجن ان لو كانوا (الآية) ثم قال الصادق (ع)، والله ما نزلت هذه الآية هكذا وانما نزلت فلما خر تبينت الانس ان الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا فى العذاب المهين، وعن النبى (ص):
" عاش سليمان بن داود سبعمائة سنة واثنتى عشرة سنة ".
[34.15]
{ لقد كان } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: هذا المذكور من حوادث السماء والارض الدالة على علمه تعالى وقدرته وحكمته كان من نعم الله تعالى وانعامه فهل وقع من نقمه ما يدل على ذلك؟- فقال تعالى: لقد كان { لسبإ } لاولاد سبأ بن يشحب بن يعرب بن قحطان،
" عن النبى (ص) انه سئل عن سبأ أرجل هو ام امرأة؟- فقال: هو رجل من العرب ولد عشرة تيامن منهم ستة وتشاءم منهم اربعة فاما الذين تيامنوا فالازد وكندة ومذحج والاشعرون وانمار وحمير، قيل: ما انمار؟- قال: ألذين منهم خثعم وبجيلة، واما الذين تشاءموا فعاملة وجزام ولخم وغسان "
{ في مسكنهم } وقرئ فى مساكنهم وهو موضع سكناهم، قيل: كان باليمن ويقال له مأرب بينه وبين صنعاء مسيرة ثلاث { آية } دالة على قدرة الحق وعنايته بخلقه وثوابه وعقابه فى الدنيا والآخرة { جنتان } جماعتان من البساتين { عن يمين وشمال } لبلدهم فى مسيرة عشرة ايام كل واحدة كأنها بستان واحد لتضامها والتفافها مقولا فيهم { كلوا } او هو مستأنف بتقدير القول كأنه قيل: ما قيل لهم؟- او ما قلت يا رب لهم؟- فقال: قيل او قلنا: كلوا { من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة } هذه ايضا مستأنفة فى مقام التعليل اى هذه بلدة طيبة { ورب غفور } وقرئ الكلمات الاربع بالنصب على الحالية او على المدح.
[34.16]
{ فأعرضوا } عن الشكر بل ملوا عن النعمة كما سيأتى { فأرسلنا عليهم سيل العرم } قد فسر العرم بالسد الذى يبنى فى الاودية وهو جمع بلا واحد او واحده العرمة، وبالجرز الذكر الذى خرب سدهم، وبالمطر الشديد، وبواد كان السد فيه، قيل: ان بحرا كان فى اليمن وكان سليمان (ع) امر جنوده ان يجروا لهم خليجا من البحر العذب الى بلاد الهند ففعلوا ذلك وعقدوا له عقدة عظيمة من الصخرة والكلس حتى يفيض على بلادهم وجعلوا للخليج مجارى فكانوا اذا ارادوا ان يرسلوا منه الماء ارسلوه بقدر ما يحتاجون اليه، وكانت لهم جنتان عن يمين وشمال عن مسيرة عشرة ايام فيها يمر المار لا يقع عليه الشمس من التفافها، فلما عملوا بالمعاصى وعتوا عن امر ربهم ونهاهم الصالحون فلم ينتهوا بعث الله عز وجل على ذلك السد الجرز وهى الفأرة الكبيرة فكان تقلع الصخرة التى لا تستقلها الرجال وترمى بها فلما رأى ذلك قوم منهم هربوا وتركوا البلاد فما زال الجرز تقلع الحجر حتى خربت ذلك فلم يشعروا حتى غشيهم السيل وخرب بلادهم وقلع اشجارهم { وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط } مر بشع قيل المراد به ام غيلان { وأثل وشيء من سدر قليل } لما كان ثمر السدر مما يؤكل وصفه بالقلة وسمى بدل الجنتين بالجنتين للتهكم.
[34.17]
{ ذلك جزيناهم بما كفروا } فتنبهوا يا امة محمد (ص) ولا تكفروا نعمة النبوة والولاية اللتين هما كبستانين حافتين ليمينكم وشمالكم ولا تكفروا نعمة صفحتى النفس العمالة والعلامة ولا تكفروا نعمة الاسلام الحاصل بالبيعة العامة النبوية، والايمان الحاصل بالبيعة الخاصة الولوية، ولا تكفروا نعمة احكام الشريعة القالبية، ولا نعمة آثار الطريقة القلبية { وهل نجزي إلا الكفور } قرئ نجازى بالنون والكفور بالنصب، ويجازى بالياء مبنيا للمفعول والكفور بالرفع.
[34.18]
{ وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها } اى بلاد الشام وقيل مكة { قرى ظاهرة } يعنى متواصلة يظهر بعضها لبعض لقربها واتصالها { وقدرنا فيها السير } بحيث ينتقل كل من الغادى والرائح من قرية الى قرية اخرى من غير تعب فى السير { سيروا فيها } حال بتقدير القول او مستأنف جواب لسؤال مقدر بتقدير القول { ليالي وأياما } الى الشام او الى مكة { آمنين } من الجوع والعطش ومن السراق وقطاع الطريق.
[34.19]
{ فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا } بلسان الحال حيث عملوا بالمعاصى وكفروا النعمة او بلسان القال والحال جميعا بان اظهروا الملال من النعمة والعافية وسألوا بعد المسافة فى الاسفار ليتطاولوا فيها بحمل الزاد وما يحتاج اليه فى الاسفار على الفقراء، وقرئ ربنا بالنصب وبعد بصيغة الامر من التفعيل وبعد بصيغة الماضى من الثلاثى المجرد، وربنا بالرفع وباعد بصيغة الماضى من المفاعلة، والقراءة المشهورة ربنا بالنصب وباعد من المفاعلة بصيغة الامر، واذا كان بصيغة الخبر كان مقصودهم عدم الاعتداد بالنعمة وطلبا للمزيد مع الكفران { وظلموا أنفسهم } بكفران النعمة { فجعلناهم أحاديث } جمع الحديث على الشذوذ، او جمع الاحداث جمع الحدث، او جمع الاحدوثة بمعنى الامر الغريب يعنى جعلناهم بحسب حالهم ومآلهم من غرائب الدهر بحيث يتحدث الناس بهم وبحالهم { ومزقناهم كل ممزق } فرقناهم كل تفريق حتى لحق كل ببلد، قيل: لحق غسان منهم بالشام، وانمار بيثرب، وجزام بتهامة والأزد بعمان { إن في ذلك لآيات } دالة على قدرتنا على الخسف واسقاط الكسف وعلى علمنا وحكمتنا وتدبيرنا لامور عبادنا، وجزاء كل منهم بحسب حاله، وعلى انا نجزى الشكور بالمزيد والكفور بسلب النعمة { لكل صبار } عن المعاصى وعلى الطاعات وعلى المصائب فان غير الصبار لكونه اسيرا للشهوات والغضبات وموردا للبلايا لا يكون له فراغ حتى يتأمل فى ذلك ويستدل بها على شيء آخر { شكور } ناظر فى النعمة الى الانعام والى المنعم واما الغافل عن المنعم والانعام فلا يدرك من النعمة وزوالها وتغيرها تصرف المنعم فيها حتى يستدل من النعمة وتبدلالتها على صفات المنعم وعلمه وحكمته وقدرته.
اعلم، ان الآيات القرآنية العظمى الآفاقية من الانبياء والاولياء (ع) لها ظواهر وبواطن الى سبعة ابطن الى سبعين الى سبعين الف بطن الى ما شاء الله، ولها تنزيل وتأويل ولتأويلها تأويل الى سبعة الى ما شاء الله، وتنزيل هذه الآية قد ذكر، وقد ورد عن الصادق (ع) فى تنزيلها انه قال: هؤلاء قوم كانت لهم قرى متصلة ينظر بعضهم الى بعض وانهار جارية واموال ظاهرة فكفروا نعم الله عز وجل وغيروا ما بانفسهم من عافية الله، فغير الله ما بهم من نعمة و
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم
[الرعد:11]، فأرسل الله عليهم سيل العرم ففرق قراهم وخرب ديارهم وذهب بأموالهم وابدلهم مكان جنتيهم جنتين ذواتى اكل خمط واثل وشيء من سدر قليل وتأويلها بحسب الصغير والكبير كثير؛ فان النفس الحيوانية بعد تجلى العقل عليها بالنفس الانسانية يجعل الله بينها وبين القرى المباركة التى هى العقول والارواح قرى ظاهرة من مراتب النفس الانسانية ومراتب القلب فتسأل بلسان حالها بالتولى عن تلك القرى والتوغل فى المشتهيات الحيوانية بعد السفر بينها وبين القرى، او تستبعد بتوغلها فى تلك المشتهيات السفر الى تلك القرى فتثبط الى الارض الحيوانية وتتوحش من السفر اليها، وايضا افراد الانسان بعد البلوغ واستكمال النفس الحيوانية بالنفس الانسانية يجعل الله بينهم وبين القرى المباركة الذين هم مشايخ الائمة (ع) قرى ظاهرة هى شيعتهم ورواة احاديثهم ونقلة اخبارهم فيتولون عنهم ويسألون بلسان حالهم بعد الاسفار والمشقة والاخطار، او يجعل الله بينهم وبين القرى المباركة الذين هم الائمة (ع) قرى ظاهرة هم مشايخ الائمة (ع) الذين نصبهم الائمة (ع) لهداية الخلق واخذ العهد منهم بالبيعة على ايديهم والتوبة عندهم وعلى ايديهم او افراد الانسان بعد الاسلام والبيعة العامة وقبول الدعوة الظاهرة يجعل الله بينهم وبين القرى المباركة الذين هم مشايخ الائمة (ع) او هم الائمة (ع) قرى ظاهرة، او افراد الانسان بعد الايمان والبيعة الخاصة الولوية وقبول الدعوة الباطنة يجعل الله بينهم وبين القرى المباركة الذين هم الائمة (ع) مشايخ وناقلين لاخبارهم، او يجعل الله بينهم وبين القرى المباركة الذين هم الائمة بنورانيتهم وظهور ملكوتهم على نفوس بايعيهم قرى ظاهرة من مراتب ذكرهم وفكرهم، او من مراتب نفوسهم الى مراتب قلوبهم التى فيها يظهر ائمتهم بنورانيتهم، او افراد الانسان بعدما يظهر عليهم ائمتهم بنورانيتهم يجعل الله لهم قرى ظاهرة هى مراتب نورانية ائمتهم بينهم وبين مقام ولاية ائمتهم فيمزق كل هؤلاء، كما يشاهد من الناس غير المؤمنين بالبيعة الخاصة الثابتين على ايمانهم المسافرين على القرى الظاهرة من تفرقهم كل التفرق بحسب المقصد والمذهب والارادة والمشتهى بحيث يلعن بعضهم بعضا ويبغض ويكفر بعضهم بعضا قلما يتفق منهم اثنان، وان اتفق اتفاقهم بالنسبة الى بعض المؤمنين كان اتفاقهم كاتفاق الكلاب الواقعة على الجيف من حيث انها يبغض كل للآخر ويعقر كل للآخر، واذا رأت انسانا من بعيد انه متأذ من جيفتها تتفق فى الحمل عليه ونهشه وقتله، اعاذنا الله من غضبه وكفران نعمه.
وقد ورد عن الباقر (ع) انه قال: بل فينا ضرب الله الامثال فى القرآن فنحن القرى التى بارك الله فيها وذلك قول الله عز وجل فيمن اقر بفضلنا حيث امرهم ان يأتونا فقال: وجعلنا بينهم وبين القرى التى باركنا فيها، اى جعلنا بينهم وبين شيعتهم القرى التى باركنا فيها قرى ظاهرة، والقرى الظاهرة الرسل والنقلة عنا الى شيعتنا وفقهاء شيعتنا وقوله سبحانه: وقدرنا فيها السير فالسير مثل للعلم سير به فيها ليالى واياما مثل ما يسير من العلم فى الليالى والايام عنا اليهم فى الحلال والحرام والفرائض والاحكام آمنين فيها اذا أخذوا عن معدنها الذى امروا ان يأخذوا منه آمنين من الشك والضلال والنقلة من الحرام الى الحلال، والاخبار فى هذا المعنى واردة منهم كثيرا.
[34.20-21]
{ ولقد صدق عليهم إبليس ظنه } الذى اظهره عند قوله لاغوينهم اجمعين وعند قوله لاضلنهم ولامنينهم (الآية).
اعلم، ان تنزيل هذه الآية فى اهل سبا لكن تأويلها فى منافقى امة محمد (ص) فانه ورد عن ابى جعفر (ع) انه قال: لما اخذ رسول الله (ص) بيد على (ع) يوم الغدير صرخ ابليس فى جنوده صرخة لم يبق منهم احد فى بر ولا بحر الا اتاه فقالوا: يا سيدنا ومولينا، ماذا دهاك؟ فما سمعنا لك صرخة اوحش من صرختك هذه؟- فقال لهم: فعل هذا النبى فعلا ان تم لم يعص الله ابدا، فقالوا: يا سيدنا ان كنت لآدم، فلما قال المنافقون ينطق عن الهوى، وقال احدهما لصاحبه: اما ترى عينيه تدوران فى رأسه كأنه مجنون، يعنون رسول الله (ص) صرخ ابليس صرخة بطرب فجمع اولياءه فقال: اما علمتم انى كنت لآدم من قبل؟- قالوا، نعم، قال: نعم نقض العهد ولم يكفر بالرب وهؤلاء نقضوا العهد وكفروا بالرسول (ص)، فلما قبض رسول الله (ص) واقام الناس غير على (ع ) لبس تاج الملك ونصب منبرا وقعد فى الزينة وجمع خيله ورجله ثم قال لهم: اطربوا لا يطاع الله حتى يقام امام، وتلا ابو جعفر (ع): ولقد صدق عليهم ابليس ظنه (الى آخر الحديث) وبهذا المضمون مع اختلاف فى اللفظ اخبار كثيرة { فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين وما كان له عليهم من سلطان } دفع لما يتوهم من استقلال ابليس فى تصرفه كما توهمته الابليسية والثنوية يعنى ان سلطانه عليهم ليس الا باذننا وتسليطنا على من شئنا تسليطه عليه وليس هذا التسليط { إلا لنعلم } اى ليظهر علمنا او ليظهر متعلق علمنا { من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك } او لنعلم فى مقام المعلوم من يؤمن بالآخرة متميزا ممن هو منها فى شك { وربك على كل شيء حفيظ } دفع لما توهم من قوله لنعلم من حصول العلم له بعدما لم يكن يعنى لا حاجة لربك الى هذا الامتحان فانه على كل شيء حفيظ فيعلم كل شيء بجميع صفاته وآثاره فتسليط الشيطان ليس الا لظهور معلومه عليكم.
[34.22]
{ قل ادعوا الذين زعمتم } شركاء لله { من دون الله } من دون اذن الله او حال كونهم عبادة من غير الله يعنى قل ادعوهم فى حوائجكم { لا يملكون } حال او مستأنفة جواب لسؤال مقدر { مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض } فلا يملكون ولا يقدرون على جلب نفع لكم ولا على دفع ضر { وما لهم فيهما من شرك } فى شيء منهما ولا فى شيء مما فيهما يعنى لا يملكون شيئا فيهما لا بالاستقلال ولا بالشراكة فهو بمنزلة الاضراب والتنزل من الصفة العليا الى الدنيا { وما له منهم من ظهير } اضراب من العليا الى الدنيا ايضا كأنه قال بل لا مدخلية لهم فيهما بنحو المظاهرة لله.
[34.23]
{ ولا تنفع الشفاعة } اضراب آخر كأنه قال: بل ليس لهم شافعية او مشفوعية عنده لأنه لا تنفع الشفاعة { عنده إلا لمن أذن له } فى الشافعية او فى المشفوعية ولم يأذن لهم فى الشافعية او فى المشفوعية، وقد سبق فى مطاوى ما اسلفنا ان الامامات وبيان الاحكام للانام والقضاوات والامر بالمعروف والنهى عن المنكر واجراء التوبة واخذ الصدقات واخذ البيعة من العباد لله والرياسات الدينية كلها نحو شفاعة عند الله وليس شيء منها جائزا و مباحا الا لمن اذن الله له بلا واسطة كالانبياء (ع) او بواسطة كالاوصياء (ع) فالويل! ثم الويل! لمن نصب نفسه علما للناس وتصدى المحاكمات او الفتاوى او الامامة او اخذ الصدقات او اخذ البيعة من العباد من غير اذن واجازة من الله فانه مفتر على الله
ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا
[الأنعام:93]. نسب الى القمى انه قال: لا يشفع احد من انبياء الله واولياء الله (ع) ورسله (ع) يوم القيامة حتى يأذن الله له الا رسول الله (ص) فان الله عز وجل قد اذن له فى الشفاعة من قبل يوم القيامة والشفاعة له وللائمة (ع) ثم بعد ذلك للانبياء، وعن الباقر (ع) فى حديث: ما من احد من الاولين والآخرين الا وهو محتاج الى شفاعة رسول الله (ص) يوم القيامة ثم قال: ان لرسول الله (ص) الشفاعة فى امته ولنا الشفاعة فى شيعتنا، ولشيعتنا الشفاعة فى اهاليهم، وان المؤمن ليشفع فى مثل ربيعة ومضر، وان المؤمن ليشفع حتى خادمه يقول: يا رب حق خدمتى كان يقينى الحر والبرد { حتى إذا فزع } غاية لمحذوف تقديره فالخلق فى الحيرة والوحشة حتى اذا فزع { عن قلوبهم قالوا } اى بعضهم لبعض او قالوا للملائكة او للشافعين { ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير } وفى خبر عن الباقر (ع) وذلك ان اهل السماوات لم يسمعوا وحيا فيما بين ان بعث عيسى بن مريم (ع) الى ان بعث محمد (ص) فلما بعث الله جبرئيل (ع) الى محمد (ص) سمع اهل السماوات صوت وحى القرآن كوقع الحديد على الصفا فصعق اهل السماوات فلما فرغ من الوحى انحدر جبرئيل (ع) كلما مر باهل سماء فزع عن قلوبهم يقول كشف عن قلوبهم فقال بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم؟- قالوا الحق وهو العلى الكبير، وعلى هذا فالتقدير استمع جبرئيل الوحى وصعق الملائكة من سماعه فانحدر جبرئيل حتى اذا مر باهل السماوات وفزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟.
[34.24]
{ قل } يا محمد الزاما لهم على الاقرار بالمبدء الخالق الرازق { من يرزقكم من السماوات والأرض } بتهية الاسباب السماوية والارضية لارزاقكم الانسانية والحيوانية والنباتية او من السماوات بالرزق الانسانى ومن الارض بالرزق النباتى والحيوانى { قل الله } اذ لا جواب لهم سواه { وإنآ أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } بعدما ابطل الشركاء وابطل جواز دعوتهم اتى بضلالة اتباع الشركاء بنحو يكون اقرب الى الانصاف وابعد من المشاغبة، فان المعنى المستفاد من هذه العبارة بعدما سبق من اظهار عجز الشركاء معنى قولنا نحن على هدى وانتم فى ضلال مبين لكنه اتى بكلمة او التفصيلية المفيدة للتقسيم فى جانب المسند اليه والمسند جميعا لئلا يشاغب الخصم و يشتد مخاصمته وانكاره فكأنه قال: انا واياكم لعلى هدى وفى ضلال مبين بنحو اللف والنشر، واختلاف حرفى الجر فى جانب المسند للاشعار بان المهتدى مستول على صفاته ومحيط بها، والضال مغلوب لصفاته ومحاط لها.
[34.25]
{ قل } بطريق الانصاف فى المجادلة { لا تسألون عمآ أجرمنا } بنسبة الاجرام الى انفسكم { ولا نسأل عما تعملون } بنسبة العمل دون الاجرام اليهم.
[34.26-27]
{ قل يجمع بيننا ربنا } فى القيامة حتى يكون وعدا ووعيدا لكم ولهم { ثم يفتح بيننا بالحق } بحكومة حقة { وهو الفتاح العليم قل أروني الذين ألحقتم به شركآء } يعنى قل اظهروا شركاءكم لله حتى يظهر عليكم انه ليس لها من وصف الشراكة لله شيء { كلا } كلام من الله لردعهم عن الاشراك او جزء مقول قوله { بل هو الله } المعبود بالحق لا غيره { العزيز } الغالب الذى لا يجوز ان يكون فى مقابله ثان { الحكيم } الذى يعجز عن ادراك دقائق صنعه ولطائف علمه عقول العقلاء فكيف يكون مصنوعه او مصنوعكم شريكا له مع اتصافه بالجهل وعدم الشعور فضلا عن الحكمة.
[34.28]
{ ومآ أرسلناك إلا كآفة للناس } كافة حال مقدم عن الناس بمعنى كلهم نحو جاء الناس كافة كأن معناه حال كون الناس كافة بعمومه كل فرد من الخروج عن تحته، او صفة لمفعول مطلق محذوف اى رسالة كافة للناس بمعنى مانعة لهم عن اتباع اهويتهم، او حال عن مفعول ارسلنا وحينئذ يكون المعنى ما ارسلناك الا مانعا للناس عن اتباع اهويتهم والتاء تكون حينئذ للمبالغة { بشيرا } للمؤمنين ولمن استعد للايمان من حيث ايمانهم واستعدادهم { ونذيرا } للكافرين وللمؤمنين والمستعدين من حيث كفرهم وغفلتهم { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } رسالتك او عموم رسالتك او ليس لهم جهة علم حتى يعلموا رسالتك فلذلك ينكرون رسالتك، عن الصادق (ع) فى حديث: وارسله كافة الى الابيض والاسود والجن والانس، وعنه (ع) انه قال لرجل: اخبرنى عن الرسول (ص) كان عاما للناس؟ اليس قد قال الله عز وجل فى محكم كتابه وما ارسلناك الا كافة للناس، لاهل الشرق والغرب واهل السماء والارض من الجن والانس هل بلغ رسالته اليهم كلهم؟- قال: لا ادرى، قال: ان رسول الله (ص) لم يخرج من المدينة فكيف ابلغ اهل الشرق والغرب؟! ثم قال: ان الله تعالى امر جبرئيل (ع) فاختلع الارض بريشة من جناحه ونصبها لرسول الله (ص) فكانت بين يديه مثل راحته فى كفه ينظر الى اهل الشرق والغرب ويخاطب كل قوم بألسنتهم ويدعوهم الى الله عز وجل والى نبوته بنفسه فما بقيت قرية ولا - مدينة الا ودعاهم النبى (ص) بنفسه. وفى كثير من الاخبار مضمون انه لا يبقى ارض الا نودى فيها بشهادة ان لا اله الا الله، وان محمدا رسول الله (ص) لكن فى الرجعة او فى ظهور القائم (ع).
[34.29-31]
{ ويقولون متى هذا الوعد } اى وعد الجمع بيننا ويوم فتح الله { إن كنتم صادقين قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه } من الكتب التى تدعون انها نازلة من السماء او من الكتب الدالة على رسالتك { ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم } لو شرطية محذوفة الجواب او للتمنى ولا جواب لها والجملة حالية وتسلية له (ص) ولامته وتهديد لهم وقد مضى بيان للآية فى اول الانعام عند قوله: ولو ترى اذ وقفوا على ربهم { يرجع بعضهم إلى بعض القول } يتحاورون ويتحاوبون { يقول الذين استضعفوا } يعنى الاتباع { للذين استكبروا } مخاطبين لهم { لولا أنتم لكنا مؤمنين } فانكم صددتمونا عن الايمان.
[34.32]
{ قال الذين استكبروا } مجاوبين { للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جآءكم } الهدى بتوسط الرسل، او المراد بالهدى الرسل انفسهم { بل كنتم مجرمين } انكروا ان كانوا صدوهم واسندوا عدم هديهم الى اجرامهم فانه لولا اجرامهم لما اثر فيهم صد الصادين، بمعنى ان استعدادهم الفطرى لقبول تقليد من لا يصح تقليده واجرامهم الكسبى منعهم عن التوجه الى الفطرة الانسانية وقبول قول من يعين تلك الفطرة ويقويها وصرفهم الى قبول قول من لا يصح قبول قوله عند من له ادنى شعور والتفات الى الآخرة.
[34.33]
{ وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار } بعدما لم يقدروا على جوابهم والمحاجة معهم وعلى نسبة تقصيرهم الى الرؤساء نسبوا تقصيرهم الى مكر الليل والنهار كما هو عادة النساء فى نسبة تقصيرهم الى الغير، او مقصودهم من هذا الكلام الرد على الرؤساء فى نسبة الضلال الى اجرامهم، والمعنى ليس ضلالنا باجرامنا بل بتكرار مكركم فى الليل والنهار وهذا المعنى اوفق بقوله { إذ تأمروننآ أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا } اى الرؤساء او الاتباع او الجميع { الندامة لما رأوا العذاب } حتى لا يطلع كل على الآخر، وروى انهم يسرون الندامة فى النار اذا رأوا ولى الله، فقيل: يا بن رسول الله (ص) وما يغنيهم اسرارهم وهم فى العذاب؟- قال: يكرهون شماتة الاعداء { وجعلنا الأغلال } الاتيان بالماضى فى تلك الافعال لتحقق وقوعها، او للاشارة الى انها بالنسبة الى محمد (ص) قد وقعت { في أعناق الذين كفروا } وضع الظاهر موضع المضمر اشعارا بعلة الحكم واظهارا لذم آخر لهم { هل يجزون إلا ما كانوا يعملون } اى نفس ما كانوا او جزاء ما كانوا يعملون والجملة حالية بتقدير القول او مستأنفة جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: لم يجعل الاغلال فى اعناقهم؟- فقال: ما يجزون الا ما كانوا يعملون لكنه اداه بصورة الاستفهام لتأكيد النفى.
[34.34]
{ ومآ أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوهآ } اى متنعموها { إنا بمآ أرسلتم به كافرون } لان كل الفساد يفشو من المتنعمين واما الاتباع فليس لهم شأن الا النظر الى الرؤساء ومن كان مثريا فى الدنيا لعدم العقل الانسانى وعدم استعمال العقل الجزئى الذى يكون لهم.
[34.35]
{ وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا } فان كان ما تدعونه حقا من الرسالة فنحن اولى بذلك لكثرة اموالنا وكثرة اولادنا فان تلك الكثرة تدل على تفضل الله بالنسبة الينا وقربنا منه وتعيننا فى رياستنا { وما نحن بمعذبين } لقربنا من الله وفضله علينا فلما لم يرسلنا الله علم انه لا رسالة وانكم كاذبون، ولو فرض صدق ما تقولون من العذاب فى الآخرة فلسنا بمعذبين لقربنا من الله، او المعنى ما نحن بمعذبين وانتم تقولون لو عصينا عذبنا الله فنحن بسبب عدم العذاب اولى بالرسالة، او المعنى نحن اكثر اموالا واولادا، وهذا يدل على فضل الله بالنسبة الينا فلم نكن نحن بمعذبين لفضل الله بالنسبة الينا، فلا حاجة لنا اليكم والى رسالتكم.
[34.36]
{ قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر } بملاحظة حال نظام الكل وليس لكرامة الغنى ولا لهوان الفقير { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } ذلك او لا يعلمون سر ذلك.
[34.37]
{ ومآ أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى } حتى تكونوا بذلك مستحقين للرسالة او غير معذبين { إلا من آمن } اى الا اموال من آمن واولاده { وعمل صالحا } بان يتحمل المال لله وينفقه لله ويربى الاولاد لله { فأولئك لهم جزآء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون }.
اعلم، ان المؤمن لما كان متوجها الى الله مؤتمرا بأمر الله منتهيا بنهى الله كان توجهه الى الاموال والاولاد من حيث ايمانه تحملا لمشاقها من حيث امر الله وعدم اهمالها مع الانزجار عنها من حيث نهى الله وصرف الوجه عن جهة التوحيد بأمر الله ونهيه توجه الى الله مع مراعاة حقوق كثرات وجوده وكثرات خارج مملكته، والتوجه الى الله بتلك الكيفية تكميل لصفحتى النفس المجردة والمتعلقة وتتميم لجهة الوحدة والكثرة فيكون مستحقا من الجهتين وموجبا للاجر من الحيثيتين فيكون اجره مضاعفا بالنسبة الى من لم يكن له ذلك بخلاف الكافر فان توجهه الى الاموال والاولاد اغفال عن الفطرة واهلاك للطيفة الانسانية ولذلك كانت عذابا له فى الحيوة الدنيا وسببا لزهوق ارواحهم وهم كافرون فكانت نقمة عليه لا نعمة، ولذلك ورد عن الصادق (ع) انه قال لمن ذكر الاغنياء ووقع فيهم: اسكت، فان الغنى اذا كان وصولا برحمه وبارا باخوانه اضعف الله له الاجر ضعفين لان الله يقول: وما اموالكم ولا اولادكم (فقرأ الى آخر الآية) وورد ان ابا بصير قال: ذكرنا عند ابى جعفر (ع) من الاغنياء من الشيعة فكأنه كره ما سمع منا فيهم، فقال: يا ابا محمد اذا كان المؤمن غنيا رحيما وصولا له معروف الى اصحابه اعطاه أجر ما ينفق فى البر اجره مرتين ضعفين لان الله عز وجل يقول وما اموالكم (فقرأ الآية الى آخرها).
[34.38-39]
{ والذين يسعون في آياتنا } مقابل لسابقه باعتبار المعنى كأنه قال الذين آمنوا وعملوا الصالحات من صاحبى الاموال والاولاد حالهم كذا، والذين يسعون من صاحبى الاموال والاولاد او من الناس على الاطلاق فى آياتنا الآفاقية التكوينية والتدوينية وآياتنا الانفسية خصوصا الآيات العظمى من الانبياء (ع) وخلفائهم (ع) { معاجزين } الله او معاجزين الانبياء والاولياء (ع) او معاجزين المؤمنين المقرين بالآيات { أولئك في العذاب محضرون قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشآء من عباده ويقدر له } هذه الآية بالنسبة الى شخص واحد باعتبار وقتين من اوقاته ويدل عليه تقييد يقدر بقوله له وسابقتها بالنسبة الى اشخاص متعددة فلا تكرار، او هذه خطاب للمؤمنين وتلك للكافرين ويدل عليه التقييد بقوله: من عباده فلا تكرار ايضا، او هذه تكرير للاولى وتأكيد له باعتبار ان هذا المطلب مطلب عظيم هم عنه غافلون { ومآ أنفقتم من شيء فهو يخلفه } تجزئة على الانفاق وتحذير عن التقتير، عن النبى (ص ): من صدق بالخلف جاد بالعطية، وعن على (ع): من بسط يده بالمعروف اذا وجده يخلف الله له ما انفق فى دنياه ويضاعف له فى آخرته، وقيل للصادق (ع): انى انفق ولا ارى خلفا، قال: افترى الله عز وجل اخلف وعده؟- قيل: لا، قال: فبم ذلك؟- قيل لا ادرى؟ قال (ع): لو ان احدكم اكتسب المال من حله لم ينفق درهما الا اخلف عليه { وهو خير الرازقين } ممن تنظرون اليه من وسائط الرزق ومما تعدونه وسائط الرزق من الاسباب السماوية والارضية ومن القوى العمالة فى ايصال الرزق الحقيقى الذى هو الجوهر المتشبه بجوهر البدن الى المرتزق الحقيقى الذى هو خلل الاعضاء، هذا فى الرزق النباتى، وهكذا الحال فى الرزق الحيوانى والانسانى، فان كل من كان غيره من الرازقين ليس الا آلة ايصال الرزق، والرازق حقيقة هو الله تعالى شأنه فانه اعطى المرتزق اسباب الارتزاق وآلاتها، واعطى الرزق الصورى صورة وكيفية بها يرتزق المرتزق، وهو الذى يعطى الرزق بغير عوض ولا غرض ولا منة بخلاف غيره من وسائط الرزق كما قال المولوى:
لقمه بخشى آيد از هركس بكس
حلق بخشى كاريزدانست وبس
حلق بخشد جسم راو و روح را
حلق بخشد بهر هر عضوى جدا
وقال ايضا
روزى بيرنج جوى وبى حسيب
كز بهشتت آورد جبريل سيب
بلكه رزقى از خداوند بهشت
بى صداع باغبان بى رنج كشت
زانكه نفع نان در آن نان دادا وست
بدهدت آن نفع بى توسيط بوست
[34.40-41]
{ ويوم يحشرهم } عطف على محذوف متعلق بيخلقه او بخير الرازقين اى فى الدنيا ويوم نحشرهم او متعلق بمحذوف عطف على قل اى اذكر يوم نحشرهم { جميعا } الاتباع والمتبوعين فى الضلالة { ثم يقول للملائكة } اختار الملائكة من بين المعبودين بالذكر لانهم اشرف المعبودين وابصرهم بحال العابدين واعلمهم بنياتهم، وما اجابوا كان ذلك جواب السائرين سواء كانوا شاعرين او غير شاعرين { أهؤلاء } المدعون لعبادتكم { إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك } عن شراكة امثالنا { أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن } نزهوا الله تعالى اولا عن شراكة امثالهم وانكروا الرضا بعبادتهم ثانيا واضربوا عن ذلك وعن عبادتهم لهم المستفادة من تنزيه الله ومن اظهار عدم الرضا بفعلهم واثبتوا عبادتهم للجن { أكثرهم بهم مؤمنون } لا بنا وانما اشتبه عليهم الجنة والملائكة ووهموا فى ذلك وعبدوا الجنة بزعم انهم الملائكة.
بيان للاتصال بالملكوتين العليا والسفلى
اعلم، انه قد تكرر فيما سبق ان عالم الطبيعة واقع بين الملكوتين العليا والسفلى، وان عالم الجن مثل عالم الملائكة محيط بالدنيا ومتصرف فيها، وانه لا فرق فى ذلك بين الجنة والملائكة، ولذلك اشتبه على الملائكة حال ابليس فظنوا انه منهم، وان من راض نفسه بقلة الطعام والشراب والنوم والكلام والعزلة عن الخلق، فان كان بأمر آمر الهى يتصل بعالم الملائكة ويتشبه بهم فى الاحاطة والاطلاع على ما لم يطلع عليه البشر والتصرف فى العناصر ومواليدها باى تصرف شاء وتقليب الاعيان عن وجوهها على انه يخبره الملائكة ويعينونه فيما لم يقدروا على العلم به والتصرف فيه وان لم يكن رياضته بأمر آمر الهى او كان لكنه خرج عن تحت امره واستبد فى رياضته ومشاهدته برأيه سواء كان تحت امر آمر شيطانى او لم يكن، وسواء كان رياضته بطريق الشرائع وعلى قانون النواميس الالهية او لم تكن اتصل لا محالة بعالم الجنة والشياطين، وتشبه بهم فى الاحاطة والتصرف، وقدر على ما لم يقدر غيره، وعلم ما لم يعلمه غيره، وعبد المتصرف فى العالم المشهود له بظن انه الله او انه ملك عظيم من ملائكة الله وسمى عبادته عبادة الملك ولذلك انكر الملائكة عبادتهم لهم واثبتوا عبادتهم للجن، واعلم ايضا، ان كل عابد غير الله لا يعبده الا باطاعة الشيطان المعنوى سواء كان المعبود الذى هو غير الله ملائكة الله او غيرهم من الجماد والنبات والحيوان والانسان والجان والشيطان، فالعابد غير الله يعبد اولا الشيطان وبعبادة الشيطان يعبد غير الله فهو فى عبادة غير الله عابد للشيطان حقيقة لا لمعبوده لانه لولا الشيطان لم يعبده.
[34.42-44]
{ فاليوم لا يملك } الفاء للترتيب فى الاخبار او جزاء شرط مقدر يعنى اذا كان اليوم انكر المعبودون عبادة العابدين وتحير كل فى امره واضطرب غاية الاضطراب فاليوم لا يملك { بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا } لان الامر كله فى ذلك اليوم بيد الله بخلاف يوم الدنيا فانه قد يتوهم ان بعضا يقدر على نفع بعض او ضره والخطاب للملائكة وعابديهم او لمطلق المعبودين والعابدين، او لمطلق الرؤساء والمرؤسين، او للجنة وعابديهم { ونقول للذين ظلموا } من المعبودين والمطاعين بان لم يكن معبوديتهم ومطاعيتهم باذن من الله والعابدين والمطيعين بان لم يكن عبادتهم وطاعتهم واشراكهم باذن من الله { ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون وإذا تتلى عليهم } عطف باعتبار المعنى ولذلك التفت من الخطاب الى الغيبة يعنى كانوا اذا قيل لهم: اتقوا النار التى يوعدكم الله قالوا: ان هذا الا كذب، واذا تتلى او صرف للخطاب عنهم الى محمد (ص) وبيان لحال امته وعطف ايضا باعتبار المعنى، والمعنى كانوا اذا تتلى عليهم آياتنا كذبوها واذا تتلى على قومك { آياتنا بينات } فى الوعد والوعيد او فى الاحكام المعادية او المعاشية { قالوا ما هذا إلا رجل يريد } بهذا الذى يظهره علينا { أن يصدكم عما كان يعبد آبآؤكم } ويجعلكم تابعين لنفسه فى مبتدعاته، نسبوا عبادتهم للمعبودين الى عبادة آبائهم استظهارا بحقيتها تسليما لحقية فعل آبائهم { وقالوا ما هذآ } الذى يقول { إلا إفك مفترى } على الله { وقال الذين كفروا } وضع الظاهر موضع المضمر ذما لهم وبيانا لعلة الحكم { للحق لما جآءهم إن هذآ } الذى يقوله فيما ابتدعه { إلا سحر } اى علوم دقيقة، او ان هذا الذى يظهره علينا من المعجزات الا سحر حاصل من تمزيج القوى الطبيعية مع القوى الروحانية، او ان هذا الذى يقول فى حق ابن عمه الا صرف لما قاله الله تعالى عن وجهه { مبين ومآ آتيناهم من كتب يدرسونها } يقرأونها حتى ينسبوا صحة مذهبهم وانكار مذهبك الى تلك الكتب { ومآ أرسلنا إليهم قبلك من نذير } حتى ينسبوا ذلك الى قول النذير فلا يقولون الا عن عصبية بطريقهم، وعن تقليد آبائهم من غير تحقيق لمذهبهم ولما قالوا فى مذهبك، ومن غير تحقيق لتقليدهم.
[34.45]
{ وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار مآ آتيناهم } يعنى ان هؤلاء كذبوك وليس تكذيبهم امرا غريبا فان الذين قبلهم كذبوا رسلهم لكن بينهم وبين من قبلهم فرق عظيم، فان من قبلهم اوتوا من الاموال والقوة والاولاد وطول الاعمال ما به افتتنوا واغتروا وانكروا، وهؤلاء ما بلغوا معشار ما آتيناهم من ذلك، او المعنى وما بلغ السابقون معشار ما آتينا هؤلاء من المعجزات والدلائل على صدق الرسل (ع)، او المعنى وما بلغ الرسل (ع) السابقون معشار ما آتينا محمدا (ص) وآل محمد (ع) من الفضل، عن هشام بن عمار رفعه قال، قال المعصوم: كذب الذين من قبلهم رسلهم (ع) وما بلغ ما آتينا رسلهم معشار ما آتينا محمدا (ص) وآل محمد (ع) فيكون الآية تسلية للرسول (ص) بخلاف الوجهين السابقين فانهما يفيدان التسلية ضمنا، ويكون لتفضيح قومه يعنى ان الرسل الماضين قد كذبوا والحال انك اولى بالتكذيب منهم لان ما آتيناك اولى بالحسد مما آتيناهم، وليس التكذيب لامثالك الا من جهة الحسد عليهم، او المعنى ما بلغ الرسل (ع) معشار ما آتينا محمدا (ص) من دلائل الصدق فيكون مثل الوجهين السابقين فى الدلالة على تفضيح القوم { فكذبوا رسلي فكيف كان نكير } يعنى انك او انكم يا امة محمد (ص) ان لم تشاهدوا نكيرى وانكارى عليهم فقد سمعتم اخبارهم وشاهدتم آثار مؤاخذتى لهم فليحذر قومك عن تكذيبك ومؤاخذتى.
[34.46]
{ قل إنمآ أعظكم بواحدة } بكلمة واحدة او خصلة واحدة { أن تقوموا لله } عن اعوجاجكم او عن قعودكم عنه { مثنى وفرادى } وهذه بدل من واحدة وقد ورد فى اخبار كثيرة ان المراد بالواحدة ولاية على (ع) وحينئذ يكون ان تقوموا بتقدير اللام او بدلا منها بدل الاشتمال او بدل الكل من الكل فان الولاية بوجه هى القيام لله وبوجه مستلزمة للقيام لله، روى عن يعقوب بن يزيد انه قال: سألت ابا عبدالله (ع) عن قول الله عز وجل: قل انما اعظكم بواحدة؟- قال: بالولاية، قلت: وكيف ذاك؟- قال: انه لما نصب النبى (ص) امير المؤمنين (ع) للناس، فقال: من كنت مولاه فعلى مولاه، اعتبس رجل وقال: ان محمدا (ص) ليدعو كل يوم الى امر جديد وقد بدأ باهل بيته يملكهم رقابنا، فأنزل الله عز وجل على نبيه قرآنا فقال له: قل انما اعظكم بواحدة، فقد اديت اليكم ما افترض ربكم عليكم، قلت: فما معنى قوله عز وجل ان تقوموا لله مثنى وفرادى؟- فقال: اما مثنى يعنى طاعة رسول الله (ص) وطاعة أمير المؤمنين (ع)، واما قوله فرادى يعنى طاعة الامام من ذريتهما من بعدهما، ولا والله يا يعقوب ما عنى غير ذلك، وعلى هذه الرواية يكون مثنى وفرادى حالين من الله والمعنى قل انما اعظكم بواحدة يعنى بولاية على (ع) ان تقوموا لطاعة الله فى مظاهره حال كون الله مثنى باعتبار مظاهره كزمان الرسول (ص) فان الرسول (ص) وامير المؤمنين (ع) كانا مظهرين فى ذلك الزمان لله وطاعة كل كان طاعة الآخر وطاعة الله، وفرادى كزمان سائر الائمة (ع) فان كلا كان فى زمانه مظهرا لطاعة الله وكان فردا فان الامام الآخر كان صامتا غير داع، او يكونان حالين من فاعل تقوموا يعنى ان تقوموا لله حال كون كل منكم ذا وجهين، وجه قبول الرسالة ووجه قبول الولاية كما فى زمان الرسول (ص)، او ذا وجه واحد هو وجه قبول الولاية، فان احكام الرسالة مقدمة لقبول الولاية كما ورد: ان الله رخص فيها ولم يرخص فى الولاية، وعلى التفاسير السابقة يكونان حالين عن فاعل تقوموا، والاختصاص بهاتين الحالين لان الازدحام يفرق الخاطر ولا يبقى له حالة الفكر، ويدل على تفسير الواحدة بالولاية قوله تعالى: قل ما سألتكم من اجر فهو لكم فانه ما سأل على رسالته اجرا الا المودة فى القربى يعنى اتباع اوصيائه وقبول ولايتهم، يعنى ما سألتكم من الاجر على التبليغ من المودة فى القربى فانه نافع لكم لانكم ان اتبعتموهم نجوتم من عذاب الآخرة وبوركتم فى دنياكم وانعم عليكم فى عقباكم كما قال:
لو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السمآء
[الأعراف:96] بحسب الآخرة والارض بحسب الدنيا وليس الايمان الا قبول الولاية كما تكرر فى مطاوى ما سلف { ثم تتفكروا } يعنى بعد القيام لله وخلوص الوهم والمتفكرة من حكومة الشيطان وتصرفه ينبغى ان تتفكروا { ما بصاحبكم من جنة } جملة معلق عنها تتفكروا يعنى ان تتفكروا فى انه ما بصاحبكم من جنة وتعلموا انه فى كمال العقل والتدبير { إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد } عذاب البرازخ او القيامة او الجحيم.
[34.47]
{ قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري } الذى هو عائد الى ونافع لى { إلا على الله وهو على كل شيء شهيد } فيعلم انى صادق فيما اقول وان الاجر الذى اطلبه منكم من المودة فى القربى نافع لكم، وان اجرى الذى هو نافع لى ليس الا على ربى وليس فى وسعكم القيام بأدائه.
[34.48]
{ قل إن ربي يقذف بالحق } على الباطل فيدمغه، او يقذف بالحق الى انبيائه (ع) او يقذف بالحق الى على الاستمرار { علام الغيوب } فيعلم الباطل ولو كان مكمونا فى قلوبكم ونفوسكم فيدمغه ويعلم محال الحق فيلقيه اليها، رضيتم ام لم ترضوا.
[34.49]
{ قل } مستبشرا بمجيء الحق وتهديدا لاهل الباطل { جآء الحق } يعنى الولاية فانها حق بحقيقة الله كما تكرر فى ما سلف وكل حق حق بحقيته { وما يبدىء الباطل وما يعيد } يعنى زهق الباطل بحيث لا يتمشى منه ابداء ولا اعادة، ويجوز ان يكون لفظة ما استفهامية يعنى اى شيء يبدئ الباطل فيكون نفيا للابداء مثل الاول مع التأكيد، وقيل: ان المراد بالباطل ابليس فيكون ردا على الثنوية المعتقدة لابليس وابدائه واعادته، وقيل: المعنى لا يبدئ الباطل لاهله خيرا فى الدنيا ولا يعيد خيرا فى الآخرة، او المعنى ما يتكلم الباطل بكلام مبتدء ولا باعادة كلام الغير كالجبال، روى عن الرضا (ع) انه دخل رسول الله (ص) مكة وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما فجعل يطعنها بعود فى يده ويقول:
جآء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا
[الإسراء:81]، جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد.
[34.50]
{ قل } بصورة الانصاف معهم { إن ضللت } فليس ضرر ضلالتى عليكم { فإنمآ أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي } فلا مفاخرة لى فيه عليكم { إنه سميع قريب } يسمع اقوالى ويعلم احوالى واستعدادى واستحقاقى.
[34.51]
{ ولو ترى } لو للتمنى او للشرط والجواب محذوف { إذ فزعوا } من الهول او من الصيحة { فلا فوت } لهم من بأسنا واخذ ملائكتنا { وأخذوا من مكان قريب } من تحت اقدامهم بالخسف كما فى الخبر عن الباقر (ع): لكأنى انظر الى القائم (ع) وقد اسند ظهره الى الحجر (الى ان قال) فاذا جاء الى البيداء يخرج اليه جيش السفيانى فيأمر الله عز وجل الارض فتأخذ باقدامهم وهو قوله عز وجل: ولو ترى اذ فزعوا فلا فوت واخذوا من مكان قريب.
[34.52]
{ وقالوا آمنا به } يعنى بالقائم (ع) او بمحمد (ص) { وأنى لهم التناوش } اى التناول للايمان { من مكان بعيد } فانهم كانوا حينئذ فى اسفل مراتب النفس والايمان لا يؤخذ الا فى اعلى مراتب النفس.
[34.53]
{ وقد كفروا به } بالقائم (ع) او بمحمد (ص) { من قبل } اى من قبل ذلك الزمان، او من قبل ذلك المكان الذى هو اسفل امكنة النفس { ويقذفون بالغيب } اى يلقون الامر الغائب عنهم بمحض الظن والتخمين، او يقذفون بالغيب الغائب عنهم على الحاضر المشهود لستره { من مكان بعيد } من الغيب.
[34.54]
{ وحيل بينهم وبين ما يشتهون } بانفسهم الحيوانية عند الموت، او فى القيامة، او فى كليهما { كما فعل بأشياعهم } اى اسناخهم { من قبل } اى من قبلهم او كما فعل باتباعهم من قبل بسبب متابعتهم فانهم باتباعهم للرؤساء قد حرموا على انفسهم بعض المشتهيات وحرموا عن جملة المشتهيات الاخروية { إنهم } اى الاشياع او الرؤساء او المجموع { كانوا في شك مريب }
" عن النبى (ص) انه ذكر فتنة تكون بين اهل - المشرق والمغرب، قال: فبيناهم كذلك يخرج عليهم السفيانى من الوادى اليابس فى فور ذلك حتى ينزل دمشق فيبعث جيشين، جيشا الى المشرق وآخر الى المدينة حتى ينزلوا بارض بابل من المدينة الملعونة يعنى بغداد فيقتلون فيها اكثر من ثلاثة آلاف، ويفضحون اكثر من مائة امرئة، ويقتلون بها ثلاث مائة كبش من بنى العباس، ثم ينحدرون الى الكوفة فيخربون ما حولها ثم يخرجون متوجهين الى الشام فيخرج راية هدى من الكوفة فتلحق ذلك الجيش فيقتلونهم لا يفلت منهم مخبر، ويستنقذون ما فى ايديهم من السبى والغنائم، ويحل الجيش الثانى بالمدينة فينهبونها ثلاثة ايام بلياليها، ثم يخرجون متوجهين الى مكة حتى اذا كانوا بالبيداء بعث الله جبرئيل، فيقول: يا جبرئيل اذهب فأبدهم، فيضربها برجله ضربة يخسف الله بهم عندها ولا يفلت منهم الا رجلان من جهينة "
فلذلك جاء القول: وعند جهينة الخبر اليقين، فذلك قوله ولو ترى اذ فزعوا (الآية)، وورد اخبار كثيرة فى تفسير الآية بخروج المهدى وجيش السفيانى نظير ما ذكر عن النبى (ص).
[35 - سورة فاطر]
[35.1]
{ الحمد لله فاطر السماوات والأرض } خالقهما { جاعل الملائكة رسلا } الى انبيائه والى اوصيائهم بالوحى والالهام والتحديث والرؤيا الصادقة، والى الصالحين من عباده بالالهام والتحديث والرؤيا، والى جميع خلقه بالالهام والرؤيا واصلاح امورهم وجبران نقائصهم واخراج نفوسهم من القوى الى الفعليات { أولي أجنحة } بحسب العوالم التى يسيرون فيها ويطيرون بها لاصلاح امورها { مثنى وثلاث ورباع } بحسب العوالم الثلاثة، الملك والملكوت والجبروت، ولا ينافى هذا ما ورد فى اخبار كثيرة ان عدد جناج جبرئيل ست مائة الف جناح، وان دردائيل له ستة عشر الف جناح وغير ذلك فان المراد نوع الجناح وان انواع جناح الملائكة ثلاثة وان كان لكل نوع اعداد عديدة من افراد الجناح، وورد اخبار كثيرة فى اوصاف الملائكة وكثرة عددهم وان لله ملكا ما بين شحمة اذنه الى عينه مسيرة خمس مائة عام بخفقان الطير، وان له ملائكة ما بين منكبى كل وشحمة اذنيه سبع مائة عام، وان له ملائكة انصافهم من برد انصافهم من نار، وان له ملائكة يسدون الافق بجناح من اجنحتهم دون عظم ابدانهم، وغير ذلك من اوصاف عظمتم، وانه ليهبط فى كل يوم او فى كل ليلة سبعون الف ملك فيأتون البيت الحرام فيطوفون به ثم يصعدون الى السماء بعدما يأتون رسول الله (ص) وامير المؤمنين (ع) والحسين (ع) ولا يعودون ابدا { يزيد في الخلق ما يشآء } اشارة الى كثرة عددهم او الى كثرة اجنحتهم وان الاقتصار على هذا العدد بحسب النوع لا بحسب الشخص، او ان الاقتصار على هذا العدد لبيان الكثرة لا للانحصار فى هذا العدد، او اشارة الى ان كثرة الاجنحة جزء من اجزاء جمال خلقه ويزيد فى جمالهم بحسب الصورة والهيئة والخلق وغير ذلك ما يشاء، وقد ورد عن النبى (ص) انه الوجه الحسن والصوت والشعر الحسن { إن الله على كل شيء قدير } من الزيادة فى العدد والجمال والاجنحة والاخلاق، وعن الثمالى قال: دخلت على على بن الحسين (ع) فاحتبست فى الدار ساعة ثم دخلت البيت وهو يلتقط شيئا وادخل يده من وراء الستر فناوله من كان فى البيت، فقلت: جعلت فداك هذا الذى أراك تلتقطه اى شيء هو؟- قال: فضلة من زغب الملائكة نجمعه اذا خلونا نجعله مسبحا لاولادنا، فقلت: جعلت فداك فانهم ليأتونكم؟- فقال: يا با حمزة ليزاحمونا على تكأتنا وقد ورد اخبار كثيرة ان الائمة يرون الملائكة ويصافحونهم وقد ذكرنا فى سورة البقرة عند قوله تعالى:
وإثمهمآ أكبر من نفعهما
[البقرة:219] فى ذيل بيان مراتب الانسان والفرق بين الرسول والنبى والمحدث، وجه ما ورد ان الرسول يرى الملائكة فى المنام ويسمع كلامه ويعاينة فى اليقظة، والنبى يرى فى المنام ولا يعاين فى اليقظة ويسمع الصوت، والمحدث لا يرى فى المنام ولا يعاين ويسمع الصوت، وقد ذكرنا هناك وجه عدم منافاة هذه الاخبار لما ورد منهم انهم يعاينون الملائكة، من اراد فليرجع الى ما هناك.
[35.2]
{ ما يفتح الله للناس من رحمة } جملة حالية من قوله: ان الله على كل شيء قدير كأن الاولى كانت لعموم قدرته وهذه لعجز غيره عن ممانعته من نفوذ قدرته، او مستأنفة جواب لسؤال مقدر لبيان هذا المعنى، او مستأنفة منقطعة عن سابقها لبيان قدرته وعجز غيره { فلا ممسك لها وما يمسك } من رحمة او ما يمسك من رحمة ونقمة، او ما يمسك من نقمة ولعل هذا المعنى هو المراد لئلا ينسب امساك الرحمة اليه لانه ليس منه الا افاضة الرحمة على الدوام وانما الامساك يعنى عدم وصول الرحمة الى بعض القوابل ليس الا من قبلها لا من قبل الله { فلا مرسل له من بعده وهو العزيز } الذى لا يقدر على منازعته احد { الحكيم } الذى لا يفعل ما يفعل الا بملاحظة غايات عديدة دقيقة لا يمكن دركها الا له والا باتقان فى الصنع بحيث يعجز عن ادراك كيفيته عقول العقلاء.
[35.3]
{ يأيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم } من غاية رحمته بعباده، كرر تذكير نعمته عليهم حتى لا ينسوها ويقوموا بحق شكرها وناداهم قبل الامر بذكر النعمة ليكونوا ملتذين بندائه فيصغوا الى امره حق الاصغاء، وقد تكرر فى ما سبق ان اصل النعمة الولاية التكوينية التى يعبر عنها بحبل من الله والولاية التكليفية التى يعبر عنها بحبل من الناس وكل ما كان متصلا بتلك الولاية فهو نعمة بسببها، وكل ما كان منقطعا عن الولاية كائنا ما كان كان نقمة { هل من خالق غير الله } جملة حالية عن النعمة او عن الله بتقدير القول او مستأنفة جواب لسؤال مقدر بتقدير القول، او مستأنفة لمدح النعمة { يرزقكم من السمآء } بتهية الاسباب السماوية { والأرض } بتهية الاسباب الارضية، او من السماء بالرزق الانسانى والارض بالرزق الحيوانى والنباتى { لا إله إلا هو } حالية او مستأنفة لبيان حال الله او لتعليل حصر الرزق فيه او للمدح { فأنى تؤفكون } اى تصرفون عنه.
[35.4]
{ وإن يكذبوك } فلا تحزن عليهم فان الرسول لا بد وان يكذب لعدم سنخيته لهم وهكذا كانت سنتنا قديما { فقد كذبت رسل من قبلك } فنذكر حالهم وحال اممهم فى تكذيبهم حتى لا تحزن على تكذيب قومك { وإلى الله ترجع الأمور } يعنى اليه تنتهى انت ومكذبوك فيجازى كلا بحسبه او الى الله ترجع الامور بعد النظر الدقيق فاليه يرجع تكذيبهم بمعنى ان ليس تكذيبهم الا بامر تكونى وترخيص من الله لمصلحة عائدة اليك والى امتك فلا تضيقن لذلك.
[35.5]
{ يأيها الناس } ناداهم تلطفا بهم لتهييجهم للاستماع وصرف الخطاب عنه (ص) الى المكذبين بعد تسليته ردعا لهم عن تكذيبهم او الى مطلق العباد وعدا ووعيدا لهم { إن وعد الله } بالثواب والعقاب { حق } لا خلف فيه { فلا تغرنكم الحياة الدنيا } فتغفلوا عن وعد الله ولا تعملوا له { ولا يغرنكم بالله الغرور } اى الشيطان بان يمنيكم المغفرة ويؤخركم التوبة.
[35.6]
{ إن الشيطان لكم عدو } فاذا كان عدوا لكم { فاتخذوه عدوا } ولا توافقوه فيما يأمركم به وكونوا منه على حذر { إنما يدعوا حزبه ليكونوا من أصحاب السعير } تعليل لعداوته وتأكيد للامر بالحذر منه.
[35.7-8]
{ الذين كفروا } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: فما حال حزبه؟- فقال: { لهم عذاب شديد } ووضع الظاهر موضع المضمر ليكون اشارة الى ان حزبه كافرون ولكفرهم صاروا من اصحاب السعير { والذين آمنوا } بالكفر به والبيعة مع ولى امره البيعة الخاصة او العامة { وعملوا الصالحات } بالبيعة الخاصة ان كان المراد بالايمان البيعة الاسلامية او بالعمل بالشروط المأخوذة عليه فى بيعته ان كان المراد بالايمان البيعة الخاصة { لهم مغفرة وأجر كبير أفمن زين } عطف على محذوف تقديره امن اتبع الشيطان ولم ير قبح - عمله كمن اتبع ولى امره ورأى قبائح اعماله ونقائصها فمن زين { له سوء عمله فرآه حسنا } فضلا عن رؤية قبحه كمن لم يزين عمله بل رأى اعماله الحسنة قبيحة فى حضرة مولاه { فإن الله يضل من يشآء } تعليل لقوله زين كأنه قيل: زين لاتباع الشيطان عملهم وقبح لاتباع الرحمان اعمالهم لان الله يضل عن الطريق المستوى الذى هو عدم رؤية حسن العمل المنسوب الى النفس { ويهدي من يشآء } الى الطريق المستقيم الذى هو رؤية النقص والقبح من العمل المنسوب الى النفس كائنا ما كان اذا كان الامر كذلك { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } فلا تهلك نفسك للتتابع الحسرات لاجل اتباعهم للشيطان { إن الله عليم بما يصنعون } تعليل للنهى.
[35.9]
{ والله الذي أرسل الرياح } عطف على قوله ان الله يضل من يشاء وتعليل لهداية بعض واضلال بعض ورؤية بعض حسن اعماله السيئة ورؤية بعض قبح اعماله الحسنة كأنه قال: الله الذى يرسل رياح اهوية النفوس فتثير سحابا فيحيى به بعض النفوس ويهلك بعضا { فتثير سحابا فسقناه } التفات من الغيبة الى التكلم { إلى بلد ميت } مستعد للاحياء { فأحيينا به الأرض } اى ارض ذلك البلد بالنبات واخضرار الاشجار { بعد موتها } عن النبات وعن اخضرار الاشجار وكذلك يرسل الله الرياح النفسانية والعقلانية ورياح حوادث الزمان ويسوق سحاب الرحمة بها الى بلاد نفوسكم اليابسة عن نبات الايمان فيحيى به النفوس المستعدة ويهلك النفوس الجافة القاسية { كذلك النشور } من قبور نفوسكم وغلاف ابدانكم ومن قبور برازخكم فان القوى والاستعدادات المكمونة فى الابدان والنفوس مثل الحبوب والعروق المكمونة فى الاراضى وخروجها من القوة الى الفعلية بأمطار الرحمة الالهية، كخروج الحبوب والعروق بالنبات والأشجار والاوراق بأمطار السحاب.
[35.10]
{ من كان يريد العزة } منقطع عن سابقه لفظا ومعنى لابداء حكم ونصح، او جواب لسؤال ناش من سابقه كأنه قيل: فما يفعل من كان يريد العزة ايطلبه من غير الله؟ من ان احياء نبات الارض بيده او لا يطلبه الا من الله؟- فقال: من كان يريد العزة فلا يوجد العزة الا عند الله { فلله العزة جميعا } فلا يطلب العزة احد من احد الا من الله لعدم وجدانه عند احد غير الله { إليه يصعد الكلم الطيب } الكلم لكونه اسم جنس جمعى يعامل معه معاملة المفرد المذكر والجملة جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: لا يمكن لنا الوصول الى الله حتى نطلب العزة من عنده، فقال: ان كان لا يمكن لكم الوصول الى الله بذواتكم يصل اليه كلماتكم الطيبة والاقوال الصالحة من الاذكار العالية واقوالكم لاصلاح ذات البين والنصح للعباد والامر بالمعروف والنهى عن المنكر وتعليم العلوم وهداية الخلق الى الطريق وغير ذلك من الاقوال { والعمل الصالح } الاركانى { يرفعه } فقولوا قولا طيبا واعملوا عملا صالحا تعزوا، وعن الصادق (ع): الكلم الطيب قول المؤمن: لا اله الا الله، محمد رسول الله (ص )، على ولى الله (ع) وخليفة رسول الله (ص)، والعمل الصالح الاعتقاد بالقلب ان هذا هو الحق من عند الله لا شك فيه من رب العالمين، وعنه (ع) فى هذه الآية قال: ولايتنا اهل البيت، واومى بيده الى صدره، فمن لم يتولنا لم يرفع الله له عملا، وعن الباقر (ع) قال: قال رسول الله (ص):
" ان لكل قول مصداقا من عمل يصدقه او يكذبه فاذا قال ابن آدم وصدق قوله بعمل رفع قوله بعمله، واذا قال وخالف عمله قوله رد قوله على عمله الخبيث وهوى فى النار "
، ولما كان اصل جميع الكلم الطيب هو كلمة الولاية والقول بها والاعتقاد بها صح تفسير الكلم بالولاية، ولما كان اصل جميع الصالحات هو عمل الولاية التى هى البيعة الخاصة الولوية التى يترتب عليها جميع الخيرات وجميع الاعمال الصالحات ولا يصير الصالح صالحا الا بها صح تفسير العمل الصالح بها مع ان الآية عامة لجميع الكلمات وجميع الاعمال { والذين يمكرون السيئات } عطف باعتبار المعنى كأنه قال: فالذين يعملون الصالحات يرفع أقوالهم وأعمالهم الى الله ويعزون بها والذين يمكرون السيئات كقريش ومكرهم فى دار الندوة، او كمنافقى الامة ومكرهم فى دفع خلافة على (ع) ولكل من يمكر السيئة بالنسبة الى العباد والى قوى نفسه واهل مملكته، فان كل من يعصى ربه فهو يمكر فى ارتكاب معصيته لاخفاء النفس قبح فعله عليه واظهارها حسنة لديه { لهم عذاب شديد } بالفعل لكنه لا يحس به مثل صاحب الخدر الذى يحرق عضوه النار ولا يحس به فان السيئة نفسها عذاب عاجل للطيفة السيارة الانسانية ولاختفائها تحت فعليات النفس لا تحس به { ومكر أولئك هو يبور } يهلك او يفسد لانه من النفس والنفس ولوازمها هالكة فاسدة، تسلية للرسول (ص) فى مكرهم به او بعلى (ع).
[35.11]
{ والله خلقكم } عطف باعتبار المعنى او على مقدر كأنه قال: فالله اعزكم بالكلم الطيب والعمل الصالح، والله اذلكم بمكر السيئات، والله خلقكم { من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا } بالذكورة والانوثة او جعلكم اصنافا من الذكر والانثى، والابيض والاسود، والدميم والحسن، والشقى والسعيد { وما تحمل من أنثى } منكم او من مطلق الحيوان { ولا تضع } جنينها { إلا بعلمه } فلا يعزب عنه شيء فكيف يعزب عنه مكر اولئك او عمل المؤمنين { وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب } معناه ما يبلغ عمر معمر عمره الطبيعى او قريبا منه او ازيد، وما ينقص من عمره الطبيعى والعمر القريب منه الا حال كونه ثابتا فى كتاب هو الكتاب الذى كتبه الملائكة المصورة حين تصويره فى رحم امه، او الكتاب الذى هو عالم العقول، او الكتاب الذى هو عالم النفوس الكلية او الجزئية، او المعنى الا حال كونه يكتب بعد اعطاء العمر ونقصانه فى كتاب هو كتاب اعماله الذى يكتبه الملائكة الموكلة عليه، او هو كتاب المحو والاثبات الذى يكتب فيه ما يظهر من استعداد المستعدين من اهل عالم الطبع فيه بعد ظهور الاستعداد، وهذه الآية بهذا الوجه تدل على ثبوت البداء الذى ورد فى اخبار كثيرة.
تحقيق البداء
اعلم، ان الآيات والاخبار تدل بالصراحة والاشارة على ثبوت البداء لله وقد ورد فى الاخبار نسبة التردد فى الامر اليه تعالى، وورد ما يدل على تأثر الله فمن فعل العباد مثل اجابة الدعوات وتغيير الامر والعمر بالصدقات والصلات والشكر والكفران وسائر الحسنات والسيئات، وكل ذلك يدل على ان الله قد يظهر فعلا تم يتركه ويظهر غيره كالنادم من فعله الاول والمظهر لغيره، ويدل بعضها على كون فعل الله تابعا لفعل العباد، ولذلك انكرت الفلاسفة كل ذلك وأولوا ما ورد فى الآيات والاخبار من امثال ذلك لان ذلك كله يدل على عجز الله ونقصانه فى فعله، وجهله بعاقبة بعض افعاله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. فنقول: بيان ذلك يستدعى تحقيق العوالم وبيان حقيقة كل عالم وبيان ان العوالم كلها مراتب علم الله وارادته وان بعض العوالم لضيقه لا يسع ظهور جميع فعليات ما فى العالم الاعلى ولا يظهر فعليات ما فى العالم الاعلى فيه الا على التعاقب ، كما ان عالم الطبع لا يسع ظهور فعليات جميع الصور فيه الا على التعاقب، فاعلم، ان العوالم بوجه ثلاثة، وبوجه ستة، وبوجه سبعة، لانها اما مجردة ذاتا وفعلا عن المادة والتقدر، او مجردة ذاتا متعلقة فعلا او متعلقة ذاتا وفعلا بالمادة، والاولى هى عوالم العقول الطولية المعبر عنها فى لسان الشرع بالملائكة المقربين وعوالم العقول العرضية التى يعبر عنها بارباب الطلسمات والصافات صفا والثانية هى عوالم النفوس الكلية والجزئية المعبر عنها بالمدبرات امرا، والملائكة الركع والسجد، وعوالم المثال العلوى والسفلى، والثالثة هى عوالم الطبع التى وجودها وجود تعلقى مادى، وان العوالم كلها معلولة لله تعالى، وان العلية ليست كما توهمها المتوهمون مثل علية البناء للبناء والنار للنار، والشمس للتبييض والتسويد، بل هى بالتشأن بمعنى ان المعلول لا بد وان يكون شأنا من العلة ومتقوما بها لان تقابلهما تقابل التضائف والمتضائفان غير منفكين فى الخارج وفى الذهن فلو لم يكن العلة داخلة فى قوام المعلول والحال ان المعلولية عين ذات المعلول كان تصور المعلول لمن تصوره بكنهه منفكا عن تصور العلة، والعلية فى الحق الاول تعالى عين ذاته كما ان المعلولية فى الممكن عين ذاته، وان ذات العلة علم وارادة كله كما انه وجود كله، ولما لم يكن قوام المعلول فارغا من العلة كان قوامه علما وارادة لله تعالى وان المجردات الصرفة كلما كان لها بالامكان كان حاصلا لها بالفعل لعدم القوة والاستعداد فيها وان النفوس الكلية من حيث ذواتها وتجردها الذاتى كلما كان فى العقل بالفعل كان فيها ايضا بالفعل لكن بنحو البساطة والوجود الوحدانى لا بنحو الكثرة ولذلك كانت النفوس الكلية لوحا محفوظا من التغير والتبدل لا يتطرق اليها المحو والاثبات، وان النفوس الجزئية العلوية التى لها تعلق بعالم المادة بتوسط عالم المثال العلوى لضيقها عن الاحاطة بالجزئيات الغير المتناهية ليس كلما فيها بالقوة يكون بالفعل بل يتعاقب عليها الفعليات وتخرج من القوى والاستعدادات بحسب قرب استعداداتها الى الفعليات من اجل تعلقها بالماديات، او بحسب تقريب تشبهاتها المتعاقبة بالعلويات استعداداتها الى الفعليات كالنفوس الخيالية للانسان فى انها تتعاقب عليها الفعليات لاجل ضيقها وعدم احاطتها بجملتها دفعة وقرب استعداداتها الى الفعليات الطيبة او الردية باعداد العبادات والمعاشرين والافكار الطيبة والردية وغير ذلك، وان النفوس الجزئية العلوية كالنفوس الجزئية البشرية لها وجه الى الماديات به تتأثر منها وتستعد لاخذ الفعليات من العلويات، ووجه الى المجردات به تأخذ من المجردات ما قرب استعداداتها منه، وكلما استعد مادى من الماديات لحصول صورة او كيفية فيه يفيض صورة تلك الصورة او الكيفية من المجردات على تلك النفوس الجزئية العلوية ولكن لضيقها لا يثبت فيها جميع شروطها وجميع معداتها وموانعها، فاذا اتصل بعض النفوس البشرية كنفوس الانبياء واوصيائهم (ع) فى النوم او اليقظة بتلك النفوس الجزئية يشاهد فيها ما ثبت فيها من الصور والكيفيات ويرى فيها وقوع الحادثة فيخبر احيانا بتلك الحادثة، ثم يرى بعد ذلك تخلف تلك الحادثة وعدم وقوعها ويرى محوها من تلك النفوس وثبت ضدها فيها فيقول على سبيل المشاكلة: بدا لله تعالى فيها او يقول حقيقة: بدا لله تعالى لان تلك المرتبة من النفوس هى علم الله وارادته ومحو الارادة الاولى وثبت الارادة الثانية ليس الا البداء وليس ذلك من جهل وعجز فى الفاعل بل هو من ضيق القابل، وقد يثبت فى تلك النفوس صورة الحادثة مع جميع الشرائط والمعدات والموانع لكن المتصل بها لضيق مداركه عن الاحاطة بجميع ما فيها لا يدرك جميع الموانع والشروط فيخبر بصورة الحادثة ثم تتحلف الحادثة فيقول: بدا لله تعالى، ولما كان تلك النفوس المتأثرة من الماديات وباعداد الماديات يفيض عليها من المجردات وكانت هى من مراتب ارادته تعالى صح نسبة التردد بواسطتها الى الله تعالى وصح تأثير الصدقات والدعوات والصلات فيها وتغيير ما فيها ومحو المثبت وثبت الغير المثبت فيها بواسطة ذلك، وما قاله الفلسفى من: انها من الاتفاقيات ولا تأثر للعلوى من السفلى، لا يصغى اليه، بعد شهود اهل الشهود وامكان ذلك فيها، وما ورد عن الصادق (ع) انه يبعث عبد المطلب امة واحدة عليه بهاء الملوك وسيماء الانبياء (ع) وذلك انه اول من قال بالبداء فالمقصود انه اول من حقق البداء فى حقه تعالى والا فأكثر الانبياء (ع) والسلف كانوا قائلين بالبداء كما وصل الينا من اخبارنا { إن ذلك على الله يسير } كما ذكرنا ان ذلك من لوازم وجود النفوس الجزئية العلوية لا حاجة له فيه الى تعمل وتمهيد اسباب.
[35.12]
{ وما يستوي البحران هذا عذب فرات سآئغ شرابه وهذا ملح أجاج } قد مضى فى سورة الفرقان بيان للبحرين { ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر } الفلك المواخر التى يسمع صوت جريها او تشق الماء بجؤجؤها، او المقبلة والمدبرة بريح واحدة { لتبتغوا من فضله } اى من فضل الله بالتجارات الرابحة { ولعلكم تشكرون } النعمة التى اودعها الله تعالى فى الفلك والبحرين.
[35.13]
{ يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل } قد مضى بيان هذه الكلمة فى اول سورة آل عمران { وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى } قد مضى الآية فى اول الرعد وفى غيرها { ذلكم } الموصوف بتلك الاوصاف { الله ربكم له الملك } عالم الملك مقابل الملكوت، او الملك بمعنى كل مملوك لا شركة لغيره فى عالم الملك كما يقوله الثنوية، ولا فى شيء من المماليك كما يقوله بعض العابدين للملائكة وجميع الثنوية { والذين تدعون من دونه } من دون اذنه كمن يدعو مقابلى ولى الامر او حال كونهم بعضا من غيره لكل معبود سواه ولم يأذن تعالى فى اشراكه { ما يملكون من قطمير } اى الجلدة الرقيقة التى تكون على ظهر النواة، او شق النواة، او القشرة التى تكون فيه او النكة البيضاء التى فى ظهرها.
[35.14]
{ إن تدعوهم لا يسمعوا دعآءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم } الاوصاف مترتبة فى التنزل كأنه تعالى اضرب عن كل الى الآخر { ولا ينبئك مثل خبير } على الاطلاق وهو الخبير مجملة الامور وهو الله تعالى.
[35.15]
{ يأيها الناس } ناداهم تلطفا بهم وتثبيتا لغناه وفقرهم { أنتم الفقرآء إلى الله } تعريف المسند لارادة الحصر ردا لمن قال: ان الله فقير ونحن اغنياء { والله هو الغني الحميد } اعلم، ان الفقر والحاجة فى الممكن عين ذاته الوجودية، بمعنى ان وجوده وجود تعلقى والتعلق عين ذاته لا ان وجوده شيء والتعلق صفة له وهذا النحو من الوجود لا يكون له شأن الا الفقر والفاقة والتعلق، وان وجوده تعالى وجود غنى بذاته عن كل ما سواه وان الغنى عين ذاته تعالى كسائر صفاته وهذا النحو من الوجود لا شأن له سوى الغنى ولا يتجاوز الغناء عنه الا به تعالى وكل من كان الغناء عين ذاته يكون حميدا على الاطلاق بمعنى انه لا يكون حميد الا وهو هو لانه لو وجد صفة كمال لم تكن هى لله تعالى كان مفتقرا اليها فاقدا لها ولم يكن غنيا على الاطلاق.
[35.16]
هذه من القضايا التى يكون فيها وضع المقدم دائما كأنه قال: لكنه يشاء ذلك او من القضايا الفرضية التى لا وضع لمقدمها كأنه قال: لكن لم يشأ ذلك فلم يذهبكم، على ان يكون المعنى ان يشأ يذهبكم قبل آجالكم.
[35.17]
اى شديد حتى يكون متعذرا او متعسرا عليه وهذه الجملة تأكيد لغناه وفقرهم اليه.
[35.18]
{ ولا تزر وازرة } اى نفس قابلة لان تزر وزرا { وزر أخرى } فلا تغتروا بما قيل لكم: نحن نحمل خطاياكم، وقوله تعالى وليحملن اثقالهم واثقالا مع اثقالهم لا ينافى ذلك لان معناه ليحملن أثقالا ناشئة من اضلالهم مع انه لا يخفف من اثقال من اضلوهم شيء لا انهم يحملون اثقال من اضلوهم فيصير الاتباع خالين من الاثقال { وإن تدع مثقلة } اى ان تدع نفس مثقلة من الاوزار { إلى حملها } الحمل بالكسر ما يحمل يعنى ان تدع كل ما يمكن ان يدعى من الله وخلفائه ومن الشركاء لله ومن الشركاء فى الولاية ومن كل نفس بشرية ومن كل ما يحمل شيئا من اصناف الحيوان { لا يحمل منه شيء ولو كان } المدعو { ذا قربى } له رحيما عليه بفطرة قرابته { إنما تنذر } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: فما لهم لا يخافون من سوء العاقبة مع هذه الانذارات؟- فقال: انما تنذر يا من ينذر، او يا محمد (ص) { الذين يخشون ربهم بالغيب } يعنى تنذر من كان فطرته الانسانية التى شأنها خشية الرب باقية فيهم حال كونهم بالغيب من الرب او حالكون الرب بالغيب منهم { وأقاموا الصلاة } الفطرية التى هى الحبل من الله الذى هو الولاية التكوينية يعنى ان الانذار من جهات الكفر لا ينفع الا من كان هذه حاله لا غيره { ومن تزكى } فى مقام وآتوا الزكوة لكنه عدل الى هذا لافادة هذا المعنى مع شيء زائد { فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير } فيجازيهم على اقامة الصلوة وايتاء الزكوة.
[35.19]
فى تميز الاشياء وفى تميز الحسن والقبيح والضار والنافع حتى يتساوى الذين لا يخشون ربهم مع الذين يخشون فى الانذار.
[35.20]
حتى يستوى الذين يستنير قلوبهم بنور العلم فيخشون ربهم بذلك مع غيرهم.
[35.21]
قيل: المعنى ولا الجنة ولا النار، وقيل: ولا الليل ولا النهار، او المعنى ولا البرد ولا السموم، فان الحرور اسم للسموم وكل ذينك المتقابلين كناية عن المؤمن وايمانه والكافر وكفره، او هو ممثل به والمؤمن والكافر وكفره هو الممثل له.
[35.22]
{ وما يستوي الأحيآء ولا الأموات } اى الاحياء بالحيوة الايمانية الفطرية او الايمانية التكليفية اللتين يعبر عنهما بالحبلين وبالولاية التكوينية والتكليفية { إن الله يسمع من يشآء ومآ أنت بمسمع من في القبور } التى هى قبور اجسادهم الميتة وهؤلاء حالهم حال من كان ميتا واقعا فى قبره، وما انت بمسمع من كان منغمرا في قبور نفوسهم الحيوانية وابدانهم الطبيعية.
[35.23]
سمعوا او لم يسمعوا.
[35.24]
{ إنآ أرسلناك بالحق } اى بالولاية فانها الحق المطلق وكل ما سواه حق بحقيته { بشيرا ونذيرا } للمؤمن والكافر { وإن من أمة إلا خلا فيها نذير } يعنى ما اهملنا امة من الامم بل بعثنا فى كل امة نذيرا من نبى او وصى نبى، فى حديث عن الباقر (ع): لم يمت محمد (ص) الا وله بعيث نذير قال: فان قيل: لا، فقد ضيع رسول الله (ص) من فى اصلاب الرجال من امته، قيل: وما يكفيهم القرآن؟- قال: بلى، ان وجدوا له مفسرا، قيل: وما فسره رسول الله؟- قال: بلى، قد فسره لرجل واحد وفسر للامة شأن ذلك الرجل وهو على بن ابى طالب (ع). اعلم، انه تعالى جعل غاية خلق العالم بنى آدم، وجعل غاية خلق بنى آدم ولاية على بن ابى طالب (ع) سواء كانت ظاهرة فى هيكل النبوة او الرسالة او الخلافة وليس المراد بالنذير الا الرسول او النبى او خليفتهما، فلو لم يكن فى العالم حينا نذير بطل الخلقة ولم يكن لها غاية، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، فلم يكن عالم الا وكان فيه آدم، ولم يكن آدم الا وكان له نذير وهكذا لم يبق العالم بلا آدم ولا نذير.
[35.25]
{ وإن يكذبوك } فلا تحزن فان هذه سنة قديمة { فقد كذب الذين من قبلهم جآءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير } قد مضى فى آخر آل عمران هذه الكلمات.
[35.26]
{ ثم أخذت الذين كفروا } برسلهم وكذبوهم { فكيف كان نكير } بالعقوبة لهم تهديد للمكذبين.
[35.27]
{ ألم تر } الخطاب خاص بمحمد (ص) ولا اشكال فانه يرى ان الله انزل من السماء ماء، او عام فالمعنى انه ينبغى ان يرى كل راء ذلك لانه لو لم يكن بصره محجوبا كان يرى ذلك فهو ملوم على ان لا يرى { أن الله أنزل من السمآء مآء فأخرجنا به ثمرات } لما كان انزال الماء من السماء بتوسط الاسباب الطبيعية الظاهرة على الابصار والعقول اتى بالله بلفظ الغيبة كأنه تعالى عند ذلك غائب عن الابصار والظاهر عليها هو الاسباب بخلاف اخراج الثمرات فان الاسباب الطبيعية فيه خفية عن الابصار فكأن الناظر اليه لا يرى توسط الاسباب ويرى المسبب عنده فلذلك التفت من الغيبة الى التكلم { مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد } جمع الجدة بالضم الطريقة مثل الجادة وهو عطف على محل معمولى ان، او عطف على جملة الم تر فانه فى معنى انت ترى البتة، او حال والمقصود ان انزال الماء من السماء واخراج الثمرات المختلفة من الماء الواحد واختلاف جدد الجبال المتحدة فى الحجرية كلها تدل على قدرته وعلمه وارادته { بيض وحمر مختلف ألوانها } اى الوان البيض بالكدرة والشفافة، وكذلك الحمر باختلاف الوانها { وغرابيب سود } جمع الغربيب تأكيد الاسود وكان حقه ان يقول سود غرابيب لكنه عكس للتأكيد ولقصد بيان الغرابيب.
[35.28]
{ ومن الناس والدوآب والأنعام مختلف ألوانه } الضمير راجع الى البعض المستفاد من لفظة من { كذلك } متعلق بمختلف اى مختلف الوان المذكورات مثل اختلاف جدد الجبال واختلاف الثمار { إنما يخشى الله من عباده العلماء } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: لم لا يخشى الناس من الله مع هذه الدلائل وتلك الانذارات؟- فقال: لا ينفع الدلالات والانذارات لمن لم يقذف الله فى قلبه نور العلم، ولما كان اغلب الناس خالين من نور العلم لا ينفع هذه فيهم.
اعلم، ان الانسان له مراتب ولكل مرتبة منه خوف ورجاء ونحو من العلم غير ما للمرتبة الاخرى؛ فاولى مراتبه مرتبة نفسه الامارة، وفى تلك المرتبة لا تسمى ادراكاته الا ظنونا ولا يكون ادراكاته الا محصورة على لوازم الحيوة الدنيا فان ذلك مبلغها من العلم ولا يكون خوفه ورجاؤه الا فيما يتعلق بالحيوة الدنيا، وثانية مراتبه مرتبة نفسه اللوامة وفى تلك المرتبة يختلط ادراكاته من الظنون والعلوم والذوق والوجدان لانه قد يظهر حينئذ بشأن النفس الامارة فيحكم عليه باحكامها، وقد يظهر بشأن النفس المطمئنة فيحكم عليه باحكامها، وثالثة مراتبه مرتبة النفس المطمئنة وفى تلك المرتبة يكون ادراكاته علوما وذوقا ووجدانا، وخوفه يكون من الله ومن سخطاته وفراقه ويسمى ذلك الخوف خشية لان الخشية حالة حاصلة من امتزاج استشعار القهر واللطف والخوف والمحبة، وما لم يصل الانسان الى ذلك المقام لم يحصل له محبة ما لله فلم يحصل له خشية ما منه وكان خوفه خوفا صرفا من قهره فقط اذا كان له خوف، ورابعة - مراتبه مرتبة قلبه وفى تلك المرتبة يكون ادراكاته شهودا وذوقا ووجدانا ويكون خوفه هيبة فان المشاهد لا يرى الله الا محيطا بنفسه وليس شأن المحاط الا الهيبة من المحيط وبعد ذلك يكون السطوة والسحق والمحق { إن الله عزيز غفور } تعليل لخشية العلماء فان العزة يستلزم الخوف الذى هو احد جزئى الخشية، والغفران يستلزم المحبة التى هى جزاء آخر منها، عن الصادق (ع) يعنى بالعلماء من صدق قوله فعله ومن لم يصدق قوله فعله فليس بعالم، وعن السجاد (ع): ما العلم بالله والعمل الا الفان مؤتلفان، فمن عرف الله خافه وحثه الخوف على العمل بطاعة الله، وان ارباب العلم واتباعهم الذين عرفوا الله فعملوا له ورغبوا اليه وقد قال الله: انما يخشى الله من عباده العلماء.
[35.29]
{ إن الذين يتلون كتاب الله } جواب سؤال مقدر كأنه قيل: فما لمن يخشى الله؟- فقال: ان الذين يخشون الله لكنه ابدله بما ذكر فى الآية للاشعار بان الذين يخشون الله يتلون كتاب الله { وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية } قد مضى فى اول البقرة بيان هذه الكلمات والاختلاف بالمضى والاستقبال فى تلك الافعال لا يخفى وجهه على الفطن { يرجون تجارة لن تبور } لن تفسد والمعنى انهم بانفسهم يرجون ذلك او يرجى لهم تجارة لن تبور فينبغى ان يرجوا بانفسهم ذلك.
[35.30]
{ ليوفيهم أجورهم } تعليل للرجاء او للتجارة، او لقوله لن تبور او لقوله يتلون والمعطوفات عليه { ويزيدهم من فضله إنه غفور } فلا يحاسبهم على مساويهم فيصير ترك المحاسبة زيادة من فضله { شكور } فيزيدهم لا محالة بمقتضى شكره.
[35.31]
{ والذي أوحينآ إليك من الكتاب } عطف على ان الذين يتلون كتاب الله او على مدخول ان ووجه المناسبة بينهما ان السامع كأنه تردد فى ان كتاب الله الذى مدح الله تاليه هو مطلق احكام النبوات من احكام نوح وهود وصالح وابراهيم وموسى وعيسى (ع) ومطلق الكتب السماوية من صحف ابراهيم والتوراة والانجيل والقرآن فعطف وقال: ان الذى اوحينا اليك من كتاب النبوة ومن صورة القرآن { هو الحق } لا حق سواه فلا يتوهم متوهم ان المذكورات ايضا حق ينبغى تلاوتها فانها صارت منسوخة { مصدقا لما بين يديه } ولما توهم من حصر الحق فيما اوحى اليه بطلان المذكورات اضاف اليه قوله مصدقا لما بين يديه من الشرائع والكتب حتى يحقق بذلك حقيتها ايضا { إن الله بعباده لخبير } فيعلم بواطن امورهم { بصير } فيعلم ظواهر امورهم فلو لم يكن فيك ما يقتضى ايحاء مثل هذه النبوة التى هى خاتم النبوات والرسالات ومثل هذا الكتاب الذى هو خاتم الكتب ومهيمن عليها لما اوحى اليك.
[35.32-33]
{ ثم أورثنا الكتاب } عطف على ان الذين يتلون كتاب الله باعتبار عقد الوضع او على الذى اوحينا اليك من الكتاب باعتبار عقد الوضع ايضا، والمراد بالكتاب هو احكام الرسالة والنبوة والقرآن صورتها، وايراثها عبارة عن قبولهم تلك الاحكام بالبيعة العامة الصحيحة الاسلامية، او قبولهم تلك بالبيعة الخاصة الايمانية { الذين اصطفينا من عبادنا } بقبولنا لهم اى بقبول خليفتنا لهم بالبيعة { فمنهم ظالم لنفسه } بوقوفه فى مربض بهيميته وسبعيته وشيطنته من غير خروجه الى انسانيته { ومنهم مقتصد } وهو الذى خرج الى انسانيته ولم يبلغ الانتهاء فى ذلك ولم يرجع لتكميل غيره { ومنهم سابق } لكل من سواه { بالخيرات } جميعا { بإذن الله } او بجنس الخيرات وهو الذى بلغ منتهى ما ينبغى ان يبلغ بحسب شأنه واستعداده ثم رجع لتكميل غيره فانه سبق غيره بجملة الخيرات او ببعضها.
وهذه الآية بهذا التفسير تشمل كل من باع البيعة العامة الاسلامية الصحيحة لا البيعة الفاسدة كالذين باعوا مع خلفاء الجور سواء باع البيعة الخاصة الايمانية ام لا، وسواء ترقى عن مقامه الذى كان فيه قبل البيعة او لم يترق، او لا تشمل الا الذى باع البيعة الايمانية فان المسلم وان كان له نسبة البنوة الى من باع معه البيعة الاسلامية، ونسبة الاخوة الى من باع تلك البيعة لكنها لغاية خفائها كأنها لم تكن ولذلك كانت تلك النسبة لم يبلغ سلطانها الى الآخرة ولا يحصل منها الا حفظ الدم والمال والعرض وجريان المناكح والمواريث، والاجر لا يكون الا على الايمان، فالوارث من النبى او خليفته ليس الا من باع معه البيعة الايمانية وبتلك البيعة يتحقق نسبة الابوة والبنوة بينهما، ونسبة الاخوة بينه وبين سائر المؤمنين ويكون سلطانها باقيا الى الآخرة، هذا بحسب ظاهر الآية فان الداخلين فى الاسلام والداخلين فى الايمان بقدر قوة نسبتهم وضعفها الى الرسول (ص) وارثون منه كتاب الرسالة ووارثون منه كتاب القرآن لكن ورد أخبار كثيرة جدا فى تخصيص الوارثين والمصطفين باولاد فاطمة (ع)، وان الآية نزلت فى الفاطميين وانهم مغفور لهم على ظلمهم، وانه لا يدخل فيهم من اشار بسيفه ودعا الناس الى ضلال، وفى بعض الاخبار انها لآل محمد (ص) خاصة ولعل التخصيص بالفاطميين او بآل محمد (ص) للاشارة الى شمول الآية للبائعين البيعة الخاصة الايمانية دون البائعين البيعة العامة فانه ورد عنهم (ع) ان شيعتنا الفاطميون والعلويون والهاشميون، ولو خصصت الآية باولاد فاطمة (ع) اولادها الجسمانيين كما فى بعض الاخبار من التلويح اليه لما كان بعيدا فانهم الوارثون حقيقة والمصطفون واقعا، وغيرهم من شيعتهم وارثون بايراثهم ومصطفون باصطفائهم وتبعيتهم، وورد ان الظالم لنفسه الذى لا يقر بالامام، والمقتصد العارف بالامام، والسابق بالخيرات الامام، وفى بعض الاخبار فسر الظالم بمن لا يعرف حق الامام، وعن الصادق (ع): الظالم يحوم حول نفسه، والمقتصد يحوم حول قلبه، والسابق يحوم حول ربه، وبهذه المضامين اخبار كثيرة، ويستفاد من جملتها ان ذرية فاطمة (ع) الجسمانيين ان لم يعرفوا امامهم ولم يبايعوا معه كانوا مغفورا لهم، والبائعين مع الامام البيعة الخاصة ان لم يخرجوا من حدود انفسهم ووقفوا فى مهاوى انفسهم مغفور لهم بمحض حصول النسبة الايمانية من غير الوصول الى دار الايمان، لكن: اقول لكم اخوانى: لا تغتروا بامثال ذلك حتى لا تجتهدوا فى الخروج من مهاوى انفسكم وتقفوا على ملذات البهيمية ولا تعرفوا من الفقر الا الحلق والدلق لانكم لو ابقيتم النسبة الى الموت كان ذلك لكم بل لكم المغفرة بل الترقى الى الدرجات العالية ولو جئتم بسيئات الجن والانس، لكن ابقاء تلك النسبة مع عدم المبالاة بحفظها وعدم الاجتهاد فى الخروج عن مقام البهيمية فى غاية الاشكال ولو قطعت تلك النسبة العياذ بالله لكان عذاب المنقطع النسبة عذابا لا يعذب الله احدا بذلك العذاب، فكونوا على حذر من قطعها، حفظنى الله واياكم ووفقنى واياكم { ذلك } الاصطفاء والايراث او السبق بالخيرات { هو الفضل الكبير جنات عدن يدخلونها } قرئ برفع جنات عدن مبتدء وخبر، او قرئ بنصبها منصوبا على شريطة التفسير، او بدلا من الكتاب بدل الاشتمال، وعلى الوجهين تكون الجملة جوابا لسؤال مقدر، وقرئ يدخلونها مبنيا للمفعول { يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا } قرئ بالجر والنصب { ولباسهم فيها حرير } لائق بالجنة لا من جنس حرير الدنيا.
[35.34]
{ وقالوا } بعد ما رأوا مقامهم وطهارتهم عن كل ما لا يليق بالانسان { الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن } على ما يليق انسانيتنا { إن ربنا لغفور } لانه اذهب وستر علينا ما يحزننا { شكور } اعطانا على قليل اعمالنا بواسطة نسبتنا الى اوليائنا ما كنا لا نتصور اعطاءه.
[35.35]
{ الذي أحلنا دار المقامة } اى دار الاقامة { من فضله } لا باستحقاقنا وهى اخيرة مراتب الجنات فان غيرها دار العبور { لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب } لغب لغبا كالنصر ولغوبا بضم اللام وفتحها كمنع وسمع وكرم اعيا اشد الاعياء، وعن النبى (ص) فى حديث يذكر فيه ما اعد الله لمحبى على (ع) يوم القيامة انهم اذا دخلوا منازلهم وجدوا الملائكة يهنونهم بكرامة ربهم حتى اذا استقروا قرارهم قيل لهم: هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟- قالوا: نعم، ربنا رضينا فارض عنا، قال: برضاى عنكم وبحبكم اهل بيت نبيى حللتم دارى وصافحتم الملائكة فهنيئا هنيئا عطاء غير مجذوذ ليس فيه تنغيص فعندها قالوا: الحمد لله الذى اذهب عنا الحزن (الآية) وعن أبى جعفر (ع)
" ان رسول الله (ص) سئل عن قول الله عز وجل: يوم نحشر المتقين الى الرحمن وفدا، قال: فقال: يا على ان الوفد لا يكونون الا ركبانا (وساق الحديث الى ان قال) فاذا دخل الى منازله فى الجنة وضع على رأسه تاج الملك والكرامة والبس حلل الذهب والفضة والدر منظومة فى الاكليل تحت التاج (قال) والبس سبعين حلة بالوان مختلفة وضروب مختلفة منسوجة بالذهب والفضة واللؤلؤ والياقوت الاحمر فذلك قوله عز وجل: ويحلون فيها من اساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير "
وهذا الحديثان يدلان على شمول الاصطفاء وايراث الكتاب لذرية فاطمة (ع) سواء كانوا جسمانيين او روحانيين.
[35.36-37]
{ والذين كفروا } بالله او بمحمد (ص) او بآله (ع) او بالايمان او بالكتاب او بنعمة الولاية او بمطلق النعم فانه مقابل قوله ثم اورثنا الكتاب لانه بمنزلة ان يقال: ان الذين آمنوا لهم كذا، والذين كفروا { لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا } فيستريحوا من عذابها { ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور وهم يصطرخون فيها ربنآ أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل } من الكفر بالولاية او بسائر ما ذكر، روى عن على (ع) انه قال:
" قال رسول الله (ص): يا على ما بين من يحبك وبين ان يرى ما يقربه عيناه الا ان يعاين الموت، ثم تلا: ربنا اخرجنا نعمل صالحا غير الذى كنا نعمل "
يعنى اعداء على (ع)، وهذا الحديث يدل على ان المراد بالذين كفروا من كفر بالولاية وهو يدل على شمول الآية لمطلق المؤمنين بالولاية { أولم نعمركم } بتقدير القول مثل قوله ربنا أخرجنا { ما يتذكر فيه من تذكر } فسر العمر الذى يتذكر فيه بثمانى عشرة سنة، وفى خبر ان العبد لفى فسحة من امره ما بينه وبين اربعين سنة وبعد ذلك يوحى الله الى ملائكته انى قد عمرت عبدى عمرا فغلظا وشددا واحفظا عليه قليل عمله وكثيره وصغيره وكبيره، وفى خبر: العمر الذى اعذر الله فيه الى ابن آدم ستون سنة، وفى آخر عن النبى (ص): من عمره الله ستين سنة فقد أعذر اليه { وجآءكم النذير } جملة حالية { فذوقوا فما للظالمين من نصير } يدفع العذاب عنهم.
[35.38]
{ إن الله عالم غيب السماوات والأرض } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: لا يظهر عداوة على (ع) والكفر به على ظاهر الاكثر فهل يعلم الله ذلك؟- فقال: ان الله عالم غيب السماوات فكيف لا يعلم ما فى قلوب عباده { إنه عليم بذات الصدور } تأكيد للازم الجملة السابقة ولذلك لم يأت باداة الوصل.
[35.39]
{ هو الذي جعلكم خلائف في الأرض } لنفسه فانه جعلكم على مثاله او خلائف للماضين وهذه منقطعة عن سابقها وتمهيد لما بعدها، او هو جواب لسؤال مقدر ناش من سابقها كأنه قيل: هو يعلم ما فى الصدور؟- فقال: هو الذى جعلكم خلائف فكيف لا يعلم ما فى صدوركم { فمن كفر } بالله او بالنبوة او بالولاية او بنعمة الخلافة او بمطلق النعم { فعليه كفره } لا على غيره لان الله عادل وعالم بكفر الكافر وايمان المؤمن { ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا } فان مقت الرب مورث لا محالة لخسار العبد.
[35.40]
{ قل } لهؤلاء المشركين بالله او بالولاية او المشركين اهويتهم بأمر ربهم { أرأيتم } قد مضى تحقيق هذه الكلمة وانها تستعمل بمعنى أخبرونى { شركآءكم الذين تدعون من دون الله أروني } بدل من ارأيتم { ماذا خلقوا من الأرض } فضلا عن السماء { أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتابا } فيه اذن منا فى اشراكهم { فهم على بينة منه } من الكتاب او من الله فى الاشراك حتى يكونوا معذورين فى اتباع الشركاء يعنى ان هذا امر عظيم لا ينبغى ان يأخذه العاقل من دن دليل يدل عليه من كون الشريك خالقا لشيء من مواليد الارض او شريكا فى شيء من اجزاء السماء، او اسبابها المؤثرة فى الارض، او كونه ذا حجة من الله يدل على شراكته او كون المشرك ذا حجة من الله تعالى وليس لهؤلاء شيء من ذلك { بل إن يعد الظالمون } اى المشركون او الشركاء فى الولاية { بعضهم } كل بعض منهم او رؤسائهم { بعضا } اى كل بعض او مرؤسيهم { إلا غرورا } وعدا لا حقيقة له بان يقول شركاء الولاية اتباعهم: نحن شفعاؤكم قالا او حالا فان ادعاء الامامة والخلافة ادعاء للشفاعة او بان يقول رؤساء الضلالة: نحن نتحمل خطاياكم، او يقولوا: نحن نحفظم من محمد (ص) او من البلايا، او ننصركم فيما دهاكم، او بان يقول الاتباع: نحن معكم ونغزو عدوكم وغير ذلك من الوعد الكذب.
[35.41]
{ إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا } اى يمسك سماوات الطبع وارضه من الزوال عن امكنتهما، او المراد يمسك سماوات الارواح واراضى الاشباح من الزوال عن مقامهما، او سماوات العالم الصغير وارضه من الزوال والجملة جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: فما للشركاء دخل فى السماوات والارض فى العالم الكبير ولا فى العالم الصغير؟- فقال بنحو الحصر: ان الله لا غيره يمسك السماوات والارض ان تزولا { ولئن زالتآ إن أمسكهما من أحد من بعده } من بعد الله او من بعد الزوال { إنه كان حليما } فلذلك لا يعجل فى عذاب الشركاء وعابديهم { غفورا } يغفر لمن تاب منهم.
[35.42]
{ وأقسموا بالله جهد أيمانهم } يمينا غليظا { لئن جآءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم } من اليهود والنصارى وهذا ديدن النساء وكل من كان على شيمتهن بان يقولوا: لو كان كذا لكان كذا، فيمشون ويعيشون على قول: لو كان كذا، قيل: ان قريشا لما بلغهم ان اهل الكتاب كذبوا رسلهم (ع) قالوا: لعن الله اليهود والنصارى لو اتانا رسول لنكونن اهدى من احدى الامم { فلما جآءهم نذير } يعنى محمدا (ص) { ما زادهم إلا نفورا } عن النذير فضلا ان يكونوا مهتدين او اهدى.
[35.43]
{ استكبارا في الأرض } مفعول له { ومكر السيىء } عطف على استكبارا او هما مصدران وفعلاهما محذوفان { ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله } لان الماكر حين يمكر ليس الا سخرية للشيطان ومحاطا به ومحكوما له، والدخول تحت حكومة الشيطان عذاب عاجل لانسانية الانسان قبل وصول مكره الى الممكور، وبعد وصول مكر الماكر الى الممكور يكون ارتفاعا للممكور اما فى الدنيا والآخرة، او فى الآخرة، وتنزلا للماكر فيهما او فى الآخرة فقط { فهل ينظرون } اى ينتظرون { إلا سنة آلأولين } فى الرسل والمكذبين الماكرين بتعذيبهم واحاطة وبال مكرهم بهم { فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا } عن المستحق الى غير المستحق.
[35.44]
{ أولم يسيروا في الأرض } حتى يشاهدوا آثار الرسل وآثار مصدقيهم ومكذبيهم { فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم } فيعتبروا بهم ويتأسوا بالمصدقين ويجتنبوا عن مثل افعال المكذبين واقوالهم وقد مضى مكررا تفسير الارض والسير فيها بارض القرآن والاخبار والسير الماضية وبارض العالم الصغير { وكانوا أشد منهم قوة } فهؤلاء اولى لضعفهم بان يجتنبوا عن مثل افعالهم { وما كان الله ليعجزه من شيء } عن انفاذ امره وامضاء سنته { في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليما } بجملة الاشياء فيعلم تكذيب المكذب واستكباره ومكره وتصديق المصدق وتسليمه { قديرا } على ما يريد.
[35.45]
{ ولو يؤاخذ الله } كأنه توهم متوهم ان الله ان كان عالما بهم وقديرا على مؤاخذتهم فلم لا يؤاخذهم؟! فعطف قوله ولو يؤاخذ الله { الناس بما كسبوا } رفعا لذلك التوهم { ما ترك على ظهرها } اى ظهر الارض { من دآبة } بشؤم اعمال بنى آدم ومؤاخذة دواب الارض بمؤاخذتهم { ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جآء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا } فيجازى كلا باعماله ولا يفوت احد منه.
[36 - سورة يس]
[36.1]
قد مضى فى اول البقرة وفى غيرها ما يكفى لبيانها، وقد ورد فى الاخبار ان يس ونون من اسماء محمد (ص)، وقيل ههنا: ان يس معناه يا انسان بلغة طى، وقرئ يس ونون باظهار النون فى الوصل على الاصل، وقرئ بادغام النون فى الواو على خلاف الاصل، وقرئ بكسر النون بناء كجير، وبفتحها بناء كاين، او باضمار حرف القسم ومنع الصرف وبالضم بناء كحيث، او اعرابا على تقدير هذه يس.
[36.2]
اقسم تأكيدا واقسم بالقرآن تفخيما له ليكون دليلا على رسالته لان رسالته بالقرآن، وكون القرآن حكيما لاشتماله على دقائق العلوم بل دقائق العمل.
[36.3-4]
وهو الولاية التكوينية والتكليفية وهى الطريق المستقيم الى كل خير والطريق الموصل الى الله وهذه الكلمة تثبيت له (ص) على ما هو عليه ولامته وردع لمنكريه.
[36.5]
قرئ بالرفع خبرا لمحذوف اشارة الى القرآن وكون التنزيل بمعنى المنزل، او اشارة الى التنزيل المشهود له، وقرئ بالنصب مصدرا لفعله المحذوف او مفعولا لاعنى او امدح محذوفا، وقرئ بالجر على البدل من القرآن، واضاف التنزيل الى العزيز الرحيم رفعا لخوفه عن غيره وتقوية لخوفه ورجائه منه.
[36.6]
عن الله وعقابه وثوابه وامره ونهيه، وفى خبر منسوب الى الصادق (ع) اشعار بان المعنى لتنذر بولاية أمير المؤمنين (ع) فهم غافلون عنها وذلك ان الولاية غاية الرسالة واصل جملة الاحكام والوعدات والوعيدات.
[36.7]
{ لقد حق القول } بدخول النار او بالعذاب { على أكثرهم } وفى الخبر المذكور انه قال: ممن لا يقرون بولاية على امير المؤمنين (ع) والائمة من بعده (ع) { فهم لا يؤمنون } بولاية على (ع) بالبيعة على يده او ايدى خلفائه (ع)، وفى ذلك الخبر انه قال بولاية امير المؤمنين (ع) والاوصياء من بعده فلما لم يقروا كانت عقوبتهم ما ذكر الله.
[36.8]
{ إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا } هى صور اعمالهم او جزاء اعمالهم بناء على تجسم الاعمال وجزاء العامل بصورة اخرى اخروية مناسبة لصورة الاعمال المجسمة، والاتيان بالماضى اما لتحقق وقوعه او للاشارة الى ان الاغلال تكون فى اعناقهم فى الدنيا لكن مداركهم خدرة لا يدركونها وذلك ان الاغلال الاخروية مأخوذة من الاخلاق الدنيوية وهى فى الدنيا محيطة بهم وفى الآخرة تظهر بصورة الاغلال { فهى إلى الأذقان } لسعتها واحاطتها بجميع ابدانهم { فهم مقمحون } اقمح الغل الاسير، ترك رأسه مرفوعا لضيقه.
[36.9]
{ وجعلنا من بين أيديهم } يعنى من جهة دنياهم او من جهة آخرتهم { سدا ومن خلفهم سدا } حتى لا يبصروا من جهة دنياهم شيئا يعتبروا به ولا من جهة آخرتهم { فأغشيناهم } من جميع جوانبهم { فهم لا يبصرون } قدامهم وخلفهم ولا ايمانهم وشمائلهم لاغشائهم بالسدين، ولا يبصرون ما تحت اقدامهم لمنع الغل ذلك، ولا ما فوق رؤسهم لذلك، وذكر فى نزول الآية اشياء من اراد فليرجع الى المفصلات.
[36.10]
فى الخبر المنسوب الى الصادق (ع) انه قال: فهم لا يؤمنون بالله وبولاية على (ع) ومن بعده وقد سبق بيان هذه الكلمات فى اول البقرة.
[36.11]
{ إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب } قد مضى مكررا ان الذكر هو الولاية التكوينية والتكليفية وان محمدا (ص) وعليا (ع) لكونهما متحدين مع الولاية يكونان ذكرا، وان القرآن ايضا صورة الولاية، وان الذكر اللسانى والخيالى صورة ذلك الذكر فالمقصود بالذكر ههنا هو الولاية التكوينية التى هى عبارة عن الفطرة الانسانية ومن اتبع الفطرة الانسانية علم بحسب فطرته بالله، ومن علم بالله خشيه، ولا ينفع الانذار الا لمن توجه الى فطرته وقذف الله فى قلبه نور العلم وخشى ربه { فبشره بمغفرة } عظيمة لجميع مساويه { وأجر كريم } لا نقصان ولا نفاد فيه ولا منة فيه على المأجور.
[36.12]
{ إنا نحن نحيي الموتى } تعليل وتسلية ووعد ووعيد { ونكتب ما قدموا } من الاعمال التى لا تبقى بصورها عليهم { وآثارهم } من العلوم والاخلاق وآثار الاعمال التى عملوها فبقى آثارها على نفوسهم { وكل شيء } غير المذكورات { أحصيناه } اى كتبناه { في إمام مبين } هو اللوح المحفوظ، او القلم الاعلى، او الامام الذى هو بنفسه علم الله بكل شيء فان الله بكل شيء عليم
في بيوت أذن الله أن ترفع
[النور: 36] وتلك البيوت هى ائمة الناس.
[36.13-14]
{ واضرب لهم } اى اذكر لهم { مثلا } اى حالا شبيهة بحالهم حتى يتنبهوا بقبح احوالهم وافعالهم { أصحاب القرية } اى مثل اصحاب القرية وهو بدل من مثلا بجعل اضرب متعديا لواحد او مفعول اول لاضرب ومثلا مفعول ثان له والقرية انطاكية ارسل اليها عيسى (ع) او ارسل الله اليها كما فى بعض الاخبار { إذ جآءها المرسلون إذ أرسلنآ } اذ الاولى بدل من اصحاب القرية بدل الاشتمال، واذ الثانية بدل من الاولى { إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا } اى قويناهما { بثالث } هو شمعون او نبى من الله تعالى وكان اسم الرسولين يحيى ويونس (ع) { فقالوا إنآ إليكم مرسلون } نقل عن الباقر (ع) ان الله ارسل الى مدينة انطاكية رجلين فجاءاهم بما لا يعرفون فغلظوا عليهما فأخذوهما وحبسوهما فى بيت الاصنام (الى آخر الحديث المذكور فى التفاسير) وفى رواية بعث عيسى (ع) هذين الرسولين فأتيا انطاكية ولم يصلا الى ملكها وطالت مدة مقامهما فخرج الملك ذات يوم فكبرا فأخذهما الملك وحبسهما فى بيت الاصنام فبعث عيسى (ع) شمعون الصفا رأس الحواريين فدخل شمعون البلدة منكرا ونصر الرسولين وادخل الملك واهل البلدة فى الدين كما فى التفاسير.
[36.15]
{ قالوا مآ أنتم إلا بشر مثلنا } اثبتوا لهما البشرية وحصروهما فيها باعتقاد انها تنافى الرسالة من الله المجرد من المواد ونقائصها { ومآ أنزل الرحمن من شيء } لان الرحمن لا ينزل الى البشر { إن أنتم إلا تكذبون } بمنزلة النتيجة.
[36.16-17]
{ قالوا } بعدما اصروا على الانكار بتأكيدات عديدة { ربنا يعلم إنآ إليكم لمرسلون وما علينآ إلا البلاغ المبين } لغاية انكارهم لم يقتصروا على المدعى وتأكيداته.
[36.18-19]
{ قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا } عما تقولون وهو الذى تطيرنا به { لنرجمنكم وليمسنكم } علاوة عن الرجم { منا عذاب أليم قالوا طائركم معكم } قد مضى هذه الكلمة مكررة { أإن ذكرتم } تطيرتم او توعدتم { بل أنتم قوم مسرفون } فى جميع الامور فلا غرو فى ان تعذبونا بعد ان تذكرتم بانا لا نقول الا الحق.
[36.20-21]
{ وجآء من أقصى المدينة رجل يسعى } هو حبيب النجار مؤمن آل يس قيل: انه آمن بمحمد (ص) وبينهما ستمائة سنة، وكان فى غار يعبد الله فلما بلغه خبر الرسل اظهر دينه،
" وعن النبى (ص) انه قال: الصديقون ثلاثة: حبيب النجار مؤمن آل يس، وحزقيل مؤمن آل فرعون، وعلى بن أبى طالب "
{ قال يقوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا } فلذلك كانوا احقاء بالاتباع لعدم نظرهم الى دنياكم فليس لهم هم الا آخرتكم { وهم مهتدون } لظهور اهتدائهم من اقوالهم وافعالهم.
[36.22]
{ وما لي لا أعبد الذي فطرني } والفاطر اولى بالعبادة من كل معبود { وإليه ترجعون } ومن كان رجوع الخلق اليه آخر الامر اولى بان يعبد.
[36.23]
{ أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا } والمعبود لا بد وان يدفع عن العابد وان لم يدفع فلا اقل ان يشفع عند من يريد به ضرا { ولا ينقذون } منه.
[36.24]
اظهر (ع) دينه حيث لا يرى فى التقية خير العباد ولا نصر الرسل (ع) فقال: { إني آمنت بربكم... }.
[36.25-27]
{ إني آمنت بربكم } الخطاب للرسل (ع) او لاهل القرية مع التلميح الى بطلان دينهم وحقية دينه { فاسمعون قيل ادخل الجنة } يعنى قالت الملائكة او الله له بعد قتله بشارة له قبل الدخول او اكراما واعزازا { قال يليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين } فى حديث نصح قومه حيا وميتا.
[36.28]
{ ومآ أنزلنا على قومه من بعده من جند من السمآء } كما انزلنا يوم بدر والخندق بل كفينا امرهم بصيحة { وما كنا منزلين } ما نافية او موصولة معطوفة على جند اى وما انزلنا على قومه ما انزلنا على السابقين من الاحجار والامطار والرياح.
[36.29-30]
{ إن كانت } اخذتنا { إلا صيحة واحدة } صاح بها جبرئيل { فإذا هم خامدون يحسرة على العباد } يا قوم حسرة على العباد او جعل الحسرة مناداة على عادة العرف { ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون } تعريض بأمة محمد (ص) وتنبيه لهم.
[36.31-32]
قد مضى نظير الآية فى آخر سورة هود عند قوله: وان كلا لما ليوفينهم ربك اعمالهم.
[36.33]
وهو دليل على علمنا وقدرتنا واهتمامنا بهم وعدم اهمال شيء بلا غاية وان احياءنا لهم ليس الا لغاية متقنة.
[36.34-35]
{ وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم } عطف على ثمره والضمير راجع الى المذكور والمراد من ما عملت ايديهم انواع العصيرات وما يجففونه من الثمار او ما يصنعونه من مطلق الحبوب والاثمار، او لفظة ما نافية والجملة حالية { أفلا يشكرون } وينبغى ان يشكروا ويلاحظوا المنعم فى تلك النعم، ويعظموه بطلب امره ونهيه وامتثالهما.
[36.36]
{ سبحان الذي خلق الأزواج كلها } اى اصناف المواليد { مما تنبت الأرض } من انواع النبات والاشجار { ومن أنفسهم ومما لا يعلمون } من اصناف المعادن والحيوان التى لم يروها ولم يسمعوا بها.
[36.37]
{ وآية لهم الليل نسلخ منه النهار } نزيله مستعار من سلخ الشاة { فإذا هم مظلمون } عن الباقر (ع) يعنى قبض محمد (ص) وظهرت الظلمة فلم يبصروا فضل اهل بيته.
[36.38]
{ والشمس تجري } مبتدء وخبر ويدل على كونها آية ذكر الجملة فى ذيل تعداد الآيات او الشمس عطف على الليل { لمستقر لها } اى لمستقر لجريها من منطقتها بحيث لا يتجاوزها الى غيرها والا فلا سكون لها حتى يكون لها مستقر { ذلك تقدير العزيز } الذى لا يمنع من امضاء امره وارادته مانع { العليم } الذى يعلم مصالح كل شيء وغاياتها المترتبة عليه فيوجده مشتملا على تلك المصالح والغايات لعدم المانع له من ايجاده كذلك.
[36.39]
{ والقمر قدرناه منازل } الثمانية والعشرين المشهورة المعروفة عند العرب ولذلك لم يذكر من اوضاع الفلك الا تلك المنازل فان العرب كانوا يأخذون احكام النجوم من تلك المنازل وكون القمر فيها ونظره الى سائر الكواكب فيها { حتى عاد } بعد انتهاء سيره الى المنزل الاول { كالعرجون القديم } العرجون العثكول من النخل او العنب عليه التمر او العنب مقصوده تشبيهه فى دقته واعوجاجه بالعرجون اليابس الدقيق المعوج.
[36.40]
{ لا الشمس ينبغي لهآ أن تدرك القمر } لتباين افلاكهما واختلاف مجاريهما وسرعة سير القمر وبطوء سير الشمس، او المعنى لا الشمس ينبغى لها ان تفوق القمر فلا تدعه ان يظهر نوره كما ان شموس الارواح لا ينبغى لها ان تفوق اقمار النفوس والمثال فيفنيها { ولا الليل سابق النهار } فائقها بحيث لم يكن يدع النهار يظهر، او آية الليل التى هى القمر لا ينبغى لها ان تدرك اية النهار وهى الشمس، او المعنى ليس وجود الليل سابقا على وجود النهار، روى عن الاشعث بن حاتم، قال: كنت بخراسان حيث اجتمع الرضا (ع) والفضل بن سهل والمأمون بمرو فوضعت المائدة فقال المأمون: ان رجلا من بنى اسرائيل سأل بالمدينة فقال: النهار خلق قبل ام الليل، فما عندكم؟ قال: فأداروا الكلام فلم يكن عندهم فى ذلك شيء فقال الفضل للرضا (ع): اخبرنا بها اصلحك الله، قال: نعم، من القرآن ام من الحساب؟- قال الفضل: من جهة الحساب، فقال: قد علمت يا فضل ان طالع الدنيا السرطان والكواكب فى مواضع شرفها فزحل فى الميزان والمشترى فى سرطان والشمس فى الحمل والقمر فى الثور فذلك يدل على كينونة الشمس فى الحمل فى العاشر من الطالع فى وسط السماء فالنهار خلق قبل الليل، وفى قوله تعالى: { لا الشمس ينبغي لهآ أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار } اى قد سبقه النهار { وكل في فلك يسبحون } يعنى كل من الشمس والقمر وسائر اصناف النجوم فى فلك يسبحون، حمل الجمع على كل اما باعتبار تقدير المضاف اليه اصناف النجوم، او لجعل كل من النجوم جماعات، فان كلا له نفس ذات جنود، وجمع العقلاء لكون كل ما فى السماء عقلاء، وعن الصادق (ع) خلق النهار قبل الليل، والشمس قبل القمر، والارض قبل السماء، وفى خبر: وخلق النور قبل الظلمة.
[36.41]
باصناف ا لحيوان او باصناف الاجناس، والذرية من الذر بمعنى النشر، او من الذرء بمعنى الخلق، او بمعنى التكثير تطلق على ولد الرجل وعلى نسل الثقلين وعلى النساء، يستوى فيها المفرد والجمع وقد تجمع والمراد بها ذرية الموجودين باعتبار حمل آبائهم ولم يقل: حملنا انفسهم، لان حمل الذرية يستلزم حملهم فهو يفيد حملهم مع الامتنان عليهم بحمل ذرياتهم ونسائهم، والمراد بالفلك سفينة نوح (ع)، او المراد بالذرية الآباء لانها من الذرء بمعنى الخلق، والمراد بالفلك سفينة نوح كما قيل، او المراد بالذرية الاولاد والنساء، والمراد بالفلك السفن الجارية، والامتنان بحمل الذرية والنساء لانهم ضعفاء لا يقدرون على السير فى البحر بنحو آخر ولا على السير فى البر بالمشى، والقرينة على ذلك قوله { وخلقنا لهم من مثله ما يركبون }.
[36.42]
من الدواب لتيسير المشى فى البر لهؤلاء الضعفاء.
[36.43]
{ وإن نشأ نغرقهم } والتأدية بالشرط المستقبل دليل المعنى الاخير { فلا صريخ لهم } بمنع الغرق ودفعه عنهم { ولا هم ينقذون } بعد الغرق.
[36.44]
الاستثناء منقطع بمعنى لكن لم نغرقهم رحمة منا او لكن نرحمهم رحمة منا، او الاستثناء متصل من قوله لا صريخ لهم ولا هم ينقذون، او متصل من نغرقهم بمعنى الا حال كوننا نرحمهم رحمة منا.
[36.45]
{ وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم } من حوادث الدنيا وعذابها، او من عقبات الآخرة وعقوباتها { وما خلفكم } يعلم بالمقايسة، وعن الصادق (ع) معناه اتقوا ما بين ايديكم من الذنوب وما خلفكم من العقوبة { لعلكم ترحمون } اعرضوا ولم يقبلوا حذف الجواب بقرينة قوله { وما تأتيهم من آية من آيات... }.
[36.46]
لانهم تمرنوا على الاعراض.
[36.47-48]
{ وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله } على المحتاجين { قال الذين كفروا } بالله او بمحمد (ص) او بعلى (ع) وولايته { للذين آمنوا } مخاطبين لهم { أنطعم من لو يشآء الله أطعمه } تخصيص المؤمنين بالخطاب اما للتهكم بهم كأنهم تعرضوا بانكم مقرون بالله وانه رازق كل مرزوق فلو كان الامر كما تذكرون كنتم انتم اولى باطعامه، او مقصودهم ابداء العذر فى عدم الانفاق بان الله اولى منا بالاعطاء فلما لم يشأ الله اطعامهم كنا اولى بعدم الاطعام { إن أنتم } فى هذا القول او فى الاقرار بالله او بمحمد (ص) او بعلى (ع) { إلا في ضلال مبين ويقولون متى هذا الوعد } اى وعد العذاب الذى تعدوننا انتم وصاحبكم او وعد القيامة واحياؤنا للجزاء وعذابنا عندها { إن كنتم صادقين } فى ان لنا مبدء وانه يبعثنا بعد موتنا، وان محمدا (ص) رسول منه وان ما يقوله صدق.
[36.49]
{ ما ينظرون } اى ما ينتظرون { إلا صيحة واحدة } هى النفخة الاولى يعنى ان انتظارهم ليس الا النفخة الاولى التى هى نفخة الاماتة وبعد النفخة الاولى يكون الموعود { تأخذهم وهم يخصمون } يختصمون، قرئ يخصمون بفتح الياء وكسر الخاء وتشديد الصاد، وبكسر الياء كذلك، وبفتح الخاء والياء وتشديد الصاد وباسكان الخاء وتشديد الصاد، وقيل: انه غلط والكل مغير اختصم، وقرئ من الثلاثى المجرد يعنى تأخذهم حال كونهم مخاصمين فى معاملاتهم، فى حديث: تقوم الساعة والرجلان قد نشرا ثوبهما يتبايعانه فما يطويانه حتى تقوم، والرجل يرفع اكلته الى فيه فما تصل الى فيه حتى تقوم، والرجل يليط حوضه ليسقى ماشيته فما يسقيها حتى تقوم، وقيل: هم يختصمون هل ينزل بهم العذاب ام لا؟.
[36.50]
عن القمى ذلك فى آخر الزمان يصاح فيهم صيحة وهم فى اسواقهم يتخاصمون فيموتون كلهم فى مكانهم لا يرجع احد الى منزله ولا يوصى بوصية.
[36.51]
{ ونفخ في الصور } اعنى النفخة الثانية وقد سبق فى سورة المؤمنون بيان وتفصيل للصور والنفخ، ولمكث الخلائق بين النفختين، وكيفية النفخ واحيائهم { فإذا هم من الأجداث } اى من القبور الترابية او من القبور البرزخية، عن الباقر (ع): ان القوم كانو فى القبور فلما قاموا حبسوا انهم كانوا نياما { إلى ربهم ينسلون } يسرعون.
[36.52]
{ قالوا يويلنا من بعثنا من مرقدنا } نسب الى على (ع) انه قرأ من بعثنا بمن الجارة والمصدر { هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون } قالوها تحسرا وفى حديث الباقر (ع) السابق: قالت الملائكة: هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون.
[36.53]
{ إن كانت } اى النفخة او البعثة { إلا صيحة واحدة } هى النفخة الاخيرة { فإذا هم جميع لدينا محضرون } بيان لتسهيل امر البعث واستغنائه عن الاسباب.
[36.54-55]
يعنى ان اصحاب الجنة فارغون من الحساب وفى شغل عظيم فخيم متلذذون به بخلاف اصحاب الشمال فانهم فى الحساب وفى العذاب معذبون، عن الصادق (ع): شغلوا بافتضاض العذارى.
[36.56]
{ هم وأزواجهم في ظلال على الأرآئك } اى السرر المزينة جمع الأريكة وهى سرير فى حجلة وكل ما يتكأ عليه من سرير ومنصة وفراش او سرير منجد مزين فى قبة او بيت { متكئون } عن الباقر (ع) انه قال: قال رسول الله (ص):
" اذا جلس المؤمن على سريره اهتز سريره فرحا ".
[36.57]
{ لهم فيها فاكهة } عظيمة لذيذة لا يمكن وصفها { ولهم ما يدعون } ما يشتهون او ما يتمنون من قولهم ادع على ما شئت، او ما يدعونه فى الدنيا من الجنة ونعيمها بسبب ايمانهم، او ما يدعونه فى الدنيا من لقاء الله.
[36.58]
{ سلام } بدل من ما يدعون او خبر مبتدء محذوف اى هو سلام او مبتدء خبر محذوف اى لهم سلام { قولا } حال موطئة { من رب رحيم } صفة قولا وهو فوق كل نعم الجنان.
[36.59]
{ وامتازوا } اى يقال امتازوا { اليوم أيها المجرمون } يعنى بعد ما جمعهم الله يؤمر اهل الجنة بالدخول فى الجنة ويقال لاهل النار: امتازوا عن اهل الجنة، عن القمى: اذا جمع الله الخلق يوم القيامة بقوا قياما على اقدامهم حتى يلجمهم العرق فتنادوا: يا رب حاسبنا ولو الى النار قال: فيبعث الله عز وجل رياحا فتضرب بينهم وينادى مناد: { وامتازوا اليوم أيها المجرمون } فيميز بينهم فصار المجرمون فى النار، ومن كان فى قلبه الايمان صار الى الجنة.
[36.60-65]
{ ألم أعهد إليكم } حال او مستأنف جواب لسؤال مقدر بتقدير القول، او ابتداء كلام من الله للحاضرين { يبني آدم أن لا تعبدوا الشيطان } عبادة طاعة كعادة اكثر الناس له فيما يأمره وينهاه، او عبادة عبودية كعبادة الابليسية { إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني } عبادة طاعة فى طاعة خلفائى وعبادة عبودية بالاستكانة لى { هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلا } قرئ جبلا بكسر الجيم والباء وتشديد اللام، وقرئ جبلا بضم الجيم وسكون الباء وتخفيف اللام، وقرئ بضم الجيم والباء وتشديد اللام، وقرئ جبلا بضمهما وتخفيف اللام، ومعنى الجمع الخلق والخلق الكثير { كثيرا أفلم تكونوا تعقلون هذه جهنم التي كنتم توعدون اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون اليوم نختم على أفواههم وتكلمنآ أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون } عن الباقر (ع) وليست تشهد الجوارح على مؤمن انما تشهد على من حققت عليه كلمة العذاب، فاما المؤمن فيعطى كتابة بيمينه قال الله عز وجل فاما من اوتى كتابه بيمينه فاولئك يقرؤن كتابهم ولا يظلمون فتيلا.
[36.66]
{ ولو نشآء لطمسنا على أعينهم } يعنى مسخنا اعينهم فى الدنيا حتى لا يبصروا فى الدنيا او مسخنا اعينهم فى الآخرة { فاستبقوا الصراط } للسلوك عليه { فأنى يبصرون } الطريق وما فيه فضلا عن غيره.
[36.67]
{ ولو نشآء لمسخناهم } بتبديل صورهم الانسانية الى الصور الاخر { على مكانتهم } على منزلتهم او ثابتين فى امكنتهم { فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون } ولا رجوعا.
[36.68]
{ ومن نعمره ننكسه في الخلق } اى فى خلقته بان نجعل اعضاءه وقواه فى الانتقاص، او ننكسه بين الخلق بان نجعله منحنيا او منتقصا من اعضائه وقواه والجملة حالية لتأييد القدرة على الطمس والمسخ { أفلا يعقلون } افلا يتنبهون فيصيرون عقلاء، او افلا يتفكرون فيعقلون ان الانتقاص فى الخلقة ينتهى الى الفناء.
[36.69]
{ وما علمناه الشعر } حتى يكون القرآن الذى يجرى على لسانه شعرا موزونا مقفى، او كلاما شعريا لا حقيقة له وكان يتزين بتمويهات وتخييلات لا حقيقة لها، فان الشعر يطلق على الكلام الموزون، وعلى الكلام الشعرى الذى يكون باطلا وظاهرا بصورة الحق بتمويهات وتزيينات، ونسبوا كليهما اليه، ولما كان الشعراء فى اغلب الامر بقوة فصاحتهم وطلاقة لسانهم يأتون بكلام منظوم او منثور يجذب قلوب السامعين ورأوا منه مثل ذلك قالوا: انه شاعر وكلامه شعر، ولما ارادوا ان يقولوا ان كلماته محض تخييلات من غير حقيقة له قالوا: انه شاعر كما قالوا: انه مجنون يعنى انه آت بكلام مموه لا حقيقة له كما ان المجنون يأتى بكلام لا حقيقة له لكن فرق بين الشاعر الآتى بالكلام المموه، والمجنون الآتى بالكلام الظاهر - البطلان الغير المموه، ولا يستفاد من هذا ذم الشعر على الاطلاق بل ذم ما أرادوا من نسبة الشعر اليه (ص)، فانه (ص) مدح الشعر واصغى الى الشعراء ومدح الحسان بن ثابت، وروى انه كان يتمثل بقول الشعراء لكن كان يغير الشعر ولم يأت به موزونا ولكن الرواية من طريق العامة وقد نسب الى ائمتنا (ع) اشعار كثيرة ونسب اليهم (ع) انهم كثيرا ما كانوا يتمثلون بالاشعار وكانوا يصلون الى من كان يقول فيهم شعرا { وما ينبغي له } يعنى انا لم نعلمه كلاما شعريا ولم يكن شأنه ان نعلمه ذلك ولم يكن بنفسه ان يأتى بذلك { إن هو } اى القرآن الجارى على لسانه { إلا ذكر وقرآن } كلام جامع لطرفى الدنيا والآخرة ولاحكام القالب والقلب والروح { مبين } ظاهر صدقه وجامعيته، او مظهر لصدقه وجامعيته بمضامينه.
[36.70]
{ لينذر } القرآن او محمد (ص) { من كان حيا } بالفطرة كما عن على (ع) انه فسره بمن كان عاقلا يعنى من كان حيا بالحيوة الانسانية بان كان حبل الله فيه ظاهرا غير منقطع ولا محتجب تحت حجب الاهوية، او من كان حيا بالحيوة التكليفية الحاصلة بالبيعة الخاصة الولوية المورثة للحبل من الناس، وانذار الحى ليس الا من جهة كفره الساتر لذينك الحبلين { ويحق القول } بدخلو النار { على الكافرين } لم يقل ويعذب او يورث العذاب للاشعار بان العذاب ليس من قبل الله ولا من قبل خلفائه انما هو من قبلهم وناش من سوء اعمالهم، والخلفاء لما كانوا موازين للعباد واعمالهم كانوا مظهرين بسوء اعمالهم ولواحقها.
[36.71]
{ أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينآ } يعنى ملائكتنا العمالة فانهم ايدى الله { أنعاما } خص الانعام بالذكر من جملة ما ينتفع الانسان فى معاشه او معاده به لما فيها من المنافع المعاشية من المأكول والمشروب والملبوس والمركوب فهى نافعة له فى جميع جهات معاشه دون غيرها وينتفع بها فى جهات معاده { فهم لها مالكون } بخلاف سائر ما ينتفع به من انواع النبات والاشجار والمعادن فان اكثرها غير مملوكة لهم.
[36.72]
{ وذللناها لهم } بحيث تنقاد لصبيانهم { فمنها ركوبهم ومنها يأكلون } من البانها ولحومها.
[36.73]
{ ولهم فيها منافع } اخر من منافع ظهرها واشعارها واوبارها واصوافها وجلودها { ومشارب } من البانها { أفلا يشكرون } اى الا ينظرون الى ذلك؟! ولا يتفكرون ان خلق امثال ذلك مشتملة على ما يناسب الجهة التى ينبغى ان ينتفع الانسان بها ليس الا من عليم حكيم بصير قدير مدبر ذى عناية بالانسان فلا يشكرون تلك النعم؟!.
[36.74]
{ واتخذوا } عطف على فلا يشكرون يعنى افلا يشكرون؟! بل يكفرون بان اتخذوا، او عطف على مجموع افلا يشكرون يعنى انهم لا يشكرون البتة وينبغى ان يشكروا واتخذوا بدلا من الشكر { من دون الله آلهة } كفرانا به وبنعمه، ويجوز ان يكون عطفا على لم يروا او على او لم يروا { لعلهم ينصرون } بالآلهة مع ان الله ناصرهم فى جليلهم وحقيرهم ومعطيهم فى قليلهم وكثيرهم.
[36.75]
{ لا يستطيعون } جواب سؤال مقدر او صفة لآلهة { نصرهم وهم لهم جند محضرون } يعنى انهم جند للآلهة وينصرون الآلهة لا ان الآلهة ينصرونهم ومحضرون عند الآلهة كأن الشياطين او نفوسهم تحضرهم عند الآلهة والآلهة لعابديهم جند فانها اتباع اهويتهم وآثارها محضرون فى النار، او العابدون جند للآلهة محضرون معهم فى النار.
[36.76]
{ فلا يحزنك قولهم } فى الله او فيك او فى خلافة خليفتك والاخير هو المراد لانه غاية الرسالة { إنا نعلم } جواب سؤال مقدر فى مقام التعليل { ما يسرون وما يعلنون } فلا تبال بما قالوا فانا قادرون وسامعون لاقوالهم وعالمون بما ينوون ويستحقون.
[36.77]
{ أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة } قذرة جماد من اضعف الاشياء { فإذا هو } رجل قادر قوى ناطق { خصيم } يعنى ذو عقل وعلم ونطق وقدرة وقوة على الدفع { مبين } ظاهر او مظهر.
[36.78-79]
{ وضرب لنا مثلا } هو قوله من يحيى العظام بعد اخذها وتفتيتها { ونسي خلقه } من نطفة بلا سبق اثر منه والحال ان احياءه بعد بقاء روحه وسائر آثاره من المادة والبدن المثالى والنفس الحيوانية والنفس الانسانية والروح والعقل اسهل { قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأهآ أول مرة } من دون اثر منها { وهو بكل خلق عليم } فيعلم ما بقى منها مما ذكرنا ويعلم كيفية وصلها وفصلها ووضعها فى مواضعها.
اعلم، ان الانسان له بدن طبيعى هو مركب لبدنه المثالى وله بدن مثالى هو مركب لنفسه الحيوانية وهى مركب لنفسه الانسانية وهى مركب لروحه وعقله، والباقى منه هو عقله وروحه ونفسه الانسانية ونفسه الحيوانية وبدنه المثالى والفانى منه هو بدنه الطبيعى وهو مادة معتبرة فى الانسان بنحو الابهام، وانما التشخص والتحصل له ليس الا بتلك المراتب الباقية، الا ترى ان بدنه الطبيعى من اول استقرار نطفته الى آخر عمره فى الفناء والانحلال والبتة لا يبقى منه شيء الى آخر عمره ومع ذلك هو هو من غير تبدل لشخصيته وتحصله، وذلك لما كررنا ذكره ان شيئية الشيء هى فعليته الاخيرة وما - سوى فعليته الاخيرة مأخوذة بنحو الاجمال فى شخصيته، وفى الاخبار اشعار بما ذكر فانه ورد عنهم (ع): ان اجزاءه الاصلية تبقى مستديرة عند صدره يعنى ان اجزاءه الغير الاصلية غير معتبرة فيه بنحو التفصيل، وعن الصادق (ع): ان الروح مقيمة فى مكانها، روح المحسن فى ضياء وفسحة وروح المسيء فى ضيق وظلمة، والبدن يصير ترابا كما منه خلق، وما تقذف به السباع والهوام من اجوافها مما اكلته ومزقته كل ذلك فى التراب محفوظ عند من لا يعزب عنه مثقال ذرة فى ظلمات الارض، ويعلم عدد الاشياء ووزنها، وان تراب الروحانيين بمنزلة الذهب فى التراب، فاذا كان حين البعث امطرت الارض مطر النشور فتربوا الارض ثم تمخض مخض السقاء فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب اذا غسل بالماء، والزبد من اللبن فيجمع تراب كل قالب الى قالبه فينتقل باذن الله القادر الى حيث الروح فتعود الصور باذن المصور كهيئتها وتلج الروح فيها فاذا قد استوى لا ينكر من نفسه شيئا، وعنه (ع) فى نزول الآية قال: جاء ابى بن خلف فاخذ عظما باليا من حائط ففته ثم قال: يا محمد (ص) اذا كنا عظاما ورفاتا ائنا لمبعوثون خلقا؟ فنزلت { الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا... }.
[36.80-81]
{ الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا } هو الشجر المرخ يؤخذ منه عودان فيسحق باحدهما الآخر فيوقد النار، ويسمى العود الاعلى زندا والاخرى السفلى زندة { فإذآ أنتم منه توقدون أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم } ابتداء فكيف بهم اعادة { بلى وهو الخلاق } شأنه الخلق كثيرا ابتداء واعادة { العليم } بكل ما يلزم خلق الخلق فى الابتداء او الاعادة، عن الصادق (ع): واما الجدال بالتى هى احسن فهو ما امر الله به نبيه (ص) ان يجادل به من جحد البعث بعد الموت واحياءه له فقال حاكيا: وضرب لنا مثلا ونسى خلقه (الآية) فأراد من نبيه (ص) ان يجادل المبطل الذى قال: كيف يجوز ان يبعث هذه العظام وهى رميم؟! قال: قل يحييها الذى انشأها اول مرة افيعجز من ابتدأه لا من شيء ان يعيده بعد ان يبلى بل ابتداؤه اصعب عندكم من اعادته ثم قال: الذى جعل لكم من الشجر الاخضر نارا اى اذا اكمن النار الحارة فى الشجر الاخضر الرطب ثم يستخرجها فعرفكم انه على اعادة من بلى اقدر ثم قال: او ليس الذى خلق السماوات والارض بقادر (الآية) اى اذا كان خلق السماوات والارض اعظم وابعد فى اوهامكم وقدركم ان تقدروا عليه من اعادة البالى، فكيف جوزتم من الله خلق هذا الاعجب عندكم والاصعب لديكم ولم تجوزوا منه ما هو اسهل عندكم من اعادة البالى.
[36.82]
{ إنمآ أمره } اى شأنه { إذآ أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } قد مضى فى اوائل البقرة عند قوله
بديع السماوات والأرض
[البقرة:117] ما يغنى عن بيان هذه الآية.
[36.83]
{ فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء } قد مضى فى سورة هود عند قوله تعالى:
ما من دآبة إلا هو آخذ بناصيتهآ
[هود:56] ما يغنى عن بيان هذه الكلمة، وهكذا مضى بيان اجمالى لها فى سورة المؤمنون عند نظير الآية { وإليه ترجعون } قد مضى مكررا هذه الكلمة.
[37 - سورة الصافات]
[37.1-3]
اقسم تعالى بأصناف الملائكة فان الملائكة اصناف، صنف يقال لهم المقربون والمهيمون والقيام لا ينظرون وهم العقول الطولية بلسان الفلاسفة، وصنف يقال لهم الارواح وارباب الانواع وارباب الطلسمات واليهم الاشارة فى الاخبار بقولهم (ع): ان فى العرش لديكا اذا صاح صاحت الديكان فى الارض، وان فى العرش لثورا وهم العقول العرضية بلسان الفلاسفة وهم صفوف عند الله، ولكونهم صفوفا سموهم العقول العرضية اقسم الله تعالى بهم، وقيل: المراد مطلق الملائكة والانبياء ومن صف لله وعبده، وقيل: المراد بهم الملائكة تصف انفسها صفوفا فى السماء كصفوف المؤمنين فى الصلوة، او تصف اجنحتها فى الهواء اذا ارادت النزول الى الارض، وقيل: المراد المؤمنون يقومون مصطفين فى الصلوة وفى الجهاد، وصنف يقال لهم النفوس الكلية والنفوس الجزئية وهن المدبرات امرا وهم الملائكة ذووا الاجنحة، وهم الملائكة الذين يدبرون الطبائع والمواليد ويزجرون الطبائع بقسرها على خلاف طبيعتها، بفصلها عن احيازها، ووصلها بغير اجناسها، وحبسها مع غير جنسها، كما فى المواليد، وحركتها على خلاف طبائعها كما فى الفلكيات، ويزجرون المكلفين من الجنة والناس كما ورد ان لكل انسان ملكا يزجره، وقيل: هم الملائكة الموكلة بالسحاب تزجرها وتسوقها، وقيل: المراد زواجر القرآن وآياته الناهية، وقيل: المراد المؤمنون يصيحون عند قراءة القرآن لان الزجرة الصيحة، وصنف من الملائكة ينزلون على الانبياء والاوصياء (ع) باحكام العباد وهم الملائكة الموكلون على العلوم والوحى، وهم التالون ذكرا عظيما على الانبياء (ع)، او المراد الملائكة النازلة على المؤمنين بالبشارة بعد ظهور السكينة عليهم، والسكينة هى الذكر العظيم فيكون التالى من التلو ، وقيل: المراد الملائكة الذين يتلون كتاب الله الذى كتبه لملائكته وفيه ذكر الحوادث فيزيدون يقينا بوجود المخبر على وفق الخبر، وقيل: المراد المؤمنون يقرؤن القرآن فى الصلوة.
[37.4]
وحدة خارجة من الوحدات المعروفة بل وحدة لا يبقى كثرة الا وتكون فانية فيها، ولا يكون فيها شوب كثرة بوجه من الوجوه بخلاف الوحدة الجنسية فانها فى عين الوحدة تكون فيها كثرة الانواع والاصناف والاشخاص والتركيب ولا اقل من الوجود والمهية والوجوب والامكان وهكذا حال الوحدة النوعية والصنفية والشخصية، وبخلاف الوحدة العددية التى لها ثان ومقابل، وبخلاف الوحدة الاجتماعية الطبيعية او الصناعية والشخصية، وبخلاف الوحدة العددية التى لها ثان ومقابل، وبخلاف الوحدة الاجتماعية الطبيعية او الاعتبارية التى ليس فيها الا الكثرة، وبخلاف الوحدة الاتصالية الطبيعية او الصناعية او الاعتبارية.
[37.5]
{ رب السماوات والأرض وما بينهما } من اصناف الملائكة والكواكب واصناف المواليد { ورب المشارق } جمع مشرق الكواكب فان كل كوكب له مشرق خاص به، بمعنى ان قطعة من الفلك تكون فى مدة دوره مشرقا له ويكون له فى كل يوم بل فى كل آن ايضا مشرق خاص به، او جمع المشرق بمعنى ذى الضياء فان الكواكب كلها مشرقة اما بذواتها كالشمس، او بكسبها الضوء من مشرق آخر كالقمر، وبحسب التأويل كل مرتبة عالية بالنسبة الى دانيتها مشرق للشمس الحقيقية، وكل مرتبة عالية متلألئة ومشرق بالنسبة الى دانيتها والمراتب غير متناهية فالمشارق بهذا المعنى غير متناهية.
[37.6]
جواب سؤال مقدر فى مقام التعليل، او فى مقام بيان الحال والمراد بالسماء الدنيا السماء الطبيعية لا السماء الدنيا الى الارض بالنسبة الى سائر السماوات فلا ينافى كون اكثر الكواكب فى السماء الثامنة، او المراد بالسماء الدنيا عالم المثال وسماواته، او المراد الصدر المنشرح بالاسلام، والمراد بالكواكب الكواكب المضيئة الطبيعية او كواكب القوى والمدارك الجزئية والكلية فى مراتب نفس العالم الكبير او نفس العالم الصغير، والمدارك المستنيرة بنور الاسلام والايمان مانعة للشياطين من العروج الى تلك السماوات والتصرف فيها كما قال تعالى { وحفظا... }.
[37.7]
{ وحفظا } عطف باعتبار المعنى كأنه قال: زيناها للزينة وللحفظ، او عطف على مقدر كأنه قال: زيناها زينة وحفظا، او مصدر لمحذوف معطوف على زينا { من كل شيطان مارد } مرد كنصر وكرم مرودا ومرادة اقدم وعتا، او بلغ الغاية التى يخرج بها من جملة ما عليه ذلك الصنف، ومرده قطعه ومزق عرضه، وعلى الشيء مرن وقد مضى بيان الشيطان فى اول الكتاب فى تفسير الاستعاذة وسبق فى سورة الحجر كيفية ردع الشياطين بالشهب.
[37.8]
{ لا يسمعون } لا يستمعون يعنى لا يقدرون على الاستماع { إلى الملإ الأعلى } لا انهم لا يريدون الاستماع بقرينة ما يأتى وذلك انهم ظلمانيون بفطرتهم والملأ الاعلى نورانيون بفطرتهم ولا يقدر الظلمة على قرب النور والا بطل ذاتها { و } اذا ارادوا استراق السمع { يقذفون } اى يرمون بالشهب التى هذه الشهب المحسوسة انموذج منها وصورتها والا فالشهب التى يرمون بها شهب مناسبة لعالمى المثال يعنى عالم الجن وعالم الملائكة { من كل جانب } اى من جوانب السماء او من جوانبهم اذا قصدوا صعود السماء المحسوسة فانها لكونها مظهرا لسماء عالم الملائكة لا يقدرون على الصعود اليها الا بنحو استراق السمع فانهم يصعدون الى قربها لاستراق السمع، وهكذا اذا قصدوا صعود سماء عالم المثال الكلى وعالم المثال الجزئى الانسانى، ولما كان عالم الانسان نسخة مختصرة من العالم فلينظر المراقب المجاهد ولير صعود الشياطين الى مقام صدره ولير شهب تذكراته وطردهم بها عنه حتى يعلم كيفية صعودهم الى سماء العالم الكبير وطردهم عنها بشهبها.
[37.9]
{ دحورا } الدحر والدحور بضم الدال الطرد والابعاد والدفع وهو مفعول له او حال بجعله بمعنى مدحورين او بحمله على الذات مبالغة، او بتقدير ذوى دحور بجعله مفعولا مطلقا لفعله المحذوف وجعل المحذوف حالا، او مستأنف بتقدير فعله { ولهم عذاب واصب } وصب مرض ودام وثبت يعنى لهم عذاب واصب مطلقا او بعد استراق السمع وطردهم عن السماء بالشهب.
[37.10]
{ إلا من خطف الخطفة } اى اختلس المسموع او السماع { فأتبعه شهاب ثاقب } يثقبهم بنفسه او يثقب الجو بضوئه.
[37.11]
{ فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنآ } من الملائكة والجن والسماوات والارض وما بينهما والمشارق والكواكب والشهب { إنا خلقناهم } من اضعف شيء يعنى { من طين لازب } اى لازق فهم اضعف من اكثر المخلوق بحسب المادة واصغر بحسب الصورة واهون بحسب القوة وهم يشركون بنا ويعصون، وغيرهم مع قوتهم وعظمهم يوحدوننا ويطيعوننا.
[37.12]
{ بل عجبت } قرئ بالخطاب وبالتكلم، والاضراب عن الامر باستفتائهم بمعنى انه لا ينبغى الاستفتاء لعدم الحاجة اليه بل ينبغى التعجب منهم ومن حالهم، واداه بالماضى المتحقق للاشعار بشدة اقتضاء المقام ذلك كأنه قد وقع { ويسخرون } والحال انهم يسخرون منك او من الله او من توحيد الله او ممن يوحد الله.
[37.13]
هذه الجملة مع الجملة السابقة والجمل الآتية حالات من عجبت وهى المتعجب منها.
[37.14]
{ وإذا رأوا آية } معجزة او آية من الآيات العظمى الذين هم الانبياء والاولياء (ع) او آية من آيات الكتاب التدوينى او اذا رأوا آية فى عالمهم الصغير { يستسخرون } يبالغون ويشتدون فى السخرية بها او بصاحب الآية.
[37.15-18]
{ وقالوا إن هذآ إلا سحر مبين أإذا متنا } قالوا ذلك تعجبا من هذا القول { وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون أو آبآؤنا الأولون قل نعم وأنتم داخرون } صاغرون.
[37.19]
{ فإنما هي } اى البعثة او البعث والتأنيث باعتبار المسند { زجرة واحدة } اى صيحة واحدة هى النفخة الثانية { فإذا هم ينظرون } يبصرون او ينتظرون الحساب او ينتظرون ما يفعل بهم.
[37.20]
يوم المجازاة.
[37.21]
من قول بعضهم لبعض او من قول الله عز وجل او الملائكة.
[37.22-23]
{ احشروا الذين ظلموا } حال او مستأنف بتقدير القول، واصل الظلم الظلم لآل محمد (ص) وكلما نشأ من هذا الظلم فهو ظلم، واول الظلم لآل محمد (ص) هو ستر الولاية التكوينية التى هى حبل من الله وينشأ منه الظلم التكليفى وترك الولاية التكليفية، وفسر الظلم ههنا بظلم آل محمد (ص) { وأزواجهم } المناسبات لهم { وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم } استعمال الهداية للتهكم بهم.
[37.24]
{ وقفوهم } فى الموقف { إنهم مسئولون } عن ما فعلوا او عن النبأ العظيم الذى هو ولاية امير المؤمنين (ع) كما فسر به، نسب الى النبى (ص ) والى الباقر (ع) فى تفسيره انه لا يجاوز قدما عبد حتى يسأل عن اربع: عن شبابه فى ما ابلاه، وعن عمره فيما افناه، وعن ماله من اين جمعه وفيما انفقه، وعن حبنا اهل البيت (ع).
[37.25-26]
{ ما لكم } جواب سؤال بتقدير القول { لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون } منقادون لحكم الله او للعذاب او مسلمون بعضهم بعضا.
[37.27]
{ وأقبل بعضهم } اى التابعون { على بعض } اى المتبوعين: او اقبل كل بعض على كل بعض { يتسآءلون } يسألون ويجابون.
[37.28]
{ قالوا } اى الاتباع { إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين } الجملة بدل عن قوله { يتسآءلون } او مستأنفة جواب لسؤال مقدر او حال والمراد بالاتيان عن اليمين الاتيان بصورة اعمال - الدين وبصور اوامر الله ونواهيه فان النظر الى رؤساء الضلالة الذين ادعوا الدين والايمان والامامة ورياسة الدين من غير اذن واجازة فانهم منعوا عباد الله الذين فطرتهم فطرة الايمان والاسلام عن طلب الدين وطلب من يأخذ دينهم عنه فانهم لو تركوهم لجالوا حتى يجدونا كما فى خبر.
[37.29]
لانكم كنتم على صورة الاسلام من غير الاتيان بشروطه وعهوده ولم تكونوا على الايمان الحقيقى ولا على الاسلام الحقيقى بل كنتم منتحلين بصورة الاسلام والايمان الفطرى الذى هو حبل من الله لم يكن يكفى بدون الاسلام التكليفى والايمان التكليفى الذى هو حبل من الناس.
[37.30]
{ وما كان لنا عليكم من سلطان } سلطنة على باطنكم وايمانكم وحجة واضحة لظاهركم { بل كنتم قوما طاغين } عن الامام والايمان وكنا ندعوكم الى الضلال فجعلتم صورة دعوتنا التى كانت بصورة اعمال الدين خديعة لنفوسكم ووسيله لمآربكم النفسانية.
[37.31]
{ فحق علينا } اى علينا وعليكم { قول ربنآ } بالعذاب { إنا لذآئقون } اى العذاب والجملة بمنزلة النتيجة لسابقها.
[37.32]
{ فأغويناكم } الفاء للسببية { إنا كنا غاوين } فى موضع التعليل.
[37.33]
كما كانوا فى الغواية مشتركين.
[37.34]
بمطلق المجرمين او بهذا الصنف من المجرمين يعنى المشركين.
[37.35]
عن سماعه وقبوله.
[37.36]
من غير تحقيق لقوله ودينه ومن غير تعمق فى وصف آلهتهم ودينهم.
[37.37]
{ بل } ليس بشاعر يأتى بالباطل بتمويه الحق ولا بالخيالات الفاسدة بصورة المعقولات الحقة وليس بمجنون مخبط كما سولت لكم انفسكم ولكن { جآء بالحق } يعنى كلما يأتى به من الاقوال والافعال والاحكام من الله كان حقا { و } دليل حقيته انه { صدق المرسلين } الذين اعتقدتموهم.
[37.38-39]
{ إنكم لذآئقو العذاب الأليم وما تجزون } فى ذلك الذوق { إلا ما كنتم تعملون } بنفسه على تجسم الاعمال او بجزائه.
[37.40]
استثناء منقطع ان كان الخطاب خاصا بالمشركين او متصل ان كان لجملة العباد.
[37.41]
يعلمه الخدم لهم من الملائكة والغلمان والحور.
[37.42]
بحسب الرزق والمسكن والمقام والمعاشر.
[37.43-45]
{ في جنات النعيم على سرر متقابلين يطاف عليهم بكأس } فيها خمر { من معين } من شراب معين او نهر معين اى جار سائل، شبه حالهم فى الجنة بحال اهل الدنيا وشربهم الخمر.
[37.46]
{ بيضآء } بخلاف خمر الدنيا فانها حمراء كدرة { لذة للشاربين } مصدر او وصف تأنيث لذ بمعنى اللذيذ.
[37.47]
{ لا فيها غول } بخلاف خمر الدنيا فان فيها غول الصداع والخمار { ولا هم عنها ينزفون } نزف كعنى ذهب عقله او سكر، وقيل المعنى لا هم عنها يطردون.
[37.48]
{ وعندهم قاصرات الطرف } يقصرن اطرافهن على ازواجهن لا يتجاوزنها الى غيرهم كبعض ازواج الدنيا { عين } جمع عيناء مؤنث اعين، عين كفرح عظم سواد عينه فى سعة وفسر بشدة سواد العين فى شدة بياضها.
[37.49]
عن الاغبرة.
[37.50]
{ فأقبل بعضهم على بعض } اداه بالماضى اشارة الى تحقق وقوعه او لانه كان واقعا بالنسبة الى محمد (ص) { يتسآءلون } يتحادث كل لكل او يسأل بعضهم ويجيب بعضهم.
[37.51-54]
{ قال قآئل منهم } بدل من اقبل بعضهم او من يتساءلون او مستأنف جواب لسؤال مقدر { إني كان لي قرين يقول أإنك لمن المصدقين أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمدينون قال هل أنتم مطلعون } اى قال القائل لجلسائه: هل انتم مشرفون سأل اشرافهم على اهل النار ليطلعوا على حال قرينه او قال الله: هل انتم مشرفون على اهل النار يعنى اشرفوا او قال قائل قول انى كان لى قرين لندمائه بطريق السؤال هل انتم مطلعون على حاله حتى تخبرونى بحاله.
[37.55]
{ فاطلع } القائل { فرآه في سوآء الجحيم } اى وسطها.
[37.56]
انه كدت لتردينى.
[37.57]
{ ولولا نعمة ربي } اى ولاية ولى امرى فانها النعمة حقيقة او انعام ربى بالولاية { لكنت من المحضرين } فى العذاب معك.
[37.58]
يستهزء بالقرين برد قوله عليه وانكار ما كان يقوله فى الحيوة الدنيا.
[37.59-61]
{ إلا موتتنا الأولى } من الحيوة الدنيا يعنى رأيت موتات بعد موتتك الاولى التى كنت تقول ليس موتة الا موتتنا الاولى وقد مضى فى اول البقرة عند قوله تعالى
كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم
[آية: 28] تفصيل للموتات والاحيائات { وما نحن بمعذبين إن هذا } المقام الذى للمؤمن القائل او هذا النعيم او هذا الحجاج والالتذاذ بالغلبة { لهو الفوز العظيم لمثل هذا فليعمل العاملون } وهذا الكلام من المؤمن القائل او من الله.
[37.62]
{ أذلك خير نزلا } اشارة الى المشار اليه الاول والاتيان باسم الاشارة البعيدة لتفخيمه { أم شجرة الزقوم } الزقوم كتنور شجرة بجهنم ونبات بالبادية له زهر ياسمينى الشكل وطعام اهل النار وشجرة باريحاء ولها ثمر كالتمر حلو عفص ولنواه دهن عظيم المنافع فى علاج الامراض البلغمية والرياح الباردة ويقال اصله الا هليلج الكابلى نقلته بنو امية وزرعته باريحاء ولما تمادى غيرته ارض اريحاء عن طبع الاهليلج، والزقم، اللقم، والتزقم، التلقم كذا فى القاموس.
[37.63]
روى ان قريشا لما سمعت هذه الآية قالت: ما نعرف هذه الشجرة قال ابن الزبعرى: الزقوم بكلام البربر التمر والزبد وفى رواية بلغة اليمن، فقال ابو جهل لجاريته يا جارية زقمينا، فاتته الجارية بتمر وزبد فقال لاصحابه: تزقموا بهذا الذى يخوفكم به محمد (ص) فيزعم ان النار تنبت الشجر والنار تحرق الشجر فأنزل الله سبحانه هذه الآية انا جعلناها فتنة للظالمين.
[37.64-65]
فى تناهى القبح فانه كما يشبه المتناهى فى الحسن من الانسان بالملك والحور يشبه المتناهى فى القبح بالشياطين والعفاريت.
[37.66-67]
{ فإنهم لآكلون منها } لغاية جوعهم وشدة احتياجهم الى الاكل { فمالئون منها البطون ثم إن لهم عليها لشوبا } مايعا هو الغساق او الصديد خليطا { من حميم } ماء حميم يقطع امعائهم.
[37.68]
لتتميم العذاب وتغليظه فان الزقوم وهذا الشراب هو نزلهم الذى يعد لهم فى اول ورودهم.
[37.69]
فى موضع التعليل يعنى انهم وجدوا آباءهم على غير الطريق الذى يوصل الى الجنان ومعذلك اتبعوهم فاستحقوا بذلك هذا العذاب.
[37.70]
يسرعون مع علمهم بانهم ضالون، والاتيان بالاهراع المبنى للمفعول الذى هو بمعنى كونهم محمولين على الاسراع والاضطراب للاشارة الى انهم ما تثبتوا فى ذلك التقليد كأن نفوسهم اخذت الاختيار منهم وحملتهم على التقليد من غير ملاحظة حجة وبرهان وهو ذم آخر لهم.
[37.71-73]
المكذبين وهذا باياك اعنى واسمعى يا جارة يعنى ان قومك ينبغى ان ينظروا الى مكذبى الانبياء السلف حتى يعتبروا بحالهم ويخافوا من عاقبة تكذيبك.
[37.74]
استثناء منقطع او متصل باعتبار المعنى كأنه قال: كان عاقبة الناس اسوء عاقبة الا عباد الله المخلصين الى المصدقين للانبياء (ع).
[37.75]
{ ولقد نادانا نوح } شروع فى بيان حال المنذرين والمنذرين تتميما للتهديد وتسلية للرسول (ص) يعنى نادينا بالدعاء على قومه بعدما تمادوا فى التكذيب والانكار والايذاء بقوله: رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا { فلنعم المجيبون } يعنى فأجبناه فوالله لنعم المجيبون نحن.
[37.76]
اى اذى قومه ومن الغرق.
[37.77]
فى المجمع عن ابن عباس وقتادة، فالناس كلهم بعد نوح (ع) من ولد نوح فالعرب والعجم من اولاد سام بن نوح والترك والصقالبة والخزر ويأجوج ومأجوج من اولاد يافث بن نوح، والسودان من اولاد حام بن نوح قال الكلبى: لما خرج نوح (ع) من السفينة مات من كان معه من الرجال والنساء الا ولده ونساءهم الى ههنا كلام المجمع، لكن عن الباقر (ع) فى هذه الآية يقول: الحق والنبوة والكتاب والايمان فى عقبه وليس كل من فى الارض من بنى آدم من ولد نوح (ع) قال الله عز وجل فى كتابه
احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن ومآ آمن معه إلا قليل
[هود:40] وقال ايضا
ذرية من حملنا مع نوح
[الإسراء:3]، فاقول معنى الآية على هذا جعلنا ذريته هم الباقين بالكتاب والنبوة وان كان غيرهم ايضا باقين بالحيوة الحيوانية.
[37.78]
الذين اتوا بعده جاريا على السنتهم.
[37.79]
سلام على نوح مفعول تركنا او هو مستأنف من الله ومفعول تركنا محذوف اى تركنا عليه فى الآخرين المدح والثناء له وفى العالمين متعلق بقوله على نوح على ان يكون خبرا لسلام او بسلام او هو ظرف مستقر خبر لسلام او متعلق بقوله تركنا عليه او بدل من قوله فى الآخرين والمعنى تركنا عليه فى جميع العوالم ذلك وهذا معنى قول الانبياء (ع) اجعل لى لسان صدق فى الآخرين ويستفاد من بعض الاخبار ان الله يقول تركت على نوح دولة الجبارين يعنى تركت بعده على ضرره باعتبار وصيته ووصيه دولة الجبارين الذين تجبروا على اوصيائه ويعزى الله محمدا (ص) بذلك وعلى هذا يكون قوله سلام على نوح مستأنفا من الله، فانه ورد عن الصادق (ع) فى حديث؛ وبشرهم نوح بهود (ع) وامرهم باتباعه وان يقيموا الوصية كل عام فينظروا فيها ويكون عيدا لهم كما امرهم آدم (ع) فظهرت الجبرية من ولد حام ويافث فاستخفى ولد سام بما عندهم من العلم وجرت على سام بعد نوح (ع) الدولة لحام ويافث وهو قول الله عز وجل { وتركنا عليه في الآخرين } ، يقول تركت على نوح دولة الجبارين ويعزى الله محمدا (ص) بذلك، قال فى هذا الخبر وولد لحام السند والهند والحبش، وولد لسام العرب والعجم وجرت عليهم الدولة وكانوا يتوارثون الوصية عالم بعد عالم حتى بعث الله عز وجل هودا (ع).
[37.80]
بترك لسان الصدق لهم فى الآخرين وبقاء العلم والكتاب والنبوة فى عقبهم وباعطاء البركة فى عقبهم.
[37.81]
يعنى من العباد المشرف بتشريف الاضافة الينا.
[37.82]
عطف على نجيناه.
[37.83]
{ وإن من شيعته } اى ممن شايع نوحا فى الرسالة واجراء احكام الله على العباد وتحمل اذى القوم والصبر على الابتلاء بهم { لإبراهيم } هذا ظاهر الآية الشريفة ويكون الشيعة من المشايعه والاتباع كما فسرنا لفظها به، وعن الباقر (ع) يهنئكم الاسم، قيل وما هو؟ قال الشيعة، قيل: ان الناس يعيروننا بذلك، قال: اما تسمع قول الله تعالى { وإن من شيعته لإبراهيم } وقوله:
فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه
[القصص:15] لكن قد ورد من طريق الخاصة اخبار كثيرة ان المقصود ان من شيعة على (ع) ابراهيم (ع) وهذا مما يخص بفهمه من خوطب بالكتاب وسر ذلك، كما ورد عن الصادق (ع) ان الله لما خلق ابراهيم (ع) كشف له عن بصره فرأى الانوار الخمسة فقال: ما هذه الانوار؟ فقال الله تعالى: هذه نور محمد (ص) وعلى (ع) وفاطمة (ع) والحسن (ع) والحسين (ع) ورأى تسعة انوار قد حفوا بهم فقال: ارى تسعة انوار قد حفوا بهم فقال: هؤلاء الائمة (ع) من ولد على (ع) وفاطمة (ع) وسماهم له، فقال ابراهيم: الهى وسيدى ارى انوارا قد احدقوا بهم لا يحصى عددهم الا انت، قيل: يا ابراهيم هؤلاء شيعتهم شيعة امير المؤمنين (ع) فعند ذلك قال ابراهيم: اللهم اجعلنى من شيعة امير المؤمنين (ع) قال، فقال تعالى: { وإن من شيعته لإبراهيم }.
اعلم، ان جميع الانبياء والمرسلين (ع) وجميع الاوصياء والصالحين من جملة شيعة امير المؤمنين (ع) فانه بعلويته ومقام ولايته الكلية امام الكل حتى رسولنا الختمى (ص) من حيث رسالته لا من حيث ولايته فانه (ص) متحد مع على (ع) من حيث ولايته كما مضى مكررا ان الولاية الكلية روح للنبوة والرسالة كلية كانت او جزئية وروح للولايات الجزئية تماما، وعلى هذا يجوز ان يكون الشيعة من شاع بمعنى اتبع، ويجوز ان يكون من الشعاع ويكون اصله شعه بتشديد العين ثم خفف بابدال العين الاول ياء كما فى احسست واحسيت.
[37.84]
{ إذ جآء } ظرف للخبر { ربه بقلب سليم } قد مضى فى سورة الشعراء بيان للقلب السليم.
[37.85-87]
{ إذ قال لأبيه } بدل من اذ الاولى او ظرف لجاء او لسليم { وقومه ماذا تعبدون أإفكا آلهة دون الله تريدون فما ظنكم برب العالمين } حتى صرفتم عنه الى المصنوع الذى صنعتموه بانفسكم.
[37.88]
فرأى نظراتها.
[37.89]
ورد فى الخبر ان ابراهيم (ع) كذب ثلاث كذبات: قوله، { إني سقيم } وقوله،
بل فعله كبيرهم هذا
[الأنبياء: 63] وقوله، فى سارة انها اختى والمقصود انه كذب فى الظاهر ولم يكن منه كذب لانه اراد الاصلاح والمصلح ليس بكاذب ، او انه ورى عن ذلك كله فانه نظر فى النجوم ونظر الى حركاتها وافنائها بحركاتها لكل حادث فقال: انى سأسقم يعنى سأموت ونظر فى النجوم فرأى ان نوبة حماه قريبة فقال: { إني سقيم } يعنى ان نوبة حماى قريبة، او نظر فى النجوم ايهاما لهم انه يحاسب مثلهم ويحكم بنظرات النجوم فقال: { إني سقيم } ايهاما لهم وكان مقصوده { إني سقيم } غير كامل بعد فى الانسانية فانه لم يكن بعد له مقام الامامة التى هى كانت آخر مقاماته، او كان مقصوده { إني سقيم } القلب حزينه مما تفعلونه من عبادة ما لا ينفعكم ولا يضركم، وعن الصادق (ع) انه حسب فرأى ما يحل بالحسين (ع) فقال: { إني سقيم } لما يحل بالحسين (ع) وعن الصادقين (ع) والله ما كان سقيما وما كذب، وقيل: كان اغلب اسقامهم الطاعون وكانوا يخافون السراية فقال: { إني سقيم } لئلا يخرجوه الى عيد لهم وكان موسم عيدهم حتى يبقى مع الآلهة فيفعل بهم ما اراد من كسرهم.
[37.90]
الى عيد لهم.
[37.91]
{ فراغ إلى آلهتهم } راغ الرجل مال { فقال } لهم تهكما بهم { ألا تأكلون } الطعام الذى عندكم.
[37.92]
ولا تجيبونى.
[37.93]
{ فراغ عليهم ضربا } مفعول له لراغ، او مفعول مطلق لفعله المحذوف، او حال عن فاعل راغ { باليمين } فكسرهم كلهم الا كبيرا لهم كما سبق فى سورة الانبياء.
[37.94]
{ فأقبلوا إليه } اى الى ابراهيم (ع) { يزفون } قرئ مبنيا للفاعل من زف اذا اسرع، ومبنيا للمفعول من زف العروس الى زوجها اذا اهداها اليه.
[37.95]
{ قال } لهم بعدما وصلوا اليه { أتعبدون ما تنحتون } وتتركون الله الذى ينبغى ان يعبد.
[37.96]
ما تصنعون من الاصنام وغيرها فان موادها بخلقته وصنعها باقداره.
[37.97]
{ قالوا } بعدما حاجهم وحاجوه كما سبق فى سورة الانبياء (ع) { ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم } اى النار الشديدة.
[37.98]
{ فأرادوا به كيدا } باحراقه بالنار { فجعلناهم الأسفلين } بابطال كيدهم وجعله حجة عليهم.
[37.99]
عن الصادق (ع) يعنى بيت المقدس وعن امير المؤمنين (ع) فى بيانه فذهابه الى ربه توجهه اليه عبادة واجتهادا وقربة الى الله جل وعز، ولا يبعد ان يكون مراده الذهاب الى ربه البشرى فى الدين والايمان او الذهاب الى مقام الحضور عند ربه الملكوتى الذى يعبر عنه بالفكر والسكينة والحضور.
[37.100]
بعضا من الصالحين يكون انيسا لى فى وحدتى، ومعينا لى عبادتى ودعوتى، وكان منظوره (ع) طلب الولد.
[37.101-103]
{ فبشرناه } يعنى اجبناه الى مسؤله بعد يأسه ويأس زوجته من الولد { بغلام حليم فلما بلغ معه السعي } يعنى لما اعطيناه وبلغ السعى معه فى اعماله يعنى بلغ المراهقة او مبلغ الرجال رأى فى المنام ان الله يأمره بذبحه و { قال } لولده { يبني إني أرى في المنام } لما صارت رؤياه مكررة قال أرى { أني أذبحك فانظر ماذا ترى } قرئ بفتح التاء والراء وبضم التاء وكسر الراء { قال يأبت افعل } الاتيان بالتصغير ولحوق التاء بالاب لاظهار الشفقة { ما تؤمر } لم يقل ما رأيت او ما ترى اظهارا لما اعتقده من ان الرؤيا لم تكن الا من الله ولم تكن الا امرا له بما رأى { ستجدني إن شآء الله من الصابرين فلما أسلما } استسلاما لامر الله او اسلم اسمعيل (ع) نفسه وابراهيم (ع) ابنه وقرأ على (ع) والصادق (ع) فلما سلما من التسليم { وتله } صرعه { للجبين } اى على الجبين.
[37.104-106]
{ وناديناه أن يإبراهيم قد صدقت الرؤيآ } بالعزم والاتيان بالمأمور وجواب لما محذوف اى وقع ما وقع من الاستبشار ورفع الدرجات له وصدور المكالمات عنه وحدوث الحزن له بمنعه من تلك الرياضة العظمى والفيض العظيم وجواب الله تعالى عن ذلك كما ورد فى الاخبار { إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين } يعنى ان هذا الامتحان بالامر بذبح الولد هو الامتحان العظيم، او هذه المصيبة التى هى ذبح الولد، او هذا الصبر والتوفيق لامتثال مثل هذا الامر العظيم لهو النعمة العظيمة من الله.
[37.107]
اى عظيم الجثة او عظيم القدر، قد اختلف الاخبار فى ان الذبيح كان اسمعيل (ع) او اسحاق (ع) والمشهور من الاخبار انه كان اسمعيل (ع) وانه كان جد نبينا محمد (ص) وان السلطنة كانت فى اولاد اسمعيل (ع) والنبوة فى اولاد اسحاق، وان البشارة لابراهيم (ع) كانت اولا باسمعيل (ع) من هاجر، وثانيا باسحاق (ع) من سارة، وان هاجر كانت جارية لسارة فوهبتها لابراهيم (ع)، وان هاجر لما حملت باسمعيل وولدته اغتبطت سارة عليها لانها لم يكن لها ولد حينئذ فكانت توذى ابراهيم (ع) فاشتكى الى الله فقال الله تعالى: ان المرأة مثل عظم الضلع لو ذهبت تقيمها كسرتها ولو ابقيتها استمتعت بها، نح هاجر واسمعيل من عندها، فذهب بها وبولدها بأمر الله ودلالة جبرئيل (ع) الى مكة ولم يكن بها ماء ولا عمارة ولا احد، وان بين بشارة ابراهيم (ع) باسمعيل وبين بشارته باسحاق كانت خمس سنين، وروى عن الصادق (ع) انه سئل: كم كان بين بشارة ابراهيم (ع) باسمعيل وبين بشارته باسحاق؟- قال: كان بين البشارتين خمس سنين، قال الله سبحانه فبشرناه بغلام حليم يعنى اسمعيل وهى اول بشارة بشر الله بها ابراهيم (ع) فى الولد، ولما ولد لابراهيم (ع) اسحاق (ع) من سارة وبلغ اسحاق ثلاث سنين اقبل اسمعيل (ع) الى اسحاق (ع) وهو فى حجر ابراهيم (ع) فنحاه وجلس فى مجلسه فبصرت به سارة فقالت: يا ابراهيم (ع) ينحى ابن هاجر ابنى من حجرك ويجلس هو مكانه لا والله لا تجاورنى هاجر وابنها فى بلاد ابدا فنحهما عنى، وكان ابراهيم (ع) مكرما لسارة يعزها ويعرف حقها وذلك لانها كانت من ولد الانبياء (ع) وبنت خالته فشق ذلك على ابراهيم (ع) واغتم لفراق اسمعيل (ع)، فلما كان فى الليل اتى ابراهيم (ع) آت من ربه فأراه الرؤيا فى ذبح ابنه اسمعيل (ع) بموسم مكة فأصبح ابراهيم (ع) حزينا للرؤيا التى رآها فلما حضر موسم ذلك العام حمل ابراهيم (ع) هاجر واسمعيل (ع) فى ذى الحجة من ارض الشام فانطلق بهما الى مكة ليذبحه فى الموسم، فبدأ بقواعد البيت الحرام فلما رفع قواعده خرج الى منى حاجا وقضى نسكه بمنى ثم رجع الى مكة فطاف البيت اسبوعا ثم انطلقا فلما صارا فى السعى قال: ابراهيم (ع) لاسمعيل (ع): { يبني إني أرى في المنام أني أذبحك } فى الموسم عامى هذا فماذا ترى؟- قال: { يأبت افعل ما تؤمر } ، فلما فرغا من سعيهما انطلق به ابراهيم (ع) الى منى وذلك يوم النحر فلما انتهى الى الجمرة الوسطى واضجعه لجنبه الايسر واخذ الشفرة ليذبحه نودى { أن يإبراهيم } (الآية) وقد ذكر كيفية ذبحه واتيان الفداء له فى المفصلات، وهكذا ذكر الاخبار المختلفة فى ذلك الباب فى المفصلات من اراد فليرجع اليها.
[37.108-109]
قد سبق بيانه قبيل هذا.
[37.110]
لما سبق هذه الكلمة فى هذه القصة وكان السامع كأنه تلقاها بالقبول ولم يبق له حالة شك وسؤال اتاها ههنا بدون التأكيد.
[37.111-113]
وفى هذا وفى قوله تعالى
ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا
(الى قوله)
فمنهم ظالم لنفسه
[فاطر: 32] اشعار بان اعقاب الانبياء (ع) قد يكونون على الظلم وان ظلمهم ليس شينا لآبائهم وقد ذكر بيان لظلم النفس هناك.
[37.114]
بانجائهما وانجاء قومهما من شدة الاستعباد ونصرهما واعطاء الكتاب والنبوة وبقاء لسان الصدق فى الآخرين وغير ذلك وعلى هذا فقوله تعالى { ونجيناهما... }.
[37.115-117]
{ ونجيناهما } الى آخر المعطوفات عطف فيه معنى التفسير لقوله مننا { وقومهما من الكرب العظيم } الذى هؤلاء الاستبعاد وقتل الاولاد والتفريق بين الرجال والنساء وتجسس حياء النساء للعيب او الولد وخوف قتل فرعون لهم بعد خروجهم من مصر واخذه لهم واستعباده ثانيا وخوف الغرق بعد دخول البحر { ونصرناهم } بانجائهم من عدوهم واغراق عدوهم { فكانوا هم الغالبون وآتيناهما الكتاب المستبين } البالغ فى ظهور الصدق وكون صاحبه صادقا والمراد به النبوة والرسالة واحكامهما والتوراة صورتهما.
[37.118]
هو الصراط الانسانى الذى فطريه فطرى الولاية وتكليفيه تكليفى الولاية وبالجملة هو اشارة الى الولاية كما ان الكتاب اشارة الى النبوة والرسالة.
[37.119-123]
قيل: هو ادريس النبى (ع)، وقيل: كان نبيا من انبياء (ع) بنى اسرائيل من ولد هارون بن عمران ابن عم اليسع، بعث بعد حزقيل، ولما فتح يوشع الشام بوأها بنى اسرائيل وقسمها بينهم فاحل سبطا منهم ببعلبك وهم سبط الياس (ع)، وقيل: ان الياس (ع) صاحب البرارى، والخضر صاحب الجزائر ويجتمعان فى كل يوم عرفة بعرفات، وقيل: انه ذو الكفل.
[37.124-125]
{ إذ قال لقومه } مناصحا لهم بصورة الشفقة { ألا تتقون أتدعون بعلا } اسم صنم كان لهم وكان من الذهب، وقيل: البعل اسم الرب بلغة اليمن والمقصود اتدعون ربا غير الله { وتذرون أحسن الخالقين } قد سبق بيان لكونه تعالى احسن الخالقين.
[37.126-127]
للحساب او فى النار.
[37.128-130]
قد روى من طريق الخاصة اخبار كثيرة بان القراءة آل يس بفتح الالف ومده وكسر اللام وان المراد بهم آل محمد (ص) وان يس من اسمائه وقد ذكر محاجتهم على علماء العامة بهذه القراءة بحيث لم يكونوا ينكرونها وكانوا معترفين بصحة القراءة بذلك، ويكون يس اسما من اسماء محمد (ص) وقد روى من طريقهم القراءة بذلك وانه فى بعض مصاحفهم مكتوب بفصل الآل من يس وكأن المنظور كان من الاتيان بآل محمد (ص) بهذا اللفظ فى ذيل الياس (ع) ان لا يسقطوه، لو قال سلام على آل محمد (ص)، ولما كان محمد (ص) واهل بيته (ع) شرف كل ذى شرف وفخر كل ذى فخر ومقام كل ذى مقام كان السلام على آل محمد (ص) سلاما على كل ذى سلام وشرفا لكل ذى شرف ولسان صدق لكل صادق، فصح ان يقال تركنا على الياس فى الآخرين لسان صدق هو سلام على آل محمد (ص) وقرئ الياسين بوصل اللام فى الكتابة فقيل انه اسم لالياس مثل سينا وسينين، وقيل: انه جمع له لكنه بعيد لان الاعلام اذا جمعت اتى بها معرفة باللام.
[37.131-133]
قد سبق قصته فى سورة هود وحجر وغيرهما.
[37.134-141]
{ إذ نجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزا في الغابرين ثم دمرنا الآخرين وإنكم } يا اهل مكة { لتمرون عليهم } يعنى على آثارهم فان منازلهم كانت سدوم فى طريق الشام { مصبحين وبالليل أفلا تعقلون وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين } قد اشرنا فى سورة يونس (ع) ان قصته وقصة قومه ودعاءه الى قومه وفراره عنهم بعد دفع العذاب عن قومه ودخوله الفلك وابتلاءه ببطن الحوت مذكورة فى المفصلات، من اراد فليرجع اليها، عن الباقر (ع) انه قال: لما ركب مع القوم فوقفت السفينة فى اللجة واستهموا فوقع السهم على يونس ثلاث مرات، قال فمضى يونس (ع) الى صدر السفينة فاذا الحوت فاتح فاه فرمى بنفسه، وعن الصادق (ع) ما تقارع قوم ففوضوا امرهم الى الله عز وجل الا خرج سهم المحق وقال: اى قضية اعدل من القرعة اذا فوضوا الامر الى الله اليس الله عز وجل يقول فساهم فكان من المدحضين يعنى المغلوبين فى القرعة، دحض برجله، فحص، وعن الامر بحث ودحض رجله زلقت، الشمس زالت، والحجة بطلت.
[37.142]
من الام بمعنى عدل، او من الام بمعنى اتى ما يلام عليه او صار ذا لائمة.
[37.143-144]
تعريض بالامة يعنى اذا ابتليتم ببلية فاكثروا من تسبيحه وتهليله وذكره حتى ينجيكم منها.
[37.145-146]
{ فنبذناه بالعرآء } اى المكان الخالى عما يغطيه من شجر او نبت او بناء او جبل { وهو سقيم وأنبتنا عليه شجرة من يقطين } وهو كل شجرة تبقى من الشتاء الى الصيف ليس لها ساق كذا قيل: وقيل: المراد الدباء.
[37.147]
بل يزيدون، عن الصادق (ع) يزيدون ثلاثين الفا.
[37.148]
سمى لآجالهم.
[37.149]
{ فاستفتهم } بعدما ذكرت لهم هذه القصص التى فيها عبر لكل من يعتبر { ألربك } الذى فعل ما فعل بالامم السالفة ومكذبيهم ومصدقيهم وانبيائهم (ع) { البنات } اللاتى هن اخس الاولاد { ولهم البنون } الذين هم اشرف الاولاد حتى يعلموا انهم مخطئون فى تلك النسبة فيتنبهوا فيعلموا انهم مخطئون فى نسبة الولد اليه.
[37.150]
{ أم خلقنا الملائكة } الذين هم اشرف الخلائق وبريئون من نقائص الذكورة والانوثة { إناثا } مبتليات بانواع النقائص { وهم شاهدون } حتى يتنبهوا ان قولهم هذا ليس الا عن محض خرص وتخمين، ويتفكروا ان العاقل لا ينبغى ان يتفوه فى مثل هذا المطلب العظيم بالظن والتخمين.
[37.151]
قولا عظيما لا ينبغى ان يقال، يقولون: { ولد الله وإنهم لكاذبون }.
[37.152]
من غير احتمال صدق فى قولهم.
[37.153-155]
قبح ما تقولون وتنسبون الى الله فان نسبة الولد الى الله تخرجه عن الوجوب الى الامكان، وعن الغنى الى الحاجة، وعن التنزه الى التدنس، وعن التجرد الى كونه ماديا، وغير ذلك من النقائص، وبعد نسبة الولد اليه لا تتذكرون قبح ما تقولون من ان اولاده بنات لا بنون.
[37.156]
{ أم لكم سلطان } حجة { مبين } واضح او موضح انكر قولهم لربنا البنات والملائكة بنات الله، ثم انكر نسبة الانوثة الى الملائكة الذين هم منزهون عن دنس الذكورة والانوثة ثم انكر شهودهم حين خلق الملائكة والحال ان الانوثة والذكورة لا تعلمان الا بالشهود، ثم انكر نسبة الولد اليه وصرح انها من جملة افكهم وصرح بانهم كاذبون تأكيدا، ثم عيرهم على نسبة البنات اليه والبنين الى انفسهم مع انه اذا نسب البنات اليهم ظلت وجوههم مسودة، ثم عيرهم على عدم تذكر قبح ذلك مع انه يتذكر قبح امثال ذلك كل ذى شعور، ثم عيرهم على القول بلا حجة خصوصا امثال هذا القول، ثم طالبهم بالحجة الزاما لهم على الاقرار بعدم الحجة، كل ذلك لتأكيد قبح هذا القول ولتأكيد تعيير قائله.
[37.157]
فى هذا القول ونسبة الولد الى الله، فان الصادق لا بد له من حجة على دعواه او ان كنتم صادقين فى ادعاء الحجة والكتاب.
[37.158]
{ وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا } قيل: انهم تارة يقولون الملائكة بنات الله، وتارة يقولون: الجن بنات الله، او بعضهم يقولون: الجن بنات الله، وبعضهم يقولون: الملائكة بنات الله، وقيل: ان مرادهم بالجن، الملائكة سموهم جنا لاستتارهم، وقيل: قالوا ان الله صاهر الجن فخرجت الملائكة، وقيل: قالوا، الله والشيطان اخوان والله خالق الخير، والنور والشيطان خالق الشر والظلمة، وقيل: المراد بالنسبة النسبة فى العبادة فان بعضهم يعبدون ابليس ويقولون انه احق بالعبادة من الله او مثله فى العبادة.
{ ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون } فى الحساب أو فى النار، وضمير انهم للجنة أو للمشركين أو للمجموع.
[37.159]
فى حقه من الولد والنسبة والمصاهرة.
[37.160]
استثناء من فاعل يصفون او من مرفوع لمحضرون او استثناء منقطع.
[37.161]
من الملائكة والجنة والشياطين وغير ذلك من المعبودات.
[37.162]
{ مآ أنتم عليه } اى على ما تعبدون او على الله او على هذا الوصف { بفاتنين } بمفسدين الناس ومضليهم والجملة جزاء شرط محذوف اى اذا كان الله منزها عما تقولون بافواهكم من غير تحقيق والمنزه عن المادة ونقائصها لا يمكن للمادى التصرف فيه فانكم ومعبوداتكم لا تقدرون افتتان الناس على خلاف امره التكوينى.
[37.163]
داخل فيها محرق بها يعنى من كان بالفعل داخل نار الجحيم وان لم يكن شاعرا بالدخول لكون مداركه خدرة غير متأثرة بحرقتها.
[37.164]
هذا قول الملائكة ردا على عابديهم والجملة حالية بتقدير القول او معطوفة والمعنى انهم يقولون ما منا الا له مقام معلوم، وقيل: هذا قول جبرئيل (ع) للنبى (ص) وعن الصادق (ع) قال: انزلت فى الائمة والاوصياء من آل محمد (ص) والمعنى ما منا احد الا له مقام فى العبودية لا نتجاوزه فكيف نكون معبودين مراقبين لعابدينا وحافظين لهم وناصرين لهم؟.
[37.165]
فى العبادة والخدمة لا انه يصف العباد لنا.
[37.166]
لله لا انه يجوز ان يسبحنا احد، وعن الصادق (ع) كنا انوارا صفوفا حول العرش نسبح فيسبح اهل السماء بتسبيحنا، الى ان هبطنا الى الارض فسبحنا فسبح اهل الارض بتسبيحنا وانا لنحن الصافون وانا لنحن المسبحون.
[37.167]
{ وإن كانوا } انهم كانوا { ليقولون } اى المشركون.
[37.168]
اى كتابا من كتبهم، او شريعة من شرائعهم، او نبيا من انبيائهم (ص).
[37.169-170]
{ لكنا عباد الله المخلصين فكفروا به } اى بالذكر الذى هو محمد (ص) او القرآن او شريعة محمد (ص) او ولاية على (ع) { فسوف يعلمون } عاقبة كفرهم.
[37.171]
{ ولقد سبقت كلمتنا } بالوعد والنصر { لعبادنا المرسلين } او المعنى لقد سبقت كلمتنا التى هى فعلية الانسانية التى هى دليل كل خير وطريق كل مطلوب وفعلية كل كمال، او سبقت كلمتنا التى هى الولاية كلمة الشيطان فصارت كلمة الشيطان مغلوبة، واذا صارت كلمة الشيطان مغلوبة صارت جملة جنوده الداخلة والخارجة مغلوبة، وصارت جملة جنود الحق الداخلة والخارجة غالبة والآية تسلية للرسول والمؤمنين وتهديد للكافرين.
[37.172]
بدل من كلمتنا او جواب لسؤال مقدر فى مقام بيان الكلمة او فى مقام التعليل.
[37.173-174]
{ وإن جندنا لهم الغالبون فتول عنهم } واعرض عن مجادلتهم ومقاتلتهم { حتى حين } حتى تبلغ الى موعد نصرك وقتلهم.
[37.175]
{ وأبصرهم } فانك فتحت بصيرتك ويمكنك ابصارهم على حالهم الفظيعة التى تؤديهم الى الجحيم والى العذاب الاليم، او ابصرهم على حالهم التى يكونون عليها فى القيامة وعند الحساب، او فى الجحيم وعند العذاب فانك لا حاجة لك الى اتيان القيامة بعد فان القيامة صارت حالك { فسوف يبصرون } ذلك فى القيامة لعدم خروجهم بعد عن مضيق طبعهم وسجن نفوسهم وحجب اهويتهم.
[37.176]
تهديد لهم، روى انه لما نزل فسوف يبصرون قالوا متى هذا؟ فقال تعالى تهديدا لهم: افبعذابنا يستعجلون.
[37.177]
اى وقت المنذرين فانه كثيرا ما يستعار الصباح لمطلق الوقت.
[37.178-179]
تأكيد للاول وتعقيب لكل من الوعد والوعيد بذلك اتماما لطرفى الوعد والوعيد.
[37.180-181]
{ سبحان ربك } عن كل ما يصفه الواصفون وخصوصا عما يصفه المشركون { رب العزة } لانه ليس كمال ولا وصف الا انه تعالى خالقه وربه { عما يصفون وسلام } اى سلامة او الله او تحية السلام { على المرسلين } كأنه تعالى قال: فالنقمة على المشركين وسلام على المرسلين فان قوله سبحان ربك رب العزة فى مقام ان يقال نقمة عظيمة من غير دافع على المشركين وسلام على الموحدين.
[37.182]
تعليم للعباد او انشاء للحمد تعظيما لنفسه، او اخبار بان كل كمال وكل صفة كمال خاص بالله فكيف يكون له شريك فى ملكه.
[38 - سورة ص]
[38.1]
{ ص } قرئ بالسكون وهو الاصل فى فواتح السور، وقرئ بكسر الدال اما لالتقاء الساكنين والتحريك بالكسر، او لجعله امرا من المصاداة وهى المعارضه، وقرئ بفتح الدال لالتقاء الساكنين، او لجعله علما للسورة ومنع صرفه وفى اخبار كثيرة ان ص عين تنبع من تحت العرش، او من يمين العرش، او من ركن من اركان العرش وهى ماء الحيوة، وفى خبر ان ص من اسماء الله، او من اسماء النبى (ص) وقد سبق فى اول البقرة تفصيل تام يغنينا ههنا عن التعرض لبيانه { والقرآن } اقسم بالقرآن { ذي الذكر } والجواب محذوف اى ان القرآن حق، او انك حق، او ان الكافرين به او بك كفروا به لا لحجة.
[38.2]
{ بل الذين كفروا في عزة و } مناعة عن قبول الحق وتأنف منه و { شقاق } وفى طرف مع الله ورسوله ولذلك لم يقبلوا رسالة رسوله ولا كتابه.
[38.3]
{ كم أهلكنا من قبلهم من قرن } امة هالكة تهديد لهم على كفرهم { فنادوا ولات حين مناص } هو من قولهم وما تنادوا به او من الله او من الملائكة، حكى بتقدير القول اى فنادوا او قال الله او الملائكة لات حين مناص وزيادة التاء على لا للتأكيد.
[38.4]
{ وعجبوا أن جآءهم منذر منهم } والحال انه لا ينبغى ان يكون المنذر الا منهم { وقال الكافرون } اى قالوا، ووضع الظاهر موضع المضمر لاظهار ذمهم وبيان مبنى قولهم { هذا ساحر كذاب } قد مضى بيان السحر فى سورة البقرة عند قصة هاروت وماروت.
[38.5]
{ أجعل الآلهة إلها واحدا } استغربوا ما سمعوه من خلاف ما اعتادوه { إن هذا لشيء عجاب } بالغ فى العجب.
[38.6]
{ وانطلق الملأ منهم } يعنى انطلق السنتهم ولذا اتى بان التفسيرية بعده او انطلقوا بارجلهم والمعنى انطلقوا عنه مسارين { أن امشوا } من عند هذا الرجل او امشوا على دينكم { واصبروا على آلهتكم إن هذا } الذى هو من جملة البلايا والمصائب { لشيء يراد } بنا او ان هذا الذى يدعيه من الرياسة على العباد والترفع فى البلاد شيء يريده كل احد.
[38.7]
{ ما سمعنا بهذا فى الملة الآخرة } اى الملة التى هى غير هذه والملة التى ادركناها { إن هذا إلا اختلاق } وقد ورد الاخبار بان الآية نزلت بمكة بعد ان اظهر رسول الله (ص) دينه وسمعت به قريش وذلك انه اجتمعت قريش الى ابى طالب (ع) وقالوا: يا ابا طالب ان ابن اخيك قد سفه احلامنا وسب آلهتنا وافسد شباننا وفرق جماعتنا فان كان الذى يحمله على ذلك العدم جمعنا له مالا حتى يكون اغنى رجل فى قريش ونملكه علينا، فأخبر ابو طالب (ع) رسول الله (ص) فقال:
" لو وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى ما اردته ولكن يعطونى كلمة يملكون بها العرب ويدين لهم بها العجم ويكونون ملوكا فى الجنة "
، فقال لهم ابو طالب ذلك، فقالوا: نعم وعشر كلمات، فقال لهم رسول الله (ص):
" تشهدون ان لا اله الا الله وانى رسول الله "
فقالوا: ندع ثلاث مائة وستين الها ونعبد الها واحدا؟! فأنزل الله سبحانه بل عجبوا (الآية).
[38.8]
{ أأنزل عليه الذكر من بيننا } مع انه كان يتيما لا مال له ولا علم ولا شأن { بل هم في شك من ذكري } لا انهم ايقنوا بالذكر وانكروا ان تكون انت هو او تكون انت صاحبه { بل لما يذوقوا عذاب } حتى ايقنوا بعذابى وايقنوا بذكرى يعنى انهم ابطرتهم كثرة النعم والفراغ من البلايا فاشتغلوا بلذائذ النفوس وانكروا ما وراءها.
[38.9]
حتى يختاروا لرحمته التى هى النبوة ونزول الذكر من شاؤا من رجل من القريتين عظيم.
[38.10]
{ أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما } حتى يتصرفوا فيها بما شاؤا او يجعلوا فيها من شاؤا رئيسا ومن شاؤا مرؤسا { فليرتقوا } امر للتعجيز { فى الأسباب } فليصعدوا فى اسباب الصعود الى العرش فينزلوا الذكر على من شاؤا، وقيل: المراد بالاسباب السماوات لانها اسباب المواليد السفلية.
[38.11]
الجملة جواب سؤال مقدر كأنه قيل: فما حالهم ومآل امرهم؟- فقال: انهم سيهزمون لانكارهم الذكر وصاحبه لكنه قال: جنود كثيرة او عظيمة فى مقام هذا الانكار الذى هو ابعد المقام عن مقام العقول صاروا مهزومين من الفرق المتفرقة المختلفة من العرب والعجم والترك والديلم ليكون تنبيها ودليلا وتهديدا على المقصود.
[38.12]
{ كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون } بيان للاحزاب المكذبين المنكرين وبيان لانهزامهم بالتلويح { ذو الأوتاد } سمى به كما فى الخبر لانه كان اذا اراد ان يعذب احدا بسطه فى الارض على وجهه واوتد يديه ورجليه باربعة اوتاد فى الارض وربما بسطه على خشب منبسط فاوتدها كذلك وتركه حتى يموت، وقيل: معناه ذو الملك الثابت بالاوتاد، وقيل: معناه ذو الاركان القوية فانه كان صاحب جنود كثيرة وامراء عظيمة ووزراء قوية.
[38.13]
{ وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة } اى قوم شعيب { أولئك الأحزاب } المهزومون فانظروا حالهم ومآل تكذيبهم وانكارهم.
[38.14-15]
{ إن كل إلا كذب الرسل } اى رسلهم او جميع الرسل لان تكذيب واحد تكذيب للجميع { فحق عقاب وما ينظر هؤلآء } تصريح بما عرض به من عقوبة المنكرين من قريش والمراد بهؤلاء المنكرون من قريش { إلا صيحة واحدة } هى الصيحة عند الموت او عند القيامة يعنى المراد به النفخة الاولى او الثانية { ما لها من فواق } توقف او رجوع او راحة او افاقة من الغشى ورجوع الى الدنيا او فتور.
[38.16]
{ وقالوا } اى يقولون بعد الصيحة واداه بالماضى لتحقق وقوعه، او لانه قد وقع بالنسبة الى محمد (ص)، او المعنى انهم بلسان حالهم سألوا نزول العذاب الموعود بهم، او بلسان قالهم كما قالو:
إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السمآء
[الأنفال:32] وكما قالوا متى يكون هذا الوعد { ربنا عجل لنا قطنا } قسطنا من العذاب الموعود { قبل يوم الحساب } استعجلوا ذلك استهزاء او استعجلوا لشدة عذابهم قبل القيامة فى البرازخ بظن ان عذابهم قبل يوم الحساب ينجيهم من عذابهم فى البرزخ او من عذاب يوم الحساب.
[38.17]
{ اصبر على ما يقولون } ولا تحزن بقولهم فانهم لا يفوتوننا ولا ينالونك بمكروه من غير اذننا وراجع ربك على كل حال { واذكر عبدنا داوود ذا الأيد } جمع اليد بمعنى القوة والنعمة كما فى الخبر { إنه أواب } مع كونه كثير القوة والنعمة فراجع انت ربك.
[38.18]
{ إنا سخرنا الجبال } بيان لقوته ونعمته { معه يسبحن بالعشي والإشراق } يعنى وقت اشراق الشمس او هو كناية عن الغداة.
[38.19]
{ والطير محشورة } اليه من كل جانب او حال كون الطير محشورة من اوكارها { كل له أواب } قد سبق الآية بتركيبها وتفسيرها فى سورة الانبياء وفى سورة سباء.
[38.20]
{ وشددنا ملكه } يعنى قويناه بحيث لا يمكن لاحد الاخلال فى ملكه { وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب } المراد بالحكمة آثار الولاية فان الحكمة ليست الا دقة العلم واتقان العمل والدقة فيه وهى من آثار الولاية فان الانسان ما لم يقبل الولاية بشروطها المقررة عندهم لم يفتح بصيرته وما لم يفتح بصيرته لم يصر نظره دقيقا، وما لم يصر نظره دقيقا لا يمكنه الاتقان فى العمل وقد مضى مكررا بيان الحكمة مفصلا والمراد بفصل الخطاب آثار الرسالة فانه باى معنى كان كان من جهة الاشتغال بالكثرات والاشتغال بالكثرات من جهة العباد ليس الا لاجل الرسالة اليهم او لاجل قبول الرسالة من الرسول (ع) وقد فسر فصل الخطاب فى خبر مروى عن على (ع) بقوله: البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه، وفى خبر مروى عن الرضا (ع) انه معرفة اللغات، وفسر فصل الخطاب بتمييز الحق عن الباطل، وبالكلام المفصول المبين الذى لا يشتبه على سامعه، وبالخطاب القصد الذى ليس فيه ايجاز مخل ولا اطناب ممل، وبمطلق العلم بالقضاء.
[38.21]
{ وهل أتاك نبأ الخصم } تنبيه له (ص) ولامته على ان الامتحانات الالهية كثيرة تكون بصورة اتيان المتخاصمين وبصورة الاذلال والاعزاز وبصورة عناد المعاندين ومحبة المحبين فلا تغفلوا عن امتحانه ولا تغتروا بانعامه واعزازه، واتى بالاستفهام للتعجيب من حاله (ع) ومبادرته بنسبة الظلم الى الخصم من غير تثبت واستظهار ليكون آكد فى ذلك التنبيه { إذ تسوروا المحراب } التسور الدخول من قبل السور، والمحراب مجلس الاشراف الذى يحارب دونه وهو مقامهم الخاص لعبادتهم او نزاهتهم وخلوتهم.
[38.22]
{ إذ دخلوا على داوود ففزع منهم } لانهم دخلوا فى غير وقت دخول الاغيار ودخلوا من دون اذن ومن غير المحل المعتاد للدخول { قالوا } بعد ما رأوا انه فزع منهم { لا تخف خصمان } كأنهم كانوا جماعة وقال بعضهم: هذان خصمان، او: نحن خصمان { بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط } لا تجر فى الحكومة { واهدنآ إلى سوآء الصراط } المرضى لله وللعقل.
[38.23]
{ إن هذآ أخي } بيان لصورة المخاصمة { له تسع وتسعون نعجة } هى الانثى من الضأن { ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها } ملكنيها من الكفل بمعنى النصيب اى اجعلها نصيبى، او من الكفالة اى اجعلنى كفيلها { وعزني في الخطاب } غلبنى فى المخاصمة.
[38.24]
{ قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطآء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم } ما زائدة او وصفية لتأكيد التقليل { وظن داوود } بعدما تبادر فى الحكم بالظلم { أنما فتناه } امتحناه بذلك { فاستغفر ربه } من تبادره فى الحكم { وخر راكعا } خاضعا { وأناب } رجع الى الله بالاعتذار.
[38.25-26]
{ فغفرنا له ذلك } التبادر { وإن له عندنا لزلفى } قربة { وحسن مآب يداوود } على طريق الحكاية اى قلنا يا داود { إنا جعلناك خليفة } لنا او للانبياء والملوك الماضين { في الأرض فاحكم بين الناس بالحق } قد سبق فى سورة لقمان بيان ما لخلافة داود (ع) فى ذيل بيان حال لقمان (ع) وحكمته وعن الرضا (ع) فى بيان عصمة الانبياء، واما داود (ع) فما يقول من قبلكم فيه؟- فقيل يقولون: ان داود (ع) كان يصلى فى محرابه اذ تسور له ابليس على صورة طير احسن ما يكون فقطع داود صلوته وقام ليأخذ الطير فخرج الطير الى الدار فخرج فى اثره فطار الطير الى السطح فصعد فى طلبه فسقط الطير فى دار اوريا بن حيان، فاطلع داود فى اثر الطير، فاذا بامرأة اوريا تغتسل فلما نظر اليها هويها وكان قد اخرج اوريا فى بعض غزواته فكتب الى صاحبه ان قدم اوريا امام التابوت فقدم فظفر اوريا بالمشركين فصعب ذلك على داود (ع) فكتب اليه ثانية ان قدمه امام التابوت فقدم فقتل اوريا فتزوج داود بامراته، قال: فضرب الرضا (ع) يده على جبهته وقال: انا لله وانا اليه راجعون.! لقد نسبتم نبيا من انبياء الله الى التهاون بصلوته حتى خرج فى اثر الطير ثم بالفاحشة ثم بالقتل، فقيل: يا بن رسول الله (ص) فما كانت خطيئته؟ فقال: ويحك! ان داود (ع) انما ظن انه ما خلق الله عز وجل خلقا هو اعلم منه، فبعث الله عز وجل اليه الملكين فتسور المحراب فقالا له: خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا الى سواء الصراط ان هذا اخى له تسع وتسعون نعجة ولى نعجة واحدة فقال: اكفلنيها وعزنى فى الخطاب فعجل داود (ع) على المدعى عليه فقال: لقد ظلمك بسؤال نعجتك الى نعاجه ولم يسأل المدعى البينة على ذلك ولم يقبل على المدعى عليه فيقول له: ما تقول؟- فكان هذا خطيئته رسم حكم لا ما ذهبتم اليه، الا تسمع الله يقول: يا داود انا جعلناك خليفة فى الارض فاحكم بين الناس بالحق (الى آخر الآية) فقيل: يا بن رسول الله (ص) فما قصته مع اوريا؟- قال الرضا (ع): ان المرأة فى ايام داود (ع) كانت اذا مات بعلها او قتل لا تتزوج بعده ابدا فاول من اباح الله تعالى ان يتزوج بامرأة قتل بعلها، داود (ع)، فتزوج بامرأة اوريا قتل وانقضت عدتها فذلك الذى شق على اوريا والاخبار فى انكار ماروته العامة كثيرة عن ائمتنا (ع) حتى انه روى عن امير المؤمنين (ع) انه: من حدث بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين جلدة، يعنى جلدته حدين للمفترى، وفى خبر عنه حدا للنبوة وحدا للاسلام وروى عنهم تصديق ما روته العامة ايضا وقد ذكر فى بيان الحكم بين الناس بالحق ان يكون المدعى والمدعى عليه عند الحاكم متساويين فى النظر والتكلم والمجلس والبشر، وقد ذكر ان الحكم بالحق ان يكونا متساويين فى ميل القلب بمعنى انه يكون ميل قلبه من حيث حكومته ومن حيث احقاق الحق اليهما متساويا لا انه يحب ان يكون الحق لاحدهما، ولا يختلف الحال عنده ايهما كان محقا، ولا يبعد ان يكون قوله تعالى { ولا تتبع الهوى } تلويحا اليه فان النهى عن اتباع الهوى يشير الى النهى عن الهوى وميل النفس الى احدهما من باب المقدمة { فيضلك عن سبيل الله } وهو الحكم بالحق { إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب } واتبعوا هوى النفس.
[38.27-28]
{ وما خلقنا السمآء والأرض وما بينهما باطلا } هذه من تتمة خطاب داود (ع) فتكون الجملة حالية او استيناف خطاب لمحمد (ص) كما يشعر به اخبارنا فتكون معطوفة بلحاظ المعنى كأنه قال: ما فتنا داود عبثا انما فتناه لنخلصه من النقص الذى كان فيه وما خلقنا السماء، او تكون حالية يعنى لخلق السماء والارض غايات عديدة هى مشهودة ومعلومة لكم وهى توليد المواليد، ولتوليد المواليد ايضا غايات عديدة هى ايضا مشهودة ومعلومة لكم، وترجع جملتها الى انتفاع الانسان فى معاشه وليس حيوة الانسان حياته الدانية غاية الغايات ونهاية النهايات لفنائها وعدم بقائها، ولا يكون الفانى الداثر غاية للدائم الباقى فبقى ان يكون حياته الباقيه الدائمة غاية الغايات ونهاية النهايات حتى لا يكون خلق الكل باطلا، وعليهذا لا يكون المؤمن والمفسد ولا المتقى والفاجر متساويين { ذلك ظن الذين كفروا } بالله او بالرسالة او بالخلافة او بالآخرة { فويل للذين كفروا من النار أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار } المراد بالمتقين والفجار هما المؤمنون والمفسدون كررهما بتغيير الوصفين تأكيدا وتصريحا بان التقوى لا تكون الا للمؤمن، والفجور ليس الا للمفسد، سئل الصادق (ع) عن هذه الآية فقال: الذين آمنوا وعملوا الصالحات امير المؤمنين (ع) واصحابه كالمفسدين فى الارض قال: حبتر وزريق واصحابهما، ام نجعل المتقين كالفجار حبتر وزلام واصحابهما.
[38.29]
{ كتاب } خبر مبتدء محذوف او مبتدء خبره مبارك او ليدبروا والمعنى ان القرآن كتاب، او على (ع) كتاب { أنزلناه إليك مبارك } ذو بركة وخير على المتمسك به والتفسير بعلى (ع) اوفق بقوله ووهبنا لداود سليمان { ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب } قد مضى مكررا ان الانسان ما لم يتصل بالولاية كان بلا لب واذا اتصل بالولاية بشروطه المقررة عندهم صار ذا لب فهو بدون الولاية يكون كالجوز الخالى عن اللب ويكون لائقا للنار وبالولاية تصير كالجوز الذى يكون له لب، عن الصادق (ع) ليدبروا آياته امير المؤمنين والائمة (ع) فهم اولوا الالباب.
[38.30]
{ ووهبنا لداوود سليمان نعم العبد } سليمان (ع) { إنه أواب } مثل داود (ع).
[38.31]
{ إذ عرض } ظرف لاواب او لما يلزم قوله نعم العبد من المدح لكنهما يوجبان تقييد ما المقصود منه الاطلاق او ظرف لا ذكر مقدر، فان المقصود من قوله وهبنا تذكيره (ص) بحال سليمان (ع) وتنبيهه على هبة على (ع) له { عليه بالعشي الصافنات الجياد } الصافن الفرس الذى يقوم على طرف سنبك يد او رجل وهو من الصفات المحمودة للخيل، والجياد جمع الجواد بمعنى سريع السير جيده.
[38.32]
{ فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي } احببت بمعنى تقاعدت فان احب استعمل بمعنى برك او من المحبة والمعنى احببت نوع حب الخير متقاعدا عن ذكر ربى او حب الخير مفعول به حينئذ واذا كان احببت بمعنى تقاعدت يكون حب الخير مفعولا له والمراد بالخير الخيل لان العرب تسمى الخيل بالخير، وروى عن النبى (ص) انه قال: الخير معقود بنواصى الخيل الى يوم القيامة، او المراد به المال الكثير كما فسر الخير به فى قوله تعالى: ان ترك خيرا { حتى توارت بالحجاب } اى توارت الشمس بقرينة الحال وقرينة ذكر العشى المستلزم لسير الشمس، وقيل: حتى توارت الخيل عن نظره بالحجاب الذى لها من مربضها او انه امر باجرائها فكان مشتغلا بالتفكر فيها والنظر اليها حتى توارت عن نظره.
[38.33]
قد ورد الاخبار من طريق الخاصة ان سليمان (ع) اشتغل ذات يوم بالعشى بعرض الخيل لانه كان يريد الجهاد ففات وقت صلوة عصره وتوارت الشمس وغربت، وفى بعض الاخبار فات اول وقت صلوة وقيل فات صلوة نفلته فقال: للملائكة بأمر الله ردوا الشمس على حتى اصلى صلوتى فى وقتها فردوها عليه، فمسح ساقيه وعنقه وامر اصحابه الذين فاتتهم الصلوة معه بمثل ذلك وكان ذلك وضوءهم ثم قام فصلى فلما فرغ غابت الشمس وطلعت النجوم، وقيل: انه قال لاصحابه: ردوا الخيل على فردوها عليه فضرب سوقها واعناقها بالسيف لانها كانت سبب فوت صلوته، وقيل فى تصحيحه: انها كانت اعز ماله فذبحها ليتصدق بلحومها على المساكين فانه
لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون
[آل عمران:92] وقيل: جعل يمسح اعراف خيله وعراقيبها بيده حبا لها، وقيل: مسح اعناقها وسوقها وجعلها مسبلة فى سبيل الله، وقيل: انه لما قتل الخيل ضل خاتمه بسبب قتلها سرقه شيطان اربعين يوما وجلس مكانه وفر سليمان ثم وجد خاتمه فى بطن الحوت، وقد ذكر قصته فى سورة البقرة عند قوله تعالى
وما كفر سليمان
[البقرة:102] قال ابن عباس: سألت عليا عن هذه الآية فقال: ما بلغك فيها يابن عباس؟- قلت: سمعت كعبا يقول: اشتغل سليمان (ع) بعرض الافراس حتى فاتته الصلوة فقال: ردوها يعنى الافراس كانت اربعة عشر فامر بضرب سوقها واعناقها بالسيف فقتلها فسلبه الله ملكه اربعة عشر يوما لانه ظلم الخيل بقتلها، فقال على (ع): كذب كعب لكن اشتغل سليمان (ع) بعرض الافراس ذات يوم لانه اراد جهاد العدو حتى توارت الشمس بالحجاب فقال بامر الله للملائكة الموكلين بالشمس: ردوها على فردت فصلى العصر فى وقتها، وان انبياء الله تعالى لا يظلمون ولا يأمرون بالظلم لانهم معصومون مطهرون.
[38.34]
{ ولقد فتنا سليمان } امتحناه { وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب } روى عن النبى (ص) ان سليمان (ع) قال: يوما فى مجلسه لاطوفن الليلة على سبعين امرأة تلد كل امرأة منهن غلاما يضرب بالسيف فى سبيل الله، ولم يقل، ان شاء الله، فطاف عليهن فلم تحمل منهن الا امرأة واحدة جائت بشق ولد ثم قال: فوالذى نفس محمد بيده لو قال: ان شاء الله لجاهدوا فى سبيل الله فرسانا والجسد الذى كان على كرسيه كان هذا، وعن الصادق (ع) ان الجن والشياطين لما ولد لسليمان بن داود (ع) قال بعضهم لبعض: ان عاش له ولد لنلقين منه ما لقينا من ابيه من البلاء، فاشفق منهم عليه فاسترضعه فى المزن وهو السحاب فلم يشعر الا وقد وضع على كرسيه ميتا لتنبيهه على ان الحذر لا ينفع من القدر وانما عوتب على خوفه من الشياطين، وقيل: ان المراد بالجسد هو الشيطان الذى جلس مكانه على كرسيه سمى بالجسد لخلوه من روح الانسان، وذكر فى سبب ابتلائه (ع) بسلب ملكه ان امرأة كانت تعبد فى بيته صورة اربعين يوما ولم يشعر به، ونقل ان سليمان (ع) لما تزوج باليمانية ولد منها ولد وكان يحبه فنزل ملك - الموت على سليمان وكان كثيرا ما ينزل عليه فنظر الى ابنه نظرا ففزع سليمان من ذلك فقال لامه: ان ملك الموت نظره اظنه قد امر بقبض روحه فقال للجن والشياطين: هل لكم حيلة ان تفروه من الموت؟ فقال واحد منهم: انا اضعه تحت عين الشمس فى المشرق فقال سليمان (ع): ان ملك الموت يبلغ ذلك، فقال آخر: انا اضعه فى السحاب والهواء فرفعه ووضعه فى السحاب وجاء ملك الموت فقبض روحه فى السحاب فوقع جسده ميتا على كرسى سليمان، فعلم انه قد اخطأ فحكى الله ذلك فى قوله { وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب } وامثال هذه وامثال روايات سلب ملك سليمان (ع) وجلوس الشيطان على كرسيه وكون ملكه منوطا بخاتم ليس الا من الرموز التى رمزها الاقدمون ثم اخذها العامة بصورها الظاهرة ومفاهيمها العامية ونسبوا الى الانبياء عليهم السلام ما لا يليق ان ينسب الى مؤمن فكيف بكامل او نبى (ع).
[38.35]
{ قال رب اغفر لي } بعدما استشعر بانا فتناه { وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب } يعنى لانك تكون كثير الهبة وكانت عادتك ذلك وكانت الوهابية منحصرة فيك سألتك هذا السؤال فانه ان كان عظيما بالنسبة الينا فهو حقير بالنسبة الى وهابيتك.
اعلم، انه يرى من ظاهر الآية ان سليمان (ع) بخل بعطاء الملك لغيره وقد اشير فى الاخبار الى ذلك مثل قول رسول الله (ص):
" رحم الله اخى سليمان بن داود (ع) ما كان ابخله "
، وقد ذكر فى الاخبار فى دفع توهم البخل ان مراده (ع) لا ينبغى ان يقال من بعدى انه مأخوذ بالغلبة والجور فأعطاه الله تعالى ملكا لا يمكن ان يقال: انه مأخوذ بالغلبة مثل ملك الجبابرة حيث سخر له الريح وجملة دواب الارض وطيرها، وذكر فى الاخبار فى بيان قول النبى (ص) ان مراده (ع) ما كان ابخله بعرضه وسوء القول فيه، او المراد ما كان ابخله ان كان اراد ما كان يذهب اليه الجهال، وعن الاكابر ان مراده هب لى ملكا لائقا بمقامى لا ينبغى لاحد يكون مقامه بعد مقامى وليس هذا بخلا بل سؤالا لما يليق بمقامه او بما يليق بمن يكون مقامه فوق مقامه.
[38.36]
{ ف } اجبناه وأعطيناه ذلك و { سخرنا له الريح تجري بأمره رخآء } لينة { حيث أصاب } اى اراد اصابته.
[38.37]
{ والشياطين } وسخرنا له الشياطين { كل بنآء وغواص } بدل تفصيلى من الشياطين.
[38.38]
قائلين { هذا... }.
[38.39]
{ هذا } الذى اعطيناك من الملك الذى لم يكن لاحد من البشر او هذا الاعطاء { عطآؤنا } عطيتنا او اعطائنا { فامنن } ما شئت لمن شئت { أو أمسك } ما شئت ممن شئت { بغير حساب } وتقدير منك لما مننت وامسكت لوفور ما اعطيناك وعدم نقصانه باعطائك بغير حساب وتقدير او بغير مطالبتنا منك حساب ما اعطيت او امسكت لتفويض الامر اليك، عن الصادق (ع) فى قوله تعالى: هذا اعطاؤنا (الآية) قال: اعطى سليمان (ع) ملكا عظيما ثم جرت هذه الآية فى رسول الله (ص) فكان ان يعطى من شاء ما شاء ويمنع من شاء ما شاء واعطاه افضل ما اعطى سليمان (ع) لقوله:
مآ آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا
[الحشر:7] او قيل: للرضا (ع) حقا علينا ان نسألكم؟ قال: نعم، قيل: حقا عليكم ان تجيبونا؟- قال: ذاك الينا ان شئنا فعلنا وان شئنا لم نفعل، ثم قرأ هذه الآية { وإن له عندنا لزلفى... }.
[38.40-41]
{ وإن له عندنا لزلفى } رفع لتوهم ان درجات الآخرة والقرب من الله لعلها تنافى هذا الملك العظيم فى الدنيا لان الدنيا والآخره ضرتان لا تجتمعان { وحسن مآب واذكر عبدنآ أيوب إذ نادى ربه } بدل من عبدنا بدل الاشتمال كما ان ايوب بدل منه بدل الكل والمعنى اذكر ايوب (ع) وابتلاءه وشدة بلائه ليكون تسلية لك عن ابتلائك فان الانبياء (ع) قلما يكونون بلا بلاء واذكر وقت التجائه الينا لشدة بلائه ليكون اسوة لامتك فى ذلك حتى يتذكروا ذلك ويلتجؤا حين الاضطرار الينا، واذكر اجابتنا له باحسن الاجابة حتى تكونوا على رجاء تام باجابتنا { أني مسني الشيطان بنصب وعذاب } النصب بضم النون وسكون الصاد وضمها وبفتح النون وسكون الصاد وفتحها التعب، وقرئ بها جميعا، ونسب العذاب الى الشيطان تكرما وحياء من نسبة السوء الى الله، وقيل : كان الشيطان يوسوس اليه ويقول: طال مرضك ولا يرحمك ربك، وقيل: كان يقول: كنت فى نعمة وولد واهل كذا، ووقعت الآن فى بلية كذا لعله يجزع، وقيل: اشتد مرضه حتى اجتنبه الناس فوسوس الى الناس ان يستقذروه ويخرجوه ولا يتركوا امرأته ان تدخل عليهم وكان ايوب (ع) يتأذى بذلك فشكا ذلك ولم يشك البلية.
[38.42]
{ اركض } يعنى اجبناه وقلنا: اركض { برجلك } الارض فضرب برجله الارض فنبعت عين فقلنا له { هذا مغتسل بارد وشراب } اى ما يغتسل فيه وما يشرب منه، والمقصود الامر بالاغتسال والشرب منه فاغتسل وشرب وبرء كأحسن ما يكون.
[38.43]
{ ووهبنا له أهله } الذين هلكوا فى اول ابتلائه { ومثلهم معهم } اى الذين هلكوا من قبل ابتلائه وقد سبق فى سورة الانبياء بيان لنسبة ايوب (ع) ونسبة امرأته وقد بين هناك مدة ابتلائه وكيفية ابتلائه وبيان ايتاء اهله وكيفية ايتاء مثلهم معهم { رحمة منا } من غير استحقاق منه { وذكرى } وتذكيرا { لأولي الألباب } حتى لا يكونوا على يأس منا ويكونوا راجين رحمتنا حين سلب النعمة منهم، وقد سبق مكررا ان اللب لا يحصل للانسان الا بتلقيح الولاية فان الانسان ما لم يحصل له الولاية بالشروط المقررة عندهم يكون كاللوز والجوز الخالى من اللب اللائق للنار، وحصول الولاية للانسان مثل التأبير للنخلة يجعله ذا ثمر وذا لب فليس المراد باولى الالباب الا شيعة على (ع) الذين حصل لهم ولايته بشروطها.
[38.44]
{ وخذ بيدك } عطف على اركض { ضغثا } حزمة من خشب { فاضرب به } زوجتك { ولا تحنث } قسمك وذلك انه كما قيل: حلف بعد ما اخبر ان زوجته اخذت فى الزنا وقطعت ذؤابتها ورأى ذؤابتها مقطوعة ان يضربها مائة وندم على ذلك بعد ما اخبرته أنها باعتها واخذت له طعاما { إنا وجدناه صابرا } تعليل لا ذكر او لقلنا اركض برجلك او لوهبنا له اهله او لوهبنا مثلهم معهم او لقلنا خذ بيدك ضغثا او للمجموع او بيان لحاله فى جواب سؤال عن حاله { نعم العبد } ايوب (ع) { إنه أواب } كثير الرجوع شديد الرجوع تام الرجوع الى الله، عن الصادق (ع) انه سئل عن بلية ايوب (ع) التى ابتلى بها فى الدنيا، لأى علة كانت؟ قال: لنعمة انعم الله عز وجل عليه بها فى الدنيا وادى شكرها وكان فى ذلك الزمان لا يحجب ابليس عن دون العرش فلما صعد ورأى شكر نعمة ايوب حسده ابليس فقال: يا رب ان ايوب لم يؤد اليك شكر هذه النعمة الا بما اعطيته من الدنيا ولو حرمته دنياه ما ادى اليك شكر نعمة ابدا، فسلطنى على دنياه حتى تعلم انه لا يؤدى اليك شكر نعمة ابدا، فقيل له: قد سلطتك على ماله وولده، قال: فانحدر ابليس فلم يبق له مالا ولا ولدا الا أعطبه، فازداد ايوب لله شكرا وحمدا، قال: فسلطنى على زرعه، قال: قد فعلت، فجمع شياطنيه فنفخ فيه فاحترق، فازداد ايوب لله شكرا وحمدا، فقال: يا رب فسلطنى على غنمه، فسلطه على غنمه، فأهلكها، فازداد ايوب شكرا وحمدا، فقال: يا رب سلطنى على بدنه، فسلطه على بدنه ما خلا عقله وعينيه، فنفخ فيه ابليس فصار قرحة واحدة من قرنه الى قدمه فبقى فى ذلك دهرا طويلا يحمد الله ويشكره حتى وقع فى بدنه الدود، فكانت تخرج من بدنه فيردها فيقول لها: ارجعى الى موضعك الذى خلقك الله منه ونتن حتى اخرجه اهل القرية من القرية وألقوه فى المزبلة خارج القرية، وكانت امرأته رحمة بنت يوسف بن يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم تتصدق من الناس وتأتيه بما تجده، فلما طال عليه البلاء ورأى ابليس صبره اتى اصحابا لايوب كانوا رهبانا فى الجبال وقال: لهم مروا بنا الى هذا العبد المبتلى فنسأله عن بليته، فركبوا بغالا شهبا وجاؤا فلما دنوا منه نفرت بغالهم من نتن ريحه فنظر بعضهم الى بعض ثم مشوا اليه وكان فيهم شاب حدث السن فقعدوا اليه فقالوا: يا ايوب لو اخبرتنا بذنبك لعل الله كان يملكنا اذا سألناه وما نرى ابتلاءك بهذا البلاء الذى لم يبتل به احد الا من امر كنت تستره، فقال ايوب (ع): وعزة ربى انه ليعلم انى ما اكلت طعاما الا ويتيم او ضعيف يأكل معى، وما عرض لى امران كلاهما طاعة لله الا اخذت بأشدهما على بدنى، فقال الشاب: سوئة لكم عيرتم نبى الله حتى اظهر من عبادة ربه ما كان يسترها؟! فقال ايوب (ع) يا رب لو جلست مجلس الحكم منك لادليت بحجتى، فبعث الله عز وجل اليه غمامة فقال: يا ايوب ادل بحجتك فقد اقعدتك مقعد الحكم، وها انا ذا قريب ولم ازل، فقال: يا رب انك لتعلم انه لم يعرض لى امران قط كلاهما لك طاعة الا اخذت بأشدهما على نفسى الم احمدك؟ الم اشكرك؟ الم اسبحك؟ قال فنودى من الغمامة بعشرة آلاف لسان: يا ايوب من صيرك تعبد الله والناس عنه غافلون؟ وتحمده وتسبحه وتكبره والناس عنه غافلون؟ اتمن على الله بمالله فيه المنة عليك؟- فاخذ التراب فوضعه فى فيه ثم قال: لك العتبى يا رب، انت فعلت ذلك بى، فانزل الله عليه ملكا فركض برجله فخرج الماء فغسله بذلك الماء فعاد احسن ما كان واطرء، وانبت الله عليه روضة خضراء ورد عليه اهله وماله وولده وزرعه وقعد معه الملك يحدثه ويونسه فاقبلت امرأته معها الكسرة فلما انتهت الى الموضع اذا الموضع متغير واذا رجلان جالسان فبكت وصاحت وقالت: يا ايوب ما دهى بك؟ فناداها ايوب فاقبلت فلما رأته وقد رد الله عليه بدنه ونعمته سجدت لله عز وجل شكرا، فرأى ذؤابتها مقطوعة وذلك انها سئلت ان يعطوها ما تحمله الى ايوب من الطعام وكانت حسنة الذوائب فقالوا لها: تبيعيننا ذؤابتك هذه حتى نعطيك، فقطعتها ودفعتها اليهم واخذت منهم طعاما لايوب فلما رآها مقطوعة الشعر غضب وحلف عليها ان يضربها مائة، فأخبرته انه كان سببه كيت وكيت، فاغتم ايوب من ذلك فأوحى الله عز وجل اليه: خذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث فأخذ عذقا مشتملا على مائة شمراخ فضربها ضربة واحدة فخرج من يمينه، قال: فرد الله عليه اهله الذين ماتوا قبل البلاء، ورد عليه اهله الذين ماتوا بعدما اصابهم البلاء كلهم، احياهم الله له فعاشوا معه وسئل ايوب بعدما عافه الله: اى شيء كان اشد عليك مما عليك، فقال: شماتة الاعداء قال: فأمطر الله عليه فى داره جراد الذهب وكان يجمعه فكان اذا ذهبت الريح منه بشيء عدا خلفه فرده فقال له جبرئيل: اما تشبع يا ايوب؟- قال: ومن يشبع من رزق ربه عز وجل.
وعنه (ع) عن ابيه (ع) قال: ان ايوب ابتلى بغير ذنب سبع سنين وان الانبياء معصومون لا يذنبون ولا يزيغون ولا يرتكبون ذنبا صغيرا ولا كبيرا، وقال: ان ايوب مع جميع ما ابتلى به لم تنتن له رائحة، ولا قبحت له صورة، ولا خرجت منه مدة من دم ولا قيح، ولا استقذره احد رآه، ولا استوحش منه احد شاهده، ولا تدود شيء من جسده وهكذا يصنع الله عز وجل بجميع من يبتليه من انبيائه واوليائه المكرمين عليه وانما اجتنبه الناس لفقره وضعفه فى ظاهر امره لجهلهم بما له عند ربه تعالى من التأييد والفرج وقد قال النبى (ص):
" اعظم الناس بلاء الانبياء ثم الاولياء ثم الامثل فالامثل "
، فانما ابتلاه الله بالبلاء العظيم الذى يهون معه على جميع الناس لئلا يدعوا له معه الربوبية اذا شاهدوا ما اراد الله تعالى ذكره ان يوصله اليه من عظائم نعمه متى شاهدوه ليستدلوا بذلك على ان الثواب من الله على ضربين استحقاق واختصاص، ولئلا يحقروا ضعيفا لضعفه، ولا فقيرا لفقره، ولا مريضا لمرضه، وليعلموا انه يسقم من يشاء ويشفى من يشاء، متى شاء، كيف شاء، باى شيء شاء ويجعل ذلك عبرة لمن يشاء، وشقاوة لمن يشاء، وسعادة لمن يشاء، وهو عز وجل فى جميع ذلك عدل فى قضائه، وحكيم فى افعاله، لا يفعل بعباده الا الاصلح لهم ولا قوة الا بالله.
[38.45]
يعنى انهم كانوا صاحبى النعم فى الدنيا وصاحبى البصيرة فى امر الآخرة حتى لا تنسى انت ولا امتك حين النعمة امر الآخرة وتجعلوا دنياكم مقدمة لآخرتكم كما فعل هؤلاء.
[38.46]
{ إنآ أخلصناهم } بسبب النعمة { بخالصة } بخصلة خالصة لنا { ذكرى الدار } بدل من خالصة يعنى بخالصة هى تذكرهم دائما لدار الآخرة او مفعول له تحصيلى او حصولى اى اخلصناهم بعبادة خالصة لنا لذكرى الدار الآخرة، واطلق الدار اشعارا بان الآخرة هى الدار ومحل القرار لا الدنيا فانها معبر للاشرار والاخيار.
[38.47-49]
{ وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار واذكر إسماعيل } بن ابراهيم { واليسع } قد مضى فى سورة الانعام { وذا الكفل } قد مضى فى سورة الانبياء { وكل من الأخيار هذا } المذكور من الانبياء واحوالهم { ذكر } وعبرة لمن اراد الآخرة { وإن للمتقين لحسن مآب } سواء كانوا نبيا او لم يكونوا.
[38.50-51]
{ جنات عدن مفتحة لهم الأبواب متكئين فيها } كناية عن الاستراحة فيها { يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب } اى يدعون احبابهم الى فاكهة كثيرة او يدعون غلمانهم وجواريهم بسبب الاتيان بفاكهة كثيرة او يدعون نفس الفاكهة والشراب فان امتعة الجنة كلها ذوات علم وشعور وتأتى بأنفسها الى طالبها، وزيادة الباء لتأكيد لصوق الدعوة الى الفاكهة.
[38.52]
{ وعندهم قاصرات الطرف } عن غير ازواجهن { أتراب } لدات لا عجوز فيهن ولا صبية لا يمكن الاستمتاع بها نقول نحن او ملائكتنا لهم: { هذا ما توعدون ليوم الحساب }.
[38.53-54]
انقطاع.
[38.55-56]
فسر الطاغين ببنى امية واولياءهم، وقد تكرر ان الاصل فى كل شر وذى شر اعداء على وبنو امية ومن وافقهم ولذلك صح تفسير كل شر وذى شر ذكر فى القرآن بهم.
[38.57]
{ هذا فليذوقوه } هذا مبتدء وليذوقوه خبره، والفاء زائدة، او منصوب على شريطة التفسير والفاء زائدة او منصوب بمضمر مثل المذكور والفاء غير زائدة، او مبتدء بتوهم اما او تقديره والفاء غير زائدة، او مبتدء خبره حميم وفليذوقوه معترضة، او خبر مبتدء محذوف، او مبتدء خبر محذوف اى العذاب هذا او هذا هو العذاب، او المعنى خذ ذا المذكور من كون شر المآب للطاغين { حميم وغساق } غسق الجرح غسقانا سال منه ماء اصفر والمراد به ما سال من ابدان اهل النار من الصديد.
[38.58]
{ وآخر من شكله } عطف على حميم او مبتدء خبر محذوف اى لهم عذاب آخر من مثل هذا العذاب او مذوق آخر من مثل هذا المذوق، او مبتدء خبره { أزواج } اى عذاب آخر لهم من مثله ازواج او خبر مبتدء ازواج والمعنى صنف آخر مثل هذا الصنف ازواج لهذا الصنف او انواع مختلفة بحسب الباطن وقرئ اخر على الجمع.
[38.59]
{ هذا فوج } جملة حالية او مستأنفة على تقدير القول { مقتحم معكم } الاقتحام الدخول فى الشدة بنحو الشدة يعنى يقال للرؤساء او لبنى امية: هذا السواد اى المتبوعون او بنو العباس فوج مقتحم معكم { لا مرحبا بهم } جملة حالية او وصفية او مستأنفة جوابا لسؤال مقدر او للدعاء عليهم من كلام الله او من قول الرؤساء للمتبوعين بتقدير القول { إنهم صالوا النار } تعليل وقيل: يقول بنو امية: لا مرحبا بهم.
[38.60]
{ قالوا } اى الاتباع للمتبوعين او بنو العباس لبنى امية { بل أنتم لا مرحبا بكم } لاقدامكم اولا على ما ادخلنا فى النار وكونكم فى ذلك قدوة لنا { أنتم قدمتموه } اى هذا العذاب او الدخول فى النار او هذا الدعاء { لنا } باقدامكم اولا وبجعلنا اتباعكم { فبئس القرار } جهنم.
[38.61]
{ قالوا } قيل: ثم يقول بنو امية { ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار } لتأسيسهم ظلم آل محمد (ص) واتباعنا لهم فى ذلك.
[38.62]
{ وقالوا } اى الاتباع او بنو العباس او قال المتبوعون وبنو امية او المجموع { ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار } قيل: ثم يقول اعداء آل محمد (ص) ذلك والمراد شيعة امير المؤمنين (ع).
[38.63]
{ أتخذناهم سخريا } قرئ بكسر الهمزة صفة اخرى لرجالا، وقرئ بهمزة الاستفهام على الانكار التوبيخى { أم زاغت عنهم الأبصار } ام معادلة لقوله ما لنا لا نرى كأنهم قالوا ليسوا ههنا فلا نريهم ام كانو ههنا ولكن مالت ابصارنا عنهم فلا نريهم.
[38.64]
{ إن ذلك لحق } واقع { تخاصم أهل النار } بدل من ذلك، عن الصادق (ع) لقد ذكركم الله اذ حكى عن عدوكم فى النار بقوله وقالوا ما لنا لا نرى (الآية) قال والله ما عنى الله ولا اراد بهذا غيركم صرتم عند اهل هذا العالم من اشرار الناس وانتم والله فى الجنة تحبرون وفى النار تطلبون، وروى اما والله لا يدخل النار منكم اثنان، لا والله ولا واحد، والله انكم الذين قال الله تعالى وقالوا ما لنا وفى رواية: اذا استقر اهل النار فى النار يتفقدونكم فلا يرون منكم احدا فيقول بعضهم لبعض ما لنا (الآية) وذلك قول الله تعالى ان ذلك لحق تخاصم اهل النار يتخاصمون فيكم كما كانوا يقولون فى الدنيا.
[38.65]
{ قل } للمشركين او للمنافقين من امتك { إنمآ أنا منذر } لست اجبركم على التوحيد او على ولاية على (ع) { وما من إله إلا الله الواحد القهار } فلا حكم الا له لقهاريته فلا معبود سواه فلست احكم بالخلافة من قبل نفسى ولا حكم لمن اشركتموه به.
[38.66-67]
{ رب السماوات والأرض وما بينهما } فلا ربوبية لشركائكم فى شيء منها ولا حكم لاحد فى خلقه بنصب الخليفة من قبل نفسه { العزيز الغفار قل هو } اى التوحيد او ما انبأتكم به من ولاية على (ع) وامامته كما فسر فى الخبر بأمير المؤمنين (ع) وامامته { نبأ عظيم } لان الولاية هى النبأ الذى لا نبأ الا وهو نبأ منه ولا امر ولا نهى ولا رسالة ولا نبوة ولا بشارة ولا انذار ولا وعد ولا وعيد الا به وله.
[38.68]
والاعراض عنه اعراض عن اللطيفة الانسانية وهى اللطيفة الآلهية وهى رب كل مربوب فى مقامه النازل وهى اسم الرب وهى العبودية التى كنهها الربوبية وهى الحبل من الله الذى ضرب عليهم الذلة الا به وبحبل من الناس.
[38.69]
{ ما كان لي من علم } مقول قوله (ص) يعنى قل لهم ما كان لى علم ان سألوك عن الملأ الاعلى او نبههم على ان الملأ الاعلى الذين لا التفات لهم الى الارض واهلها يختصمون فى هذا النبأ لسبب العلم باختصامهم عن نفسك وقل: ما كان لى من علم قليل { بالملإ الأعلى إذ يختصمون } فى هذا النبأ العظيم لعظم اختصامهم وعظم المختصم فيه كأنه لا يمكن للبشر العلم باختصامهم مع انى قد اطلعت على مقامهم وكلامهم.
[38.70]
قرئ بفتح همزة انما بتقدير اللام او بجعل الجملة فى موضع مرفوع يوحى، وروى ابن عباس عن النبى (ص) انه قال:
" قال لى ربى اتدرى فيم يختصم الملأ الاعلى؟- فقلت: لا، قال: اختصموا فى الكفارات والدرجات فاما الكفارات فاسباغ الوضوء فى السبرات، ونقل الاقدام الى الجماعات، وانتظار الصلوة بعد الصلوة، واما الدرجات فافشاء السلام، واطعام الطعام، والصلوة بالليل والناس نيام، "
وعلى هذا يكون هذا الكلام على الحكاية بتقدير محذوف كأنه قيل: قال لى ربى: اتدرى فيم يختصم الملأ الاعلى؟- قلت: لا علم لى (الى الآخر) وذكر فى خبر المعراج مضمون هذا الخبر ويجوز ان يكون المراد بالنبأ العظيم خبر خلق آدم ويكون قوله ما كان لى من علم بالملأ الاعلى اذ يختصمون بمعنى اذ يختصمون فى خلق آدم (ع) ويكون قوله { إذ قال ربك }.
[38.71-76]
{ إذ قال ربك } متعلقا بيختصمون او بدلا من اذ يختصمون واذ يختصمون ظرف لكان او بدل من الملأ الاعلى يعنى ما كان لى من علم بالملأ الاعلى بوقت قوله تعالى { للملائكة إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين قال يإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين } قد مضى فى اول البقرة بيان تام لهذه الآيات وقد اشير الى بيانها فى سورة الاعراف ايضا.
[38.77-81]
قد مضى بيان هذه الآيات فى سورة الحجر.
[38.82-84]
قرئ بنصب الحق فى كليهما، وعلى هذا يكون الحق الاول مفعول فعل محذوف اى فأحق الحق او فالحق تقول، او يكون مفعولا لاقول ويكون الحق الثانى معطوفا للتأكيد او يكون مفعولا لخذ محذوفا بقرينة المقام، او يكون منصوبا بحذف حرف القسم، وقرئ برفع الاول ونصب الثانى، وعليه يكون الحق الاول مبتدء محذوف الخبر اى الحق مقول لى او مقول لك او يمينى او منى، او يكون خبره جملة القسم المحذوف وجوابها فان الحق فى معنى الجملة، او يكون الحق الاول خبرا محذوف المبتداء اى انا الحق او قولى الحق او قولك الحق، وقرئا مرفوعين على ان يكون الحق الاول على الوجوه السابقة، ويكون الحق الثانى مبتدء واقول خبره محذوف الضمير او يكون تأكيدا للاول واقول مستأنفا او يكون الحق الاول مبتدء واقول خبره والحق الثانى تأكيدا له، وقرئا مجرورين على اضمار حرف القسم وقرئ بجر الاول ونصب الثانى ووجهه ظاهر.
[38.85-86]
{ لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين قل مآ أسألكم عليه من أجر } استيناف خطاب لرفع وصمة الحرص عنه وللوعد والوعيد يعنى قل لكفار مكة: ان ادعائى هذا ان كان كذبا فلا يخلو ان اكون طالبا للدنيا، وان كنت طالبا للدنيا كان يظهر منى بالتلويح طلب مال منكم او طلب اعتبار وما ظهر منى الى الآن شيء من ذلك، او قل لهم: لا اسألكم عليه اجرا حتى تتهمونى بالطمع فى اموالكم وتعرضوا عنى { ومآ أنآ من المتكلفين } ولو كنت كاذبا لكنت متكلفا لا محالة، او اخبار بانه لا يتكلف فى شيء من اموره لا فى لباسه ولا فى غذائه ولا فى ضيافته ولا لاضيافه واصحابه، والمراد بالضمير المجرور التبليغ او النصح والتذكير او القرآن.
[38.87]
{ إن هو إلا ذكر } تذكر او شرف وصيت { للعالمين } او المراد انه ليس على (ع) او تبليغ ولايته الا ذكرا للعالمين.
[38.88]
{ ولتعلمن نبأه } اى نبأ تبليغى او نبأ القرآن او نبأ على (ع) وولايته { بعد حين } بعد الموت او يوم القيامة او يوم بدر او بعد تمام سلطنتى واستكمالها.
[39 - سورة الزمر]
[39.1]
{ تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم } تنزيل الكتاب مبتدء خبره من الله، او خبره محذوف، او خبر مبتدءه محذوف اى هذا تنزيل الكتاب ووصف الله بالعزيز الحكيم تفخيما لشأن الكتاب وتحذيرا عن مخالفته وترغيبا فى اتباعه والمراد بالكتاب القرآن او الرسالة والنبوة واحكامهما، او الولاية وآثارها، او كتاب ولاية على (ع) وخلافته، وقد سبق فى اول البقرة بيان للكتاب.
[39.2]
{ إنآ أنزلنآ } جواب سؤال مقدر كأنه قيل: من انزل الكتاب؟ وعلى من انزل؟ فقال: انا انزلنا { إليك الكتاب بالحق } الذى هو المشية وهو ولاية على (ع) وعلويته اى بسبب الحق او متلبسا بالحق او مع الحق { فاعبد الله مخلصا له الدين } اى الطريق، او اعمال الملة واخلاص الطريق الى الله بان لا يكون مبدء السلوك عليه ولا غايته مشوبا بشيء من اغراض النفس واشراك الشيطان وهو امر صعب لا يتأتى الا من كامل حكيم مراقب لاحواله فى كل افعاله.
[39.3]
{ ألا لله الدين الخالص } تقديم لله لشرافته وقصد الحصر، ويفيد نفى رجوع غير الخالص اليه بمفهوم مخالفة القيد وذلك لانه اغنى الشركاء كلما كان له فيه شريك يتركه للشريك { والذين اتخذوا من دونه أوليآء ما نعبدهم } حال او خبر او مستأنف معترض بين المبتدأ والخبر والكل بتقدير القول { إلا ليقربونآ إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم } جملة مستأنفة جواب لسؤال مقدر عن حالهم او الجملة خبر عن الذين اتخذوا او خبر بعد خبر عنه { في ما هم فيه يختلفون } من امر الدين او من الرسالة او من ولاية على (ع) روى عن النبى (ص) فى خبر انه أقبل على مشركى العرب وقال:
" وانتم فلم عبدتم الاصنام من دون الله؟ - فقالوا: نتقرب بذلك الى الله تعالى فقال: او هى سامعة مطيعة لربها عابدة له حتى تتقربوا بتعظيمها الى الله؟ - قالوا: لا، قال: فانتم الذين نحتموها بايديكم؟ "
- قالوا: نعم، قال: فلأن تعبدكم هى لو كان يجوز منها العبادة احرى من ان تعبدوها اذا لم يكن امركم بتعظيمها من هو العارف بمصالحكم وعواقبكم والحكيم فيما يكلفكم { إن الله لا يهدي } فى مقام التعليل او خبر بعد خبر والرابط تكرار المبتدء بالمعنى { من هو كاذب كفار } لعدم استعداده وعدم استحقاقه.
[39.4]
{ لو أراد الله أن يتخذ ولدا } كما نسبوا اليه الملائكة والمسيح وعزيرا { لاصطفى مما يخلق } من اصناف الملائكة وانواع البشر والجن { ما يشآء } من البنين لا ما نسبوا اليه من البنات { سبحانه } عن الشريك والولد والصاحبة { هو الله الواحد } الذى لا مثل له حتى يكون له ولد { القهار } الذى لا يجوز فى قهاريته ان يكون له شريك ومثل، والولد يكون مثلا له، والشريك يكون مثلا له ومقابلا لا مقهورا.
[39.5]
{ خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار } بمعنى يولج الليل فى النهار، او هو من تكرير العمامة ولف طاقاته كل على الاخرى، او بمعنى يغشى الليل النهار، او بمعنى يكرر تتابع الليل للنهار والنهار لليل { ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر } وللاشارة الى تتابع الليل والنهار وتكرار تكويرهما اتى بالمضارع فى جانبهما وبالماضى ههنا { كل يجري } على الاستمرار { لأجل مسمى ألا هو العزيز } الذى لا يمنع من مراده حيث لا يمنعه مانع من هذا التكوير وذلك التسخير { الغفار } الذى لا يؤاخذ عباده على ما هم فيه من الاشراك ونسبة الولد اليه وسائر المعاصى لعلهم يتوبون فيغفر لهم.
[39.6-7]
{ خلقكم من نفس واحدة } قد سبق فى سورة النساء بيان الآية { ثم جعل منها زوجها } اتى بثم للاشارة الى التعقيب فى الاخبار فان خلق الجماعة الكثيرة من نفس واحدة لا غرابة فيه، وخلق الزوج التى تكون شريكة لها فى خلق الجماعة الكثيرة منها امر غريب بالنسبة اليه { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج } قد سبق بيان الثمانية الازواج فى سورة الانعام وانزل بمعنى خلق كما نسب الى امير المؤمنين (ع)، واستعمال انزل للاشعار بان شيئية الشيء بفعليته الاخيرة والفعلية الاخيرة لكل ذى نفس هى نفسه والتحقيق ان النفوس وان كانت جسمانية الحدوث لكنها منزلة من سماء الارواح وارباب الانواع الى افراد الانواع فاستعمال انزل فى معنى خلق لم يكن على سبيل المجاز { يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق } حيوانا سويا بعد خلق اللحم والعظام بعد المضغة والعلقة والنطفة { في ظلمات ثلاث } ظلمة البطن والرحم والمشيمة كما فى الخبر { ذلكم الله } الذى هذه المذكورات اوصافه وافعاله { ربكم } فلا تطلبوا ربا سواه { له الملك } جملة ما يملك مما سواه اوله عالم الملك مقابل الملكوت { لا إله إلا هو فأنى تصرفون إن تكفروا فإن الله غني عنكم } لما بالغ فى وعظهم وصرفهم عن المعبودات الباطلة توهم ان الله تعالى للاحتياج اليهم يستصرفهم عن المعبودات، فرفع ذلك التوهم بان اهتمامه لصرفكم اليه ليس الا محض الرحمة والتفضل عليكم لا لاحتياجه اليكم { ولا يرضى لعباده الكفر }.
تحقيق كون الكفر بارادة الله وعدم رضاه به ورضاه بالايمان
قد سبق فى مطاوى ما سلف ان الرحمة الرحمانية التى بها وجود الاشياء وبقاؤها بمنزلة المادة للرحمة الرحيمية والغضب، وللرضا والسخط، وللهداية والاضلال، وان المكونات كلها كمالاتها الاولية الذاتية تحصل بالرحمة الرحمانية، والكمالات الثانية التى تصل اليها تكوينا ان لم يعقها عائق تحصل بالرحمة الرحيمية ويقال لها: الولاية التكوينية والرضا التكوينى، وان ذوى العقول وصولها الى كمالاتها الثانية التكليفية بالرحمة الرحيمية، ويقال لها: الولاية التكليفية والرضا والهداية والتوفيق وغير ذلك، وان انحراف المكونات تكوينا عن طريقها المستقيمة التى تكون بالفطرة سالكة عليها الى كمالاتها الثانية وانحراف المكلفين عن طريقهم المستقيمة التكليفية لا تكون الا بارادة الله ومشيته لكن ذلك الانحراف لا يكون الا من نقص مادته وحدود وجوده فيكون نسبته الى نفسه اولى من نسبته الى خالقه ويكون غير مرضى لله وان كان مرادا له فان الارادة بحسب الرحمة الرحمانية، والرضا بحسب الرحمة الرحيمية ويكون مبغوضا ومسخوطا وصاحبه مخذولا وضالا وغير قابل للولاية التكوينية او التكليفية { وإن تشكروا يرضه لكم } لان الشكر من الكمالات الثانية التكليفية وقد فسر الكفر بالخلاف اى خلاف الولاية وخلاف الامام والشكر بالولاية والمعرفة { ولا تزر وازرة وزر أخرى } رد لمن قال للذين آمنوا بلسان القال كما حكى الله تعالى او بلسان الحال كما هو شأن المنافقين من الامة وكما هو شأن المترأسين فى الدين من غير اذن واجازة:
اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم
[العنكبوت:12] { ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون } تعريض بمجازاتهم على عملهم فان الاخبار بالعمل فى الآخرة ليس الا للمجازاة عليه { إنه عليم بذات الصدور } قد تكرر سابقا ان ما فى الصدور اما من قبيل الارادات والعزمات والنيات والخيالات والخطرات ويصدق عليها انها ذات الصدور، واما من قبيل القوى والاستعدادات المكمونة فى النفوس التى لا شعور لصاحبى الصدور بها وهى اولى بكونها ذات الصدور لزوال المذكورات السابقة عنها بسرعة بخلافها فهى اولى بصدق المصاحبة والجملة تعليل لقوله تعالى: ينبئكم وتهديد لمن يخفى اعماله.
[39.8]
{ وإذا مس الإنسان ضر } عطف على قوله ان تكفروا يعنى كيف تكفرون واذا مسكم ضر تلتجؤن اليه لا الى غيره يعنى انكم مفطورون على الاقرار به والالتجاء اليه فليس كفركم ولا كفرانكم لنعمه الا لستر ما انتم مفطورون عليه { دعا ربه منيبا إليه } لما سبق ان الخيال بتصرف المتخيلة يمنع العاقلة عن التدبير والتصرف ويستر نصحه وردعه وحين مسيس الضر يسكن الخيال عن التصرف فيظهر الفطرة وحكم العقل { ثم إذا خوله } اعطاه تفضلا فانه لا يستعمل الا فى هذا المعنى { نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل } يعنى نسى الضر الذى يدعو الله الى دفعه، او نسى اللطيفة الغيبية التى كان يدعو قواه واهل مملكته حين الضر اليها فان التجاءه اليه دعوة لجميع اهل مملكته اليه، وان كان نزوله فى ابى الفضيل كما ورد، فانه روى عن الصادق (ص) انها نزلت فى ابى الفضيل انه كان رسول الله (ص) عنده ساحرا فكان اذا مسه الضر يعنى السقم دعا ربه منيبا اليه يعنى تائبا اليه من قوله فى رسول الله (ص) ما يقول ثم اذا خوله نعمة منه يعنى العافية نسى ما كان يدعو اليه من قبل يعنى نسى التوبة الى الله تعالى مما كان يقول فى رسول الله (ص): انه ساحر، ولذلك قال الله عز وجل: { قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار } يعنى امرتك على الناس بغير حق من الله عز وجل ومن رسوله (ص) قال ثم عطف من الله عز وجل فى على (ع) يخبر بحاله وفضله عند الله تبارك وتعالى فقال: { أمن هو قانت } (الآية) { وجعل لله أندادا } امثالا وشركاء مثل الاصنام والكواكب او جعل لله اندادا فى وجوده من اهوية نفسه ومشتهياتها { ليضل } الناس او اهل مملكته { عن سبيله } وقرئ ليضل بفتح الياء { قل تمتع بكفرك قليلا } يا ابا الفضيل او يا ابا فلان او يا ايها المنصرف من باب القلب الى باب النفس ومشتهياتها { إنك من أصحاب النار } فان الانصراف من الله ومن الولاية ومن على (ع)، او من باب القلب ليس الا للمبتلى بدواعى النفس، ودواعى النفس ليست الا الشواظ من النار.
[39.9]
{ أمن هو قانت آنآء الليل ساجدا وقآئما يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه } كمن ليس كذلك؟! حذف الخبر لدلالة الحال ودلالة قوله { قل هل يستوي الذين يعلمون } (الآية) عليه، او المعنى امن كفر خير امن هو قانت، فحذف المعادل الاول لدلالة القرينتين عليه، وقرئ { أمن هو قانت } بتخفيف الميم، وعليه يكون الخبر محذوفا اى { أمن هو قانت } كمن ليس كذلك؟! او الخبر والمعادل جميعا والتقدير { أمن هو قانت } خير ام من كفر، وقد فسر القانت بعلى (ع) ومن ليس كذلك ليس الا اعداءه، والتخصيص فى الذكر بعلى (ع) لكونه اصلا فى الخصال الحميدة والاعمال الرضية لا ينافى تعميمها كما تكرر سابقا { قل هل يستوي الذين يعلمون } الذين يقومون آناء الليل ساجدا وقائما فان العلم يلزمه ذلك لتلازم العلم والعمل كما سبق فى فصول اول الكتاب { والذين لا يعلمون } فيكفرون بالله، او بنعمه، او بالرسول (ص)، او بعلى (ع) { إنما يتذكر } عدم التسوية بينهما { أولو الألباب } لا غيرهم كأنه قال: لكن لا فائدة فى تذكرتك ذلك لخلوهم من اللب ومن كان خاليا عن اللب لا يتذكر ولو ذكر له كل آية واتى له بكل آية، وقد تكرر ان الانسان بدون تأبير الولاية وبدون الاتصال بولى الامر كالجوز الخالى من اللب اللائق للنار، وبعد الاتصال والدخول فى امر - الائمة (ع) ودخول الايمان فى القلب الذى هو بمنزلة لب القلب يصير ذا لب ولذلك فسروا عليهم السلام اولى الالباب فى الآيات بشيعتهم بطريق الحصر، عن الباقر (ع): انما نحن الذين يعلمون، وعدونا الذين لا يعلمون، وشيعتنا اولوا الالباب، وعن الصادق (ع): لقد ذكرنا الله وشيعتنا وعدونا فى آية واحدة من كتابه فقال: هل يستوى (الآية)، وبتلك المضامين اخبار كثيرة.
[39.10]
{ قل يعباد الذين آمنوا } امره (ص) ان يخاطب عبيده بنسبة عبديتهم الى نفسه اشعارا بانه (ص) خليفة له فى ارضه بل فى ارضه وسمائه ومظهر لجميع اوصافه ونسبه فكل من كان عبدا له تعالى يكون عبدا لخليفته (ص) عبد طاعة لا عبد عبادة { اتقوا ربكم } اى سخطه { للذين أحسنوا في هذه الدنيا } متعلق باحسنوا او حال عن قوله تعالى حسنة فان المحسن كما يكون له الحسنى فى الآخرة يكون له الحسنة التى هى سهولة الطريق والسلوك عليه والالتذاذ به فى الدنيا، ونعم ما قال المولوى فى تفسير الحسنة فى الدنيا والآخرة بقوله:
آتنا فى دار دنيانا حسن
آتنا فى دار عقبانا حسن
راه رابر ماجو بستان كن لطيف
مقصد ما باش هم تواى شريف
والجملة فى موضع تعليل بملفوظها ومحذوفها لمنطوق قوله تعالى { اتقوا ربكم } ومفهومه كأنه قال: اتقوا سخطه فان العاصى معذب والمطيع مثاب، لانه للذين احسنوا { حسنة } وللذين أساؤا عقوبة { وأرض الله واسعة } فان لم تتمكنوا من الاحسان فى ارض فهاجروا الى ارض يمكنكم الاحسان فيها { إنما يوفى الصابرون } جواب سؤال مقدر كأنه قيل: ان لم يمكن الهجرة فما لمن صبر على مشاق الاحسان فى محل يشق عليه الاحسان؟ او كأنه قيل: فما لمن هاجر وصبر على مشاق الهجرة؟! او كأنه قيل: ما لمن صبر على الاحسان فى الاوطان؟ او على الهجرة؟ فقال: انما يوفى الصابرون على ذلك { أجرهم بغير حساب } كناية عن عظمة الاجر وكثرته، وفى الاخبار اشارة الى ان المراد اعطاء الاجر بدون محاسبة الاعمال.
[39.11]
{ قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين } اى طريق السلوك او اعمال الملة عن اشراك الشيطان واشراك النفس ومداخلة الهوى فاعبدوا ما شئتم واشركوا فى الدين والاعمال ما شئتم فهو تعريض بهم وبان اشراكهم غير مرضى لله وغير مأمور به منه تعالى.
[39.12]
{ وأمرت } بذلك { لأن أكون أول المسلمين } فمن شاء ان يكون اقدم المسلمين فليعبد مخلصا له الدين، او المعنى: امرت بان اكون اول المسلمين، فيكون اللام زائدة للتقوية.
[39.13]
{ قل إني أخاف إن عصيت ربي } فى ترك ما امرنى به من اخلاص الدين { عذاب يوم عظيم } فافعلوا ما شئتم من الاشراك والاخلاص.
[39.14-15]
{ قل الله أعبد } تقديم الله للحصر يعنى قل امتثل امره واعبده { مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه } واشركوا فى دينه ما شئتم { قل } انتم خاسرون لاضراركم بانفسكم وقواها وجنودها، وهذا الخسران هو الخسران العظيم { إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم } الداخلة والخارجة { يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين } لا خسران المال الذى هو مغاير معكم ولا نسبة بينه وبينكم الا بمحض الاعتبار الذى اعتبره الشرع او العرف.
[39.16]
{ لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل } استعمال الظلل التى هى ما تظلك فيما كان تحت الاقدام اما من باب المشاكلة او من جهة انها ظلل لمن تحتها { ذلك } المذكور من الخسران او من التظليل بالظلل من النار { يخوف الله به عباده يعباد فاتقون } قوله تعالى { ألا ذلك هو الخسران } مما امر الرسول (ص) ان يقوله، او ابتداء كلام من الله، او قوله لهم من فوقهم ابتداء كلام منه او قوله { ذلك يخوف الله } ابتداء كلام منه، او قوله يا عباد فاتقون ابتداء كلام منه.
[39.17-18]
{ والذين اجتنبوا الطاغوت } مقابل قوله الذين خسروا وفى موقع ان الرابحين كذا لكنه عدل الى هذا لبيان ما فيه الرابح { أن يعبدوها } بدل من الطاغوت { وأنابوا إلى الله لهم البشرى } ولما كان الطاغوت مفسرة ببعض اعداء على (ع) فليكن المراد بالانابة الى الله التوبة على يد على والبيعة معه وهو كذلك لان الرجوع الى الله ليس الا بالسير الى طريق القلب، ولا يعلم طريق القلب ولا يفتح الا بالولاية التي هي البيعة على يد ولى الامر، والاصل في ذلك هو على (ع) { فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه } وضع الظاهر موضع المضمر تشريفا لهم باضافتهم اليه وترغيبا وتوصيفا لهم بوصف مدح تشويقا لهم الى ذلك الوصف والاهتمام بالعبودية.
بيان اتباع احسن القول وتحقيقه
واعلم، ان القول يطلق على الاقوال اللفظية والاقوال النفسية والكلمات الوجودية التى هى بالنسبة الى الله تعالى كالاقوال النفسية بالنسبة الينا واللام فى القول اما للجنس ولما لم يكن استماع الجنس الا فى ضمن الافراد فالمراد به اما استغراق الافراد بنحو العموم الجمعى او بنحو العموم البدلى لكن مع التقييد بما يخرجه عن المحالية ويكون المعنى والتقدير: الذين يستمعون جميع الاقوال التى يتفق سماعها لهم، او الذين يستمعون كل قول يتفق سماعه لهم بقرينة الحال وتقدم الاستماع، او المراد به فرد منكر من القول ويكون المعنى والتقدير: الذين يستمعون قولا منكرا لا يمكن تعريفه وهو قول الولاية وهذا الوجه بحسب اللفظ بعيد، او اللام فيه للعهد والمنظور من القول المعهود هو على (ع) وولايته، ولما كان الاقوال دوال المعانى لم يكن المنظور منها ومن حسنها الا حسنها بحسب المدلولات لان الدال على الشيء لا يحكم عليه ولا به من حيث انه دال كما ان الاسم من حيث انه اسم لا يحكم عليه ولا به فعلى هذا لم يكن المقصود من حسن الاقوال حسنها بحسب الفاظها بل حسنها بحسب مدلولاتها، والمقصود من اتباع الاحسن ان كان المراد من القول الاستغراق اتباع اوامره ونواهيه بالامتثال والانتهاء، والاتعاظ بمواعظه ونصائحه، والاعتبار بحكاياته وامثاله، ولما لم يمكن لكل احد اتباع الاحسن المطلق فالمراد بالاحسن الاحسن بالاضافة فانه ورد فى الكتاب والسنة الامر بالاقتصاص من المسيء والامر بكظم الغيظ والصفح اى عدم الحقد على المسيء والاحسان اليه وهذه اوامر اربعة مترتبة فى الفضيلة ويأمر النفس بالاقتصاص والزيادة على اساءته، ومن الناس من لا يمكنه كظم الغيظ فان امر بكظم الغيظ كان امرا بالمحال فالاحسن فى حقه الاقتصاص وعدم التجاوز منه الى الزيادة، فلو استمع سامع تلك الاقوال الخمسة وميز بين حقها وباطلها وحسنها واحسنها بالاضافة اليه واتبع ما هو احسن بالنسبة اليه كان ممن استمع القول واتبع احسنها سواء كان ممن كان الاحسن بالنسبة اليه القصاص او كظم الغيظ او الصفح والاحسان الى المسيء، او المراد اتباع احسنه بحسب حكايته فان الحكاية بلفظه احسن من الحكاية بمعناه، والحكاية بالمعنى بالاتيان بتمام المعانى احسن من الحكاية ببعض معانيه كما عن الصادق (ع) هو الذى يسمع الحديث فيحدث به كما سمعه، لا يزيد فيه ولا ينقص منه، وهذا احد وجوه الآية، او المقصود من اتباع احسن الاقوال اتباع احسن جهاتها فان لكل قول يسمعه السامع جهة لتقوية نفسه وجهة لتقوية عقله، وبعبارة اخرى كل قول يسمعه السامع اما يسمعه بسمع نفسه او بسمع عقله واتبع حكم العقل فيه كان ممن اتبع احسن جهاته، وان كان المراد به الولاية وصاحبها فالمقصود من اتباع احسنها احسن جهاتها فان للولاية جهة الى الكثرات واحكام الرسالات وجهة الى الوحدة وآثارها، واذا دار الامر بين اتباع جهة الوحدة وجهة الكثرة فليرجح جهة الوحدة وهي احسن جهاتها، وهكذا الامر اذا دار الامر بين اتباع خليفة الرسالة وخليفة الولاية وهما الشيخان فى الرواية والطريقة فليرجح شيخ الطريق اذا كان الانسان فارغا من احكام قالبه، واذا لم يكن عالما باحكام قالبه فليرجح شيخ الرواية، واذا كان محتاجا اليهما فى احكامهما فليرجح كل من كان حاجته اليه اشد، فانه احسن الاقوال بالنسبة اليه، وهكذا فى اتباع جهات الولاية والرسالة { أولئك الذين هداهم الله } الى الولاية فتمسكوا بها فان الهداية ليست الا بالتوسل بالولاية بالبيعة الخاصة الولوية { وأولئك هم أولوا الألباب } بتلقيح الولاية كما مر مرارا.
[39.19]
{ أفمن حق عليه كلمة العذاب } كهؤلاء المبشرين او التقدير خير ام هؤلاء المبشرون؟ او التقدير يتخلص منه او الخبر فانت تنقذ من فى النار بتقدير القول { أفأنت تنقذ من في النار } يعنى ان من حق عليه كلمة العذاب واقع فى النار ليس لوقوعه فى النار انتظار القيامة وليست بقادر ان تنقذه منها فهذه الجملة كناية عن وقوعهم فى النار ولذلك اتى فى جانب مقابليهم باداة الاستدراك كأنه قال: ليس من حق عليه كلمة العذاب حالهم مثل من كان مبشرا من الله فانهم واقعون فى النار فى هذه الحياة الدانية فكيف بالحياة الآخرة.
[39.20]
{ لكن } المبشرون { الذين اتقوا ربهم } واتى بالاسم الظاهر للاشعار بوصف آخر لهم، وبان التقوى محصورة فيهم وانهم محشورون بذلك { لهم غرف } جمع الغرفة بمعنى القصر الرفيع { من فوقها غرف مبنية } فى الجنة بناها الله بأيدى عماله لهم وهذا تشريف لهم ببناء القصر لهم { تجري من تحتها الأنهار } قد مضى فى آخر سورة النساء بيان جريان الانهار من تحت الجنات { وعد الله } وعد الله وعدا { لا يخلف الله الميعاد } عن الباقر (ع) انه قال: سأل على (ع) رسول الله (ص) عن تفسير هذه الآية بماذا بنيت هذه الغرف يا رسول الله (ص)؟ - فقال:
" يا على (ع) تلك غرف بناها الله لاوليائه بالدر والياقوت والزبرجد، سقوفها الذهب محبوكة بالفضة لكل غرفة منها الف باب من ذهب على كل باب منها ملك موكل به، وفيها فرش مرفوعة بعضها فوق بعض من الحرير والديباج بالوان مختلفة وحشوها المسك والعنبر والكافور "
وذلك قول الله وفرش مرفوعة.
[39.21]
{ ألم تر } الخطاب عام والاستفهام للتقريع او خاص بمحمد (ص) والاستفهام للتقرير لانه (ص) يرى ذلك وان كان غيره لا يراه { أن الله أنزل من السمآء مآء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه } اصنافه وانواعه، او المقصود اختلاف الالوان حقيقة { ثم يهيج } يثور عن منبته بالجفاف { فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما } متفتتا { إن في ذلك لذكرى } تذكيرا بالصانع وكمال حكمته وقدرته وعنايته بخلقه لا سيما ببنى آدم لانتفاعهم بما سواهم وكون ما سواهم لانتفاعهم دون ما سواهم وتذكيرا بان الاحياء بالحياة الدنيا مثل انبات النبات واخضراره وانحطاطه ويبسه واصفراره وتفتته فلا يغتر بها ويعلم انها ايضا ليست مقصودة بالذات بل هى كسائر الموجودات مقدمة لغيرها وليطلب ذلك وليعمل له { لأولي الألباب } الذين قبلوا ولاية على (ع) بالبيعة الخاصة الولوية كما تكرر انه لا يحصل اللب للانسان الا بتأبير الولاية.
[39.22-24]
{ أفمن شرح الله صدره للإسلام } يعنى اولى الالباب هم الذين شرح الله صدورهم للاسلام افمن شرح الله صدره للاسلام خير ام من شرح الله صدره للكفر؟ او مثل من جعل الله صدره ضيقا حرجا وقد مضى بيان شرح الصدر فى سورة الانعام عند قوله تعالى:
يشرح صدره للإسلام
[الأنعام:125] { فهو على نور من ربه } والنور هو الولاية التى هى الحافظة له عن اتباع الشيطان والاصل فى ذلك النور على (ع) وبعد شيعته الذين قبلوا ولايته بالبيعة الخاصة، ثم شيعته الذين قد تنعش فيهم الولاية التكوينية وتنعش تلك الولاية هو النور الذى يقذف فى قلب العبد فيعبر عنه بالعلم كما ورد، ان العلم نور يقذفه الله فى قلب من يشاء { فويل للقاسية قلوبهم } فى مقام كمن قسى قلبه لكنه اداه هكذا لافادة هذا المعنى مع شيء آخر { من ذكر الله } لاجل ذكر الله او معرضين من ذكر الله { أولئك في ضلال مبين الله نزل أحسن الحديث } اى ولاية على (ع) فانها النبأ العظيم واحسن من كل حديث والقرآن صورتها فان اصل الولاية هى المشية وقد نزلها الله عن مقامها العالى ومقام جمع الجمع على مراتب العقول والنفوس وعالم المثال وعالم الطبع، وبعد نزولها على مراتب الانسان صارت حروفا واصواتا وكلمات واقوالا فصارت كتبا سماوية واصل الكل هو القرآن وهو صورة الولاية فصح تفسيره بالقرآن { كتابا } بدل من احسن الحديث او حال او تميز { متشابها } فان مراتب العالم كل مرتبة منها مشابه لعاليتها وسافلتها فان السافلة صورة مفصلة نازلة من العالية والعالية صورة مجملة بسيطة من السافلة، وصورة القرآن ايضا متشابهة من حيث دلالة كل اجزائه على مبدء قدير وصانع حكيم عليم ذى عناية بخلقه ومن حيث دلالته على صدق الآتى به ومن حيث ظهور تنزيله وبطون تأويله ومن حيث اشتماله على البطون ومن حيث اشتماله على الوجوه العديده الصحيحة بحسب مراتب الخلق، ومن حيث فصاحته وبلاغته بحسب قد فاق كل خطاب وكلام، او المراد المتشابه فى مقابل المحكم فان القرآن وكتاب الولاية بعد نزوله الى عالم الطبع مخفى المقصود غير ظاهر المراد { مثاني } قد مضى بيان كون القرآن وكون فاتحة الكتاب مثانى فى اول الفاتحة وفى سورة الحجر { تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم } وهم الذين قبلوا ولاية على (ع) بالبيعة الخاصة او ظهر فيهم ولايته التكوينية التى هى ظهور العلم التكوينى فيهم فان العلم التكليفى محصور فيمن قبل الولاية التكليفية، والتكوينى محصور فيمن ظهر فيه الولاية التكوينية وخرج من حجب الاهوية واليهما اشار النبى (ص) حين سئل عنه: ما العلم؟ - فقال: الانصات، ثم سئل عنه، فقال: الاستماع فان الانصات اشارة الى ظهور العلم التكوينى المعبر عنه بالولاية التكوينية، ولاستماع اشارة الى الولاية التكليفية فان الاستماع ليس الا بعد الانقياد والانقياد لا يحصل الا بالبيعة الخاصة التى هى الولاية بوجه وهى سبب حصول الولاية بوجه، والخشية لا تكون الا بعد العلم والخشية محصورة فيمن له العلم بنص الآية الشريفة فلا تكون الخشية الا لشيعة على (ع) تكوينا او تكليفا، ومن قبل الولاية ودخل فى الطريقة يدرك اقشعرار الجلد من تذكر الولاية ومشاهدة ولى امره وقراءة القرآن { ثم تلين جلودهم وقلوبهم } عطف على جلودهم { إلى ذكر الله } متعلق بتلين بتضمين تسكن او قلوبهم مبتدء وخبره الى ذكر الله والجملة حال يعنى تسكن جلودهم عن الاقشعرار والحال ان قلوبهم مائلة او ساكنة الى ذكر الله، وذكر الله هو الولاية او ولى الامر او الذكر المأخوذ من ولى الامر او ملكوت ولى الامر او القرآن او المراد تذكرهم لله او ذكر الله لهم الجنة والنار والثواب والعقاب { ذلك } الكتاب المفسر بالولاية وولى الامر والقرآن او ذلك الاقشعرار ولين الجلود او ذلك التنزيل { هدى الله } حمل الهدى من قبيل حمل المصدر على الذات على بعض الوجوه { يهدي به من يشآء ومن يضلل الله } اى من يخذله او من لم يجده الله، من اضل الدابة بمعنى لم يجدها كما قيل { فما له من هاد أفمن يتقي بوجهه } الذى هو اشرف اعضائه ويجعل سائر اعضائه جنة له فى كل حال { سوء العذاب يوم القيامة } لشدة العذاب بحيث لا يقدر على تحريك اعضائه، او لكون اعضائه مغلولة، او لدهشته وحيرته بحيث لا يميز بين الاشرف وغير الاشرف، والخبر محذوف او الخبر والمعادل كلاهما محذوفان { وقيل للظالمين } وضع الظاهر موضع المضمر اشارة الى ظلمهم وذمهم بذلك وتلويحا الى علة الحكم وهو عطف على يتقى والاختلاف بالمضى والمضارعة للاشارة الى استمرار العذاب والاتقاء بخلاف هذا القول كأنه قال: { أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب } ويتهكم به بهذا القول خير ام من هو آمن؟ { ذوقوا ما كنتم تكسبون } اى نفس ما كنتم تعملون او جزاءه على ما مضى من تجسم الاعمال وجزائها ايضا بالجزاء المناسب لها.
[39.25-26]
{ كذب الذين من قبلهم } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: هل لهم نظير فى تكذيبهم؟ - فقال تعالى: { كذب الذين من قبلهم } { فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا } تفصيل لعذابهم الآتى يعنى اتاهم العذاب فاذاقهم الله ذلك العذاب بالمسخ او الخسف او القتل او الاجلاء او السبى او النهب او البلايا الواردة الالهية فانها ان كانت نعمة بالنسبة الى المؤمنين كانت نقمة بالنسبة الى المنافقين والكافرين { ولعذاب الآخرة أكبر } فان عذاب الدنيا وان كان اشد ما يكون يكون جزء من سبعين جزء من عذاب الآخرة { لو كانوا يعلمون } لاجتنبوا او لفظة لو للتمنى.
[39.27]
{ ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل } اى بعضا من كل مثل يحتاج اليه الناس فى معاشهم ومعادهم { لعلهم يتذكرون } احوالهم واحوال دنياهم وآخرتهم.
[39.28]
{ قرآنا } حال موطئة { عربيا غير ذي عوج } غير ذى انحراف عن الطريق المستقيم الانسانى { لعلهم يتقون } الانحراف عن طريق الانسان.
[39.29]
{ ضرب الله مثلا } للكافر والمؤمن والمنافق والموافق حتى يتذكر المؤمن المخلص حاله ويشكر ربه والكافر والمنافق فينزجر عنها ويتوب { رجلا } بدل من مثلا بتقدير مثل رجل { فيه شركآء متشاكسون } اى مختلفون متعاسرون { ورجلا سلما لرجل } فان المتبع للاهواء الذى يتبع غير ولى الامر ينبغى ان يرى فى نفسه تجاذب اهويته له الى ارادات عديد ومشتهيات كثيرة بحيث قد يتحير ويقف عن الكل ويبغض نفسه فى ذلك، وما لم يتبع هواه لم يتبع رئيسا باطلا والمتبع لولى الامر الغير المتبع لهواه يرى فى نفسه انه مستريح الى ربه لا يجذبه ارادة وهوى الى غير ربه، وهذا الناظر اذا نظر الى حال المتبع للاهواء يشكر ربه لا محالة والمتبع للاهواء ان تنبه بحاله انزجر لا محالة وتاب منه لكن قل من يتنبه لانغمارهم فى اهويتهم وسكرهم وغفلتهم وقد فسر السلم فى اخبار عديدة بعلى (ع) وشيعته والرجل الذى فيه شركاء بأعداء على (ع) { هل يستويان مثلا } حالا او حكاية { الحمد لله } اظهار للشكر على نعمة عدم الاستواء تعليما للعباد { بل أكثرهم لا يعلمون } ليس لهم مقام علم، اولا يعلمون عدم الاستواء لطموح نظرهم على المتاع الفانى، او لا يعلمون احوالهم حتى ينزلوا هذا المثل على احوالهم فيتنبهوا وينزجروا.
[39.30]
{ إنك ميت وإنهم ميتون } بشارة وتسلية ولموافقى امته وتهديد لمخالفيه ومنافقى امته.
[39.31]
{ ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون } تسلية تامة لعلى (ع) وشيعته، وتهديد تام لمخالفيهم وقد فسر المتخاصمون بعلى (ع) واعدائه.
[39.32]
{ فمن أظلم ممن كذب على الله } يعنى فلم يكن حينئذ اظلم منهم وهذا تهديد آخر لهم وتسلية اخرى لعلى (ع) وموافقيه، ووضع الظاهر موضع المضمر للاشعار بوصف ذم لهم والاشارة الى الحكم وعلته فان كل من ترأس فى الدين باى نحو من الترأس من القضاء والفتيا وامامة الجماعة والجمعة والوعظ والتصرف فى الاوقاف واموال الايتام والغياب واخذ البيعة من العباد وتلقين الذكر وتعليم الاوراد من دون اذن واجازة من الله بتوسط خلفائه فهو ممن كذب على الله، وهكذا من اتبع هذا المترأس فانه بحاله كذب على الله حيث اعتقد ان هذا المترأس رئيس من الله فى الدين واتبعه ولم يكن رئيسا من الله { وكذب بالصدق } الذى هو ولايته التكوينية حيث انها تزجره عن هذا الترأس وذلك الاتباع وولايته التكليفية ان كان قد حصل الولاية التكليفية وولى امره، فان هذا المتبع مكذب بالكل والكل صدق وصادق { إذ جآءه } تكوينا او تكليفا فى الباطن او فى الظاهر بنفسه او على لسان نبيه او على لسان قرينه { أليس في جهنم مثوى للكافرين } جواب سؤال مقدر كأنه قيل: ما حالهم فى الآخرة؟ فقال: انهم فى جهنم.
[39.33]
{ والذي جآء بالصدق وصدق به } وهو كل من قبل الولاية التكليفية فانه جاء بالولاية التكوينية والولاية التكليفية وصدق بها فانه ان لم يتبع هواه يصدق الولايتين فى احكامهما ويصدق ولى امره فى كل امر ونهى وقول وفعل وخلق صدر منه { أولئك هم المتقون } يعنى من الظلم وهو فى مقابل من اظلم ممن كذب كما ان قوله { والذي جآء بالصدق } فى مقابل كذب على الله (الى آخره).
[39.34]
{ لهم ما يشآءون عند ربهم } مقابل
أليس في جهنم مثوى للكافرين
[العنكبوت:68] { ذلك جزآء المحسنين } بسط ذكر الجزاء بالنسبة الى المصدقين دون المكذبين تشريف لهم وتحقير لمقابليهم.
[39.35]
{ ليكفر الله عنهم } علة لحصر التقوى فيهم وكون ما يشاؤن لهم عند ربهم يعنى لما كفر الله وجزاهم باحسن اعمالهم صار لهم ذلك، او غاية لما ذكر يعنى ان التقوى واعطاء ما شاؤا صار سببا لتكفير سيئاتهم { أسوأ الذي عملوا } فكيف بغيره { ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون } قد سبق ان المقصود جزاءهم لجميع اعمالهم بجزاء احسن الاعمال وقد سبق وجهه وان كل عمل سيئة كانت او حسنة يحصل منه فعلية ما للنفس فان كانت الاعمال حسنات يحصل منها فعلية فى جهتها العقلانية وان كانت سيئات يحصل منها فعليات فى جهتها الشيطانية وكل فعلية تحصل فى جهتها الشيطانية اذا تسلط العقل واخذ الملك من الشيطان صارت من سنخ الحسنات لصيرورة الفعليات حينئذ كلها سيئاتها وحسناتها من جنود العقول فصارت السيئات حسنات اذ لا معنى للحسنة الا كون الفعلية الحاصلة منها من جنود العقل وهذا معنى تبديل السيئات حسنات وبهذا الاعتبار يجزى تمام السيئات جزاء احسن الاعمال فضلا عن الحسنات.
[39.36]
{ أليس الله بكاف عبده } تسلية للرسول (ص) عن تخويف قومه اياه او تخويفهم عليا (ع) او عن تخويفهم اياه بان لا يدعوا الامر فى على (ع) والمراد بالعبد محمد (ص) او على (ع) { ويخوفونك بالذين من دونه } قيل: قالت قريش: انا نخاف ان تخبلك آلهتنا لعيبك اياها، وقيل: يقولون لك: يا محمد (ص) اعفنا من على (ع) ويخوفونك بانهم يلحقون بالكفار { ومن يضلل الله } جمية حالية { فما له من هاد } يعنى انهم اضلهم الله ولست انت تهديهم او لا يهتدون الى ما يتخيلون من اللحوق بالكفار، او من منع على (ع) من الخلافة.
[39.37]
{ ومن يهد الله فما له من مضل } فلا تخف من آلهتهم ولا مما قالوا فى على (ع) فان الله هداك وعليا (ع) { أليس الله بعزيز } غالب لا يغلب فى مراده حتى تخاف منهم ومما قالوا فى على (ع) { ذي انتقام } فلا تحزن على تقلبهم فى البلاد وتمتعهم فى الايام فانا ننتقم منهم بل تقلبهم وتمتعهم باسر النفس والخيال انتقامنا منهم.
[39.38]
{ ولئن سألتهم } عطف على من يضلل الله وهو حال فى مقام التعليل { من خلق السماوات والأرض ليقولن الله } فكيف يخوفونك بالذين من دونه { قل } ردا عليهم فى تخويفهم { أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته } والحال ان لا ضر الا منه ولا رحمة الا باذنه فكيف تخوفوننى بها والخوف لا يكون الا بالاضرار او منع النفع وفى ايراد الضمائر مؤنثات توهين لآلهتهم سواء اريد بها الاصنام والكواكب وامثالها او المترأسين فى الدين مقابل الرؤساء الحقة { قل } لهم بنحو التجرى ولا تخف { حسبي الله } ولا حاجة لى الى غيره فلتفعل آلهتكم بى ما قدروا { عليه يتوكل المتوكلون } يعنى ينبغى ان يتوكل عليه المتوكلون لانه لا فاعل فى الوجود باقرار الكل الا هو.
[39.39-40]
{ قل } لهم تهديدا لهم مقابل تهديدهم لك { يقوم اعملوا على مكانتكم } اى على منزلتكم او على مقدرتكم سواء جعل من كان او من مكن { إني عامل فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم } قد مضى الآية بعينها فى اوائل سورة هود.
[39.41]
{ إنآ أنزلنا عليك الكتاب } جملة مستأنفة فى مقام التعليل للامر بالقول يعنى انا انزلنا عليك الكتاب { للناس بالحق } لاجل تهديدهم وترغيبهم فما لك لا تقول لهم فقل لهم ما انزلنا اليك ولا تبال سمعوا او لم يسمعوا { فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ومآ أنت عليهم بوكيل } حتى تراقب عدم ضلالهم وتحزن لضلالهم.
[39.42]
{ الله يتوفى الأنفس } كلام منقطع عن سابقه وقد مضى فى سورة النساء وجه الجمع بين توفى الله وتوفى ملائكته ورسله وتوفى ملك الموت { حين موتها والتي لم تمت } عطف على الانفس من قبيل عطف العام على الخاص وقوله { في منامها } متعلق بلم تمت يعنى ان للانسان نفسا حيوانية ونفسا عقلانية والله يتوفى جميع الانفس حين الموت ويتوفى ايضا حين الموت الانفس الحيوانية التى لم تكن تخرج من الابدان حين النوم فان التى تخرج حين النوم هى الانفس العقلانية ويشبه ان لا يكون الله يقبضها حين الموت لتسفلها وعدم الاعتناء بها بل تكون تفنى او تقبضها الملائكة، او فى منامها متعلق بيتوفى الانفس والمعنى ان الله يتوفى الانفس، ويتوفى بان يقبضها حين نومها ومعنى قوله تعالى { فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى } على الوجه الاول انه يمسك الانفس التى قضى عليها الموت من الانفس المتوفاة ويرسل الاخرى التى لم يتوفها بالموت يعنى يبقيها فى ابدانها الى اجلها، او يمسك الانفس العقلانيه التى يتوفيها بالنوم ويرسل الانفس الحيوانية التى لم يتوفها يعنى يبقيها فى ابدانها والمعنى على المعنى الثانى انه يمسك الانفس التى يتوفيها بالموت ويرسل الاخرى التى توفيها بالنوم بان يرسلها بعد توفيها الى ابدانها { إلى أجل مسمى } موقت معلوم { إن في ذلك } التوفى والارسال حين الموت والنوم { لآيات } عديدة على مبدئيته وعلمه وقدرته وكمال حكمته، وبقاء عالم آخر غير هذا العالم وعود الانفس الى ذلك العالم، وكون الانسان ذا مراتب وان بعض مراتبه حكمها حكم الطبع، وبعض مراتبه حكمها حكم العقل المجرد وانه يمكن ان يشاهد ما فى العالم الباقى كما انه يشاهد ما فى هذا العالم وغير ذلك { لقوم يتفكرون } باستعمال المفكرة باستخدام العقل فى استنباط المعانى الدقيقة والنتائج الخفية من المقدمات الجلية وغيرهم وان كانوا ذوى شعور وعلم وذوى عقول والباب وذوى تذكر وتنبه لا ينتقلون الى آياته من مشهوداته.
[39.43]
{ أم اتخذوا } ام منقطعة متضمنة للاستفهام او مجردة عنه، او متصلة محذوف معادلها والتقدير اتخذوا من دون الله آلهة يعبدونها ام اتخذوا { من دون الله شفعآء قل } لهم اتتخذونهم آلهة او شفعاء { أولو كانوا لا يملكون شيئا } مما يملك { ولا يعقلون } بمنزلة بل لا يعقلون.
[39.44]
{ قل لله الشفاعة جميعا } فما لكم تجعلون غيره شفيعا عنده، او المعنى بل اتخذوا من دون على (ع) الذى هو مظهر تام لله وبهذه المظهرية يطلق اسم الله عليه شفعاء قل لهم اتتخذونهم شفعاء وائمة لكم ولو كانو لا يملكون شيئا مما يملك حتى نفوسهم وقوى نفوسهم التى تكون مملوكة لكل ذى نفس ولا يعقلون خير انفسهم وشرها الانسانيين فكيف بغيرهم قل لهم ايتها العصابة الذين تطلبون شفعاء عند الله لعلى (ع) الشفاعة جميعا يعنى بجميع مراتب الشفاعة وجزئياتها ليس لاحد شيء منها فما لكم تنصرفون عن على (ع) الى غيره { له ملك السماوات والأرض } فى مقام التعليل { ثم إليه ترجعون } يعنى ان الشفاعة فى الدنيا مختصة به لان له ملك السماوات والارض، والشفاعة فى الآخرة مختصة به لان الكل يرجعون اليه لا الى غيره.
[39.45-46]
{ وإذا ذكر الله وحده } بمنزلة الاستدراك كأن متوهما توهم انه لا ينبغى ان يتوجه احد مع ذلك الى غير الله فقال ولكن اذا ذكر الله وحده { اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة } لانهم ادبروا عن الله واقبلوا على اهويتهم والمدبر عن الشيء مشمئز عنه وعن ذكره، والمقبل على الشيء مستبشر به وبذكره { وإذا ذكر الذين من دونه } كالاصنام والطواغيت ومعاندى على (ع)، وعن الصادق (ع) انه سئل عنها فقال: اذا ذكر الله وحده بطاعة من امر الله بطاعته من آل محمد (ص) { اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة } ، واذا ذكر الذين لم يأمر الله بطاعتهم { إذا هم يستبشرون قل } معرضا عنهم مقبلا على ربك { اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون } يعنى توجه الى ربك واذكره بما فيه تسليتك عن عدم اجابة قومك وعن خلافهم من كونه خالق كل ما سواه وعالم كل المعلومات ومنها عناد قومك معك وخلافهم لك وحصر الحكم بين العباد فيه.
[39.47-48]
{ ولو أن للذين ظلموا } عطف على اللهم ومن جملة ما أمره الله تعالى ان يقول تسلية لنفسه، او عطف على جملة اذا ذكر الله او حال من احد اجزائها، او حال من اجزاء قل اللهم (الى آخر الآية) ولفظة لو للشرط فى الاستقبال او للشرط فى الماضى لانتفاء الثانى لانتفاء الاول بادعاء مضى يوم القيامة لتحقق وقوعه، والمراد بالظلم ظلم آل محمد (ص) لعدم ارادة مطلق الظلم لان اكثر اصنافه مغفور فليخصص بما هو المعهود من ظلم آل محمد (ص) { ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة } وهذا تهديد بليغ لهم { وبدا لهم } عطف على افتدوا او حال { من الله ما لم يكونوا يحتسبون وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } اى العمل الذى كانوا به يستهزؤن، او العذاب الذى كانوا به يستهزؤن.
[39.49]
{ فإذا مس الإنسان } اى اذا مسهم ووضع الظاهر موضع المضمر اشعارا بان هذا فى فطرة الانسان، والفاء لسببية ما بعدها لما قبلها، او عاطفة على جملة اذا ذكر الله (الى آخرها)، او على جملة لو ان للذين ظلموا { الى آخرها) ودالة على الترتيب فى الاخبار { ضر دعانا } لظهور فطرته حينئذ وعدم احتجابها بحجب الوهم والخيال واقتضائها التعلق بالله والتضرع اليه { ثم إذا خولناه نعمة منا } وظهر الخيال بانانيته ونسى حال تضرعه ودعائه { قال إنمآ أوتيته على علم } منى بطرق كسبه او على علم باتيانه لانى علمت ان الله يعطينى ذلك لمكانى عنده { بل } ليس اتيانه بكسبه ولا بشعور منه باتيانه انما { هي فتنة } من الله وفساد له او امتحان له لئلا يبقى عليه شوب من العليين حتى يدخل النار من غير شوب من العليين { ولكن أكثرهم لا يعلمون } ليس لهم مقام علم حتى يعلموا ان ذلك ينافى مقام علمهم او لا يعلمون ان ذلك فتنة لهم واستدراج.
[39.50]
{ قد قالها الذين من قبلهم } كقارون حيث قال:
إنمآ أوتيته على علم
[الزمر: 49] { فمآ أغنى } عذاب الله { عنهم ما كانوا يكسبون } من الاموال والقوى والاولاد والخدم والحشم.
[39.51-52]
{ فأصابهم } عطف عطف التفصيل على الاجمال { سيئات ما كسبوا } بأنفسها على تجسم الاعمال او جزاء تلك السيئات { والذين ظلموا من هؤلاء } اى ظلموا آل محمد (ص) او ظلموا ولايتهم التكوينية التى هى ولاية آل محمد (ص) بعدم ضمها الى الولاية التكليفية فان الظلم ليس مرادا مطلقا فيكون المراد هو الفرد المعهود منه { سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين أولم يعلموا } استفهام توبيخى يعنى لولا يعلمون ذلك مع وضوح برهانه وظهور آثاره { أن الله يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر إن في ذلك } اى فى بسط الرزق لبعض من دون مداخلة كسبه وتدبيره فى ذلك وقدره لبعض مع كمال سعيه وتدبيره { لآيات } عديدة دالة على علمه تعالى وقدرته وحكمته ومراقبته لعباده { لقوم يؤمنون } يذعنون بالله وصفاته، او يسلمون بالبيعة العامة، او يؤمنون بالبيعة الخاصة الولوية.
[39.53-54]
{ قل يعبادي } قد مضى ان الخطاب للعباد من محمد (ص) بياعبادى فى محله فان عباد الله كما انهم عباد لله عبد عبودية عباد لمظاهره عبد طاعة، على ان حكم الظاهر قد ينسب الى المظهر اذا انسلخ المظهر من انانيته وظهر فيه انانية الظاهر كما ان حكم المظهر قد ينسب الى الظاهر ويشهد لذلك قوله تعالى:
فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم، وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى
[الأنفال:17] وقوله
قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم
[التوبة:14] وقوله
إن الله اشترى من المؤمنين
[التوبة:111] وقوله
إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله
[الفتح:10] وقوله
ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات
[التوبة:104] فان الاشتراء والبيعة وقبول التوبة واخذ الصدقات ليست الا بتوسط المظاهر والخلفاء { الذين أسرفوا على أنفسهم } بالافراط فى حقوقها الدنيوية والتفريط فى حقوقها الاخروية { لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا } وهذا لمن كان له سمة العبودية بالنسبة الى مظاهره وخلفائه ولا يكون سمة العبودية الا لمن باع معهم البيعة العامة او البيعة الخاصة، بل نقول: لا يكون سمة العبودية الا لمن باع البيعة الخاصة فان الايمان الذى هو سمة العبودية لا يدخل فى القلب الا بالبيعة الخاصة، واما المسلمون فدخولهم فى الاسلام ليس الا كدخول من دخل تحت حكم السلاطين الصورية ولذلك لا يكون الاجر والثواب الا على الايمان دون الاسلام، او نقول هو عام لكل من لم ينسلخ من عبودية الله تكوينا سواء صار عبدا له تكليفا او لم يصر، وانسلاخه من عبوديته التكوينية لا يكون الا بالتمكن فى اتباع الهوى والشيطان فان المتمكن فى اتباعهما لا يغفر له لانه الشرك الذى قال الله
إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك
[النساء:48] فالمراد بالذنوب ههنا غير الشرك الذى لا يغفره الله، وغير المتمكن فى اتباع الشيطان هو الباقى على ولاية آل محمد (ص) تكوينا وان لم يبايع بالولاية معهم تكليفا فلا منافاة بين هذا التعميم، وما ورد فى الاخبار من اختصاص الآية بشيعة آل - محمد (ص) فانه قال القمى: نزلت فى شيعة على بن ابى طالب (ع) خاصة، وعن الصادق (ع) لقد ذكركم الله فى كتابه اذ يقول: { يعبادي } (الآية) قال (ع): والله ما اراد بهذا غيركم، وعن الباقر (ع): وفى شيعة ولد فاطمة (ع) انزل الله عز وجل هذه الآية خاصة، وعن الصادق (ع): ما على ملة ابراهيم (ع) غيركم، وما يقبل الا منكم، ولا يغفر الذنوب الا لكم، وعن امير المؤمنين (ع): ما فى القرآن آية اوسع من { يعبادي الذين أسرفوا } (الآية)، وعن النبى (ص):
" ما احب ان لى الدنيا وما فيها بهذه الآية "
، واذا جمع ما ورد فى شيعة على (ع) مع هذه الآية علم ان ليس المراد بعبادى الا شيعته، مثل حب على (ع) حسنة لا يضر معها سيئة ومثل: دينكم دينكم فان السيئة فيه مغفورة، والحسنة فى غيره غير مقبولة، ومثل: اذا عرفت فاعمل ما شئت من قليل الخير وكثيره، ومثل: ولى على (ع) لا يأكل الا الحلال، ومثل: ان الله عز وجل فرض على خلقه خمسا فرخص فى اربع ولم يرخص فى واحدة، وغير ذلك مما يدل على ان الرجل ان وصل الى الاحتضار بالولاية غفر الله له جميع ذنوبه { إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم } المضاف الذى هو على بن ابى طالب (ع) وولى امركم، والانابة اليه بعد البيعة ليست الا بالحضور لديه بمعرفته بالنورانية الذى هو الحضور عند الله والمعرفة بالله { وأسلموا له } اى انقادوا له بالخروج من جميع نياتكم وقصودكم وليس الا بالحضور عنده { من قبل أن يأتيكم العذاب } اى عذاب الاحتضار او عذاب القيامة { ثم لا تنصرون } اذا لم تكونوا تسلمون له.
[39.55]
{ واتبعوا أحسن مآ أنزل إليكم } قد سبق بيان اتباع احسن القول فى اوائل هذه السورة، وقد مضى ان احسن القول هو الولاية { من ربكم } ولا شك ان احسن ما انزل الى العباد من رب العباد من جملة اركان الاسلام واحكامه الولاية فانها اسناها وازكاها وانماها واشرفها والدليل عليها، واحسن ما انزل اليهم من جملة قواهم وفعلياتهم هو الولاية التكوينية التى هى حبل الله، والولاية التكليفية التى هى حبل الناس، وهى الايمان الداخل فى القلب، وهى الفعلية الاخيرة التى بها شيئيته وهى ما يصحح نسبة البنوة والابوة بينه وبين ولى امره، ونسبة الاخوة بينه وبين سائر المؤمنين { من قبل أن يأتيكم العذاب } عذاب حال الاحتضار او القيامة { بغتة وأنتم لا تشعرون } بمجيئه حتى تتهيؤا لدفعه او لوروده ليكون ايسر ايلاما.
[39.56]
{ أن تقول } امرنا او قلنا ذلك كراهة ان تقول، او لئلا تقول، او هو بدل من ان يأتيكم العذاب نحو بدل الاشتمال اى اتبعوا احسن ما انزل اليكم من قبل ان تقول { نفس } ارادة العموم البدلى او الاجتماعى من النفس ههنا بعيدة لفظا ومعنى، وارادة فرد ما لا على التعيين مفيد معنى وقريب لفظا لكن ملاحظة التحقير من التنكير وهى المنظور منه { يحسرتا على ما فرطت في جنب الله } اى فى على (ع) او فى ولايته كما ورد اخبار كثيرة فى ان المراد بجنب الله على (ع)، او هو والائمة من بعده، او ولايته، فعن الباقر (ع) اشد الناس حسرة يوم القيامة الذين وصفوا عدلا ثم خالفوه وهو قوله عز وجل: ان تقول نفس (الآية)، وعن الكاظم (ع) جنب الله امير المؤمنين (ع)، وعن الباقر (ع): نحن جنب الله، وعنه (ع) وعن السجاد (ع) والصادق (ع)، جنب الله على (ع) وهو حجة الله على الخلق يوم القيامة، وعن الرضا (ع) فى هذه الآية انه قال: فى ولاية على (ع)، وعن على (ع): انا جنب الله، والاخبار فى هذا المعنى كثيرة { وإن كنت لمن الساخرين } لجنب الله.
[39.57-58]
{ أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين } ولفظة او للدلالة على انها قد تقول هذا وقد تقول ذلك لغاية تحيره ووحشته.
[39.59]
{ بلى } جواب للنفى المستفاد من قولها: لو ان الله هدانى واثبات لما نفت ورد عليها كأنه قيل: ما يقال لها حين تقول ذلك؟ فقال تعالى: يقول الله بلى ردا على قولها ما هدانى الله { قد جآءتك } قرئ بتذكير ضمير الخطاب اعتبارا للمعنى وقرئ بتأنيثه { آياتي } نقل ان المراد بالآيات الائمة وعلى ما ذكرنا من اشارات الاخبار جاز ان تفسر الآيات بعلى (ع) والائمة (ع) من بعده { فكذبت بها واستكبرت } عن الانقياد لها { وكنت من الكافرين } بالله بكفرك بالآيات من حيث انها آيات لانها مظاهر لله وبكفرك بالولاية فان الايمان بالله لا يحصل الا بالايمان بالولاية، وبكفرك بنعم الله فان الولاية من اعظم نعم الله على خلقه، والكافر بها كافر باعظم النعم بل بجميع النعم لان النعمة ليست نعمة الا بالولاية.
[39.60]
{ ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله } بادعاء منصب دينى ليس باذن من الله وخلفائه كادعاء الامامة والخلافة من الرسول، وادعاء القضاء والفتيا، وادعاء الامر بالمعروف والنهى عن المنكر، وادعاء الوعظ والامامة للجمعة والجماعة، والتصرف فى الاوقاف واموال الايتام والغياب، واجراء الحدود والتعزيرات، واخذ الفئ والانفال والصدقات؛ وغير ذلك من المناصب الدينية المحتاجة الى الاذن والاجازة من الله عموما او خصاصا، وروى بطرق عديدة ان المراد: من ادعى انه امام وليس بامام، قيل: وان كان علويا فاطميا؟ - قال: وان كان علويا فاطميا { وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين } جواب سؤال مقدر كأنه قيل: ما حالهم ومقامهم؟ فقال: حالهم انهم فى جهنم لكنه اداه بصورة الاستفهام تأكيدا لهذا المعنى.
[39.61-62]
{ وينجي الله } عطف على قوله تعالى اليس فى جهنم فانه فى معنى يكون فى جهنم مثوى للكافرين وينجى الله { الذين اتقوا } قد مضى فى اول البقرة بيان التقوى وتفاصيلها { بمفازتهم } بنجاتهم يعنى باستعدادهم للنجاة او فى محل نجاتهم والمفازة المنجاة والمهلكة ضد والفلاة التى لا ماء بها { لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون الله خالق كل شيء } جواب سؤال مقدر فى مقام التعليل او منقطع عن سابقه لفظا ومعنى { وهو على كل شيء وكيل } بالحفظ والابقاء على ما هو خير له.
[39.63]
{ له مقاليد السماوات والأرض } يعنى مفاتيحها ومقاليدها عبارة عن الوجود الذى به قوامها وبقاؤها، واذا كان ذلك الوجود مملوكا له لم يكن لها شيء لا يكون مملوكا له فهو مالك لها بتمام اجزائها لا انانية لها فى انفسها، والجملة فى مقام التعليل { والذين كفروا بآيات الله } اى بعلى (ع) وولايته { أولئك هم الخاسرون } لا خسران سوى الكفر به لان من كفر بالله اذا لم يبطل استعداده الفطرى يمكن له التوبة والرجوع وكذا حال من كفر بالرسول واليوم الآخر، واما من كفر بالولاية بان قطع الولاية التكليفية والولاية التكوينية لا يبق له استعداد التوبة وهو المرتد الفطرى الذى لا توبة له وليس له الا القتل بخلاف غيره من الكفار ولذلك ادعى حصر الخسران فيه.
[39.64]
{ قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون } غير الله مفعول اعبد وتأمرونى معترض بينهما ، ومفعوله محذوف اى تأمرونى بعبادته، او غير الله مفعول تأمرونى واعبد بدل منه بتقدير ان بدل الاشتمال، وقرئ تأمرونى بالاوجه الثلاثة (الحذف والادغام والفك) الجائزة فى نون الوقاية مع نون الجمع.
[39.65]
{ ولقد أوحي إليك } ابتداء كلام من الله ردا عليهم فى قولهم لمحمد (ص) استسلم بعض آلهتنا نؤمن بالهتك كما ان قوله: { قل أفغير الله تأمروني } كان ردا عليهم فى قولهم ذلك { وإلى الذين من قبلك } يعنى هذا الوحى كان مستمرا من اول زمن النبوة ولم يكن له اختصاص بنبى دون نبى ووقت دون وقت لان البعثة لم تكن الا لنفى الشرك خصوصا اذا كان المراد بالشرك الشرك فى الولاية لانها كانت مبدء للبعثة وغاية لها { لئن أشركت } بالله فى العبادة او لئن اشركت بعلى (ع) والولاية { ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين } تعريض بالامة وباشراكهم بالولاية لكنه خاطب النبى (ص) بهذا الخطاب مبالغة فى تهديد الامة ودلالة على انه (ص) مع كمال عظمته ومقام نبوته لو اشرك حبط عمله فكيف بغيره ممن لا مقام له.
[39.66]
{ بل الله فاعبد } تقديم الله للاشارة الى الحصر { وكن من الشاكرين } لنعمة العبادة وحصرها فيه: عن القمى فى تفسير الآية: هذه مخاطبة للنبى (ص) والمعنى لامته والدليل على ذلك قوله تعالى: { بل الله فاعبد وكن من الشاكرين } وقد علم ان نبيه (ص) يعبده ويشكره لكن استعبد نبيه بالدعاء اليه تأديبا لامته، وسئل الباقر (ع) عن هذه الآية فقال: تفسيرها لئن امرت بولاية احد مع ولاية على (ع) من بعدك ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين، وعن الصادق (ع): ان اشركت فى الولاية غيره قال بل الله فاعبد بالطاعة وكن من الشاكرين ان عضدتك بأخيك وابن عمك، والغرض من نقل امثال هذه الاخبار ان تعلم انه كلما ذكر اشراك وتوحيد كان المراد الاشراك بالولاية والتوحيد لها سواء اريد من ظاهره غيره او اريد بظاهره ايضا ذلك فقوله تعالى بل الله فاعبد كان معناه بل عليا (ع) فتول، لانه مظهر الله ولان عبادة الله لا تتيسر الا بالولاية وكن من الشاكرين على نعمة الولاية وكان معنى قوله تعالى { وما قدروا الله حق قدره }.
[39.67]
{ وما قدروا الله حق قدره } ما قدروا عليا (ع) او ما قدروا الولاية حق قدره، ولما كان المقصود التعريض بالامة عطف بيان حالهم على اشراكه كأنه قال: لكن ما قدروا الله حق قدره لانه كما لا يمكن قدر الذات الاحدية لاحد من مخلوقه لا يمكن قدر الولاية حق قدرها لاحد سوى صاحب الولاية المطلقة، وقال القمى: نزلت فى الخوارج، والسر فى انهم لا يقدرون الله قدره انهم محدودون بحدود لا فرق فى ذلك بين الانبياء (ص) والاوصياء (ع) الجزئيين وبين سائر الخلق غاية الامر ان الانبياء (ع) قد خرجوا من بعض الحدود البشرية والانسانية وغيرهم ما خرجوا والذات الاحدية وكذلك المشية التى يعبر عنها بالولاية التى هى علوية على (ع) مطلقة من الحدود، والمحدود لا يقدر على ادراك المطلق فلا يقدر قدره لان قدر القدر مسبوق بادراكه، واما النبى الخاتم (ص) والولى الخاتم (ع) فيقدران قدر الولاية ولا يقدران قدر الله، والله تعالى شأنه هو الذى يقدر قدر الكل { والأرض جميعا قبضته } القبضة المرة من القبض وفيه تفخيم لعظمته من حيث ان الارض بعظمتها كانت قبضة واحدة له والمراد بالارض كما مر مرارا اعم من عالم المثال السفلى وعالم المثال العلوى وعالم الطبع بجميع سماواته وارضيه { يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه } اطلاق القبضة فى الارض عن اليمين وعن الطى واستعمال الطى فى السماوات وتقييده باليمين للاشارة الى حقارة الارض بالنسبة الى السماوات ورفعة السماوات وعظمتها وشرافتها بالنسبة الى الارض يعنى ان له تعالى تلك العظمة ومع ذلك يشركون به جمادا منحوتا لهم او مخلوقا ضعيفا له { سبحانه وتعالى عما يشركون } من الاصنام والكواكب وانواع المخلوقات من العناصر ومواليدها وعما يشركون به فى الولاية وعما يشركون به فى العبادة من الاغراض والاهوية.
[39.68]
{ ونفخ في الصور } الاتيان بالماضى للاشارة الى تحققه، او لان القضية قد مضت بالنسبة الى النبى المخاطب له او صارت القضية واقعة حين الخطاب بالنسبة اليه { فصعق من في السماوات ومن في الأرض } تقديم من فى السماوات لشرافتهم والا فمن فى الارض يصعق اولا فان المراد النفخة الاولى وبها يصعق من فى الارض اولا ثم من فى السماء { إلا من شآء الله } فى خبر من شاء الله ان لا يصعق جبرئيل وميكائيل واسرافيل وملك الموت، وفى خبر: هم الشهداء متقلدون اسيافهم حول العرش { ثم نفخ فيه } نفخة { أخرى } وهى نفخة الاحياء { فإذا هم قيام ينظرون } قد مضى فى سورة النمل بيان الآمنين يوم القيامة وحين النفخة الاولى او الثانية، وبينا فى سورة النور معانى الصور ووجوه قراءتها وكيفية النفخ فيها وكيفية الاماتة والاحياء بها.
[39.69-70]
تحقيق تبديل الارض واشراقها بنور ربها
{ وأشرقت الأرض بنور ربها }.
اعلم، ان نسبة الامام الى الارض والارضيين مثل نسبة الروح الى البدن وقواه، وكما ان نور الروح لا يظهر الا فى القوى المدركة دون سائر آلات البدن لكونها منغمرة فى ظلمة المادة كذلك نور الامام فى الدنيا لا يظهر الا فى الكمل من شيعتهم، واما غيرهم من العناصر ومواليدها انسانا كانت او حيوانا او نباتا وجمادا فلا يظهر نور الامام فيها لانغمارها فى ظلمات المادة وعوارضها فاذا انقضى الدنيا وانقضى البرازخ التى هى معدودة من الدنيا بوجه وانتهى الانسان الى الاعراف او الى عالم المثال النورى العلوى صارت الارض مبدلة والمادة ولوازمها مطروحة وصارت تلك الارض مستشرقة بنور الامام (ع) كما ان هذه الارض مستشرقة بنور الشمس، واذا تبدل ارض العالم الصغير وصارت ارض الملكوت غالبة على ارض الملك استشرقت ارض البدن بنور ملكوت الامام بل ارض العالم الكبير تصير مشرقة بنور ملكوته ويصير الانسان مستغنيا بنور الامام عن نور الشمس كما قال المولوى قدس سره عن الشيخ المغربى:
كفت عبد الله شيخ مغربى
شصت سال ازشب نديدم من شبى
من نديدم ظلمتى در شصت سال
نى بروز ونى بشب از اعتدال
ولما كان الانسان انموذجا من العالم كان اذا تولد بالولادة الثانية وظهر عليه ملكوت امامه ظهر عليه كيفية اشراق الارض بنور ربها، قال الصادق (ع): رب الارض امام الارض، قيل: فاذا خرج يكون ماذا؟ - قال: اذا يستغنى الناس عن ضوء الشمس ونور القمر ويجتزؤن بنور الامام، وعنه (ع): اذا قام قائمنا اشرقت الارض بنور ربها واستغنى العباد عن ضوء الشمس وذهبت الظلمة، وكل ذلك فى العالم الصغير اشارة الى التولد الثانى وظهور ملكوت الامام { ووضع الكتاب } قد مضى فى سورة الكهف بيان وضع الكتاب { وجيء بالنبيين } الذين هم رسل الله الى الخلق ليسئلوا عن اجابة الخلق لهم وطاعتهم وانقيادهم لله { والشهدآء } اى خلفاء الرسل (ع) فى دعوة الخلق الذين يشهدون بافعالهم واحوالهم واخلاقهم واقوالهم على الناس بعد الانبياء (ع) { وقضي بينهم } بين العباد او بين النبيين والشهداء وبين الخلق { بالحق } بحيث لا يشوب القضاء باطل اصلا { وهم لا يظلمون ووفيت كل نفس ما عملت } قد سبق معنى توفية كل نفس ما عملت فى سورة آل عمران { وهو أعلم بما يفعلون } حال يعنى ان الاتيان بالنبيين والشهداء ليس لجهل الله بهم وبافعالهم.
[39.71]
{ وسيق الذين كفروا } بالولاية بقطعها تكليفا وتكوينا حتى يموتوا وهم كافرون { إلى جهنم زمرا } جمع الزمرة الفوج والجماعة فى تفرقة، ولما كان اهل الجحيم بحسب اختلاف احوالهم متفرقين بالسبق وعدمه وشدة العذاب وخفته استعمل الزمر فيهم { حتى إذا جآءوها فتحت أبوابها } جعل فتحت ههنا جوابا لاذا اشارة الى ان ابواب الجحيم مغلقة قبل الوصول اليها فاذا وصلوا اليها تفتح لهم بخلاف ابواب الجنان فانها مفتوحة على الخلق قبل اتيانهم اليها، ووجهه ان الانسان بعد خلق آدم من التراب المجموع من السماوات والارضين والسجين والعليين فى ارض بدنه يؤوى آدمه فى الجنة الدنيا فيكون آدمه فى الجنة من اول خلقته فأبواب الجنة من اول خلقته مفتوحة عليه وهو داخل فيها وليس يخرج منها الا بعصيانه، واما ابواب الجحيم فهى مغلقة لان الجحيم وابوابها ضد لفطرة آدم فهى مغلقة عليه الا اذا خرج من الجنان وسيق الى النيران فاذا سيق الى النيران تفتح ابوابها عليه ولذلك لم ينسب الله تعالى فى شيء من الآيات الدخول الى ابواب الجنان ونسب الدخول فى كثير من الآيات الى ابواب الجحيم. { وقال لهم خزنتهآ ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقآء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين } كأنهم قالوا: لكنا كنا كافرين وحقت كلمة العذاب علينا لكفرنا فلم نتنبه بتنبيههم.
[39.72-73]
{ قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها } فى جهنم { فبئس مثوى المتكبرين وسيق الذين اتقوا ربهم } قد مضى بيان التقوى ومعانيها ومراتبها فى اول البقرة وفى اواسطها وفى غيرها { إلى الجنة زمرا } جماعات مختلفين بحسب الحال والمراكب والمراتب والمنازل { حتى إذا جآءوها وفتحت أبوابها } جواب اذا محذوف اى دخلوها، او كان لهم من الكرامة ما لا يمكن وصفها وقد ذكرنا فى قرينه وجه اسقاط الواو هناك والاتيان بها ههنا، وقيل: الاتيان بالواو ههنا لكون ابواب الجنان ثمانية وابواب الجحيم سبعة، والعرب يأتى بالواو فى الثمانية وتسميها واو الثمانية { وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم } تهنئة لهم مقابل التهكم بالكفار { فادخلوها خالدين } عن الصادق (ع) عن ابيه (ع) عن جده (ع) عن على (ع) قال: ان للجنة ثمانية ابواب، باب يدخل منه النبيون (ع) والصديقون، وباب يدخل منه الشهداء والصالحون، وخمسة ابواب يدخل منها شيعتنا ومحبونا، فلا ازال واقفا على الصراط ادعوا واقول: رب سلم شيعتى ومحبى وانصارى واوليائى ومن تولانى فى دار الدنيا، فاذا النداء من بطنان العرش؛ قد اجبت دعوتك وشفعت فى شيعتك، ويشفع كل رجل من شيعتى ومن تولانى ونصرنى وحارب من حاربنى بفعل او قول فى سبعين الفا من جيرانه واقربائه، وباب يدخل منه سائر المسلمين ممن يشهد ان لا اله الا الله ولم يكن فى قلبه مثقال ذرة من بغضنا اهل البيت.
[39.74-75]
{ وقالوا } بعد مشاهدة الجنة ونعيمها وسعتها ومنازلهم فيها وانعام الله عليهم بانواع نعمه { الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض } اى ارض الجنة او ارض الدنيا او ارض الآخرة لان الكامل فى الجنة يكون له التصرف فى جميع اجزاء الدنيا { نتبوأ من الجنة حيث نشآء فنعم أجر العاملين وترى الملائكة } الخطاب لمحمد (ص) او عام والمعنى يقال حينئذ لكل راء: ترى الملائكة، وان كان الخطاب لمحمد (ص) فالعدول الى المضارع للاشعار بان حاله فى الحال انه يرى الملائكة { حآفين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم } قد مضى فى اول سورة الفاتحة وجه تقييد التسبيح بالحمد وان تسبيحه تعالى ليس الا بحمده كما ان حمده ليس الا بتسبيحه وقد مضى فى سورة البقرة فى اولها وجه الفرق بين التسبيح والتقديس وبيان معنى التسبيح والتقديس عند قوله تعالى: ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك { وقضي بينهم } بين الملائكة بان جعل كل فى مقامه اللائق به وحكم على كل بالعبادة اللائقة به، او بين الخلائق ويكون تأكيدا لسابقه، واشعارا برؤية محمد (ص) ذلك { بالحق وقيل الحمد لله } اتى بالفعل مبنيا للمفعول تلويحا الى ان هذا القول يجرى على كل لسان من غير اختصاص بقائل خاص { رب العالمين } فانه يظهر حينئذ لكل احد انه تعالى رب جميع اجزاء كل العوالم، عن الصادق (ع): من قرأ سورة الزمر استخفاها من لسانه اعطاه الله من شرف الدنيا والآخرة واعزه بلا مال ولا عشيرة حتى يهابه من يراه وحرم جسده على النار وبنى له فى الجنة الف مدينة فى كل مدينة الف قصر وفى كل قصر، مائة حوراء، وله مع هذا عينان تجريان، وعينان نضاختان، وجنتان مدهامتان، وحور مقصورات فى الخيام، وذواتا افنان، ومن كل فاكهة زوجان.
[40 - سورة غافر]
[40.1]
{ حم } قد مضى فى اول البقرة وفى غيرها بيان واف للفواتح.
[40.2-3]
{ تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول } جمع تعالى فى اوصافه بين الجلال والجمال، والقهر واللطف { لا إله إلا هو } لما كان الجمع بين الاوصاف الجلالية والجمالية والقهرية واللطفية والحقيقية والاضافية يوهم تعددا وكثرة فى الموجودات نفى الكثرة واثبت التوحيد بعدها { إليه المصير } اشارة الى توحيد المبدء والمنتهى.
[40.4]
{ ما يجادل في آيات الله } فى اخفائها وابطالها والاستهزاء بها { إلا الذين كفروا } بالولاية التكوينية والولاية التكليفية فان الكفر بالله وبملائكته وكتبه ورسله ونعمه واليوم الآخر لا يكون الا بعد الكفر بالولايتين فان الانسان ما لم يستر وجهة القلب التى هى الولاية التكوينية وليست الولاية التكليفية الا معينة لكشف الحجاب عن تلك الوجهة لا يكفر بالله ولا بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ونعمه { فلا يغررك تقلبهم في البلاد } بالتجارات الرابحة والاعتبارات التى هى راجعة الى الدنيا لانهم مأخوذون عن قريب كما اخذ الذين من قبلهم.
[40.5]
{ كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب } اى الفرق المختلفة والامم المتفرقة كذبوا كلهم رسلهم { من بعدهم } من بعد قوم نوح { وهمت كل أمة } من تلك الامم المذكورة او كل امة من الامم الماضية الذين ارسل اليهم رسول { برسولهم ليأخذوه } فيمنعوه من رسالته او يعذبوه او يقتلوه كما هم قومك بك ليأخذوك فيحبسوك او يقتلوك { وجادلوا } اى رسولهم { بالباطل ليدحضوا } اى يزيلوا { به الحق } كما يجادل قومك لان يزلقوك ويزيلوا الحق { فأخذتهم } بسبب الهم والجدال فلا تحزن فانا نأخذ قومك ونعاقبهم { فكيف كان عقاب } يعنى انكم ان لم تشاهدوا عقوبتى لهم فقد سمعتم اخبارها وتشاهدون فى مروركم بديارهم آثارها فلم لا تعتبرون بهم؟! ومم تغتم يا محمد (ص) بهمة قومك وجدالهم؟
[40.6]
{ وكذلك } اى مثل ذلك العقاب المسموع للكل { حقت كلمة ربك } بالعذاب { على الذين كفروا } بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر ولا سيما الكافرين الذين كفروا برسالتك والمنظور الكافرون بولاية على (ع) { أنهم أصحاب النار } عن الباقر (ع) يعنى بنى امية.
[40.7-8]
{ الذين يحملون العرش } جواب لسؤال مقدر ومقابل لقوله: ما يجادل فى آيات الله كأنه قيل: هذا حال الكافرين والمجادلين فى آيات الله فما حال المؤمنين؟ - فقال: حالهم ان الذين يحملون العرش { ومن حوله } عطف على الذين يحملون العرش او عطف على العرش { يسبحون بحمد ربهم } قد مضى فى اول الفاتحة وفى غيرها وجه تقييد التسبيح بالحمد { ويؤمنون به } ذكرهم بوصف الايمان تفخيما لشأن الايمان وتعظيما لاهله وبشارة لهم { ويستغفرون للذين آمنوا } واستغفارهم مستجاب لخلوهم عن الهوى واغراض النفس، والمراد بالذين آمنوا الذين يستغفر لهم الملائكة من آمن بالايمان الخاص والبيعة الخاصة الولوية دون من اسلم بالبيعة العامة النبوية فقط، فانهم وان كانوا مغفورين اذا لم يتنبهوا بالبيعة الاخرى ولم يتذكروا بالولاية، وان الايمان ليس الا بالبيعة الخاصة الولوية وكانوا فى متابعتهم للرسل (ص) ثابتين غير متلونين لكن ما به استغفار الملائكة ليس الا انفحة الولاية كما ورد فى اخبارنا تفسيرهم بشيعتهم، فعن الرضا (ع) للذين آمنوا بولايتنا، وعن الصادق (ع) ان لله ملائكة يسقطون الذنوب عن ظهور شيعتنا كما تسقط الريح الورق فى اوان سقوطه وذلك قوله تعالى: الذين يحملون العرش (الآية) قال استغفارهم والله لكم دون هذا الخلق { ربنا } استيناف جواب لسؤال مقدر بتقدير القول، او حال بتقدير القول { وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا } يعنى بالتوبة الخاصة الولوية الجارية على يد ولى الامر فى ضمن البيعة الخاصة { واتبعوا سبيلك } فى مقام عملوا الصالحات المذكور فى سائر الآيات مع الايمان { وقهم عذاب الجحيم ربنا وأدخلهم جنات عدن } هى جنات الاقامة التى لا يخرج منها الى غيرها لكونها آخرة الجنات { التي وعدتهم ومن صلح من آبآئهم } عطف على مفعول وعدتهم او على مفعول أدخلهم والمراد بالصلاح استعداد الصلاح فانه نحو صلاح لا الصلاح بالفعل الحاصل بالولاية والبيعة الخاصة فانه لو اريد ذلك الصلاح لم يكن دخولهم بتبعية الغير ولم يثبت بذلك للمتبوع شرافة فان شرافة المؤمن بان يكون يدخل الجنة بواسطته آباءه واتباعه الذين لم يستحقوا دخولها بانفسهم، فان من لم يبطل استعداده من آباء المؤمنين واولادهم وازواجهم يدخل الجنة ان شاء الله بواسطتهم، ويجوز ان يراد بالصلاح الصلاح بالفعل فيكون للآباء والاتباع استحقاق الدخول بسبب الايمان وبسبب نسبتهم الى المؤمن فانهم ينتفعون بتلك النسبة ايضا { وأزواجهم وذرياتهم } تقديم الازواج لمراعاة الترتيب فى الوجود لا فى الشرف ولا فى النسبة { إنك أنت العزيز } اى الغالب الذى لا يمنع من مراده { الحكيم } الذى يعلم دقائق الاستعداد والاستحقاق وتفعل على حسبها بحيث لا يمكن ابطال فعلك والسؤال عنك فيه.
[40.9]
{ وقهم السيئات } اى الشرور التى تصيب الناس يوم القيامة ويوم دخول اهل الجنان فى الجنان واهل النيران فى النيران لان سيئات الدنيا ان كانت شرورا بالنسبة الى المراتب الحيوانية ومداركها تكون رحمات من الله بالنسبة الى المراتب الانسانية ومداركها بخلاف سيئات الآخرة فانها شرور بالنسبة الى المقامات الاخروية، وليس للانسان مرتبة حينئذ سوى المراتب الاخروية حتى تكون هى خيرات بالنسبة اليها { ومن تق السيئات يومئذ } يوم دخول اهل الجنان فى الجنان { فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم } لان الرحم الدنيوى فوز مشوب بالآلام بخلاف الرحم الاخروى فانه فوز غير مشوب فكأن الرحم الدنيوى ليس برحم، ولكون المراد الرحم الاخروى حصر الفوز العظيم فيه، وفسر القمى الآية هكذا: الذين يحملون العرش يعنى رسول الله (ص) والاوصياء (ع) من بعده يحملون علم الله ومن حوله يعنى الملائكة الذين آمنوا يعنى شيعة آل محمد (ص) الذين تابوا من ولاية بنى امية واتبعوا سبيلك اى ولاية ولى الله ومن صلح يعنى من تولى عليا وذلك صلاحهم فقد رحمته يعنى يوم القيامة وذلك هو الفوز العظيم لمن نجاه الله من هؤلاء.
[40.10]
{ إن الذين كفروا } جواب سؤال مقدر كأنه سئل: هذا حال المؤمنين فما حال هؤلاء الكافرين الذين يجادلون بالباطل ويهمون برسولهم؟ او ما حال هؤلاء الذين كفروا بولاية على (ع)؟ وهذا هو المراد ولتأكيد عقوبتهم والتغليظ عليهم أتى بان ههنا { ينادون } يعنى يناديهم الملائكة تهكما بهم { لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم } الامارة او ذواتكم، او المراد بأنفسهم ائمتهم الحقة فانهم انفسهم حقيقة لا نفسية لهم الا بائمتهم (ع) ويؤيده قوله تعالى { إذ تدعون إلى الإيمان } بالله او بالرسول (ص) او بولاية على (ع) وهو المراد { فتكفرون } فانه بظاهره متعلق بالمقت الثانى ومقتهم فى الدنيا ليس الا مقت من كانوا يدعون اليه يعنى مقت الله فى الدنيا لكم اكبر من مقتكم فى الدنيا امامكم، او مقت الله فى القيامة لكم اكبر من مقتكم فى الدنيا امامكم، ويجوز ان يكون المراد ان مقت الله فى القيامة اكبر من مقتكم انفسكم الامارة او ذواتكم فى القيامة، ويكون اذ تدعون متعلقا بمحذوف او تعليلا لمقت الله، وعن القمى الذين كفروا بنو امية والى الايمان يعنى الى ولاية على (ع).
[40.11]
{ قالوا ربنآ أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين } قد سبق فى سورة البقرة عند قوله تعالى
كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم
[البقرة:28] بيان الاماتتين والاحيائين، والغرض من مثل هذا النداء والتضرع والمناجاة استرحامه تعالى ولذلك قالوا بعده { فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل } سؤال للخروج بصورة الاستفهام ويأتون بالخروج منكرا اشعارا بفرط قنوطهم كأنهم يسألون شيئا يسيرا من الخروج.
[40.12]
{ ذلكم } العذاب وعدم الاجابة الى الخروج { بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم } ضمير بانه للشأن وكان مع اسمه مقدر بعده حتى يصح الاتيان باذا يعنى ذلكم بانه كنتم اذا دعى الله وحده والمقصود من دعوة الله وحده دعوة ولى - الامر لانه بدعوته يدعى الله وحده يعنى يحصل التوحيد للسالك الى الله بسبب الولاية والسلوك على طريقها، وبالاقبال على ولى الامر يقبل على الله، وبمعرفته يعرف الله بل معرفته بالنورانية هى معرفة الله فالمعنى اذا دعى مظهر الله الذى هو خليفته كفرتم به { وإن يشرك به تؤمنوا } تذعنوا وتسلموا، عن الصادق (ع) انه قال: اذا ذكر الله وحده بولاية من امر الله بولايته كفرتم، وان يشرك به من ليست له ولاية تؤمنوا بان له ولاية، وعنه (ع) ايضا: اذا دعى الله وحده واهل الولاية كفرتم { فالحكم لله } تعليل للمعنى المستفاد من المقام كأنه قال: فذوقوا فان الحكم لله { العلي الكبير } لا حكم لغيره.
[40.13]
{ هو الذي يريكم آياته } ابتداء كلام منقطع عن سابقه، او جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: ان كان الحكم له وحده فما له لا يحكم على العباد بالايمان؟! واراءة الآيات اما باراءة معجزات الانبياء (ع) او باراءة آيات صدقهم، او باراءة آيات قدرته وحكمته وعلمه، او باراءة آيات تدبيره على وفق حكمته، او باراءة الآيات الانفسية التى لا يخلو احد منها { وينزل لكم من السمآء رزقا } اى رزقا عظيما هو الرزق الانسانى من العلم والحكمة { و } لكن { ما يتذكر } بالآيات ولا بنزول رزق الانسان من السماء { إلا من ينيب } الى الله بالتوبة على يد ولى امره.
[40.14]
{ فادعوا الله } يعنى اذا كان الامر كذلك فادعوا الله { مخلصين له الدين ولو كره الكافرون } دعاءكم له او اخلاصكم له الدين.
[40.15]
{ رفيع الدرجات } خبر بعد خبر لقوله هو فى هو الذى يريكم، او صفة لله مقطوعة عن الوصفية بناء على اكتسابه التعريف من المضاف اليه على قراءة الرفع، او باقية على الوصفية على قراءة النصب، او حال عنه بناء على عدم اكتسابه التعريف عن المضاف اليه، والرفع بمعنى المرفوع بمعنى ان درجات وجوده مرفوعة بحيث لا يناله ادراك مدرك سواه، او بمعنى الرافع بمعنى انه رافع درجات عباده، او درجات خلقه، او درجات فعله وصفاته { ذو العرش يلقي الروح } قد فسر الروح ههنا بالقرآن وبالوحى وبالنبوة وبجبرئيل وورد فى اخبار عديدة ان الروح ملك اعظم من جبرائيل ولم يكن مع احد من الانبياء (ع) وكان مع محمد (ص) وهو كان مع الائمة (ع)، وفسر الروح فى الاخبار بمعان اخر مثل روح الايمان وروح القوة وروح الشهوة وغير ذلك، ويجوز ان يفسر بالولاية التى هى مصدر النبوة والرسالة وروحهما فانها حقيقة المشية التى هى متحدة مع رب النوع الانسانى الذى هو رب جميع الارباب وعنه يعبر بروح القدس الذى لم يكن مع احد من الانبياء (ع) وكان مع محمد (ص) { من أمره } اى من عالم امره، او من امره الذى هو كلمة كن الوجودية، وهى المشية التى هى فعله وكلمته وأمره { على من يشآء من عباده لينذر يوم التلاق } اى يوم تلاقى اهل الارض واهل السماء، او تلاقى المحسن والمسيء، او تلاقى الاحباء، او تلاقى المظلوم والظالم، او تلاقى المسرع والبطيء وتلاحق الكل، او تلاقى الاتباع والمتبوعين وهو يوم القيامة.
[40.16]
{ يوم هم بارزون } عند الله من قبورهم او من استارهم التى هى عبارة عن حدودهم وتعيناتهم لانهم يخرجون يومئذ من جميع التعينات والحدود ولذلك قال: { لا يخفى على الله منهم شيء } من اعمالهم واقوالهم واحوالهم ومراتب وجودهم ودقائقها يعنى يظهر على الخلق انهم كانوا على الدوام بارزين عند الله وكانوا لا يخفى على الله منهم شيء { لمن الملك اليوم } بتقدير القول وحكاية لما يقوله تعالى فى ذلك اليوم لهم، او ابتداء كلام منه واخبار بانه لم يكن فى ذلك اليوم احد مالكا لشيء { لله الواحد القهار } جواب منه لسؤاله.
[40.17]
{ اليوم تجزى } تكرار اليوم لتمكين ذلك اليوم فى القلوب تهديدا منه وترغيبا اليه { كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم } بنقص ثواب او زيادة عقاب { إن الله سريع الحساب } جواب سؤال مقدر كأنه قيل: النفوس البشرية غير متناهية فكيف يمكن محاسبة الكل فى يوم واحد؟ - فقال: ان الله سريع الحساب يحاسب الكل فى وقت واحد لانه لا يشغله شأن عن شأن ولا حساب عن حساب، عن امير المؤمنين (ع): الميم ملك الله يوم لا مالك غيره ويقول الله
لمن الملك اليوم
[غافر: 16 ]؟ - ثم تنطق ارواح انبيائه ورسله وحججه فيقولون: لله الواحد القهار، فيقول الله جل جلاله: اليوم تجزى (الآية) وعنه (ع): انه سبحانه يعود بعد فناء الدنيا وحده لا شيء معه كما كان قبل ابتدائها كذلك يكون بعد فنائها بلا وقت ولا مكان ولا حين ولا زمان عدمت عند ذلك الآجال والاوقات، وزالت السنون والساعات، فلا شيء الا الواحد القهار الذى اليه مصير جميع الامور بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها، وبغير امتناع كان فناؤها، ولو قدرت على الامتناع لدام بقاؤها.
[40.18]
{ وأنذرهم يوم الأزفة } الآزفة اسم يوم القيامة لقربها فيكون اضافة اليوم اليه مثل اضافة العام الى الخاص { إذ القلوب لدى الحناجر } من شدة الخوف والوحشة فانه وقت الخوف والاضطراب يتحرك القلوب من مواضعها كأنه تبلغ الحناجر { كاظمين } حال من القلوب او المستتر فى الظرف، ونسبة الكظم الى القلوب امأ مجاز عقلى او لتشبيه القلوب العقلاء { ما للظالمين من حميم } قريب ينفعهم ويدفع عنهم { ولا شفيع يطاع } توصيف الشفيع للاشعار بان الشفيع اذا لم يكن مطاعا لا ينفع شفاعته فكأنه لم يكن شفيعا، وليس المقصود انه قد يكون لهم شفيع غير مطاع.
[40.19]
{ يعلم خآئنة الأعين } الخائنة مصدر مثل الكاذبة او وصف والمعنى يعلم العين الخائنة من الاعين، وخيانة العين عبارة عن النظر الى ما لا يحل لها النظر اليه، او كناية عن نظرها الى شيء بحيث لا يظهر نظرها على احد او كناية عن الاشارة بالعين، وقيل: كناية عن قول الرجل: ما رأيت وقد رأى، او رأيت وما رأى، او عبارة عن النظرة الثانية التى هى عليك كما فى الخبر: النظرة الاولى لك والثانية عليك { وما تخفي الصدور } من العزمات والنيات والخطرات التى لم تظهرها لاحد، او من القوى والاستعدادات التى لم يطلع صاحبوا القلوب عليها فكيف بغيرهم.
[40.20]
{ والله يقضي بالحق } عطف بمنزلة النتيجة كأنه قال: اذا كان الله ذا العرش يعنى كان مالك جملة الخلق وكان واحدا قهارا ليس يعجز عن شيء ولا يخفى منهم عليه شيء ولم يكن منه ظلم على احد وكان عالما بجميع الخلائق بتمام اوصافهم واحوالهم وقواهم واستعداداتهم فهو يقضى بالحق بينهم لا غيره وعلى التفاسير السابقة للآيات السابقة فالمعنى ان عليا (ع) الذى هو مظهر الهة الله يقضى بالحق { والذين يدعون } اى يدعونهم { من دونه } وهم بنو امية ومن وافقهم، ويجوز ان يكون عائدا لموصول ضمير الفاعل { لا يقضون بشيء } فضلا عن القضاء بالحق { إن الله هو السميع البصير } فى موضع تعليل لحصر القضاء بالحق فيه.
[40.21-22]
{ أولم يسيروا في الأرض } فيشاهدوا آثار الماضين وآثار قضائه تعالى بالحق { فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات } كما أتيتهم بها { فكفروا } كما كفر هؤلاء { فأخذهم الله إنه قوي شديد العقاب } فليحذر هؤلاء مما نزل بهم.
[40.23-25]
{ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا } اشارة الى حال بعض الذين من قبلهم { وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب فلما جآءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبنآء الذين آمنوا معه واستحيوا نسآءهم } اى استبقوا بناتهم، او امنعوا نساءهم من مضاجعة - ازواجهم، او تجسسوا حياء نساءهم لتجسس العيب او الحمل { وما كيد الكافرين إلا في ضلال } وضياع.
[40.26]
{ وقال فرعون } مثل من يخاف من خصمه ومع ذلك يهدده { ذروني أقتل موسى وليدع ربه } فانه لم يكن له مانع من قتله لكنه كان يخاف منه ومن ثعبانه ويخوفه بالقتل، وقيل: كانوا يكفونه عن قتله ويقولون: انه ليس الذى تخافه بل هو ساحر ولو قتلته ظن انك عجزت عن معارضته بالحجة { إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد } بان يفرق الناس عن الاجتماع او خرج عن الطاعة وادعى السلطنة.
[40.27-28]
{ وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب وقال رجل مؤمن من آل فرعون } من اقاربه، فى خبر: انه كان ابن خاله، وخبر آخر: كان ابن عمه { يكتم إيمانه } قال القمى كان يكتم ايمانه ستمائة سنة { أتقتلون رجلا } عظيما او ذكرا من الاناسى او رجلا حاله { أن يقول ربي الله } صفة لرجلا كما ذكر او بتقدير اللام علة لتقتلون { وقد جآءكم بالبينات } على صدق دعواه { من ربكم } فاحذروا من مخالفته ومؤاخذة ربكم { وإن يك كاذبا } لا يضركم كذبه شيئا { فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم } ان لم يصبكم كله { إن الله لا يهدي من هو مسرف } متجاوز عن حده فى امره { كذاب } ظاهره انه تعليل لقوله ان يك كاذبا يعنى انه ان يك كاذبا لم ينل ما اراد منكم من كذبه لان الله لا يهدى الى مراده من هو مسرف كذاب ولكنه فى الحقيقة تعريض بفرعون وقومه بحيث لا يصير سببا لشغبهم لانه اثبت صدق موسى (ع) بقوله: وقد جاءكم بالبينات.
[40.29-30]
{ يقوم لكم الملك اليوم ظاهرين } غالبين { في الأرض } ارض مصر وشكر هذه النعمة ان تجيبوا رسول الله الذى آتاكم هذا الملك لا انكار رسوله { فمن ينصرنا } ادخل نفسه فيهم ليظنوا انه منهم { من بأس الله إن جآءنا } فلا تتعرضوا لبأس الله بانكار رسوله وايذائه وقد اجاد فى الجدال حيث انكر قتله عليهم واسند انكاره بما لا يمكن رده والشغب معه فانه قال اولا: انه يقول: ربى الله فان لم تعترفوا ولم تذعنوا بالله فليكن ذلك محتملا لكم ودفع الضرر المحتمل واجب عقلا فترك التعرض واجب عقلا، وقال ثانيا: انه جاء بالبينات على صدق دعواه فكيف تجترؤن عليه وتقتلونه؟! وثالثا انه غير خارج من الكذب او الصدق وكذبه لا يضركم وصدقه يضركم لا محالة، والضرر المحتمل واجب التحرز، وقال رابعا: انه ان كان كاذبا لا يهتدى الى مراده وان كنتم انتم كاذبين لم تهتدوا الى قتله فلا تتعرضوا لقتله لكنه لما اثبت صدقه كان كأنه قال: انتم كاذبون ولا تهتدون الى قتله { قال فرعون } تليينا لقومه { مآ أريكم إلا مآ أرى } وأعتقد { ومآ أهديكم إلا سبيل الرشاد وقال الذي آمن يقوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب } الذين تحزبوا على رسلهم ولم يقل مثل ايام الاحزاب لارادة الجنس من اليوم وتفسيره بايام نوح (ع) وعاد وثمود.
[40.31]
{ مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود } مثل سنة الله وعادته فيهم { والذين من بعدهم } كقوم ابراهيم (ع) ولوط وشعيب (ع) { وما الله يريد ظلما للعباد } فلا يعاقبكم ان كنتم صالحين.
[40.32]
{ ويقوم إني أخاف عليكم يوم التناد } اى شدائده، ويوم التناد يوم القيامة لتنادى الناس فيه واستغاثة كل بالآخر لغاية وحشتهم مثل الغرقى يتشبثون بكل حشيش، او لتنادى اهل الجنة واهل النار بقولهم:
أفيضوا علينا من المآء أو مما رزقكم الله
[الأعراف:50] وقولهم: { إن الله حرمهما على الكافرين } ، فعن الصادق (ع): يوم التناد يوم ينادى أهل النار أهل الجنة:
أفيضوا علينا من المآء أو مما رزقكم الله
[الأعراف:50]، وقيل: لان بعض الظالمين ينادى بعضا بالويل والثبور، وقيل: لانه ينادى فيه كل أناس بامامهم.
[40.33]
{ يوم تولون مدبرين } حال مؤكدة اى تدبرون عن الموقف او عن الله ليأسكم من رحمته، او عن النار فارين منها { ما لكم من الله } من بأس الله او من قبل الله { من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد } عطف فيه معنى التعليل لسابقه، او معنى الاستدراك كأنه قال: لكن لا ينفعكم نصحى لان الله اضلكم { ومن يضلل الله فما له من هاد }.
[40.34]
{ ولقد جآءكم } عطف او حال فيه معنى التعليل { يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جآءكم به حتى إذا هلك } اقررتم به لارتضائكم بالغائب عن انظاركم دون الحاضر عندكم وجعلتموه خاتم الرسالة و { قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا } او المعنى حتى اذا هلك بقيتم على كفركم وقلتم: لن يبعث الله من بعده رسولا { كذلك } الضلال الذى كنتم انتم واسلافكم عليه { يضل الله من هو مسرف } متجاوز عن حده { مرتاب } اى شأنه الارتياب وليس له حالة يقين بما ينبغى ان يتيقن.
[40.35]
{ الذين يجادلون في آيات الله } بالابطال والاخفاء والازدراء والتنقيص { بغير سلطان أتاهم } بغير حجة بل محض التقليد والشك وهوى النفس او بغير ذى سلطنة اتاهم واجبرهم على ذلك { كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا } اعراب الآية ان من من قوله من هو مسرف موصولة مفعول ليضل والذين يجادلون بدل منه او صفة له، او خبر لمحذوف او مفعول لفعل محذوف، او مبتدء خبره قوله تعالى: بغير سلطان، او كبر مقتا بتقدير جدال الذين يجادلون كبر مقتا، او قوله تعالى { كذلك يطبع الله } بتقدير العائد او من من هو مسرف موصولة مبتدء والذين يجادلون خبره، او بغير سلطان او كبر مقتا، او كذلك يطبع الله، او من استفهامية، والذين يجادلون بتقدير مبتدء، او بتقدير خبر جواب للاستفهام من الله، او الذين يجادلون مبتدء، وبغير سلطان خبره، او كبر مقتا، او كذلك يطبع الله وكذلك يطبع الله استيناف كلام او خبر كما ذكر، او كذلك فاعل كبر بجعل الكاف اسما ويطبع الله استيناف كلام، او خبر للذين يجادلون او لمن { على كل قلب متكبر جبار } قرئ باضافة القلب وحينئذ يكون اشارة الى تفرق قلب المتكبر وتوزيعه على مهام عديدة كرجل
فيه شركآء متشاكسون
[الزمر:29] وقرئ بتنوين القلب، وحينئذ يكون نسبة التكبر الى القلب مجازا، وقد مضى فى اول البقرة بيان ختم القلوب وطبعها.
[40.36-37]
{ وقال فرعون } تمويها على العوام { يهامان ابن لي صرحا } قصرا مرتفعا ظاهرا على الانظار من صرح الشيء اذا ظهر { لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات } كلما يتوصل به الى شيء آخر يسمى سببا، والاضافة الى السماوات بيانية، لان السماوات اسباب ايجاد المواليد وابقائها، او بتقدير اللام والمراد بها الطرق التى بها يوصل الى السماوات { فأطلع } قرئ بالرفع عطفا على ابلغ، وبالنصب جوابا للترجى { إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا } كان تأمله فى قتل موسى (ع) وتصريحه بظنه كذب موسى لرشدته (اى ولد الحلال) كما فى الخبر { وكذلك } التزيين الذى زين له فى بناء الصرح والصعود الى السماء { زين لفرعون سوء عمله } فى سائر اعماله { وصد عن السبيل } قرئ مبنيا للفاعل ومبنيا للمفعول { وما كيد فرعون إلا في تباب } فى نقصان او خسار.
[40.38-39]
{ وقال الذي آمن يقوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد يقوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع } تمتع يسير بحسب المدارك النازلة الحيوانية فانه اذا نسب الى المدارك الانسانية لم يكن يعد تمتعا على ان تمتعها مشوب بالآلام والاسقام والبلايا والمخاوف ومع ذلك لم يكن مدة بقائه الا قليلا من الايام واذا لوحظ مع الايام الآخرة الغير المتناهية لم يكن يعد فى شيء { وإن الآخرة هي دار القرار } فلا امد لمداه ولا نقص ولا شوب لتمتعه.
[40.40]
{ من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى } وهذا جواب لسؤال مقدر من حزقيل او من الله { وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب } بسط فى جانب الثواب واقتصر فى جانب العقاب على ذكر الجزاء المقيد بكونه مثل السيئة ترجيحا لجانب الوعد.
[40.41-42]
{ ويقوم ما لي أدعوكم إلى النجاة } لم يقل مالكم نصفا من نفسه فى مقام النصح { وتدعونني إلى النار تدعونني } بدل من الاول { لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به } اى بربوبيته واستحقاق آلهته { علم } تعريض بهم وان عبادة ما ليس على جواز عبادته برهان ليست الا سفاهة وانتم تعبدون ما ليس لكم بالهته علم { وأنا أدعوكم إلى العزيز } المنيع الذى لا يمنعه عن مراده مانع وعزته دليل آلهته { الغفار } الذى ينبغى ان يطلب بعبادته غفرانه.
[40.43-44]
{ لا جرم } يقال: لا جرم، ولا ذا جرم، ولا ان ذا جرم، بزيادة ذا، او ان المفتوحة مع ذا، ولا عن ذا جرم، كل ذلك مثل ضرب ولا جرم ككرم ولا جر باسقاط الميم ولا جرم بضم الجيم وسكون الراء كأنه كان فعلا ماضيا ثم كثر استعماله فدخل عليه ذا، او ان وذا، او عن وذا، ولم يغير عن صورته وهو من مادة الجرم بمعنى الذنب بقرينة استعماله لا جرم بضم الجيم وسكون الراء فى مقام الباقى، او من الجرم بمعنى القطع بقرينة - استعماله فى مقام لا بد ولا محالة، وفى مقام حقا، وهذا كان اصله ثم كثر استعماله فى مقام تأكيد الكلام حتى تحول الى معنى القسم فانه يقال: لا جرم لآتينك باتيان الجواب له مثل جواب القسم وقد سبق فى سورة النحل بيان اجمالى للا جرم { أنما تدعونني إليه } من الاصنام او فرعون { ليس له دعوة } اى دعوة مقبولة حقة { في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنآ } اى مردى ومردكم جميعا { إلى الله } فينبغى الاعراض عن الهتكم والاقبال الى الله الذى ينتهى امرنا اليه والى محاكمته { وأن المسرفين } المتجاوزين عن حدهم الانسانى بالادبار عن الله والاقبال على ما ليس له دعوة فى الدارين { هم أصحاب النار فستذكرون } عند معاينة الموت وتهيؤ اسباب العذاب لكم { مآ أقول لكم وأفوض أمري إلى الله } لانه العزيز العليم القدير ذو العناية بأمر العباد ولا أخاف ما تخوفوننى به لعدم قدرته على شيء { إن الله بصير بالعباد } فيحفظ من توسل به.
[40.45]
{ فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب } قد ورد فى الاخبار انهم قطعوه اربا اربا ولكن وقاه الله ان يفتنوه فى دينه، وعن الصادق (ع ) فى حديث: كان حزقيل يدعوهم الى توحيد الله ونبوة موسى (ع) وتفضيل محمد (ص) على جميع رسل الله وخلقه وتفضيل على بن ابى طالب (ع) والخيار من الائمة على سائر اوصياء النبيين والى البراءة من ربوبية فرعون، فوشى به الواشون الى فرعون وقالوا: ان حزقيل يدعوهم الى مخالفتك ويعين اعداءك الى مضادتك فقال لهم فرعون: ابن عمى وخليفتى على ملكى وولى عهدى ان فعل ما قلتم فقد استحق العذاب على كفره بنعمتى، وان كنتم عليه كاذبين فقد استحققتم اشد العذاب، لايثاركم الدخول فى مساءته فجاء بحزقيل وجاء بهم فكاشفوه، وقالوا: ءانت تجحد ربوبية فرعون الملك وتكفر بنعمائه؟ - فقال حزقيل: ايها الملك هل جربت على كذبا قط؟ - قال: لان قال فسلهم من ربهم؟ - قالوا: فرعون هذا، قال: ومن خالقكم؟ - قالو: فرعون هذا، قال: ومن رازقكم الكافل لمعايشكم والدافع عنكم مكارهكم؟ - قالوا: فرعون هذا، قال حزقيل: ايها الملك فأشهدك وكل من حضرك ان ربهم هو ربى، وخالقهم هو خالقى، ورازقهم هو رازقى، ومصلح معايشهم هو مصلح معايشى، لا رب لى ولا خالق ولا رازق غير ربهم وخالقهم ورازقهم، واشهدك ومن حضرك ان كل رب ورازق وخالق سوى ربهم وخالقهم ورازقهم فانا بريء منه ومن ربوبيته وكافر بالهيته، يقول حزقيل: هذا وهو يعنى ان ربهم وهو الله ربى، ولم يقل: ان الذى قالوا: انه ربهم هو ربى، وخفى هذا المعنى على فرعون ومن حضره وتوهم انه يقول: فرعون ربى وخالقى ورازقى، فقال لهم فرعون: يا رجال السوء ويا طلاب الفساد فى ملكى ومريدى الفتنة بينى وبين ابن عمى وهو عضدى انتم المستحقون لعذابى لارادتكم فساد امرى واهلاك ابن عمى والفت فى عضدى، ثم أمر باوتاد فجعل فى ساق كل واحد منهم وتدا وفى صدره وتدا، وامر اصحاب أمشاط الحديد فشقوا بها لحومهم من ابدانهم فذلك ما قال الله تعالى: { فوقاه الله سيئات ما مكروا } به لما وشوا به الى فرعون ليهلكوه، { وحاق بآل فرعون سوء العذاب } وهم الذين وشوا بحزقيل اليه لما اوتد فيهم الاوتاد ومشط عن ابدانهم لحومها بالامشاط.
[40.46]
{ النار } ان كان المراد بسوء العذاب عذاب البرزخ والآخرة جاز ان يكون النار بدلا منه بدل الاشتمال، وجاز ان يكون مبتدء وقوله تعالى { يعرضون } خبره والجملة تفسيرا لسوء العذاب، وان كان المراد به عذاب فرعون فى الدنيا فالنار مبتدء ويعرضون خبره والجملة مستأنفة منقطعة او حالية حالا مقدرة اى حال كونهم بعد سوء العذاب النار يعرضون { عليها غدوا وعشيا } فى اخبار كثيرة ان هذا فى نار الدنيا يعنى نار البرزخ لان فى نار القيامة لا يكون غدو وعشى واما نار الخلد فهو قوله تعالى { ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } بتقدير القول، وقرئ ادخلوا من الثلاثى المجرد.
[40.47-48]
{ وإذ يتحآجون في النار فيقول الضعفاء } الاتباع { للذين استكبروا } المتبوعين { إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار قال الذين استكبروا إنا كل فيهآ إن الله قد حكم بين العباد } قد مضى الآية فى سورة ابراهيم (ع) وقد مضى مكررا ان امثال هذه تعريض بمنافقى الامة.
[40.49-50]
{ وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات } المعجزات او براهين صدقهم او احكام الرسالة { قالوا بلى قالوا فادعوا } تهكموا بهم وسخروا منهم ولذلك قالوا { وما دعاء الكافرين إلا في ضلال } اى فى ضياع، ويحتمل ان يكون هذا من الله.
[40.51]
{ إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد } المراد بالحياة الدنيا ان كان الحياة المصاحبة للحياة الحيوانية الطبيعية فالمراد بالنصرة نصرتهم فى دينهم لا فى دنياهم لان اكثر الانبياء لم ينصروا بحسب دنياهم، وان كان المراد الحياة البرزخية فلا اشكال، والمراد بالاشهاد الانبياء (ع) واوصيائهم (ع).
[40.52]
{ يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار } يعنى جهنم.
[40.53]
{ ولقد آتينا موسى الهدى } اى اعطيناه وصف الهداية للخلق بان جعلناه رسولا اليهم، او كونه مهديا بان هديناه الى ما ينبغى ان يهتدى اليه، او آتيناه ما يهتدى به من الآيات او من الاحكام او من التوراة { وأورثنا بني إسرائيل الكتاب } كتاب النبوة واحكامها، او كتاب التوراة.
[40.54]
{ هدى وذكرى } اى ذا هدى، او هاديا، او ما يهتدى به { لأولي الألباب } قد تكرر ان الانسان بدون الاتصال بالولاية كالجوز الخالى من اللب ويكون اعماله خالية من اللب وان كانت مطابقة لما ورد فى الشريعة كما أفتى به الفقهاء موافقا لما ورد فى الاخبار وكان هو واعماله لائقة للنار، واذا اتصل بالولاية صار ذا لب وصار اعماله ذوات الباب.
[40.55-56]
{ فاصبر } لما كان ذكر الامم الماضية ورسلهم (ع) وهلاكهم بسبب تكذيب الرسل (ع) وذكر موسى (ع) وفرعون كلها لتسلية الرسول (ص) فى تكذيب قومه وتركهم للولاية قال بعد ما ذكر حكايتهم بطريق التفريع فاصبر { إن وعد الله } بنصرتك { حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم } كرر الآية لتعليل امره بالصبر { إن في صدورهم إلا كبر } اى الانصراف عن الحق والاستكبار على اهل الحق { ما هم ببالغيه } اى بالغى ذلك الكبر ومقتضاه { فاستعذ بالله } منه او منهم { إنه هو السميع } لاستعاذتك فيعيذك ولما يقولون فيك ويدبرونه فلا يدعهم ينفذ مكرهم فيك { البصير } بك وبهم، وبما تفعل ويفعلون، وبكبرك ان استكبرت وبكبرهم.
[40.57]
{ لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس } فلا ينبغى للناس الضعيف الخلق الكبر فى مقابل ما هو اكبر منه وانما قال لخلق السماوات ولم يقل السماوات والارض للاشعار بان الصورة الخلقية منهما اكبر من الصورة الخلقية الانسانية، واما النشأة الروحية الانسانية فهو اكبر بمراتب من صورة السماوات والارض ومن نشأتهما الروحية الامرية، والمجادل تنزل من مقام روحيته الامرية الى الصورة الخلقية كأنه ليس له نشأة روحية { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } ليس لهم مقام علم حتى يعلموا ضعفهم، او لا يعلمون ضعفهم وحقارتهم بالنسبة الى السماوات.
[40.58]
{ وما يستوي الأعمى والبصير } رفع لتوهم ان عدم العلم يكون عذرا لهم فى كبرهم وجدالهم ولذلك قدم الاعمى والمراد بالعمى عمى القلب الذى يكون من اوصاف القوة العلامة بمعنى الجهل كما ان المراد بالبصر بصيرة القلب التى هى عبارة عن العلم { والذين آمنوا } لم يقدم المسيء ههنا لحصول الغرض من تقديم الاعمى { وعملوا الصالحات ولا المسيء } والمراد بالايمان الانقياد والتسليم الحاصل بالبيعة العامة، او الخاصة، او نفس البيعة العامة او الخاصة، والمراد بالعمل الصالح البيعة الخاصة، او العمل بالشروط التى تؤخذ فى البيعتين، وايا ما كان فالمقصود بيان عدم التسوية بين من كمل قوته العمالة ومن لم يكملها، وزيادة لا فى المسيء لاشارة خفية الى ان المسيء منفى معدوم بخلاف المحسن كأنه لا يجوز ان يدخل عليه النفى والا فسوق العبارة ان يدخل لا التى هى لتأكيد النفى على الذين آمنوا وعملوا الصالحات { قليلا ما تتذكرون } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: فلم لا يظهر الفرق بين المحسن والمسيء؟ - فقال: يظهر الفرق عند قيام الساعة.
[40.59]
{ إن الساعة لآتية لا ريب فيها } قد مضى فى اول البقرة وجه عدم الريب فى الكتاب مع كثرة المرتابين فيه فقس عليه وجه عدم الريب فى القيامة والساعة وظهور القائم (ع) والرجعة مع كثرة المرتابين فيها { ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } لا يذعنون بها او لا يؤمنون بالله حتى يعلموا مجيء الساعة، او لا يؤمنون بك حتى يصدقوك فى مجيء الساعة.
[40.60]
{ وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } قد مضى فى سورة البقرة وفى سورة النمل بيان تعليق الاستجابة على الدعاء فى الاموال والاولاد عقيب الصلات من الاتفاقيات؟ او هى من الاسباب للوصول الى المراد؟ - قال بعض الفلاسفة: ان ذلك من الاتفاقيات، وبرهان انكارهم لسببية ذلك ان العالى لا التفات له الى الدانى وانه لا تأثير للدانى فى العالى فلا يكون الظفر بالمقصود عقيب ذلك الا محض الاتفاق، وصريح الآيات والاخبار يثبت التسبيب بين الدعوات والاجابات وبين الصدقات ودفع البلايا وجذب البركات، وبين الصلات وزيادة الاموال والاعمار والاولاد.
تحقيق البداء ونسبة التردد والمحو والاثبات الى الله تعالى
وتحقيق ذلك، ان العوالم بعد مقام الغيب المعبر عنه بالعمى الذى لا خبر عنه ولا اسم له ولا رسم، وبعد مقام الواحدية المعبر عنه بمقام الاسماء والصفات، وبعد مقام الفعل المعبر عنه بالمشية بوجه ستة وبوجه سبعة، وبوجه سبعون، وبوجه سبع مائة، وبوجه سبعة آلاف، وبوجه سبعون الفا، وبوجه غير متناهية، وان كل عالم عال بالنسبة الى الدانى حاله حال النفس بالنسبة الى قواها ومداركها، وان عالم المثال مرتبته من عالم الطبع مرتبة الخيال الانسانى من بدنه وقواه فكما ان قوى النفس الخيالية تتأثر من بدنها ومن غير بدنها وبذلك التأثر يتاثر الخيال وتأثر الخيال هو بعينه تأثر النفس كذلك عالم المثال يتأثر من عالم الطبع، وتأثره بعينه تأثر النفوس الكلية، وتأثرها تأثر العقول الكلية، وتأثرها تأثر المشية، وهو تأثر الاله، وكما ان النفوس البشرية بعد التاثر من الابدان وقواها تحرك قوتها الشوقية والارادية لدفع الموذى او جذب النافع كذلك النفوس الكلية بعد تأثر قواها المثالية الخيالية تهيج اسباب دفع الموذى وجذب النافع لما تأثرت منه، وان الحوادث كما تكون باسباب طبيعية ارضية تكون باسباب الهية سماوية وان الاسباب السماوية قد تؤثر بتسبيب الاسباب الطبيعية وقد تؤثر بمحض التصور والارادة لانها مظاهر ارادة الله، وافعالها مظاهر افعال الله، اذا ارادت شيئا تقول له: كن، فيكون، من غير تسبيب اسباب طبيعية، وعالم المثال كعالم الخيال يضيق عن الاحاطة بجملة المدركات دفعة بل يرد عليه الصور بالتعاقب ويتجدد عليه الادراكات متبادلة ولذلك قد يثبت ضر شخص او خيره فيه ثم يقع من ذلك الشخص او من غيره دعاء لدفع ذلك الضر او عمل يدفع ذلك الخير فيقع صورة ذلك الدعاء او العمل فيه ويقع صورة لازمه من دفع الضر او دفع الخير فيه، وكلما تصوره النفوس العالية الجزئية او الكلية يقع صورته فى هذا العالم اما على مجرى العادة وبالاسباب الطبيعية او خارجا عن مجرى العادة ومن هذه الالواح المثالية ينسب البداء الى الله تعالى، وينسب التردد الذى هو عبارة عن ترجيح احد المتصورين تارة والآخر اخرى، فانه اذا تعارض دعاء مؤمن لشخص بالخير ودعاء آخر عليه بالشر فيثبت صورة دعاء هذا تارة مع لازمها وصورة دعاء ذاك اخرى مع لازمها، فيظهر فى نظر الناظر صورة التردد فى الصورتين المتقابلتين وينسب هذا التردد الى الله تعالى كما ينسب افعال القوى الانسانية الى النفوس، وهكذا حال نسبة البداء الى الله تعالى وقد يتصل المكاشف من النبى (ص) او الولى (ع) بتلك الالواح فيشاهد فيها بعض الاسباب والمسببات ولا يشاهد منافيات تلك الاسباب والمسببات ان كان منافياتها ثابتة فيها لضيق النفوس البشرية الخيالية عن الاحاطة بجميع ما ثبت فيها فيخبر بذلك ولا يقع ما يخبر به فينسب البداء الى تلك الالواح لقصور نظره لا لعدم ثبت ما وقع، وما كذب فى ذلك لانه أخبر عن عيانه { إن الذين يستكبرون عن عبادتي } لما كان اقتضاء العبودية الخروج من الانانية والتعلق بالحق الاول تعالى شأنه وكان اقتضاء ذلك التعلق استدعاء استقلال الحق بالانانية فى وجود العبد قال تعالى فى مقام يستكبرون عن دعائى يستكبرون عن عبادتى اشارة الى هذا التلازم { سيدخلون جهنم داخرين } صاغرين.
[40.61]
{ الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه } الجملة مستأنفة جواب لسؤال مقدر وتعداد لنعمه تعالى على العباد فى مقام التعليل { والنهار مبصرا } قد سبق الآية مع بيانها فى سورة يونس (ع) { إن الله لذو فضل على الناس } بحسب مقاماتهم النباتية والحيوانية والانسانية { ولكن أكثر الناس لا يشكرون } نعمه وفضله عليهم لانكار بعضهم مبدء عليما قديرا ذا عناية بالخلق، وعدم تفطن بعضهم بكون النعم منه، وعدم تفطن بعضهم بنفس النعمة، وغفلة بعضهم عن المنعم والنعمة.
[40.62-64]
{ ذلكم الله } الموصوف بانعام تلك النعم { ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو } اثبت اولا ربوبيته لهم حتى يتنبهوا بانه المستحق للعبادة دون غيره الذى لم يكن له سمة الربوبية ثم ذكر خالقيته لكل الاشياء، ومنها معبوداتهم، ثم حصر الالهة فيه نفيا لالهة معبوداتهم بعد ما اشار الى عنايته بخلقه وافضاله عليهم ليظهر بطلان انصرافهم الى غيره قبل انكار الانصراف { فأنى تؤفكون كذلك } الصرف مع وضوح بطلانه { يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسمآء بنآء وصوركم } فى مقام ابدانكم ومقام ارواحكم { فأحسن صوركم } فى كلا المقامين { ورزقكم من الطيبات } من الارزاق الطيبة النباتية الارضية فان رزق مقام نبات الانسان اطيب ارزاق سائر الحيوان بحسب الشرف واللطف واللذة والنصح، ومن الارزاق الطيبة الحيوانية الارضية والسماوية فان رزق الحيوان هو الالتذاذ بغذاء النبات والالتذاذ بادراك مدارك الحيوان ومن الارزاق الطيبة الانسانية السماوية من العلوم والمكاشفات والمعاينات والتحقق بالحقائق { ذلكم } الموصوف بتلك الاوصاف { الله ربكم فتبارك الله رب العالمين } مدح نفسه على خلق الانسان وتهية رزقه بحسب جملة مقاماته من ألطف المأكول والمشروب والمدرك والمتخيل والمعلوم والمكشوف لان فى خلقه دقائق عظيمة عديدة وصنائع متقنة وحكما بالغة يعجز عن ادراكها العقول، وكذا فى تهية اسباب رزقه بحسب مقاماته الثلاثة.
[40.65]
{ هو الحي } بعد ما اشار الى بعض اضافاته بالنسبة الى خلقه اشار الى بعض صفاته الحقيقية تعريضا بمعبوداتهم وفنائها وتعريضا بهم وبموتهم وانتهائهم اليه ليكون حجة على عبوديتهم لله وبطلان معبودية غيره { لا إله إلا هو } كرره للاهتمام بتوحيده فى مقام رد آلهتهم { فادعوه } يعنى اذا كان هو الباقى والباقون هم الفانين فادعوه ولا تتركوا دعاءه ولا تدعوا غيره لفنائكم وانتهائكم اليه لبقائه ولفناء غيره { مخلصين له الدين } اى الطريق او الاعمال الشرعية الملية { الحمد لله رب العالمين } انشاء حمد منه تعالى على تفرده بالآلهة كما ورد عن السجاد (ع): اذا قال احدكم: لا اله الا الله فليقل: الحمد لله رب العالمين فان الله يقول: هو الحى (الآية) فان ظاهره الامر بانشاء الحمد عند توحيده، او اخبار منه بحصر الحمد فيه تعالى بعد حصر الآلهة فيه فيكون بمنزلة النتيجة لسابقه، ولما كان الآيات فى مقام تعداد النعم لم يأت باداة الوصل فى رؤس الآى.
[40.66]
{ قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جآءني البينات من ربي وأمرت أن أسلم لرب العالمين } يعنى بعد ما ذكرتهم بنعم الله وحصر الالهة فيه تعالى اظهر براءتك عن عبادة معبوداتهم.
[40.67]
{ هو الذي خلقكم } ذكر نعمة اخرى بطريق تعداد النعم او فى مقام التعليل لقوله نهيت { من تراب } فان تولد مادة النطفة ليس الا من حبوب النبات وبقولها ولحوم الحيوان وألبانها والكل يحصل من التراب { ثم من نطفة ثم من علقة } اتى بالثلاثة منكرة للاشارة الى ان التراب الحاصل منه مادة النطفة لا بد وان يكون ترابا مخصوصا متكيفا بكيفية مخصوصة ممتزجا مع سائر العناصر، وان النطفة التى تصير مادة الانسان تكون نطفة مخصوصة ممتازة عن سائر النطف وكذا العلقة { ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا } عطف على لتكونوا او على محذوف اى لتستكملوا فى نفوسكم ولتبلغوا { أجلا مسمى } ويكون قوله ومنكم من يتوفى بين المعطوف والمعطوف عليه، او بين العلة ومعلولها، او متعلق بمحذوف اى ومنكم من يبقى لتبلغوا اجلا مسمى { ولعلكم تعقلون } تدركون بعقولكم، او تصيرون عقلاء، او تعقلون امر الآخرة من امر الدنيا، فان الانتقالات فى الحالات اماتات واحياءات، وليدرك الانسان من تلك الانتقالات النقلة العظمى وانها ليست افناء واستيصالا بل هى افناء لصورة واحياء بصورة اتم واكمل، وقد سبق فى سورة الحج الآية باكثر اجزائها مع بيان لها.
[40.68]
{ هو الذي يحيي ويميت } من قبيل تعداد النعم او تعليل لسابقه واشارة الى نعمه تعالى { فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } قد مضى الآية مع بيانها فى سورة البقرة عند قوله تعالى:
بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا
[البقرة: 117](الآية) وفى غيرها.
[40.69]
{ ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون } من الله.
[40.70-72]
{ الذين كذبوا بالكتاب وبمآ أرسلنا به رسلنا } بدل او صفة للذين يجادلون، او خبر او مفعول لمحذوف او مبتدء خبره { فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم } اذ مفعول يعلمون او ظرف له، والفعل منسى المفعول، او مقدر المفعول { والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون } يحمون او يوقدون.
[40.73]
{ ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون } ما زائدة او موصولة او موصوفة والعائد محذوف.
[40.74]
{ من دون الله قالوا ضلوا عنا } اخبروا اولا بانهم افلتوا من ايديهم، ثم التفتوا الى انهم كانوا مدعوين بحسب حدودهم وتعيناتهم، والحدود كانت عدمية ولكن كانت على القاصرين كالسراب تظهر بصورة الموجود وفى القيامة يرتفع الحدود ويعلم كل احد انها كانت سرابا لا حقيقة لها فأضربوا عن اخبارهم بضلال الشركاء عنهم وقالوا { بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا } وقد ورد الاخبار بان الآية فى المعرضين عن الولاية وعن على (ع)، والمراد بما يشركون رؤساء الضلالة وعلى هذا فالمراد بالذين يجادلون فى آيات الله الذين يجادلون فى خلافة على (ع)، والمراد بالذين كذبوا بالكتاب الذين كذبوا الآيات الواردة فى الولاية، وبما ارسلنا به رسلنا هو الولاية لانها غاية الرسالة بدليل ان لم تفعل فما بلغت رسالتك، والمراد بما يشركون ما جعلوه شريكا لعلى (ع) فى الخلافة، ومن دون الله من دون اذن الله، او حالكون الشركاء غير على (ع) الذى هو مظهر الله { كذلك يضل الله الكافرين } فى الدنيا او فى الآخرة، عن الباقر (ع) فاما النصاب من اهل القبلة فانهم يخد لهم خدا الى النار التى خلقها فى المشرق فيدخل عليهم منها اللهب والشرر والدخان وفورة الحميم الى يوم القيامة ثم مصيرهم الى الحميم، ثم فى النار يسجرون، ثم قيل لهم: { أين ما كنتم تشركون * من دون الله } اى اين امامكم الذى اتخذتموه دون الامام الذى جعله الله للناس اماما.
[40.75]
{ ذلكم } العذاب { بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق } يعنى بالباطل فانه يستعمل فى هذا المعنى { وبما كنتم تمرحون } المرح شدة الفرح وهو مذموم لانه اسراف فى الفرح سواء كان بالحق او بغير الحق.
[40.76]
{ ادخلوا أبواب جهنم } قد سبق فى سورة الزمر وجه تقييد الدخول بابواب جهنم { خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين } وضع الظاهر موضع المضمر للاشعار بان المتكبر من خرج من طاعة الامام، وسره ان الخروج من طاعة الامام ليس الا من الانانية، والانانية ورؤية النفس هو التكبر.
[40.77]
{ فاصبر } يعنى اذا علمت حال المنافقين الذين ينافقون بالنسبة اليك والى على (ع) فاصبر ولا تجزع ولا تحزن { إن وعد الله حق } لا خلف فيه { فإما نرينك بعض الذي نعدهم } من العذاب { أو نتوفينك فإلينا يرجعون } وقد سبق الآية فى سورة يونس وسورة الرعد.
[40.78-80]
{ ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك } فانظر الى حالهم ومآلهم من الله وما ورد عليهم من اممهم، ولينظر قومك الى ما كان منهم حتى تتسلى وتصبر على اذى قومك، ويعلم قومك ان الرسول لا يكون الا بشرا، ولا يكون حاله سوى حال سائر الناس { وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله } فان الآيات تنزل من الله على وفق الحكم والمصالح فليس لاحد ان يقترح وليس لك ان تسأل ما اقترحوا { فإذا جآء أمر الله } بالعذاب فى الدنيا او الآخرة او بانقضاء الاجل او بالحساب فى القيامة او بظهور القائم عجل الله فرجه { قضي بالحق وخسر هنالك } الزمان والمكان { المبطلون الله الذي جعل لكم الأنعام } فى مقام التعليل او مقام تعداد النعم { لتركبوا منها ومنها تأكلون ولكم فيها منافع } اخر كالالبان والجلود والاوبار وغير ذلك { ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم } بحمل الاحمال على ظهورها ونقلها الى ما تريدون { وعليها } فى البر { وعلى الفلك تحملون } قد سبق الآية ببعض اجزائها فى سورة المؤمنون.
[40.81-82]
{ ويريكم آياته فأي آيات الله } الدالة على علمه وقدرته وحكمته وعنايته ورأفته بخلقه { تنكرون أفلم يسيروا في الأرض } اى ارض العالم الكبير حتى يشاهدوا آثار الامم الهالكة الماضية ويسمعوا اخبارهم، او ارض العالم الصغير فيعلموا ويجدوا آثار الامم التابعة لشهوتهم وغضبهم وشيطنتهم، او ارض الاخبار وسير الامم الماضية، او ارض القرآن { فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فمآ أغنى عنهم } اى عن عذابهم { ما كانوا يكسبون } ما الاولى نافية او استفهامية، والثانية موصولة او موصوفة او مصدرية او استفهامية.
[40.83]
{ فلما جآءتهم } عطف من قبيل عطف التفصيل على الاجمال { رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم } من دقائق العلوم الحكمية من الطبيعية والرياضية والالهية ولم يعلموا ان هذه العلوم ان لم تكن باذن من الله وخلفائه ولم يكن صاحبها فى الطريق تكون حجابا عظيما وسدا سديدا عن السلوك الى الله بل السلوك الى الله لا يكون الا بطرح جملة علوم النفس والخروج من العلوم النفسانية الى الجهل كما قيل: الخروج من الجهل جهل، والخروج الى الجهل علم، لان النفس اذا كانت متصورة بصور تلك العلوم ظهرت بالانانية، والانانية كبرياء النفس التى من اتصف بها بادر الله بالمحاربة ونازع الله، اعاذنا الله منها، ولذلك ترى ان اكثر المعاندين لاهل الحق هم المتشبهون بالعلماء المتصور نفوسهم بصور العلوم الحكمية او غيرها { وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } اى العذاب او الفعل والقول الذى كانوا به يستهزؤن.
[40.84]
{ فلما رأوا بأسنا } عذابنا عند معاينة الموت { قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين } والمراد بما اشركوا به الاصنام والكواكب ورؤساء الضلالة الذين اشركوهم بالانبياء والاولياء (ع) خصوصا من اشركوه بعلى (ع) فى الولاية فانهم حينئذ يرون بطلان الشركاء.
[40.85]
{ فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا } لان الايمان حين رؤية البأس ليس الا لخوف الخيال لا لشوق العقل ولذلك كانوا لو زال الخوف لعادوا كما قال تعالى:
ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه
[الأنعام:28] { فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا } يعنى انهم تمكنوا فى الكفر والنفاق بحيث لا يقلعون منه وكلما ارادوا ان يخرجوا منه من غم اعيدوا فيه لتمكنهم فيه بحيث لا يزال عنهم { سنت الله } سن الله عدم قبول التوبة حين رؤية البأس يعنى عدم قبول التوبة اذا كان من غم وخوف السنة { التي قد خلت في عباده وخسر هنالك } المقام او الزمان { الكافرون } لان المقام مقام ظهور الحق وبطلان الباطل.
[41 - سورة فصلت]
[41.1-3]
{ حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته } بعد ان كان فى المقام العالى مجملا ومجموعا { قرآنا } حال كونه قرآنا ومجموعا فى المقامات العالية ومجموعا ومضموما فيه الاحكام مع المواعظ والعبر والقصص والعقائد والعلوم { عربيا } يعنى بلغة العرب او منسوبا الى العرب دون الاعراب من حيث اشتماله على الآداب والاحكام والعلوم { لقوم يعلمون } يعنى هذه الاوصاف للكتاب لقوم يعلمون لا لغيرهم، او كونه منسوبا الى العرب لقوم يعلمون اى لقوم خرجوا من جهالاتهم الساذجة وجهالاتهم المركبة التى هى صور العلوم العادية ونقوش الفنون الاصطلاحية الى دار العلم التى اول حريم حرمها مقام الانصات للانسان والتحير فى طريقه، وآخر مقاماته نشر العلم فى العباد، او لقوم يعلمون ان ذلك الكتاب منزل من الله.
[41.4]
{ بشيرا } لمن بقى فيه الفطرة الانسانية وتوجه الى تلك الفطرة { ونذيرا } لمن ادبر عن تلك الفطرة سواء كان بايع كل منهما البيعة التكليفية العامة او الخاصة او لم يبايع { فأعرض أكثرهم } عن هذا الكتاب { فهم لا يسمعون } لا يقبلون فان السماع كناية عن القبول والانقياد كما انه كناية عن ثانى مقامات العلم.
[41.5]
{ وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر } اى ثقل وهو كناية عن الصمم { ومن بيننا وبينك حجاب } بيننا وبينك من حيث ادعائك للرسالة حجاب يمنعنا عن ابصار ما تدعيه يعنى ان ما تدعيه ان كان من المعقولات فلا تكن منتظرا لتعقلنا، وان كان من المسموعات فلا تنتظر لسماعنا، وان كان من المبصرات بالبصر او بالبصيرة فلا تنتظر لابصارنا للحجاب المانع من الابصار بيننا وبينك { فاعمل } ما شئت فى دينك المبتدع إننا عاملون } فى ديننا القديم، او كان مقصودهم من ذلك تهديده يعنى فاعمل ما شئت بنا فاننا نعمل ما قدرنا عليه بك.
[41.6-7]
{ قل } فى جواب تهديدهم { إنمآ أنا بشر } لا اقدر { مثلكم } على ما لا يقدر عليه البشر حتى افعل بكم ما اريد لكن بينى وبينكم فرق وهو انه { يوحى إلي أنمآ إلهكم إله واحد } او المعنى قل لهم: انما انا بشر من جنسكم ولست خارجا من جنسكم حتى لا تكونوا مناسبين لى فيستوحش قلوبكم او لا تفهموا لسانى فينصرف قلوبكم عنى، وادعوكم الى التوحيد الذى لا يضركم شيئا ان كان لا ينفعكم { فاستقيموا إليه } واخرجوا من اعوجاجكم { واستغفروه وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة } اقتصر على نفى اتيان الزكاة اشعارا بان المشرك ليس اشراكه الا من انانيته التى ينبغى ان تطرح فان اصل اتيان الزكاة هو طرح الانانية والاعطاء منه فى طاعة الله، ومن بخل بطرح الانانية بخل باعطاء المال والقوى والجاه، ولو اعطى لم يكن اعطاؤه اعطاء للزكاة بل كان ممن قال الله:
كالذي ينفق ماله رئآء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا
[البقرة:264] { وهم بالآخرة هم كافرون } وقد فسر الاشراك بالاشراك بالولاية، عن الصادق (ع) اترى ان الله عز وجل طلب من المشركين زكاة اموالهم وهم يشركون به حيث يقول: { وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون }؟ قيل: جعلت فداك فسره لى، فقال: ويل للمشركين الذين اشركوا بالامام الاول وهم بالائمة الآخرين كافرون، انما دعى الله العباد الى الايمان به فاذا آمنوا بالله وبرسوله (ص) افترض عليهم الفرائض.
[41.8]
{ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون } غير مقطوع او غير ما يمن به عليهم.
[41.9-10]
{ قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض } التى هى مقر قراركم ومحل معاشكم { في يومين } قد يعبر عن مراتب العالم باعتبار بالامام، وباعتبار بالاشهر، وباعتبار بالاعوام، والارض اسم لكل ما كان فيه جهة القبول اظهر وجهة الفاعلية اخفى، وجملة عالم الطبع وعالم المثال هكذا كان حالهما، والتعبير عن هذين العالمين بالارض كثير، فالمراد بالارض الاجسام الظلمانية والاجسام النورانية وخلقهما ليس الا فى المرتبة الاخيرة النازلة التى هى عالم الطبع وفى المرتبة السابقة عليها اعنى عالم المثال وقد عبر عنهما باعتبار امد بقائهما باليومين، وقد مضى فى سورة الاعراف بيان لخلق السماوات والارض فى ستة ايام وقد كان الارض باعتبار وجودها العينى مخلوقة فى ذينك اليومين ولكنها باعتبار وجودها المطلق مخلوقة فى ستة ايام كالسماوات، والسماوات يعنى سماوات الارواح باعتبار وجودها العينى مخلوقة فى اربعة ايام، يوم النفوس الجزئية، ويوم النفوس الكلية، ويوم العقول ويوم الارواح المعبر عنها بيومين، يوم المدبرات ويوم المجردات الصرفة اى النفوس والعقول بالمعنى الاعم وتقدير اقوات الارض والارضين ليس الا فى تلك الايام التى هى ايام السماوات فانه ينزل من السماء رزقا لكم { وتجعلون } مع ذلك { له أندادا } لا يقدرون على شيء ولا يخلقون ولا يرزقون { ذلك } الموصوف { رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها } لئلا تميد بكم ولتوليد الماء من تحتها ولسهولة جريان الماء من تحتها فى سفحها { وبارك فيها } فى الرواسى او فى الارض فان الرواسى بحسب التنزيل منبع بركات الارض ومحل المعادن النافعة والنباتات النافعة الغذائية والدوائية، وبحسب التأويل لا بركة الا منها، والارض محل البركات الكثيرة التى منها الانسان والنفوس الكاملة التى لا بركة الا منها { وقدر فيهآ أقواتها في أربعة أيام سوآء للسآئلين } حال كون الاقوات مساوية لجملة السائلين بسؤال الحال والاستعداد لا تفاضل فيهم فى الاقوات المسؤلة بسؤال الحال وان كان سؤال القال قد يتخلف المسؤل عنه ويتخلف السائلون فيه بحسب الاجابة وعدمها، او حال كون الاربعة الايام سواء للسائلين فان ايام الآخرة نسبتها الى ما دونها نسبة الحق الى الخلق بالنسبة الرحمانية التى لا تفاوت فيها بالنسبة الى شيء من الاشياء، وقرئ سواء بالجر وبالنصب وبالرفع.
[41.11]
{ ثم استوى إلى السمآء } اى قصد الى خلقها وثم للترتيب فى الاخبار لا فى الوجود او فى الوجود لكن فى العالم الصغير، فان حدوث سماء الارواح فى العالم الصغير بعد وجود ارض البدن وقواها وتقدير رزقها { وهي دخان } اى حالكون السماء قبل تمامية خلقتها كانت بخارا فان النفوس المعبر عنها بالارواح مركبها ومادتها البخار المتولد من القلب المختلط مع الدخان المتصاعد الى الدماغ لتعديله وبعد تعديله ببرودة الدماغ يتعلق بل يتحد معه النفس الحيوانية ثم الانسانية { فقال } بعد خلق الارض وتسوية السماء { لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها } الاتيان الى الله وطاعته طوعا حق السماوات، والاتيان كرها حق الارض، واعتبر ذلك بارض وجودك وسماواته فان القوى والمدارك التى هى سماوية مطيعة للنفس بالطوع والفطرة بحيث لا يتخلف طاعتها عن امر النفس والبدن الذى هو ارض وجودك واعضائه طاعتها للنفس ليست الا بخلاف فطرتها، لكن اذا تبدل الارض غير الارض وصار ارض البدن الطبيعى مغلوبة لارض البدن المثالى بحيث لا يبقى حكم الطبيعى وكان الحكم للمثالى كان اتيانه الى الله وطاعته للنفس طوعا كالمثالى { قالتآ أتينا طآئعين } بعد ما صارت الارض مغلوبة للسماوات، وانما أتى بجمع العقلاء الذكور لان هذا الخطاب ليس الا للعقلاء فلما خوطبن بخطاب العقلاء أتى لهن بجمع العقلاء الذكور.
[41.12]
{ فقضاهن سبع سماوات } كناية عن المراتب السبع السماوية الانسانية او عن اللطائف السبع القلبية { في يومين } يوم الانشاء ويوم الابداع او يوم المدبرات ويوم المجردات وقد ذكر فى الاخبار، وذكر الكبار من العلماء بعض وجوه اخر للايام الستة والايام الاربعة واليومين المخلوق فيهما الارض والمخلوق فيهما السماء من اراد فليرجع الى المفصلات { وأوحى في كل سمآء أمرها } الوحى غلب على القاء العلوم بواسطة الملك او بلا واسطة، ولما كانت العلوم فى المجردات عين ذواتها غير منفكة ولا متأخرة عن ذواتها كان وحيها عبارة عن خلقتها على ذلك والمراد بالامر الحال والشغل يعنى اوحى الله فى كل سماء امر تلك السماء الى اهلها ولم يقل الى كل سماء للاشارة الى ان المراد بالسماوات المراتب واوحى فى كل مرتبة امر تلك المرتبة وما تحتاج اليه من تدبير اهلها وتدبير ما دونها الى اهل تلك المرتبة من الملائكة { وزينا السمآء الدنيا } اى السماء الطبيعية التى هى عبارة عن الفلك المكوكب والافلاك السبعة الاخر والسماء الدنيا التى هى الصدر المنشرح بالاسلام { بمصابيح وحفظا } من الشياطين المسترقين للسمع وقد سبق فى سورة الحجر وكذا فى سورة الصافات بيان للآية { ذلك } القدر { تقدير العزيز } الذى لا يمنع من مراده { العليم } الذى لا يقع قصور فى فعله لجهله بعاقبته.
[41.13-14]
{ فإن أعرضوا } عنك او عن الايمان بالله بعد ما بينت لهم حجة صدقك وحجة آلهة الله وتدبيره لكل الامور { فقل أنذرتكم } بالكنايات السابقة او انذرتكم بالتهديدات التى هددتكم بها او انذركم بهذا الكلام { صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود إذ جآءتهم الرسل من بين أيديهم } يعنى فى زمانهم { ومن خلفهم } يعنى قبل زمانهم او جاءتهم الرسل بالمواعظ من جهة دنياهم وآخرتهم، او حفوا بهم من جميع جوانبهم، او من بين ايديهم يعنى الرسل الظاهرة ومن خلفهم اى الرسل الباطنة، او بالعكس { ألا تعبدوا } ان تفسيرية ولا ناهية او مصدرية ولا ناهية او نافية { إلا الله قالوا } فى جواب الرسل { لو شآء ربنا } ارسال رسول الينا { لأنزل ملائكة } مناسبة له تعالى خارجة من جنسنا { فإنا بمآ أرسلتم به } على زعمكم { كافرون } لانكم بشر مثلنا لا مزية لكم علينا حتى نطيعكم بذلك ونقبل منكم.
[41.15]
{ فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة } اغتروا بقوتهم لان الرجل منهم يقلع الصخرة بيده { أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون } اى يعرفونها ثم ينكرونها.
[41.16-19]
{ فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا } باردا { في أيام نحسات } ميشومات { لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا } حين ابتلائهم بالعذاب وخروج ارواحهم بتلك الريح { ولعذاب الآخرة أخزى } لان عذاب الدنيا وان كان اشد ما يكون لا يكون الا عشرا من اعشار عذاب الآخرة { وهم لا ينصرون وأما ثمود فهديناهم } اى أريناهم طريق النجاة والهلاك بارسال الرسل وانزال الكتب وخلقهم على فطرة الاهتداء وصورة الانسان التى هى طريق الى الرحمن { فاستحبوا العمى على الهدى } بان تنزلوا عن مقام الانسانية وتركوا الفطرة واخذوا البهيمية والسبعية والشيطانية وتركوا ما فى الكتب ونبذوها وراء ظهورهم واستهزؤا بالرسل واخذوهم اعداء { فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون ويوم يحشر أعدآء الله } عطف على صاعقة فى انذرتكم صاعقة او على اذ جاءتهم الرسل على ان يكون اذ بدلا من صاعقة عاد او عطف على قل انذرتكم بتقدير اذكر، او عطف على محذوف والتقدير نجينا الذين آمنوا فى الدنيا ويوم يحشر اعداء الله { إلى النار فهم يوزعون } وزعه كفه والمعنى يحبسون ليتلاحقوا.
[41.20-21]
{ حتى إذا ما جآءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون } عن القمى، ان الآية نزلت فى قوم تعرض عليهم اعمالهم فينكرونها فيقولون: ما عملنا شيئا منها، فيشهد عليهم الملائكة الذين كتبوا اعمالهم، قال الصادق (ع) فيقولون لله: يا رب هؤلا ملائكتك يشهدون لك ثم يحلفون بالله ما فعلوا من ذلك شيئا وهو قول الله عز وجل
يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم
[المجادلة:18] وهم الذين غصبوا امير المؤمنين فعند ذلك يختم الله تعالى على السنتهم وينطق جوارحهم فيشهد السمع بما سمع مما حرم الله، ويشهد البصر بما نظر الى ما حرم الله عز وجل، وتشهد اليدان بما اخذتا، وتشهد الرجلان بما سعتا فيما حرم الله عز وجل، ويشهد الفرج بما ارتكب مما حرم الله، ثم ينطق الله عز وجل السنتهم فيقولون هم لجلودهم: { لم شهدتم علينا } (الآية).
[41.22-23]
{ وما كنتم تستترون أن يشهد } من ان يشهد { عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم } والمراد بالجلود كما فى اخبار كثيرة الفروج { ولكن ظننتم } يعنى انكم كنتم لا تخفون عن حضور جوارحكم ولكن تجرأتم على المعاصى لظنكم { أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم } من غير حقيقة { أرداكم } ظنكم خبر ذلكم او بدله وأرديكم خبره او خبر بعد خبر او مستأنف او حال بتقدير قد { فأصبحتم من الخاسرين } لضياع بضاعتكم التى هى امد اعماركم وشهادة ما كان لكم عليكم، عن الصادق (ع) انه قال، قال رسول الله (ص):
" ان آخر عبد يؤمر به الى النار فاذا امر به التفت فيقول الجبار جل جلاله: ردوه، فيردونه فيقول له: لم التفت الى؟ فيقول: يا رب لم يكن ظنى بك هذا! فيقول: ما كان ظنك بى؟ فيقول: يا رب كان ظنى بك ان تغفر لى خطيئتى وتسكننى جنتك، قال: فيقول الجبار: يا ملائكتى لا وعزتى وجلالى وآلائى وعلوى وارتفاع مكانى ما ظن بى عبدى هذا ساعة من خير قط ولو ظن بى ساعة من خير ما روعته بالنار، اجيزوا له كذبه وادخلوه الجنة "
، ثم قال رسول الله (ص):
" ليس من عبد يظن بالله عز وجل خيرا الا كان عند ظنه به "
وذلك قوله عز وجل { وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين }.
[41.24]
{ فإن يصبروا فالنار مثوى لهم } يعنى سواء عليهم صبروا او جزعوا او سألوا الراحة والرضا { وإن يستعتبوا } يسترضوا { فما هم من المعتبين } من المعطون للرضا.
[41.25-26]
{ وقيضنا } عطف على نجينا والمعنى انا قدرنا وسببنا { لهم } فى الدنيا { قرنآء } يعنى شياطين الانس والجن { فزينوا لهم ما بين أيديهم } قد مضى مكررا ان ما بين ايديهم فسر بالدنيا وبالآخرة وكذا قوله تعالى { وما خلفهم } يعنى ان القرناء زينوا لهم الشهوات ومقتضى السبعية والشيطانية وزينوا لهم ما ظنوه وقالوا فى امر الآخرة من الرد والانكار، او بان قالوا ان رددنا الى ربنا لكان لنا خيرا منها منقلبا { وحق عليهم القول } بسوء اعمالهم واقوالهم واحوالهم { في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس } من الامم الفاجرة { إنهم كانوا خاسرين وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن } اى مطلق القرآن او قرآن ولاية على (ع) { والغوا فيه } لغى فى قوله كسعى ودعا ورضى اخطأ والمقصود اقرأوه مغلوطا مخلوطا بغيره او ادخلوا على قرائه ما ليس منه او عارضوه بالباطل واللغو { لعلكم تغلبون } قراءه او تغلبون محمدا (ص).
[41.27]
{ فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا ولنجزينهم } بازاء جميع اعمالهم حسناتها وسيئاتها كبائرها وصغائرها { أسوأ الذي كانوا يعملون } نفس اسوء اعمالهم او جزاء اسوء اعمالهم على تجسم الاعمال وجزائها بالجزاء الاخروى، وقد مر بيان جزاء الاعمال للمؤمن بأحسن اعماله وبيان معانى هذه العبارة فى سورة التوبة.
[41.28]
{ ذلك جزآء أعدآء الله النار لهم فيها دار الخلد جزآء بما كانوا بآياتنا يجحدون } كثرة وجوه اعراب الآية لا تخفى على العارف بقوانين الاعراب.
[41.29]
{ وقال الذين كفروا } أتى بالماضى لتحقق وقوعه، او لكونه ماضيا بالنسبة الى من خوطب به { ربنآ أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس } قد فسر المضلان من الجن والانس بابليس الذى عصى الله اول ما عصى وبقابيل من آدم (ع) وبابليس الذى دخل فى شوريهم فى دار الندوة وفى غيرها فأضلهم عن الحق { نجعلهما تحت أقدامنا } انتقاما منهما { ليكونا من الأسفلين } من حيث المذلة والمكان.
[41.30]
{ إن الذين قالوا ربنا الله } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: هذا حال الكافرين والمنافقين، فما حال المؤمنين بالولاية والمقرين بالخلافة؟ فقال: { إن الذين قالوا ربنا الله } انما قال: قالوا ربنا، دوو علموا وايقنوا وشاهدوا لانه اشارة الى الاسلام والبيعة العامة النبوية وبالاسلام، وبتلك البيعة لا يحصل الا الاقرار بان الله رب ولو حصل اعتقاد بذلك كان ذلك الاعتقاد من علوم النفس المنفكة عن معلوماتها المعبر عنها بالظنون كما اشرنا اليه فى مطاوى ما سلف، وقد ورد فى الاخبار ان الاسلام اقرار باللسان دون الايمان { ثم استقاموا } اى اعتدلوا، والاعتدال الاضافى لا يحصل الا بالبيعة الايمانية الولوية الخاصة كما ان الاعتدال الحقيقى الذى هو عبارة عن الخروج من الاعوجاج فى جميع المراتب لا يحصل الا بتلك البيعة والعمل بشروطها فان اريد بالاعتدال الاعتدال الاضافى كان المراد بالمعتدلين مطلق من بايع البيعتين ودخل فى امر الائمة، ودخل الايمان فى قلبه كما ورد فى الاخبار تفسيرهم بشيعتهم ان اريد الاعتدال الحقيقى كان المراد الانبياء والاولياء (ع) كما فسروا بالائمة واذا اريد الشيعة من المستقيمين كان نزول الملائكة على بعضهم فى مطلق الحياة الدنيا وعلى بعضهم خاصا بوقت الاحتضار وكان معنى قوله:
نحن أوليآؤكم في الحياة الدنيا
[فصلت: 31] بالنسبة الى من كان نزول الملائكة عليه خاصا بوقت الاحتضار انا كنا فى الحياة الدنيا اولياؤكم كنا نحرسكم ونحفظكم ونثبتكم على الخير، وبالنسبة الى من تنزل الملائكة عليه مطلقا فالمعنى ظاهر، وعن الصادق (ع) انه قال: استقاموا على الائمة (ع) واحدا بعد واحد، وعن الرضا (ع) انه سئل: ما الاستقامة؟ - قال: هى والله ما انتم عليه { تتنزل عليهم الملائكة } فى الدنيا بالنسبة الى الانبياء والاولياء (ع) وبعض الاتباع، وفى آخر الحياة الدنيا بالنسبة الى بعض الاتباع { ألا تخافوا } ان تفسيرية ولا ناهية او مصدرية ولا ناهية او نافية اى مخاطبين بان لا تخافوا { ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون } بواسطة الانبياء (ع).
[41.31]
{ نحن أوليآؤكم في الحياة الدنيا } قد مضى بيانه آنفا { وفي الآخرة } يعنى من اول مقامات البرزخ الى الاعراف ومن الاعراف الى الجنة وبعد الدخول فى الجنة الى الابد { ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم } اى ذواتكم او ما تشتهى انفسكم التى هى مقابل عقولكم لان العقول تشتاق الى الرب، والاشتهاء خاص بالنفوس يعنى انكم منعتم نفوسكم عن مشتهياتها فى الدنيا فتفضل الله عليكم فى الآخرة بتهيؤ ما تشتهى انفسكم لها { ولكم فيها ما تدعون } تطلبون سواء كان باقتضاء نفوسكم او باشتياق عقولكم.
[41.32]
{ نزلا } حال كون ما تشتهى نفوسكم وما تدعون مهيأ لكم لتشريف نزولكم { من غفور رحيم } عن الصادق (ع) قال: ما يموت موال لنا مبغض لاعدائنا الا ويحضره رسول الله (ص) وامير المؤمنين والحسن (ع) والحسين (ع) فيرونه ويبشرونه، وان كان غير موال يراهم بحيث يسوءه، والدليل على ذلك قول امير المؤمنين (ع) لحارث الهمدانى:
يا حار همدان من يمت يرنى
من مؤمن او منافق قبلا
وفى تفسير الامام (ع) عند قوله تعالى: و
يظنون أنهم ملاقوا الله
[الآية: 249] من سورة البقرة، قال رسول الله (ص):
" لا يزال المؤمن خائفا من سوء العاقبة ولا يتيقن الوصول الى رضوان الله حتى يكون وقت نزع روحه وظهور ملك الموت له، وذلك ان ملك الموت يرد على المؤمن وهو فى شدة علته وعظيم ضيق صدره بما يخلفه من امواله وبما هو عليه من اضطراب احواله من معامليه وعياله قد بقيت فى نفسه حسراتها واقتطع دون امانيه فلم ينلها، فيقول له ملك الموت: مالك تجرع غصصك؟ قال لاضطراب احوالى واقتطاعك لى دون آمالى! - فيقول له ملك الموت: وهل يحزن عاقل من فقد درهم زائف واعتياض الف الف ضعف الدنيا؟ فيقول: لا، فيقول ملك الموت، فانظر فوقك، فينظر فيرى درجات الجنان وقصورها التى يقصر دونها الامانى، فيقول ملك الموت: تلك منازلك ونعمك واموالك واهلك وعيالك ومن كان من اهلك ههنا وذريتك صالحا فهم هنالك معك، أفترضى بهم بدلا مما ههنا؟ فيقول: بلى والله، ثم يقول: انظر، فينظر فيرى محمدا (ص) وعليا (ع) والطيبين من آلهما فى اعلى عليين، فيقول: او تريهم؟! هؤلاء ساداتك وائمتك هم هناك جلاسك واناسك، أفما ترضى بهم بدلا مما تفارق هنا؟ - فيقول: بلى وربى، فذلك ما قال الله عز وجل: { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا.. } [فصلت: 30] ان الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة الا تخافوا ولا تحزنوا فما امامكم من الاحوال فقد كفيتموها ولا تحزنوا على ما تخلفونه من الذرارى والعيال فهذا الذى شاهدتموه فى الجنان بدل منهم وابشروا بالجنة التى كنتم توعدون وهذه منازلكم وهؤلاء ساداتكم أناسكم وجلاسكم ".
[41.33]
{ ومن أحسن قولا ممن دعآ إلى الله } يعنى ممن دعا الى الله فى مملكة وجوده اعوانه وجنوده اذا لم يكن من اهل دعوة غيره الى الله او ممن دعا اهل العالم الكبير اذا كان نبيا او خليفته (ع) والجملة معطوفة على جملة ان الذين قالوا باعتبار المعنى فانه فى معنى لا احسن قولا او حالية بهذا الاعتبار او بتقدير القول وعلى اى تقدير فهى فى معنى التعليل { وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين } يعنى لا احسن قولا ممن دعا بأفعاله واقواله واحواله واخلاقه الى الله وعمل صالحا باركانه اى صالحا عظيما هو الولاية الحاصلة بالبيعة الخاصة او نفس البيعة الخاصة فانه لا يراد به فرد من الصالح لدلالته حينئذ على ان من دعا الى الله وعمل صالحا ما، وان كان ترك جملة الصالحات يكون احسن قولا من جميع الخلق، فان هذه العبارة قد مر مرارا انها تستعمل فى هذا المعنى وان كان مفهومها اعم، او المراد فرد ما من الصالح والمقصود ان من بايع البيعة الخاصة ودخل الايمان فى قلبه واظهر اثر تلك البيعة على اعضائه من دعائه الى الله بحاله وقاله ومن عمله باركانه صالحا ما من الصالحات واظهر اثر تسليمه على لسانه بان يقول: اننى من المسلمين فانه قد يؤتى بهذه العبارة عند المبالغة فى امر الولاية كما ورد ان الله فرض على خلقه خمسا، فرخص فى اربع ولم يرخص فى واحدة اشار الى الولاية، وهذا من باب المبالغة فى امر الولاية، وامثال هذا الخبر للمبالغة فى الولاية عنهم كثيرة، وللاشارة الى انه يلزم ظهور اثر التسليم على اللسان قال تعالى: { وقال إنني من المسلمين } ولم يقل وكان من المسلمين وكما ان الآية السابقة كانت فى على (ع) وشيعته من غير اختصاص لها بعلى (ع) او بالائمة (ع) كذلك هذه الآية لا اختصاص لها بعلى (ع) والائمة (ع) بل تجرى فى شيعتهم كما ذكرنا.
[41.34]
{ ولا تستوي الحسنة ولا السيئة } تمهيد لما يأتى وتعليل لما مضى والاعتقاد بعدم استواء الحسنة والسيئة من الفطريات فمن اختار عليه غيره ممن اطلع عليهما كان خارجا من الفطرة { اادفع } سيئة من اساء اليك { ب } الفعلة { التي هي أحسن } وقد مضى بيان هذه الآية فى سورة المؤمنون { فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم } اى محب قريب فى النسب وقد فسر فى الخبر الحسنة بالتقية والسيئة بالاذاعة وهو وجه من وجوه الآية، ويجوز ان يفسر التى هى احسن بالولاية اى ادفع سيئات نفسك وسيئات غيرك بتذكر جهة الولاية او بقبول الولاية او بتذكيرهم بالولاية ولعل التعبير عن الاساءة بالسيئة كان لهذا الوجه.
[41.35]
{ وما يلقاها } اى هذه السجية والخصلة التى هى دفع الاساءة بالحسنة { إلا الذين صبروا } لان النفس فى جبلتها هيجان الغضب عند ورود ما لا يلائم، والغضب اقتضاؤه الدفع بأشد ما يمكن فمن لا يمكن له حبس النفس عن هيجان غضبها لا يدرك من هذه الخصلة شيئا { وما يلقاهآ إلا ذو حظ عظيم } من كمالات الانسان وقد قيل بالفارسية: " نيكى رانيكى خرخارى، بدى را بدى سك سارى، بدى رانيكى كار عبد الله انصارى " والخطاب عام او خاص بمحمد (ص) مع التعريض بامته.
[41.36]
{ وإما ينزغنك } نزغه كمنعه طعن فيه واغتابه ووسوس وبينهم افسدوا غرى { من الشيطان نزغ } مصدر بمعنى الفاعل او من قبيل جد جده يعنى ان يوسوسك من قبل الشيطان موسوس او يطعن فيك طاعن او يدفعك دافع حال ارادتك الاحسان الى المسيء { فاستعذ بالله } من نزغه فانه يعيذك { إنه هو السميع } لاستعاذتك { العليم } باستجارتك، او فاستعذ بالله من طاعته فانه السميع لاقتصاصك القولى، العليم لاقتصاصك الفعلى فيؤاخذ عليه.
[41.37]
سجدة واجبة
{ ومن آياته الليل والنهار } عطف باعتبار المعنى كأنه توهم متوهم انه قال: من آياته من دعا الى الله ومن آياته عدم استواء الحسنة والسيئة فقال تعالى: ومن آياته الليل والنهار { والشمس والقمر } قد مضى مكررا ان فى انتضاد الليل والنهار الطبيعيين واتساق حركة الشمس والقمر وتخالف الليل والنهار بالظلمة والنور والبرودة والرطوبة والحرارة واليبوسة والاتساق فى الزيادة والنقيصة وغير ذلك من لوازم ذلك الذى نيط بها توليد المواليد وبقاؤها وتعيشها آيات عديدة دالة على علمه وقدرته وربوبيته ورأفته بخلقه وغير ذلك من اضافاته { لا تسجدوا } تفريع على سابقه لكنه اداه بطريق الجواب لسؤال مقدر ليتمكن حال الشمس والقمر فى ذهن السامع { للشمس ولا للقمر } لكونهما من آياته تعالى ولا يخفى على المستبصر تعميم الليل والنهار والشمس والقمر { واسجدوا لله الذي خلقهن } أتى بالجمع اما لكون المراد بالشمس والقمر الجنس وتعدد افرادهما وعمومهما كما عليه حكماء الافرنج، ويستفاد من تلويحات الاخبار، او للاشارة الى التأويل وكثرة الشمس والقمر بحسب التأويل فان النبى (ص) وخليفته يعبر عنهما بالشمس والقمر وكذلك خلفاؤهما ومشايخهما والعقل والنفس يطلق عليهما الشمس والقمر، والعقل الكلى والنفس الكلية شمس وقمر، وكل معلم ومتعلم شمس وقمر، وفى عالم البرزخ وعالم المثال شموس واقمار { إن كنتم إياه تعبدون } يعنى ان كنتم تحصرون العبادة فيه، فان النظر على الواسطة وجعله مسمى مع انه كان اسما اما كفر او شرك، والنظر على ذى الواسطة من مرآة الواسطة عبادة للمسمى بايقاع الاسماء عليه وتوحيد لذاته ولعبادته، وههنا احد مواضع السجود الفرض الاربعة.
[41.38-39]
فإن استكبروا } صرف الخطاب عنهم الى نبيه (ص ) لان النهى والامر كانا للمشركين بالاشراك الصورى الذين كانوا يعبدون الشمس والقمر، او للمشركين بالاشراك المعنوى الذين كانوا يعبدون النفس واهويتها، او الذين كانوا يرون النبى (ص) او خليفته (ع) منفكا عن الله تعالى، او الذين كانوا يعبدون الملائكة وكانوا يرونهم غير الله، وكان المناسب ان يكون الخطاب لهم حتى يكون سببا لنشاطهم فى الاستماع، وهذا تسلية له (ص) عن حزنه على استكبارهم { فالذين عند ربك } من الملائكة المقربين الذين لهم مقام العندية بالنسبة اليه تعالى ومن الاناسى الكاملين الذين حصل لهم مقام العندية { يسبحون له بالليل والنهار } الاتيان بالليل والنهار قيدا لتسبيحهم دليل على ارادة الكملين من الاناسى { وهم لا يسأمون ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة } كناية عن يبسه وقراره { فإذآ أنزلنا عليها المآء اهتزت } اهتزاز الارض بهيجان حبوبها وعروقها لنبت النبات وورق الاشجار { وربت } بالنبات { إن الذي أحياها } بالنبات بعد موتها عن النبات { لمحى الموتى } بالحياة الشريفة الانسانية بعد موتهم عن الحياة الحيوانية بل عن الحياة البشرية عند النفخة الاولى { إنه على كل شيء قدير } من الاماتة والاحياء وغير ذلك.
[41.40]
{ إن الذين يلحدون في آياتنا } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: ما لمن يرى تلك الآيات وينصرف عنها بل يصرفها عن وجهها بالتحريف والتأويل واللغو فيها والطعن والرد والاستهزاء بها؟ - فقال: ان الذين يميلون عن الاستقامة فى الآيات { لا يخفون علينآ أفمن يلقى في النار } فى مقام فيلقون فى النار لكنه أتى بتلك العبارة اشارة الى هذا المعنى مع شيء آخر { خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير } وعيد شديد.
[41.41]
{ إن الذين كفروا بالذكر لما جآءهم } جملة لا يخفون خبر او حال او مستأنفة وجملة افمن يلقى خبر او خبر بعد خبر او حال او مستأنفة والكل بتقدير القول وجملة اعملوا خبر او خبر بعد خبر او حال او مستأنفة والكل بتقدير القول وان الذين كفروا تأكيد لقوله ان الذين يلحدون وخبر ان محذوف بقرينة خبر ان الاولى او مستأنفة جواب لسؤال مقدر والخبر محذوف بقرينة السابق اى لا يخفون او هم الذين يلحدون او الخبر قوله تعالى اولئك ينادون من مكان بعيد { وإنه لكتاب عزيز } مكرم.
[41.42]
{ لا يأتيه الباطل من بين يديه } اى من بعده باتيان رسول وكتاب ينسخه او من قبله بان يبطله الكتب الماضية مثل التوراة والانجيل { ولا من خلفه } بالوجهين { تنزيل من حكيم حميد } فى مقام التعليل لعدم البطلان سواء كان خبر مبتدء محذوف والجملة مستأنفة او حالا او كان خبرا بعد خبر.
[41.43-44]
{ ما يقال لك } جواب سؤال مقدر كأن محمدا (ص) قال: ما افعل بهم وبما يقولون فى حقى او فى حق على (ع)؟ - فقال تعالى تسلية له: ما يقال لك { إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة } فيغفر لهم كثير اقوالهم ولا يؤاخذهم بما يقولون فتأس بهم واغفر لهم { وذو عقاب } فيؤاخذهم بمعاصيهم فلا تعجل لمؤاخذتهم { أليم ولو جعلناه قرآنا أعجميا } كأنهم قالوا بينهم او لمحمد (ص): لو كان من عند الله لكان بلسان مغاير للسان البشر، وقد قيل: انه جواب لقولهم هلا نزل هذا القرآن بلغة العجم؟ { لقالوا لولا فصلت آياته } يعنى لولا نزلت بلغتنا حتى نفهمه؟ { ءاعجمي } يعنى لقالوا ءاعجمى؟ { و } المخاطب، او المنزل عليه { عربي } والاعجمى هو الذى لا يفهم كلامه، ويقال لكلامه ايضا اعجمى وقرئ اعجمى بفتح العين وهمزة واحدة { قل هو للذين آمنوا هدى وشفآء والذين لا يؤمنون في آذانهم } من حيث سماع المعنى والاعراض منه { وقر وهو عليهم عمى } غير مفهوم لهم يقول للكلام الذى لا يفهم معناه عمى ومعمى { أولئك ينادون من مكان بعيد } يعنى هذه الفرقة ينادون بهذا الكتاب من مكان بعيد لا يصل النداء اليهم لان الكتاب نزل من مقام عال الى صدر منشرح بالاسلام وهؤلاء فى غاية البعد من مقام الصدر المنشرح بالاسلام لوغولهم فى البهيمية والسبعية والشيطنة.
[41.45-46]
{ ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه } بالرد والقبول والعمل فيه وترك العمل والعمل ببعضه وترك بعضه كما اختلف قومك فى كتابك { ولولا كلمة سبقت من ربك } بالامهال الى مدة معينة { لقضي بينهم } اى بين المختلفين من قوم موسى (ع) او بين قومك { وإنهم لفي شك منه } من القرآن او من كتاب موسى (ع) { مريب من عمل صالحا } اى صالح كان، او صالحا عظيما هو الولاية والبيعة الخاصة { فلنفسه ومن أسآء } اى عمل سيئة { فعليها وما ربك بظلام للعبيد } اى بذى ظلم يعنى لا يفعل بهم ما لا يستحقونه.
[41.47]
{ إليه يرد علم الساعة } قد فسر الساعة بحين الموت وبالقيامة وبظهور القائم (ع) والكل واحد على التحقيق وعلم ذلك مختص به تعالى واما قولهم (ع): عندنا علم البلايا والمنايا، فهم فى ذلك الهيون لا بشريون { وما تخرج } ما موصولة معطوفة على علم الساعة او نافية والجملة معطوفة على جملة اليه يرد علم الساعة { من ثمرات من أكمامها } جمع الكم بالكسر وهو او الكمامة وعاء الطلع وغطاء النور { وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه } وعلم من يعلم ذلك من افراد البشر من علمه تعالى { ويوم يناديهم } متعلق بمحذوف اى اذكر او ذكرهم او متعلق بقالوا { أين شركآئي } الذين جعلتموهم شركائى فى الوجوب او فى العبادة او فى الطاعة او أين شركائى بحسب مظاهرى وخلفائى من مقابلى على (ع) { قالوا آذناك } اعلمناك بضلالهم عنا او ببراءتنا منهم او قوله تعالى { ما منا من شهيد } مفعولاه معلق عنهما العامل والمعنى ما منا شاهد يشهد لهم بالشراكة، او ما منا احد يشاهدهم لضلالهم عنا، او انكروا اشراكهم وقالوا: ما كان احد منا يشهد بشركهم فى الدنيا.
[41.48]
{ وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل } من الاصنام والكواكب وائمة الضلال ومطلق الرؤساء { وظنوا } اى ايقنوا { ما لهم من محيص } مهرب.
[41.49]
{ لا يسأم الإنسان } الجملة منقطعة عن سابقها لفظا ومعنى، او جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: لم ظنوا ذلك؟ فقال: لان الانسان لا يسأم { من دعآء الخير وإن مسه الشر فيئوس قنوط } فلذلك ظنوا انهم لا محيص لهم.
[41.50-51]
{ ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضرآء مسته ليقولن هذا لي ومآ أظن الساعة قآئمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى } وذلك لما تكرر منا ان الخيال حين الاستيحاش وغلبة الهم يفر كالشيطان ويظهر سلطان العقل فاذا رفع الخوف لا يدعى الحكم للعقل ويظهر بانانيته وينكر المبدء والمعاد كما هو شأنه وشأن الشيطان، ويظن انه ان كان ما يقولون صادقا فالله لا يختار عليه غيره لكرامته عليه { فلننبئن الذين كفروا بما عملوا } كناية عن جزائهم باعمالهم السيئة خلاف ما ظنوه { ولنذيقنهم من عذاب غليظ وإذآ أنعمنا على الإنسان أعرض } عنا وعن شكر نعمنا { ونأى بجانبه } اى نأى عنا ومال الى جانبه بمعنى انه ظهر بانانيته ورؤية نفسه والاعجاب بها وظن ان النعمة باستحقاقها ونسى انعامنا وان النعمة عارية عليها لا مدخلية لها فيها { وإذا مسه الشر فذو دعآء عريض } لحفظ انانيته ووجوده.
[41.52]
{ قل أرأيتم } قد مضى بيان هذه الكلمة فى سورة الانعام عند قوله تعالى:
قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله
[الأنعام: 40] { إن كان } هذا الانعام او الرسول او القرآن او قرآن ولاية على (ع) او نصب على (ع) { من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق } فى طرف من الله او من الرسول (ص) { بعيد } الجملة جزاء الشرط بتقدير القول او بتقدير الفاء فقط او الجزاء محذوف ومن اضل مستأنف.
[41.53]
{ سنريهم آياتنا } جواب لسؤال مقدر ولما كان القرآن خوان اطعام الله وكان فيه وفى آياته طعام الادانى والاعالى والكافر والمؤمن والضال والمهتدى كما يرى من تمسك كل فرقة فى مذهبهم به، ونعم ما قيل:
منعم كامل جو خوانباشى بود
برسر خوانش زهر آشى بود
كان الآية بالنسبة الى كل فرقة جوابا لسؤال غير ما للفرقة الاخرى فكأنه قيل: بالنسبة الى الجاحدين والمنكرين: متى يعترف هذه الفرقة؟ - فقال تعالى: سنريهم آياتنا { في الآفاق } بالنقص فى اموالهم وانفسهم بانواع البلايا التى كانت خارجة من عاداتهم { وفي أنفسهم } بانواع الامراض والاوجاع { حتى يتبين لهم } اى لمن لم يكن له استعداد التوبة والسعادة عند معاينة الموت، ولمن كان له استعداد التوبة قبل ذلك { أنه الحق } فيتوب من يتوب ويشقى من يشقى، وكأنه قيل بالنسبة الى الضالين المتحيرين فى الله او فى الرسالة او فى الولاية: متى يهتدون ويخرجون من التحير والضلال؟ - فقال تعالى: سنريهم آياتنا الدالة على مبدء عليم قدير حكيم رؤف رحيم، او على صدق رسولنا (ص) ورسالته، او على الولى (ع) وولايته فى الآفاق من الآيات السابقة وجبران ما فات منهم، وترتب الفوائد الكثيرة على البلايا الواردة فى الآفاق وفى انفسهم مما ذكر سابقا ومما يشاهدونها فى المنام او فى اليقظة من تبدلات احوالهم ومن بسطاتهم وقبضاتهم ومما القى فى قلوبهم من العلوم والخوف والاستبشار حتى يتبين لهم ان الله حق او الرسول (ص) حق او عليا (ع) حق، وكأنه قيل بالنسبة الى المسلم الذى كان واقفا عن الولاية: متى يظهر عليهم حقية الولاية؟ - فقال تعالى: سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى انفسهم حتى يتبين لهم ان الله هو الحق المضاف الذى هو على (ع)، وبالنسبة الى المؤمن الذى بايع البيعة الخاصة الواقف عن مقام الحضور سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى انفسهم حتى يتبين بظهور ولى الامر فى صدورهم انه الحق، وبالنسبة الى من كان له مقام الحضور عند ربه قوله تعالى { أولم يكف بربك } ولكون هذا لمن كان له مقام الحضور أتى بالخطاب عاما او خاصا بمحمد (ص) { أنه على كل شيء شهيد } حاضر أتى بعلى للاشارة الى احاطته بكل شيء ولذلك قال { ألا إنهم في مرية من لقآء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط }.
[41.54]
{ ألا إنهم في مرية من لقآء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط } لما كان الله تعالى بحسب وجود ذاته بلا نهاية وليس له حد يحد وجوده ولا نهاية ينتهى اليها فلا بد ان لا يخرج من حيطة وجوده شيء من الاشياء فانه لو خرج من وجوده ذرة تحد به ومن حده فقد عده، ومن عده فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزاه، ومن جزاه فقد جهله، ونعم ما قيل برهانا عليه:
اى خداى بى نهايت جز تو كيست
جون توئى بيحدو غايت جزتو كيست
هيج جيز از بى نهابت بيشكى
جون برون نامد كجا ماند يكى
واحاطته بالاشياء ليست كاحاطة الظرف بالمظروف او المكان بالمتمكن بل كاحاطة المقوم بالمتقوم، فانه مع كل شيء بالقيومية وغير كل شيء بحسب حدوده.
[42 - سورة الشورى]
[42.1-3]
{ حم عسق كذلك } الوحى الذى اوحينا اليك قبل ذلك من اخبار المغيبات ومن الاحكام والمواعظ { يوحي إليك } بعد هذا الزمان، او كذلك الوحى بالرمز والحروف المقطعة الذى اوحينا اليك قبل ذلك يوحى اليك بعد ذلك، او كذلك الوحى المحفوف باذى القوم وانكارهم الذى اوحينا اليك يوحى بعد ذلك، او كذلك الوحى باهلاك القوم واسكان الارض يوحى اليك { وإلى الذين من قبلك } اى واوحى الى الذين من قبلك وأتاه بطريق عطف المفرد للاغتفار فى الثوانى او لتقدير المعطوف بقرينة المعطوف عليه، وقرئ: يوحى بالبناء للفاعل، وبالبناء للمفعول، واذا كان مبنيا للمفعول فقوله تعالى { الله العزيز الحكيم } يكون فاعل فعل محذوف او مبتدء والجملة مستأنفة فى موضع التعليل وخبره العزيز او الحكيم او قوله تعالى { له ما في السماوات وما في الأرض }.
[42.4-5]
{ له ما في السماوات وما في الأرض } والمعنى له السماوات والارض وما فيهما { وهو العلي العظيم تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن } من جهة فوقهن او من فوق الاراضى { والملائكة يسبحون } عطف على السماوات عطف المفرد، ويسبحون مستأنف او عطف مع يسبحون على اسم تكاد وخبره، او الجملة معطوفة على جملة تكاد السماوات (الى آخره) { بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض } يعنى لمؤمنى الارض فانهم عقلاء حقيقة وغيرهم ملحقون بالبهائم كما سبق فى سورة المؤمن عند قوله تعالى
ويستغفرون للذين آمنوا
[غافر:7] قال القمى، للمؤمنين من الشيعة التوابين خاصة، ولفظ الآية عام والمعنى خاص ومراده بالتوابين التوابون فى ضمن البيعة الخاصة، وعن الصادق (ع) يستغفرون لمن فى الارض من المؤمنين لان المؤمن الذى بايع البيعة الخاصة الولوية يحصل فى قلبه كيفية الهية هى بمنزلة الانفحة وبتلك الجوهرة الالهية يتوجه اليه الملائكة السماوية ويحف به الملائكة الارضية ويطلبون ستر مساويه من الله ويسترون مساويه ويحفظونه من ظهور المساوى عنه، واما غيره فلا التفات للملائكة السماوية اليه ويتنفر عنه الملائكة الارضية فلا يحفون به ولا يسترون مساويه { ألا إن الله هو الغفور الرحيم } جواب لسؤال مقدر.
[42.6]
{ والذين اتخذوا من دونه أوليآء } اى اولياء حال كونهم غيره، او اتخذوا من دون اذنه اولياء وعلى اى تقدير فالمقصود منهم مقابلوا المؤمنين الذين اتخذوا عليا (ع) وليا { الله حفيظ عليهم } مقابل استغفار الملائكة للذين بايعوا مع على (ع) او معنى حفيظ عليهم حافظ جميع اعمالهم على ضررهم ومن كان الله حافظا عليه لا يدع صغيرا ولا كبيرا من اعماله { ومآ أنت عليهم } برسالتك { بوكيل } حتى تحزن بخلافهم لك او بعنادهم لعلى (ع)، او تحفظ عليهم اعمالهم، او تحفظهم عن المخالفة لعلى (ع).
[42.7-8]
{ وكذلك } الوحى الذى نوحى اليك فى على (ع) او مطلقا { أوحينآ إليك } قبل { قرآنا عربيا } بلسان العرب لا بلسان العجم او ذا حكمة وعلم ومواعظ واحكام، لا اعرابيا لم يكن فيه حكمة ومواعظ واحكام { لتنذر أم القرى } اهل ام القرى { ومن حولها } من اهل الارض جميعا، فان تمام الارض بالنسبة الى عالم المثال تكون حول مكة { وتنذر يوم الجمع } لتنذر جميع الخلق من كل ما ينذر منه من امور الدنيا وامور الآخرة وتنذر من يوم الجمع مخصوصا وهو يوم القيامة لاجتماع الخلائق فيه { لا ريب فيه } قد مضى بيان عدم الريب فى امثاله فى اول البقرة عند قوله تعالى لا ريب فيه { فريق } من المجتمعين { في الجنة وفريق } منهم { في السعير ولو شآء الله لجعلهم أمة واحدة } على دين واحد ومذهب واحد وارادة واحدة هى ارادة الطاعة ولما كان مشيته بحسب استعداداتهم ما شاء ذلك { ولكن يدخل من يشآء } بحسب استعداده { في رحمته والظالمون ما لهم من ولي } يتولى اموره ويجذب خيراته { ولا نصير } يدفع الضر عنه وينصره فى شدائده وقد مضى مكررا ان النبى (ص) بولايته ولى وبرسالته نصير، وغير الاسلوب اشعارا بان الادخال فى الرحمة من اوصافه تعالى الذاتية وعقوبة الظالم من عرضيات رحمته الرحمانية دون اوصافه الذاتية.
[42.9-10]
{ أم اتخذوا من دونه أوليآء } ام ههنا بمعنى بل مع الهمزة او مجردة عن الهمزة فلا يربحوا { فالله هو الولي } لا ولى سواه { وهو يحيي الموتى } عن الحياه الحيوانية او الموتى عن الحياة الانسانية التى هى الولاية التكليفية { وهو على كل شيء قدير وما اختلفتم فيه من شيء } اى مما يصدق عليه اسم الشيء من امر الدين او من امر الدنيا من المعاملات او المعاشرات او المناكحات او التوارث { فحكمه } راجع { إلى الله } يعنى الحكم فى ذلك الشيء بكونه حقا او باطلا صحيحا او فاسدا ينبغى ان يرجع فيه الى الله فى الدنيا بحسب مظاهره الذين هم مظاهر الولاية واصل الكل على (ع) فانه ليس عند احدكم حق الا ما خرج من ذلك البيت ولا يصل البشر الى مقام الغيب حتى يكون الله يحكم بنفسه بينهم، وينتهى حكم ذلك فى الآخرة الى على (ع) لان اياب الخلق اليه وهو قسيم الجنة والنار، واما رجوعه الى كتاب الله بمعنى استنباط حكمه منه فمما لا حاصل له لان الكتاب مجمل متشابه والرجوع اليه من دون الرجوع الى الامام المبين له غير مجد { ذلكم الله ربي } حكاية لقول الرسول (ع) اى قال الرسول لهم، او امر له (ص) بهذا القول بتقدير الامر من القول اى قل لهم، ذلكم الموصوف بهذه الاوصاف ربى { عليه توكلت } فيما تخوفوننى به { وإليه أنيب } فى جميع امورى، او انيب بذاتى فى آخر امرى.
[42.11]
{ فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا } هو من قول الرسول (ص) او ابتداء كلام من الله { ومن الأنعام } الثمانية كما مضى فى سورة الانعام { أزواجا } اى وخلق من الانعام ازواجا ذكرا وانثى، او ازواجا اهلية ووحشية، او خلق لكم من الانعام ازواجا { يذرؤكم فيه } اى يكثركم ويبثكم فى جعل الازواج من انفسكم والازواج من الانعام وهذه الجملة ايضا من قول الرسول (ص) او من الله تعالى { ليس كمثله شيء } الكاف زائدة او اسمية وهى خبر ليس وحينئذ يكون الكلام مبالغة فى نفى المماثلة لا انه يكون اثباتا للمثل له وقد مضى فى اول البقرة ان الله تعالى وجود بحت وبسيط الحقيقة، واقتضاء بساطته ان لا يكون له ثان والا كان مركبا واذا لم يكن له ثان لم يكن له مثل ولا ضد { وهو السميع البصير } بمنزلة النتيجة لنفى المثل عنه لانه اذا لم يكن له مثل فلم يكن سمع الا كان سمعه، ولا بصر الا كان بصره، والا كان غيره سميعا وبصيرا مثله فيكون السمع والبصر محصورا فيه { له مقاليد السماوات والأرض } المقلاد كالمفتاح والقليد كالسكيت الخزانة.
[42.12]
{ له مقاليد السماوات والأرض } المقلاد كالمفتاح والقليد كالسكيت الخزانة { يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر } على قدر استعداده { إنه بكل شيء عليم } فيعلم قدر استعداد كل واستحقاقه.
[42.13]
{ شرع لكم } اى جعل لكم مشرعا وجادة { من الدين ما وصى به نوحا } الجمل السابقة يحتمل كل منها كونه من قول الرسول (ص) وكونه ابتداء كلام من الله كما اشرنا اليه وكان قوله تعالى { والذي أوحينآ إليك } عطفا على ما وصى به نوحا عطف المفرد ويجوز ان يكون مستأنفا من الله سواء جعلت الجمل السابقة من الله او من الرسول (ص) ويكون حينئذ مبتدء وخبره ان اقيموا الدين او كبر على المشركين ويكون العائد مستترا فى كبر وما تدعوهم اليه بدلا منه { وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين } ان تفسيرية او مصدرية والدين يطلق على الطريق الى الله، والطريق الى الله تكوينا هى الولاية التكوينية وتكليفا الولاية التكليفية وقد فسر بعلى (ع) وعلى الاعمال التى تعين السالك على الطريق فى سيره ولذلك يسمى الملة دينا، واقامة الدين بوصل كل مرتبة من الطريق الى المرتبة الاخرى وبوصل اعمال كل مرتبة منها الى اعمال المرتبة الاخرى نظير اقامة الصلاة وقد مضى تفصيل اقامة الصلاة فى اول البقرة { ولا تتفرقوا فيه } فى الدين اى الاعمال اللازمة للطريق او نفس الطريق او فى على (ع) وولايته بان اختار كل عملا وطريقا مغايرا لعمل الآخر وطريقه، او بان يكون كل له طرق عديدة واعمال مختلفة، او يكون فى عمله اهوية عديدة واغراض كثيرة { كبر على المشركين } بالله او بالولاية { ما تدعوهم إليه } من التوحيد وحصر العبادة فى الله او من الولاية { الله يجتبي } اى يولى بالاجتباء { إليه من يشآء } فلا تحزن انت على ادبارهم عن الله او عن على (ع) { ويهدي } اى يوصل او يسلك { إليه من ينيب } من يرجع اليه، عن الصادق (ع) ان اقيموا قال الامام (ع) ولا تتفرقوا فيه كناية عن امير المؤمنين (ع) ما تدعوهم اليه من ولاية على (ع) من يشاء كناية عن على (ع) وبهذا المضمون وبالقرب منه اخبار كثيرة، ولما كان القرآن ذا وجوه كثيرة كان هذا احسن وجوهه.
[42.14]
{ وما تفرقوا إلا من بعد ما جآءهم العلم } بصحة دين نبيهم او بصدق خلافة على (ع) فقبل بعضهم على علم، وانكر بعضهم حسدا { بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك } بامهالهم { إلى أجل مسمى لقضي بينهم } بالاهلاك للمنكر والخلاص للمقر من بين المنكر { وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم } بعد الانبياء (ع) واممهم { لفي شك منه مريب } وقد فسر بغيا بينهم ببغى بعضهم على بعض لما رأوا من تفاضل امير المؤمنين (ع) وقوله تعالى لفى شك منه مريب بانه كناية عن الذين نقضوا امر رسول الله (ص).
[42.15]
{ فلذلك فادع } اى للدين واقامته، او لعلى (ع) وولايته واللام بمعنى الى او للتعليل، ويكون المعنى ادع جميع الناس الى الشريعة التى شرعتها لك لاجل الولاية فان الاسلام اى الشريعة هداية الى الولاية، ولو لم يكن الولاية لم يكن للاسلام فائدة، وعن الصادق (ع) يعنى الى ولاية امير المؤمنين (ع) { واستقم } واعتدل وتمكن فى الدين { كمآ أمرت } كاستقامة امرت بها وهى الاستقامة فى جميع المقامات وفيما فوق الامكان وهو حقيقة الولاية ولعدم انضمام الامة معه (ص) ههنا لم يرد منه ما ورد فى سورة هود من قوله:
" شيبتنى سورة هود "
{ ولا تتبع أهوآءهم } فى الدين او فى ولاية امير المؤمنين (ع) { وقل آمنت بمآ أنزل الله من كتاب } فى الامم الماضية وفى هذا الزمان حتى يكون تعريضا بالايمان بكتاب ولاية على (ع) وتعريضا بهم فى عدم الايمان بولاية على (ع) { وأمرت لأعدل بينكم } ومن العدالة بينكم اقامة رجل منكم اماما لكم لرفع الخلاف بينكم بعد وفاتى واقامة عوجكم { الله ربنا وربكم لنآ أعمالنا ولكم أعمالكم } فما اقول لكم من الامر والنهى نفعه لكم وضره عليكم لا نفع ولا ضر منه على حتى تتهمونى فى ذلك { لا حجة } لا محاجة { بيننا وبينكم } لظهور الحق وبرهانه وعدم الحاجة الى المحاجة فهو بمنزلة المتاركة معهم { الله يجمع بيننا } تهديد لهم بمحاكمة الله بينهم { وإليه المصير } فيحكم للمحق على المبطل.
[42.16-17]
{ والذين يحآجون في الله } اى يحاجون الله فى على (ع) بعد الموت او فى القيامة او فى عبادة الله ومعصيته بعد الموت او فى القيامة، او يحاجون خلفاء الله والمؤمنين فى حق الله اى فى دينه او فى حقيته وثبوته او فى عبادته او فى الاشراك به او فى السلوك اليه او فى توحيده او فى مظاهره يعنى فى نبوتهم وخلافتهم خصوصا فى خلافة على (ع) او فى اعادته، وفى الجملة فى جملة صفاته الحقيقية او الاضافية وفى جملة افعاله وفى مظاهره { من بعد ما استجيب له } فى ندائه ونداء ملائكته للموت او فى ندائه فى القيامة للحساب، او من بعد ما استجيب له فى نداء خلفائه ودعوتهم وظهور حجتهم وعدم بقاء الاشتباه فى حقيتهم، او من بعد ما استجيب للنبى (ص) دعاءه على الكافرين والمشركين بقتلهم يوم بدر وبقحط اهل مكة وبنى مضر، او من بعد ما استجيب للنبى (ص) فى اعطاء المعجزات او من بعد ما استجيب لاجل النبى (ص) فان اليهود كانوا يستفتحون بمحمد (ص) ويجابون فى استفتاحهم { حجتهم داحضة عند ربهم } اى باطلة { وعليهم غضب } لكونهم ظالمين فى محاجتهم { ولهم عذاب شديد الله الذي أنزل الكتاب } كتاب النبوة والرسالة او كتاب الولاية والقرآن صورة الكل { بالحق } بسبب الحق المخلوق به او متلبسا بالحق والجملة مستأنفة جواب لسؤال مقدر وتسلية للرسول فى محاجتهم كأنه قيل: هل لهم ان يبطلوا الكتاب او يمنعوا عليا (ع) عن مقامه او يبطلوا الدين؟ - فقال تعالى: الله لا غيره هو الذى انزل الكتاب بالحق فلا يأتيه البطلان { والميزان } قد سبق فى اول سورة الاعراف وفى سورة الانبيا بيان اجمالى للوزن والميزان، ولما كان المراد بالكتاب النبوة او الرسالة او الولاية او الكتاب التدوينى الذى هو صورة الكل او الاحكام الملية التى هى ايضا صورة الكل وكان كل منها ميزانا لوجود العباد واعمالهم واحوالهم واخلالقهم واقوالهم عطف على الكتاب الميزان { وما يدريك لعل الساعة قريب } فلا تحزن على عدم مؤاخذتهم، والخطاب عام او خاص بالنبى (ص) وتعريض بالامة وتهديد للكفار ومنافقى الامة، ولجعل قريب شبيها بالفعيل بمعنى المفعول قد يسوى فيه بين المذكر والمؤنث.
[42.18]
{ يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها } اى لا يذعنون فيسخرون منها ويستعجلون بها { والذين آمنوا } اى اذعنوا بها والذين اسلموا بالبيعة العامة او آمنوا بالبيعة الخاصة { مشفقون منها } خائفون منها لعلمهم بالحساب على الجليل والقليل فيها { ويعلمون أنها الحق } الثابت { ألا إن الذين يمارون في الساعة } سواء اريد بالساعة ساعة ظهور القائم او ساعة القيامة او ساعة الرجعة او ساعة الموت { لفي ضلال بعيد } قيل: كانوا يقولون لرسول الله (ص): اقم لنا الساعة وائتنا بما تعدنا ان كنت من الصادقين فرد الله عليهم.
[42.19]
{ الله لطيف } اى بر { بعباده يرزق من يشآء } العلم والفهم والايمان ويؤخر عنهم الساعة لعلهم يتوبون ويتذكرون فيعترفون { وهو القوي } الذى يقدر على ما يشاء { العزيز } الذى لا يمنعه مانع من فعله فتأخير مؤاخذتهم ليس لعجز ولا لمانع منه عن ذلك بل للطفه بهم.
[42.20]
{ من كان يريد حرث الآخرة } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: فليس لمن سعى للآخرة او للدنيا شيء من سعيه؟ - فقال تعالى: من كان يريد بسعيه حرث الآخرة { نزد له في حرثه } اعطيناه بقدر سعيه وزدناه على سعيه { ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها } بقدر حرثه او اقل منه فانه لا يفيد فى مقابل نزد له فى حرثه ازيد من ذلك { وما له في الآخرة من نصيب } لانه ما زرع للآخرة، عن الصادق (ع): المال والبنون حرث الدنيا، والعمل الصالح حرث الآخرة، وقد يجمعها الله لاقوام، وعنه (ع): من اراد الحديث لمنفعة الدنيا لم يكن له فى الآخرة من نصيب، ومن اراد خير الآخرة اعطاه الله خير الدنيا والآخرة، والاخبار فى ان من كان همته الدنيا باعماله واقواله فرق الله عليه امره، وشتت باله وجعل الفقر بين عينيه، ولم يأته من الدنيا الا ما كتب له، ومن كانت همته الآخرة جمع الله شمله، وجعل غناه فى قلبه، وأتته الدنيا وهى راغمة كثيرة، وقيل للصادق (ع): الله لطيف بعباده يرزق من يشاء؟ - قال: ولاية امير المؤمنين (ع)، قيل من كان يريد حرث الآخرة؟ - قال: معرفة امير المؤمنين (ع) والائمة (ع)، قيل نزد له فى حرثه؟ - قال: نزيده منها يستوفى نصيبه من دولتهم ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله فى الآخرة من نصيب، قال ليس له فى دولة الحق مع الامام (ع) نصيب.
[42.21]
{ أم لهم شركاء } لله يأمرونهم بخلاف ما يأمرهم الله { شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } مما جعلوه ملة من البحيرة والسائبة وغير ذلك { ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم } كلمة الفصل هى اللطيفة الانسانية الفاصلة للانسان من سائر الحيوان وهى الولاية التكوينية وهى ما به عناية الحق للانسان وتكريمه له ويمهل الله الانسان حتى تظهر تلك اللطيفة وتستكمل او تذهب من الانسان ويلتحق الانسان بالانعام بل يصير اضل منها واذا خرجت من الانسان وانقطعت منه يصير الانسان مرتدا فطريا غير مقبول التوبة وواجب القتل بحسب احكام الشرع، وما ورد عن الباقر (ع) فى تفسير الآية من قوله: لولا ما تقدم فيهم من الله عز ذكره ما ابقى القائم منهم احدا، ولعل المراد بالقائم هو خليفة الله القائم بأمره للعباد، يؤيد ما ذكرنا فى تفسيره كلمة الفصل { وإن الظالمين لهم عذاب أليم } جملة حالية والمعنى ان الظالمين لآل محمد (ص) فى وجودهم وهم اللطيفة المذكورة وكل من تولد منها سواء كانوا ظالمين لآل محمد (ص) فى الخارج او لم يكونوا لهم عذاب اليم فى الدنيا والحال الحاضر لكن لخدارة اعضائهم لا يشعرون به، او فى الآخرة لكن لعدم تيقنهم بالعذاب فى الآخرة ظلموهم.
[42.22-23]
{ ترى } فى الحال او سوف ترى فى الآخرة والخطاب خاص بمحمد (ص) او عام { الظالمين مشفقين } خائفين { مما كسبوا } من جزاء ما كسبوا من الاعمال او من نفس ما كسبوا بناء على تجسم الاعمال فى الدنيا كما هو حال بعض المذنبين او فى الآخرة كما هو حال الجميع { وهو واقع بهم } فى الدنيا ولكن لا يشعرون به او فى الآخرة { والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات } عطف على مفعولى ترى اى وترى الذين آمنوا (الى آخرها)، او عطف على اسم ان وخبرها، او على جملة ان الظالمين (الى آخرها) او على جملة ترى الظالمين او على جملة هو واقع بهم { لهم ما يشآءون عند ربهم } الظرف مستقر وحال عن فاعل يشاؤن او عن الموصول او عن مجرور لهم او عن المستتر فيه او خبر بعد خبر او خبر مبتدء محذوف، او متعلق بيشاؤن او بل هم { ذلك } المذكور { هو الفضل الكبير ذلك } المذكور العظيم القدر البعيد المنزلة { الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات } قد مضى مكررا ان المراد فى امثال هذه العبارة بالايمان الاسلام الحاصل بالبيعة العامة، او نفس البيعة العامة وبالعمل الصالح الايمان الحاصل بالبيعة الخاصة، او نفس البيعة الخاصة، او المراد بالايمان الايمان الخاص الحاصل بالبيعة الخاصة او نفس تلك البيعة، وبالعمل الصالح العمل بشروط تلك البيعة { قل لا أسألكم عليه } اى على هذا الامر الذى انا فيه من تبليغ رسالة الله ودعائكم الى الايمان بالله { أجرا } منكم حتى تتهمونى بطلب الدنيا فى ادعائى { إلا المودة في القربى } الاستثناء متصل والمودة فى القربى وان كانت نافعة لهم وتكميلا لنفوسهم ولكن باستكمالهم ينتفع النبى لكونهم (ص) اجزاء له وسعة لوجوده فقوله تعالى:
قل ما سألتكم من أجر فهو لكم
[سبأ:47] اشارة الى كلا الانتفاعين حيث جعله اجرا له من حيث انتفاعه بمودتهم لاستكمالهم بها وسعته (ص) باستكمالهم، فما قيل: انه استثناء منقطع، ليس فى محله، والقربى مصدر قرب والمقصود المودة فى التقرب الى الله او فى حال قربكم من الله فيكون بمعنى الحب فى الله او المعنى التحاب فى ما تقرب الى الله من الاعمال، او المعنى لا أسألكم اجرا الا ان تودونى لاجل قرابتى منكم، هكذا قيل، ولكن ما وصل الينا من ائمتنا (ع) فى اخبار كثيرة ان المعنى لا أسألكم اجرا الا ان تودوا أقربائى، فيكون القربى مصدرا بمعنى اسم الفاعل، ويكون التعبير بالمصدر للاشعار بان مودة أقربائى نافع لكم من حيث قرابتهم لى جسمانية كانت القرابة او روحانية، وروى ان رسول الله (ص) حين قدم المدينة واستحكم الاسلام قالت الانصار فيما بينها: نأتى رسول الله (ص) فنقول له: انه يعروك امور فهذه اموالنا تحكم فيها غير حرج ولا محظور عليك، فأتوه فى ذلك، فنزلت: قل لا اسألكم عليه اجرا الا المودة فى القربى، فقرأها عليهم وقال: تودون قرابتى من بعدى، فخرجوا من عنده مسلمين لقوله فقال المنافقون: ان هذا لشيء افتراه فى مجلسه اراد بذلك ان يذللنا لقرابته من بعده فنزلت: ام يقولون افترى على الله كذبا، فأرسل اليهم فتلاها عليهم فبكوا واشتد عليهم فأنزل الله وهو الذى يقبل التوبة عن عباده (الآية) فارسل فى اثرهم فبشرهم، وبهذا المضمون وبالقرب منه اخبار كثيرة { ومن يقترف حسنة } قد مضى منا مكررا ان الحسن الحقيقى والحسنة الحقيقية هى الولاية لا غير، وكلما كان متعلقا بالولاية من قول وفعل وحال وخلق وعلم وشهود وعيان فهو حسن بحسنها، وكلما لم يكن متعلقا بالولاية كان قبيحا ولذلك فسروا فى اخبار كثيرة اقتراف الحسنة بولايتهم ومودتهم سواء جعل التنكير للتفخيم او للتحقير { نزد له فيها حسنا } اى نزد له فى تلك الحسنة حسنا لان الحسنة اذا حصل منها فعلية حسنة للنفس وبقى الفاعل على تلك الفعلية ولم يبطلها ولم يحرقها زادها الله تعالى لان الكون باقتضاء ذاته فى الترقى { إن الله غفور } يغفر ما كسب من سيئة قبل تلك الحسنة { شكور } واقتضاء شكوريته الزيادة فى تلك الحسنة الى عشر الى ما شاء الله.
[42.24]
{ أم يقولون افترى على الله كذبا } قد مضى وجه نزول هذه الآية { فإن يشإ الله يختم على قلبك } حتى تفترى على الله فاشكر نعمة عدم الختم والايحاء اليك فيكون اظهارا لمنته عليه بشرح صدره وعدم ختمه، او المعنى ان يشأ الله عدم اظهار فضل عترتك يختم على قلبك حتى لا يوحى اليك فضل اهل بيتك فأظهر فضل اهل بيتك ولا تبال بردهم وقبولهم فان الله حافظ لهم ومظهر لفضلهم ويكون تسلية له (ص) عن انكار قومه { ويمح الله الباطل } فلو كان قول محمد (ص) افتراء وباطلا لمحاه الله عن الايام والحال انه فى ازدياد الثبات فى الايام { ويحق الحق } فلو لم يكن قوله حقا لما حق بكلماته التكوينية التى هى افراد البشر، او المعنى انه يمح الله الباطل عن القلوب من الشك والريب فى اهل بيتك ويحق الحق الذى هو ولاية اهل بيتك فى القلوب فى امد الزمان، او المعنى انه يمح الله الباطل عن الزمان ويحق الحق الذى هو على (ع) والائمة (ع) وولايتهم { بكلماته } الذين هم خلفاؤك بعدم { إنه عليم بذات الصدور } فيعلم ما يلج فى قلوب المنافقين من عداوتك وعداوة اهل بيتك.
[42.25]
{ وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات } قد مضى وجه نزول الآية. اعلم ان اكثر ما ورد من ذكر التوبة فى الكتاب كان المراد منها التوبة التى تكون على ايدى خلفائه تعالى فى ضمن الميثاق والبيعة، والقابل لتلك التوبة فى الظاهر هو خليفة الله الذى يكون البيعة على يده لكنه لما كان مظهرا لصفاته تعالى خصوصا حين اخذ البيعة من العباد نسب قبول التوبة الى نفسه بطريق الحصر كما فى قوله تعالى:
فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم..
[الأنفال: 17] فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم { ويعلم ما تفعلون } قرئ بالخطاب وبالغيبة.
[42.26]
{ ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات } اى يستجيبهم فى دعائهم مطلقا، او فى دعائهم لله ولقائه، او فى دعائهم لاخوانهم بظهر الغيب كما فى الخبر والمراد بالايمان الاسلام، او الايمان الخاص، وعلى الاول فالمراد بالعمل الصالح البيعة الخاصة والايمان الخاص، او المعنى يستجيب الذين آمنوا لله وللنبى (ص) فى مودة اقربائه (ص) { ويزيدهم } على مسؤلهم { من فضله والكافرون } بولاية على (ع) { لهم عذاب شديد } وللاشارة الى ان عذاب الكافرين من لواحق اعمالهم ومن توابع مشيته بالعرض غير الاسلوب.
[42.27]
{ ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض } اعلم، ان النفس الانسانية ليس اختيالها وظلمها وعداوتها مع خلق الله وعدولها عن الحق الا لانانيتها واعجابها بنفسها، وكلما قلل حاجتها وزاد غناءها زاد فى انانيتها، وكلما زيد فى انانيتها زاد اعجابها بنفسها ولوازم اعجابها من تحقير العباد والعداوة مع من يظن انه يريد الاستعلاء عليه والظلم على من يقابله ولا يكون ملائما لحاله والعدول عن الحق، واذا بسط الله الرزق النباتى من المأكول والمشروب او الرزق الحيوانى من الشهوات البهيمية والبسطات السبعية والاعتبارات الشيطانية او الرزق الانسانى من الالهامات والعلوم والحكم والمكاشفات الصورية والمعنوية على العباد عدوا على العباد وظلموهم وحقروهم وعدلوا عن الحق فان الانسان ما كان باقيا عليه شوب من نفسه كانت العلوم الصورية مورثة لازدياد انانيته وكذلك المشاهدات الصورية والمكاشفات المعنوية فان المذاهب الباطلة اكثرها تولدت من المشاهدات التى كانت للناقصين كما سبق منا تفصيل ذلك { ولكن ينزل } الارزاق الثلاثة على العباد { بقدر ما يشآء } يعنى ينزل ما يشاء ان ينزل بقدر استحقاق المنزل عليه لانه لا يشاء ما يشاء الا بحسب حال من يشاء له وقوله { ولو بسط الله الرزق } (الى قوله) بصير لرفع توهم نشأ من قوله تعالى
يستجيب الذين آمنوا
[الشورى: 26] فانه يورث توهم انه لو كان هذا حقا لكان ينبغى ان لا يكون من المؤمنين فقير محتاج مع ان اكثر المؤمنين محتاجون فى امر معيشتهم { إنه بعباده خبير بصير } تعليل لسابقه يعنى انه يعلم قدر استحقاقهم وقدر ما يصلحهم وما يفسدهم فيعطى المؤمنين قدر ما يصلحهم، والكافرين قدر ما يصلح العالم والنظام الكلى، وقدر ما يصلح المؤمنين فان من العباد من لا يصلحه الا الفقر ومنهم من لا يصلحه الا الغنى ولو اصبح المؤمن يملك ما بين المشرق والمغرب لكان خيرا له، ولو اصبح يقطع اربا اربا لكان خيرا له.
[42.28]
{ وهو الذي ينزل الغيث } المطر النافع الذى يغيثهم من الجذب ولذلك سمى غيثا والجملة فى معنى التعليل لقوله ينزل بقدر { من بعد ما قنطوا وينشر رحمته } بيان لانزال الغيث وتسميته للمطر باسم آخر فانه يسمى المطر فى العرف بالرحمة لانه رحمة من الله على العباد والحيوان والنبات، او المراد مطلق الرحمة سواء كانت مطرا او غيره فيكون تعميما بعد التخصيص { وهو الولي } الذى يتولى امور عباده وسائر مخلوقاته فيربيهم احسن التربية { الحميد } الذى لا محمود سواه وكان محمودا فى نفسه.
[42.29]
{ ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دآبة } فان فى خلق السماوات بهيئة خاصة وحركة مخصوصة وكوكب ومدار خاص، وفى خلق الارض بسيطة قابلة لانحاء التصرف فيها من بناء الابنية وزرع الزراعات وغرس الاشجار واجراء المياه على وجهها، وقبولها تأثيرات السماوات والسماويات، وفى خلق المواليد على وجهها كل بنحو خاص لائق بنوعه وببقائه آيات عديدة دالة على علمه بالجزئى والكلى واحاطته وقدرته ورأفته بخلقه وغير ذلك { وهو على جمعهم إذا يشآء قدير } بمنزلة النتيجة فان الذى نشر هذه المواليد بعد ما لم تكن اذا شاء ان يجمعهم جمعهم وهو اسهل عليه من نشرهم.
[42.30]
{ ومآ أصابكم من مصيبة } عطف فيه ايضا رفع توهم انه لو كان ينشر رحمته وكان وليا لعباده حميدا فى صفاته فلم يصاب العباد بالمصائب { فبما كسبت أيديكم ويعفوا } برحمته وتربيته { عن كثير } مما كسبت ايديكم وهل ذلك عام لكل من يصاب او خاص ببعض والبعض الآخر مصيبته لرفع درجته لا لذنب وقع منه كما فى الاخبار ، ويمكن التعميم بتعميم الذنب للذنوب التى عدوها فى الشريعة ذنوبا ولما يعد فى الطريق ذنوبا ولما يعد من المقربين ذنوبا، فان خطرات القلوب ذنوب الاولياء (ع)، والالتفات الى غير الله ذنوب الانبياء (ع)، مع انهم كانوا مأمورين بالتوجه الى الكثرات، وعن الصادق (ع) انه سئل: ارأيت ما اصاب عليا (ع) واهل بيته (ع) من بعده؟! اهو بما كسبت ايديهم؟ وهم اهل بيت طهارة معصومون؟! فقال: ان رسول الله (ص) كان يتوب الى الله ويستغفره فى كل يوم وليلة مائة مرة من غير ذنب، ان الله يخص اولياءه بالمصائب ليأجرهم عليها من غير ذنب، وعن على (ع) انه قال: قال رسول الله (ص):
" خير آية فى كتاب الله هذه الآية، يا على ما من خدش عود ولا نكبة قدم الا بذنب، وما عفا الله عنه فى الدنيا فهو اكرم من ان يعود فيه، وما عاقب عليه فى الدنيا فهو اعدل من ان يثنى على عبده ".
[42.31]
{ ومآ أنتم بمعجزين في الأرض } قانتين عن الله { وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير } قد مضى مكررا بيان الولى والنصير.
[42.32]
{ ومن آياته الجوار } قرئ بحذف الياء فى الوصل والوقف اجراء للوصل بنية الوقف، وقرئ باثباتها فيهما، وقرئ بحذفها فى الوصل دون الوقف { في البحر كالأعلام } العلم محركة الجبل الطويل او عام.
[42.33]
{ إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد } ثوابت { على ظهره } اى ظهر البحر { إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور } لكل مؤمن كامل الايمان فان الايمان نصفان، نصف صبر ونصف شكر، ولاختفاء دلالة السفن على علمه وقدرته وحكمته واعتنائه بخلقه واحتياجها فى الدلالة المذكورة الى تأمل تام وتوجه كامل الى الحق الاول بحيث يرى كل النعم منه ويراه فى انعامه قال لكل صبار شكور.
[42.34]
{ أو يوبقهن } يهلكن بالاغراق واهلاك اهلهن { بما كسبوا ويعف عن كثير } قرئ يعف بالجزم عطفا على يوبقهن اى ان شاء يوبقهن بارسال الريح العاصف وان شاء يعف عن كثير، وقرئ يعفو بالرفع على الاستيناف ومعنى الاستدراك والمعنى لكنه يعفو عن كثير.
[42.35]
{ ويعلم الذين يجادلون في آياتنا } قرئ بالجزم وبالرفع وهو واضح، وقرئ بالنصب بجعل الواو بمعنى مع ونصب الفعل بعده { ما لهم من محيص } مخلص من العذاب.
[42.36]
{ فمآ أوتيتم } عطف وتعقيب باعتبار الاخبار يعنى اذا علمتم ذلك فاعلموا ان ما اوتيتم { من شيء } من حيث انكم من ابناء الدنيا { فمتاع الحياة الدنيا } ولا بقاء له ولا خلوص من شوب الآلام وخوف الزوال { وما عند الله خير } لعدم شوبه بالآلام وخوف الزوال { وأبقى للذين آمنوا } متعلق بخير وابقى، او خبر مبتدء محذوف اى ذلك للذين آمنوا { وعلى ربهم يتوكلون } والمراد بالايمان الاسلام الحاصل بالبيعة العامة وقبول الدعوة الظاهرة فيكون قوله وعلى ربهم يتوكلون اشارة الى الايمان الخاص الحاصل بالبيعة الخاصة وقبول الدعوة الباطنة.
[42.37]
{ والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش } جمع الفاحشة الزنا مخصوصا، او ما يشتد قبحه من الذنوب، او كل ما نهى الله عز وجل عنه، وعلى الاولين يكون من قبيل ذكر الخاص بعد العام للاهتمام به، ويجوز ان يكون عطفا على الاثم وعلى كبائر الاثم، وعلى الثالث يكون مرادفا للاثم وعطفا عليه تأكيدا وقد سبق فى سورة النساء بيان الكبيرة والصغيرة عند قوله:
إن تجتنبوا كبآئر ما تنهون عنه
[النساء:31] { وإذا ما غضبوا هم يغفرون } هم مبتدء ويغفرون خبره والجملة جواب بحذف الفاء، او بجعل اذا خالية من معنى الشرط، او لعدم حاجتها الى الفاء لضعف معنى الشرطية فيها، او هم تأكيد للضمير المتصل او فاعل غضبوا راجع الى الناس وهم مفعول غضبوا بحذف الخافض اى اذا غضب الناس عليهم يغفرون، او هم فاعل فعل محذوف والمذكور يفسره.
[42.38]
{ والذين استجابوا لربهم } فى دعوة خلفائه (ع) دعوة عامة اسلامية او دعوة خاصة ايمانية، او الذين استجابوا لربهم المضاف وهو ربهم فى الولاية فى دعوته الباطنة الى الولاية { وأقاموا الصلاة } بعد قبول الولاية فان اقامة الصلاة لا يتيسر لاحد بدون قبول الولاية { وأمرهم شورى بينهم } اى امرهم ذو شورى يعنى يستشيرون فى امورهم ولا يستبدون بآرائهم لخروجهم من انانياتهم واعتماد كل على الآخر فى طلب الخير وبيانه له { ومما رزقناهم ينفقون } قد مضى فى اول البقرة بيان اقامة الصلاة وكيفية الانفاق وفى سورة النساء عند قوله:
لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى
[النساء: 43] بيان معانى الصلاة.
[42.39]
{ والذين إذآ أصابهم البغي هم ينتصرون } هم تأكيد للضمير المنصوب، او مبتدء مثل هم يغفرون، ولما كان الانظلام مذموما ومعدودا من الرذائل ذكرهم بوصف الانتصار يعنى ان شأنهم الانتصار، واما العفو عن المسيء وترك الانتقام مع وجود قوة المدافعة فى المظلوم فليس انظلاما مذموما بل هو عفو ممدوح، والانظلام ان لا يكون فى المظلوم قوة ثوران الغضب عند الظلم، ولما كان النفس المنتصرة لا تقنع فى الانتصار بقدر الظلم بل تطلب الزيادة على الجناية قال تعالى: تأديبا لعباده { وجزآء سيئة سيئة مثلها }.
[42.40]
{ وجزآء سيئة سيئة مثلها } وسمى الثانية سيئة للمشاكلة، او لانها اساءة بالنسبة الى الجانى يعنى لا تزيدوا فى الانتصار عن المماثلة { فمن عفا } عن المسيء بترك الانتقام بعد الاقتدار عليه، والجملة معطوفة على جملة جزاء سيئة سيئة والفاء للترتيب فى الاخبار يعنى اذا علمت ان التجاوز فى الانتصار عن المماثلة ليس جزاء للسيئة بل كان ظلما فاعلم ان من عفى { وأصلح } اساءة المسيء بالعفو { فأجره على الله } غاية تفخيم للعفو حيث لا يوكل اجره الى غيره { إنه لا يحب الظالمين } جواب سؤال مقدر كأنه قيل: ايحب الله الظالم فيأمر بالعفو عنه؟ - فقال: { إنه لا يحب الظالمين } فلا يرغب فى العفو حبا لهم بل حبا للمؤمنين بتعرضهم للثواب الجزيل، او تعليل لقوله ينتصرون او لقوله جزاء سيئة سيئة او لقوله فمن عفى واصلح فأجره على الله اى لما يستفاد منه من الترغيب على العفو كأنه قال: ان الانتقام نحو ظلم بالنسبة الى القوة العاقلة التى شأنها العفو فان شأنه شأن الله العفو الغفور، وانه لا يحب الظالمين فاتركوا الانتقام واعفوا عن المسيء.
[42.41]
{ ولمن انتصر بعد ظلمه } عطف فيه رفع توهم ان المنتصر ظالم وغير محبوب فكان له مؤاخذة دنيوية وعقوبة اخروية { فأولئك ما عليهم من سبيل } لا فى الدنيا ولا فى الآخرة.
[42.42-43]
{ إنما السبيل } فى الدنيا بالمؤاخذة وفى الآخرة بالعقوبة { على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض } فى العالم الصغير او الكبير { بغير الحق } والمنتصر وان كان ظالما بوجه على المسيء وعلى قوته العاقلة لكنه ظلم بالحق { أولئك لهم عذاب أليم ولمن صبر } اى لكن من صبر عن الانتقام { وغفر } بتطهير القلب عن الحقد على المسيء { إن ذلك لمن عزم الأمور } اى الامور التى ينبغى ان يعزم عليها لكونها من اجل الخصال.
[42.44-45]
{ ومن يضلل الله } استدراك اى ولكن من يضلل الله عن هاتين الخصلتين بالاقدام على الاقتصاص { فما له من ولي من بعده } سمى عدم الوصول والاهتداء الى تينك الخصلتين ضلالا لانه انحراف عن الكمال الانسانى الذى هو الجادة الى الله، او المعنى ومن يضلله الله بالجناية والظلم على العباد بغير الحق { وترى الظالمين } الخطاب خاص بمحمد (ص) وحينئذ جاز ان يكون ترى للاستقبال وجاوز ان يكون للحال فانه يرى حالهم فى الحال، او الخطاب عام وحينئذ يكون للاستقبال او للحال بمعنى ينبغى ان ترى { لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل وتراهم يعرضون عليها } اى على النار قبل دخولهم النار { خاشعين من الذل } والخشوع من الذل لا ينفع بخلاف الخشوع من الحب فانه متى وجد نفع { ينظرون من طرف خفي } الطرف العين او حركة جفنيها، فان كان بمعنى العين فالمعنى من طرف خفى النظر، وان كان بمعنى حركة الجفنين فالمعنى ينظرون نظرا ناشئا من حركة خفية لاجفانهم والمقصود انهم لغاية خوفهم ووحشتهم لا يقدرون على النظر التام الى النار { وقال الذين آمنوا } التأدية بالماضى لتحقق وقوعه ان كان المراد انهم يقولون يوم القيامة ذلك بعد ما رأوا الظالمين فى العذاب او لكونه بالنسبة الى محمد (ص) ماضيا، او المعنى قال الذين آمنوا فى حال الحياة الدنيا بعد ما علموا بحال الظالمين وسوء عاقبتهم { إن الخاسرين الذين خسروا } يعنى ان الخاسرين هؤلاء الظالمون الذين خسروا { أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا إن الظالمين في عذاب مقيم } هذا من قول المؤمنين او من الله.
[42.46]
{ وما كان لهم من أوليآء } هذا ايضا من المؤمنين او من الله { ينصرونهم من دون الله ومن يضلل الله فما له من سبيل } الى الخير والنجاة.
[42.47]
{ استجيبوا لربكم } هذا بمنزلة النتيجة وجواب لسؤال مقدر كأنه قيل: فما نفعل حتى لا نكون ظالمين؟ - فقال: استجيبوا لربكم المطلق فى دعوة مظاهره وخلفائه او لربكم المضاف الذى هو ربكم فى الولاية { من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله } المراد باليوم البلية والعذاب فانه كثيرا ما يستعمل فيها، او المراد يوم الموت او يوم القيامة، والضمير المجرور راجع الى صاحبه او عذابه اى لا مرد لصاحبه الى الدنيا، او لعذابه عن اهله، او المعنى لا مرد بتأخيره { ما لكم من ملجأ يومئذ وما لكم من نكير } يعنى لا تقدرون على انكاره او ما لكم من منكر ينكر ما حل بكم ويدفعه عنكم وينصركم فيه.
[42.48]
{ فإن أعرضوا } صرف الخطاب عنهم الى محمد (ص) { فمآ أرسلناك عليهم حفيظا } يعنى لا تغتم باعراضهم لانا ما ارسلناك عليهم حفيظا { إن عليك إلا البلاغ } وقد بلغت { وإنآ إذآ أذقنا الإنسان منا رحمة } نعمة دنيوية او نعمة اخروية من العلوم والالهامات والمكاشفات { فرح بها } اى بالرحمة من حيث صورتها لا من حيث انعامنا لان نفس الانسان ما دامت حاكمة فى وجوده لا تنظر الى المنعم وانعامه فى النعمة بل تنظر الى صورة النعمة ونسبتها الى نفسها لا نسبتها الى المنعم والا لم يفرح بصورة النعمة بل بالمنعم او يغتم بصورة النعمة لاحتمال استدراجه تعالى بالنعمة { وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور } للنعمة السابقة ولا يتذكرها ولا يشكرها، وتكرار الانسان للاشارة الى ان ذلك من مقتضى خلقته، ولا يخفى وجه تخالف الفقرتين فان الرحمة لما كانت ذاتية لمشيته تعالى أتى فى جانبها بالتأكيدات وباداة التحقيق ونسب اذاقتها الى نفسه ونسب الرحمة ايضا الى نفسه، وأتى فى جانب المصيبة باداة الشك ولم يأت بالتأكيد ولم ينسب المصيبة الى نفسه وجعل سبب وصولها اليهم ما كسبت ايديهم.
[42.49]
{ لله ملك السماوات والأرض } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: فما لله فى المصائب من صنع { يخلق ما يشآء } من خير وشر ورحمة ومصيبة { يهب لمن يشآء إناثا ويهب لمن يشآء الذكور } نكر الاناث وعرف الذكور للاشارة الى ان الاناث لتنفر الاناسى منهن كأنهن منكورات عند نفوسهم، وان الذكور لحبهم لهم معهودون عندهم حاضرون فى اذهانهم.
[42.50]
{ أو يزوجهم ذكرانا وإناثا } يعنى يعطى لبعض الاناث فقط، ولبعض الذكور فقط، ويجمع بينهما لبعض { ويجعل من يشآء عقيما } فكل ذلك باعطاء الله ومنعه لا باسباب طبيعية كما يقوله الطبيعى والذين ينظرون الى الاسباب الطبيعية { إنه عليم } بصلاح كل وما يصلحه وما يفسده فيعطى ما يصلحه ويمنع ما يفسده { قدير } على ذلك سواء وافقه الاسباب الطبيعية ام لم توافقه.
[42.51]
{ وما كان لبشر } ما ينبغى له وما كان فى سجيته { أن يكلمه الله } لان البشرية لتحددها بحدود كثيرة سفلية لو سمعت كلام الله من دون تنزله الى مقام البشرية المحدودة لفنت وهلكت لانه كالشمس وحدود البشرية كالفيء { إلا وحيا } الوحى فى اللغة الاشارة والكتابة والمكتوب والرسالة والالهام والكلام الخفى وكلما القيته الى غيرك لكن المراد معه هنا معنى اعم من الالهام والكتابة اى الكتابة فى الالواح الغيبية والرسالة لكن رسالة الملك مثل جبرئيل { أو من ورآء حجاب } مثل تكلمه مع موسى (ع) من الشجرة ومثل تكلمه مع محمد (ص) ليلة المعراج من وراء الستر { أو يرسل رسولا } اى الا ان يرسل رسولا بشريا { فيوحي } ذلك الرسول البشرى { بإذنه } اى يتكلم مع سائر البشر بكلام خفى البطون جلى الظهور فان كلام ذلك الرسول البشرى لكونه نائبا عن الله تعالى شأنه ومظهرا له كلام الله، ولكلامه بمضمون ما ورد فى الاخبار الكثيرة ان حديثهم صعب مستصعب وسر مستسر ومقنع بالسر بطون خفية غاية الخفاء وظهر جلى غاية الجلاء، وقرئ يرسل ويوحى بالنصب عطفا على وحيا بجعله تميزا او مفعولا مطلقا من غير لفظ الفعل، وقرءا بالرفع عطفا على وحيا بجعله حالا بمعنى الفاعل { ما يشآء } الرسول او الله تعالى او ما يشاء ذلك البشر الذى ارسل الله اليه بلسان استعداده { إنه علي } فلا يقدر على سماع كلامه بشر دان { حكيم } لا يدعهم من غير تكلم معهم لاقتضاء حكمته القاء الحكم والمصالح اليهم واقتضائها جعل الوسائط فى ذلك الالقاء حتى لا يهلكوا حين الالقاء.
[42.52]
{ وكذلك } التكلم بالانحاء الثلاثة { أوحينآ إليك } اى ارسلنا { روحا من أمرنا } اى روحا عظيما ناشئا من محض امرنا من غير مداخلة مادة فيه، او بعضا من عالم امرنا والمراد به جبرئيل او روح القدس الذى هو اعظم من جبرائيل وميكائيل { ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان } المراد بالكتاب النبوة والرسالة واحكامهما وبالايمان الولاية وآثارها والقرآن صورة الثلاثة { ولكن جعلناه نورا } اى الكتاب او الايمان او المذكور منهما او الروح الموحى اليك وقد فسر بعلى (ع)، فعن الباقر (ع) ولكن جعلناه نورا يعنى عليا وعلى (ع) هو النور هدى به من هدى من خلقه { نهدي به من نشآء من عبادنا } سئل الصادق (ع) عن العلم، اهو شيء يتعلمه العالم من افواه الرجال؟! ام فى الكتب عندكم تقرؤنه فتعلمون منه؟ - قال: الامر اعظم من ذلك واوجب! اما سمعت قول الله عز وجل وكذلك اوحينا اليك روحا من امرنا ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الايمان ثم قال: بلى، قد كان فى حال لا يدرى ما الكتاب ولا الايمان حتى بعث الله عز وجل الروح التى ذكر فى الكتاب فلما اوحاها علم بها العلم والفهم وهى الروح التى يعطيها الله عز وجل من شاء فاذا اعطاها عبدا علمه الفهم { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } يعنى انك برسالتك تهدى الى الولاية فان الرسالة وقبولها هداية الى الايمان والولاية كما قال تعالى:
قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين
[الحجرات:17] عن الباقر (ع) يعنى انك تأمر بولاية على (ع) وتدعو اليها وعلى (ع) هو الصراط المستقيم.
[42.53]
{ صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض } وعنه (ع) يعنى عليا انه جعله خازنه على ما فى السماوات وما فى الارض من شيء وائتمنه عليه، ولعله (ع) ارجع الضمير المجرور الى الصراط، او فسر الصراط بعلى (ع) { ألا إلى الله تصير الأمور } اى تنتهى جميع الامور اليه فى الواقع، او تنتهى بلحاظ اللاحظ اليه بمعنى انه اذا نظر الى جزئى من جزئيات الوجود ولوحظ مصدره ومصدر مصدره تنتهى المصادر كلها الى الله فيكون مصدر الكل.
[43 - سورة الزخرف]
[43.1-3]
{ حم والكتاب المبين إنا جعلناه } اى جعلنا ذلك الكتاب المبين الذى لا رطب ولا يابس الا فيه بحيث لا يعتريه ريب وشك ولا خفاء واجمال وتشابه { قرآنا } مجموعا فيه جميع المطالب { عربيا } بلغة العرب او ذا حكم وآداب واحكام ومواعظ ونصائح { لعلكم تعقلون } تصيرون باستماعه وتدبره عقلاء، او تدركون ما فيه من المواعظ والحكم.
[43.4]
{ وإنه في أم الكتاب } وهو الكتاب المبين الذى هو اللوح المحفوظ المعبر عنه فى لسان الحكماء بالنفس الكلية، او هو القلم الاعلى فانه بوجه قلم وبوجه كتاب وهو المسمى فى لسان الحكماء بالعقل الكلى، او هو مقام المشية المعبر عنها بنفس الرحمان والاضافة الاشراقية فانها بوجه اضافة الحق، وبوجه فعله، وبوجه كلمته، وبوجه كتابه وهى ام جميع الكتب { لدينا لعلي } على الكل لا اعلى منه { حكيم } ذو حكم او محكم لا يتطرق الخلل والشك والريب والفساد اليه، وعن الصادق (ع): هو امير المؤمنين (ع) فى ام الكتاب يعنى الفاتحة فانه مكتوب فيها فى قوله تعالى:
اهدنا الصراط المستقيم
[الفاتحة:6] قال: الصراط المستقيم هو امير المؤمنين (ع) ومعرفته، ولا منافاة بين هذا الخبر وبين ما ذكرنا فى تفسير الآية فان عليا (ع) والقرآن فى هذا العالم منفكان والا ففى العوالم العالية على (ع) هو القرآن والقرآن هو على (ع)، كما ان فاتحة الكتاب فى العوالم العالية هى النفوس الكلية والعقول الكلية وهى المشية التى بها تحقق كل ذى حقيقة.
[43.5]
{ أفنضرب } الهمزة على التقديم والتأخير والمعنى جعلناه قرآنا عربيا لتعقلكم واستكمالكم فهل نضرب { عنكم الذكر صفحا } اى اعراضا ونصرفه الى غيركم، او المستفهم عنه مقدر بعد الهمزة والمعنى انهملكم ولا ندعوكم فنصرف عنكم القرآن { أن كنتم قوما مسرفين } قرئ بفتح الهمزة بتقدير اللام وبكسر الهمزة.
[43.6-7]
{ وكم أرسلنا } يعنى لا تطمعوا فى صرف الذكر عنكم وعدم دعوتكم فانا ما اهملنا الامم الماضية مع انهم كانوا اشد منكم اسرافا وعصيانا وارسلنا فيهم رسلا ولما تجاوزوا الحد فى العصيان اهلكناهم فاحذروا عن عذابنا واهلاكنا ولا تتجاوزوا الحد فى العصيان { من نبي في الأولين وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون } كما تستهزؤن انتم ان كان الخطاب للمشركين، ويجوز ان يكون الخطاب مصروفا الى محمد (ص) ويكون المقصود تسليته والمعنى كما يستهزئ قومك بك.
[43.8]
{ فأهلكنآ أشد منهم بطشا } يجوز ان يكون الضمير المجرور للاولين، ويكون من تبعيضية او تفضيلية يعنى اهلكنا اشداءهم فليحذر الذين يستهزؤن برسولنا، او اهلكنا الذين كانوا اشد منهم فكيف بهم وبكم؟! ويجوز ان يكون لقوم محمد (ص) وكان المقصود اهلكنا الاولين الذين كانوا اشد من قومك فكيف بهم ان فعلوا مثل فعلهم؟! لكنه اداه بهذه الصورة لافادة هذا المعنى مع الاختصار { ومضى مثل الأولين } يعنى مضى صفة الاولين وقد بلغ النوبة الى قومك او مضى حكاية حال الاولين فيما انزلنا اليك سابقا فليرجعوا اليه وليتدبروا فيه.
[43.9]
{ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم } فما لهم يقرون بان الله خالق السماوات والارض ويشركون به ما خلقوهم ونحتوهم بايديهم، أو يشركون ما خلقه بيده.
[43.10]
{ الذي جعل لكم الأرض مهدا } هذه الكلمة ضمه الله الى ما حكاه منهم سواء جعل صفة للعزيز العليم او خبرا لمحذوف فانه قد يضم الحاكى شيئا من نفسه الى الحكاية، او هو ايضا جزء الحكاية ويكون الخطاب من بعضهم لبعض آخر { وجعل لكم فيها سبلا } تسلكونها الى مقاصدكم ولا تتحيرون فى بيدائها { لعلكم تهتدون } الى حاجاتكم ومقاصدكم، او لعلكم تهتدون الى مبدئكم وصفاته من العلم والقدرة والرأفة والتدبير، او تهتدون الى امامكم الذى هو سبيل الى المقصد الكلى الذى هو الفوز بنعمي الآخرة فانه لم يدع مقاصدكم الدنيوية الدانية التى لا اعتناء بها بدون السبيل الذى يسلك اليها فكيف يدع المقصد الكلى من غير سبيل.
[43.11]
{ والذي نزل من السمآء } من جهة العلو او من السحاب { مآء بقدر فأنشرنا به } التفات الى التكلم تجديدا لنشاط السامع واشعارا بان انبات النبات بكيفيات مخصوصة وتصويرات عديدة عجيبة وتوليدات غريبة ليس الا من مبدء عليم قدير مباشر له فكأنه صار فى حكاية انبات النبات حاضرا عند السامع مشهودا له بعد ما كان غائبا عنه { بلدة ميتا } عن النبات { كذلك تخرجون } من الارض بعد موتكم فلم تستغربون الاعادة؟!
[43.12-13]
{ والذي خلق الأزواج كلها } اى اصناف المخلوقات { وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره } اى ظهور ما تركبون، جمع الظهور وافراد الضمير المضاف اليه باعتبار اللفظ والمعنى { ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه } يعنى ان غاية جميع المخلوقات تذكركم وشكركم له على انعام ما رأيتموه نعمة لكم { وتقولوا } يعنى تذكروا بقلوبكم وتقولوا بألسنتكم فان السنتكم مكلفة بجريان كلمة الشكر عليها { سبحان الذي سخر لنا هذا } يعنى ان تنزهوا الله من وسمة الحاجة الى المركوب والانتقال من مكان الى مكان وتذكروه بنعمة تسخير المركوب ليكون شكرا { وما كنا له مقرنين } اقرن للامر اطاقه وقوى، واقرنه جعله فى الحبل.
[43.14]
{ وإنآ إلى ربنا لمنقلبون } يعنى ان الغرض تذكر النعمة وشكر المنعم فى النعمة وتذكر النقلة العظيمة التى هى النقلة من الدنيا الى الآخرة.
[43.15-16]
{ وجعلوا له من عباده جزءا } اى ولدا فانه جزء من الوالد بحسب مادته يعنى بعد ما اقروا بخالقيته للسماوات والارضين جعلوا له من مخلوقاته ولدا { إن الإنسان لكفور } بنعمة الحق وصفاته فيجرى على لسانه ما لا يليق بمنعمه غفلة عن المنعم وصفاته { مبين أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين } يعنى ينبغى التعجب من حالهم حيث لم يقنعوا بان جعلوا له من عباده جزء وجعلوا اخس الاولاد له.
[43.17]
{ وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا } اى بما ضرب الاسماع به حالكونه مثلا وشبيها، او من حيث كونه صفة وحكاية لحاله فان الولد مجانس للوالد وشبيه له وكأن التأدية بهذه العبارة للاشارة الى انهم لا يقولون ان الله ولد حقيقة بل شبهوا النسبة بينه وبين الملائكة او بين الجن بنسبة الوالد والولد { ظل وجهه مسودا وهو كظيم } رجل كظيم ومكظوم مكروب، او هو كاظم لغيظه غير مظهر له او ساكت.
[43.18]
{ أومن ينشأ في الحلية } الم يتفكروا وجعلوا من ينشؤ ويربى فى الزينة ولدا له؟ او من مبتدء خبر محذوف، او خبر مبتدء محذوف والمعنى اهو ادنى منكم ومن ينشؤ فى الزينة ولد له ومن يبارز فى المحاربة ولد لكم؟ او المعنى اهو ادنى منكم وولده من ينشؤ فى الزينة؟ { وهو في الخصام غير مبين } لدعواه وحجته بل فى الاغلب يتكلم حين المخاصمة بما هو حجة عليه، وقرئ ينشؤ من الثلاثى المجرد مبنيا للفاعل، ومن التفعيل ومن المفاعلة ومن الافعال مبنيا للمفعول.
[43.19]
{ وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا } قرئ عباد الرحمن وعبيد الرحمن وعند الرحمن بالنون يعنى ان قولهم الملائكة بنات الله متضمن لقبائح عديدة، الاول جعله مركبا متجزئا وليس الا وصف ادنى الممكنات، والثانى نسبة التوالد اليه وهو يستلزم الاحتياج ووجود المثل له وهو غنى على الاطلاق، ولو كان له مثل لكان ممكنا مركبا، والثالث نسبة امر اليه اذا نسب الى انفسهم تغيروا واسودت وجوههم وهو يستلزم جعله ادنى واهون من انفسهم، والرابع جعل اضعف الاولاد ولدا له، والخامس جعل الملائكة الذين هم مكرمون على الله بوصف ارذل الناس { أشهدوا خلقهم } فان الانوثة والذكورة لا تعلمان الا بالمشاهدة { ستكتب شهادتهم } التى شهدوا بها على الملائكة انهم اناث { ويسألون } عن هذه الشهادة يوم القيامة وهو تهديد لهم.
[43.20-21]
{ وقالوا لو شآء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم } يعنى انهم قالوا هذه الكلمة من غير تصور لمعناها ومن غير علم بنسبتها ولذلك كانوا كاذبين وانما ارادوا بذلك الفرار من قبح عبادة غير الله ولم يعلموا ان فاعلية المشية او سببيتها للاشياء ليست بحيث يسلب الاختيار عنهم ويرفع القبح عن فعلهم { إن هم إلا يخرصون أم آتيناهم كتابا من قبله } اى من قبل القرآن او من هذا القول { فهم به مستمسكون } يعنى ليس لهم علم تحقيقى بمعنى هذا القول ولا علم تقليدى وليس لهم سوى الخرص والخرص والتخمين فى باب العقائد مطرود عن باب الله وقد سبق فى سورة الانعام بيان لهذه الآية عند قوله تعالى: لو شاء الله ما اشركنا ولا آباؤنا (الآية).
[43.22]
{ بل قالوا إنا وجدنآ آبآءنا على أمة } اى على طريقة وملة { وإنا على آثارهم مهتدون } يعنى انهم ما علموا تحقيقا ولا علموا تقليدا ممن يصح تقليده بل قلدوا آباءهم الذين لا يجوز لهم تقليدهم ولذلك قال فى موضع آخر: اولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون.
[43.23]
{ وكذلك مآ أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوهآ إنا وجدنآ آبآءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون } تسلية له (ص) بان هذا كان ديدن الناس قديما وجديدا وقد كان الانبياء السابقون (ع) مبتلين بامثال هؤلاء، وتخصيص المترفين بالذكر لانهم هم الذين كانوا يعارضون الانبياء والاولياء (ع)، واما غيرهم فليس نظرهم الا اليهم.
[43.24]
{ قال } النذير لهم { أ } تقلدون آباءكم { ولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آبآءكم قالوا } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: ما قالوا؟ فقال تعالى: قالوا { إنا بمآ أرسلتم به كافرون } ولو كان اهدى مما وجدنا عليه آباءنا.
[43.25-26]
{ فانتقمنا منهم } بانواع النقم التى ذكرنا بعضها لك { فانظر كيف كان عاقبة المكذبين وإذ قال إبراهيم } عطف باعتبار المعنى كأنه قال: اذكر او ذكر اذ جعلوا لله من عباده جزء وجعلوا له بنات حتى يتنبهوا بقبحه واذكر اذ قالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم، واظهر قبح هذا القول لهم حتى يتنبهوا، واذكر اذ ارسلنا فى كل قرية نذيرا فكذبوه فأهلكناهم حتى تتسلى عن تكذيبهم، واذكر اذ قالوا انا وجدنا آباءنا على امة واظهر قبح هذا القول لهم واذكر اذ قال ابراهيم { لأبيه وقومه إنني برآء مما تعبدون } حتى يكون اسوة لقومك فى التبرى عن التقليد لمن لا يجوز تقليده، ويكون اسوة لهم فى التقليد ان ارادوا التقليد فانه جعل التبرى عن تقليد من لا يجوز تقليده كلمة باقية فى عقبه، ويكون اسوة لك فى عدم الاعتناء بالقوم وشدة انكارهم، وفى اظهار دعوتك وعدم الاعتداد بردهم وقبولهم.
[43.27]
{ إلا الذي فطرني فإنه سيهدين } الى ما هو بغية الانسان.
[43.28]
{ وجعلها } اى كلمة التبرى عن تقليد من لا يجوز تقليده او جعل كلمة التوحيد { كلمة باقية في عقبه } اى ذريته او امته او من يأتى فى عقبه من ذريته وذرية امته { لعلهم يرجعون } من جهلهم الذى كانوا مفطورين عليه وهؤلاء ممن أتوا على عقبه فليأخذوا بتلك الكلمة وليرجعوا من جهلهم وتقليدهم لمن لا يجوز تقليده، وقد فسر تلك الكلمة الباقية فى اخبارنا بالامامة وانها باقية فى عقب الحسين (ع)، وفسر قوله تعالى لعلهم يرجعون برجوع الائمة الى الدنيا.
[43.29]
{ بل } ليس بقاؤهم على طريقتهم الباطلة لاعتمادهم على تقليد آباءهم وتمسكهم به ولكن { متعت هؤلاء } قريشا { وآبآءهم } بالتمتعات الحيوانية من غير منذر لهم من البلايا والمصائب ومن الانبياء (ع) فسكنوا الى تلك التمتعات واطمأنوا بها { حتى جآءهم الحق } اى الولاية { ورسول مبين } ظاهر رسالته وصدقه فيها، او مظهر رسالته.
[43.30-31]
{ ولما جآءهم الحق } المنذر عما اطمأنوا به ورأوه مخالفا لما تمرنوا عليه انكروه وطلبوا ما اسندوا انكارهم اليه و { قالوا هذا } الذى يدعى انه كتاب سماوى الهى، او هذا الذى يدعيه من الرسالة من الله، او هذا الذى يظهر من خوارق العادات { سحر وإنا به كافرون وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين } مكة والطائف { عظيم } لما لم يروا عظمة وشرفا الا ما هو بحسب الانظار الحسية من الشرافات الدنيوية من الحسب والنسب والخدم والحشم وكثرة المال والاولاد ولم يكن لمحمد (ص) شيء من ذلك انكروا نزول الكتاب من الله عليه وقالوا: لو كان الله ينزل كتابا ويرسل رسولا فليرسل الى رجل شريف عظيم القدر كالوليد بن المغيرة بمكة وعروة بن مسعود بالطائف ولينزل الكتاب الى احدهما، لكنهم لم يعلموا ان الرسالة منصب روحانى والشرافة الصورية لا تبلغ الرجل الى ذلك المنصب ان لم تكن تمنعه منه.
[43.32]
{ أهم يقسمون رحمت ربك } فى الاستفهام واضافة الرب الى محمد (ص) دونهم انكار وتحقير لهم واستهزاء بهم { نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا } يعنى ان معيشتهم التى هى من مكسوباتهم ومحسوساتهم ولهم بحسب الظاهر اختيار فى تحصيلها لا صنع لهم فيها بل نحن قسمناها بينهم فكيف يقسمون النبوة الى هى رحمة من الله غير محسوسة لهم ولا صنع ولا اختيار لهم فيها { ورفعنا بعضهم فوق بعض } فى المراتب الدنيوية والمناصب الظاهرة { درجات } فكيف نكل هذا المنصب العظيم الى آرائهم { ليتخذ بعضهم بعضا سخريا } السخرى اسم مصدر من سخر به ومنه، وهكذا السخرية والسخرى بكسر السين، ولعله ههنا من مادة التسخير واسم له بمعنى التذليل { ورحمت ربك خير مما يجمعون } من الاموال والاولاد والاعراض، وفى خبر: الا ترى يا عبد الله كيف اغنى واحدا وقبح صورته وكيف حسن صورة واحد وافقره، وكيف شرف واحدا وافقره، وكيف اغنى واحدا ووضعه؟! ثم ليس لهذا الغنى ان يقول: هلا اضيف الى يسارى جمال فلان، ولا للجميل ان يقول: هلا اضيف الى جمالى مال فلان، ولا للشريف ان يقول: هلا اضيف الى شرفى مال فلان، ولا للوضيع ان يقول: هلا اضيف الى ضعتى شرف فلان، ولكن الحكم لله يقسم كيف يشاء وهو حكيم فى افعاله كما هو محمود فى اعماله، وذلك قوله تعالى: وقالوا: لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم، قال الله تعالى: اهم يقسمون رحمة ربك يا محمد نحن قسمنا بينهم معيشتهم فى الحياة الدنيا فأحوجنا بعضهم الى بعض، احوج هذا الى مال ذلك، واحوج ذلك الى سلعة هذا والى خدمته فترى اجل الملوك واغنى الاغنياء محتاجا الى افقر الفقراء فى ضرب من الضروب اما سلعة معه ليست معه واما خدمة تصلح لما لا يتهيأ لذلك الملك ان يستغنى الا به، واما باب من العلوم والحكم هو فقير الى ان يستفيدها من ذلك الفقير وهذا الفقير محتاج الى مال ذلك الملك الغنى، وذلك الملك يحتاج الى علم هذا الفقير او رأيه او معرفته، ثم ليس للملك ان يقول: هلا اجتمع الى مالى علم هذا الفقير، ولا للفقير ان يقول: هلا اجتمع الى رأيى وعلمى وما اتصرف فيه من فنون الحكم مال هذا الملك الغنى.
[43.33]
{ ولولا أن يكون الناس أمة واحدة } اى لولا كراهة ذلك { لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة } بالتوسعة فى اموالهم حتى يجعلوا سقف بيوتهم فضة { ومعارج } من فضة { عليها يظهرون } السطوح.
[43.34-35]
{ ولبيوتهم أبوابا وسررا } من فضة { عليها يتكئون وزخرفا } زينة من غير ذلك يعنى لولا ان يكونوا كلهم كفارا لجعلنا ذلك لان الكافر مخذول منا ومكروه لنا ولم نرد منه توجهه الينا، ولولا مراعاة حال من فى وجوده استعداد الايمان لوسعنا عليه فى دنياه بحيث لا يغتم آنا بشيء من دنياه حتى لا يتوجه الينا ولكن لمراعاة حال المستعدين للايمان جعلنا فى الكفار غنى وفقرا كما ان فى المؤمنين غنى وفقرا، وعن الصادق (ع) قال الله عز وجل: لولا ان يجد عبدى المؤمن فى نفسه لعصبت الكافر بعصابة من ذهب، وعن النبى (ص):
" يا معشر المساكين طيبوا واعطوا الله الرضا من قلوبكم يثبتكم الله عز وجل على فقركم فان لم تفعلوا فلا ثواب لكم "
، وعنه (ع) قال: ما كان من ولد آدم (ع) مؤمن الا فقيرا ولا كافرا لا غنيا حتى جاء ابراهيم (ع) فقال: ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا فصير الله فى هؤلاء اموالا وحاجة، وفى هؤلاء اموالا وحاجة { وإن كل ذلك } المذكور من سقف الفضة ومعارجها وابوابها وسررها وزخرف البيوت { لما متاع الحياة الدنيا } قرئ لما بالتشديد فيكون ان نافية ولما استثنائية، وقرئت بالتخفيف فان مخففة واللام فارقة وما زائدة او موصولة او موصوفة { والآخرة عند ربك للمتقين } من متاع الحياة الدنيا كأن غيرهم لا آخرة لهم، وبأمثال هذه الآية توسل من قال غير المؤمنين او غير من له عقل مجرد اذا مات فات ولا بقاء له فى الآخرة، وليس كذلك، لان التحقيق ان مطلق الحيوان له بقاء فى الآخرة لتجرد خياله وعدم انطباعه وهذا القدر من التجرد يكفى فى البقاء بعد خراب البدن.
[43.36]
{ ومن يعش عن ذكر الرحمن } اعلم، ان الولاية السارية فى جميع الموجودات تكوينا حقيقة ذكر الله، وكذلك الولاية الجارية على الانسان وبنى الجان تكليفا، ولذلك اضاف الذكر الى الرحمن وصاحب الولاية المتحقق بها ايضا ذكر ولذلك كان رؤيته مذكرا كما عن عيسى (ع) فى جواب الحواريين حين قالوا: من نجالس يا روح الله؟ - قال: من يذكركم الله رؤيته، ثم الذكر المأخوذ من صاحب الولاية ذكر الله ثم الفكر الحاصل من الذكر المأخوذ من صاحب الولاية وان كان الفكر اكمل فى الذكرية من الذكر المأخوذ ثم تذكر الله فى الخاطر ثم تذكر امره ونهيه عند الفعال، ثم الذكر اللسانى من التلهيل والتسبيح والتحميد وغيرها ثم كل ما يذكرك الله اى شيء كان، والمقصود ان من يعمى عن الولاية وعن ولى الامر فان العمى عن الولاية يورث العمى عن جميع اقسام الذكر { نقيض } نسبب ونقدر { له شيطانا فهو له قرين } يمنعه عن الانسانية والسلوك على طريقها ويجره الى البهيمية والسبعية والشيطانية ويسلكه على طريقها الى النار، ومما روى من الاكابر: من لم يكن له شيخ اى ولى يتولاه بالبيعة الخاصة تمكن الشيطان من عنقه، ومن تمكن الشيطان من عنقه لا يرجى له خير، ولا نجاة له من السعير، وعن امير المؤمنين (ع): من تصدى بالاثم اعشى عن ذكر الله تعالى، ومن ترك الاخذ عمن امر الله بطاعته قيض له شيطان فهو له قرين
[43.37]
{ وإنهم } اى الشياطين القرناء للعاشين { ليصدونهم } اى العاشين { عن السبيل } الذى ينبغى ان يسلكه الانسان وهو الولاية التكوينية والتكليفية، ولما كان اغلب خطابات القرآن غير خالية من الاشارة الى الولاية وقبولها وردها فمعنى الآية ان من يعش على على (ع) وولايته نقيض له شيطانا وانهم يعنى الشيطان واتباعه ليصدون العاشين عن على (ع) وولايته { ويحسبون } اى الشياطين او العاشون او المجموع { أنهم مهتدون } والحال انهم ضالون مصدودون عن الطريق.
[43.38]
{ حتى إذا جآءنا } اى العاشى وقرئ جاءانا على التثنية { قال } العاشى للشيطان { يليت بيني وبينك بعد المشرقين } اى المشرق والمغرب { فبئس القرين } لما رأى انه صده عن الولاية وبواسطة صدوده عن الولاية هلك ودخل النار تمنى ان لم يكن هو قرينا له.
[43.39]
{ ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون } فاعل ينفعكم التمنى المستفاد من قوله: يا ليت بينى وبينك بعد المشرقين او اذ ظلمتم على ان يكون اذ اسما خالصا، او انكم فى العذاب ولفظة اذ اسم خالص فاعل، او للتعليل على ان تكون حرفا اذا افادت التعليل وانكم للتعليل او فاعل لن ينفعكم، وقرئ انكم بكسر الهمزة جوابا لسؤال مقدر فى مقام التعليل، روى عن الباقر (ع) انه نزلت هاتان الآيتان هكذا حتى اذا جاءانا يعنى فلانا وفلانا يقول احدهما لصاحبه حين يراه:
يليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين
[الزخرف:38] فقال الله لنبيه (ص): " قل لفلان وفلان واتباعهما: لن ينفعكم اليوم اذ ظلمتم آل محمد حقهم انكم فى العذاب مشتركون " فقوله لن ينفعكم بتقدير القول سواء جعل التقدير قل يا محمد (ص) لن ينفعكم، او يقول الملائكة، او يقول الله { أفأنت تسمع الصم }.
[43.40]
{ أفأنت تسمع الصم } يعنى اذا كان الله يمد العمى ويقيض له شيطانا فهل انت تقدر ان تسمع الصم { أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين } عطف عطف السبب على المسبب والمجمل على المفصل.
[43.41-42]
{ فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون } روى انه (ص) ارى ما يلقى عترته من امته بعده فما زال منقبضا ولم ينبسط ضاحكا حتى لقى الله تعالى، وروى جابر بن عبد الله الانصارى قال: انى لادناهم من رسول الله (ص) فى حجة الوداع بمنى قال
" لالقينكم ترجعون بعدى كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، وايم الله لئن فعلتموها لتعرفنى فى الكتيبة التى تضار بكم "
ثم التفت الى خلفه فقال: او على، ثلاث مرات فرأينا ان جبرئيل غمزه، فانزل الله على اثر ذلك { فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون } بعلى بن ابى طالب (ع)، وعن الصادق (ع) فاما نذهبن بك يا محمد (ص) من مكة الى المدينة فانا رادوك اليها ومنتقمون منهم بعلى بن ابى طالب (ع).
[43.43]
{ فاستمسك بالذي أوحي إليك } يعنى لا تحزن على ما قالوا فى حق اهل بيتك وعلى ما سيفعلونه بعدك واستمسك بالذى اوحى اليك فى على (ع) او فى اهل بيتك { إنك على صراط مستقيم } هو صراط الولاية، ومن كان على صراط مستقيم لا يبال بما قيل او يقال، او فعل او يفعل به، وعن الباقر (ع) انك على ولاية على (ع)، وعلى (ع) هو الصراط المستقيم، او المعنى فاستمسك بالذى القى اليك من ولاية على (ع) انك بهذا الالقاء على صراط مستقيم.
[43.44]
{ وإنه } اى ما اوحى اليك او الصراط المستقيم او على (ع) { لذكر لك } او لشرف لك او لذكرك الله فانه ذكر الله حقيقة وسبب تذكر الله، او ذكر الله لك ولا شرف اشرف من ان يذكرك الله { ولقومك وسوف تسألون } عنه فانه النبأ العظيم الذى هم فيه مختلفون، والنعيم الذى تسألون عنه.
[43.45]
{ وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنآ أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون } المفعول الاول محذوف ومن ارسلنا مفعول ثان اى اسئل الناس واهل الخبرة والعلماء باخبار الماضين وسيرهم عن حال من ارسلنا قبلك، او من مفعول اول وقوله اجعلنا فى مقام المفعول الثانى يعنى اسئل الرسل الماضين (ع) فانهم ان كانوا غائبين عن الانظار البشرية فهم غير غائبين عن نظرك، وورد فى اخبار كثيرة انه (ص) أرى ليلة المعراج جميع الانبياء (ع) وهم قد صلوا خلفه فى بيت المقدس او فى السماء فانزل الله تعالى هذه الآية عليه، فعن الباقر (ع) انه سئل عن هذه الآية من ذا الذى سأله محمد (ص) وكان بينه وبين عيسى (ع) خمس مائة سنة فتلا هذه الآية:
سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنآ
[الإسراء:1]، قال: فكان من الآيات التى أراها الله محمدا (ص) حين اسرى به الى البيت المقدس ان حشر الله له الاولين والآخرين من النبيين والمرسلين (ع) ثم امر جبرئيل فاذن شفعا واقام شفعا ثم قال فى اقامته: حى على خير العمل، ثم تقدم محمد (ص) فصلى بالقوم فانزل الله عليه واسئل من ارسلنا (الآية) فقال لهم رسول الله (ص): على ما تشهدون وما كنتم تعبدون؟ - فقالوا: نشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له، وانك لرسول الله (ص) اخذت على ذلك مواثيقنا وعهودنا.
[43.46-47]
{ ولقد أرسلنا موسى بآياتنآ إلى فرعون وملائه } عطف فيه تسلية لرسول الله (ص) وحمل له على الصبر على اذى القوم { فقال إني رسول رب العالمين فلما جآءهم بآياتنآ إذا هم منها يضحكون } استهزؤا بها مقام ان ينقادوا لها ويخافوا من الله ويصدقوا رسوله (ع) بها.
[43.48]
{ وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب } بالقحط والرجز والطوفان والجراد والقمل { لعلهم يرجعون } من غيهم ويصدقون رسولنا.
[43.49]
{ وقالوا يأيها الساحر } نادوه بهذا الاسم تعظيما له لان السحر كان له قدر عظيم عندهم، او لان الساحر كان اسما لكل عالم ماهر، وقيل: انما قالوا ذلك استهزاء بموسى (ع) فانهم لغاية حمقهم وشدة عنادهم ما تركوا الاستهزاء به فى حال الشدة والابتلاء، وقيل: ان الساحر من سحر بمعنى غلب فى السحر والمعنى يا ايها الذى ساحرنا فغلبنا بسحره { ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون } يعنى ان كشفت عنا فانا آمنون بك كما مضى الآية فى سورة الاعراف وقد مضى بيانها ايضا.
[43.50]
{ فلما كشفنا } اى فدعا موسى (ع) فكشفنا فلما كشفنا { عنهم العذاب إذا هم ينكثون } ينقضون يعنى كلما عذبناهم بعذاب قالوا ذلك وكلما كشفنا عنهم نقضوا عهدهم.
[43.51-52]
{ ونادى فرعون في قومه } يعنى بعد ما كشفنا عنهم العذاب خاف فرعون على ملكه وخاف ان يقر بموسى بعض اهل مملكته فجمع الناس وخطبهم وموه عليهم باظهار حسن حاله فى الدنيا ورثاثة حال موسى (ع) فيها { قال يقوم } لا تبالوا بموسى وما رأيتموه منه من كشف العذاب فانى ابسط منه يدا واكثر مالا واقوى تصرفا { أليس لي ملك مصر } اشارة الى بسط يده فى البلاد { وهذه الأنهار } اى انهار النيل، قيل: كان معظمها اربعة { تجري من تحتي } اى من تحت قصرى او من تحت امرى فانهم كانوا معتقدين ان النيل يجرى بأمره { أفلا تبصرون أم أنآ خير } بهذه الاموال والجمال وحسن الحال وحسن الصورة وحسن السيرة وكثرة البسطة والسعة { من هذا الذي هو مهين } حقير ليس له شيء من هذا الذى ترونه على { ولا يكاد يبين } الكلام ويقرر المرام يعنى انه مهين بحسب البسطة والسعة والزينة، ومهين بحسب حاله فى نفسه فانه لا يقدر على اداء الكلام، وام منقطعة مجردة عن الهمزة، او متضمنة لها، او متصلة والمعنى افلا تبصرون ام تبصرون.
[43.53]
{ فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب } قيل: كانوا اذا سوروا رجلا سوروه وطوقوه بسوار وطوق من ذهب، موه عليهم وقاس السيادة من الله بالسيادة من الخلق وقال: اذا كان رسولا ونائبا من الله فلم لا يلقى عليه من الله اسورة من ذهب حتى يكون علامة لسيادته، وقرئ: القى مبنيا للمفعول، واسورة مرفوعا ومبنيا للفاعل، واسورة منصوبا، وقرئ: اسورة واساورة واساوير واساور { أو جآء معه الملائكة مقترنين } اى مصطفين فانه يقول: ان لله الذى يدعى الرسالة منه ملائكة كثيرة فان كان صادقا فى رسالته من الله الموصوف بما وصف فليكن صفوف من الملائكة معه ليكونوا جنوده، ومعينين له فى اموره، وحافظين له عن الواردات والاعداء.
[43.54-55]
{ فاستخف قومه } اى طلب منهم الخفة والسرعة فى خدماته بهذه التمويهات او فاستخف احلامهم { فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين { فلمآ آسفونا } احزنونا، اسف كفرح حزن اشد الحزن، واسف عليه غضب، وباى معنى كان لا يكون لائقا بشأن الله، ولذلك ورد عن الصادق (ع): ان الله تبارك وتعالى لا يأسف كأسفنا ولكنه خلق اولياءه لنفسه يأسفون ويرضون وهم مخلوقون مربوبون فجعل رضاهم رضا نفسه وسخطهم سخط نفسه وذلك لانه جعلهم الدعاة اليه والادلاء عليه فلذلك صاروا كذلك وليس ان ذلك يصل الى الله كما يصل الى خلقه ولكن هذا معنى ما قال من ذلك وقال ايضا: من اهان لى وليا فقد بارزنى بالمحاربة ودعانى اليها، وقال ايضا:
من يطع الرسول فقد أطاع الله
[النساء:80] وقال ايضا
إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله
[الفتح:10] وكل هذه وشبهه على ما ذكرت لك، وهكذا الرضا والغضب وغيرهما من الاشياء مما يشاكل ذلك، ولو كان يصل الى المكون الاسف والضجر وهو الذى احدثهما وانشأهما لجاز لقائل ان يقول: ان المكون يبيد يوما، لانه اذا دخله الضجر والغضب دخله التغير، واذا دخله التغير لم يؤمن عليه بالابادة، ولو كان ذلك كذلك لم يعرف المكون من المكون، ولا القادر من المقدور ولا الخالق من المخلوق، تعالى الله عن هذا القول علوا كبيرا، هو الخالق للاشياء لا لحاجة فاذا كان لا لحاجة استحال الحد والكيف فيه، فافهم ذلك ان شاء الله { انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين } من قبيل عطف التفصيل على الاجمال.
[43.56]
{ فجعلناهم سلفا } متقدمين ليتعظوا بهم ويعتبروا بافعالهم ومالهم وما عليهم وهو مصدر وصف به، او جمع للسالف كالخدم للخادم وقرئ سلفا بضم السين واللام جمعا للسليف كالرغيف، او للسالف او للسلف كالخشب، وقرئ بضم السين وفتح اللام على انه مخفف سلف بالضمتين، او جمع سلفة بمعنى السالفين، { ومثلا } المثل فى الاصل بمعنى الشبيه لكنه جعل بالغلبة اسما لامر غريب سلف يشبه به كل امر حادث فيه غرابة يعنى جعلناهم بحيث يضرب بهم الامثال لكل من فعل فعلا قبيحا يقع بسببه فى بلية { للآخرين } اى الآتين على عقبهم.
[43.57]
{ ولما ضرب ابن مريم مثلا } لعلى بن ابى طالب (ع) اى لما اجرى ابن مريم حال كونه مشبها به لعلى بن ابى طالب (ع) كما ذكر فى اخبار كثيرة { إذا قومك منه } اى من على (ع) او من هذا التشبيه { يصدون } يضجون او يعرضون او يمنعون وقرئ يصدون بضم الصاد وبكسرها، وعن النبى (ص) انه قال: الصدود فى العربية الضحك هذا ما وصل الينا فى اخبار كثيرة نشير الى شطر منها، وقيل: معناه ولما ضرب ابن مريم مثلا وشبيها بالآلهة فى العذاب فانه لما نزل
إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم
[الأنبياء:98]، قال المشركون: قد رضينا بان تكون آلهتنا حيث يكون عيسى (ع) ومعنى اذا قومك منه يصدون يضجون نحو ضجيج المجادلين حيث خاصموك فى تمثيلهم لعيسى (ع) بآلهتهم، وقيل: لما ضرب الله المسيح مثلا بآدم (ع) فى قوله:
إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب
[آل عمران:59] خاصم بعض قريش النبى (ص) فنزلت، وقيل: لما مدح النبى (ص) المسيح (ع) قالوا: ان محمدا (ص) يريد ان نعبده كما عبدت النصارى عيسى (ع)، وروى بينا رسول الله (ص) ذات يوم جالس اذ اقبل امير المؤمنين (ع) فقال له رسول الله (ص):
" ان فيك شبها من عيسى بن مريم (ع)، لولا ان تقول فيك طوائف من امتى ما قالت النصارى فى عيسى بن مريم (ع) لقلت فيك قولا لا تمر بملاء من الناس الا اخذوا التراب من تحت قدميك يلتمسون بذلك البركة "
، قال: فغضب الاعرابيان والمغيرة بن شعبة وعدة من قريش معهم فقالوا: ما رضى ان يضرب لابن عمه مثلا الا عيسى بن مريم..! فأنزل الله على نبيه ولما ضرب ابن مريم مثلا (الى قوله) لجعلنا منكم يعنى من بنى هاشم ملائكة فى الارض يخلفون، وبهذا المضمون باختلاف يسير فى اللفظ اخبار كثيرة.
[43.58]
{ وقالوا أآلهتنا خير أم هو } اى عيسى يعنى ان عيسى (ع) خير من آلهتنا فاذا كان هو فى النار فرضينا ان يكون آلهتنا فى النار، او هو كناية عن محمد (ص) فانهم قالوا: يريد ان نعبده كما عبد النصارى المسيح، وآلهتنا خير منه وهو ينهانا من عبادتها، او المعنى ءآلهتنا خير ام المسيح وكان مرادهم الزام محمد (ص) فانه لما مدح المسيح ارادوا ان يقولوا: ان كان عبادة غير الله جائزا ظنا منهم انه صلى الله عليه وآله فى مدحه لعيسى يجوز عبادة النصارى له فليجز عبادة آلهتنا، او المراد آلهتنا خير ام على (ع)؟! وهو يمثل عليا بعيسى (ع) { ما ضربوه لك إلا جدلا } اى لاجل المجادلة معك { بل هم قوم خصمون } كثير المخاصمة ولذلك يخاصمونك.
[43.59]
{ إن هو إلا عبد } اى ان على (ع) او محمد (ص) او عيسى (ع) ولكن فى اخبارنا ان على (ع) الا عبد { أنعمنا عليه وجعلناه مثلا } متمثلا ومتصورا { لبني إسرائيل } بصورة عيسى بن مريم، او جعلناه شبيها بعيسى (ع) لانتفاع بنى اسرائيل الذين هم اولاد الانبياء (ع) بحسب الجسم او الروح او جعلناه حجة لبنى اسرائيل، وعن الصادق (ع) فى دعاء يوم الغدير: فقد اجبنا داعيك النذير المنذر محمدا (ص) عبدك ورسولك الى على بن ابى طالب (ع) الذى انعمت عليه وجعلته مثلا لبنى اسرائيل انه امير المؤمنين (ع) ومولاهم ووليهم الى يوم القيامة يوم الدين فانك قلت: ان هو الا عبد انعمنا وجعلناه مثلا لبنى اسرائيل.
[43.60]
{ ولو نشآء } يعنى انهم يضجون بان شبهت عليا بعيسى (ع) فلو نشاء { لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون } يعنى لو نشاء لجعلناكم اعز من ان تشبهوا بعيسى فجعلنا بعضكم ملائكة يخلفون لله فى الارض، او يخلفونكم فى الارض، او لولدنا منكم ملائكة، او لجعلنا بدلا منكم ملائكة، او لجعلنا ظاهرين وخارجين من وجودكم الى خارج وجودكم ملائكة كما كان يظهر من محمد (ص) جبرئيل (ع) بحيث كان قديراه من كان قرينا له.
[43.61]
{ وإنه لعلم } اى ان عليا (ع) لعلم ومارة علم { للساعة } وقرئ علم بالتحريك اى امارة فان عليا (ع) بولايته من امارات الساعة او من اسباب العلم بالساعة لان من تولاه بالبيعة الخاصة الايمانية ودخل الايمان فى قلبه ايقن بالساعة بشهود اماراته من وجوده، او ان عيسى (ع) من امارات الساعة فان نزوله من علامات الساعة، وقيل: ان القرآن من اسباب العلم بالساعة او محمد (ص) من امارات الساعة فانه بعث هو والساعة كالسبابة والوسطى، او جعل الملائكة منكم من اسباب علم الساعة { فلا تمترن بها واتبعون } اما من كلام الله او من كلام محمد (ص) بتقدير القول والتقدير قل لهم: اتبعون فيما اقول لكم من ولاية على (ع) { هذا صراط مستقيم } جواب سؤال مقدر فى مقام التعليل يعنى هذا المذكور صراط مستقيم، وفسر الصراط ههنا بعلى (ع).
[43.62]
{ ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين } ظاهر العداوة او مظهر لعداوته لانه يصدكم عمن امر الله تعالى ورسوله مرارا بولايته واطاعته بحيث لم يخف على احد امره (ص) باطاعته (ع).
[43.63-64]
{ ولما جآء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم } ذكر حكاية عيسى (ع) وقوله لقومه وبيان حال قومه وقالهم له تسلية للرسول (ص) ولامير المؤمنين (ع) وتهديد لقومهما.
[43.65-66]
{ فاختلف الأحزاب } الحزب بالكسر الطائفة وجماعة الناس، وجمعه الاحزاب { من بينهم } اى فاختلف جماعات من بينهم وعرفه باللام للاشارة الى ان الجماعات المختلفة كأنهم كانوا معهودين { فويل للذين ظلموا } منهم { من عذاب يوم أليم هل ينظرون } ما ينتظرون لظهور اتيان الساعة وعدم جواز انكارها جعلهم مثل من انتظر امرا { إلا الساعة أن تأتيهم } بدل من الساعة بدل الاشتمال { بغتة وهم لا يشعرون } بمجيئه حتى يتهيؤا لها، وقد مضى مكررا ان الساعة قد فسر بساعة الموت وبالقيامة وبظهور القائم (ع).
[43.67]
{ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو } الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر فى بيان حال اليوم والمراد بالخلة ههنا هى الخلة فى الدنيا لا الخلة فى الله وللآخرة بقرينة الاستثناء وسبب صيرورة الخلة الدنيوية عداوة اخروية ان الخلة الدنيوية صارفة للانسان عن بغيته الاخروية وشاغلة له عن الاشغال الالهية فتصير سببا للحسرة والندامة، ويظهر انها كانت عداوة الخليل الدنيوى يعادل خليله لذلك { إلا المتقين } فى افعالهم واحوالهم واخلاقهم عن الجهة الدنيوية فخلتهم لا تكون الا لجهات اخروية ويوم القيامة يظهر اثر تلك الخلة فيتيقن ويشاهد ان الخلة كانت خلة لا عداوة، وقرأ الصادق (ع) هذه الآية فقال: والله ما اراد بهذا غيركم، وعنه (ع): واطلب مواخاة الاتقياء ولو فى ظلمات الارض وان افنيت عمرك فى طلبهم فان الله عز وجل لم يخلق افضل منهم على وجه الارض من بعد النبيين، وما انعم الله تعالى على عبد بمثل ما انعم به من التوفيق لصحبتهم قال الله تعالى: { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين } ، واظن ان من طلب فى زماننا هذا صديقا بلا عيب بقى بلا صديق، ولما ذكر حال ذلك اليوم وشدته بالنسبة الى المخالفين والمنافقين نادى عباده المخصوصين تلطفا بهم وتسكينا لخوفهم منه فقال { يعباد }.
[43.68]
{ يعباد } الذين آمنوا بالولاية فانه لا يصير الانسان عبدا لله تكليفا الا بعد قبول الولاية ولذلك بينهم بقوله
الذين آمنوا بآياتنا..
[الزخرف: 69] (الى آخر الآية) { لا خوف عليكم اليوم } فان شدته لمن كان معرضا عن صاحب ذلك اليوم وهو على (ع) { ولا أنتم تحزنون } وقد مضى اول البقرة وفى غيرها بيان لاختلاف الفقرتين من هذه العبارة.
[43.69]
{ الذين آمنوا بآياتنا } صفة بيانية او خبر لمحذوف اى انتم الذين آمنوا، او مبتدء خبره ادخلوا الجنة بتقدير القول، او خبره يطاف عليهم والمراد بالايمان بالآيات الايمان بصاحبى الولاية من حيث ولايتهم من الانبياء والاولياء (ع) لا من حيث رسالتهم او خلافتهم للرسالة { وكانوا مسلمين } اى منقادين او مسلمين بالبيعة العامة النبوية والمقصود من الاتيان بالاسلام مع الايمان الاشعار بان كلا منهما غير صاحبه فمن سمى بالمسلم بمحض البيعة العامة فلا يسمى بالمؤمن بمحض ذلك وليطلب حقيقة الايمان وما به يصدق عليه المؤمن.
[43.70]
{ ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم } الموافقات لكم سواء كن مؤمنات او لم تكن فان كرامة المؤمن تقتضى دخوله آبائه وازواجه وذرياته الجنة بسببه { تحبرون } الحبر بالفتح السرور والنعمة، والحبير كامير البرد الموشى والثوب الجديد، والحبرة السماع فى الجنة، وكل نعمة حسنة، والمبالغة فيما وصف بجميل، ويجوز ان يكون من كل من تلك المواد.
[43.71]
{ يطاف عليهم } التفات فيه تجديد نشاط { بصحاف } جمع الصحفة بمعنى القصعة { من ذهب وأكواب } جمع الكوب بالضم كوز لا عروة له، او لا خرطوم له { وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون } فان النعيم الزائل مستعقب لالم زواله ومشوب لذته بالم خوف زواله وزحمة حفظه من الزوال.
[43.72]
{ وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون } قد مضى الآية فى سورة الاعراف مع بيان كيفية الايراث.
[43.73]
{ لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون } عد اللذايذ الاخروية بصورة ما يلتذ به المدارك الحيوانية لكون اغلب الناس غير متجاوز عن مرتبة الحيوان والا فالملتذ بلذة الحضور لا يلتفت الى المأكول والمشروب وسائر ملاذ الحيوان، واذا عممت الأكل والشرب وسائر مقتضيات مدارك الحيوان عممت ملاذ الملتذ بلذة الحضور ايضا.
[43.74]
{ إن المجرمين } كأنه قيل: هذا للمطيعين فما للمجرمين؟ - فقال: ان المجرمين { في عذاب جهنم خالدون } وقد فسروا باعداء آل محمد (ص).
[43.75]
{ لا يفتر عنهم } لا يخفف عنهم { وهم فيه مبلسون } متحيرون ساكتون عما فى انفسهم لغاية خوفهم وحيرتهم.
[43.76]
{ وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين } قد مضى فى سورة هود هذه الآية وانه يظن ان الاليق بسياق العبارة ان يقال: وما نحن ظلمناهم ولكنهم ظلموا انفسهم ومضى هناك وجه كونه اليق والجواب عنه.
[43.77]
{ ونادوا يمالك ليقض علينا ربك } سألوا المالك ان يسأل الله موتهم لغيبتهم عن الله وعدم وصولهم اليه حتى يسألوا بأنفسهم خلاصهم بالموت عن العذاب { قال إنكم ماكثون } فى العذاب لا خلاص لكم من العذاب.
[43.78]
{ لقد جئناكم } جواب سؤال مقدر من المالك او من الله فى مقام التعليل { بالحق } المخلوق به وهو المشية التى هى الولاية المطلقة التى هى على (ع) بعلويته، والقمى: هو قول الله عز وجل: وقال يعنى بولاية امير المؤمنين (ع) { ولكن أكثركم للحق كارهون } وقال القمى: يعنى لولاية امير المؤمنين (ع).
[43.79]
{ أم أبرموا أمرا } بعد حكاية مخاطبات المنافقين فى يوم القيامة خاطب نبيه (ص) وقال: بل أبرم هؤلاء المنافقون من امتك امرا فى تكذيب الحق فلا تحزن على تعاهدهم فى مكة وغيرها ان لا يدعوا هذا الامر فى على (ع) { فإنا مبرمون } امره او مبرمون مجازاتهم.
[43.80-81]
{ أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم } احاديثهم التى يسرونها عن غيرهم { ونجواهم بلى } نسمعها { ورسلنا } اى الملائكة الموكلة عليهم { لديهم يكتبون قل } للذين يجعلون لله البنات او للذين يقولون: المسيح ابن الله او عزير ابن الله، او يقولون:
نحن أبناء الله
[المائدة: 18] { إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين } يعنى ان كان له ولد فانا اولى باظهاره ومعرفته لانى اسبق العابدين لله بحسب المرتبة، والاسبق اولى بمعرفة اولاد المعبود وذوى نسبه من غير الاسبق، او انا اول العابدين لذلك الولد يعنى ينبغى ان اكون اول العابدين له لتقدمى عليكم فى عبادة الله وينبغى ان يكون المقدم فى عبادة الله مقدما فى عبادة اولاده، او المعنى ان كان له ولدا فانا اول العابدين؟ على الاستفهام الانكارى يعنى ان كان له ولد كنت اول الجاحدين له لا اول العابدين، او استعمل العابدين من عبدت عن الامر بمعنى انفت منه فالمعنى انا اول الآنفين ان يكون له ولد، وعن امير المؤمنين (ع) اى الجاحدين قال: والتأويل فى هذا القول باطنه مضاد لظاهره وقد ذكرت وجه صحته.
[43.82]
{ سبحان رب السماوات والأرض رب العرش } الذى هو جملة ما سوى الله { عما يصفون } تنزيه له عن الولد بما فيه برهانه فان ربوبية العرش الذى هو جملة المخلوقات تستلزم ربوبية كل جزء فرض من اجزاء العرش وان كان له ولد كان مثله وثانيا له لا مربوبا له.
[43.83-84]
{ فذرهم يخوضوا } فى باطلهم { ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون وهو الذي في السمآء إله وفي الأرض إله } فى السماء اله صلة من غير عائد فالعائد محذوف وهو اما صدر الصلة اى هو فى السماء اله اى معبود ومستحق للعبادة، او سلطان ومدبر لامور السماء، او سائر اجزاء الصلة اى هو الذى فى السماء اله منه او بصنعه او من صنعه، وقد ورد عن امير المؤمنين (ع) انه قال: وقوله هو الذى فى السماء اله وفى الارض اله وقوله
وهو معكم أين ما كنتم
[الحديد:4] وقوله
ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم
[المجادلة:7] فانما اراد بذلك استيلاء امنائه بالقدرة التى ركبها فيهم على جميع خلقه وان فعلهم فعله، وهو يؤيد الوجه الثانى والمعنى الثانى للآية { وهو الحكيم } الذى اتقن صنعه بحيث انه ظهر بصورة امنائه ولم يعلم به احد بل انكروه وانكروا امناءه { العليم } الذى يعلم كيفية اخفاء الهته بحيث لا يشعرون بها بل ينكرونها.
[43.85]
{ وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما } فكيف لا يكون الها فيهما او لا يكون منه اله فيهما { وعنده علم الساعة } التى هى بخرابهما لا عند غيره ولذلك تراهم غافلين عن الساعة لاهين عنها شاغلين بما لا ينفعهم فيها وما لهم يسألونك عن الساعة وليس علمها عندك؟! وقد مضى فى سورة الاعراف وفى غيرها وجه انحصار علم الساعة به تعالى وان من يعلم من الخلفاء ذلك فهم فى ذلك الهيون لا بشريون { وإليه ترجعون } يعنى انكم تكونون فى الحال فى الرجوع اليه على سبيل الاستمرار وان كنتم غافلين عن ذلك الرجوع فاحذروا من مخالفته.
[43.86]
{ ولا يملك الذين يدعون } من الاصنام والكواكب ومن الجن والشياطين او من ائمة الضلالة { من دونه } اى من دون اذن الله، او حال كونهم غير الله، او من دون على (ع) فان الكل لا يملكون { الشفاعة } فكيف بمالكيته شيء من السماوات والارض { إلا من شهد بالحق } استثناء متصل ان اريد بالذين يدعون مطلق المعبودات من المسيح والعزير والملائكة والاصنام والكواكب والائمة الباطلة، وان اريد الاصنام فالاستثناء منقطع، هذا اذا كان المستثنى منه فاعل يدعون وكان المراد بالذين يدعون الذين يدعون الخلق بلسانهم او بحالهم وخلقتهم الى انفسهم، وان كان المراد بالذين يدعون التابعين الذين يعبدون الاصنام وغيرها فالاستثناء من المفعول المحذوف ومفرغ، وقيل: ان النضر بن الحارث ونفرا من قريش قالوا: ان كان ما يقوله محمد (ص) حقا فنحن نتولى الملائكة وهم احق بالشفاعة لنا منه، فنزلت، والمعنى الا من شهد بالحق اى الولاية فيكون الاستثناء مفرغا { وهم } اى الذين يدعون { يعلمون } انهم لا يملكون الشفاعة، او الذين يشهدون بالحق يعلمون الحق لا ان يكون شهادتهم مخالفة لما فى قلوبهم.
[43.87]
{ ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله } لاعترافهم بان آلهتهم ما خلقوا شيئا من ذلك { فأنى يؤفكون } مع هذا الاقرار.
[43.88]
{ وقيله } اى قول الرسول، وقرئ قال الرسول، وقرئ قيله بالجر عطفا على الساعة، وبالنصب عطفا على سرهم، او على محل الساعة، او بتقدير فعل من لفظه اى قال الرسول (ص) قيله، وبالرفع مبتدء خبره { يرب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون } او الخبر محذوف اى قيله يا رب مسموع لنا.
[43.89]
{ فاصفح عنهم } اى اعرض او طهر القلب عنهم { وقل سلام } مداراة او متاركة لا تحية { فسوف يعلمون } تهديد لهم بسوء العاقبة وسوء المجازاة.
[44 - سورة الدخان]
[44.1-2]
{ حم والكتاب المبين } الظاهر او المظهر فضل من نزل عليه، او صدقه، او ظاهر المعنى، او ظاهر الآثار.
[44.3-4]
{ إنآ أنزلناه } من مقامه العالى الذى هو مقام المشية، او مقام الاقلام العالية، او مقام اللوح المحفوظ { في ليلة مباركة } هى ليلة القدر وقد مر فى سورة البقرة كيفية نزول القرآن فى ليلة القدر ونزوله فى مدة ثلاث وعشرين سنة عند قوله:
شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن
[البقرة:185] { إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم }.
اعلم، ان مراتب العالم بوجه غير متناهية، وبوجه سبعون الفا، وبوجه سبع، وبوجه ست، وكل مرتبة دانية بالنسبة الى المرتبة العالية تسمى ليلا لاختلاطها بظلمة الامكان وظلمة الكثرة والفرق اكثر من المرتبة العالية، كما ان المرتبة العالية بالنسبة الى المرتبة الدانية تسمى يوما، ولذلك ترى التعبير عن المراتب فى الآيات والاخبار فى النزول بالليالى وفى الصعود بالايام لاعتبار المنزل اليه بالنسبة الى المنزل منه الذى هو المرتبة العالية والعليا واعتبار المصعود اليه بالنسبة الى المصعود منه الذى هو المرتبة الدانية والدنيا، وان عالم المثال من العالم الكبير مثل الخيال من العالم الصغير فكما ان الانسان كلما اراد ان يفعله يتصوره اولا بنحو كلى فى مقام العقل ثم ينزله عن مقام العقل الى مقام الخيال فيقدر قدره ويتصور خصوصياته ومشخصاته ثم ينزله بتوسط القوى المحركة وتحريك الاعضاء الى الخارج كذلك كان فعل الله وحال الخيال الكلى فان الله اذا اراد ان يفعل فعلا ينزله من عرش المشية الى العقول الكلية والنفوس الكلية اللتين يعبر عنهما بالاقلام العالية والالواح الكلية ثم منهما الى عالم المثال وما لم يصل الامر الى عالم المثال كان بسيطا مجملا غير ممتاز بحسب الوجود العلمى بعضه من بعض وكان موجودا بوجود واحد بسيط، وفى عالم المثال يصير متفرقا ممتازا بعضه من بعض كما يكون الامر فى خيال الانسان كذلك، فان المريد للدار يتصور اولا دارا كليا فاذا تنزلت الى مقام الخيال يتصورها بصورة جزئية مربعة متساوية الاضلاع او مربعة طولانية او غير ذلك مشتملة على بيوت ممتازة بعضها عن بعض، ومشتملة على مشخصاتها من مكانها وزمانها وغير ذلك من مشخصاتها، وقد ينفسخ عزيمته لتلك الدار الموصوفة بالمشخصات فيمحوها عن خياله ويتصور غيرها، وقد يتردد فى تعمير هذه الدار ودار اخرى بنحو آخر، كما ان البداء والتردد والمحو والاثبات المنسوب الى الله يكون من هذا القبيل وفى هذا العالم كما مضى الاشارة اليه فى سورة المؤمن، فالامر المحكم الذى لا يتطرق البطلان والمحو والاثبات والنسخ والتشابه اليه يتنزل من عالم الامر الذي لا يكون فيه وجود ممتاز عن وجود ولا يكون فيه نقص وشر وبطلان ومحو الى عالم المثال الذى يفرق فيه كل امر من آخر ويتطرق المحو والاثبات والبطلان اليه، ويتطرق التشابه الذى هو عدم ثبات المعنى وتطرق النسخ والمحو اليه وهو ليلة القدر التى ليست لملك بنى امية، وكلما يوجد فى هذا العالم لا بد وان ينزل من عالم العقول والنفوس الى ذلك العالم ويقدر قدره فيه ثم يظهر فى هذا العالم، كما ان كلما يظهر على الاعضاء لا بد وان ينزل من العقل الى الخيال فيقدر قدره، ثم يظهر على الاعضاء، ولما كانت النفوس كلية كانت او جزئية متحدة مع فاطمة (ع) فى مقامها النازل ومظهرا لها (ع) جاز تفسير ليلة القدر بها، كما عن الكاظم (ع) حين سأله نصرانى عن تفسير هذه الآية فى الباطن، فقال: اما حم فهو محمد (ص) وهو فى كتاب هود الذى انزل اليه وهو منقوص الحروف، واما الكتاب المبين فهو امير المؤمنين على (ع)، واما الليلة ففاطمة (ع)، واما قوله فيها يفرق كل امر حكيم يقول يخرج منها خير كثير فرجل حكيم، ورجل حكيم، ورجل حكيم (الى آخر الحديث)، وعن الباقر (ع) والصادق (ع) والكاظم (ع) اى انزلنا القرآن والليلة المباركة هى ليلة القدر انزل الله سبحانه القرآن فيها الى البيت المعمور جملة واحدة، ثم نزل من البيت المعمور على رسول الله (ص) فى طول عشرين سنة، وعن الباقر (ع) قال: قال الله عز وجل فى ليلة القدر { فيها يفرق كل أمر حكيم } قال ينزل فيها كل امر حكيم والمحكم ليس بشيئتين انما هو شيء واحد فمن حكم بما ليس فيه اختلاف فحكمه من حكم الله، ومن حكم بامر فيه اختلاف فرأى انه مصيب فقد حكم بحكم الطاغوت، انه لينزل فى ليلة القدر الى ولى الامر تفسير الامور سنة سنة يؤمر فيها فى امر نفسه بكذا وكذا، وفى امر الناس بكذا وكذا، وانه ليحدث لولى الامر سوى ذلك كل يوم علم الله الخاص والمكنون العجيب المخزون مثل ما ينزل فى تلك الليلة من الامر ثم قرأ:
ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام
[لقمان:27] (الآية)؛ والغرض من نقل هذا الخبر بيان قوله (ع) فمن حكم بما ليس فيه اختلاف (الى قوله) فقد حكم بحكم الطاغوت لانه يظن فى بادى الامر ان فى حكم الائمة ايضا اختلافا، لانه ما من مسألة الا وفيها اخبار متخالفة او متضادة او متناقضة صادرة عنهم، وقد ذكر صاحب التهذيب رحمه الله فى اول التهذيب: " ذاكرنى بعض الاصدقاء ايده الله ممن اوجب حقه باحاديث اصحابنا ايدهم الله ورحم السلف منهم وما وقع فيها من الاختلاف والتباين والمنافاة والتضاد حتى لا يكاد يتفق خبر الا وبازائه ما يضاده ولا يسلم حديث الا وفى مقابلته ما ينافيه حتى جعل مخالفونا ذلك من أعظم الطعون على مذهبنا، وتطرقوا بذلك الى ابطال معتقدنا، وذكروا انه لم يزل شيوخكم السلف والخلف يطعنون على مخالفيهم بالاختلاف الذى يدينون الله به ويشنعون عليهم بافتراق كلمتهم فى الفروع ويذكرون ان هذا مما لا يجوز ان يتعبد به الحكيم ولا ان يبيح العمل به العليم وقد وجدناكم اشد اختلافا من مخالفيكم واكثر تباينا من مباينيكم، ووجود هذا الاختلاف منكم مع اعتقادكم بطلان ذلك دليل على فساد الاصل حتى حصل على جماعة ممن ليس لهم قوة فى العلم ولا بصيرة بوجودة النظر ومعانى الالفاظ الشبهة، وكثير منهم رجع عن اعتقاد الحق لما اشتبه عليه الوجه فى ذلك وعجز عن حل الشبهة فيه، سمعت شيخنا ابا عبد الله ايده الله يذكر ان ابا الحسين الهادونى العلوى كان يعتقد الحق ويدين بالامامة فرجع عنها لما التبس عليه الامر فى اختلاف الاحاديث وترك المذهب ودان بغيره لما لم يتبين له وجوه المعانى فيها، وهذا يدل على انه دخل فيه على غير بصيرة واعتقد المذهب من جهة التقليد ".
وتحقيق ذلك ان مراتب الرجال متفاوتة فى الدين فان للايمان عشر درجات ولكل درجة عشرة اجزاء، فمنهم من يكون على جزء من اجزاء الدرجة الاولى، ومنهم من يكون على جزئين ومنهم من يكون على الدرجة الثانية بأجزائها وهكذا ولو ذهب تحمل صاحب الدرجة الاولى على الدرجة الثانية اهلكته كما اشير اليه فى الاخبار، وصاحب كل درجة له حكم غير حكم صاحبه كما حققنا ذلك فى سورة البقرة عند تحقيق النسخ فى قوله تعالى:
ما ننسخ من آية
[البقرة: 106] (الآية) فمن لم يكن له بصيرة بمراتب الرجال وباختلاف احوالهم لا يحكم بحكم الا ويتطرق اليه الاختلاف بحسب اعتقاده، فانه كما يظن ان هذا حكم هذا الرجل يجوز ان يكون حكمه غير هذا، وهذا معنى قوله (ع) من حكم بامر فيه اختلاف يعنى بحسب اعتقاده فرأى انه مصيب فقد حكم بحكم الطاغوت لان حكم هذا الحاكم ليس الا من رأيه المنسوب الى انانيته لا من حكم الله، ومن كان بصيرا بمراتب الرجال وبصيرا بالاحكام وبكيفية تعلقها بالرجال بحسب مراتب ايمانهم لا يحكم الا عن اراءة الله كيفية تعلق الاحكام بالرجال ولا يحكم عن قياس ورأى ولا يكون فى حكمه هذا اختلاف بمعنى انه لا يجوز ان يكون حكم مخالف لهذا الحكم يخلفه لانه حكم عن رؤية لا عن رأى وقياس، ولما كان مراتب الرجال ودرجاتها فى الايمان غير متناهية فالاحكام ايضا تكون غير متناهية، وربما يكون لشخص واحد بحسب توارد احوال مختلفة عليه احكام متخالفة متواردة عليه، ووجه اختلاف الاخبار فى الاحكام ليس محض التقية ولا محض اختلاط الاكاذيب والاغلاط بها بل كان عمدة وجه اختلاف الاخبار اختلاف احوال الرجال، ولولا اختلاف الاخبار فى المسألة الواحدة بالنسبة الى اشخاص عديدة كان ينبغى ان يترك المذهب لا ان اختلافها كذلك ينبغى ان يصير سببا للخروج من المذهب كما قاله الشيخ رحمه الله فى التهذيب.
[44.5-6]
{ أمرا من عندنآ } تفخيم لذلك الامر الحكيم وهو تميز عن نسبة الحكيم الى ضمير الامر، او حال مما يجوز ان يكون حالا منه، او منصوب بفعل محذوف تقديره اعنى امرا من عندنا، او مفعول له ليفرق اى لكونه مأمورا من عندنا، او مفعول مطلق لفعله المحذوف { إنا كنا مرسلين رحمة من ربك } بدل من انا كنا منذرين او تعليل لقوله تعالى:
فيها يفرق كل أمر حكيم
[الدخان: 4] يعنى فيها يفرق كل امر حكيم لان من عادتنا ارسال الرحمة، او من عادتنا ارسال الرسل ولازم ارسال الرسل تفريق الامر الحكيم فى ليلة القدر ورحمة مفعول به او مفعول له، ووضع من ربك فى موضع الضمير للاشعار بان ربوبيته تقتضى ذلك { إنه هو السميع } لا سميع سواه فيسمع اقوال العباد بألسنتهم القالية والحالية والاستعدادية { العليم } لا عليم سواه فيعلم ما يسألونه بألسنتهم القالية والحالية ومقتضى ربوبيته وسماعه وعلمه بما يصلح السائل وما يفسده ان يرسل رسولا وينزل احكاما بحسب مسؤل العباد.
[44.7]
{ رب السماوات والأرض } قرئ بالرفع خبرا بعد خبر او خبرا لمحذوف، او مبتدء خبره لا اله الا هو او يحيى ويميت او ربكم ورب آبائكم الاولين { وما بينهمآ إن كنتم موقنين } علمتم ذلك.
[44.8]
{ لا إله إلا هو يحيي ويميت ربكم ورب آبآئكم الأولين } ولكن ليس لهم يقين.
[44.9]
{ بل هم في شك يلعبون } بالدين ويجعلونه آلة اشتغال خيالهم واطمينانه.
[44.10-11]
{ فارتقب } اى فانتظر مراقبا لهم { يوم تأتي السمآء بدخان مبين يغشى الناس } يحيط الدخان او اليوم بسبب الدخان بالناس { هذا عذاب أليم } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: ما هذا الدخان؟ - فقال: هذا عذاب اليم او حال بتقدير القول من الله، او من الملائكة، او من الناس.
اعلم، ان وقت الاحتضار يرى دخان من الباطن بين السماء والارض ولذلك ورد ان الدخان من اشراط الساعة فانه روى ان اول آيات الساعة الدخان ونزول عيسى (ع) ونار تخرج من قعر عدن ابين تسوق الناس الى المحشر، قيل: وما الدخان؟ فتلا رسول الله (ص) هذه الآية وقال:
" يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث اربعين يوما وليلة، اما المؤمن فيصيبه كهيئة الزكام واما الكافر فهو كالسكران يخرج من منخريه واذنيه "
، وقيل: ان رسول الله (ص) دعا على قومه لما كذبوه فاجدبت الارض والمراد بيوم تأتى السماء بدخان مبين ذلك القحط فان الجائع يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان من ضعف بصره، او لان الهواء يظلم عام القحط لقلة الامطار وكثرة الغبار، او لان العرب يسمى الشر الغالب دخانا وكان قحطهم بحيث اكلوا جيف الكلاب وعظامها.
[44.12]
{ ربنا اكشف } حال او جواب لسؤال مقدر بتقدير القول { عنا العذاب إنا مؤمنون } بك او برسولك او بخليفته او باليوم الآخر.
[44.13]
{ أنى لهم الذكرى } جواب سؤال مقدر، او حال بتقدير القول { وقد جآءهم رسول مبين } ظاهر الصدق او مظهر لصدقه.
[44.14]
{ ثم تولوا عنه وقالوا معلم } يعلمه ما يقول غلام اعجمى لبعض ثقيف { مجنون } يعنى لم يكن براهين صدق الرسول (ص) باقل من معاينتهم فكما تولوا عنه مع براهينه يتولون بعد ذلك ايضا مع معاينتهم يعنى ان بعضهم قالوا: هو معلم، وبعضهم قالوا: هو مجنون بعد ما رأوا منه شبه الغشى حين نزول الوحى.
[44.15]
{ إنا كاشفو العذاب } جواب لسؤالهم { قليلا إنكم عآئدون } الى الانكار ان كان المراد عذاب القحط وقد رفع القحط وعادوا الى الانكار كما قيل، او المعنى انا كاشفوا عذاب الموت وعذاب الدخان قليلا لانكم عائدون الينا ان كان المراد عذاب الاحتضار.
[44.16-17]
{ يوم نبطش البطشة الكبرى } اى يوم القيامة او يوم بدر { إنا منتقمون ولقد فتنا } وابتلينا { قبلهم قوم فرعون } بانواع العذاب التسعة { وجآءهم رسول كريم } اى كريم الاخلاق والافعال، او كريم الاصل والآباء، لانه كان من اولاد الانبياء (ع)، او كريم عند الله.
[44.18-19]
{ أن أدوا إلي عباد الله } اى جاءهم بهذه الرسالة التى هى قوله: أدوا الى بنى اسرائيل على ان يكون عباد الله مفعولا به، او أدوا الى اماناتكم التى هى وديعة من الله عندكم من الاستعدادات المودعة فيكم للترقى الى الله ويكون عباد الله حينئذ منادى { إني لكم رسول أمين وأن لا تعلوا على الله } بالاستعلاء على خليفته { إني آتيكم بسلطان مبين } لصدقى وهو يده وعصاه، فلما قال ذلك توعدوه بالقتل والرجم كما قيل، فقال { وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون }.
[44.20]
{ وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون } بالحجارة، وقيل: بالشتم.
[44.21-22]
{ وإن لم تؤمنوا لي } ولم تصدقونى فلا تؤذونى فان ايذائى موجب لعذاب اليم لكم لا مدفع عنه قال ذلك رحمة عليهم { فاعتزلون فدعا ربه } بعد ما بالغ غاية جهده فى نصحهم ومضى على ذلك سنون وابتلوا مرارا وكانوا كلما ابتلوا وعدوه بارسال بنى اسرائيل وترك استعبادهم وبالايمان به، وكلما نجوا من العذاب نقضوا عهدهم، فلما رأى انه لا ينفع فيهم النصح ولا الابتلاء دعا ربه { أن هؤلاء قوم مجرمون } تعريض بعذابهم وهلاكهم ولذلك قال: دعا ربه.
[44.23]
{ فأسر } يعنى فأجبناه الى مسؤله واردنا اهلاكهم فقلنا له أسر { بعبادي } يعنى بنى اسرائيل { ليلا إنكم متبعون } يتبعكم القبطيون.
[44.24]
{ واترك البحر رهوا } اى ساكنا على هيئته التى عبرته ولا تضربه بعصاك حتى ينطبق على الطرق التى عبرتها او اتركه منفتحا وسيعا حتى يطمع فرعون وقومه للدخول، وقيل: لما قطع موسى البحر عطف ليضرب البحر بعصاه ليلتئم وخاف ان يتبعه فرعون وجنوده فقيل له: { واترك البحر رهوا } واترك البحر رهوا اى كما هو طريقا يابسا، والرهو السير السهل والمكان المرتفع والمنخفض { إنهم جند مغرقون } جواب لسؤال مقدر عن علة الحكم او عن حالهم.
[44.25-27]
{ كم تركوا } جواب لسؤال آخر كأنه قيل: فما فعل بهم؟ - وما صار حالهم؟ - فقال: كم تركوا { من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين } اى متمازحين آتين بظرافة الكلام او متلذذين.
[44.28]
{ كذلك } كانوا او الامر كذلك او حال كونهم ثابتين كذلك { وأورثناها قوما آخرين } هم بنو اسرائيل.
[44.29-30]
{ فما بكت عليهم السمآء والأرض } تمثيل لعدم الاعتناء بهلاكهم فانه مثل فى العرب والعجم لابتلاء قوم ببلية ولم يكن اعتناء بهم وببلائهم، عن امير المؤمنين (ع) انه مر عليه رجل عدو لله ولرسوله فقال: فما بكت عليهم السماء والارض وما كانو منظرين ثم مر عليه الحسين (ع) ابنه فقال: لكن هذا لتبكين عليه السماء والارض، قال: وما بكت السماء والارض الا على يحيى بن زكريا (ع) وعلى الحسين (ع) بن على، وفى خبر فما بكاؤها؟ - قال: كانت تطلع حمراء وتغيب حمراء، وفى خبر: بكت السماء على الحسين (ع) اربعين يوما بالدم { وما كانوا منظرين ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين } هو استعبادهم وامر القبطى لهم بحمل الطين على السلاليم مع انهم كانوا فى القيود وقتل ابنائهم واستحياء نسائهم.
[44.31-32]
{ من فرعون } بدل نحو بدل الاشتمال { إنه كان عاليا } مسلطا على ارض مصر { من المسرفين ولقد اخترناهم على علم } حال عن الفاعل او المفعول { على العالمين } على عالمى زمانهم.
[44.33]
{ وآتيناهم من الآيات } كفلق البحر وتظليل الغمام وايتاء المن والسلوى { ما فيه بلاء } اى نعمة او اختبار { مبين } او المعنى آتينا فرعون وقومه من الآيات الدالة على صدق موسى (ع) فى رسالته وصدقه فى ايتاء العذاب او آتينا القبطيين والسبطيين من الآيات ما فيه اختبار ونعمة ظاهرة.
[44.34-35]
{ إن هؤلاء } قريش بعد ذكر قصة قوم فرعون لتهديد قريش ذكر حال قريش بنحو كونها جوابا لسؤال مقدر { ليقولون إن هي إلا موتتنا الأولى } اى ان الموتة، او ان الفتنة، او ان العاقبة ونهاية الامر الا موتتنا الاولى انكارا للمعاد { وما نحن بمنشرين } معادين مبعوثين.
[44.36]
{ فأتوا بآبآئنا } الميتين بالموتة الاولى { إن كنتم صادقين } فى وعد الاعادة والثواب والعقاب، جعلوا الاعادة والبعث فى الآخرة والانتهاء عن الدنيا فى الدنيا، فقاسوا قياسا سقيما ولم يدروا ان من صار بالفعل لا يمكن ان يصير بالقوة، والاعادة فى الدنيا لا تكون الا بجعل ما بالفعل بالقوة، واما الرجعة الى الدنيا التى ذكرت فى الاخبار بنحو الاجمال وقال بها الفقهاء رضوان الله عليهم واحياء الاموات الذى نسب الى الاكابر فهى ليست بجعل ما بالفعل بالقوة وانما هى توسعة من الكامل فى وجود الميت.
[44.37-38]
{ أهم خير أم قوم تبع } تبع اسم لملك اليمن ولا يسمى بهذا الاسم الا من كان حميريا والتبابعة جمعه وسمى تبعا لكثرة اتباعه او لاتباعه سائر ملوك اليمن، وتبع هذا هو الذى سار بالجيوش وأتى سمرقند فهدمها ثم بناها، وقيل: بناها اولا وكان اذا كتب كتب باسم الذى ملك برا وبحرا وضحا وريحا، وعن النبى (ص):
" لا تسبوا تبعا فانه كان قد اسلم "
ولذلك ذم قومه ولم يذمه، وقيل: قال للاوس والخزرج: كونوا ههنا حتى يخرج هذا النبى (ص) اما أنا لو ادركته لخدمته وخرجت معه { والذين من قبلهم } كقوم نوح وعاد وثمود يعنى انهم كانوا احسن احوالا بحسب الدنيا منهم، كانوا اقوى قوة واكثر اموالا واولادا واطول اعمارا ومعذلك { أهلكناهم } بكفرهم وهؤلاء اخس احوالا منهم واشد كفرا فكيف نفعل بهم؟! { إنهم كانوا مجرمين وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين } حتى نكون نلعب بخلقهم ولا نتعرض بهم وثوابهم وعقابهم.
[44.39]
{ ما خلقناهمآ } وما بينهما { إلا بالحق } الذى هو الولاية المطلقة التى بها حقية كل حقية كل ذى حق فاذا كان خلقهما وخلق نتائجهما بالحق فلا تكون تؤل الى باطل او تصير باطلة { ولكن أكثرهم لا يعلمون } ليس لهم علم اصلا بل كان مالهم من صورة العلم جهلا مشابها للعلم ولذلك تراهم اعداء لاهل العلم او لا يعلمون ان ذلك كذلك.
[44.40]
{ إن يوم الفصل } اى يوم القيامة { ميقاتهم أجمعين } فنفصل هناك بين المحق والمبطل والعالم والجاهل المشابه للعالم.
[44.41]
{ يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا } اى شيئا من الاغناء او شيئا من عذاب الله { ولا هم ينصرون } اى لا ينصرهم بعد ابتلائهم مواليهم ولا غير الموالى.
[44.42]
{ إلا من رحم الله } استثناء من مولى الاول او الثانى او من مرفوع ينصرون، ومن رحمه الله منحصر بمن قبل الولاية بالبيعة الخاصة، او من قبل الولاية حال حضور على (ع) وقت الاحتضار { إنه هو العزيز } تعليل لعدم اغناء الموالى وعدم النصرة { الرحيم } تعليل لشفاعة من رحمه الله، عن الصادق (ع): والله ما استثنى الله عز ذكره باحد من اوصياء الانبياء (ع) ولا اتباعهم ما خلا امير المؤمنين (ع) وشيعته فقال فى كتابه وقوله الحق: { يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون * إلا من رحم الله } يعنى بذلك عليا (ع) وشيعته.
[44.43-44]
{ إن شجرة الزقوم طعام الأثيم } قد مر بيان شجرة الزقوم فى سورة الصافات.
[44.45-46]
{ كالمهل } المهل اسم لجميع معدنيات الجواهر كالفضة والحديد ونحوهما، والقطران الرقيق وما ذاب من صفر او حديد، والزيت او درديه او رقيقه، والسم والقيح وصديد الميت، { يغلي في البطون كغلي الحميم } الماء الحار المنتهى فى الحرارة.
[44.47]
{ خذوه } جواب لسؤال مقدر، او حال بتقدير القول اى يقال للزبانية خذوه { فاعتلوه } عتله جره عنيفا { إلى سوآء الجحيم } اى وسطها.
[44.48]
{ ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم } اى من الماء الحار غاية الحرارة واضافة العذاب للاشارة الى ان المنظور من صب ذلك الماء عذابه به قائلين.
[44.49]
{ ذق إنك أنت العزيز الكريم } يعنى يقال ذلك له استهزاء، روى ان ابا جهل قال لرسول الله (ص): (ما بين جبليها اعز ولا اكرم منى)، فيعير بذلك فى النار.
[44.50]
{ إن هذا ما كنتم به تمترون } تشكون او تجادلون.
[44.51]
{ إن المتقين في مقام أمين } صاحبه من الشرور والآفات.
[44.52-53]
{ في جنات وعيون يلبسون من سندس وإستبرق } السندس الرقيق من الحرير، والاستبرق الغليظ منه { متقابلين } فان التقابل اشرف انواع المجالسة.
[44.54]
{ كذلك } قد مضى هذا اللفظ قبيل هذا { وزوجناهم بحور عين } الحوراء مؤنث احور الابيض، والعيناء مؤنث اعين عظيم العينين.
[44.55]
{ يدعون فيها بكل فاكهة } يدعون كل انواع الفاكهة فى كل زمان لا اختصاص بشيء منها بزمان دون زمان ولا مكان دون مكان { آمنين } من الآفات والشرور.
[44.56-57]
{ لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم } للخلاص من المكاره والفوز بما ليس فيه شوب تعب ولا خوف زوال.
[44.58-59]
{ فإنما يسرناه } اى القرآن او ما ذكر من الجنان ونعيمها او فضل ولاية على (ع) وقرأناها { بلسانك لعلهم يتذكرون فارتقب } فانتظر ما وعدناهم من العذاب { إنهم مرتقبون } لحلول النقمة بك او انهم مثل من يرتقب امرا يرتقبون ما تذكر لهم من العذاب.
[45 - سورة الجاثية]
[45.1-3]
{ حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين } قد مضى مكررا ان فى خلقة كل من السماوات والارض آيات عديدة من كواكب السماء وكيفية حركاتها المتناسقة ومزاجها وتأثيراتها الغريبة، ومن كون الارض بسيطة ساكنة لا يغمر فيها الرجل، وليست بصلبة حتى لا يمكن التصرف فيها بالزراعات والعمارات واجراء القنوات وغير ذلك، وفى ازدواج السماوات والارض وتأثير السماوات وما فيها فى الارض وتأثر الارض وما فيها منها ايضا آيات، وفى خلقة كل من مواليد الارض بحيث يطلب كمال نوعه ويفر مما يضر بذاته وكماله وبحيث يتهيؤ له ويجتمع فيه اسباب تحصيل كماله المفقود وحفظ كماله الموجود آيات عديدة لكن كل ذلك آيات للمؤمنين البائعين البيعة العامة او الخاصة، او للمذعنين المنقادين الذين القوا السمع لا للغافلين المعرضين.
[45.4]
{ وفي خلقكم وما يبث من دآبة } اى من ذى روح يكون له حركة { آيات لقوم يوقنون } غير الاسلوب اشعارا بان من حصل له اليقين لا يكون يقينه الا فى ازدياد وحصول على التدريج فان صاحب اليقين هو الذى يكون له قلب وليس الا من بايع البيعة الخاصة واشتغل بنفسه ووجد بوجدانه آثار عمله، ومن صار كذلك يزداد يقينه العلمى والوجدانى الى ان حصل له اليقين الشهودى واليقين التحققى، ولما كان آيات خلق الانسان وخلق سائر الدواب بالنسبة الى آيات السماوات والارض اخفى منها لا بد وان يكون للمؤمن يقين بآثار ايمانه حتى يدرك آيات خلقة الانسان خصوصا آيات الانفس، فان ادراكها لا يكون الا بعد الاشتغال بالنفس ووجدان صفات النفس رذائلها وخصائلها واليقين بآثار الاعمال وضرر الرذائل ونفع الخصائل، والا بعد اليقين بآثار صفات الله تعالى ووجدانها فى وجوده.
[45.5]
{ واختلاف الليل والنهار } اى اختلاف الليل والنهار الطبيعيين بتعاقبهما، وبالبرودة والحرارة وبالزيادة والنقيصة وبالظلمة والاضاءة، وكذلك اختلاف عالم الطبع وعالم المثال والسقم والصحة والغم والسرور وغير ذلك من مصاديق الليل والنهار { ومآ أنزل الله من السمآء من رزق } من اسباب رزق من الامطار واشعة الكواكب وبرودة الهواء وبرودة الليل وحرارة النهار او من رزق انسانى من الكمالات النفسانية التى تنزل من سماء العقول والنفوس، وأتى بالرزق منكرا تحقيرا بالنسبة الى الرزق الجسمانى وتفخيما بالنسبة الى الرزق الانسانى { فأحيا به } اى باسباب الرزق الجسمانى او بنفس الرزق الانسانى { الأرض } الطبيعية بتهييج القوى والعروق المكمونة فيها والارض الانسانية بحياة العلم والدين والايمان { بعد موتها } بعد كونها ميتة { وتصريف الرياح } وفى تصريفها بقاء المواليد وحركات السحاب وتوسعة الامطار فى البلاد ورفع العفونات عن الهواء { آيات لقوم يعقلون } يدركون بعقولهم بعد اليقين او يصيرون عقلاء وصاحبى مقام العقل بعد ان كانوا موقنين وصاحبى مقام القلب، ولخفاء دلالتها على مبدء مدبر حكيم عليم رؤف رحيم خصصها بالعقلاء.
[45.6-7]
{ تلك } المذكورات { آيات الله } الدالة عليه او الناشئة منه { نتلوها عليك بالحق } متلبسين او متلبسات بالحق الذى هو الولاية المطلقة { فبأي حديث بعد الله } بعد انكاره { وآياته يؤمنون ويل لكل أفاك } كذاب { أثيم } بالغ فى الاثم.
[45.8-10]
{ يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر } على كفره او على جحوده لولاية على (ع) { مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم وإذا علم من آياتنا شيئا } اى اذا رأى من آياتنا العظمى الذين هم مظاهر الولاية { اتخذها هزوا } اى الآيات او الشيء المرئى، والتأنيث باعتبار المعنى { أولئك لهم عذاب مهين من ورآئهم جهنم } اى من وراء عذابهم المهين جهنم، او هو بيان للعذاب المهين { ولا يغني عنهم ما كسبوا } من الاموال والاولاد، او من الاعمال التى فعلوها فى الاسلام، فان شرط قبولها واغنائها عن عذاب الله عدم رد الولاية ان كان موتهم فى زمن الرسول (ص)، وقبول الولاية ان كان بعد زمن الرسول (ص) { شيئا } من عذاب الله { ولا ما اتخذوا من دون الله } نفسه او من دون مظاهر الله وخلفائه { أوليآء } فى العبادة كالاصنام والكواكب، واولياء فى الطاعة مثل رؤساء الضلالة { ولهم عذاب عظيم } تأكيد على التأكيد.
[45.11]
{ هذا } اى المذكور من الآيات او القرآن او قرآن ولاية على (ع)، او هذا الامر من ولاية على (ع) او الاسلام وقبوله واحكامه { هدى } الى الايمان { والذين كفروا بآيات ربهم } التكوينية الآفاقية والانفسية وخصوصا الآيات العظمى الذين هم خلفاء الله فى الارض والتدوينية { لهم عذاب من رجز أليم } الرجز اشد العذاب.
[45.12]
{ الله الذي سخر لكم البحر } كلام منقطع عن سابقه وتعداد لنعمه على خلقه مشيرا الى كونها آيات قدرته كما ان ما سبق كان تعدادا لآيات قدرته مشيرا الى كونها من نعمه { لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله } بجريان الفلك والتجارات الرابحة { ولعلكم تشكرون } نعمة تسخير البحر وجريان الفلك والارباح.
[45.13]
{ وسخر لكم } اى لانتفاعكم او جعل مسخرا لكم { ما في السماوات وما في الأرض جميعا } فان السماوات والسماويات مسخرات لله لانتفاع جميع الكائنات ومسخرات لبعض النفوس الانسانية، والارض والارضيات مسخرات لله لانتفاع الانسان، وبعض الارضيات مسخرات للانسان ايضا { منه } قرئ منه بلفظ من الجارة والضمير والمعنى سخر من قبله لا من قبلكم ومن قبل اسبابكم الطبيعية او المعنى ذلك رحمة منه، وقرئ منة بتشديد النون والتاء بالرفع والنصب { إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } باستعمال المبادئ المشهودة والمعقولة واخذ النتائج منها سواء كان المستعمل مؤمنا او موقنا او عاقلا.
[45.14]
{ قل للذين آمنوا يغفروا } قد سبق مكررا انه تعالى للاشارة الى ان توجه محمد (ص) مؤثر فيهم بحيث يجعلهم على اوصاف الروحانيين لم يأت بمقول قوله ويقتصر على لفظ قل فى جزم المضارع الآتى بعده كأنه قال: قل ما شئت وتوجه اليهم ان تقل لهم قولا يغفروا بدون امرك لهم بالمغفرة { للذين لا يرجون أيام الله } قد مر بيان ايام الله فى سورة ابراهيم عند قوله تعالى:
وذكرهم بأيام الله
[إبراهيم:5] والمراد من الذين لا يرجون ايام الله الذين اشتغلوا عن دينهم بدنياهم ولا يترقبون من دينهم الا اصلاح دنياهم، والذين لم يعتقدوا مبدء او لم يعتقدوا معادا فان ايام الله عبارة عن مقامات الآخرة ودرجاتها، ومن رجا درجات الآخرة ومقاماتها يكون ناظرا اليها متوجها فى اعماله واحواله الى جهتها، ومن لم يعتقدها او لم يكن عمله لها لم يكن راجيا لها، والمقصود تأديب المؤمنين الذين بايعوا البيعة الخاصة بان لا ينظروا الى ظاهر افعالهم واحوالهم فيتركوا معاشرتهم ونصحهم ودلالتهم على خيرهم فانهم كانوا كذلك فمن الله عليهم بالايمان ورجاء ايام الله، وشكر هذه النعمة ان يرحموا عباد الله ويظهروا ما انعم الله به عليهم ويدلوا غيرهم عليها فان الله اذا انعم على عبد احب ان يراها عليه، ومن لم يظهرها كان كافرا لتلك النعمة، عن الصادق (ع) انه قال: قل للذين مننا عليهم بمعرفتنا ان يعرفوا الذين لا يعملون فاذا عرفوهم فقد غفروا لهم { ليجزي قوما } قرئ بالغيبة والبناء للفاعل، والفاعل هو الله وبالبناء للمفعول وضمير المصدر يكون نائبا عن الفاعل، وقرئ بالنون { بما كانوا يكسبون } قيل: يقول الله تعالى لائمة الحق: لا تدعوا على ائمة الجور حتى يكون الله هو الذى يعاقبهم.
[45.15-16]
{ من عمل صالحا } جواب لسؤال مقدر فى مقام التعليل لغفرانهم { فلنفسه ومن أسآء فعليها } فلا حاجة للمسيء الى عقوبة اخرى منكم.
اعلم، ان انسانية الانسان تقتضى الاحسان والعمل الصالح، فاذا احسن الانسان كان الاحسان ملائما له من حيث انسانيته والواصل الى ملائمته ملتذ بها ومنتقم بها، فلو لم يكن له اجر آخر كان الوصول الى ملائماته كافيا له اجرا وثوابا والحال ان الاحسان يتجسم له فى الآخرة بأحسن صورة ويستتبع صورة اخرى مناسبة له فالمحسن يتنعم باحسانه ثلاث مرات، واذا اساء الانسان كان الاساءة منافية لانسانيته وغير الملائم موذ للانسان وان كان تلك الاساءة ملائمة لقوة اخرى بهيمية او سبعية او شيطانية فلو لم يكن للمسيء عقوبة اخرى كان الاساءة كافية له عقوبة، والحال ان الاساءة تتجسم فى الآخرة بصورة قبيحة موذية وتستتبع صورة اخرى قبيحة موذية فى الآخرة، فالمسيء يعاقب باساءته ثلاث مرات، وللاشارة الى النفع والضر الحاصلين حين الاحسان والاساءة قال: من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها يعنى حين العمل يكون نفعه وضره حاصلين له، وللاشارة الى الاجر والعقوبة الاخرويين قال تعالى: { ثم إلى ربكم ترجعون ولقد آتينا } عطف على قوله تنزيل الكتاب من الله او عطف على قوله
الله الذي سخر لكم البحر
[الجاثية: 12] ووجه المناسبة غير مخفى { بني إسرائيل } يعنى بنى يعقوب { الكتاب } قد مضى مكررا ان الكتاب يطلق على الولاية وآثارها، والنبوة واحكامها، والرسالة واحكامها، والكتاب التدوينى صورة الكل فيجوز ان يراد بالكتاب ههنا التوراة والرسالة والولاية والاولى ان يراد به التوراة او الرسالة { والحكم } ان اريد بالكتاب التوراة فالمراد بالحكم الحكومة بين الناس التى هى لازم الرسالة فيكون كناية عن الرسالة، وان اريد به الرسالة فالمراد بالحكم الحكمة التى هى عبارة عن اللطف فى العلم والعمل الذى هو من آثار الولاية { والنبوة } بحيث قيل: انه كان فيهم الف نبى (ع) { ورزقناهم من الطيبات } بحسب مقامهم الحيوانى من المأكول والمشروب والملبوس والمسكون والمركوب، وبحسب مقامهم الانسانى مما كان يرد عليهم من الغيب من العلوم والوجدانات والمشاهدات { وفضلناهم على العالمين } بواسطة ايتاء ذلك لهم والمراد بالعالمين اهل زمانهم والا فامة محمد (ص) كانوا افضل منهم.
[45.17]
{ وآتيناهم بينات من الأمر } المراد بالبينات المعجزات او احكام الرسالة او احكام النبوة او دلائل امر الرسالة او النبوة او الولاية، والمراد بالامر المذكورات، او عالم الامر، او امر الله، ومن للابتداء، او للتبعيض، او للتعليل وهذا تعريض بامة محمد (ص) كأنه تعالى قال: فتنبهوا يا امة محمد (ص) فانا آتيناكم الكتاب والحكم والنبوة ورزقناكم من الطيبات وفضلناكم على العالمين وآتيناكم بينات من الامر فلا تختلفوا حين حياة محمد (ص) ولا بعد مماته مثل بنى اسرائيل فتستحقوا عقوبتى مثلهم { فما اختلفوا } بالرد والقبول { إلا من بعد ما جآءهم العلم بغيا } ظلما او استكبارا { بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } من امر الولاية والخلافة، او من مطلق امر الدين.
[45.18]
{ ثم جعلناك } يعنى بعد بنى اسرائيل جعلناك { على شريعة من الأمر } اى امر الرسالة والنبوة والولاية يعنى انا آتينا بنى اسرائيل الرسالة والنبوة والولاية وجعلناك بعدهم على جادة الطرق وسوائها تفضيلا لك عليهم بجعلك على الشريعة التى هى مشرع كل الامم وكل الطرق { فاتبعها ولا تتبع أهوآء الذين لا يعلمون } فى خصوص الولاية، او فى مطلق ما آتيناك من امر الدين.
[45.19]
{ إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا } اى من عذابه شيئا { وإن الظالمين بعضهم أوليآء بعض } فلا تتخذ منهم وليا حتى تصير ظالما، وهذه كلها تعريض بامته (ص) واشارة الى اختلافهم فى امر الولاية { والله ولي المتقين } عن الرأى او اتباع النفس، وقد سبق مكررا ان المتقى ليس الا شيعة على بن ابى طالب (ع).
[45.20-22]
{ هذا } المذكور من اول السورة او هذا القرآن او قرآن ولاية على او على (ع) { بصائر } ما يتبصر به لكن لما لم يكن بدون الولاية يحصل بصيرة لاحد كان المراد به الولاية { للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم } فى المنزلة والمقام { كالذين آمنوا وعملوا الصالحات } المراد بالايمان ههنا البيعة الخاصة، او الحال الحاصلة بالبيعة الخاصة او البيعة العامة او الحال الحاصلة بالبيعة العامة، وعلى هذا يكون المراد بالعمل الصالح البيعة الخاصة { سوآء محياهم ومماتهم } الضمير ان لمجترحى السيئات يعنى حالكونهم لا ننظر اليهم والى اعمالهم ومجازاتها او للفريقين والمعنى واضح { سآء ما يحكمون وخلق الله } جملة حالية يعنى والحال ان الله خلق { السماوات والأرض بالحق } ولازم خلقتهما بالحق ان لا يكون شيء فيهما لغوا { ولتجزى } اى خلق لتجزى { كل نفس بما كسبت } بنفس ما كسبت او بجزاء ما كسبت { وهم لا يظلمون } فى ذلك لان الجزاء نتيجة اعمالهم فاذا كان الامر فى هذا المنوال فكيف يهملهم ولا يحييهم فى الآخرة.
[45.23]
{ أفرأيت } استفهام فى معنى الامر ويستفاد منه التعجيب ايضا والمعنى فانظر { من اتخذ إلهه هواه } قد مر فى سورة الفرقان بيان هذه الآية عند قوله ارأيت من اتخذ الهه هواه والخطاب عام او خاص بمحمد (ص)، قيل: نزلت فى قريش كلما هووا شيئا عبدوه والحق ان الآية جارية فى من غصبوا حق على (ع) بعد محمد (ص) واتخذوا اماما بأهوائهم { وأضله الله على علم } اى حالكون الله على علم باستعداده واستحقاقه للضلال، او حال كون الضال على علم برشده وهداه، او حالكونه كان على نور العلم فأضله الله بعد كونه على نور العلم كمن آتاه آياته فانسلخ منها فصار من الغاوين { وختم } الله { على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة } قد مر فى اول البقرة بيان الختم على السمع والقلب وغشاوة البصر { فمن يهديه من بعد الله } اى من بعد اضلاله وعدم هدايته { أفلا تذكرون } ان ليس الجاهل كالعالم ولا الفاسق كالمؤمن وان لا هادى بعد الله واضلاله.
[45.24]
{ وقالوا ما هي } اى ما الحياة { إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا } اى يموت بعضنا ويحيى بعض آخر، او المعنى على التقديم والتأخير اى نحي ونموت { وما يهلكنآ إلا الدهر } الدهريون والطبيعيون يقولون: ان مرور الزمان يفنينا ويفنى كل كائن بتفاوت الانواع والاشخاص ان لم يقطعه عن بقائه الطبيعى قاطع { وما لهم بذلك من علم } يعنى ان قولهم هذا باطل اصلا وهم ملومون عليه لبطلانه، وهم ملومون ايضا على التفوه بما ليس لهم به علم { إن هم إلا يظنون } والقول بالظن والشك قبيح وصاحبه ملوم، فالويل ثم الويل لمن قال بالظن والقياس من غير اذن واجازة من الله!. ثم قال: هذا من عند الله وهو حكم الله فى حقى وحق مقلدى! وقد سبق منا مكررا ان الاذن والاجازة الصحيحة يجعل الظن قائما مقام العلم بل يجعله اشرف من العلم كما شوهد من اجازات القلندرية وتأثير المنطريات مغلوطة بعد الاجازة، وعدم تأثيرها صحيحة بدون الاجازة، قيل: ان هذا ظن شك ونزلت هذه الآية فى الدهرية وجرت فى الذين فعلوا ما فعلوا بعد رسول الله (ص) بأمير المؤمنين (ع) واهل بيته وانما كان ايمانهم اقرارا بلا تصديق خوفا من السيف ورغبة فى المال، وعن النبى (ص) انه قال:
" لا تسبوا الدهر فان الله هو الدهر "
، يعنى ان الله هو الدهر الذى ينسبون الحوادث اليه ويسبونه لاحداث الحوادث الغير الملائمة.
[45.25]
{ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات } واضحات الدلالات او موضحات لصدق الآتى بها وموضحات لحالهم التى هم عليها { ما كان حجتهم } فى المعارضة مع الرسول وفى انكار تلك الآيات { إلا أن قالوا ائتوا بآبآئنآ إن كنتم صادقين } يعنى علقوا علامة صدقهم على الاتيان بالمحال بحسب العادة.
[45.26]
{ قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة } يعنى قل الاتيان بآبائكم فعل الله كما ان اماتتهم كان فعله، ويفعل هذا الفعل ويأتى بآبائكم فى يوم القيامة { لا ريب فيه } قد مضى فى اول البقرة معنى عدم الريب فى الكتاب وفى القيامة { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } ذلك لعدم تفكرهم فى المغيبات وقصور نظرهم على المحسوسات والا فهم يشاهدون عالم الآخرة فى المنام، والنوم انموذج الموت فليعلموا ان ليس خروج النفس عن البدن بالموت الا مثل خروجها عنه بالنوم فكما كان يبقى بعد النوم فى عالم آخر فكذا بعد الموت.
[45.27-28]
{ ولله } لا لغيره { ملك السماوات والأرض } وما فيهما فلا يقدر احد غيره على ايتاء الاموات { ويوم تقوم } عطف على محذوف اى فى الدنيا ويوم تقوم { الساعة } او ظرف ليخسر ويكون قوله { يومئذ } تأكيدا له { يخسر المبطلون وترى كل أمة } الخطاب عام او خاص بمحمد (ص) واذا كان عاما فالرؤية مقيدة بيوم القيامة وان كان خاصا فالمعنى ترى فى الحال الحاضرة فانه يرى فى الدنيا ما يراه غيره فى القيامة { جاثية } جثى كدعا ورمى جلس على ركبتيه، او قام على اطراف اصابعه { كل أمة تدعى إلى كتابها } صحيفة اعمالها { اليوم تجزون ما كنتم تعملون } نفس ما كنتم تعملون او جزاءه.
[45.29]
{ هذا كتابنا } بتقدير القول حالا او مستأنفا { ينطق عليكم بالحق } فان الكتاب الاخروى حى ناطق كما ان الاعضاء فى الآخرة تنطق، او المراد يشهد عليكم بما فيه من ثبت اعمالكم { إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون } وسئل الصادق (ع) عن هذه الآية فقال: ان الكتاب لم ينطق ولن ينطق ولكن رسول الله (ص) هو الناطق بالكتاب قال الله تعالى: { هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق } فقيل: انا لا نقرؤها هكذا، فقال: هكذا والله نزل بها جبرئيل على محمد (ص) ولكنه مما حرف من كتاب الله ولعله (ع) قرئ ينطق مبنيا للمفعول، وسئل ايضا عن:
ن والقلم
[القلم: 1] ، قال ان الله خلق القلم من شجرة فى الجنة يقال لها الخلد، ثم قال لنهر فى الجنة: كن مدادا فجمد النهر وكان اشد بياضا من الثلج واحلى من الشهد، ثم قال للقلم: اكتب، قال: يا رب ما اكتب؟ - قال: اكتب ما كان وما هو كائن الى يوم القيامة، فكتب القلم فى رق اشد بياضا من الفضة واصفى من الياقوت، ثم طواه فجعله فى ركن العرش ثم ختم على فم القلم فلم ينطق ولا ينطق ابدا فهو الكتاب المكنون الذى منه النسخ، او لستم عربا فكيف لا تعرفون معنى الكلام؟! واحدكم يقول لصاحبه: انسخ ذلك الكتاب، اوليس انما ينسخ من كتاب آخر من الاصل وهو قوله: { إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون }.
[45.30-31]
{ فأما الذين آمنوا } بالبيعة العامة او الخاصة { وعملوا الصالحات } واصلها البيعة الخاصة الولوية { فيدخلهم ربهم في رحمته } التى هى الولاية { ذلك } الدخول فى الولاية { هو الفوز المبين وأما الذين كفروا أفلم تكن } اى يقال لهم احملتم فلم تكن { آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم } عن الانقياد لها واتباعها حتى استكبرتم عن الآيات العظمى والولاية الكبرى { وكنتم قوما مجرمين } بسبب مخالفتكم لولى امركم.
[45.32-33]
{ وإذا قيل إن وعد الله } بالعذاب والثواب { حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين وبدا لهم } التفات من الخطاب الى الغيبة { سيئات ما عملوا } حيث رأوا مقام ولى امرهم وخساسة اوليائهم الظلمة { وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } اى القول او العذاب الذى كانوا به يستهزؤن.
[45.34-35]
{ وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقآء يومكم هذا } اى نترككم كما نسيتم هذا اليوم او تركتم العدة له { ومأواكم النار وما لكم من ناصرين ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله } التدوينية من الكتب السماوية والاحكام النبوية والآيات الآفاقية الجزئية والانفسية والآيات العظمى الذين هم الانبياء والاولياء (ع) { هزوا } ما يستهزء به، قيل: هم الائمة كذبوهم واستهزؤا بهم { وغرتكم الحياة الدنيا } فحسبتم انكم خالدون فيها { فاليوم لا يخرجون منها } بسبب الاستهزاء بالآيات { ولا هم يستعتبون } لا يسترضون، وقيل: لا يجاوبون ولا يقبلهم الله.
[45.36]
{ فلله الحمد رب السماوت ورب الأرض رب العالمين } بدل من رب السماوات ورب الارض بعدما اشار الى ربوبيته للسماوات والارضين بالالتزام وكانت تلك الربوبية مستلزمة لمحموديته على الاطلاق صرح بهما بطريق الاستنتاج.
[45.37]
{ وله الكبريآء في السماوات والأرض } اذ الربوبية لهما مستلزمة للكبرياء فيهما { وهو العزيز } الغالب الذى لا يغلب { الحكيم } فى علمه وعمله.
[46 - سورة الأحقاف]
[46.1-3]
{ حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ما خلقنا السماوات } اى سماوات عالم الطبع وسماوات عالم الارواح فى الكبير والصغير { والأرض } بالتعميم المذكور { وما بينهمآ إلا بالحق } المخلوق به { وأجل مسمى } لسماوات العالم الصغير وارضه وكذا سماوات العالم الكبير وارضه فان لها ايضا اجلا وامدا الى اول عالم البرزخ { والذين كفروا عمآ أنذروا معرضون } لحسبانهم انا خلقناهم عبثا ولغوا، وما انذروا عبارة عما يلحقهم من العقوبة على ترك المتابعة وترك الولاية، واعراضهم عنه عبارة عن عدم التفاتهم اليه وعدم تدبرهم لدفعه.
[46.4]
{ قل } للمشركين بالله وللمشركين بالولاية { أرأيتم ما تدعون من دون الله } من الاصنام والكواكب والاهواء والشياطين والملائكة او ما تدعون من دون خلفاء الله او من دون اذن الله من رؤساء الضلالة { أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات } اى فى خلق السماوات يعنى لا شركة لهم فى خلق شيء من اجزاء الارض ولا فى شيء من اجزاء السماوات حتى يستحقوا به العبادة { ائتوني بكتاب من قبل هذآ } بدل من أرونى نحو بدل الاشتمال اى أرونى ماذا خلقوا أرونى كتابا فيه ثبت شركتهم فى خلق الارض هو على سبيل التنزل ان لم يكن لكم دليل عقلى فأتونى بدليل نقلى من كتاب سماوى او غير سماوى يمكن تقليده { أو أثارة من علم } الأثارة نقل الحديث وروايته يعنى ائتونى بكتاب يمكن الاعتماد عليه فيه جواز اشراك الشركاء، او ائتونى بحديث منقول ناش من علم وفسر ببقية من علم من السابقين يجوز الاعتماد عليه والتقليد له { إن كنتم صادقين } يعنى ان مثل هذا لا يجوز القول به ولا الاعتقاد به الا اذا كان دليل عقلى يدل على صحته وصحة القول به، وان لم يكن لكم دليل عقلى فلا اقل من ان يكون لكم دليل نقلى يجوز التعويل عليه والتقليد له من كتاب او نقل، وسئل الباقر (ع) عن هذه الآية فقال: عنى بالكتاب التوراة والانجيل، واما أثارة من العلم فانما عنى بذلك علم اوصياء الانبياء (ع) وبعد ما اظهر عجزهم عن الاتيان بدليل عقلى او نقلى أتى بالدليل العقلى والنقلى على بطلان قوله فقال: { ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له }.
[46.5]
{ ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له } لو سمع دعاءهم فضلا عن مراعاة مصالحهم والاطلاع على سرائرهم { إلى يوم القيامة } يعنى انهم ما داموا فى الدنيا لا يسمعون دعاءهم ولو سمعو ما استجابوا، ولو اجابوا ما قدروا على اصلاحهم ولكنهم فى يوم القيامة يسمعون نداءهم ويجيبون لهم بانكار عبادتهم { وهم عن دعآئهم غافلون } فضلا عن سماعه واجابتهم، وهذا دليل عقلى يدل على عدم جواز دعوتهم.
[46.6]
{ وإذا حشر الناس كانوا لهم أعدآء وكانوا بعبادتهم كافرين } وهذا دليل نقلى منقول من الانبياء والاوصياء (ع) مثبت فى الكتب السماوية وفى غيرها.
[46.7]
{ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات } واضحات الدلالات او موضحات { قال الذين كفروا للحق لما جآءهم } اى قالوا للآيات بعد ما ظهر حقيتها ولذلك وضع الظاهر موضع المضمر { هذا سحر مبين } ظاهر السحرية والبطلان.
[46.8]
{ أم يقولون افتراه } ولما كان السحر له شأن ووقع فى القلوب اضرب عن هذا القول وقال: بل يقولون افتراه { قل } فى جوابهم { إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا } يعنى ان افتريته فلا تدفعوا عنى شيئا من عذاب الله ولا تتحملوا شيئا من اوزارى لانكم لا تملكون لى من الله شيئا من عذابه حتى تدفعوه عنى، او ان افتريته لم اكن بعاقل واكن سفيها، لان الافتراء لا يكون الا تعرضا لسخط الله، وان اتعرض لسخط الله لان اكون مقبولا عندكم كنت سفيها، لان المقبولية عندكم لا تنفعنى لانكم لا تملكون لى من الله شيئا من رفع عذابه، وبعد ابطال الافتراء هددهم بهذا الافتراء وقال { هو أعلم بما تفيضون } اى تندفعون { فيه } من القول بان القرآن سحر او افتراء { كفى به شهيدا بيني وبينكم } تهديد آخر لهم { وهو الغفور الرحيم } جمع بين التهديد والارجاء كما هو شأن الناصح الكامل.
[46.9]
{ قل } لهم لم تستغربون رسالتى وقد كنت مثل سائر الرسل و { ما كنت بدعا من الرسل } اى من بينهم او حالكونى بعضا منهم وقد كان الرسل بشرا مثلى وكانوا يأكلون ويشربون وينكحون ويمشون فى الاسواق وقد كانوا يأتون بالاحكام من الله ويدعون الى التوحيد { ومآ أدري ما يفعل بي ولا بكم } بحسب اقتضاء بشريتى فما لكم تطالبونى بعلم الغيب { إن أتبع إلا ما يوحى إلي } لا أتجاوزه الى ما تشتهون او اشتهى { ومآ أنا إلا نذير } بحسب رسالتى لا شأن لى سوى الانذار وان كنت بحسب ولايتى هاديا لكم وقادرا على ما لا تقتدرون عليه وعالما بما لا تعلمون { مبين } ظاهر الانذار، وظاهر الصدق او موضح.
[46.10]
{ قل أرأيتم } اخبرونى { إن كان } القرآن او قرآن ولاية على (ع) او الوحى الى او هذا الذى ادعيه من الرسالة او ولاية على (ع) { من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل } قيل: هو عبد الله بن سلام كان من علمائهم واسلم، وقيل: المراد بالشاهد موسى (ع) بما اثبته فى التوراة { على مثله } لم يقل عليه لان شاهد بنى اسرائيل ما شهد ان محمدا (ص) رسول وان هذا القرآن كتابه وان عليا (ع) وصيه بل شهد ان النبى (ص) الموعود يكون شمائله كذا، ودعوته الى كذا، وكتابه كذا، ووصيه يكون ختنه وابن عمه { فآمن } الشاهد واستكبرتم } انتم من الايمان به، وجواب الشرط محذوف اى افلم تكونوا ظالمين او افلم تؤاخذوا { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } تعليل للجواب المحذوف ودليل عليه، او هو جواب بتقدير الفاء.
[46.11-12]
{ وقال الذين كفروا } بالله وبرسوله او بالولاية { للذين آمنوا } فى حقهم { لو كان } الرسول او القرآن او هذا الامر من الرسالة او الولاية { خيرا ما سبقونآ إليه } لان نظرهم كان الى الدنيا ولم يكونوا يعلمون خيرا الا ما يعد فى الانظار الحسية من الخير، وكان المؤمنون اراذل الناس واسوءهم حالا فى نظرهم فقاسوا امر الآخرة على امر الدنيا وقالوا هؤلاء اسوء حالا منا فلو كان قبول الرسالة او الولاية خيرا لكنا اولى منهم { وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذآ إفك قديم ومن قبله كتاب موسى } جملة حالية فى مقام الرد عليهم يعنى يقولون هذا كذب سبق امثاله والحال ان من قبله كتاب موسى وهم يعترفون به وهو شاهد على صدقه حالكون كتاب موسى (ع) { إماما } يؤمه كلهم بل كل الناس { ورحمة } سبب رحمة { وهذا كتاب } ليس منافيا مخالفا له حتى يقروا بكتاب موسى وينكروه { مصدق } لكتاب موسى (ع) { لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين } وهذا الانذار وتلك البشرى دليل صدقه.
[46.13]
{ إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } قد مضى الآية وبيانها فى سورة السجدة وهذه رد على ما قالوا لو كان خيرا ما سبقونا اليه وابطال لقياسهم الفاسد { فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } قد مضى فى سورة البقرة بيان اختلاف هاتين الفقرتين.
[46.14-15]
{ أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزآء بما كانوا يعملون ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا } جملة منقطعة عما سبق بيان لحال اشخاص او شخص مخصوص لكنه أتى باداة العطف ايهاما لاتصالها بسابقها كأنه قال: ان الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا على ما وصيناهم وامرناهم ووصينا الانسان بوالديه احسانا { حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا } لما اراد المبالغة فى التوصية فى حق الام ذكر ما تتحمله الام من المشاق على الولد { حتى إذا بلغ أشده } قد سبق ذكر الاشد فى سورة الانعام وسورة يوسف وغيرهما، وذكر بيان له هناك { وبلغ أربعين سنة قال } يعنى ينبغى ان يقول على ان تكون الآية عامة او يقول لا محالة على ان يكون الآية خاصة بالحسين (ع) كما فى اخبارنا { رب أوزعني } ألهمنى او أولعنى { أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي } هذه الكلمة تدل على ان الآية خاصة بالحسين (ع) { وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي } ورد فى خبر انه لو لم يقل فى ذريتى لكانت ذريته كلهم ائمة { إني تبت إليك } عما يشغلنى عنك { وإني من المسلمين } المخلصين او المنقادين.
[46.16]
{ أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا } أتى بالجمع ايهاما لتعميم الآية { ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق } وعدنا وعد الصدق { الذي كانوا يوعدون } قال الصادق (ع): لما حملت فاطمة (ع) بالحسين (ع) جاء جبرئيل الى رسول الله (ص) فقال:
" ان فاطمة ستلد غلاما تقتله امتك من بعدك "
فلما حملت فاطمة (ع) بالحسين (ع) كرهت حمله، وحين وضعته كرهت وضعه ثم قال: لم تر فى الدنيا ام تلد غلاما تكرهه ولكنها كرهته لما علمت انه سيقتل، قال: وفيه نزلت هذه الآية، وفى رواية اخرى: ثم هبط جبرئيل (ع) فقال: يا محمد (ص)
" ان ربك يقرؤك السلام ويبشرك بانه جاعل فى ذريته الامامة والولاية والوصية فقال: انى رضيت ثم بشر فاطمة "
(ع) فرضيت قال: فلولا انه قال: اصلح لى فى ذريتى لكانت ذريته كلهم ائمة، قال: ولم يرضع الحسين (ع) من فاطمة (ع) ولا من انثى، كان يؤتى به النبى (ص) فيضع ابهامه فى فيه فيمص منها ما يكفيه اليومين والثلاث فنبت لحم الحسين (ع) من لحم رسول الله (ص) ودمه من دمه، ولم يولد لستة اشهر الا عيسى بن مريم (ع) والحسين، وفى نزول الآية فى الحسين (ع) قريبا بهذا المضمون اخبار اخر.
[46.17]
{ والذي قال } عطف على الانسان او بتقدير اذكر، وعطف باعتبار المعنى كأنه قال: اذكر الذى قال بعد بلوغ الاربعين رب اوزعنى واذكر الذى قال { لوالديه أف لكمآ } هذه اسم صوت وكلمة تضجر يعنى اذكر حتى يظهر بمقابلة هذا لذلك حسن الاول وقبح الثانى، او مبتدء وخبره اولئك والجملة معطوفة { أتعدانني أن أخرج } من قبرى حيا { وقد خلت القرون } الامم الماضية { من قبلي } ولم يرجع احد منهم ولم يخرج من قبره حيا { وهما يستغثيان الله ويلك } هى وى ولك ووى كلمة تعجب كأنه قال: تعجب لك، او هى الويل المضاف الى الكاف والمعنى الزم ويلك، او هى مخففة ويل ولك والمعنى ويل لك { آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذآ إلا أساطير الأولين } قد مضى هذه الكلمة فى الانعام والانفاق والنحل وغيرها مع بيانها، قال القمى: نزلت فى عبد الرحمن بن ابى بكر.
[46.18-20]
{ أولئك الذين حق عليهم القول } بانهم اهل النار { في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين ولكل } من الفريقين او لكل فرد من افراد الفريقين { درجات } ناشئة { مما عملوا } ، او لاجل ما عملوا، او هى عبارة من جزاء ما عملوا، او من نفس ما عملوا على تجسم الاعمال، والمراد بالدرجات اعم من الدركات { وليوفيهم } قرئ بالغيبة والتكلم وهو عطف على محذوف اى ليجزيهم بأعمالهم وليوفيهم { أعمالهم } بانفسها او بجزائها { وهم لا يظلمون ويوم يعرض الذين كفروا } عطف على محذوف اى ليوفيهم فى الدنيا او يوم البرزخ او لا يظلمون فى الدنيا او يوم البرزخ ويوم يعرضون او متعلق بيقال محذوفا، والتقدير: يوم يعرض الذين كفروا { على النار } يقال لهم { أذهبتم طيباتكم } اى جهاتكم الالهية التى هى اطيب من كل طيب { في حياتكم الدنيا } بالاشتغال بالدنيا واتباع الاهواء حتى تمكن منكم الشيطان، ومن تمكن منه الشيطان فر منه جهاته الالهية { واستمتعتم بها } اى فيها او بسببها { فاليوم تجزون عذاب الهون } عذابا يكون سببا للهوان فيكون مضاعفا لانه يكون عذاب الجسم والنفس { بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون } والمراد بالاستكبار الظهور بالانانية وتحقير الخلق، وبالفسق الخروج من طاعة من ينبغى ان يطاع.
[46.21]
{ واذكر أخا عاد } اى اخا قبيلة عاد وهو هود (ع) والجملة معطوفة باعتبار المعنى كأنه قال: اذكر الذى حملته امه كرها، واذكر الذى قال لوالديه: اف واذكر اخا عاد { إذ أنذر قومه بالأحقاف } جمع الحقف بالكسر وهو الرمل المستطيل المرتفع المشرف، او الرمل العظيم المستدير او المعوج، والاحقاف اسم لبلاد قوم هود وقد اختلف فى تعيينها، قال القمى: هى من الشقوق الى الاجفر وهى اربعة منازل، وفى المجمع: هو واد بين عمان ومهرة، وقيل: رمال فيما بين عمان الى حضرموت، وقيل رمال مشرفة على البحر بالشجر من اليمن، وقيل: ارض خلالها رمال { وقد خلت النذر } اى الرسل { من بين يديه ومن خلفه } اى قبله وبعده { ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم } مقداره او بلاؤه.
[46.22]
{ قالوا أجئتنا لتأفكنا } لتصرفنا { عن آلهتنا فأتنا بما تعدنآ } من العذاب من الله { إن كنت من الصادقين } فى ادعاء الرسالة والوحى اليك وتوعيد العذاب.
[46.23]
{ قال } النذير او هود { إنما العلم } بوقت العذاب { عند الله } لا علم لى بوقته حتى اخبركم به او اعاجلكم به، وهو كناية عن كون العذاب بقدرة الله لا بقدرته بحسب رسالته { وأبلغكم مآ أرسلت به } وهذه وامثالها خروج عن الانانية واظهار للعجز عن التصرف فى ملك الله وعباده وهو شيمة الانبياء والاولياء (ع) { ولكني أراكم قوما تجهلون } تغمرون فى الجهل او تتصفون بالجهل او تجهلون ان الرسل بعثوا بالرحمة لا بالعذاب ولذلك يتوعدون ويتأتون فيما يتوعدون.
[46.24-25]
{ فلما رأوه } رأوا الموعود { عارضا } سحابا عارضا فى الافق { مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا } قال الملائكة او هود او الله { بل هو ما استعجلتم به } من العذاب { ريح } بدل من ما { فيها عذاب أليم تدمر } التدمير المبالغة فى الاهلاك { كل شيء } من الانفس والاموال { بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم } قرئ بالتاء الفوقانية مبنيا للفاعل، او المفعول، وبالياء التحتانية مبنيا للمفعول، ومساكنهم على حسبه والمعنى لا ترى الا سكونهم او محل سكناهم { كذلك نجزي القوم المجرمين } قد مضى قصتهم فى سورة الاعراف وسورة هود.
[46.26]
{ ولقد مكناهم فيمآ إن مكناكم فيه } ان نافية او شرطية محذوفة الجواب { وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة } كما جعلنا لكم ذلك { فمآ أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء } من عذاب الله او من شيء من الاغناء فلا تغتروا انتم بسمعكم وابصاركم وافئدتكم ودقة تدبيركم بها { إذ كانوا يجحدون بآيات الله } كما كنتم تجحدون بها { وحاق به ما كانوا به يستهزئون } اى وزر القول والعمل الذى كانوا به يستهزؤن او العذاب الذى كانوا به يستهزؤن.
[46.27-28]
{ ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى } كقرى ثمود وقوم لوط وشعيب { وصرفنا الآيات } القولية والكتبية فى الفاظ ونقوش مختلفة والآيات التكوينية الآفاقية والانفسية فى ازمان مختلفة وامكنة متعددة وصور مختلفة { لعلهم يرجعون فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة } اى آلهتهم التى متقربون بها الى الله ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله يعنى ان كان هؤلاء الالهة شفعاءكم وينصرونكم عن عذاب الله فلولا نصر السابقين الذين حل بهم العذاب آلهتهم { بل ضلوا عنهم } ولم يثبتوا معهم { وذلك } الاتخاذ { إفكهم } وصرفهم عن طريق الحق { وما كانوا يفترون } ما موصولة وعطف على افكهم او استفهامية او نافية بتقدير الاستفهام.
[46.29-30]
{ وإذ صرفنآ } واذكروا وذكر قومك اذ صرفنا { إليك نفرا من الجن } والمعنى صرفناهم اليك من محالهم بالتوفيق، وقيل: صرفناهم اليك عن استراق السمع من السماء برجوم الشهب ولم يكونوا بعد عيسى قد صرفوا منه فقالوا: ما هذا الذى حدث فى السماء الا من اجل شيء قد حدث فى الارض فضربوا فى الارض حتى وقفوا على النبى (ص) وهو يصلى الفجر فاستمعوا القرآن { يستمعون القرآن فلما حضروه } اى النبى (ص) او القرآن { قالوا } بعضهم لبعض { أنصتوا } نستمع قراءته بلا مانع { فلما قضي } فرغ منه { ولوا إلى قومهم منذرين قالوا } بدل من منذرين او حال او مستأنف جواب لسؤال مقدر { يقومنآ إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه } من الكتب { يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم } المراد بالحق احكام الملة وبالطريق المستقيم الولاية او بالعكس، او المراد بهما هى الولاية من قبيل عطف اوصاف متعددة لشيء واحد.
نقل انه لما توفى ابو طالب اشتد البلاء على رسول الله (ص) فعمد ليقف بالطائف رجاء ان يؤووه فوجد ثلاثة نفر منهم هم سادة وهم اخوة فعرض عليهم نفسه، فقال احدهم: انا اسرق ثياب الكعبة ان كان الله بعثك بشيء قط، وقال الآخر: اعجز على الله ان يرسل غيرك؟ - وقال الآخر: والله لا اكلمك بعد مجلسك هذا ابدا، فلئن كنت رسولا كما تقول فأنت اعظم خطرا من ان يرد عليك الكلام وان تكذب على الله فما ينبغى لى ان اكلمك، وتهزؤا به وافشوا فى قومه ما راجعوه به، فقعدوا له صفين على طريقه، فلما مر رسول الله (ص) بين صفيهم جعلوا لا يرفع رجليه ولا يضعهما الا رضخوهما بالحجارة حتى ادموا رجليه، فخلص منهم وهما يسيلان دما الى حائط من حوائطهم واستظل فى ظل منه وهو مكروب موجع تسيل رجلاه دما، فاذا فى الحائط عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة فلما رآهما كره مكانهما لما يعلم من عداوتهما لله ولرسوله، فلما رأياه ارسلا اليه غلاما لهما يدعى عداس معه عنب وهو نصرانى من اهل نينوى فلما جاءه قال له رسول الله (ص):
" من اى ارض انت؟ - قال: من اهل نينوى، قال: من مدينة العبد الصالح يونس بن متى؟ - فقال له عداس: وما يدريك من يونس بن متى؟ - فقال: انا رسول الله (ص)، والله تعالى اخبرنى خبر يونس بن متى "
، فلما اخبره بما أوحى الله اليه من شأن يونس خر عداس ساجدا لرسول الله (ص) وجعل يقبل قدميه وهما يسيلان الدماء، فلما بصر عتبة وشيبة ما يصنع غلامهما سكتا فلما أتاهما قالا: ما شأنك سجدت لمحمد (ص) وقبلت قدميه؟ - ولم ترك فعلت ذلك باحد منا؟ - قال: هذا رجل صالح اخبرنى بشيء عرفته من شأن رسول بعثه الله الينا يدعى يونس بن متى فضحكا وقالا: لا يفتننك عن نصرانيتك فانه رجل خداع، فرجع رسول الله (ص) الى مكة حتى اذا كان بنحلة قام فى جوف الليل يصلى فمر به نفر من جن اهل نصيبين من اليمن، فوجدوه يصلى صلاة الغداء ويتلو القرآن فاستمعوا له، وروى غير ذلك فى قصة صرف الجن اليه، من اراد فليرجع الى المفصلات.
[46.31-34]
{ يقومنآ أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر } الله او الداعى { لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ومن لا يجب داعي الله } ابتداء كلام من الله تعالى او جزء كلام النفر من الجن { فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أوليآء أولئك في ضلال مبين أولم يروا } هذا ايضا اما ابتداء كلام من الله او جزء كلام الجن { أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير ويوم يعرض الذين كفروا على النار } عطف على اذ صرفنا عطف المفرد، او مقدر باذكر، او متعلق بيقال المقدر، او بقالوا، وعطف نحو عطف الجملة { أليس هذا بالحق } مقدر بالقول { قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } بالله او بالرسول او بالآخرة او بالولاية فاذا كان أمر هؤلاء على ما ذكر.
[46.35]
{ فاصبر } ولا تجزع على أذاهم ولا تستعجل عذابهم { كما صبر أولوا العزم من الرسل } المشهور من اخبارنا ان اولى العزم من الرسل خمسة، نوح وابراهيم وموسى وعيسى (ع) ومحمد (ص) وسموا اولى العزم لان شريعتهم كانت ناسخة لما سبق من الشرائع وكانت حتما على كل الخلائق بخلاف سائر الانبياء (ع) فان شريعتهم كانت شريعة من سبقهم، وكانت فى قوم دون قوم، وعلى هذا يكون من فى قوله تعالى من الرسل للتبعيض، وقيل: جميع الرسل كانوا اولى العزم فانهم لم يكونوا على تردد من امرهم فيكون من للتبيين، وقيل: اولو العزم كانوا ستة، نوح صبر على اذى قومه، وابراهيم صبر على النار، واسحاق صبر على الذبح، ويعقوب صبر على فقد الولد وذهاب البصر، ويوسف صبر فى البئر والسجن، وايوب صبر على الضر والبلوى، وقيل: هم الذين امروا بالجهاد والقتال واظهروا المكاشفة وجاهدوا فى الدين، وقيل: هم ابراهيم وهود ونوح (ع) ورابعهم محمد (ص) { ولا تستعجل لهم } العذاب فانه كائن لا محالة عن قريب { كأنهم يوم يرون ما يوعدون } من العذاب { لم يلبثوا } فى التنعم والدنيا { إلا ساعة من نهار } يعنى ان المكث فى الدنيا وان كان اطول زمان ليس الا كساعة فمالك تستعجل العذاب الوارد عليهم عن قريب { بلاغ } خبر مبتدء محذوف والجملة صفة ساعة، او جواب لسؤال مقدر اى هذه الساعة ليست لتمتعهم بل هى بلاغ لهم الى يوم يرونه فهو تسلية اخرى له (ص) وعلة اخرى لنهيه عن الاستعجال، او هذا اللبث بلاغ لهم الى هذا اليوم، او مبتدء خبر محذوف اى لهم بلاغ سيبلغون الى هذا اليوم فلا تستعجل، او لهم بلاغ الى هذا اليوم الآن فانظر حتى ترى فان الكل بوجه فى نظر البصيرة فى القيامة والحساب، او المعنى هذا القرآن، او هذه المواعظ والتهديدات، او ولاية على (ع) تبليغ منك لرسالتك فلا تكترث بهم قبلوا او ردوا { فهل يهلك } عن الحياة الانسانية { إلا القوم الفاسقون } الخارجون عن طاعة ولاة الامر فلا تحزن على الهالكين، قيل: ما جاء فى الرجاء شيء اقوى من هذه الآية.
[47 - سورة محمد]
[47.1]
{ الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله } اعلم، ان هذه السورة ذكر فيها حال المؤمنين بعلى (ع) والجاحدين لولايته وان كانت الآيات بظواهر عامة لكن المنظور منها ذلك كما نشير اليه فى مواقعه؛ فقوله الذين كفروا ظاهره اعم من الكفر بالله او بالرسول (ص) او بالآخرة او بعلى (ع) وولايته، لكن المقصود الكفر بالولاية بقرينة قوله صدوا عن سبيل الله فان سبيل الله ليس الا الولاية سواء جعل صدوا بمعنى اعرضوا او منعوا { أضل أعمالهم } التى عملوها فى الاسلام، القمى قال: نزلت فى اصحاب رسول الله (ص) الذين ارتدوا بعد رسول الله (ص) وغصبوا اهل بيته حقهم، وصدوا عن امير المؤمنين (ع) وعن ولاية الائمة (ع).
[47.2]
{ والذين آمنوا } بالبيعة العامة اى اسلموا { وعملوا الصالحات } اللازمة لبيعتهم العامة { وآمنوا بما نزل على محمد } فى على (ع) بقبول ولايته والبيعة معه { وهو الحق } اى الولاية التى نزلت على محمد (ص) هى الحق { من ربهم كفر عنهم } أزال عنهم { سيئاتهم وأصلح بالهم } حالهم او قلبهم، قال القمى: نزلت فى ابى ذر وسلمان وعمار ومقداد لم ينقضوا العهد وآمنوا بما نزل على محمد (ص) اى ثبتوا على الولاية التى أنزلها الله وهو الحق يعنى امير المؤمنين (ع).
[47.3]
{ ذلك } الاضلال وتكفير السيئات واصلاح الحال { بأن الذين كفروا } بالولاية { اتبعوا الباطل } اى اهواءهم واعداء امير المؤمنين (ع) { وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق } الولاية وامير المؤمنين { من ربهم كذلك } الضرب لمثل على (ع) وعدوه بنحو العموم الذى لا يلتفت اليه اعداء آل محمد (ص) حتى يسقطوه { يضرب الله للناس أمثالهم } اى اوصافهم او حكاياتهم او الامثال التى تشبه احوالهم.
[47.4-5]
{ فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب } فاضربوهم ضرب الرقاب { حتى إذآ أثخنتموهم فشدوا الوثاق } يعنى فاسروهم واحفظوهم بالوثاق، والوثاق بالكسر والفتح ما يوثق به { فإما منا } اى تمنون منا { بعد وإما فدآء } تخيير بين المن والفداء، او بيان لفائدة الحكم السابق من دون تعرض لحكم المن والفداء { حتى تضع الحرب أوزارها } بيان لغاية ضرب الرقاب وشد الوثاق يعنى ان ضرب الرقاب واسر الرجال ليس الا ما دام الحرب قائمة فاذا انقضت الحرب فلا تتعرضوا لهم، او المعنى حتى لا يبقى محارب وحرب فى بلادكم فيكون رفع المحاربة من البين علة غائية للمحاربة، عن الصادق (ع) انه قال: كان ابى يقول: ان للحرب حكمين؛ اذا كانت الحرب قائمة لم تضع اوزارها ولم يثخن اهلها فكل اسير اخذ فى تلك الحال فان الامام فيه بالخيار، ان شاء ضرب عنقه وان شاء قطع يده ورجله من خلاف بغير حسم وتركه يتشحط فى دمه حتى يموت وهو قول الله عز وجل:
إنما جزآء الذين يحاربون الله
[المائدة: 32] (الآية) قال والحكم الآخر اذا وضعت الحرب اوزارها وأثخن اهلها فكل اسير اخذ على تلك الحال فكان فى ايديهم فالامام فيه بالخيار ان شاء من عليهم فأرسلهم، وان شاء فاداهم انفسهم، وان شاء استعبدهم فصاروا عبيدا { ذلك } اى الامر والسنة بحسب الاسباب ذلك، او ذلك حكم الله بحسب الاسباب، او خذوا ذلك والزموه بحسب الاسباب { و } لكن { لو يشآء الله لانتصر منهم } من دون امركم بقتالهم { ولكن } يأمركم بقتالهم { ليبلوا بعضكم ببعض } فان فى الجهاد تحصيل خصال عظيمة لا يمكن تحصيلها الا به، وتهديدا عظيما للكفار حتى يرغبوا فى التوبة قبل الاستيصال { والذين قتلوا في سبيل الله } قرئ قتلوا مجردا مبنيا للمفعول، وقرئ قاتلوا { فلن يضل أعمالهم سيهديهم } الى ما ينبغى ان يهدوا اليه من الكمالات الانسانية ودرجات الجنان { ويصلح بالهم } حتى لا يكون حين تلذ ذاتهم الانسانية ما يغير حالهم.
[47.6]
{ ويدخلهم الجنة عرفها لهم } جواب لسؤال مقدر او حال والمعنى ان الجنة عرفها الله لهم بان فيها ما تشتهيه الانفس وتلذ الاعين وفيه الذى ما خطر على قلب بشر.
[47.7]
{ يأيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم } قد مضى فى سورة الحج بيان لهذه الآية { ويثبت أقدامكم } فى دينكم الذى هو ولاية على (ع).
[47.8-14]
{ والذين كفروا } بالولاية { فتعسا لهم } تعسوا تعسا لهم والتعس الهلاك والعثار والسقوط والشر والبعد والانحطاط، والفعل كمنع وسمع، ويستعمل متعديا فيقال: تعسه الله مثل اتعسه الله { وأضل أعمالهم ذلك بأنهم كرهوا مآ أنزل الله } فى على (ع)، كذا روى عن الباقر (ع) الا انه كشط الاسم { فأحبط أعمالهم أفلم يسيروا في الأرض } اى ارض الطبع او ارض القرآن او الاخبار او السير او ارض العالم الصغير { فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم } ممن كذب بآيات الله ولم يصدق خلفاء الله حتى يتنبهوا لقبح فعلهم وتكذيبهم وعقوبته { دمر الله عليهم } دمر كنصر ودمر من التفعيل اهلك، ودمر دمورا هجم هجوم الشر ودخل بغير اذن { وللكافرين } بالولاية { أمثالها ذلك } التدمير { بأن الله مولى الذين آمنوا } بالولاية لا الذين كفروا بها { وأن الكافرين } بالولاية { لا مولى لهم إن الله يدخل الذين آمنوا } مستأنفة جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: ما يفعل الله بهم فى كونه مولى لهم؟ - وما يفعل بالكافرين فى كونهم لا مولى لهم؟ - والمراد بالايمان البيعة الخاصة الولوية او الحالة الحاصلة بها، او البيعة العامة النبوية، والمراد بالعمل الصالح البيعة الخاصة { وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار والذين كفروا } بولاية ولى امرهم { يتمتعون } يتلذذون { ويأكلون كما تأكل الأنعام } يعنى يتمتعون كالانعام من غير نظر الى عاقبتهم وعاقبة تمتعهم { والنار مثوى لهم وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك } وهى مكة { أهلكناهم فلا ناصر لهم أفمن كان } يعنى الم يكن عندنا تميز فمن كان { على بينة من ربه } وهو على (ع) كما مضى فى سورة هود { كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم } عن الباقر (ع) هم المنافقون.
[47.15]
{ مثل الجنة } جواب سؤال مقدر كأنه قيل: ما وصف الجنة الموعودة للمؤمنين وحكايتها؟ - فقال: وصف الجنة { التي وعد المتقون فيهآ أنهار من مآء غير آسن } غير متغير بحسب الطعم والريح واللون والجملة خبر المثل، واكتفى عن الرابط بكونها عين المبتدأ { وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين } مصدر بمعنى الوصف او وصف، وخمر الجنة لا حرمة فيها ولا نجاسة ولا غائلة خمار ولا نتن ريح ولا مرارة طعم ولذلك وصفها باللذة { وأنهار من عسل مصفى } مما يخالط العسل الدنيوى { ولهم فيها من كل الثمرات } الدنيوية والاخروية من ثمرات العلوم والمشاهدات والتسبيح والتحميد { ومغفرة من ربهم } فوق الكل { كمن هو خالد في النار } خبر مبتدء محذوف اى امن كان فى الجنة فى تلك النعم كمن هو خالد فى النار { وسقوا مآء حميما } مسخنا وقد يكون الحميم بمعنى الماء البارد ولكن المراد ههنا الاول { فقطع أمعآءهم } من فرط حرارته، وهذا مقابل الانهار التى وعد المتقون.
[47.16-17]
{ ومنهم } من المنافقين { من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك } يعنى ان مقصودهم من الاستماع الاستهزاء بك او المعنى منهم من هو مطبوع على قلبه فيستمعون اليك ولا يفهمون كلامك حتى اذا خرجوا من عندك { قالوا } لعدم تفطنهم بكلامك { للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهوآءهم والذين اهتدوا } الى ولاية على (ع) { زادهم } الله، او محمد (ص)، او ما قال محمد (ص)، او استهزاء المنافقين { هدى وآتاهم } الضمير الفاعل لواحد من المذكورات { تقواهم } يعنى صار سببا لاتصافهم بالتقوى اللائقة بهم او آتاهم ثواب تقويهم من العلم والذكاوة.
[47.18]
حديث فى احوال الناس فى آخر الزمان
{ فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم } بدل من الساعة بدل الاشتمال، او بتقدير اللام وتعليل لانتظارهم { بغتة فقد جآء أشراطها } جمع الشرط بالتحريك بمعنى العلامة فان من علاماتها فى العالم الكبير بعثة محمد (ص) وانشقاق القمر ونزول آخر الكتب، وفى العالم الصغير اول الاشراط نزول العقل من عالمه العلوى فيه ثم التغييرات التى تكون فيه ثم الامراض التى ترد عليه وغير ذلك مما يدل على زواله ودثوره، وقرئ ان تأتهم بكسران وجزم تأتهم وجوابه فقد جاء اشراطها يعنى ان تأتهم بغتة فلا غرو فيه فقد جاء اشراطها، او جوابه قوله تعالى { فأنى لهم إذا جآءتهم } الساعة { ذكراهم } يعنى لا ينفع ذكريهم اذا جاءتهم الساعة، ويجوز ان يكون فاعل جاءتهم ذكريهم، عن النبى (ص) "
" ان من اشراط الساعة ان يرفع العلم، ويظهر الجهل، ويشرب الخمر، ويفشو الزنا، ويقل الرجال، وتكثر النساء، حتى ان الخمسين امرأة فيهن واحد من الرجال، وقال القمى: ان ابن عباس قال: حججنا مع رسول الله (ص) حجة الوداع فأخذ بحلقة باب الكعبة ثم اقبل علينا بوجهه فقال: الا أخبركم باشراط الساعة؟ - فكان ادنى الناس منه يومئذ سلمان رحمه الله فقال: بلى يا رسول الله (ص)، فقال: ان من اشراط القيامة اضاعة الصلوات، واتباع الشهوات، والميل مع الاهواء، وتعظيم اصحاب المال، وبيع الدين بالدنيا، فعندها يذاب قلب المؤمن فى جوفه كما يذاب الملح فى الماء مما يرى من المنكر فلا يستطيع ان يغيره، قال سلمان: وان هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ - قال، اى والذى نفسى بيده، يا سلمان ان عندها يليهم امراء جورة، ووزراء فسقة، وعرفاء ظلمة، وامناء خونة، فقال سلمان: وان هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ - قال: اى والذى نفسى بيده، يا سلمان ان عندها يكون المنكر معروفا والمعروف منكرا، ويؤتمن الخائن ويخون الامين، ويصدق الكاذب ويكذب الصادق، قال سلمان: وان هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ - قال: اى والذى نفسى بيده، يا سلمان فعندها تكون امارة النساء ومشاورة الاماء وقعود الصبيان على المنابر ويكون الكذب ظرفا والزكاة مغرما والفيء مغنما، ويجفو الرجل والديه ويبر صديقه ويطلع الكوكب المذنب، قال سلمان: وان هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ - قال: اى والذى نفسى بيده، يا سلمان وعندها تشارك المرأة زوجها فى التجارة، ويكون المطر قيظا ويغيظ الكرام غيظا، ويحتقر الرجل المعسر فعندها تقارب الاسواق اذ قال هذا: لم ابع شيئا، وقال هذا، لم اربح شيئا فلا ترى الا ذاما لله، قال سلمان: وان هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ - قال: اى والذى نفسى بيده، يا سلمان فعندها يليهم اقوام ان تكلموا قتلوهم وان سكتوا استباحوهم، ليستأثرون بفيئهم، وليطؤن حرمتهم، وليسفكن دماءهم، وليملأن قلوبهم دغلا ورعبا فلا تراهم الا وجلين خائفين مرعوبين مرهوبين، قال سلمان: وان هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ - قال: اى والذى نفسى بيده، يا سلمان ان عندها يؤتى بشيء من المشرق وبشيء من المغرب يلون امتى، فالويل لضعفاء امتى منهم والويل لهم من الله لا يرحمون صغيرا ولا يوقرون كبيرا ولا يتخافون عن مسيء جثتهم جثة الآدميين وقلوبهم قلوب الشياطين، قال سلمان: وان هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ - قال: اى والذى نفسى بيده، يا سلمان وعندها يكتفى الرجال بالرجال والنساء بالنساء ويغار على الغلمان كما يغار على الجارية فى بيت اهلها، وتشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال وتركبن ذوات الفروج السروج فعليهن من امتى لعنة الله، قال سلمان: وان هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ - قال: اى والذى نفسى بيده، يا سلمان ان عندها تزخرف المساجد كما تزخرف البيع والكنائس وتحلى المصاحف وتطول المنارات وتكثر الصفوف بقلوب متباغضة والسن مختلفة، قال سلمان: وان هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ - قال: اى والذى نفسى بيده، يا سلمان وعندها تحلى ذكور امتى بالذهب ويلبسون الحرير والديباج ويتخذون جلود النمور صفافا، قال سلمان: وان هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ - قال: اى والذى نفسى بيده، يا سلمان وعندها يظهر الربا ويتعاملون بالعينة والرشى، ويوضع الدين وترفع الدنيا، قال سلمان: وان هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ - قال: اى والذى نفسى بيده، يا سلمان وعندها يكثر الطلاق فلا يقام لله حد ولن يضروا الله شيئا، قال سلمان: وان هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ - قال: اى والذى نفسى بيده، يا سلمان وعندها تظهر المغنيات والمعازف وتليهم اشرار امتى، قال سلمان: وان هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ - قال: اى والذى نفسى بيده، يا سلمان وعندها يحج اغنياء امتى للنزهة، ويحج اوساطهم للتجارة، ويحج فقراؤهم للريا والسمعة فعندها تكون اقوام يتعلمون القرآن لغير الله ويتخذونه مزامير، ويكون اقوام يتفقهون لغير الله، ويكثر اولاد الزنا ويتغنون بالقرآن ويتهافتون بالدنيا، قال سلمان: وان هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ - قال: اى والذى نفسى بيده، يا سلمان ذلك اذا انتهكت المحارم واكتسبت المآثم، وسلط الاشرار على الاخيار، ويفشو الكذب، وتظهر اللجاجة، وتفشوا لفاقة، ويتباهون فى اللباس، ويمطرون فى غير اوان المطر، ويستحسنون الكوبة والمعازف، وينكرون الامر بالمعروف والنهى عن المنكر حتى يكون المؤمن فى ذلك الزمان اذل من الأمة ويظهر قراءهم وعبادهم فيما بينهم التلاوم فاولئك يدعون فى ملكوت السماوات الارجاس الانجاس، قال سملان: وان هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ - قال: اى والذى نفسى بيده، يا سلمان فعندها لا يخشى الغنى الا الفقر حتى ان السائل يسئل فيما بين الجمعتين لا يصيب احدا يضع فى كفه شيئا، قال سلمان: وان هذا لكائن يا رسول الله (ص)؟ - قال: اى والذى نفسى بيده، يا سلمان عندها يتكلم الروبيضة، فقال سلمان: وما الروبيضة يا رسول الله (ص)؟! فداك ابى وامى، قال: يتكلم فى امر العامة من لم يكن يتكلم، فلم يلبثوا الا قليلا حتى تخور الارض خورة فلا يظن كل قوم الا انها خارت فى ناحيتهم فبمكثون ما شاء الله ثم ينكثون فى مكثهم فتلقى لهم الارض افلاذ كبدها ذهبا وفضة، ثم اومى بيده الى الاساطين فقال: مثل هذا، فيومئذ لا ينفع ذهب ولا فضة "
فهذا معنى قوله: { فقد جآء أشراطها }.
[47.19]
{ فاعلم } يعنى اذا علمت ذلك فاعلم { أنه لا إله إلأ الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم } تقلبكم وانتقالاتكم فان لكم الانتقالات من اول استقرار نطفكم وموادكم فى الارحام الى آخر الدنيا وهكذا فى البرازخ الى الاعراف، او محال تقلبكم من مراتب الدنيا والبرازخ { ومثواكم } فى مراتب الآخرة التى هى كثيرة بحسب مراتب الناس.
[47.20]
{ ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة } فى امر الجهاد او مطلقة والمراد بالمؤمنين مطلق المسلمين او المنافقون منهم او المؤمنون بالبيعة الخاصة الولوية { فإذآ أنزلت سورة محكمة } مبينة المعنى والمقصود، او غير ما يتطرق فيه النسخ، او عزيمة احكامها لا رخص { وذكر فيها القتال } يعنى ذكر فيها الحكم بالقتال على سبيل العزيمة { رأيت الذين في قلوبهم مرض } الذين هم بعض السائلين او رأيت السائلين لكنه وضع الظاهر موضع المضمر لذمهم وبيان علة الحكم، او رأيت الذين فى قلوبهم مرض وهم غير السائلين { ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت } لشدة خوفهم ودهشتهم { فأولى لهم } كلمة تهديد وزجر كأنه نقل من اصله وصار من قبيل اسماء الاصوات، او من قبيل الامثال لا يغير وكان فى الاصل فعلا من الولى بمعنى القرب، او من آل بمعنى رجع مقلوبا او وصفا منهما، او من الويل، او بمعنى احرى، وسيجيء تفصيله فى سورة القيامة وعلى هذا فهو خبر وقوله تعالى { طاعة وقول معروف }.
[47.21]
{ طاعة وقول معروف } مبتدءه، او طاعة مبتدء خبره محذوف اى خير، وقرئ يقولون طاعة، وحينئذ يكون المعنى يقولون لنا طاعة وقول معروف { فإذا عزم الأمر } عزموا على الاخر جدوا فيه وقطعوا على فعله وعزم الامر بمعنى عزم عليه { فلو صدقوا الله } فيما قالوا لولا انزل سورة اى فيما يستفاد منه من الحرص على الجهاد او فى مطلق ما قالوا وأقروا بلسانهم من الايمان والتصديق بالله والرسول (ص) وقبول الاحكام، او فيما اقروا به من امارة على (ع) والتسليم عليه بإمرة المؤمنين { لكان خيرا لهم } مما يزعمونه خيرا من ايام الدنيا وتمتعاتها.
[47.22]
{ فهل عسيتم إن توليتم } عن على (ع) او ان توليتم امور الناس، وقرئ ان توليتم بالبناء للمفعول اى ان تولاكم الناس { أن تفسدوا في الأرض } يعنى ان توليتم لم يكن لكم شأن سوى الافساد فينبغى لكم ان لا ترجوا غيره حين التولى { وتقطعوا أرحامكم } الصورية والمعنوية.
[47.23]
{ أولئك } التفات من الخطاب الى الغيبة { الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم } يعنى اصمم عن ادراك الجهة الاخروية من المسموعات واعمى ابصارهم كذلك.
[47.24]
{ أ } يقدرون على التأمل فى الآيات والقرآن { فلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالهآ } فلا يقدرون على التدبر، ونكر القلوب مع ان المناسب ان يقول ام على قلوبهم للاشعار بان القلوب التى عليها اقفالها كأنها ليست قلوب الانسان فلا يضاف اليهم، او انها لغاية حقارتها كأنها لا يمكن ان تعرف، واضافة الاقفال الى القلوب للاشارة الى ان اقفال القلوب من سنخ القلوب لا من جنس الاقفال الصورية وقد مضى فى اول البقرة ان لكل من القلوب روزنة الى الملكوت العليا وروزنة الى الملكوت السفلى، وباعتبار لكل باب الى الملكوت العليا، وباب الى الملكوت السفلى، واذا انفتح كل من البابين اغلق الآخر.
[47.25]
{ إن الذين ارتدوا على أدبارهم } شبه السالك على طريق الدين بمن سلك طريقا، والراجع عن الدين بمن ارتد عن الطريق على دبره وهذا حال المسلمين الذين أسلموا بمحمد (ص) ثم خالفوه فى أوامره { من بعد ما تبين لهم الهدى } بقول الله وقول رسوله والمراد بالهدى الولاية وطريقها وقد بينها الله تعالى فى عدة آيات وبينها رسول الله (ص) فى عدة مواضع، وقد ورد فى خبر انه (ص) اخذ البيعة منهم فى عشرة مواطن وفى خبر آخر: اخذ البيعة عنهم يوم الغدير ثلاث مرات { الشيطان سول لهم وأملى لهم } امليت له فى غيه اطلت، والبعير وسعت له فى قيده، واملى الله له امهله.
[47.26]
{ ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله } فى على (ع) وخلافته { سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم } قرئ مصدرا وجمعا، قال الصادق (ع): فلان وفلان ارتدوا عن الايمان فى ترك ولاية امير المؤمنين (ع) قال: نزلت والله فيهما وفى اتباعهما وهو قول الله عز وجل الذى نزل به جبرئيل على محمد (ص) ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله فى على (ع) سنطيعكم فى بعض الامر قال: دعوا بنى امية الى ميثاقهم الا يصيروا الامر فينا بعد النبى (ص) ولا يعطونا من الخمس شيئا وقالوا: ان اعطيناهم اياه لم يحتاجوا الى شيء ولم يبالوا ان لا يكون الامر فيهم فقالوا: سنطيعكم فى بعض الامر الذى دعوتمونا اليه وهو الخمس ان لا نعطيهم منه شيئا والذى نزل الله ما افترض على خلقه من ولاية امير المؤمنين (ع) وكان معهم ابو عبيدة وكان كاتبهم فانزل الله ام ابرموا امرا فانا مبرمون ام يحسبون انا لا نسمع سرهم ونجواهم (الآية) وعنهما (ع) انهم بنو امية كرهوا ما نزل الله فى ولاية على (ع).
[47.27-28]
{ فكيف } يكون حالهم او كيف يحتاجون { إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ذلك } الضرب { بأنهم اتبعوا مآ أسخط الله وكرهوا رضوانه } من ولاية على (ع) فان الرحمة والرضا والرضوان والنعمة كلها ولاية على (ع) { فأحبط } الله او ذلك الاتباع والكراهة { أعمالهم } عن الباقر (ع) قال: كرهوا عليا (ع) امر الله بولايته يوم بدر ويوم حنين وببطن نخلة ويوم التروية ويوم عرفة نزلت فيه خمس عشرة آية فى الحجة التى صد فيها رسول الله (ص) عن المسجد الحرام وبالجحفة وبخم والمراد بحبط الاعمال حبط ما عملوها فى الاسلام.
[47.29]
{ أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله } ان لن يظهر الله { أضغانهم } لرسوله وللمؤمنين يعنى ان هذا ظن فاسد ونحن نخرج اضغانهم.
[47.30]
{ ولو نشآء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم } يعنى لو نشاء تعريفهم لك لأريناكهم حتى تعرفهم بسيماهم ونفاقهم الباطنى { ولتعرفنهم في لحن القول } ان لم تكن تعرفهم بسيماهم، ويجوز ان يكون الخطاب لمحمد (ص) وان يكون لغير معين والمراد بلحن القول فحواه ومقصوده من الكناية والتورية والتعريض، او امالته الى جهة التعريض والتورية، وعن ابى سعيد الخدرى قال: (لحن القول بغضهم على بن ابى طالب (ع) قال: وكنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله (ص) ببغضهم على بن ابى طالب (ع))، وعن انس: (انه ما خفى منافق على عهد رسول الله (ص) بعد هذه الآية { والله يعلم أعمالكم } اسررتموها او اعلنتموها).
[47.31]
{ ولنبلونكم } بالامر بالجهاد او بمطلق التكليف او بالبلايا وحوادث الدهر، او بالخطرات ووسوسة الشيطان والقائه الشبه فى قلوبكم { حتى نعلم المجاهدين منكم } يعنى حتى يظهر علمنا او نعلم فى مظاهرنا { والصابرين ونبلوا أخباركم } التى تخبرونها عن انفسكم من انكم آمنتم بالله ورسوله وصدقتم رسوله فيما جاء به، او نبلو اخباركم التى يخبرون عنكم من انكم دبرتم خلاف ما قاله الرسول (ص) فى على (ع)، او نبلو اخباركم التى تخبرونها عن غيركم، وقرئ الافعال الثلاثة بالغيبة ايضا.
[47.32]
{ إن الذين كفروا } بالولاية { وصدوا } اعرضوا او منعوا غيرهم { عن سبيل الله } الذى هو على (ع) وولايته { وشآقوا الرسول } خالفوه او اتعبوه فى اهل بيته بعد اخذه الميثاق عليهم بولايته { من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا } او لن يضروك او لن يضروا عليا (ع) { وسيحبط أعمالهم } التى عملوها فى الاسلام.
[47.33-34]
{ يأيها الذين آمنوا } بعد ما اظهر ان الذين لم يطيعوا رسوله فى خلافة على (ع) سيحبط اعمالهم نادى المؤمنين تلطفا بهم فقال: { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول } فيما امراكم به من ولاية على (ع) حتى لا يبطل اعمالكم { ولا تبطلوا } بترك طاعتهما { أعمالكم إن الذين كفروا } بالولاية { وصدوا عن سبيل الله } الذى هو الولاية كرره لكونه المقصود من السورة المباركة { ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم } ابدا.
[47.35]
{ فلا تهنوا } لا تضعفوا ايها المؤمنون عن المجاهدة والقتال مع الكفار، او عن المجاهدة والمحاجة مع المنافقين المخاصمين لعلى (ع) { وتدعوا إلى السلم } اى ولا تدعوا الى الصلح لضعفكم عن مخاصمتهم، او لفظ الواو بمعنى مع وبعده ان مقدرة { وأنتم الأعلون } يعنى لا تهنوا ولا تدعوا الى الصلح فى حال علوكم عليهم او ليس المقصود تقييد النهى بحال العلو بل هو حال فى معنى التعليل لا التقييد { والله معكم } هذه الجملة يؤيد المعنى الثانى { ولن يتركم أعمالكم } لن يضروكم من اعمالكم يعنى لن يضيع اعمالكم.
[47.36]
{ إنما الحياة الدنيا لعب ولهو } قد تكرر فى ما سلف بيان اللعب واللهو فاذا كان الدنيا لعب الاطفال فما لكم تتعلقون بها وتضعفون لذلك عن مقاتلتهم او محاجتهم { وإن تؤمنوا } بعلى (ع) { وتتقوا } عن مخالفته { يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم } يعنى ان لم تؤمنوا لعلى (ع) ولم تتقوا عن مخالفته يسألكم اموالكم اعتبارا لمفهوم المخالفة، او المعنى ان تؤمنوا يؤتكم اعواض أعمالكم ولا يسألكم جميع اموالكم حتى تثقل عليكم الايمان به، والضمير فى يؤتكم ويسئلكم لله او لمحمد (ص) او لعلى (ع).
[47.37]
{ إن يسألكموها فيحفكم } اى يجهدكم بمسئلته { تبخلوا ويخرج أضغانكم } اى يظهر احقادكم التى هى مكمونة فى قلوبكم.
[47.38]
{ ها أنتم هؤلاء } قد مضى الكلمتان فى سورة آل عمران مع بيان لهما { تدعون لتنفقوا في سبيل الله } لا ان تعطوا رسولنا، وتدعون لتنفقوا شيئا يسيرا من اموالكم فى سبيل الله لا ان تعطوا كثيرا من اموالكم { فمنكم من يبخل } بالانفاق بما فرض الله وبغيره { ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه } اى يبخل متجاوزا عن خير نفسه فان الانفاق كما مضى فى اول البقرة مورث لاخذ الاشرف والاولى وقد مضى هناك ايضا ان الانفاق اعم من انفاق المال والقوى والجاه والقوة والانانية { والله الغني } فلا يأمركم بالانفاق لحاجة له اليه { وأنتم الفقرآء } فيأمركم بالانفاق لحاجتكم فى استكمالكم الى الانفاق { وإن تتولوا } عن الايمان بعلى (ع) او عن طاعة الرسول (ص) فيما امركم به من الانفاق وغيره { يستبدل قوما غيركم } القمى قال: يدخلهم فى هذا الامر { ثم لا يكونوا أمثالكم } فى ان يقولوا بافواههم ما ليس فى قلوبهم وقد فسر القوم الآخر بابناء الموالى فى عدة اخبار، وفى المجمع
" روى ابو هريرة ان ناس من اصحاب رسول الله (ص) قالوا: يا رسول الله (ص) من هؤلاء الذين ذكر الله فى كتابه؟ (وكان سلمان الى جنب رسول الله (ص)) فضرب يده على فخذ سلمان فقال: هذا وقومه، والذى نفسى بيده لو كان الايمان منوطا بالثريا تتناوله رجال من فارس "
، وعن الصادق (ع): من اراد ان يعرف حالنا وحال اعدائنا فليقرأ سورة محمد (ص) فانه يراها آية فينا وآية فيهم.
[48 - سورة الفتح]
[48.1]
شرح فى صلح الحديبية
{ إنا فتحنا لك فتحا مبينا } فتح كمنع ضد اغلق كفتح من التفعيل وافتح، والفتح النصر كالفتاحة بفتح الحاء، ومنه الاستفتاح وافتتاح دار الحرب والحكم بين الخصمين كالفتاحة بالكسر والضم وكالفتح بالضمتين، ويستعمل فى معنى العلم وفى انبساط القلب واتصاله بعالم الملكوت ومشاهداته، وفيما يصل الى الانسان من جهة الباطن او من جهة الظاهر من انواع فضل الله والكل مناسب ههنا، وقد قيل بكل منها ببعضها صريحا وببعضها تلويحا، فقيل: معناه قضينا لك، وقيل: يسرنا لك، وقيل: اعلمناك، وقيل: ارشدناك، وقيل: فتحنا البلاد لك، وقيل: اظفرناك على الاعداء بالحجة والمعجزة حتى لم يبق معاند للاسلام، وقيل: المراد به فتح مكة له (ص)، وقيل: المراد به صلح الحديبية، وقيل: لم يكن فتح اعظم من صلح الحديبية، وذلك ان المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكن الاسلام فى قلوبهم واسلم فى ثلاث سنين خلق كثير وقيل: بويع محمد (ص) بالحديبية بيعة الرضوان واطعم نخيل خيبر، وظهرت الروم على فارس، وفرح المسلمون بظهور اهل الكتاب وهم الروم على المجوس اذ صدق به قوله تعالى
وهم من بعد غلبهم سيغلبون
[الروم:3]، وعن الصادق (ع) قال: سبب نزول هذه السورة وهذا الفتح العظيم ان الله عز وجل امر رسوله فى النوم ان يدخل المسجد الحرام ويطوف ويحلق مع المحلقين فاخبر اصحابه وامرهم بالخروج فخرجوا، فلما نزل ذا الحليفة احرموا بالعمرة وساقوا البدن وساق رسول الله (ص) ستة وستين بدنة واشعرها عند احرامه واحرموا من ذى الحليفة ملبين بالعمرة وقد ساق من ساق منهم الهدى معرات مجللات، فلما بلغ قريشا ذلك بعثوا خالد بن الوليد فى مأتى فارس كمينا ليستقبل رسول الله (ص) وكان يعارضه على الجبال فلما كان فى بعض الطريق حضرت صلاة الظهر فأذن بلال فصلى رسول الله (ص) بالناس فقال خالد بن الوليد: لو كنا حملنا عليهم وهم فى الصلاة لاصبناهم فانهم لا يقطعون صلاتهم ولكن تجيء الآن لهم صلاة اخرى احب اليهم من ضياء ابصارهم فاذا دخلوا فى الصلاة اغرنا اليهم، فنزل جبرئيل على رسول الله (ص) بصلاة الخوف فلما كان فى اليوم الثانى نزل رسول الله (ص) الحديبية وهى على طرف الحرم وكان رسول الله (ص) يستنفر الاعراب فى طريقه معه فلم يتبعه احد ويقولون: ايطمع محمد (ص) واصحابه ان يدخلوا الحرم وقد غزتهم قريش فى عقر ديارهم فقتلوهم، انه لا يرجع محمد (ص) واصحابه الى المدينة ابدا، فلما نزل رسول الله (ص) الحديبية خرجت قريش يحلفون باللات والعزى لا يدعون رسول الله (ص) يدخل مكة وفيهم عين تطرف فبعث اليهم رسول الله (ص)
" انى لم آت لحرب وانما جئت لاقضى نسكى وانحر بدنى واخلى بينكم وبين لحمانها "
، فبعثوا عروة بن مسعود الثقفى وكان عاقلا لبيبا وهو الذى انزل الله فيه:
وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم
[الزخرف:31] فلما أقبل الى رسول الله (ص) عظم ذلك وقال: يا محمد (ص) تركت قومك وقد ضرب الابنية واخرجوا العوذ المطافيل يحلفون باللات والعزى لا يدعوك تدخل مكة حرمهم وفيهم عين تطرف، افتريد ان تبير اهلك وقومك يا محمد (ص)؟ - فقال رسول الله (ص):
" ما جئت لحرب وانما جئت لاقضى مناسكى وانحر بدنى واخلى بينكم وبين لحمانها "
، فقال عروة: والله ما رأيت كاليوم احدا اصد كما صددت، فرجع الى قريش فاخبرهم، فقالت قريش: والله لئن دخل محمد (ص) مكة وتسامعت به العرب لتذللن ولتجرئن علينا العرب فبعثوا حفص بن الاحنف وسهيل بن عمر وفلما نظر اليهما رسول الله (ص) قال:
" ويح قريش قد نهكتكم الحرب الا خلوا بينى وبين العرب فان أك صادقا فانى اجر الملك اليهم مع النبوة، وان أك كاذبا كفتهم ذؤبان العرب لا يسئلنى اليوم امرء من قريش خطة ليس لله فيها سخط الا اجبتهم اليه فلما وافوا رسول الله (ص)، قالوا يا محمد (ص) الا ترجع عنا عامك هذا الى ان ننظر الى ما يصير امرك وامر العرب؟ - فان العرب قد تسامعت بمسيرك فاذا دخلت بلادنا وحرمنا استذلتنا العرب واجترأت علينا ونخلى لك البيت فى العام القابل فى هذا الشهر ثلاثة ايام حتى تقضى نسكك وتنصرف عنا، فأجابهم رسول الله (ص) الى ذلك، وقالوا له ترد الينا كل من جاءك من رجالنا، ونرد اليك كل من جاءنا من رجالك، فقال رسول الله (ص): من جاءكم من رجالنا فلا حاجة لنا فيه ولكن على ان المسلمين بمكة لا يؤذون فى اظهارهم الاسلام ولا يكرهون ولا ينكر عليهم شيء يفعلونه من شرائع الاسلام، فقبلوا ذلك، فلما اجابهم رسول الله (ص) الى الصلح انكر عامة اصحابه واشد ما كان انكارا عمر، فقال: يا رسول الله (ص) السنا على الحق وعدونا على الباطل؟ - فقال: نعم، فقال: فنعطى الذلة فى ديننا ، فقال: ان الله عز وجل قد وعدنى ولن يخلفنى، قال: ولو ان معى اربعين رجلا لخالفته، ورجع سهيل بن عمرو وحفص بن الاحنف الى قريش فأخبراهم بالصلح، فقال عمر: يا رسول الله (ص)، الم تقل لنا ان ندخل المسجد الحرام ونحلق مع المحلقين؟! فقال: أمن عامنا هذا وعدتك؟! قلت لك: ان الله عز وجل قد وعدنى ان افتح مكة واطوف واسعى واحلق مع المحلقين، فلما اكثروا عليه قال لهم: ان لم تقبلوا الصلح فحاربوهم، فمروا نحو قريش وهم مستعدون للحرب وحملوا عليهم فانهزم اصحاب رسول الله (ص) هزيمة قبيحة ومروا برسول الله (ص)، فتبسم رسول الله (ص) ثم قال: يا على (ع)، خذ السيف واستقبل قريشا فأخذ امير المؤمنين (ع) سيفه وحمل على قريش فلما نظروا الى امير المؤمنين (ع) تراجعوا ثم قالوا: يا على (ع) بدا لمحمد (ص) فيما أعطانا؟ - فقال: لا، وتراجع اصحاب رسول الله (ص) مستحيين واقبلوا يعتذرون الى رسول الله (ص)، فقال لهم رسول الله (ص): الستم اصحابى يوم بدر اذ انزل الله عز وجل فيكم { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين } [الأنفال:9]؟ - الستم اصحابى يوم احد { إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم } [آل عمران:153] الستم اصحابى يوم كذا؟ - الستم اصحابى يوم كذا؟ - فاعتذروا الى رسول الله (ص) وندموا على ما كان منهم وقالوا: الله اعلم ورسوله، فاصنع ما بدا لك ورجع حفص بن الاحنف وسهيل بن عمرو الى رسول الله (ص)، فقالا: يا محمد (ص) قد اجابت قريش الى ما اشترطت من اظهار الاسلام وان لا يكره احد على دينه، فدعا رسول الله (ص) بالمكتب ودعا امير المؤمنين (ع) وقال له: اكتب، فكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فقال: سهيل بن عمرو: لا نعرف الرحمن، اكتب كما كان يكتب آباؤك باسمك اللهم، فقال رسول الله (ص): اكتب باسمك اللهم فانه اسم من اسماء الله، ثم كتب: هذا ما تقاضى عليه محمد رسول الله (ص) والملأ من قريش ، فقال سهيل بن عمرو: لو علمنا انك رسول الله (ص) ما حاربناك، اكتب هذا ما تقاضى عليه محمد بن عبد الله، اتأنف من نسبك يا محمد (ص)؟ - فقال رسول الله (ص): انا رسول الله (ص) وان لم تقروا، ثم قال: امح يا على (ع) واكتب محمد بن عبد الله، فقال امير المؤمنين (ع): ما امحو اسمك من النبوة ابدا، فمحاه رسول الله (ص) بيده، ثم كتب: هذا ما اصطلح محمد بن عبد الله والملأ من قريش وسهيل اصطلحوا على وضع الحرب عشر سنين على ان يكف بعضنا عن بعض، وعلى انه لا اسلال ولا اغلال وان بيننا وبينهم غيبة مكفوفة، وان من احب ان يدخل فى عهد محمد (ص) وعقده فعل، ومن احب ان يدخل فى عهد قريش وعقدها فعل، وانه من أتى محمدا (ص) بغير اذن وليه رده اليه، وانه من أتى قريشا من اصحاب محمد (ص) لم ترده اليه، وان يكون الاسلام ظاهرا بمكة ولا يكره احد على دينه ولا يؤذى ولا يعير، وان محمدا (ص) يرجع منهم عامه هذا واصحابه ثم يدخل علينا فى العام المقبل مكة فيقيم فيها ثلاثة ايام ولا يدخل عليها بسلاح الا سلاح المسافر، السيوف فى القراب، وكتب على بن ابى طالب (ع) وشهد الكتاب المهاجرون والانصار، ثم قال رسول الله (ص): يا على (ع) انك ابيت ان تمحو اسمى من النبوة فوالذى بعثنى بالحق نبيا لتجيبن ابناءهم الى مثلها وانت مضيض مضطهد؛ فلما كان يوم صفين ورضوا بالحكمين كتب: هذا ما اصطلح عليه امير المؤمنين على بن ابى طالب (ع) ومعاوية بن ابى سفيان، فقال عمرو بن العاص: لو علمنا انك امير المؤمنين (ع) ما حار بناك ولكن اكتب هذا ما اصطلح عليه على بن ابى طالب (ع) معاوية بن ابى سفيان، فقال امير المؤمنين (ع): صدق الله وصدق رسوله اخبرنى رسول الله (ص) بذلك، فلما كتبوا الكتاب قامت خزاعة فقالت: نحن فى عهد محمد (ص) وعقده، وقامت بنو بكر فقالت: نحن فى عهد قريش وعقدها، وكتبوا نسختين نسخة عند رسول الله (ص) ونسخة عند سهيل بن عمرو، ورجع سهيل بن عمرو وحفص بن الاحنف الى قريش فاخبراهم وقال رسول الله (ص) لاصحابه: انحروا بدنكم واحلقوا رؤسكم فامتنعوا وقالوا: كيف ننحر ونحلق ولم نطف بالبيت؟ - ولم نسع بين الصفا والمروة؟! فاغتم لذلك رسول الله (ص) وشكا ذلك الى ام سلمة، فقالت: يا رسول الله (ص) انحر انت واحلق فنحر رسول الله (ص) وحلق فنحر القوم على حيث يقين وشك وارتياب، فقال رسول الله (ص) تعظيما للبدن: رحم الله المحلقين، وقال قوم لم يسوقوا البدن: يا رسول الله والمقصرين لان من لم يسق هديا لم يجب عليه الحلق، فقال رسول الله (ص) ثانيا: رحم الله المحلقين الذين لم يسوقوا الهدى، فقالوا: يا رسول الله (ص) والمقصرين، فقال: رحم الله المقصرين، ثم رحل رسول الله (ص) نحو المدينة فرجع الى التنعيم ونزل تحت الشجرة فجاء اصحابه الذين انكروا عليه الصلح واعتذروا واظهروا الندامة على ما كان منهم وسألوا رسول الله (ص) ان يستغفر لهم، فنزلت آية الرضوان ".
اعلم، ان اختلاف الاقوال والاخبار فى بيان هذا الفتح وتعليله بمغفرة الله ذنوبه المتقدمة وذنوبه المتأخرة وقول النبى (ص) بعد نزول هذه الآية وهذه السورة:
" لقد نزلت على آية هى احب الى من الدنيا وما فيها "
، وتعقيب غفرانه باتمام النعمة والهداية والنصر وانزال السكينة كلها يدل على ان المراد بهذا الفتح ليس فتح مكة ولا فتح خيبر ولا فتح سائر البلاد فقط بل المراد فتح هو اصل سائر الفتوح وهو فتح باب الارواح الى الجبروت بل الى اللاهوت، وفى هذا الفتح يكون جميع الفتوحات من فتح البلاد ومن ايصال النعم الصورية والمعنوية والنصر على الاعداء والحكم بينه وبين اعداءه وكيفية الحكومة بين الخلق والعلم بالاشياء، وبالجملة هذا الفتح هو الذى يصير سببا لغفران ذنوب من اتصل به ودخل تحت لوائه كائنا من كان وان كان ذنوبه بعدد قطرات البحار واجزاء الرمال ولذلك قال على (ع): دينكم دينكم فان السيئة فيه مغفورة والحسنة فى غيره غير مقبولة، وهذا الفتح هو الذى لا يبقى معه نقص وقصور لصاحبه، وبهذا الفتح يصير صاحبه خاتما للكل فى الكل، وهذا الفتح هو الذى يكون احب الاشياء الى صاحبه.
[48.2]
{ ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر }.
اعلم، ان ذنب كل انسان بحسب مقامه ومنزلته، فان حسنات الابرار سيئات المقربين وتوبة الانبياء من الالتفات الى غير الله كما ان توبة الاولياء من خطرات القلوب وقد قال فيما نسب اليه: انه ليران على قلبى وانى لاستغفر الله كل يوم سبعين مرة، وان الرسول لما كان أبا لجميع امته والابوة الروحانية كما مر فى سورة البقرة عبارة عن تنزل الاب الى مقام الابن والبنت وصيرورته فعلية اخيرة لهما من غير تجاف عن مقامه العالى وكان شيئية الشيء بفعليته الاخيرة كان الرسول شيئية كل امته وفعليتهم الاخيرة، فما ينسب الى امته من الذنوب صح ان ينسب اليه بوجه، وما غفر الله لامته من ذنوبهم صح ان يقال: غفر الله تعالى له ذنوبه بمغفرة ذنوب امته، ولما كان رسالته خاتم الرسالات وكل الانبياء كانوا تحت لوائه وتحت رسالته وكل الشرائع تحت شريعته صح ان يقال: ان من كان على دين من آدم (ع) وامته الى انقراض العالم كلهم كانوا امته فصح ان يقول الله تعالى: انا فتحنا لك هذا الفتح العظيم ليغفر لك الله ما تقدم من ذنوبك اللائق بشأنك على هذا الفتح وما تأخر وصح ان يقول: ليغفر لك الله ما تقدم من ذنوب امتك المتقدمين من لدن آدم (ع) وما تأخر من ذنوب امتك المتأخرين الى انقراض العالم، وصح ان يقول: انا فتحنا لك مكة ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك بزعم مشركى مكة على زمان الفتح وما تأخر فانه كان اعظم ذنبا عندهم من كل مذنب او ما تقدم على الهجرة وما تأخر عنها كما ورد عن الرضا (ع)، وصح ان يقال المعنى: انا اظفرناك على الامم او اعلمناك او تفضلنا عليك بالنعم الصورية والمعنوية ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ومن ههنا يظهر وجه الالتفات من التكلم الى الغيبة فان ذنوب الامة ليست الا فى غيبته تعالى وكذلك مغفرتهم وذنبه الذى هو الالتفات الى غير الله ليس الا بالغفلة من الله غفلة لائقة بشأنه وفى غيبته، ومغفرته التى لا تكون الا للمذنب فى اى حال كان كانت فى غيبته فان اللطيفة الحاضرة عند الله ليس لها ذنب، واللطيفة المذنبة لا تصير حاضرة عند الله، وايضا غفران الذنوب واتمام النعم وسائر ما ذكر فى الآية ليست الا باسمه الجامع الذى يعبر عنه بالله { ويتم نعمته عليك } اتمام النعمة ليس الا لمن فتح له باب اللاهوت وعرج عن الملكوت والجبروت اللتين هما من عالم الامكان الى اللاهوت التى هى فوق الامكان، ولا يمكن ذلك الا بهذا الفتح المذكور { ويهديك صراطا مستقيما } وهو الخروج من الافراط والتفريط الذى هو احد من السيف وادق من الشعر، وتنكير الصراط للتفخيم.
[48.3]
{ وينصرك الله نصرا عزيزا } لا يوجد مثله، او نصرا يصير سببا للغلبة والمناعة.
[48.4]
{ هو الذي أنزل السكينة } قد مضى بيان السكينة فى اواخر سورة البقرة عند قوله تعالى:
إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم
[البقرة: 248] (الآية) وفى سورة التوبة وسورة يوسف (ع)، وان المراد بالسكينة ظهور ملكوت ولى الامر على صدر المؤمن وبهذا الظهور يحصل له جميع ما ورد فى الاخبار من معانى السكينة، وهذا هو الذى ينبغى ان يظهره الله فى مقام الامتنان { في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا } شهوديا { مع إيمانهم } العلمى والحالى فانه اذا ظهر ملكوت ولى الامر على المؤمن من يصير ايمانه العلمى قرينا لايمانه الشهودى { ولله جنود السماوات والأرض } كأنه بعد ما سبق فى سورة التوبة من قوله تعالى بعد ذكر انزال السكينة
وأنزل جنودا لم تروها
[التوبة: 26] وايده بجنود لم تروها كان التأييد بالجنود الغيبية مسلما بعد انزال السكينة فقال: وان الجنود الغيبية التى لا تنفك عن تلك السكينة لله فهو الذى انزل الجنود الغيبية للمؤمنين كما انزل السكينة عليهم فقوله:
ولله جنود السماوات
[الفتح: 4] ولله جنود السماوات مفيد معنى ايدهم بجنود لم تروها مع شيء زائد، او المقصود من قوله
ولله جنود السماوات والأرض
[الفتح: 4] تعميم الامتنان بسائر القوى والمدارك بعد الامتنان بانزال السكينة عليهم كأنه قال: لا اختصاص لامتناننا على المؤمنين بانزال السكينة بل جميع المدارك والقوى التى هى من جنود السماوات وجميع الاعضاء الآلية والاعصاب والاوتار المحركة التى هى من جملة جنود الارض من عطيته، او المقصود ترغيب المؤمنين وتطميعهم بعد ذكر الامتنان بانزال السكينة فى انزال الجنود التى لم يروها كأنه قال: فاطلبوا جنود السماوات والارض منه { وكان الله عليما } بمصالحكم فيعلم وقت استعدادكم لانزال السكينة ووقت اصلاحكم بها وافسادكم بها، ويعلم وقت صلاحكم بتأييدكم بالجنود وعدم تأييدكم { حكيما } لا يفعل ما يفعل الا بعد المراقبة لجميع دقائق احوالكم واستحقاقكم ولا يفعل ما يفعل الا بالاتقان فى فعله بحيث لا يتطرق الخلل فيه.
[48.5-7]
{ ليدخل المؤمنين والمؤمنات } تعليل لقوله تعالى ليغفر لك الله وهذا هو المناسب لتفسير المغفرة بمغفرة ذنوب امته، او لقوله يتم نعمته، او ليهديك، او لينصرك الله، او لانزل السكينة، او ليزدادوا ايمانا، او لمفهوم قوله لله جنود السماوات والارض، او للجميع على سبيل التنازع، او تعليل لمحذوف، او فعل ما فعل ليدخل المؤمنين والمؤمنات { جنات تجري من تحتها الأنهار } قد مضى فى آخر سورة آل عمران بيان لكيفية جريان الانهار من تحت الجنات عند قوله
فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم
[آل عمران:195] { خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم } يزيلها عنهم { وكان ذلك } الادخال والتكفير { عند الله فوزا عظيما ويعذب المنافقين والمنافقات } الذين نافقوا مع محمد (ص) او فى حق على (ع) { والمشركين } بالله او بالرسول او بالولاية وهو المنظور اليه { والمشركات الظآنين بالله ظن السوء } وهو ظن انه لا ينصر رسوله فى سفره الى مكة { عليهم دآئرة السوء } التى تظنونها للمؤمنين من هلاكهم بأيدى قريش، قال القمى: وهم الذين انكروا الصلح واتهموا رسول الله (ص) { وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وسآءت مصيرا ولله جنود السماوات والأرض } كرره تقوية لقلوب المؤمنين وتخييبا لظن المنافقين { وكان الله عزيزا } لا يغلب على ما يريد { حكيما } لا يفعل الا ما فيه صلاح المؤمنين ولا ينظر الى اهوية المؤمنين او المنافقين.
[48.8]
{ إنآ أرسلناك } جواب سؤال عن علة ادخال المؤمنين الجنات، وتعذيب المنافقين غاية لمغفرة ذنوب المؤمنين التى هى غاية للفتح المبين كانه قيل: لم يدخل الله المؤمنين الجنات ويعذب المنافقين بسبب الفتح المبين للنبى (ص)؟ - فقال: لانا ارسلناك ايها النبى (ص) { شاهدا } عليهم بحالك وقالك، فمن اتصل بك تشهد له فيدخل الجنة، ومن لم يتصل بك تشهد عليه فيعذب { ومبشرا ونذيرا } للمؤمنين والكافرين.
[48.9-10]
{ لتؤمنوا } صرف الخطاب عنه (ع) الى امته للاشارة الى ان غاية الارسال ايمان المؤمنين { بالله ورسوله وتعزروه } قرئ من باب الافعال والتفعيل والثلاثى المجرد من باب ضرب ونصر، وقرئ تعززوه بالزائين المعجمتين { وتوقروه } قرئ من باب التفعيل والافعال { وتسبحوه بكرة وأصيلا إن الذين يبايعونك } جواب سؤال مقدر فى مقام التعليل، او فى مقام بيان الحال، كأنه قيل: ما حال البائعين مع الرسول (ص)؟ - فقال تعالى: ان الذين يبايعونك { إنما يبايعون الله } لانك مظهر لله ولا حكم للمظهر حين ظهور الظاهر فيه وانما الحكم للظاهر فقط { يد الله } لا يدك { فوق أيديهم } وقد مضى تفصيل لاخذ البيعة عند قوله
ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده
[التوبة:104]، وعند قوله
إن الله اشترى من المؤمنين
[التوبة:111] (الآية) من سورة التوبة وقد ذكر بيان للبيعة فى غير هذه السورة ايضا { فمن نكث } نقض البيعة بنقض شروطها وعدم الاتيان بها، او بالاعراض عنها وفسخها { فإنما ينكث على نفسه } لان ضرره عائد اليها { ومن أوفى بما عاهد عليه الله } قرئ بضم الهاء فى عليه حفظا لتفخيم لفظ الله { فسيؤتيه أجرا عظيما } لا يمكن ان يوصف، قال القمى: نزلت الآية فى بيعة الرضوان لقد رضى الله عن المؤمنين اذ يبايعونك تحت الشجرة واشترط عليهم ان لا ينكروا بعد ذلك على رسول الله (ص) شيئا يفعله ولا يخالفوه فى شيء يأمرهم به فقال عز وجل بعد نزول آية الرضوان: ان الذين يبايعونك انما يبايعون الله يد الله فوق ايديهم (الآية) وانما رضى الله عنهم بهذا الشرط ان يفوا بعد ذلك بعهد الله وميثاقه ولا ينقضوا عهده وعقده فبهذا العقد رضى الله عنهم فقدموا فى التأليف آية الشرط على آية الرضوان: وانما نزلت اولا بيعة الرضوان ثم آية الشرط فيها.
[48.11]
{ سيقول لك المخلفون من الأعراب } الذين استنفرهم رسول الله (ص) عام الحديبية فاعتلوا واعتذروا بالشغل باموالهم واهاليهم وانما خلفهم خوفهم من قريش فانهم قالوا ان قريشا غزت محمدا (ص) فى عقر داره وهو يريد ان يدخل عليهم ديارهم لا يفلت منهم احد ابدا { شغلتنآ أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا } لتخلفنا وهذا من الاخبار بالمغيبات { يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا } على التخلف او مطلقا { أو أراد بكم نفعا بل كان الله بما تعملون خبيرا } فاحذروا مما تعملون.
[48.12]
{ بل ظننتم } يعنى ليس شغلتكم اموالكم واهلوكم بل خفتم عن قريش لانكم ظننتم انهم يغلبون ويقتلون محمدا (ص) واصحابه و { أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك } اى استحكم ذلك { في قلوبكم } بحيث لا تحتملون غيره { وظننتم ظن السوء } بالله ورسوله { وكنتم قوما بورا } هالكين عن الحياة الانسانية.
[48.13-14]
{ ومن لم يؤمن بالله ورسوله } وظن لهما ظن السوء { فإنآ أعتدنا للكافرين } وضع الظاهر موضع المضمر لذم آخر لهم وللاشعار بعلة الحكم { سعيرا ولله ملك السماوت والأرض يغفر لمن يشآء ويعذب من يشآء } بحسب استعداد كل فان مشيته ليست جزافية { وكان الله غفورا رحيما } ترجيح لجانب الرجاء واشعار بان المغفرة والرحمة ذاتية له، والتعذيب داخل فى قضائه بالقصد الثانى.
[48.15]
{ سيقول } لكم { المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم } كمغانم خيبر { لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله } يعنى قوله ان الخارجين الى مكة المصدودين عن طواف البيت مخصوصون بمغانم خيبر بدلا من دخول مكة او قوله ان المتخلفين لا يتبعوكم فى مغانم خيبر { قل لن تتبعونا } أتى بنفى التأبيد مكان النهى اشارة الى تحققه وتأكيدا له { كذلكم قال الله من قبل } انكم لا تكونون معنا فى مغانم خيبر { فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا } يعنى لا يدركون من امر الآخرة فى المخاطبات الا قليلا فلذلك يحملون قولكم ومنعكم على الحسد الذى هى من اوصاف الدنيا.
[48.16-17]
{ قل للمخلفين } وضع الظاهر موضع المضمر تصريحا بذمهم { من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد } قيل: هم هوازن وثقيف { تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا } الغنيمة والجنة { وإن تتولوا كما توليتم من قبل } يعنى عن الحديبية { يعذبكم عذابا أليما ليس على الأعمى حرج } لما اوعد المتخلفين وذمهم استثنى منهم فى الذم والايعاد هؤلاء لئلا يتوهم انهم موعدون { ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ومن يطع الله ورسوله } من غير المعذرين او من مطلق المسلمين { يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار } قد مضى بيان جريان الانهار من تحت الجنات فى آخر سورة النساء { ومن يتول يعذبه عذابا أليما } تأكيد لمفهوم قوله ان تتولوا كما توليتم من قبل وتعليل له.
[48.18]
{ لقد رضي الله عن المؤمنين }.
اعلم، ان رضا الله عن العبد ليس الا حين رضا العبد عن الله، وهل رضا العبد مقدم او رضا الله؟ - الاخبار وكلمات الابرار فى ذلك مختلفة، ولعل اهل الشهود منهم ما حققوا ذلك ولذلك اظهر بعضهم التحير فيه وفى امثاله. والتحقيق ان هذه المسألة دورية بمعنى ان ذكر الله او توبته او رضاه مقدم بحسب مرتبة منه على ما للعبد بحسب مرتبة منه وما للعبد مقدم على ما لله بحسب مرتبة اخرى بل التحقيق ان ما للعبد عين ما لله لكن نسبته الى الله مقدمة فى نفس الامر على نسبته الى العبد لكن اعتبار تلك النسبة يختلف بحسب حال الناظر، فمن كان نظره الى الله مقدما على نظره الى نفسه كما ورد عن على (ع): ما رأيت شيئا الا ورأيت الله قبله، كان نسبته الى الله مقدمة على نسبته الى العبد، ومن كان نظره الى نفسه مقدما على نظره الى الله كان نسبته الى العبد مقدمة ، ومن كان نظره اليهما على السواء كان متحيرا فى التقديم والتأخير والى هذين النظرين اشير فى الخبر بقوله (ص):
" ما رأيت شيئا الا ورأيت الله بعده "
وبقوله (ص):
" ما رأيت شيئا الا ورأيت الله فيه "
، واما من لم ير مثل المعتزلى الا نسبة الافعال والصفات الى العباد فليس الكلام معه ولعل قوله تعالى:
فاذكروني أذكركم
[البقرة:152] خطاب مع هؤلاء وهم اغلب العباد، وقوله:
وما تشآءون إلا أن يشآء الله
[الإنسان:30] خطاب مع الفرقة الاولى او تنبيه للكل على ان نسبة الاوصاف الى الله مقدمة على نسبتها الى العباد { إذ يبايعونك تحت الشجرة } أتى باذ التى هى للماضى لان نزول الآية كان بعد وقوع الواقعة، وأتى بالمضارع بعدها للاشارة الى تكرر الفعل فان البائعين فى ذلك اليوم كانوا كثيرين، وسبب رضا الله تعالى عنهم فى تلك البيعة انهم لما خالفوا رسول الله (ص) وقاتلوا مع قريش وانهزموا هزيمة منكرة ندموا على مخالفتهم لرسول الله (ص) وتابوا الى الله واستغفروا رسوله وبايعوا معه عن صميم القلب ولم يكن لهم حين تلك البيعة انانية اصلا ولذلك صاروا مستحقين لنزول السكينة، وشرط عليهم الرسول فى تلك البيعة ان لا يخالفوه ولا يخالفوا قوله وأمره، ولا ينكروا بعد ذلك عليه شيئا فعله فانهم بعد ما انهزموا ورحل رسول الله (ص) نحو المدينة ورجع الى التنعيم فنزل تحت الشجرة جاؤا اليه واظهروا الندامة فاخذ منهم العهد والميثاق بذلك وكان اول من بايع رسول الله (ص) حينئذ عليا (ع) ولقد آخا رسول الله (ص) بين كل اثنين اثنين منهم وآخا بين نفسه وبين على (ع) { فعلم ما في قلوبهم } من الصدق والتوبة والانابة فرضى بذلك عنهم { فأنزل السكينة عليهم } لانهم خرجوا من انانياتهم والسكينة التى هى صورة ملكوتية تدخل بيت قلب العبد اذا خرج من انانيته كما قيل: " جو تو بيرون شوى او اندر آيد " وقد مضى فى آخر سورة البقرة وفى التوبة بيان للسكينة { وأثابهم فتحا قريبا } هو فتح خيبر.
[48.19]
{ ومغانم كثيرة يأخذونها } هى مغانم خيبر { وكان الله عزيزا } لا يغلب على مراده { حكيما } لا يفعل ما يفعل ولا يعد ما يعد الا لحكمة وغاية متقنة.
[48.20]
{ وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها } هى ما يفئ الله على المؤمنين (ع) الى يوم القيامة او هى مغانم مكة وهوازن { فعجل لكم هذه وكف أيدي الناس } اى ايدى قريش او ايدى الاعراب وغيرهم بقوة الاسلام، او ايدى اهل خيبر وحلفائهم { عنكم } ذكر فى المجمع عن العامة انه لما قدم رسول الله (ص) المدينة من الحديبية مكث بها عشرين ليلة ثم خرج منها غازيا الى خيبر فحاصرهم حتى اصابتهم مخمصة شديدة ثم ان الله فتحها؛ وذلك ان النبى (ص) اعطى اللواء عمر بن الخطاب ونهض من نهض معه من الناس فلقوا اهل خيبر فانكشف عمر واصحابه فرجعوا الى رسول الله (ص) يجبنه اصحابه ويجبنهم، فقال رسول الله (ص) بعد ما اخبروه بما فعل عمر واصحابه،
" لاعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، كرارا غير فرار لا يرجع حتى يفتح الله على يديه، فلما اصبح الناس غدوا على رسول الله (ص) كلهم يرجون ان يعطيها، فقال (ص): اين على بن ابى طالب (ع)؟ - فقالوا: هو تشتكى عينه، فأرسل اليه فأتى به فبصق فى عينيه ودعا له فبرئ كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية، فقال (ص): انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم الى الاسلام واخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فوالله لان يهدى الله بك رجلا واحدا خير لك من ان يكون لك حمر النعم، فذهب الى خيبر فبرز اليه مرحب فضربه ففلق رأسه فقتله وكان الفتح على يده "
، هكذا اورده مسلم فى الصحيح، ونقل عن العامة: ان عليا (ع) لما دنا من الحصن خرج اليه اهله فقاتلهم فضربه رجل من اليهود فطرح ترسه من يده فتناول على (ع) باب الحصن فتترس به عن نفسه فلم يزل فى يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه ثم القاه من يده، فلقد رأيتنى فى نفر معى سبعة نجهد على ان نقلب ذلك الباب فما استطعنا، ونقل عنهم ان عليا (ع) حمل الباب يوم خيبر حتى صعد المسلمون عليه فافتتحوها وانه حرك بعد ذلك فلم يحمله اربعون رجلا، وروى من وجه آخر انه اجتمع عليه سبعون رجلا فكان جهدهم ان اعادوا الباب، ورووا عن ابى ليلى قال: كان على (ع) يلبس فى الحر والشتاء القباء المحشو الثخين وما يبالى الحر فاتانى اصحابى فحكوا ذلك لى فقالوا: هل سمعت فى ذلك شيئا؟ - فقلت: لا، فقالوا: فسل لنا اباك عن ذلك، فانه يسمر معه فسألته فقال: ما سمعت فى ذلك شيئا فدخل على على (ع) فسمر معه، ثم سأله عن ذلك، فقال: اوما - شهدت خيبر؟ - قلت: بلى، قال: فما رأيت رسول الله (ص) حين دعا ابا بكر فعقد له ثم بعثه الى القوم فانطلق فلقى القوم ثم جاء بالناس وقد هزم؟ - فقال: بلى، قال: ثم بعث الى عمر فعقد له ثم بعثه الى القوم فانطلق فلقى القوم فقاتلهم ثم رجع وقد هزم، فقال رسول الله (ص):
" لاعطين الراية اليوم رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يده كرارا غير فرار، فدعانى فأعطانى الراية ثم قال: اللهم اكفه الحر والبرد، فما وجدت بعد ذلك حرا ولا بردا "
، وقال صاحب المجمع: هذا كله من كتاب دلائل النبوة للامام ابى بكر البيهقى، ثم لم يزل رسول الله (ص) يفتح الحصون حصنا حصنا حتى انتهوا الى حصن الوطيخ والسلالم وكان آخر حصون خيبر وحاصرهم رسول الله (ص) بضع عشرة ليلة، قال ابن اسحاق: ولما افتتح القموص حصن ابن ابى الحقيق اتى رسول الله (ص) بصفية بنت حى بن اخطب وباخرى معها فمر بهما بلال وهو الذى جاء بهما على قتلى من قتلى يهود، فلما رأتهم التى معها صفية صاحت وصكت وجهها وحثت التراب على رأسها فلما رآها رسول الله (ص) قال
" اعزبوا عنى هذه الشيطانة "
وامر بصفية فحيزت خلفه وألقى عليها رداءه فعرف المسلمون انه قد اصطفاها لنفسه، وقال لبلال: لما رأى من تلك اليهودية ما رأى انزعت منك الرحمة يا بلال؟ - حيث تمر بامرأتين على قتلى رجالهما؟ - وكانت صفية قد رأت فى المنام وهى عروس بكنانة بن الربيع بن ابى الحقيق ان قمرا وقع فى حجرها فعرضت رؤياها على زوجها، فقال: ما هذا الا انك تتمنين ملك الحجاز محمدا (ص) ولطم وجهها لطمة اخضرت عينها منها، فأتى بها رسول الله (ص) وبها اثر منها فسألها رسول الله (ص) منها فاخبرته وأرسل ابن ابى الحقيق الى رسول الله (ص) انزل فاكلمك قال: نعم، وصالح رسول الله (ص) على حقن دماء من فى حصونهم من المقاتلة وترك الذرية لهم ويخرجون من خيبر وارضها بذراريهم ويخلون بين رسول الله (ص) وبين ما كان لهم من مال وارض على الصفراء والبيضاء والكراع والحلقة وعلى البز الا ثوب على ظهر انسان، وقال رسول الله (ص)
" تبرأت منكم ذمة الله وذمة رسوله ان كتمتمونى شيئا "
فصالحوه على ذلك، فلما سمع اهل فدك قد صنعوا ما صنعوا بعثوا الى رسول الله (ص) ان يسيرهم ويحقن دماؤهم ويخلون بينه وبين الاموال، ففعل وكان ممن مشى بين رسول الله (ص) وبينهم فى ذلك محيصة بن مسعود فلما نزل اهل خيبر على ذلك سألوا رسول الله (ص) ان يعاملهم الاموال على النصف وقالوا: نحن اعلم بها منكم واعمر لها، فصالحهم رسول الله (ص) على النصف على انا اذا شئنا ان نخرجكم اخرجناكم، وصالحه اهل فدك على مثل ذلك فكان اموال خيبر فيئا بين المسلمين وكانت فدك خالصة لرسول الله (ص) لانهم لم يوجفوا عليها بخيل ولا ركاب، ولما اطمأن رسول الله (ص) اهدت له زينب بنت الحارث بن سلام وهى ابنة اخى مرحب شاة مصلية وقد سألت اى عضو من الشاة احب الى رسول الله (ص) فقيل لها: الذراع فأكثرت فيها السم وسمت سائر الشاة ثم جاءت بها، فلما وضعتها بين يديه تناول الذراع فأخذها فلاك منها مضغة وانتهش منها ومعها بشر بن البراء بن معرور فتناول عظما فانتهش منه، فقال رسول الله (ص):
" ارفعوا ايديكم فان كتف هذه الشاة تخبرنى انها مسمومة "
ثم دعاها فاعترفت، فقال: ما حملك على ذلك؟ - فقالت: بلغت من قومى ما لم يخف عليك فقلت: ان كان نبيا فسيخبر وان كان ملكا استرحت منه، فتجاوز عنها رسول الله (ص) ومات بشر بن البراء من أكلته التى اكل، ودخل ام بشر على رسول الله (ص) تعوده فى مرضه الذى توفى فيه، فقال: يا ام بشر ما زالت اكلة خيبر التى اكلت بخيبر مع ابنك تعازنى فهذا او ان قطعت ابهرى وكان المسلمون يرون ان رسول الله (ص) مات شهيدا مع ما اكرمه الله به من النبوة { ولتكون } يا محمد (ص) او لتكون الغنيمة التى عجلها لكم وهو عطف على محذوف اى لتقوى وترفع ولتكون او متعلق بمحذوف معطوف على عجل اى فعل ذلك لتكون { آية للمؤمنين ويهديكم صراطا مستقيما } يعنى الولاية او صراطا مستقيما واقعا بين الافراط والتفريط فى كل امر.
[48.21]
{ وأخرى } اى ووعدكم مغانم اخرى او قرى اخرى، او اخرى مفعول فعل محذوف معطوف على عجل اى واعد الله لكم قرى اخرى { لم تقدروا عليها } وقيل: هى المغانم التى يزيدها الله للمسلمين الى يوم القيامة، او القرى التى يفتحها الله للمسلمين الى يوم القيامة، وقيل: هى غنائم مكة وهوازن، او قرية مكة، وقيل: المراد غنائم فارس والروم او ملكهما { قد أحاط الله بها } فلا يخرج من يده حتى يكون مستعجلا مثلكم فكأنه قال حفظها عليكم ومنعها من غيركم حتى تفتحوها { وكان الله على كل شيء قديرا } لا اختصاص لقدرته بفيء الغنائم وفتح البلاد ونصرة الانبياء وخذلان الكفار.
[48.22-25]
{ ولو قاتلكم الذين كفروا } يوم الحديبية { لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا سنة الله التي قد خلت من قبل } يعنى سن الله نصرة الانبياء وهزيمة الكفار لو قاتلوا الانبياء من قبل هذا الزمان { ولن تجد لسنة الله تبديلا وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم } بالرعب فى قلوبهم والنهى لكم عن مقاتلتهم والامر بالصلح { ببطن مكة } يعنى الحديبية { من بعد أن أظفركم عليهم } اى من بعد ان جعلكم مشرفين على الظفر عليهم او من بعد ان اظفركم عليهم ببدر ويوم الخندق وفى احد { وكان الله بما تعملون بصيرا هم الذين كفروا } جواب سؤال فى مقام التعليل { وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا } محبوسا { أن يبلغ } من ان يبلغ { محله } وهو محل النحر يعنى مكة فانها محل نحر هدى العمرة { ولولا رجال مؤمنون ونسآء مؤمنات } بيان لعلة منعهم عن دخول مكة { لم تعلموهم أن تطئوهم } بدل من رجال او من مفعول لم تعلموهم او بتقدير فى ظرف لتعلموهم { فتصيبكم منهم معرة } عيب يعيبكم به المشركون بان يقولوا: قتلوا اهل دينهم، او اثم وجناية اودية وكفارة { بغير علم } وجواب لولا محذوف اى لاغريناكم بهم او لادخلناكم مكة { ليدخل الله } متعلق بمحذوف اى فمنعناكم عن الدخول ليدخل الله { في رحمته من يشآء } من المؤمنين بسلامته من القتل والاذى ولحوق الكفارة والدية ومن الكافرين بدخوله فى الاسلام { لو تزيلوا } اى لو تميز المؤمنون والكافرون { لعذبنا الذين كفروا منهم } من اهل مكة { عذابا أليما } فلحرمة اختلاط المؤمنين بالكافرين، ولحفظ نفوس المؤمنين الذين كانوا بمكة عن القتل والاذى، ولحفظ نفوس الذين كانوا مع محمد (ص) عن لحوق المعرة، ولحفظ نفوس المؤمنين الذين كانوا فى اصلاب الكافرين لم يعذبهم الله، وقيل: ان صلح الحديبية كان اعظم فتح للاسلام حيث اختلط المؤمنون بالكافرين واظهروا دينهم من غير خوف وتقية فرغب فى دينهم كثير من الكافرين ودخلوا فيه من غير سيف، وعن الصادق (ع) انه سئل: الم يكن على (ع) قويا فى بدنه قويا فى امر الله؟ - فقال: بلى، قيل: فما منعه ان يدفع او يمتنع لها؟ - قال: فافهم الجواب، منع عليا (ع) من ذلك آية من كتاب الله تعالى، فقيل: واى آية؟ - فقرأ: { لو تزيلوا } (الآية) كان لله تعالى ودائع مؤمنون فى اصلاب قوم كافرين ومنافقين فلم يكن على (ع) ليقتل الآباء حتى تخرج الودائع، فلما خرجت ظهر على من ظهر وقتله، وكذلك قائمنا اهل البيت لن يظهر ابدا حتى يخرج ودائع الله فاذا خرجت يظهر على من يظهر فيقتله، وفى هذا المعنى اخبار عديدة، وقال (ع): لو اخرج الله ما فى اصلاب المؤمنين من الكافرين وما فى اصلاب الكافرين من المؤمنين لعذبنا الذين كفروا.
[48.26]
{ إذ جعل الذين كفروا } اذ ظرف او تعليل لقوله: عذبنا او لقوله: انزل الله ولفظة الفاء مثلها فى قوله تعالى بل الله فاعبد { في قلوبهم الحمية } الحمية مصدر حماه بمعنى منع منه او منعه عن شيء او مصدر حمى من الشيء كرضى انف منه والمقصود من الحمية السجية التى تحمل الانسان على حفظ عرضه وحسبه ونسبه واقاربه وما ينسب اليه عن الوقع فيها والازدراء لها بحق او بباطل وهى ناشئة من انانية النفس والاعجاب بها، وهى اصل جملة الشرور والمعاصى، او السجية التى تحمل الانسان على الانفة وعدم الانقياد لشيء حقا كان او باطلا وهى ايضا ناشئة من انانية النفس واستكبارها على الغير وتحقيره { حمية الجاهلية } بيان للحمية او تقييد لها باكمل افرادها { فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } قد مضى قبيل هذا ذكر السكينة { وألزمهم كلمة التقوى } المراد بكلمة التقوى هى السكينة او الولاية التى هى مورثة السكينة، او سجية التقوى عن الانحراف الى الطرق المنحرفة يعنى مكن منهم السكينة او الولاية او التقوى { وكانوا أحق بها وأهلها } اى احق بتلك الكلمة او بالسكينة او بمكة { وكان الله بكل شيء عليما } يعنى ان الله يعلم قدر استحقاق كل واحقية كل بكل.
[48.27]
{ لقد صدق الله رسوله الرؤيا } جواب لما قالوا بعد صدهم عن مكة ان محمدا (ص) وعدنا دخول مكة وما دخلنا وما حلقنا وما قصرنا { بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شآء الله آمنين } قيل: الاستثناء تعليم للعباد كيف يتكلمون اذا اخبروا عن الآتى، وقيل: الاستثناء باعتبار حال الداخلين فان منهم من مات قبل الدخول ولم يدخل كأنه قال: لتدخلن كلكم ان شاء الله، وقيل: الاستثناء باعتبار الامن من العدو، وقيل: ان ههنا بمعنى اذ، اى اذ شاء الله، والحق انه ههنا للتبريك ومحض التعليم { محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم } من الصلاح فى اجمال الوعد وعدم التصريح بوقته { ما لم تعلموا } فانه كان فى صدكم عن المسجد الحرام وصلحكم مع قريش بذلك الصد منافع كثيرة للاسلام واهله وقوة عظيمة ونشر للاسلام { فجعل من دون ذلك } الدخول { فتحا قريبا } هو فتح خيبر او صلح الحديبية فانه اختلط المسلمون بالمشركين بذلك الصلح وتمكنوا من اظهار الاسلام وسمع المشركون باحكام الاسلام ورغبوا فيه وتقوى الاسلام به ودخل محمد (ص) واصحابه فى العام المقبل وهو سنة السبع من الهجرة مكة فى كمال الشوكة والعزة.
[48.28]
{ هو الذي أرسل رسوله بالهدى } باحكام الاسلام التى هى ما به الاهتداء الى الايمان { ودين الحق } اى الولاية فانها الدين والطريق الحق الى الله تعالى { ليظهره على الدين } اى جنس الدين { كله } بان يجعل جميع الاديان تحته ويجعل دينه محيطا بالكل بحيث لم يبق دين من لدن آدم (ع) الى انقراض العالم الا وهو شعبة من دينه وليظهره بحسب الظاهر على كل الاديان بحيث لم يبق فى بقعة من بقاع الارض دين سوى دينه، واتمام هذا فى ظهور القائم (ع) وقد مضى هذه الآية فى سورة التوبة { وكفى بالله شهيدا } لرسوله اقررتم ام لم تقروا.
[48.29]
{ محمد رسول الله } هذه الجملة كسابقتها جواب لسؤال مقدر ومحمد مبتدء ورسول الله خبره او رسول الله صفته وقوله { والذين معه } عطف على محمد (ص) عطف المفرد والمعنى على الوجه الاول محمد رسول الله (ص) والذين معه فى المرتبة رسل الله، وعلى الوجه الثانى محمد رسول الله (ص) مع الذين معه { أشدآء على الكفار } او عطف على رسول الله (ص) على الوجه الاول والمعنى محمد رسول الله (ص) وهو الذين معه فى الدرجة فانه لا فرق بينه وبين من كان معه فى الدرجة، او هو الذين معه بالبيعة والتوبة فانه وان كان غيرهم بوجه لكنه فعليتهم الاخيرة وقد مر مرارا ان شيئية الشيء بفعليته الاخيرة فشيئيتهم التى هى فعليتهم الاخيرة محمد (ص) باعتبار تنزله بصورته الى مراتبهم فانه قد مضى مكررا ان البيعة تورث تكيف البائع بحسب نفسه وفعليته الاخيرة بصورة نازلة من الذى بويع معه، وقوله تعالى اشداء على الكفار { رحمآء بينهم } قرئ بالرفع خبرا لمحمد (ص) والذين معه على وجه او خبرا للذين معه على وجه، او خبرا لمبتدء محذوف على وجه، وقرئ بالنصب حالا، ولم يأت بأداة الوصل للاشعار بانهم جامعون بين الوصفين فى جميع الاحوال لا ان بعضهم اشداء وبعضهم رحماء، ولا انهم فى حال اشداء وفى حال رحماء كأنهم مرجوا الشدة بالرحمة نظير حلو حامض، لكن الاشداء بمادته والرحماء بهيئته يدلان على انهم جامعون بين الوصفين وكاملون فيهما { تراهم ركعا سجدا } كأنهم من كثرة صلاتهم مزجوا بين الوصفين { يبتغون فضلا من الله ورضوانا } الفضل عبارة عما يفيض الله على العباد بحسب مقام كثرتهم، والرضوان عبارة عما يفيضه عليهم بحسب مقام وحدتهم وبعبارة اخرى الفضل جزاء الاعمال المأخوذة بحسب قبول الرسالة وهى احكام القالب، والرضوان جزاء الاعمال المأخوذة بحسب قبول الولاية وهى احكام القلب والروح { سيماهم في وجوههم من أثر السجود } المراد به الاثر الذى يحدث فى جباههم من كثرة السجود فى الصلاة، او المراد الاثر الذى يحدث فى وجوههم من السهر بسبب صلاة الليل، او الاثر الذى يحدث فى وجوههم من كثرة خشوعهم لله تعالى { ذلك مثلهم في التوراة }.
اعلم، ان السالك له شأنان؛ شأن السلوك وشأن الجذب وهو بشأن السلوك يؤدى الحقوق ويقيم كثرات وجوده من قواه وجنوده ويقيم من كان تحت يده من اهله وعياله وخدمه وحشمه ويصلحهم ويسد فاقتهم، وبشأن الجذب ينصرف عن الكثرات الى الوحدة ويجذب قواه وجنوده وعياله الى جهة الوحدة، ويجعل مرمة معاشه ومعاش من تحت يده بحيث يؤدى الى حسن معاده، وبعبارة اخرى له توجه الى الكثرات وتوجه الى الوحدة، وبتوجهه الى الكثرة يصلح معاشه بحيث يؤدى الى حسن معاده، وبتوجهه الى الوحدة يصرف قواه وجنوده عن الكثرة الى الوحدة، وبعبارة اخرى له قربان؛ قرب النوافل وقرب الفرائض، وبعبارة اخرى ما يصل اليه من الله اما يصل اليه بكسبه واعماله وسبق استعداده واستحقاقه واختياره وانانيته، او من دون ذلك، والكامل ايضا له نظران؛ نظر الى الكثرة ونظر الى الوحدة، ووجه الى الكثرة ووجه الى الوحدة، وبالوجه الى الوحدة يأخذ من الله وبالوجه الى الكثرة يفيض ما يأخذه على غيره، وبتفاوت هذين النظرين يختلف الكاملون فى مراتب الكمال، والكامل المطلق من كان نظره الى الطرفين متساويا من غير ترجح لاحد الطرفين على الآخر وهو شأن محمد (ص) والذين معه، واما سائر الانبياء (ع) فلا يخلو احد منهم من رجحان احد الطرفين وان موسى (ع) كان نظره الى الكثرات غالبا على نظره الى الوحدة، وعيسى (ع) كان نظره الى الوحدة غالبا ولذا نقل فيما نقل ان محمدا (ص) قال: ان اخى موسى (ع) كان عينه اليمنى عمياء، واخى عيسى (ع) كان عينه اليسرى عمياء، وانا ذو العينين، وللاشارة الى ان محمدا (ص) والمحمديين جامعون للطرفين وكاملون فى النظرين وتامون فى القربين قال: ذلك الذى ذكرنا من اتصافهم بالاوصاف الاختيارية والاحكام القالبية، واصلاح الكثرة مثلهم فى التوراة الذى هو نشأة موسى (ع) { ومثلهم في الإنجيل } الذى هو حال نشأة عيسى (ع) { كزرع أخرج شطأه } قرئ بسكون التاء وفتحها وقرئ بالمد وبالقصر، والشطأ فرخ الحيوان والنبات وورق النبات { فآزره } قرئ من الثلاثى المجرد وبالمد من باب الافعال او المفاعلة والمعنى اعانه وقواه حتى لحقت هذه الافراخ الامهات او حتى استكمل الاوراق { فاستغلظ } الزرع او الشطأ { فاستوى على سوقه } فاستوى الزرع او الفرخ { يعجب الزراع } بحسنه واستغلاظه، قيل: هذا مثل ضربه الله تعالى لمحمد (ص) واصحابه فالزرع محمد (ص) والشطأ اصحابه والمؤمنون حوله وكانوا فى ضعف وقلة كما يكون اول الزرع دقيقا ثم غلظ وقوى وتلاحق فكذلك المؤمنون قوى بعضهم بعضا حتى استغلظ واستووا على امرهم { ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا } بالبيعة العامة { وعملوا الصالحات } بالبيعة الخاصة فانها اصل جميع الصالحات، ومن باع البيعة الخاصة كان كأنه عمل جميع الصالحات او آمنوا بالبيعة الخاصة وعملوا الصالحات على طبق ما اخذ منهم فى بيعتهم { منهم } من الناس او من الذين آمنوا او من الذين مع محمد (ص) { مغفرة } سترا لمساويهم { وأجرا عظيما } لا يمكن ان يوصف.
[49 - سورة الحجرات]
[49.1]
{ يأيها الذين آمنوا } بالبيعة العامة فان هذا حكم قالبى لجملة المسلمين { لا تقدموا } قدم كنصر وقدم من التفعيل واستقدم وتقدم بمعنى والمعنى لا تمشوا { بين يدي الله ورسوله } والمقصود لا تقدموا بين يدى رسوله لكنه اضاف الله للاشعار بان التقدم بين يدى رسول الله (ص) هو التقدم بين يدى الله لان رسوله مظهره، وقرئ لاى تقدموا من التفعل اى لا تتقدموا، ويجوز ان يكون لا تقدموا بضم التاء وكسر الدال من قدمه اذا جعله مقدما فى الامر، ويكون المعنى لا تقدموا احدا على الله ورسوله (ص)، او لا تقدموا امرا على امر الله ورسوله (ص) او لا تختاروا امرا بين يدى رسوله (ص) من دون اذنه، او لا تجعلوا امر انفسكم مقدما على امر الله بان تجعلوا فى الاعمال المعادية امر النفس والغايات النفسية نصب اعينكم غافلين عن امر الله، وبان يكون نظركم فى الاعمال المعاشية الى ما يزينه لكم انفسكم من دون نظر فيها الى امر الله ونهيه، والمقصود من الكل هو المقصود من كل القرآن وهو لا تقدموا احدا فى الخلافة ولا تقدموا على الخلافة من دون امر الله ورسوله (ص) { واتقوا الله } اى سخطه فى الاقدام على الامور الشرعية { إن الله سميع } لما تقولون فى امر الخلافة، او لما تأمركم انفسكم عند اعمالكم المعادية والمعاشية { عليم } بنياتكم ودقائق اعمالكم واحوالكم ومكنوناتكم التى لا اطلاع لكم عليها.
[49.2]
{ يأيها الذين آمنوا } لما كانت السورة المباركة لتأديب الامة صدر كل حكم منها بالنداء تلطفا بهم وتنشيطا لهم للاستماع وجبرا لكلفة التأديب بلذة الخطاب { لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول } سواء كان فوق صوته (ص) او لم يكن { كجهر بعضكم لبعض أن تحبط } كراهة ان تحبط { أعمالكم وأنتم لا تشعرون } فان رفع الصوت عنده ترك لتعظيمه او اظهار لتحقيره وكلاهما مورث لحبط العمل، وورد ان رسول الله (ص) كان اذا رفع احد عنده صوته رفع صوته فوق صوته.
[49.3]
{ إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى } امتحنه اختبره، وامتحن الله قلبه وسعه وشرحه، وللتقوى علة لامتحن حصولية او تحصيلية يعنى لكونهم متقين وسع الله قلوبهم وشرحها، او لاجل تحصيل التقوى شرح الله قلوبهم، او اختبر الله قلوبهم، والمؤمن الممتحن هو الذى شرح الله صدره بنزول السكينة فيه وظهور ملكوت الامام عليه ولذلك قال على (ع) فى حديث المعرفة بالنورانية: ان من عرفنى بالنورانية هو المؤمن الممتحن قلبه للايمان، ومن امتحن الله قلبه للتقوى يستشعر مداما بعظمة الله وعظمة رسوله فلا يمكنه رفع الصوت عند الرسول (ص) { لهم مغفرة وأجر عظيم } ويجوز ان يكون الوقف على قوله قلوبهم ويكون للتقوى تعليلا لما بعده.
[49.4]
{ إن الذين ينادونك من ورآء الحجرات أكثرهم لا يعقلون } ولذلك لا يعظمونك ويجعلونك مثل واحد منهم.
[49.5]
{ ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم } تقوية لجهة الرجاء، فى المجمع: نزل قوله: { يا أيها الذين آمنوا } (الى قوله) { غفور رحيم } فى وفد تميم وهم اشراف بنى تميم فى وفد عظيم، فلما دخلوا المسجد نادوا رسول الله (ص) من وراء الحجرات، ان اخرج الينا يا محمد،.. فاذى ذلك رسول الله (ص) فخرج اليهم فقالوا: جئناك لنفاخرك فأذن لشاعرنا وخطيبنا، فاذن رسول الله (ص) فقام خطيبهم اولا وخطب، فقال رسول الله (ص) لثابت بن قيس:
" قم فاجبه "
، فقام وخطب احسن من خطيبهم، ثم قام شاعرهم واجابه حسان بن ثابت، فلما فرغوا قال الاقرع بن حابس الذى كان من اشرافهم: هذا الرجل خطيبه اخطب من خطيبنا وشاعره اشعر من شاعرنا، واصواتهم اعلى من اصواتنا، فلما فرغوا اجازهم رسول الله (ص) فأحسن جوائزهم واسلموا.
[49.6-7]
{ يأيها الذين آمنوا إن جآءكم فاسق بنبإ فتبينوا } نزلت الآية فى الوليد بن عقبة بعثه رسول الله (ص) فى صدقات بنى المصطلق فخرجوا يتلقونه فرحا به وكانت بينهم عداوة فى الجاهلية فظن انهم هموا بقتله فرجع الى رسول الله (ص) وقال: انهم منعوا صدقاتهم فغضب النبى (ص) فنزلت الآية، وقيل: نزلت فى عائشة حين رمت مارية القبطية بجريح القبطى، فدعا رسول الله (ص) عليا (ع) وقال:
" يا اخى خذ هذا السيف فان وجدته عندها فاقتله "
، فقال: يا رسول الله (ص) اكون فى امرك اذا ارسلتنى كالسكة المحماة امضى لما امرتنى ام الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، فقال:
" بل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب "
، قال على (ع) فأقبلت متوشحا بالسيف فوجدته عندها فاخترطت السيف فلما عرف انى اريده أتى نخلة فرقى اليها ثم رمى بنفسه على قفاه وشغر برجليه فاذا انه اجب امسح، ماله ما للرجال، فرجعت فأخبرت النبى (ص) فقال:
" الحمد لله الذى يصرف عنا السوء اهل البيت "
، والمعنى ان جاءكم جنس الفاسق الخارج عن طاعة الله ورسوله او جاءكم فاسق واحد فتبينوا الخبر وتجسسوا صدقه وكذبه، وقد مضى مكررا ان مفهوم المخالفة غير معتبر فى المخاطبات خصوصا فى الاحكام فليس المقصود ان جاءكم عادل فاعملوا ولا تبينوا، ولا ان جاءكم فاسقان فلا تبينوا واعملوا، فمن اعتبر المفهوم وقال: خبر العدل الواحد حجة باعتبار مفهوم مخالفة هذه الآية لا يصغى اليه { أن تصيبوا } كراهة ان تصيبوا { قوما بجهالة } بحالهم { فتصبحوا على ما فعلتم نادمين واعلموا أن فيكم رسول الله } فتبينوا الاخبار بالعرض عليه واستأذنوه فى العمل بها حتى لا تصيروا نادمين على فعلكم، او هو تمهيد لما بعده كأنه قال: ان هذا الذى هو فيكم هو رسول الله (ص) اعتبارا للوصف العنوانى { لو يطيعكم في كثير من الأمر } ويطرح امر الله وحكمه { لعنتم } لتعبتم او هلكتم وهو رد لما اشار اليه بعضهم من الايقاع ببنى المصطلق { ولكن الله حبب } استدراك لما توهم من انهم ارادوا ان يحملوا رسول الله (ص) على طاعتهم كأنه قال لكن الله حبب { إليكم الأيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان } فلا تريدون حمل الرسول (ص) على اتباعكم والمراد بالايمان على (ع)، او قبول ولايته، او محمد (ص)، او قبول رسالته الذى هو الاسلام { أولئك هم الراشدون } جواب لسؤال مقدر وصرف للخطاب عن المؤمنين والجملة معترضة او غير معترضة.
[49.8]
{ فضلا من الله ونعمة } مفعول له لحبب وكره او تعليل للراشدون بتقدير اللام لعدم صحة جعله مفعولا له للراشدون لعدم اتحاد المرفوع وقد تكرر تفسير الفضل بمحمد (ص) ورسالته واحكام رسالته وقبول رسالته، وتفسير النعمة بعلى (ع) وولايته وآثار ولايته وقبول ولايته { والله عليم } باحوالكم ودقائق ما يصلحكم ولذلك زين الايمان فى قلوبكم وكره الكفر { حكيم } لا يفعل ما يفعل الا لغاية محكمة متقنة.
[49.9]
{ وإن طآئفتان من المؤمنين } اى المسلمين { اقتتلوا } بيان لادب المعاشرة { فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } بالرجوع الى الرسول وما حكم به { فإن فآءت فأصلحوا بينهما بالعدل } لما كان الاصلاح بعد الامر بالمقاتلة مع الباغين مظنة للحيف قيده بالعدل، او المراد ان الاصلاح كما يكون باستيفاء جميع الحقوق من الطرفين يكون باسقاط بعض الحقوق والاغماض عن بعض فقيده بالعدل للاشعار بان الاصلاح ينبغى ان يكون باستيفاء الحقوق { وأقسطوا } فى جميع الامور حتى فى العبادات فلا تضيقوا على انفسكم { إن الله يحب المقسطين } قيل: نزلت فى قتال وقع بين الاوس والخزرج فى عهد الرسول (ص) بالسعف والنعال، وعن الصادق (ع) لما نزلت هذه الآية قال رسول الله (ص):
" ان منكم من يقاتل بعدى على التأويل كما قاتلت على التنزيل، فسئل من هو؟ - قال: خاصف النعل "
يعنى امير المؤمنين (ع) فقال عمار بن ياسر: قاتلت بهذه الآية مع رسول الله (ص) ثلاثا وهذه الرابعة والله لو ضربونا حتى يبلغوا بنا السعفات من هجر لعلمنا انا على الحق وانهم على الباطل، وكانت السيرة فيهم من امير المؤمنين (ع) ما كان من رسول الله (ص) فى اهل مكة يوم فتح مكة فانه لم يسب لهم ذرية وقال: من اغلق بابه فهو آمن، ومن القى سلاحه فهو آمن، ومن دخل دار ابى سفيان فهو آمن، وكذلك قال امير المؤمنين (ع) يوم البصرة نادى فيهم لا تسبوا لهم ذرية، ولا تجهزوا على جريح، ولا تتبعوا مدبرا، ومن اغلق بابه وألقى سلاحه فهو آمن.
[49.10]
{ إنما المؤمنون إخوة } قد مضى فى سورة البقرة وفى سورة النساء وجه كون المؤمنين اخوة عند قوله تعالى: وبالوالدين احسانا وذكر انما المؤمنون اخوة ليكون تمهيدا وتعليلا ورفعا لكلفة التكليف بالاصلاح لقوله تعالى: { فأصلحوا بين أخويكم } وهذا اعم من سابقه فان المراد ههنا انه اذا وقع اختلاف بين المؤمنين سواء بلغ الى حد المقاتلة او لم يبلغ فأصلحوا بينهما { واتقوا الله } وسخطه فى الحيف والميل الى احد الطرفين { لعلكم ترحمون } على اصلاحكم وعدم ميلكم، او لعلكم ايها المتخالفون والمصلحون جميعا ترحمون.
[49.11]
{ يأيها الذين آمنوا } ادب آخر ولما كانت السخرية من الخلق سجية لاكثر الناس وتركها كان صعبا صدره بالنداء جبرانا لكلفته { لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا } اى القوم المسخور منهم { خيرا منهم } اى من الساخرين { ولا نسآء من نسآء عسى أن يكن خيرا منهن } قال القمى: نزلت فى صفية بنت حى بن اخطب وكانت زوجة رسول الله (ص) وكانت عائشة وحفصة توذيانها وتشتمانها وتقولان لها: يا بنت اليهودية،
" فشكت الى رسول الله (ص) فقال لها: " الا تجيبينهما؟ " - فقالت: بماذا يا رسول الله (ص)؟ - قال: قولى لهما: ان ابى هارون (ص) نبى الله، وعمى موسى كليم الله، وزوجى محمد (ص) رسول الله (ص) فما تنكران منى؟ فقالت لهما: فقالتا هذا علمك رسول الله (ص) "
{ ولا تلمزوا أنفسكم } أتى بهذه الكلمة اشعارا بعلة الحكم حيث ان المؤمنين كل منهم بمنزلة نفس الآخر { ولا تنابزوا بالألقاب } السيئة بان يلقب بعضكم بعضا بلقب سوء { بئس الاسم الفسوق } الخروج عن عهد محمد (ص) وعقده وشروط عقده بذلك وانما أتى بالفسوق مقام الضمير او اسم الاشارة للاشعار بان ذلك فسوق وخروج عن عهدة عهد الله { بعد الإيمان ومن لم يتب } عن السخرية واللمز والنبذ بالالقاب، وأتى بذكر التوبة اشعارا بانه معصية { فأولئك هم الظالمون } لا ظالم اظلم منهم.
[49.12]
{ يأيها الذين آمنوا } لما كان الحكم الآتى ايضا مما يصعب امتثاله لكون الظن فى جبلة اكثر الناس أتى بالنداء { اجتنبوا كثيرا من الظن } ابهام الكثير ليحتاط فى كل ظن ويتبين انه من اى القبيل.
اقسام الظن وهى خمسة بحسب الاحكام الخمسة
{ إن بعض الظن إثم } اجتناب اصل الظن غير مقدور للمكلفين الا ان يكون الامر باجتناب الظن امرا باجتناب مباديه، واما اجتناب اتباعه فانه مقدور لكل احد والظنون مختلفة فظن يجب اتباعه لو حصل، ويجب تحصيله لو لم يكن حاصلا وهو الظن حين الشك فى الصلاة، والظن حين الاحتياط فى العمل، وكالظن الحسن بالله وبالمؤمنين، وظن يستحب اتباعه لو حصل ويستحب تحصيله لو لم يكن حاصلا كالظن بحاجة المؤمن، وتحصيل الظن بحاله من حاجة وغيرها، وظن يكره اتباعه وتحصيله كالظن بنجاسة شيء لا يحصل من تطهيره ضرر معتد به، وظن يحرم اتباعه وتحصيله كالظن بسؤات المؤمنين وعوراتهم وفحشائهم، وظن مباح، فبعض الظن اثم يجب اجتنابه وترك اتباعه، وعن على (ع) قال: ضع امر اخيك على احسنه حتى يأتيك ما يقلبك منه، ولا تظنن بكلمة خرجت من اخيك سوء وانت تجد لها فى الخير محملا، وعنه (ع): اذا استولى الصلاح على الزمان واهله ثم اساء رجل الظن برجل لم يظهر منه خزية فقد ظلم، واذا استولى الفساد على الزمان واهله ثم احسن الرجل الظن برجل فقد غرر.
معنى الغيبة
{ ولا تجسسوا } عن عورات المؤمنين حتى يحصل لكم ظن سوء، وقرئ لا تحسسوا بالحاء المهملة وهو بمعناه، عن الصادق (ع) قال رسول الله (ص):
" لا تطلبوا عثرات المؤمنين فانه من تتبع عثرات اخيه تتبع الله عثرته، ومن تتبع الله عثرته يفضحه ولو فى جوف بيته "
{ ولا يغتب بعضكم بعضا } اى لا يذكر بعضكم بعضا بالسوء فى غيبته، والغيبته ان تظهر بلسانك او بسائر جوارحك بالتصريح او بالكناية والتلويح عيبا للمؤمن قد ستره الله عليه فى غيابه، وحيث لم يكن يعلم باظهارك، واما العيوب التى لم تكن فى المؤمن فنسبتها اليه فى حضوره وغيابه تكون بهتانا وتكون اشد من الغيبة، ويظهر مما ذكرنا فى سورة البقرة فى بيان قوله تعالى: وبالوالدين احسانا وجه حرمة السخرية بالمؤمن ولمزه ونبزه باللقب السوء والظن به وتجسس عورته والغيبة له والبهتان له، ويظهر ايضا سر كونها اشد من الزنية، وقد ذكر فى الفقه الموارد التى يجوز الغيبة فيها، وعن الصادق (ع) انه سئل عن الغيبة فقال: هو ان تقول لاخيك فى دينه ما لم يفعل، وتبث عليه امرا قد ستره الله عليه لم يقم عليه فيه حد، وفى رواية: واما الامر الظاهر فيه مثل الحدة والعجلة فلا، وعن الكاظم (ع) من ذكر رجلا من خلفه بما هو فيه مما عرفه الناس لم يغتبه، ومن ذكره من خلفه بما هو فيه مما لا يعرفه الناس اغتابه، ومن ذكره بما ليس فيه فقد بهته، وفى حديث: قولوا فى الفاسق ما فيه كى يحذره الناس، وفى اخبار عديدة مضمون قول النبى (ص):
" اياكم والغيبة فان الغيبة اشد من الزنا "
، ثم قال:
" ان الرجل يزنى ويتوب فيتوب الله عليه، وان صاحب الغيبة لا يغفر له الا ان يغفر له صاحبه "
، والغيبة المحرمة تكون للمؤمن او للمسلم مطلقا او لمن قبل صورة الاسلام منتحلا كان او مسلما او مؤمنا، قال بعض اهل المعرفة: غير المؤمن حكمه حكم الانعام فكما لا غيبة للانعام لا غيبة لغير المؤمن، ولغير المتصف بالاسلام حقيقة فان منتحل الاسلام كمنتحلى التهود والتنصر لا حرمة له انما الحرمة لمن اتصل بمظاهر الله بالبيعة العامة او الخاصة، والتحقيق ان رؤية العيب من العباد بل من مطلق خلق الله ليست الا من نظر ردى خسيس وهو النظر الى الاشياء مباينة للحق المقوم الصانع لها مع الغفلة عن الحق تعالى وصنعه، ومع النظر الى النفس والاعجاب بها، او مع الغفلة عنها وعن عيوبها، واذا أراد الله بعبد شرا بصره عيوب غيره وأعماه عن عيوب نفسه، وذكر الاشياء وتعييبها فى الحقيقة راجع الى تعييب الصنع، والغفلة عن الصانع وصنعه حين النظر الى المصنوع كفر للصانع، والغفلة من النفس وعيوبها مذموم، ورؤية النفس والاعجاب بها اصل جميع الشرور، فرؤية السوء من غير الانسان قبيحة، ورؤيته من الانسان اقبح، ومن المنتحل للاسلام اشد قبحا، ومن المسلم اشد قبحا، ومن المؤمن اشد قبحا، وذكره فى غيابه او حضوره بسوء لا قبيح اقبح منه حتى نسب الى الخبر انه اشد من سبعين زنية مع الام تحت الكعبة، ولذلك نسب الى عيسى (ع) انه مرمع الحواريين على جيفة كلب منتنة فقال الحواريون: ما انتنه..! فقال عيسى (ع): ما ابيض اسنانه..! وروى ان نوحا مر على كلب كريه المنظر فقال نوح: ما اقبح هذاا لكلب فجثا الكلب وقال بلسان طلق ذلق: ان كنت لا ترضى بخلق الله فحولنى يا نبى الله، فتحير نوح واقبل يلوم نفسه بذلك وناح على نفسه اربعين سنة حتى ناداه الله تعالى الى متى تنوح يا نوح؟ فقد تبت عليك، وعن النبى (ص):
" المؤمن اذا كذب بغير عذر لعنه سبعون الف ملك وخرج من قلبه نتن حتى يبلغ العرش، ويلعنه حملة العرش وكتب الله عليه بتلك سبعين زنية اهونها كمن يزنى مع امه "
، والكذب قبيح من كل احد خصوصا من المؤمن لكن غيبة المؤمن اقبح منه بمراتب، وعنه (ص):
" من آذى مؤمنا فقد آذانى، ومن آذانى فقد آذى الله، ومن آذى الله فهو ملعون فى التوراة والانجيل والزبور والفرقان "
، وهو ما ذكرنا فى سورة البقرة من ان غيبة المؤمن وذكره بسوء فى غيابه وحضوره وايذاءه كلها راجع الى صاحبه، فمن اغتاب مؤمنا وذكره بسوء كان كمن اغتاب صاحبه وذكره بسوء، واغتياب صاحبه الذى هو اعظم آيات الله وذكره بسوء فوق جميع المعاصى وغايتها كما قال تعالى:
ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون
[الروم:10]، وقال (ص):
" من اغتاب مؤمنا بما فيه لم يجمع الله بينهما فى الجنة ابدا، ومن اغتاب مؤمنا بما ليس فيه انقطعت العصمة بينهما، وكان المغتاب فى النار خالدا فيها وبئس المصير "
، فالغيبة بما ليس فى المؤمن تجمع خواص الغيبة والكذب جميعا، وقال (ص):
" انه يؤتى بأحد يوم القيامة يوقف بين يدى الله ويدفع اليه كتابه فلا يرى حسناته فيقول: الهى ليس هذا كتابى! لانى: لا ارى فيها طاعتى! فيقول له: ان ربك لا يضل ولا ينسى، ذهب عملك باغتياب الناس، ثم يؤتى بآخر ويدفع اليه كتابه فيرى فيه طاعات كثيرة فيقول: ما هذا كتابى! فانى ما عملت هذه الطاعات! فيقول: لان فلانا اغتابك فدفعت حسناته اليك "
، وقال (ص):
" كذب من زعم انه ولد من حلال وهو يأكل لحوم الناس بالغيبة "
واجتنبوا الغيبة فانها ادام كلاب النار، ونعم ما قال المولوى قدس سره:
عيب بر خود نه بر آيات دين
كى رسد بر جرح دين مرغ كلين
بس تو حيران باش بى لا و بلى
تا ز رحمت بيشت آيد محملى
عيب باشد كونبيند جزكه عيب
عيب كى بيند روان باك غيب
اى خنك جانى كه عيب خويش ديد
هرجه عيبى ديد آن بر خود خر يد
{ أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه } ولقد أتى بالاستفهام الانكارى وبالاحد للعموم وبأكل لحم الميت من الاخ وبتأكيد مفهوم نفى الحب بعطف كرهتموه للمبالغة البالغة فى النهى عن الغيبة وتمثيل الغيبة بأكل لحم الميتة لان الاسماء قوالب المسميات ولا حكم لها على حيالها، ومن ذكر مؤمنا بسوء لا يكون ذلك منه الا بتخلية المؤمن عن لطيفة ايمانه فذكره على لسانه وسماعه بسمعه بمنزلة لحمه الخالى عن الروح الممضوغ بفمه والداخل فى جوفه فان دخوله فى جوفه من طريق سمعه كدخوله فى جوفه من طريق حلقه، ولذلك ورد ان السامع للغيبة شريك المغتاب { واتقوا الله } فلا تغتابوا وتوبوا ان اغتبتم، ولما كان فى جبلة الانسان رؤية العيب من الغير وذكر ما رآه على لسانه وقد بالغ تعالى فى ذم الغيبة والنهى عنه وكان ذلك مورثا ليأس اغلب الناس عن رحمته تعالى قال: { إن الله تواب رحيم } بعد ذلك ترجيحا لجانب الرجاء.
[49.13]
{ يأيها الناس } هذا الذى يأتى تأكيد للنواهى السابقة وتعليل لها { إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } يعنى من هذين الجنسين او من آدم وحواء (ع) { وجعلناكم شعوبا وقبآئل } الشعوب للعجم كالقبائل للعرب، وقيل: الشعب بفتح الشين الجمع العظيم المنتسبون الى اصل واحد وهو يجمع القبائل، والقبيلة تجمع العمائر، والعمارة تجمع البطون، والبطن يجمع الافخاذ، والفخذ يجمع الفصائل، والاقل من الكل الفصيلة، فخزيمة شعب، وكنانة قبيلة، وقريش عمارة، وقصى بطن، وهاشم فخذ، وعباس فصيلة { لتعارفوا } لا ان تفاخروا وتنابزوا وتلمزوا وتسخروا وتغتابوا { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } فليست الكرامة والشرف بالنسب والحسب والمال والجمال وكثرة الاولاد والخلو من العيوب { إن الله عليم } بالمتقى منكم والاتقى وبالشقى والاشقى { خبير } بما لا يتعلق علمكم به من بواطن اموركم وقدر استعدادكم واستحقاقكم.
[49.14]
{ قالت الأعراب آمنا }.
اعلم، ان الاسلام وهو الدخول تحت احكام القالب يحصل بمحض الاقرار اللسانى والبيعة العامة النبوية، ولذلك كانوا يدخلون الناس فى الاسلام بالبيعة العامة باتلخويف والسيف والقتل والاجلاء والاسر والنهب وهو فى الحقيقة انقياد للسلطنة الخلقية لا للحكومة الالهية، فان كان مع ذلك اعتقاد بالحكومة الالهية وانقياد فى القلب كان الاسلام حقيقة وسموا مسلمين حقيقة والا كانوا مسلمين ظاهرا لا حقيقة، والايمان وهو الدخول تحت احكام القلب يحصل بالبيعة الخاصة الولوية وليس الا انقياد القلب لمن آمن على يده، وبعبارة اخرى الاسلام الحقيقى قبول الرسالة كما ان الاسلام الظاهرى قبول احكام الرسالة، والايمان قبول احكام النبوة والولاية، وبعبارة اخرى؛ الاسلام قبول الدعوة الظاهرة، والايمان قبول الدعوة الباطنة، وبعبارة اخرى الاسلام تحلى الظاهر بحلية الشريعة، والايمان تكيف الباطن بكيفية الامام التى هى صورة نازلة منه ملكوتية تدخل قلب المؤمن وبها يكون فعليته الاخيرة، وبها تحصل الابوة والبنوة بين الامام والمؤمن، وبها تحصل الاخوة بين المؤمنين وهى التى اذا ظهرت على صدر المؤمن صارت سكينة وفكرا وحضورا وهى ظهور القائم (ع) فى العالم الصغير، وبها تحصل المعرفة بالنورانية وبها تشرق الارض بنور ربها، ولما كانت الاعراب بمحض البيعة العامة والدخول تحت احكام القالب قالوا: آمنا، ولم يكونوا يؤمنون بالبيعة الخاصة ولم يتكيف قلوبهم بكيفية الامام ولم يتنزل صورة الامام فى قلوبهم فانها لا تتنزل الا بالبيعة الخاصة والاتصال المعنوى بالامام (ع) قال الله تعالى لنبيه: قل لهم الايمان غير الاسلام والاسلام الظاهرى الذى هو الدخول تحت السلطنة بمحض البيعة العامة غير الاسلام الحقيقى الذى هو الانقياد تحت الحكومة الالهية بالبيعة العامة فانف الايمان عنهم رأسا و { قل لم تؤمنوا ولكن } اقتصروا فى القول على ما هو المتيقن من الدخول تحت السلطنة بالبيعة العامة و { قولوا أسلمنا } ولم يقل اسلمتم لايهام اثبات الاسلام الحقيقى والحال انه ليس بمتيقن { ولما يدخل الإيمان } الذى هو كيفية نازلة من الامام فى قلب المؤمن بالبيعة { في قلوبكم } لعدم وقوع تلك البيعة منكم وقد مر فى اول البقرة بيان معنى الاسلام والايمان { و } لكن { إن تطيعوا الله ورسوله } حتى يتحقق بالطاعة فيكم حقيقة الاسلام { لا يلتكم } لا ينقصكم { من أعمالكم } بانفسها على تجسم الاعمال ومن اجورها { شيئا إن الله غفور } يغفر منكم زلاتكم ولا ينظر الى عدم ايمانكم والى ان الاسلام الظاهر لا ينفع سوى المنافع الدنيوية { رحيم } يتفضل عليكم بأنواع فضله ولا ينظر الى عدم استحقاقكم.
[49.15]
{ إنما المؤمنون } بعد ما نفى ايمانهم بمحض البيعة العامة بين ان الايمان ليس محض البيعة العامة وقال: انما المؤمنون { الذين آمنوا بالله ورسوله } اى باعوا البيعة الخاصة التى بها يحصل الايمان والدخول تحت احكام القلب وقبول احكام الولاية فبقوا عليه حتى يظهر لهم آثار الولاية ويصلوا الى حدود القلب ولذلك أتى بثم وقال { ثم لم يرتابوا } فان البائع البيعة الخاصة قلما ينفك عن الارتياب والاضطراب فى اول الامر، واذا ظهر عليهم آثار الولاية وظهر لهم رذائل الصفات وخصائلها حصل لهم الاطمينان وجاهدوا لا محالة مع جنود الشيطان ولدفع الرذائل وجلب الخصائل ولذلك قال { وجاهدوا بأموالهم } من الاعراض الدنيوية والاعراض النفسانية والقوى البدنية والوجاهة الانسانية، ونسب الافعال والاوصاف الى انفسهم { وأنفسهم } من انانياتهم التى هى اصل سيئاتهم وشرورهم { في سبيل الله أولئك هم الصادقون } الخارجون من الاعوجاج.
اعلم، ان الايمان الحاصل بالبيعة الخاصة وقبول الدعوة الباطنة اما يكون صاحبه فى مقام الصدر غير خارج منه الى نواحى القلب وهذا لا يخلو من اضطراب فى بعض الاحيان ولا يخلو من صرف الاعمال عن جهتها الالهية الى الجهات النفسانية فلا يخلو ايضا من اعوجاج، واذا خرج من حدود الصدر الذى هو محل الاسلام الى حدود القلب الذى هو محل الايمان صار خارجا من الارتياب ومن الاعوجاج الذى هو مداخلة اغراض النفس فى الاعمال الالهية، وكأن القسم الاول غير خارج عن حقيقة الاسلام وغير داخل فى حقيقة الايمان وان كان يحصل بالبيعة الخاصة صورة الايمان ولهذا قال الصادق (ع) فيما ورد عنه: انما تمسكتم بأدنى الاسلام فاياكم ان يفلت من ايديكم، وللاشارة الى حقيقة الايمان التى بها يحصل الصدق فى الاعمال ويرتفع الارتياب قال: { ثم لم يرتابوا } (الى آخر الآية) وللاشارة الى حصول صورة الايمان بمحض البيعة الخاصة قال: { الذين آمنوا بالله ورسوله } يعنى بالبيعة الخاصة لان المخاطبين كانوا بائعين بالبيعة العامة فلم يكن المراد البائعين البيعة العامة وانما اقتصر على ذكر الاوصاف والآثار للمؤمنين لانه ان قال: انما المؤمنون الذين باعوا البيعتين او باعوا البيعة الخاصة او البيعة الولوية لكان المنافقون طلبوا ذلك وزاحموا النبى (ص) بذلك وآذوه طلبا لذلك.
[49.16]
{ قل } لهؤلاء الذين يظهرون الايمان على السنتهم { أتعلمون الله بدينكم } يعنى ان كنتم مؤمنين فلا حاجة الى اظهاره فان الايمان هو وصف الهى وغايته الهية فان كان اظهاركم لاعلام الناس بذلك لا ينبغ ذلك لانه وصف الهى لا خلقى، وان كان لاعلام الله لا ينبغى ذلك ايضا لانكم بأعمالكم واوصافكم وأحوالكم غير خارجين من السماوات والارض { والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض والله بكل شيء عليم } تعميم بعد تخصيص او تأكيد، روى انه لما نزلت الآية المتقدمة جاؤا وحلفوا انهم مؤمنون معتقدون فنزلت هذه الآية.
[49.17]
{ يمنون عليك أن أسلموا } من عليه منا ومنينى كحليفى انعم عليه، ومن عليه منة عد نعمته عليه واعتد بها وعظمها، وهذا هو المراد ههنا فانهم اعتدوا باسلامهم نعمة عليه { قل لا تمنوا علي إسلامكم } لان الاسلام ليس نعمة لكم ولا لى بل هو مقدمة للايمان الذى هو نعمة لكم ولى فقل لهم: لا تعتدوا باسلامكم ولا تعدوه نعمة على { بل الله يمن عليكم } ينعم عليكم او يعده نعمة عليكم { أن هداكم للإيمان } ان ادخلكم فى الاسلام الذى هو ما به الهداية الى الايمان الذى هو نعمة { إن كنتم صادقين } فى ادعاء الاسلام، قال القمى: نزلت الآية فى عثمان يوم الخندق.
[49.18]
{ إن الله يعلم غيب السماوات والأرض } فيعلم خفيات اموركم وصدق نياتكم ومكموناتكم التى لا خبرة لكم بها من القوى والاستعدادات المكمونة { والله بصير بما تعملون } فيعلم اغراضكم فيها.
[50 - سورة ق]
[50.1]
{ ق } اسم لله او للنبى (ص)، او للقرآن، او للجبل المحيط بالدنيا، وهو من جبال عالم البرزخ او المثال او نفس عالم البرزخ لان خلفه عالم المثال { والقرآن المجيد } العظيم فى نفسه المنيع من التسلط عليه، وجواب القسم محذوف اى انك لرسول الله (ص) او انهم ليبعثون بقرينة ما بعده.
[50.2]
{ بل عجبوا أن جآءهم منذر منهم } يعنى ما كذبوك لانهم وجدوك كاذبا بل كذبوك لتعجبهم من رسالة البشر { فقال الكافرون } برسالتك { هذا } الذى يدعيه من الرسالة من الله { شيء عجيب } يعجب منه، او هذا الذى يقوله من البعث بعد الموت وتفتت العظام شيء يتعجب منه.
[50.3]
{ أإذا متنا وكنا ترابا } نبعث ونرجع { ذلك } الاحياء بعد الموت { رجع بعيد } لعدم امكانه فان البعث على ما يتصوره العوام، يقول الفلسفى الذى يعد نفسه من الحكماء انه محال عقلا لاستلزامه رد الفعلية الى القوة والاستعداد، والموجود الى المعدوم كما بين فى محله.
[50.4]
{ قد علمنا ما تنقص الأرض منهم } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: كيف يبعثون؟ - والحال انهم مختلطون بالارض! { وعندنا كتاب حفيظ } حافظ الجميع ما لهم من القوى والاعضاء وحافظ لاسمائهم واعدادهم واعمالهم من الخير والشر، او محفوظ من التغيير والتبديل.
[50.5]
{ بل كذبوا بالحق لما جآءهم } يعنى ليس تكذيبهم للبعث لوجود البرهان عليه بل لانهم صاروا باطلين، والباطل لا يصدق الحق ومنه رسالتك وخلافة على (ع) والقرآن والبعث { فهم في أمر مريج } مختلط من الاهوية البهيمية والاستعلاء السبعية والحيل الشيطانية، او هم فى امر مختلط من حال محمد (ص) فيقولون: انه مجنون او شاعر او ساحر او كاهن.
[50.6]
{ أ } لم يخرجوا من حدود انفسهم فلم يقوموا من نكسهم { فلم ينظروا إلى السمآء فوقهم كيف بنيناها } بحيث لا يمكن بقاء مواليد الارض بدون هذا البناء { وزيناها } بالكواكب بحيث يتصل اثرها الى الارض ومواليدها ولولا آثار تلك الكواكب لما امكن بقاؤها { وما لها من فروج } بحسب الصورة يعنى ليس بناؤها مثل بناء البانين من البشر لا يمكن لهم ان يبنوا بلا فروج وما لها خلل ونقص فى خلقتها حتى يمكن لاحد ان يقول: لو كان كذا لكان اولى.
[50.7]
{ والأرض مددناها } اى كيف مددنا الارض بحيث يمكن التعيش عليها والانتفاع بها بالزراعات والتجارات والعمارات { وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج } اى صنف { بهيج } من النبات وبذلك الانبات يسهل تعيشكم وتعيش انعامكم وليس هذا من محض الطبيعة كما يقوله اراذل الناس من الطبيعية والدهرية بل من مبدء عليم قدير رحيم حكيم مدبر، وخلق الكل لبنى آدم كما هو المشهود، وليس ذلك لتعيشهم فى الدنيا كما يقوله منكروا البعث بل لتعيشهم فى الدنيا واستكمالهم فيها ليكونوا فى الآخرة على احسن وجه.
[50.8]
{ تبصرة وذكرى لكل عبد منيب } الى ربه فان غيره لابتلائه بالحرص وطول الامل يمر على الآيات غافلا عنها.
[50.9]
{ ونزلنا من السمآء مآء مباركا } كثير البركة فان بركات الارض كلها من الماء وليس من ماء فى الارض الا وقد خالطه ماء السماء كما روى عن النبى (ص):
" ليس من ماء فى الارض الا وقد خالطه ماء السماء "
، او المراد بالسماء جهة العلو { فأنبتنا به جنات } نسبة الانبات الى الجنات باعتبار انبات اشجارها مجاز عقلى { وحب الحصيد } يعنى انبتنا به حب النبات الذى من شأنه ان يحصد.
[50.10]
{ والنخل باسقات } طوالا { لها طلع نضيد } منضود بعضها فوق بعض.
[50.11]
{ رزقا للعباد } اى نرزق بذلك الطلع بعد بلوغه ونضجه رزقا للعباد، او حالكون الطلع رزقا للعباد { وأحيينا به } بذلك الماء { بلدة ميتا كذلك الخروج } بعد المماة فما لكم تشاهدون اماتة الاشجار والاراضى عن الاوراق والنبات واحياءها بعد ذلك وتنكرون احياء البشر بعد المماة، وهذا تمثيل لسهولة تصوير البعث او تنبيه على البينة الوجدانية.
[50.12-13]
{ كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس } الذين رسوا نبيهم فى الارض وقد مضى قصتهم وبيان الرس فى سورة الفرقان { وثمود وعاد وفرعون } المراد من فرعون هو وقومه كما اراد من ثمود وعاد الطائفتين اللتين سميتا بهما { وإخوان لوط } اى اخوان معاشرته.
[50.14]
{ وأصحاب الأيكة } اى قوم شعيب كما سبق مكررا { وقوم تبع } قد سبق فى سورة الدخان { كل كذب الرسل فحق وعيد } وفيه تسلية للرسول (ص) وقومه وتهديد للكفار بوعيده.
[50.15]
حديث فى تجدد العوالم غير هذا العالم.
{ أفعيينا بالخلق الأول } فنعجز عن الاعادة بذلك؟ { بل هم في لبس من خلق جديد } اى فى اشتباه ولذلك انكروا الخلق الجديد لا ان لهم برهانا على عدم الاعادة كما يدعيه الفلاسفة، او فى اختلاط من خلق جديد يعنى ان خلقتهم القديمة مختلطة بخلقتهم الجديدة لكنهم غافلون عنه، او فى لبس لباس على ان يكون اللبس بفتح اللام بمعنى اللبس بضم اللام وقد سبق فى اول البقرة عند قوله
الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون
[البقرة:3] وعند قوله
كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا
[البقرة:28] (الآية) ما به غنية عن بيان كونهم فى خلق جديد، ونكر الخلق الجديد لان الخلق الجديد لهم من قبيل الحركة فهم فى كل آن فى خلق غير الخلق الاول فلا بقاء لفرد من افراده حتى يمكن ان يعرف، وعن الباقر (ع) انه سئل عن هذه الآية فقال: تأويل ذلك ان الله تعالى اذا أفنى هذا الخلق وهذا العالم وسكن اهل الجنة الجنة واهل النار النار جدد الله عالما غير هذا العالم، وجدد خلقا من غير فحولة ولا اناث يعبدونه ويوحدونه، وخلق لهم ارضا غير هذه الارض تحملهم، وسماء غير هذا السماء تظلهم، لعلك ترى ان الله انما خلق هذا العالم الواحد، او ترى ان الله لم يخلق بشرا غيركم، بلى والله لقد خلق الف الف عالم، والف الف آدم، انت فى آخر تلك العوالم واولئك الآدميين.
[50.16]
{ ولقد خلقنا الإنسان } تمهيد لعلمه تعالى بخفيات امور الانسان وتعليل لقوله: { قد علمنا ما تنقص الأرض منهم } ، والمراد بالانسان جنس الانسان { ونعلم ما توسوس به نفسه } من خطرات قلوبه { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } تعليل لعلمه بخفيات اموره، والاوردة العروق النابتة من الكبد وبها يجرى الدم الذى هو غذاء البدن الى الاعضاء كما ان الشرائين العروق النابتة من القلب وبها يجرى الروح الحيوانى والروح الدماغى الى الاعضاء وصار حبل الوريد مثلا فى القرب.
[50.17-18]
{ إذ يتلقى } ظرف لاقرب او لنعلم او لهما يعنى نحن اقرب اليه اذ يتلقى { المتلقيان } اى اذ يتلقى الحفيظان ما يتلفظ وما يفعله والمعنى نحن اقرب اليه وقت تلقى الكاتبين الفاظه واعماله فلا حاجة لنا الى كاتب يكتب اعماله { عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب } مراقب كثيرا لاعماله { عتيد } معد لكتابة الاعمال، عن الصادق (ع): ما من قلب الا وله اذنان على احديهما ملك مرشد وعلى الاخرى شيطان مفتن هذا يأمره وهذا يزجره، الشيطان يأمره بالمعاصى، والملك يزجره عنها، وهو قول الله تعالى عن اليمين وعن الشمال قعيد، وفى بعض الاخبار تلويح بان صاحب اليمين وصاحب الشمال يكتب السيئات وهذا من سعة وجوه القرآن.
[50.19]
{ وجاءت سكرة الموت } سكرة الموت كناية عن الغشية الحاصلة عنده، وأتى بالماضى لتحقق وقوعه { بالحق } لا يغير الحق حتى تكون امارة كاذبة وقرئ: وجاءت سكرة الحق بالموت، والباء على القرائتين للتعدية، او بمعنى مع، او للسببية { ذلك ما كنت منه تحيد } وتفر، والجملة حالية، او جواب لسؤال مقدر بتقدير القول، والخطاب لمطلق الانسان او لمنكر البعث.
[50.20]
{ ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد } وهذه ايضا حالية او مستأنفة جواب لسؤال مقدر بتقدير القول اى يقال له ذلك اليوم العظيم يوم الوعيد الذى كنت تنكره، والمراد بالنفخة النفخة الثانية كما ان المراد بمجيء سكرة الموت النفخة الاولى.
[50.21]
{ وجآءت كل نفس معها سآئق وشهيد } السائق ملك موكل على الانسان يسوقه الى المحشر والى الآخرة، ويزجره عن الوقوف فى المواقف، والشهيد ملك موكل عليه يحضر معه فى كل موطن ويحفظ ويشهد عليه بجميع اعماله، فانه كما ان الانسان فى الدنيا له نوائب تمنعه عن الوقوف والاطمينان بالدنيا وله حالة يلتذ بها فى المناجاة والطاعات كذلك فى الآخرة عليه ملك يزجره عن الوقوف ويسوقه، وملك حاضر معه فى جميع مواطنه، وهذان الملكان يكونان معه فى الدنيا لكن لا يعلم بهما، وقيل المراد بالسائق الملك الذى هو صاحب الشمال، وبالشهيد صاحب اليمين.
[50.22]
{ لقد كنت في غفلة من هذا } مستأنفة او حالية بتقدير القول والمعنى كنت فى غفلة من هذا فى الدنيا { فكشفنا عنك غطآءك } فتبصر فى هذا اليوم ما كنت لا تبصره فى الدنيا { فبصرك اليوم حديد } فتبصر فى هذا اليوم دقائق ما كنت لا تقدر على ابصاره فى الدنيا.
[50.23]
{ وقال قرينه } اى الملك الموكل عليه { هذا } المكتوب الذى كتبته عليه { ما لدي عتيد } ومهيأ للحضور والاظهار وقال الشيطان الذى قيض له هذا الضال ما لدى عتيد ومهيأ لجهنم.
[50.24-25]
{ ألقيا } من مقول قول القرين، او استيناف كلام من الله بتقدير القول سواء جعل حالا او مستأنفا جوابا لسؤال مقدر والخطاب للسائق والشهيد، او لمحمد (ص) وعلى (ع) كما ورد فى اخبار عديدة من طريق الخاصة والعامة وزيد فى بعض الاخبار: وادخلا الجنة من احبكما { في جهنم كل كفار عنيد مناع للخير معتد } يتعدى حدود الله او معتد على العباد { مريب } شاك فى الله، او فى رسوله، او فى خلافة خليفته.
[50.26-27]
{ الذي جعل مع الله إلها آخر } من الاصنام والكواكب والاهوية، او جعل مع مظاهر الله خليفة اخرى فى الارض مثل نمرود وفرعون { فألقياه في العذاب الشديد قال قرينه } اى الشيطان المقيض له { ربنا مآ أطغيته } كأنه قال: هو اطغانى { ولكن كان في ضلال بعيد } من الحق يعنى انه كان فى الفطرة ضالا فاعنته على ذلك لا انى احدثت له الضلالة.
[50.28]
{ قال } اى الله { لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد } فما سمعتموه وما ارتدعتم فلا حجة لكم عندى.
[50.29]
{ ما يبدل القول لدي } بالعذاب على من سجلت العذاب عليه، واما العفو فهو ليس من تبديل القول فانه ايضا من الوعد الذى لا خلف فيه وليس العفو جزافا حتى يقول كل مذنب ليعف عنى { ومآ أنا بظلام للعبيد } فلا اعذب من دون سبب ولا اعفو من غير داع.
[50.30]
{ يوم نقول } ظرف لظلام، او ليبدل اى يوم يقول الله، وقرئ بالتكلم { لجهنم هل امتلأت } يسئل عنها سؤال تقرير حتى لا يبدل قوله لاملأن جهنم من الجنة والناس اجمعين، او سؤال استفهام لكن المنظور تنبيه العصاة وتهديدهم { وتقول } فى الجواب { هل من مزيد } استفهاما لطلب الزيادة او تعجبا من الزيادة على ما فيها وانكارا للمزيد، ولما كان جميع اجزاء عالم الآخرة ذات علم وارادة ونطق فلا حاجة لنا الى تأويل السؤال والجواب ههنا.
[50.31]
{ وأزلفت الجنة } فى قوله القيا فى جهنم وفى قوله ازلفت الجنة { للمتقين } توهين للعصاة وتشريف للمتقين وليس المتقون الا من قبل الولاية وهم شيعة آل محمد (ص) { غير بعيد } مكانا غير بعيد او ازلافا غير بعيد، او حالكونها غير بعيدة، واسقاط التاء حينئذ يكون من قبيل اسقاط التاء من قوله:
إن رحمت الله قريب من المحسنين
[الأعراف:56] وهو تأكيد لقربها.
[50.32]
{ هذا ما توعدون لكل أواب } بدل من قوله للمتقين، او خبر مبتدء محذوف، والاواب الكثير الرجوع الى الله { حفيظ } حافظ نفسه من التدنس بادناس المعاصى، او محفوظ عن المعاصى.
[50.33]
{ من خشي الرحمن بالغيب } بدل من اواب، او خبر مبتدء محذوف، او مبتدء خبره ادخلوها { وجآء بقلب منيب } راجع الى الله.
[50.34-35]
{ ادخلوها } خبر لمن خشى، او حال، او مستأنف والكل بتقدير القول { بسلام } من كل آفة { ذلك يوم الخلود لهم ما يشآءون فيها } متعلق بيشاؤن او بلهم { ولدينا مزيد } فان لدينا ما لا يخطر ببالهم حتى يشاؤها ثم عطف على عقوبة الكفار تهديدا لهم وقال: { وكم أهلكنا قبلهم }.
[50.36]
{ وكم أهلكنا قبلهم } قبل قريش او اهل مكة { من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد } نقب فى الارض من المجرد، ونقب من التفعيل، وانقب من الافعال ذهب فيها، ونقب عن الاخبار بحث عنها واخبر بها، والمراد فتحوا البلاد او ساروا فيها بالمنافع الكثيرة والاعمال الدقيقة، او ساروا فيها لتجسس الاخبار { هل من محيص } ومخلص من الهلاك، والجملة حالية او مستأنفة بتقدير القول اى يقول تلك القرون او نقول لهم هل من محيص.
[50.37]
{ إن في ذلك } الاخبار او فى ذلك الاهلاك { لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع }.
اعلم، ان العلم الذى هو نور يقذفه الله فى قلب من يشاء، اول ظهوره يورث التحير والانصات فيطلب به من يخرجه من تحيره فاذا وجد وانقاد له لم يكن له شأن الا الاستماع الى ما قال المنقاد له والامام، فثانى مراتبه يورث الاستماع لمن انقاد له وهو مقام التقليد فانه يأخذ فى هذا المقام من الامام مصدقا له من غير تحقيق لمأخوذاته، او من غير اعتبار لتحقيق مأخوذاته، وهذا صاحب الصدر المنشرح بالاسلام فاذا وجد هذا المقلد انموذج مأخوذاته بوجدانه او بشهوده كان خارجا من حدود صدره الى حدود قلبه وهذا هو الذى مزج التقليد بالتحقيق، او خرج من التقليد الى التحقيق، وهذا صاحب القلب سواء دخل فى بيت القلب او لم يدخل بعد لكن كان مشرفا على الدخول، وهذان هما اللذان يتذكران ويعتبران بكل ما سمعاه، واما غيرهما من ارباب النفوس فيمرون على الآيات وهم عنها معرضون { وهو شهيد } حاضر الذهن عند القائل تقييد لالقاء السمع.
[50.38]
{ ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام } قد مضى فى سورة الاعراف بيان خلق السماوات والارض فى ستة ايام { وما مسنا من لغوب } حتى احتجنا الى الاستراحة كما قالته اليهود وهو رد لليهود حيث قالوا: ان الله بدأ خلق العالم يوم الاحد وفرغ منه يوم الجمعة، واستراح يوم السبت، واستلقى على العرش، روى ان اليهود اتت النبى (ص) فسألته عن خلق السماوات والارض، فقال:
" خلق الله الارض يوم الاحد والاثنين، وخلق الجبال وما فيهن يوم الثلثاء، وخلق يوم الاربعاء الشجر والمدائن والعمران والخراب، وخلق يوم الخمس السماء، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة، قالت اليهود: ثم ماذا؟ - يا محمد (ص)، قال: ثم استوى على العرش "
، قالوا: قد اصبت لو أتممت، قالوا: ثم استراح، فغضب النبى (ص) غضبا شديدا، فنزلت الآية.
[50.39]
{ فاصبر على ما يقولون } فى حق الله بما لا يليق بجنابه وفى حقك وفى حق على (ع) { وسبح بحمد ربك } قد مضى فى اول الحمد بيان ان تسبيحه تعالى ليس الا بحمده ولذلك قيد التسبيح فى الاغلب بالحمد، او قرنه به، او بما يفيده { قبل طلوع الشمس وقبل الغروب } يعنى فى جميع الاوقات فانه كثيرا ما يقيد الامر بطرفى النهار ويراد استغراق الاوقات، او المراد هذان الوقتان بخصوصهما لشرافتهما، وما ورد فى فضيلة ما بين الطلوعين اكثر من ان يحصى، وقد ورد فى فضيلة العصر اخبار عديدة، او المقصود الاشارة الى صلاة الصبح وصلاة العصر، او صلاة الظهر والعصر.
[50.40]
{ ومن الليل فسبحه } اى بغضا من الليل سبحه لان الليل وخصوصا آخره وقت شريف تتوجه النفوس فيه الى الله والى اصلها لخلوصها من العوائق الخيالية، او هو اشارة الى المغرب والعشاء، او الى صلاة الليل { وأدبار السجود } قرئ مصدرا وجمعا والمراد بالسجود كمال الخضوع لعظمة الرب يعنى بعد ما حصل لك كمال التوجه الى الله والخضوع له او اشير بادبار السجود الى ركعة الوتر او الركعتين او الاربع الركعات بعد المغرب او الى الوتيرة.
[50.41]
{ واستمع } انت فى الحال الحاضر نداء المنادى يوم القيامة، او يوم ظهور القائم (ع)، فانك تسمع بالفعل نداء ذلك المنادى لخروجك من مرقدك وشهودك القيامة او خروج القائم (ع) { يوم يناد المناد } للبعث والحساب او ينادى المنادى باسم القائم (ع) واسم ابيه كما فى الخبر، واسقاط الياء من المنادى لاجراء الوصل مجرى الوقف وهو عربى جيد { من مكان قريب } من كل الناس فان نسبة المنادى فى القيامة او فى ظهور القائم متساوية الى الكل.
[50.42]
{ يوم يسمعون الصيحة بالحق } يعنى الصيحة للحساب والقيام عند الله، او صيحة القائم او الصيحة بخروج القائم (ع) { ذلك يوم الخروج } من المراقد، عن الصادق (ع) هى الرجعة.
[50.43]
{ إنا نحن نحيي ونميت } فى الدنيا جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: من يفعل ذلك؟ - ومن يخرج الاموات من المراقد؟ - فقال: انا نحن نحيى ونميت { وإلينا المصير } فى الآخرة.
[50.44]
{ يوم تشقق } ظرف للمصير او بدل من يوم يسمعون الصيحة { الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير } وذلك فى الرجعة او فى القيامة.
[50.45]
{ نحن أعلم بما يقولون } فى حقنا، او فى حقك، او فى حق على (ع) تسلية له (ص) وتهديد لقومه المنافقين او المشركين { ومآ أنت عليهم بجبار } بمسلط عليهم بالاجبار لهم انما انت منذر مذكر { فذكر بالقرآن } اى بمطلق القرآن، او بقرآن ولاية على (ع) { من يخاف وعيد }.
[51 - سورة الذاريات]
[51.1]
{ والذاريات ذروا } ذرت الرياح التراب والهشيم واذرت وذرت بالتشديد اطارته، والمراد الرياح او النساء التى تذرو الاولاد، او الاسباب التى تذرو الخلائق من الملائكة وغيرهم.
[51.2]
{ فالحاملات وقرا } اى السحب الحاملات للامطار، او الرياح الحاملات للسحاب، او النساء الحوامل، وقرئ وقرا بفتح الواو مصدرا، والوقر بالكسر الحمل الثقيل.
[51.3]
{ فالجاريات يسرا } السفن الجاريات فى البحار بسهولة، او الرياح الجاريات فى مهابها، او الكواكب الجاريات فى مناطقها.
[51.4]
{ فالمقسمات أمرا } اى الملائكة الذين يقسمون الارزاق والامطار وغيرها، او الرياح التى تقسم الامطار والسحب، اوجميع ما يقسم شيئا من الملائكة والرياح والانبياء والاولياء (ع) وهذا قسم من الله فان كان هذه اوصافا لذوات متعددة فلفظ الفاء فيها لتفاوت المقسم به فى الشرف والخسة وفى الدلالة على قدرة الرب وعنايته بخلقه، وان كانت اوصافا لذات واحدة فالفاء للترتيب بين الافعال فان الريح تفرق وتحرك الابخرة فى الجو فتنعقد فى الجو سحابا فتحمله الى حيث يأمرها الله فتجرى به بسهولة فتقسمه على البلاد والبرارى والبحار.
[51.5-6]
{ إنما توعدون } من الثواب والعقاب والحشر والحساب { لصادق وإن الدين } اى الجزاء { لواقع } او اللام لتعريف العهد الذهنى والمعنى ان هذا الدين الذى يدعيه لواقع يعنى حق وصدق.
[51.7]
{ والسمآء ذات الحبك } اى ذات الطرائق من مسير الكواكب او ذات الحسن والزينة كما ورد عن امير المؤمنين (ع) فان الكواكب وطرائقها تزين السماء كما يزين الموشى الثوب الوشى بالطرايق، او المراد بالطرائق الادلة التى يأخذها النظار منها التى يستدلون بها على صانعها وعلمه وقدرته وارادته وحكمته.
حديث فى كيفية وضع الارض وطبقات السماوات.
وعن الحسين بن خالد عن ابى الحسن الرضا (ع) قال قلت له: اخبرنى عن قول الله تعالى والسماء ذات الحبك، فقال: محبوكة الى الارض وشبك بين اصابعه، فقلت: كيف تكون محبوكة الى الارض؟ - والله تعالى يقول رفع السماء بغير عمد، فقال: سبحان الله! اليس يقول بغير عمد ترونها؟ - قلت: بلى، قال: فثم عمد ولكن لا ترى، فقلت: فكيف ذلك؟ - جعلنى الله فداك، قال: فبسط كفه اليسرى ثم وضع اليمنى عليها، فقال: هذه ارض الدنيا والسماء الدنيا فوقها قبة، والارض الثانية فوق السماء الدنيا، والسماء الثانية فوقها قبة، والارض الثالثة فوق السماء الثانية والسماء الثالثة فوقها قبة، ثم هكذا الى الارض السابعة فوق السماء السادسة والسماء السابعة فوقها قبة، وعرش الرحمن فوق السماء السابعة وهو قوله:
خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن
[الطلاق:12]، وصاحب الامر هو النبى (ص) والوصى على (ع) بعده، وهو على وجه الارض وانما يتنزل الامر اليه من فوق السماء بين السماوات والارضين، قلت: فما تحتنا الا ارض واحدة، قال: وما تحتنا الا ارض واحدة وان الست لفوقنا.
[51.8]
{ إنكم لفي قول مختلف } فى هذا الدين الواقع الحق بان بعضكم يصدق، وبعضكم يكذب، او فى محمد (ص) بالتصديق والتكذيب وبأنه مجنون او شاعر او معلم من غيره او كاهن ، او فى القرآن بانه سحر وكهانة ورجز واساطير الاولين، او فى على (ع) خليفته.
[51.9]
{ يؤفك عنه } اى عن الدين او محمد (ص) او القرآن او على (ع) وولايته { من أفك } حذف المصروف عنه عن الثانى للمبالغة والتأكيد فى ذم من افك عنه كأنه قيل: كل من افك من خير يؤفك عنه والمناسب لهذا التعميم والتأكيد ان يكون المراد بالضمير المجرور عليا (ع) وولايته كما فى الخبر فانه اصل جميع الخيرات والآفك من كل خير أفك عنه، او المعنى يؤفك عنه من افك فى الذر، او المعنى يؤفك عن هذا القول المختلف، وبسببه من افك عن الخير، او عن هذا الدين، او عن محمد (ص) او على (ع).
[51.10]
{ قتل الخراصون } الخرص بالفتح الحرز والاسم منه بالكسر يقال كم خرص ارضك بالكسر والقول بالظن والكذب والكل مناسب ههنا والمعنى لعن القائلون فى الدين وخلافة امير المؤمنين (ع) بالظن والتخمين، واستعمال القتل فى اللعن لان من لعنه الله يقتله عن الحياة الانسانية.
[51.11]
{ الذين هم في غمرة } الغمرة شدة الشيء ومزدحمه، وتنكيره للتفخيم وعدم نسبته الى شيء مخصوص لايهام التعميم والمعنى الذين هم فى غمرة من كل شيء من الجهل والشهوات والغضبات والشيطنة والكبر والعجب والفخر { ساهون } عما ذكرناهم به بحسب فطرتهم من طريق الآخرة ونعيمها، او عما ذكرناهم فى عالم الذر، او ساهون عن الله وعن المنعم وانعامه.
[51.12]
{ يسألون } حال او خبر بعد خبر او مستأنف { أيان يوم الدين } اى يوم الجزاء وكان سؤالهم هذا استهزاء وانكارا ولذلك أتى به بعد قوله: الذين هم فى غمرة ساهون واجابهم بقوله { يوم هم على النار يفتنون }.
[51.13]
{ يوم هم على النار يفتنون } يقال لهم { ذوقوا فتنتكم }
[51.14]
{ ذوقوا فتنتكم } اى عذابكم وحريقكم او فسادكم فى الدنيا { هذا الذي كنتم به تستعجلون } بدل من فتنتكم او مبتدء وخبر.
[51.15]
{ إن المتقين في جنات وعيون } مستأنف جواب لسؤال مقدر عن حال المتقى عن القول المختلف او عن الافك عن الولاية.
[51.16]
{ آخذين مآ آتاهم ربهم } كناية عن رضاهم به وهو كناية عن كون ما آتاهم مرضيا حسنا { إنهم كانوا قبل ذلك محسنين } مستأنف فى مقام التعليل والمعنى انهم كانوا محسنين فى اعمالهم، او كانوا ذوى حسن وهو الولاية، او كانوا محسنين الى من تحت ايديهم والى غيرهم.
[51.17]
{ كانوا قليلا من الليل } بدل من قوله كانوا قبل ذلك محسنين نحو بدل التفصيل عن الاجمال { ما يهجعون } عن الصادق (ع): كانوا اقل الليالى يفوتهم لا يقومون فيها، وعن الباقر (ع): كان القوم ينامون ولكن كلما انقلب احدهم قال: الحمد لله ولا اله الا الله والله اكبر.
[51.18]
{ وبالأسحار هم يستغفرون }.
اعلم، ان الانسان الصغير كالانسان الكبير فى وجوده ليل ويوم وشمس وقمر، وليله مراتب طبعه ونفسه الحيوانية، ويومه مراتب ملكوته، وشمسه عقله، وقمره نفسه المستضيئة بنور العقل، وما لم يخرج الانسان من بيت طبعه ونفسه لا يمكن غفران مساويه ولو استغفر كل يوم الف مرة، واذا خرج من حدود نفسه الحيوانية وقرب من حدود قلبه وعقله التى هى فى الصغير بمنزلة الاسحار فى الكبير سأل بلسان حاله غفران مساويه من ربه ويجيبه الله ويغفره سواء سأل بلسان قاله او لم يسأل، ومن ههنا يظهر سر تقييد الاستغفار بالاسحار، وسر تقديم الاسحار المفيد للحصر.
[51.19]
{ وفي أموالهم حق للسآئل والمحروم } من منفعة كسبه، ولا يخفى تعميم الاموال للاعراض الدنيوية والقوى والاعضاء، والوجاهة والخدم والحشم والانانيات ولا تعميم السائل للسائلين من الاناسى بالكف واللسان، او بلسان الحال والسائلين من الملائكة والعقول والائمة والله تعالى فانه يسأل القرض من عباده، والسائلين بلسان حالهم او قالهم افاضة الخيرات من النبى (ص) والامام واتباعهما، والمحروم كما عن الصادق (ع) المحارف الذى قد حرم كديده فى الشراء والبيع، ولا يخفى تعميم بين كاسب الاموال الدنيوية المعاشية وكاسب الاموال الاخروية المعادية.
[51.20]
{ وفي الأرض آيات } دالات على المبدء وعلمه وقدرته وعنايته بخلقه ورأفته { للموقنين } بامر الآخرة لا غيرهم فانهم يمرون عليها وهم عنها معرضون.
[51.21]
{ وفي أنفسكم } عطف على فى الارض او متعلق بمحذوف بقرينة قوله تعالى { أفلا تبصرون } وقد تكرر ذكر آيات الارض التى هى آيات الآفاق وذكر آيات الانفس، عن الصادق (ع) ان رجلا قام الى امير المؤمنين (ع) فقال: يا امير المؤمنين بما عرفت ربك؟ - قال: بفسخ العزم ونقض الهمم لما ان هممت فحال بينى وبين همى، وعزمت فخالف القضاء عزمى، علمت ان المدبر غيرى، وعن الصادق (ع) مثل هذا السؤال والجواب.
[51.22]
{ وفي السمآء رزقكم } الخاص بكم من حيث انسانيتكم او اسباب رزقكم النباتية وارزاقكم الانسانية { وما توعدون } من نعيم الجنة فان الجنة ونعيمها فى السماء الصورية بمعنى انها مظهر لها وفى سماوات عالم الارواح فان محل الجنة ونعيم الآخرة عالم الملكوت والجبروت وقال القمى: المطر ينزل من السماء فيخرج به اقوات العالم من الارض، وما توعدون من اخبار الرجعة والقيامة والاخبار التى فى السماء، وقيل: فى السماء تقدير ارزاقكم اى ما قسمه لكم مكتوب فى ام الكتاب وجميع ما توعدون فى السماء ايضا لان الملائكة تنزل من السماء لقبض الارواح ولاستنساخ الاعمال ولا نزال العذاب ويوم القيامة للجزاء والحساب.
[51.23]
{ فورب السمآء والأرض إنه لحق } اى ما توعدون او كون الرزق وكون ما توعدون فى السماء، او ان المعهود المقصود من كل قصة وحكاية وهو الولاية ولاية على (ع) لحق { مثل مآ أنكم تنطقون } مثل نطقكم الذى لا تشكون فيه، او المعنى فى السماء رزقكم مثل ما انكم تنطقون اى تدركون المعانى الغيبية فانه من السماء ينزل اليكم، او الولاية حق حالكونها مثل نطقكم فانه من آثار الولاية التكوينية ونازلة منها.
[51.24]
{ هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين } استيناف كلام لتهديد المعرضين عن المبدء او الرسول او الولاية.
[51.25]
{ إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام } قد مضى فى سورة هود هاتان الكلمتان { قوم منكرون } اى قال فى نفسه هؤلاء قوم منكرون غير معروفين لى، او قال لهم: انتم قوم منكرون اى لا اعرفكم.
[51.26]
{ فراغ إلى أهله } اى فذهب اليهم فى خفية من ضيفه تعجيلا للقرى { فجآء بعجل سمين } لانه كان عامة ما له البقر.
[51.27-29]
{ فقربه إليهم قال ألا تأكلون فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف } لانا رسل ربك { وبشروه بغلام عليم فأقبلت امرأته } بعد البشارة وهى سارة { في صرة } اى فى صيحة او فى جماعة كما روى عن الصادق (ع) { فصكت وجهها } قيل: جمعت اصابعها وضربت بها جبهتها، وقيل: لطمت وجهها للتعجب، وقيل: غطت وجهها { وقالت عجوز عقيم } يعنى كيف الد وكنت عاقرا وقت اقتضاء السن الحمل وصرت عجوزا ليس من شأنى الحمل.
[51.30]
{ قالوا كذلك قال ربك } وانما نخبرك عنه { إنه هو الحكيم } يعلم دقائق الامور ويصنع الامور المتقنة التى يعجز عن ادراكها وصنعها غيره { العليم } فيعلم انك كنت عقيما وصرت عجوزا ويقدر على جعل العقيم ولودا وجعل العجوز ذات حيض وولد.
[51.31-36]
{ قال } ابراهيم (ع) بعد ما عرفهم وانس بهم { فما خطبكم } امركم وشغلكم لما لم يكن نزول الاربعة الاملاك دفعة معهودا له علم انهم لم ينزلوا الا لامر عظيم فسأل ما خطبكم؟ { أيها المرسلون قالوا إنآ أرسلنآ إلى قوم مجرمين لنرسل عليهم حجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين } قد مضى قصتهم فى سورة هود وغيرها.
[51.37-39]
{ وتركنا فيهآ آية للذين يخافون العذاب الأليم وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين فتولى بركنه } الركن الجنب الاقوى والباء للتعدية، او بمعنى مع والمراد انه ولى جنوده او جانبه، او تولى هو وجنوده { وقال ساحر أو مجنون } يعنى ما يفعله من سحره وباختياره او هو مجنون وما يظهر عليه من خوارق العادات انما يظهر من الجن على يديه من دون اختياره.
[51.40]
{ فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم } آت بما يلام عليه.
[51.41]
{ وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم } سميت عقيما لعدم تضمنها لمنفعة او لانها اهلكتهم واستأصلتهم.
[51.42]
{ ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم } كالرماد المتفتت الاجزاء.
[51.43]
{ وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين } اى ثلاثة ايام ان كان المراد به قول النبى (ص) بعد الايعاد بالعذاب، او قيل تكوينا: تمتعوا حتى حين الآجال التى لكم وهذا هو المناسب لما بعده.
[51.44-45]
{ فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون فما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين } ممتنعين.
[51.46]
{ وقوم نوح من قبل إنهم كانوا قوما فاسقين } وقد مضى تلك القصص مكررا.
[51.47]
{ والسمآء بنيناها بأييد } بقوة { وإنا لموسعون } اى قادرون او لموسعون الرزق على العباد او لذو وسعة للعباد وارزاقهم.
[51.48]
{ والأرض فرشناها } بسطناها { فنعم الماهدون } الباسطون او الممهدون للقرار.
[51.49]
{ ومن كل شيء خلقنا زوجين } بريا وبحريا، او انسيا ووحشيا، ويكون لفظ كل من حمل حكم الاكثر على الكل او من كل حيوان ذكر وانثى، او من كل شيء من الكيفيات والكميات والمذوقات والمشمومات ضدين متنافيين كالحر والبرد، والسواد والبياض، والمر والحلو، والقصير والطويل، والحسن والقبيح، الى غير ذلك، وفى الاخبار اشارة الى هذا المعنى { لعلكم تذكرون } علمه وحكمته وقدرته وعنايته بخلقه ورأفته ولعلكم تذكرون بمضادته بين الاشياء ان لا ضد له وبتفريقه بين المتفارقات ان لها مفرقا، وبتأليفه بين المتئالفات ان لها مؤلفا.
[51.50]
{ ففروا إلى الله } المنعم عليكم بهذه النعم من نفوسكم الامارة ومن الشيطان وجنوده بالاستعاذة به، ومن الاشرار وشرورهم بالاستعانة به، ومن اهويتكم التى هى آلهتكم بالطاعة لأمره ونهيه، او فروا من اوطانكم الى الحج، او فروا من اوطانكم الى الرسول والامام { إني لكم منه نذير مبين } وقوله تعالى ففروا حكاية لقول الرسول (ص) او قوله انى لكم منه نذير من الله.
[51.51]
{ ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين } تكرير للتأكيد.
[51.52-53]
{ كذلك } القول لك من انك مجنون او ساحر او كاهن او شاعر { مآ أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به } يعنى ان الاولين والآخرين تواصوا بهذا القول فى حق الرسول { بل هم قوم طاغون } ومقتضى طغيانهم عدم الانقياد للحق تعالى.
[51.54]
{ فتول عنهم } عن المحاجة والمجادلة معهم بعد اتمامك الحجة واصرارهم على الانكار { فمآ أنت بملوم } بعد ذلك.
[51.55]
{ وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين } وان لم يتذكر بها الكافرون والمنافقون فى اخبار عديدة ان الناس لما كذبوا رسول الله (ص) هم الله تعالى باهلاك اهل الارض الا عليا (ع) فما سواه بقوله: فتول عنهم فما انت بملوم ثم بدا له فرحم المؤمنين ثم قال لنبيه: وذكر فان الذكرى تنفع المؤمنين، وعن على (ع) لما نزلت: فتول عنهم لم يبق احد منا الا ايقن بالهلكة فلما نزل وذكر طابت انفسنا.
[51.56]
{ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون }.
اعلم، ان الله تعالى كان غيبا مطلقا لم يكن منه خبر ولا اسم ولا رسم فأحب ان يتجلى فيعرف كما فى القدسى: كنت كنزا مخفيا فأحببت ان اعرف فخلقت الخلق لكى اعرف، فخلق الخلق لان يتجلى عليهم فيألفوه، ولا يتجلى عليهم الا اذا صاروا خارجين من انانياتهم، ولا يخرجون من انانياتهم الا بارتياض النفوس بما قرره الله تعالى لذلك وليس الا العبادات الشرعية، وايضا لا يخرجون من انانياتهم الا اذا صاروا عبيدا له تعالى خارجين من عبودية انفسهم وليس المقصود من العبادات ولا من العبدية الا ان يصيروا عارفين له متصلين به منتهين اليه، فالمقصود من قوله الا ليعبدون الا ليعرفون لكنه اداه بهذه العبارة للاشعار بان المعرفة لا تحصل الا بالعبادة او بالعبدية، عن الصادق (ع) قال: خرج على بن الحسين (ع) على اصحابه فقال: ايها الناس ان الله جل ذكره ما خلق العباد الا ليعرفوه، فاذا عرفوه عبدوه، واذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه، فقال له رجل: يا بن رسول الله (ص) بابى انت وامى، فما معرفة الله؟ - قال: معرفة اهل كل زمان امامهم الذى يجب عليهم طاعته، وقوله تعالى
ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم
[هود: 118 - 119] ولا يزالون مختلفين الا من رحم ربك ولذلك خلقهم، المستفاد منه ان خلقهم للاختلاف، وعبادة بعضهم وتمرد بعضهم لا ينافى ذلك، فان الغاية المقصودة والمنظور اليها والمترتب عليها فعل الفاعل عبادتهم ومعرفتهم ولكن لما لم يكن خلق البشر فى عالم الكون من الاضداد الا بان يكونوا مختلفين وكان غاية تلك الخلقة المنتهى اليها خلقتهم اختلافهم قال:
ولذلك خلقهم
[هود: 119] ولذلك خلقهم فلا منافاة بينهما، فان العبادة علة غائية لخلقهم والاختلاف غاية مترتبة عليه.
[51.57]
{ مآ أريد منهم من رزق } لى ولا لغيرى { ومآ أريد أن يطعمون } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: فما اراد من خلقهم رزقا واعانة.
[51.58]
{ إن الله هو الرزاق } لكل مرزوق تعليل يعنى ان الرزاقية لا تتأتى من غيره فكيف يريد رزاقية الغير { ذو القوة المتين } الذى لا حاجة له الى معين فى رزاقيته.
[51.59]
{ فإن للذين ظلموا } انفسهم بانكار المبدء او المعاد، او ظلموا الرسول بعدم انقياده وعدم اعطاء حقه من تسليم انفسهم له، او ظلموا آل محمد (ص) حقهم من عدم تسليم انفسهم لهم ومن غصب حقوقهم وهذا هو المنظور اليه، والفاء للسببية لقوله فذكر { ذنوبا } قسطا ونصيبا فان الذنوب الدلو، او التى فيها ماء، او الملأى، او دون الملأى، او المراد بالذنوب اليوم الطويل الشر { مثل ذنوب أصحابهم } الذين اتبعوهم فى ظلم آل محمد (ص) { فلا يستعجلون } بالعذاب.
[51.60]
{ فويل للذين كفروا } بولاية على (ع) { من يومهم الذي يوعدون } وهو يوم آخر الدنيا او يوم القيامة.
[52 - سورة الطور]
[52.1]
{ والطور } اقسم بالجبل الذى كلم الله عليه موسى (ع)، او اقسم بمطلق الجبل لما فيه من انواع البركات والخيرات ولما ينبع من تحته الماء الذى هو اصل جميع البركات وباطنه الامام الذى به وجود العالم وبقاؤه وبركاته، او المراد جهة النفس العليا التى اذا بلغ الانسان هناك قرب من الله اذا كان على الجانب الايمن منها.
[52.2]
{ وكتاب مسطور } اى مكتوب مسطور.
[52.3]
{ في رق منشور } الرق الجلد الرقيق الذى يكتب فيه والصحيفة البيضاء والمراد به هيولى العالم التى كتب فيها صور الانواع ونفوسها، او طبع الانسان الذى كتب فيه نفسه وقواها ومداركها، وقيل: هو الكتاب الذى كتبه الله لملائكته فى السماء يقرؤن فيه ما كان وما يكون فيعلمون بما فيه، وقيل: هو القرآن المكتوب عند الله فى اللوح المحفوظ، وقيل: هو صحائف الاعمال التى تخرج الى بنى آدم يوم القيامه، وقيل: هو التوراة.
[52.4]
{ والبيت المعمور } الذى فى السماء الرابعة يدخله كل يوم سبعون الف ملك ثم لا يعودون اليه ابدا، وعن الباقر (ع) انه قال: ان الله وضع تحت العرش اربع اساطين وسماهن الضراح وهو البيعت المعمور وقال للملائكة: طوفوا به، ثم بعث ملائكة فقال: ابنوا فى الارض بيتا بمثاله وقدره، وامر من فى الارض ان يطوفوا بالبيت، وعن النبى (ص):
" البيت المعمور فى السماء الدنيا "
، وفى حديث عنه:
" انه فى السماء السابعة "
، واختلاف الاخبار فى ذلك يشعر بوجه التأويل، ولما كان الانسان الصغير مطابقا للانسان الكبير فالبيت المعمور هو قلبه الذى هو فى السماء الرابعة بوجه، وتحت العرش بوجه، وفى السماء الدنيا بوجه، وبحذائه القلب الصنوبرى الذى هو فى ارض الطبع وبناه الملائكة بحذاء القلب المعنوى الذى هو فى سماء الارواح.
[52.5]
{ والسقف المرفوع } السماء، او العقل الذى هو بمنزلة السقف للقلب والطبع.
[52.6]
{ والبحر المسجور } اى الموقد او المملو فان البحار تسجر وتوقد نارا يوم القيامة والمراد بحر الهيولى الذى يوقد من نار الغضبات والشهوات والحيل الشيطانية.
[52.7-9]
{ إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع يوم تمور السمآء مورا } اى تضطرب او تموج او تدور.
[52.10]
{ وتسير الجبال سيرا } حتى تستوى مع الارض، او يظهر سير الجبال فانها تمر مر السحاب وتحسبها جامدة.
[52.11]
{ فويل } اى اذا كان ذلك اليوم فويل { يومئذ للمكذبين } لله ورسوله (ص) مطلقا، او فى ولاية على (ع) وهو المنظور.
[52.12-13]
{ الذين هم في خوض } فى الملاهى، او فى انكار المبدء والمعاد، او فى انكار الرسول (ص)، او فى انكار ولاية على (ع) { يلعبون يوم يدعون } اى يدفعون بعنف فان الدع الدفع العنيف { إلى نار جهنم دعا } وقيل: هو ان تغل ايديهم الى اعناقهم وتجمع نواصيهم الى اقدامهم، ثم يدفعوا الى جهنم دفعا على وجوههم.
[52.14]
{ هذه النار التي كنتم بها تكذبون } الجملة حالية او جواب لسؤال مقدر بتقدير القول اى يقول الله او الملائكة او خزنة جهنم.
[52.15]
{ أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون } لما كانوا ينسبون محمدا (ص) الى السحر تارة والى انه يتصرف فى الابصار اخرى رد الله تعالى عليهم قولهم فى حقه فقال: افسحر هذا ام انتم لا تبصرون بالتصرف فى ابصاركم؟
[52.16]
{ اصلوها } يعنى يقال لهم: اصلوها { فاصبروا أو لا تصبروا } لفظة او للتسوية ولذلك اكد المفهوم بالتصريح فقال: { سوآء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون } جواب لسؤال كأنه قيل: لم نعذب هذا العذاب؟
[52.17]
{ إن المتقين } عن تكذيب الله ورسوله (ص) فى ولاية على (ع) بالاقرار له والبيعة معه بيعة خاصة ولوية { في جنات ونعيم } تنكير الجنات والنعيم للتفخيم.
[52.18-20]
{ فاكهين } متنعمين او معجبين { بمآ آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم كلوا واشربوا } حالية او مستأنفة جواب لسؤال مقدر بتقدير القول { هنيئا بما كنتم تعملون متكئين } حال { على سرر مصفوفة } متصل بعضها ببعض { وزوجناهم بحور عين } أتى بالماضى للاشعار بان التزويج حاصل لهم فى دار الدنيا وان كان لا يظهر عليهم، او للاشارة الى تحقق وقوعه.
[52.21]
{ والذين آمنوا } بالبيعة العامة او بالبيعة الخاصة { واتبعتهم ذريتهم بإيمان } الذرية تقع على الواحد والكثير وهى الصغار من اولاد الرجل او مطلق الاولاد، والباء بمعنى مع، او بمعنى فى، او للسببية وتنكير الايمان للاشعار بكفاية ايمان ما للالحاق ولو كان ايمانا حكميا فان صغار اولاد المسلمين فى حكم الاسلام وان لم يحكم عليهم بالاسلام الحقيقى لعدم تعلق التكليف بهم بعد { ألحقنا بهم ذريتهم } والمراد انه تعالى يلحق اولاد المؤمنين المكلفين منهم القاصرين عن درجة آبائهم بآبائهم تشريفا لايمان آبائهم، وغير المكلفين منهم بمحض ايمان الآباء يلحقون بالآباء تشريفا لهم كما فى الاخبار ان الصغار من الاولاود تهدى فى الجنة للآباء { ومآ ألتناهم من عملهم من شيء } بواسطة الحاق الاولاد { كل امرىء بما كسب رهين } حالية او معترضة جواب لسؤال مقدر.
[52.22]
{ وأمددناهم } يعنى اعطيناهم على التدريج والاستمرار { بفاكهة } شريفة لا يمكن تعريفها { ولحم } غير معروف ليس من جنس لحوم الدنيا حتى يمكن تعريفها { مما يشتهون } اى من لحم او من ذى لحم يشتهونه من لحم الطيور وغير الطيور.
[52.23]
{ يتنازعون } اى يتجاذبون من وجد { فيها كأسا } الكأس مهموزة اسم لما يشرب منه، او اسم له ما دام الشراب فيه، وتطلق على الخمر ايضا وهى مؤنثة سواء اريد بها ما يشرب به او الخمر { لا لغو فيها } يعنى لا يجرى بينهم لغو حين تعاطيها مثل الكؤوس الدنيوية { ولا تأثيم } اى لا جعل الشارب آثما بخلاف كؤوس الدنيا.
[52.24]
{ ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون } فى الحسن والصباحة والصفاء والبياض، وتوصيف اللؤلؤ بكونه مكنونا لكون المكنون محفوظا من الاغبرة وما يكدره.
[52.25]
{ وأقبل بعضهم } اى كل بعض منهم { على بعض يتسآءلون } عن سبب تنعمهم فى الجنة بقرينة ما يأتى.
[52.26]
{ قالوا } فى الجواب { إنا كنا قبل } اى قبل الآخرة { في أهلنا مشفقين } على اهلنا، او مشفقين من عذاب الله.
[52.27]
{ فمن الله علينا } بهذه النعم { ووقانا عذاب السموم } السموم من اسماء جهنم، او السموم الحر الذى يدخل فى مسام البدن.
[52.28]
{ إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر } الذى لا يدع من يدعوه من غير نصرة { الرحيم } الذى يتفضل على عباده من غير استحقاق منهم.
[52.29]
{ فذكر } يعنى اذا كان الامر هكذا فذكر ولا تبال بردهم وقبولهم فانه ينفع بعضهم ان لم ينفع كلهم، او ينفع آخرا ان لم ينفع اول الامر { فمآ أنت بنعمة ربك } الباء للقسم او للسببية، والنعمة هى الولاية والنبوة والرسالة صورتها { بكاهن } الكهانة الاخبار بالغيب بطريق خدمة الجن، والفعل كمنع ونصر وكرم { ولا مجنون } كما يقولون ويصفونك بهما.
[52.30]
{ أم يقولون } هو { شاعر } يتكلم بما لا حقيقة له ويتموه فيقرب البعيد ويبعد القريب، ولما كان الشاعر فى اكثر الامر يأتى فى شعره بما لا حقيقة له ويموه سمى كل من يأتى بكلام مموه لا حقيقة له بالشاعر { نتربص به ريب المنون } الريب صرف الدهر، والمنون الدهر والموت والمقصود منه انا نتربص هلاكته.
[52.31]
{ قل تربصوا } الهلكة لى { فإني معكم من المتربصين } حوادث الدهر لكم.
[52.32]
{ أم تأمرهم أحلامهم } اى عقولهم { بهذآ } القول والانكار { أم هم قوم طاغون } وطغيانهم يحملهم على ذلك لا عقولهم.
[52.33]
{ أم يقولون تقوله } قال القرآن بتعمل من عند نفسه وليس من الله { بل لا يؤمنون } بالله او بك او بالقرآن او بالولاية.
[52.34]
{ فليأتوا بحديث مثله } اى مثل القرآن { إن كانوا صادقين } فى انك تقولته وقد مضى فى اول البقرة عند قوله فاتوا بسورة من مثله بيان التحدى بالقرآن والاشارة الى وجه اعجازه.
[52.35]
{ أم خلقوا من غير شيء } بل أخلقوا من غير غاية لخلقتهم؟ كما يقول المعطلون للعالم وخلقه عن الغاية، او من غير مبدء؟ كما يقول الدهرية والطبيعية والقائلون بالبخت والاتفاق، او من غير امر ونهى ووعظ ونصح لهم؟ حتى يكونوا مهملين، او من غير سبق مادة واستعداد؟ حتى يقولوا بالجبر للعباد من دون اختيار لهم، او من غير سبق صورة مثالية لهم فى مراتب علمنا؟ فيكون خلقنا لهم من غير علم لنا بهم سابقا { أم هم الخالقون } لانفسهم فلم يكن لهم مبدء آخر فلم يكن لغيرهم حق عليهم.
[52.36]
{ أم خلقوا السماوات والأرض } حتى لا يكون لهما خالق فلم يقروا بمبدء لهما اضطرارا { بل لا يوقنون } فلا يتكلمون فى شيء الا عن ظن وتخمين.
[52.37]
{ أم عندهم خزآئن ربك } فيعطوا من شاؤا ما شاؤا ويمنعوا من شاؤا ما شاؤا فيمنعوا الرسالة منك ويعطوها غيرك او يعطوا انفسهم ما يشاؤن فلم يضطر والى الالتجاء الى الله والسؤال منه، او الى الالتجاء الى رسوله (ص) والسؤال منه، او الى العبادات واخذها من اهلها { أم هم المصيطرون } المسيطر الرقيب الحافظ والمتسلط حتى لا يحتاجوا الى غيرهم.
[52.38]
{ أم لهم سلم يستمعون فيه } اى فى السلم اخبار الغيب فيخبروا ان محمدا (ص) ليس ببنى، او يخبروا بما يحتاجون اليه من امر دينهم ودنياهم فلا يكون لهم حاجة الى رسول { فليأت مستمعهم بسلطان مبين } بحجة واضحة او موضحة صدقه.
[52.39-40]
{ أم له البنات } أتى بعد ذكر الاستماع من السماء حجة على انهم غير مستمعين بل غير عاقلين فان العاقل لا يقول مثل ما قالوا فانهم جوزوا عليه التوالد الذى مفاسده غير خفية ثم اثبتوا له البنات، واذا بشر احدهم بالانثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم ورجحوا انفسهم عليه فاثبتوا لانفسهم البنين ولذلك قال { ولكم البنون أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون } بذلك الاجر فمنعهم ذلك عن الاقرار بك.
[52.41]
{ أم عندهم الغيب } من دون الصعود الى السماء { فهم يكتبون } فيعلمون بذلك انك لست برسول او لا يحتاجون بذلك الى رسول.
[52.42]
{ أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون } يعنى انهم يريدون كيدا عظيما بك وبوصيك فالذين كفروا برسالتك او بولاية على (ع) هم المكيدون فان كيدهم لك هو كيد الله لهم فى الخذلان والمنع من حضرته.
[52.43]
{ أم لهم إله غير الله سبحان الله عما يشركون } من الاصنام والكواكب والاهوية.
[52.44]
{ وإن يروا } والحال انهم ليسوا فى شيء على حالة اليقين فانهم ان يروا { كسفا من السمآء ساقطا } مع انه من المشهودات التى هى ثوانى البديهيات ينكروا و { يقولوا سحاب مركوم } فاذا كان الامر هكذا.
[52.45]
{ فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون } يهلكون بالصاعقة او يغشون.
[52.46-47]
{ يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا } من الاغناء او شيئا من العذاب { ولا هم ينصرون وإن للذين ظلموا } انفسهم بانكار المبدء او المعاد او الرسالة او الولاية او ظلموا آل محمد (ص) حقهم { عذابا دون ذلك } اليوم وهو عذاب يوم الاحتضار، او عذاب البرزخ، او عذاب الدنيا بالقتل والاسر والنهب، او دون هذا العذاب { ولكن أكثرهم لا يعلمون } ذلك فلذلك يجترؤن على انكارك.
[52.48]
{ واصبر } عطف على قل تربصوا او على ذكر { لحكم ربك } بامهالهم او لحكم ربك بايذائك على ايديهم، او لحكم ربك بانكارهم لك، او لله، او لحكم ربك ببقائك فيهم، او واصبر منتظرا لحكم ربك باهلاكهم ولا تبال بانكارهم وتهديدهم { فإنك بأعيننا } نشاهدك ونشاهد جميع امورك فلا ندعهم حتى يضروك { وسبح بحمد ربك حين تقوم } الى الصلاة او حين تقوم عند الله فان القيام عند الله يقتضى التنزيه المطلق من غير التفات الى جهة الكثرات وحمده تعالى بها، لكن الكامل ينبغى ان يكون حافظا للطرفين فى كل حال وانت اكمل الناس فسبح بحمد ربك حين تقوم عنده ولا تغفل عن الكثرات.
[52.49]
{ ومن الليل } الذى يغشاك فيه ظلمات الكثرات وتستر وجهة ربك { فسبحه } وبالغ فى تنزيهه عن الكثرات فان المنغمر فى ظلمات الكثرات عليه ان يبالغ فى تنزيه الحق ولا يلتفت الى تشبيهه ولذلك لم يضف الحمد هناك وان كان تسبيحه لا ينفك عن حمده { وإدبار النجوم } وحين ادبار النجوم وقد فسرت الآية بحسب التنزيل بوجوه فقيل حين تقوم من النوم، او الى الصلاة المفروضة فقل: سبحانك اللهم وبحمدك، وقيل: صل بامر ربك حين تقوم من مقامك، وقيل: المراد الركعتان قبل صلاة الفجر، وقيل: حين تقوم من نومة القائلة وهى صلاة الظهر، وقيل: اذكر الله بلسانك حين تقوم الى الصلاة، وقيل: قوله من الليل فسبحه يعنى به صلاة الليل، وقيل: معناه صل المغرب والعشاء الآخرة، وادبار النجوم معناه الركعتان قبل الفجر، وقيل: صلاة الفجر المفروضة، وقيل: لا تغفل عن ذكر ربك صباحا ومساء ونزهه فى جميع احوالك ليلا ونهارا قائما وقاعدا.
[53 - سورة النجم]
[53.1]
{ والنجم } اقسم بالنجم المراد به القرآن فانه نزل نجوما اى متفرقا فى طول ثلاث وعشرين سنة، او اقسم بالثريا فان النجم علم بالغلبة لها، او اقسم بمطلق النجوم، او اقسم بالنجم الذى يرجم به الشيطان عن استراق السمع، او اقسم بالنبات اذا سقط على الارض او ارتفع منها ونما، وقيل: اقسم بمحمد (ص) فانه النجم الذى نزل من السماء السابعة ليلة المعراج، وعن ابن عباس انه قال: صلينا العشاء الآخرة ذات ليلة مع رسول الله (ص) فلما سلم اقبل علينا بوجهه ثم قال:
" انه سينقض كوكب من السماء مع طلوع الفجر فيسقط فى دار احدكم، فمن سقط ذلك الكوكب فى داره فهو وصيى وخليفتى والامام بعدى "
، فلما كان قرب الفجر جلس كل واحد منا فى داره ينتظر سقوط الكوكب فى داره وكان اطمع القوم فى ذلك ابى العباس، فلما طلع الفجر انقض الكوكب من الهواء فسقط فى دار على بن ابى طالب (ع) فقال رسول الله (ص) لعلى (ع):
" يا على والذى بعثنى بالنبوة لقد وجب لك الوصية والخلافة والامامة بعدى "
، فقال المنافقون عبد الله بن ابى واصحابه: لقد ضل محمد فى محبة ابن عمه وغوى، وما ينطق فى ساعته الا بالهوى، فأنزل الله هذه الآية (الى آخر الحديث) { إذا هوى } سقط وغرب، او اذا صعد وارتفع، فانه يستعمل فيهما.
[53.2]
{ ما ضل صاحبكم } يا قريش { وما غوى } يعنى ما ضل عن طريق الحق فى الاعمال والاقوال الظاهرة وما ضل فى العلوم والعقائد الباطنة.
[53.3]
{ وما ينطق } بالقرآن او بالولاية او بمطلق ما ينطق به او بالاحكام الشرعية { عن الهوى } اى هوى نفسه من دون امر ربه.
[53.4]
{ إن هو } اى نطقه او القرآن او امر الولاية { إلا وحي يوحى } يعنى انه خرج من انانيته وصار انانيته انانية الله فلم يكن منه فعل او قول او خلق الا بوحى من الله وانانيته.
[53.5]
{ علمه شديد القوى } جمع القوة مقابلة الضعف، ولما كان قوة جبرئيل فى جميع ماله من انواع الادراكات والتصرفات جمع القوى.
[53.6]
{ ذو مرة } ذو متانة فى عقله وثبات من امره، فان صاحب المرة يكون صاحب ثبات فى الامر ولذلك ورد انه: ما بعث نبى قط الا كان ذا مرة سوداء { فاستوى } اى فاستقام على صورته الحقيقية التى خلقه الله عليها، قيل: ما رآه احد من الانبياء فى صورته غير محمد (ص) نبينا فانه رآه على صورته مرتين، مرة فى السماء ومرة فى الارض، وقيل: فاستوى على جميع ما فى الارض او على ما امره الله به، وقيل: فاستوى محمد (ص) اى استقام فى امره وتمكن، وعلى اى تفسير فالاتيان بالفاء كان فى محله، وقيل: ك ان جبرئيل يأتى النبى (ص) فى صورة الآدميين فسأله رسول الله (ص) ان يريه نفسه على صورته التى خلق عليها، فأراه نفسه مرتين، مرة فى الارض ومرة فى السماء، اما فى الارض فان محمدا (ص) كان بحراء فطلع له جبرئيل من المشرق فسد الافق الى المغرب فخر النبى (ص) مغشيا عليه، فنزل جبرئيل فى صورة الآدميين فضمه الى نفسه.
[53.7]
{ وهو بالأفق الأعلى } اى جبرئيل بالافق الاعلى وهو افق عالم العقول الذى هو عالم الجبروت من جهة اللاهوت، وكان جبرئيل حين النزول ينزل من افق المشرق وهو اعلى من افق المغرب، او المراد ان محمدا (ص) كان حين نزول الوحى والتعليم بالافق الاعلى يعنى افق عالم العقول الى اللاهوت، او عالم النفوس الى العقول، او عالم المثال الى النفوس، او افق عالم الطبع الى عالم المثال، فانه (ص) كان يوحى اليه فى جميع تلك الآفاق.
[53.8]
{ ثم دنا } جبرئيل من الافق الاعلى من محمد (ص) { فتدلى } فى الهواء، او ثم دنى محمد (ص) من الافق الاعلى من الله، فتدلى من انانيه وتدلى تحت العرش، فلم يبق له مقام ومكان ولا انانية يعتمد عليها بل صار تدليا من غير ذات متدلية، وقرئ فتدانى، وسئل الكاظم (ع) عن قوله دنى فتدلى، فقال: ان هذه لغة فى قريش اذا اراد الرجل منهم ان يقول: قد سمعت يقول قد تدليت وانما التدلى الفهم.
[53.9]
{ فكان } الامتداد والمسافة بينهما { قاب قوسين أو أدنى } اى بل ادنى وقاب القوس ما بين مقبضها الى رأسها، ولكل قوس قابان، ولذلك قيل: انه على القلب والاصل قابى قوس لكن ليس هذا على القلب وليس المقصود انه كان بينهما مقدار قابى القوس بل المقصود انه كان بينهما مقدار قاب واحد من القوس اذا انعطفت لا اذا كانت مستقيمة، فان القوس قطعة من الدائرة ولكل قوس اذا انعطفت قوسان ما بين مقبضها وراس كل طرف منها، وعن الصادق (ع): انه سئل كم عرج برسول الله (ص)؟ - فقال: مرتين فأوقفه جبرئيل موقفا فقال: مكانك يا محمد (ص) فقد وقفت موقفا ما وقفه ملك ولا نبى قط، ان ربك يصلى، فقال: يا جبرئيل، وكيف يصلى؟ - قال: يقول سبوح قدوس انا رب الملائكة والروح، سبقت رحمتى غضبى، فقال:
" اللهم عفوك عفوك "
، قال: وكان كما قال الله: قاب قوسين او ادنى، قيل: ما قاب قوسين او ادنى؟ - قال: ما بين سيتها الى رأسها، قال: فكان بينهما حجاب يتلألأ يخفق ولا اعلمه الا وقد قال: زبرجد، فنظر فى مثل سم الابرة الى ما شاء الله من نور العظمة، فقال الله تبارك وتعالى: يا محمد (ص)، قال: لبيك ربى، قال: من لامتك من بعدك؟ - قال: الله اعلم، قال: على بن ابى طالب (ع) امير المؤمنين وسيد المسلمين وقائد الغر المحجلين، ثم قال الصادق (ع): والله ما جاءت ولاية على (ع) من الارض ولكن جاءت من السماء مشافهة، وقال فى الصافى؛ وفى التعبير عن هذا المعنى بمثل هذه العبارة اشارة لطيفة الى ان السائر بهذا السير منه سبحانه نزل واليه صعد، وان الحركة الصعودية كانت انعطافية وانها لم تقع على نفس المسافة النزولية بل على مسافة اخرى كما حقق فى محله فسيره كان من الله والى الله وفى الله وبالله ومع الله تبارك وتعالى.
[53.10]
{ فأوحى إلى عبده مآ أوحى } ابهم الموحى للتفخيم وقد مضى فى آخر البقرة انه كان فيما اوحى اليه قوله تعالى
لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله
[البقرة:284] (الآية) وكانت الآية قد عرضت على الانبياء من لدن آدم (ع) الى ان بعث الله محمدا (ص) وعرضت على الامم فأبوا ان يقبلوها من ثقلها، وقبلها رسول الله (ص)، وعرضها على امته فقبلوها، وقد مضى فى آخر البقرة بيان هذه الآية وعدم منافاتها لما ورد انه تعالى: لا يؤاخذ العباد على الخطرات والوساوس وعزم المعاصى.
[53.11]
{ ما كذب } قرئ بتخفيف الذال وتشديدها { الفؤاد } اى فؤاد محمد (ص) ولم يضفه اليه لايهام ان ليس فؤاد غير فؤاده، وان المطلق ينصرف اليه { ما رأى } فى بعض الاخبار ان محمدا (ص) رأى ربه بفؤاده لا بالبصر، وفى بعض: { لقد رأى من آيات ربه الكبرى } وآيات الله غير الله، او رأى خلافة على (ع) وعلى اكبر الآيات، او رأى جبرئيل على صورته التى خلق عليها، ولم يره احد كذلك.
[53.12]
{ أفتمارونه } افتجادلونه، وقرئ افتمرونه من مرى بمعنى اتغلبونه فى المحاجة وتنكرونه؟! فانهم كانوا يجادلونه فى خلافة على (ع) { على ما يرى } كان الاوفق ان يقول على ما رأى لكنه اداه بالمضارع للاشعار باستمرار الرؤية منه فانه كان كلما نظر بفؤاده رأى خلافة على (ع) وولايته بعده، وسئل رسول الله (ص) عن ذلك الوحى، فقال: اوحى الى ان عليا (ع) سيد المؤمنين، وامام المتقين، وقائد الغر المحجلين، واول خليفة يستخلفه خاتم النبيين (ص)، فدخل القوم فى الكلام فقالوا: امن الله او من رسوله؟ - فقال الله جل ذكره لرسوله قل لهم: { ما كذب الفؤاد ما رأى } ثم رد عليهم فقال: { أفتمارونه على ما يرى } فقال لهم رسول الله (ص):
" قد امرت فيه بغير هذا، امرت ان انصبه للناس، فأقول: هذا وليكم من بعدى، وانه بمنزلة السفينة يوم الغرق، من دخل فيها نجا، ومن خرج عنها غرق ".
[53.13]
{ ولقد رآه نزلة أخرى } فى نزول اخر من عرش الرب او مرة اخرى من غير اعتبار النزول فيها فانها تستعمل فى معنى المرة من غير اعتبار معنى مادته.
[53.14]
{ عند سدرة المنتهى } اى عند سدرة الواقعة فى منتهى مقامات الامكان، وتسمية الشجرة النورية الواقعة فى منتهى المقامات بالسدرة لانها ليس عندها الا الحيرة والدهشة، والسادر هو المتحير وهى شجرة عن يمين العرش فوق السماء السابعة ينتهى اليها علم كل ملك، وينتهى اليها اعمال الخلائق من الاولين والآخرين، واليها ينتهى الارواح الصاعدة، ولا يتجاوز عنها من كان مقيدا بقيود الحدود، ولذلك قال جبرئيل فى هذا المقام: لو دنوت انملة لاحترقت، وهى شجرة طوبى، وهى شجرة النبوة كما ان فوقها شجرة الولاية.
[53.15]
{ عندها جنة المأوى } التى لا يتجاوز عنها الممكن بخلاف سائر الجنات فانها معبر غير مأوى لبعض النفوس وان كانت مأوى لبعض آخر.
[53.16]
{ إذ يغشى السدرة ما يغشى } لفظ ما فى امثال هذه الكلمة يفيد التفخيم، قيل: يغشاها الملائكة امثال الغربان، وقيل: يغشاها من النور والبهاء، وقيل: فراش من الذهب، وقيل: لما رفع الحجاب بينه وبين رسول الله (ص) غشى نوره السدرة.
[53.17]
{ ما زاغ البصر } حتى لم يكن يبصر ما هو الواقع ويكون مخطئا فى ابصاره يعنى ما زاغ بصر محمد (ص) حين رأى عند السدرة { وما طغى } وما جاوز عن حد القصد فى الابصار حتى يكون مخطئا فى الابصار.
[53.18]
{ لقد رأى من آيات ربه الكبرى } مثل سدرة المنتهى وجبرئيل على صورته التى خلق عليها، وقيل: سمع كلاما لولا انه قوى ما قوى، وقيل: رأى رفرفا اخضر من رفارف الجنة قد سد الافق، وقيل: رأى ربه بقلبه، وقيل: رأى عليا (ع) فانه الآية الكبرى التى لا اكبر منها، وروى عن النبى (ص) انه قال لعلى (ع):
" يا على ان الله اشهدك معى فى سبع مواطن وعد من ذلك ليلة الاسراء ".
[53.19-20]
{ أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى } اى اخبرونا عن هذه الآلهة التى تعبدونها يضرونكم او ينفعون؟! او هى بنات الله؟! وقيل: انهم زعموا ان الملائكة بنات الله وصوروا اصنامهم على صورهم وعبدوها من دون الله واشتقوا لها اسماء من اسماء الله فقالوا: اللات من الله، والعزى من العزيز، وقيل: ان التاء فى اللات اصلية، وقرئ اللات بتشديد التاء، قيل: كان صنما نحتوه على صورة رجل يلت السويق ويطعم الحاج، وقيل: ان اللات كان صنما لثقيف، والعزى صنم، وقيل: انها كانت شجرة يعبدها الغطفان فبعث اليها رسول الله خالد بن الوليد فقطعها، ومناة كانت صنما بقديد بين مكة والمدينة، وقيل: ثلاثتها كانت اصناما فى الكعبة يعيدونها، والثالثة نعت لمناة وكذلك الاخرى وكانتا نعتين بيانيين.
[53.21-22]
{ ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى } ذات جور، وضيزى قيل: انه فعلا مضموم الفاء سواء جعل واويا او يائيا لعدم وجود الوصف على فعلى مكسور الفاء، وقرئ بالهمزة من ضازه اذا ظلمه.
[53.23]
{ إن هي } اى الاصنام { إلا أسمآء سميتموهآ أنتم وآبآؤكم مآ أنزل الله بها من سلطان } قد سبق الآية فى سورة الاعراف مع تفاوت يسير فى اللفظ وقد سبق تحقيق لها هناك وفى سورة البقرة ايضا عند قوله تعالى:
وعلم آدم الأسمآء كلها
[البقرة:31] { إن يتبعون } فى جعل هذه الاسماء التى ليست لها حكم فضلا عن ان تكون معبودات مسميات وفى النظر اليها والسجدة لها، وقرئ تتبعون بالخطاب وبالغيبة { إلا الظن وما تهوى الأنفس } عطف على الظن ويجوز ان يكون ما نافية او استفهامية { ولقد جآءهم من ربهم الهدى } ما به الهدى واليقين فأعرضوا عنه واتبعوا الظن وما به الضلالة والمراد بالهدى الرسول وكتابه وشريعته.
[53.24]
{ أم للإنسان ما تمنى } فيكون لهم ما يتمنونه من حسن الحال فى الدنيا وحسن المآل فى الآخرة، او من شفاعة الاصنام فى الآخرة فانه لا دليل لهم على ذلك سوى تمنيهم وليس كذلك.
[53.25]
{ فلله الآخرة والأولى } الفاء للسببية يعنى اذا كان الآخرة والاولى لله فلم يكن للانسان ما تمنى بل كان ما اراد الله.
[53.26]
{ وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا } من الاغناء، او شيئا من عذاب الله { إلا من بعد أن يأذن الله } لهم فى الشفاعة { لمن يشآء ويرضى } ومن يشاء ويرضى ليس الا من تولى عليا (ع) فان ما به الرضا هو انفحة الولاية فما لهم يعبدون الملائكة من دون الله ويسمون الملائكة بما لا يرضاه الله.
[53.27]
{ إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى } فيقولون: ان الملائكة بنات الله.
[53.28]
{ وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن } ذمهم اولا على تسمية الاشرف باسم الاخس ثم على القول بعدم العلم ثم على اتباع الظن { وإن الظن لا يغني من الحق شيئا } قد فسر الحق ههنا بالعلم، او المراد به نفس الامر، او المشية، او الحق الاول تعالى، وشيئا مفعول مطلق، او هو مفعول به ومن الحق حال منه.
[53.29]
{ فأعرض عن من تولى عن ذكرنا } لما ذكر حال المشركين وانهم اعرضوا عن اليقين وتمسكوا بالظن والتخمين قال: اذا كان حالهم على هذا ولم يتوجهوا اليك والى ما به اليقين، او لم يتوجهوا الى على (ع) الذى بالتوجه اليه يحصل اليقين، فأعرض عن مجادلتهم وعن النصح والتذكير لهم، او اعرض عن مكافاتهم على سوء فعالهم، والمراد بالذكر هو ما به ذكر الله للعباد وهو العقل والقلب الذى هو طريق العقل والقرآن والرسول وصاحب الولاية وجملة الآيات الآفاقية والانفسية، او المراد ما به ذكر العباد لله وهو المذكورات مع الاذكار اللسانية والقلبية لكن المنظور الاعراض عمن انكر الولاية فانه المستحق للاعراض سواء كان قابلا للرسالة او لم يكن { ولم يرد إلا الحياة الدنيا } فان من اعرض عن القلب وصاحبه لا يكون له ارادة من جملة افعاله واقواله وعلومه الا الانتفاع فى جهة الحياة الدنيا فانه ان صلى صلى لئلا يحدث له حادثة تضره فى حياته، وان صام فكذلك، وان حصل له علم لا يكون وجه علمه الا الى الدنيا فيكون علمه جهلا مشابها للعلم.
[53.30]
{ ذلك } المبلغ اى الحياة الدنيا، او طلب الحياة الدنيا { مبلغهم } محل بلوغهم او بلوغهم { من العلم } لا يتجاوز علمهم عنها الى الآخرة { إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى } جواب سؤال فى مقام التعليل لقوله اعرض.
[53.31]
{ ولله ما في السماوات وما في الأرض } اى لله السماوات والارض وما فيهما كما مر مرارا { ليجزي الذين أساءوا } علة غائية لا عرض يعنى انك ما دمت مقبلا عليهم لم يعذب الله احدا منهم فاعرض عنهم حتى يجزى الذين اساؤا { بما عملوا } او غاية لقوله: { هو أعلم بمن ضل عن سبيله } او علة لاثبات قوله { هو أعلم بمن ضل عن سبيله } يعنى قلنا انه اعلم لما ترى انه يجزى الذين اساؤا او غاية لقوله { ولله ما في السماوات وما في الأرض } ، او علة لاثباته { ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى } بالخصلة او العاقبة او النعمة الحسنى.
[53.32]
{ الذين يجتنبون كبائر الإثم } صفة او بدل من الذين احسنوا او خبر مبتدء محذوف او مبتدء خبره جملة ان ربك واسع المغفرة بتقدير العائد، او الخبر محذوف بقرينة ان ربك واسع المغفرة اى مفغور لهم، ويكون قوله: ان ربك واسع المغفرة تعليلا له وقد مضى بيان الكبيرة والصغيرة فى سورة النساء عند قوله تعالى: ان تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه { والفواحش } عطف على كبائر الاثم او على الاثم، والفاحشة اقبح الاثم او هو الزنا { إلا اللمم } اللمم محركة صغار الذنوب التى يتنزل الانسان عن مقامه عليها ولم يكن مقامه مقام تلك الصغار من الذنوب، فانه قد مضى فى بيان الكبائر انه اذا لم يكن الانسان متمكنا فى طريق النفس فكلما صدر منه من الآثام كان صغيرة، ولم يكن مقام ذلك الانسان مقام تلك الصغيرة { إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم } جواب سؤال مقدر فى مقام التعليل لقوله تعالى ليجزى الذين اساؤا { إذ أنشأكم من الأرض } تعليل لقوله اعلم بكم او ظرف له يعنى ان كان اعلم بكم فى وقت انشائكم من الارض فكيف لا يعلم حالكم حين حياتكم الدنيوية او حين بعثكم { وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى } يعنى لا تظهروا طهارة انفسكم ولا تمدحوها عند الله وعند رسوله فانه اعلم بحالكم منكم بل اتقوا سخط الله، او اتقوا الشرك، او اتقوا الشرك بالولاية عند انفسكم فلا تظهروا تقويكم فانه اعلم بتقويكم.
[53.33-34]
{ أفرأيت الذي تولى وأعطى قليلا } قال فى المجمع، نزلت الآيات السبع من قوله: افرأيت الذى (الى سبع آيات) فى عثمان بن عفان كان يتصدق وينفق ماله فقال اخوه من الرضاعة عبد الله بن سعد بن ابى سرح: ما هذا الذى تصنع؟ يوشك ان لا يبقى لك شيء: فقال عثمان ان لى ذنوبا وانى اطلب بما اصنع رضا الله وارجو عفوه، فقال له عبد الله: اعطنى ناقتك برحلها وانا اتحمل عنك ذنوبك كلها، فأعطاه وأشهد عليه وامسك عن الصدقة، فنزلت: { أفرأيت الذي تولى } اى يوم احد حين ترك المركز، وأعطى قليلا ثم قطع نفقته الى قوله: وان سعيه سوف يرى فعاد عثمان الى ما كان عليه، وقيل: نزلت فى الوليد بن المغيرة، ونقل نظير ما نقل لعثمان، وقيل: نزلت فى العاص بن وائل السهمى، وقيل: فى رجل قال لاهله: جهزونى حتى انطلق الى هذا الرجل، يريد النبى (ص)، فتجهز وخرج فلقيه رجل من الكفار فقال له مثل ما قيل لعثمان، وقيل: نزلت فى ابى جهل وذلك انه قال والله ما يأمرنا محمد (ص ) الا بمكارم الاخلاق فذلك قوله اعطى قليلا { وأكدى } اكدى بمعنى بخل، او قل خيره، او قلل عطاءه.
[53.35]
{ أعنده علم الغيب فهو يرى } ببصيرته ان غيره يتحمل عنه ذنوبه، او يرى انه صار مطهرا من الذنوب، او يرى انه لا عقوبة عليه.
[53.36-37]
{ أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى } مبالغة فى الوفاء والايفاء والمعنى بالغ فى الوفاء بعهد الله الذى اخذ منه، وتقديم موسى (ع) لكونه اقرب الى المخاطبين المعاتبين ولكون صحفه اشهر واظهر.
[53.38-39]
{ ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } وجد، لفظة ما مصدرية، او موصولة، او موصوفة، وما ورد من انتفاع الاموات بالتصدقات والخيرات من الاحياء ليس من قبيل الانتفاع بسعى الغير بل الانتفاع بالمحبة التى دخل منهم فى قلوب الاحياء من سعيهم فى الدنيا.
[53.40-42]
{ وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه } اى يجزى الساعى بسعيه { الجزآء الأوفى وأن إلى ربك المنتهى } انتهاء الكل وانتهاء اعمالهم فيجزيهم بنفسه الجزاء الاوفى فما لهم يعبدون غيره.
[53.43]
{ وأنه هو أضحك وأبكى } اسر واحزن او انه اضحك السماء برفع الغيم وابكى السماء بالمطر.
[53.44-46]
{ وأنه هو أمات وأحيا وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى } اذا تتحول منا لدم منيا، او اذا تنزل الى الرحم.
[53.47-48]
{ وأن عليه النشأة الأخرى وأنه هو أغنى وأقنى } اى اغنى بالاموال وجعلهم مدخرين باصول الاموال وبضاعاتهم، وقيل: اقنى بمعنى اخدم، وقيل: اقنى بمعنى ارضى، وقيل: اغنى بالكفاية واقنى بالزيادة، وقيل: اقنى بمعنى حرم.
[53.49]
{ وأنه هو رب الشعرى } كوكب فى السماء كانت قريش وقوم من العرب يعبدونه.
[53.50-51]
{ وأنه أهلك عادا الأولى وثمود فمآ أبقى } منهم احدا.
[53.52-53]
{ وقوم نوح من قبل } اى من قبل عاد وثمود { إنهم كانوا هم أظلم وأطغى والمؤتفكة أهوى } اى اسقطها، والمراد بالمؤتفكة قرى قوم لوط ائتفكت باهلها اى انقلبت.
[53.54]
{ فغشاها ما غشى } بالعذاب فما لهم ينظرون الى غيره ويستمدون من غيره ويعبدون او يتبعون غيره.
[53.55]
{ فبأي آلاء ربك تتمارى } الخطاب عام او خاص بمحمد (ص) على: اياك اعنى واسمعى يا جارة، يعنى كل هذه المذكورات من النعم والنقم من آلاء ربك، لان هذه النقم ايضا نعم لمن كان بعد الماضين من الامم لاتعاظهم بالماضين ونقمهم، ففى اى نعم ربك تشك؟! او بسبب اى من الآلاء تجادل؟! والآلاء جمع الالى بفتح الهمزة وكسرها وسكون اللام، او جمع الالو بكسر الهمزة وسكون اللام.
[53.56]
{ هذا } اى محمد (ص) { نذير من النذر الأولى } سئل الصادق (ع) عنها فقال: ان الله تبارك وتعالى لما ذرأ الخلق فى الذر الاول اقامهم صفوفا قدامه وبعث الله محمدا (ص) حيث دعاهم فآمن به قوم وانكره قوم فقال الله عز وجل: { هذا نذير من النذر الأولى } يعنى محمدا (ص) حيث دعاهم الى الله عز وجل فى الذر الاول.
[53.57]
{ أزفت الآزفة } الآزفة من اسماء القيامة غلبت عليها، والتاء لتأنيث القيامة، او للنقل، او الآزفة مصدر كالكاشفة والعافية، وقرب القيامة لانها ليست فى عرض الزمان حتى يكون قربها قربا زمانيا بل هى فى الطول وبمنزلة الروح للازمان، وكما ان روح كل شيء اقرب اليه من نفسه فروح الزمان اقرب كل شيء من الزمانيات.
[53.58]
{ ليس لها من دون الله كاشفة } نفس مظهرة، او الكاشفة مصدر.
[53.59]
{ أفمن هذا الحديث } حديث الآزفة او ازف الآزفة، او القرآن، او ما تقدم من الاخبار كما ورد عن الصادق (ع) { تعجبون } انكارا.
[53.60-61]
{ وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون } سمد سمودا رفع رأسه تكبرا، وسمد الابل جد فى السير، وسمد دأب فى العمل وقام متحيرا.
[53.62]
سجدة واجبة
{ فاسجدوا لله } يعنى اذا ازفت الآزفة، فاسجدوا لله { واعبدوا } حتى تكونوا حين الورود عليه مستأنسين لا مستوحشين.
[54 - سورة القمر]
[54.1]
{ اقتربت الساعة } قد فسرت الساعة بساعة ظهور القائم (ع) وبساعة القيامة وبحالة الاحتضار والكل يرجع الى امر واحد هو وقت القيام عند الله، ولما كان رسول الله (ص) خاتم الرسل فلا يكون بعده رسول ورسالة لانتهاء مراتب الرسالة اليه فلا يكون مرتبة من الرسالة الا وهى مجتمعة فى وجوده، كان امته ايضا آخر الامم فلا يكون بعد امته امة، وقد علمت ان القيامة ليست فى عرض الزمان وانما هى فى طوله فاذا كان امة محمد (ص) آخر الامم لم يكن مرتبة زمانية بعد مرتبتهم ويكون بعد مرتبتهم الخروج من الزمان، والخروج من الزمان هو القيام عند الله فيكون القيامة قريبة من امة محمد (ص) ولذلك ورد عن النبى (ص):
" بعثت انا والساعة كهاتين "
، وكان (ص) آخر الزمان وصار بوجوده قيامة ومحشرا كما قال المولوى قدس سره:
بس محمد صد قيامت بود نقد
زانكه حل شد درفنايش حل وعقد
زاده ثانيست احمد در جهان
صد قيامت بود او اندر عيان
زو قيامت را همى برسيده اند
كاى قيامت تا قيامت راه جند
با زبان حال ميكفتى بسى
كه زمحشر حشر را برسد كسى!
بس قيامت شو قيامت را ببين
ديدن هرجيز را شرط است اين
{ وانشق القمر } القمر اسم للكوكب الذى يأخذ النور من غيره ولا يكون منيرا بنفسه، وهل فى السماء اقمار عديدة؟ او القمر منحصر فى هذا الكوكب الذى يدرك انه مستنير من الشمس؟ قيل: وجدوا غير هذا القمر اقمارا اخر، وفى العالم الصغير القلب مظهر للقمر، او القمر مظهر للقلب فان القلب ايضا يأخذ النور من الروح ويستنير بنوره، ولما كان الناس قلوبهم ذوات وجهين، وجه الى الروح وعالم الوحدة، ووجه الى النفس وعالم الكثرة، وكان المراعى منهم للطرفين قليلا والجامع لكمال الطرفين اقل حتى ان الانبياء لم يكونوا كاملين فى الطرفين بل كانوا ناقصين فى طرف الكثرة او طرف الوحدة، وكان نبينا (ص) كاملا فى الطرفين حافظا للجانبين ولذلك نسب اليه انه قال: كان اخى موسى (ع) عينه اليمنى عمياء، واخى عيسى (ع) عينه اليسرى عمياء، وانا ذو العينين، كان قلب نبينا (ص) من بينهم ذا شقين كاملين، ولما كان القمر الصورى مظهرا لقلبه كان لا غرو فى انشقاق القمر الصورى كما نسب الى معجزاته، ولما كان انشقاق القمر المعنوى الذى هو قلب النبى (ص) بشقين متساويين دليلا على انتهاء مراتب التجدد فى وجوده وابتداء الدهر فى وجوده كان دليلا على شدة قرب الساعة الواقعة فى الدهر، ولما كان انشقاق القمر الصورى دليلا على انشقاق قلب فاعله بشقين متساويين كان ذلك ايضا من اشراط الساعة،
" روى انه اجتمع المشركون الى رسول الله (ص) فقالوا: ان كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين، فقال لهم: " ان فعلت تؤمنوا؟ - قالوا: نعم، وكانت ليلة بدر فسأل ربه ان يعطيه ما قالوا، فانشق القمر فرقتين ورسول الله (ص) ينادى: يا فلان يا فلان اشهدوا " ".
[54.2]
{ وإن يروا آية } الجملة حالية والمعنى اقتربت الساعة وظهر امارتها وينبغى ان يتذكروا ويتوبوا وينيبوا ويتنبهوا بكل شيء والحال انهم مع ذلك ان يروا آية من آيات الساعة مثل بياض شعر الرأس واللحية وسقوط الاسنان وضعف نور البصر وقلة شهوة الطعام والسفاد ورخاوة الاعصاب والامراض الواردة وفوت الجيران والاقران، او آية من آيات قدرة الله وعلمه وحكمته، او آية من آياته العظمى، او آية معجزة لهم عن الاتيان بمثلها { يعرضوا } عنها { ويقولوا سحر مستمر } قوى يعلو كل سحر، وقيل: سحر ذاهب باطل، او سحر مستمر من الازمان السابقة.
[54.3]
{ وكذبوا واتبعوا أهوآءهم } قال القمى: كانوا يعملون برأيهم ويكذبون انبياءهم { وكل أمر } من التكذيب والتصديق والخير والشر والطاعة والمعصية { مستقر } فى الالواح العالية، وفى الصحف التى بايدى الكرام البررة، وفى الواح النفوس العاملة فلا يفوت شيء منا، فيكون هذا تهديدا لهم.
[54.4]
{ ولقد جآءهم من الأنبآء } اى انباء الانبياء (ع) واممهم الماضية والوقائع الواقعة بهم، او من انباء الآخرة والثواب والعقاب فانه وصل انموذجها اليهم فى وجودهم وخبرها اليهم باخبار انبيائهم { ما فيه مزدجر } انزجار من المعاصى والتكذيب.
[54.5]
{ حكمة بالغة } الى الغاية اى كاملة وهو بدل من مزدجر او خبر مبتدء محذوف اى هذه المواعظ، او هذا القرآن او ما جاءهم من الانباء حكمة بالغة { فما تغن النذر } يعنى اذا كان لا يغنى من عذاب الله تلك الحكمة البالغة التى فيها مزدجر فاى شيء تغن النذر، او فلا تغنى جميع النذر عن عذاب الله، او ما تغنى جميع النذر عنهم، او اذا لم تغن النذر فى الدنيا فما تغن النذر يوم الاحتضار او يوم القيامة، والنذر جمع النذير، او مصدر بمعنى الانذار.
[54.6]
{ فتول عنهم } يعنى اذا كانوا لا ينفعهم النذر فلا تجشم فى الدعوة وتول عنهم، او تول عنهم يوم الاحتضار حتى لا تساء بمشاهدة سوء احوالهم، او تول عنهم اذا تعرضوا لشفاعتك يوم القيامة او تول عنهم يوم القيامة لانهم يرون العذاب فى ذلك اليوم { يوم يدع الداع } قرئ باسقاط الياء اجزاء للوصل مجرى الوقف، وقرئ باثبات الياء، والداعى هو ملك الموت فى النفخة الاولى او فى النفخة الثانية، وقيل: هو اسرافيل يدعوهم الى المحشر، او الملك الذى يدعوهم الى النار { إلى شيء نكر } منكر غير مأنوس فان جميع امور الآخرة منكر لغير اهلها غير معروف، ويوم يدع الداعى ظرف لقوله: تول عنهم او ما تغن النذر او مستقر، او يخرجون.
[54.7]
{ خشعا أبصارهم } حال مقدم { يخرجون من الأجداث } الطبيعية الدنيوية، او المثالية الاخروية { كأنهم جراد منتشر } فى وجه الارض والمقصود انهم من غاية الفزع كالجراد المنتشر لا انضباط لحركاتهم ولا جهة بل يدخل بعضهم فى بعض من غير انضباط، وقيل: التشبيه بالجراد فى الكثرة.
[54.8-9]
{ مهطعين إلى الداع } اى مقبلين او مسرعين او ناظرين { يقول الكافرون هذا يوم عسر كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا } نوحا فلا تكن فى ضيق من تكذيبهم فانه ديدن لامثالهم { وقالوا مجنون وازدجر } انزجر شديدا من شيمتهم ورميهم، او انزجر بوعيدهم بالقتل.
[54.10]
{ فدعا ربه } بعد ما انزجر شديدا { أني مغلوب فانتصر } منهم بالاهلاك.
[54.11]
{ ففتحنآ أبواب السمآء } وقرئ فتحنا بالتشديد { بماء منهمر } منصب مستمر غير منقطع.
[54.12]
{ وفجرنا الأرض عيونا } تميز محول عن المفعول { فالتقى المآء } ماء السماء وماء الارض مشتملا { على أمر } هى اهلاك القوم { قد قدر } فى عالم القدر او على ميزان قدره الله من التساوى او التفاضل فى المائين او على ميزان قدره الله من مقدار ارتفاع الماء على وجه الارض.
[54.13]
{ وحملناه على ذات ألواح ودسر } وهى المسامير من الحديد او كل ما يشد به الشيء او خيوط من ليف يشد بها السفن، وقيل: هى صدر السفينة تدفع بها الماء، وقيل: هى اضلاع السفينة واصلها.
[54.14]
{ تجري بأعيننا } بحافظيتنا { جزآء لمن كان كفر } وهو نوح فان نعمة السفينة وجريها بحفظه تعالى، ونقمة القوم واهلاكهم كان جزاء لنوح وكفر قومه به.
[54.15]
{ ولقد تركناها } اى هذه الغفلة بقوم نوح او السفينة بعينها او بخبرها فى الناس { آية } يعتبر بها، او آية على قدرتنا وانتقامنا او على صدق انبيائنا { فهل من مدكر } معتبر بتلك الآية.
[54.16]
{ فكيف كان عذابي ونذر } وانذارى او هو جمع النذير.
[54.17-19]
{ ولقد يسرنا القرآن للذكر } اى للتذكر والاتعاظ بان ذكرنا فيه الحكايات المبشره والمنذرة والامثال العديدة بالفاظ واضحة الدلالة، او يسرنا القرآن بان نزلناه من مقامه العالى وادخلناه فى قوالب الالفاظ والحروف ليسهل ادراكه لكم { فهل من مدكر كذبت عاد } قوم عاد بعد قوم نوح { فكيف كان عذابي ونذر إنآ أرسلنا } جواب لسؤال مقدر عن العذاب { عليهم ريحا صرصرا } باردة { في يوم نحس مستمر } نحو ستة الى مثله، عن الصادق (ع): يوم الاربعاء يوم نحس لانه اول يوم وآخر يوم من الايام التى قال الله عز وجل
سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما
[الحاقة:7].
[54.20]
{ تنزع الناس } روى انهم كانوا يدخلون فى الشعاب ويتمسك بعضهم ببعض فكانت الريح تنزعهم وتصرعهم موتى { كأنهم أعجاز نخل منقعر } منقطع من اصولها، شبههم باعجاز النخل لانهم بعد خروج ارواحهم تصير ابدانهم كأعجاز النخل لان ارواحهم مثل اصول النخل وغصونها.
[54.21-22]
{ فكيف كان عذابي ونذر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر } كرر هذه الكلمة وسابقتها لان السورة لتهديد الكفار وترغيب المؤمنين، والتكرار فى مقام التهديد والترغيب مطلوب.
[54.23-24]
{ كذبت ثمود } من بعد عاد { بالنذر فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه } على سبيل الانكار والاستغراب { إنآ إذا لفي ضلال وسعر } جمع السعير، او بمعنى الجنون، او جمع السعر ككتف بمعنى المجنون، وعطف على فى ضلال.
[54.25]
{ أألقي الذكر } او الكتاب او الوحى او المواعظ او احكام الرسالة { عليه من بيننا } وفينا من هو احق منه بذلك { بل هو كذاب أشر } يعنى ليس ينزل عليه الوحى من بيننا بل هو كذاب اشر حمله بطره على طلب الرياسة والترفع.
[54.26]
{ سيعلمون غدا من الكذاب الأشر } وقرئ ستعلمون بالخطاب التفاتا منه تعالى من الغيبة الى الخطاب او حكاية لقول صالح لهم.
[54.27]
{ إنا مرسلوا الناقة } جواب سؤال مقدر { فتنة لهم فارتقبهم } ناظرا لحالهم الى م ترجع { واصطبر } وبالغ فى الصبر.
[54.28]
{ ونبئهم أن المآء قسمة بينهم كل شرب } اى كل نوبة { محتضر } لصاحبه لا يزاحمهم الناقة فى نوبتهم ولا يزاحمونها فى نوبتها.
[54.29]
{ فنادوا صاحبهم فتعاطى } السيف لقتلها، او تعاطى الناقة لقتلها، او تعاطى القوس، او قام على اطراف اصابع الرجلين ومد يديه لقتلها { فعقر } قيل: كمن لها فرماها بسهم فانتظم به عضلة ساقيها، ثم شد عليها بالسيف وكان يقال له: احمر ثمود واحيمر ثمود على التصغير ويضرب به المثل فى الشؤم.
[54.30-31]
{ فكيف كان عذابي ونذر إنآ أرسلنا عليهم صيحة واحدة } هى صيحة جبرئيل، او صيحة الصاعقة وقد سبق فى سورة الاعراف وغيرها قصتهم ورفع الاختلاف بين ما ورد فى اهلاكهم من الصيحة والزلزلة { فكانوا كهشيم المحتظر } المحتظر الذى يعمل الحظيرة لابله وغنمه، وهشيمه ما يجعله المحتظر حول حظيرته من خشب وحطب وغيره.
[54.32-33]
{ ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر كذبت قوم لوط بالنذر } بالرسل او بالانذار.
[54.34]
{ إنآ أرسلنا عليهم حاصبا } راميا للحصباء عليهم وكان الحاصب جبرئيل بعد ما رفع قراهم، وقيل: المراد بالحاصب الريح التى كانت تحصبهم بالحجارة، او المراد الحاصب الذى حصبهم بحجارة من سجيل مسومة عند ربك للمسرفين وهم الملائكة { إلا آل لوط نجيناهم بسحر } فى وقت سحر متعلق بنجيناهم او بحاصبا.
[54.35]
{ نعمة من عندنا } نجاة نعمة او لنعمة، او انعمنا عليهم نعمة من عندنا { كذلك نجزي من شكر } نعمنا بصرفها فيما خلقت لاجلها، او بتعظيمنا فى انعامنا.
[54.36]
{ ولقد أنذرهم } لوط { بطشتنا } سطوتنا بالعذاب { فتماروا بالنذر } تجادلوا فى النذر، او شكوا فيه، او تجادلوا، او شكوا بسبب النذر.
[54.37]
{ ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنآ أعينهم } مسخناها وسويناها بسائر الوجه، او طمسنا نورها، ورد انه اهوى جبرئيل باصبعه نحوهم فذهبت اعينهم، وورد ايضا انه اخذ كفا من تراب فضرب بها وجوههم فعمى اهل المدينة كلهم، وقد سبق قصتهم فى سورة الاعراف وهود والحجر { فذوقوا } اى فقلنا لهم ذوقوا { عذابي ونذر } اى ما انذرتم به.
[54.38]
{ ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر } فيهم غير زائل عنهم.
[54.39-41]
{ فذوقوا عذابي ونذر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ولقد جآء آل فرعون النذر } اى فرعون وآله لكن اكتفى بذكرهم لان استحقاق قوم لعذاب او ثواب باضافتهم الى شخص يدل على استحقاق ذلك الشخص بالطريق الاولى.
[54.42-43]
{ كذبوا بآياتنا } التسع { كلها } او بآياتنا الآفاقية والانفسية كلها، او بآياتنا العظمى كلها وهم الرسل { فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر أكفاركم } يا قريش او يا اهل مكة او يا ايها العرب او يا ايها الناس { خير من أولئكم } الهالكين الماضين حتى لا نعذبهم ولا نهلكهم مثلهم وليس كذلك { أم لكم برآءة في الزبر }. بل اثبت لهم فى الزبر الاولين او فى الالواح العالية والكتب التى بايدى الملائكة براءة من العذاب او من الهلكة او من النار.
[54.44]
{ أم يقولون } التفات من الخطاب { نحن جميع منتصر } بل ايعتمدون على جماعتهم وعصابتهم ويقولون: نحن متفقون ومنتصرون ممن اراد بنا سوء ولو كان المريد الله او الملائكة، ووحد منتصرا لملاحظة لفظ جميع فانه مفرد فى اللفظ كالكل وان كان معناه جمعا، وللاشارة الى ان الجماعة المتفقة تكون كالرجل الواحد، او الضمير لكل واحد اى نحن جميع ومنتصر كل واحد منا ممن يخالفنا فكيف بجماعتنا.
[54.45-46]
{ سيهزم الجمع } ان كانوا متكلين على جماعتهم والمراد انهم سيهزمون فى القيامة او فى الدنيا يوم بدر { ويولون الدبر بل الساعة } المناسب لهذا الاضراب ان يكون المراد بهزيمتهم هزيمتهم فى الدنيا يعنى انهم يهزمون فى الدنيا بل الساعة اى القيامة او ساعة الموت { موعدهم } والذى لهم فى الدنيا من العذاب انموذج من عذاب الساعة { والساعة أدهى } اشد { وأمر } بل شدة الساعة ومرارته لا تقاس بعذاب الدنيا.
[54.47]
{ إن المجرمين في ضلال } فى الدنيا { وسعر } فى الآخرة او كلاهما فى الآخرة او كلاهما فى الدنيا، ويكون المراد بالسعر الجنون.
[54.48]
{ يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر } حال او مستأنف بتقدير القول، وسقر علم لجهنم، وعن الصادق (ع) ان فى جهنم لواديا للمتكبرين يقال له سقر شكا الى الله شدة حره وسأله ان يأذن له ان يتنفس، فتنفس فأحرق جهنم.
[54.49]
{ إنا كل شيء خلقناه بقدر } بقدر مخصوص من امد بقائه واجله وكيفية بقائه، او بسبب عالم القدر، او بتقديرنا له فى عالم القدر، عن الصادق (ع) ان القدرية مجوس هذه الامة وهم الذين ارادوا ان يصفوا الله بعد له فأخرجوه من سلطانه، وفيهم نزلت هذه الآيات يوم يسحبون (الى قوله) بقدر.
[54.50]
{ ومآ أمرنآ إلا واحدة } رفع توهم نشأ من قوله كل شيء خلقناه بقدر فانه يتوهم متوهم انه اذا كان كل شيء خلقه بقدر لم يتيسر ذلك الا بعمال عديدة يكون تحت كل عامل عدة عامل، فقال: ما امرنا فى خلق العالم وجميع ما فيه الا واحدة اى فعلة واحدة، او كلمة واحدة، او نشأ من قوله بل الساعة موعدهم فانه يتوهم انه اذا كان الساعة موعدهم فليكن امد الساعة بقدر امد الدنيا بل اطول منه فقال: وما أمرنا فى الاتيان بالساعة وجمع الخلائق فيها ومحاسبتهم الا واحدة { كلمح بالبصر } فى اليسر والسرعة.
[54.51]
{ ولقد أهلكنآ أشياعكم } امثالكم من منكرى الرسالة وتوحيد الله { فهل من مدكر } متعظ بتذكر احوالهم.
[54.52]
{ وكل شيء فعلوه في الزبر } اى الالواح العالية او صحف الاعمال فلا يفوت شيء منها ومنا.
[54.53]
{ وكل صغير وكبير } من الذوات والاعمال والاعراض { مستطر } قبل خلقته فى الاقلام العالية واللوح المحفوظ والالواح القدرية، او بعد خلقته فى صحائف نفوسهم وفى صحف الكرام الكاتبين.
[54.54]
{ إن المتقين في جنات ونهر } النهر بالسكون والنهر بالتحريك مجرى الماء.
[54.55]
{ في مقعد صدق } الصدق على الاطلاق هو استقامة الانسان فى جميع ما يقتضيه انسانيته وتمكنه فيه من الخروج عن جميع الحدود والدخول فى مقام الاطلاق والاتصاف بجميع الصفات الالهية، والتمكن فى كل ذلك، واضافة المقعد الى الصدق اما من قبيل اضافة السبب الى المسبب، او المسبب الى السبب، او من قبيل لجين الماء، او بيانية، فان الصدق هو محل السكون والاطمينان للانسان، وتنكير الصدق للتفخيم وفى مقعد صدق اما خبر بعد خبر، او خبر ابتداء وفى جنات حال او متعلق بقوله فى جنات { عند مليك مقتدر }.
[55 - سورة الرحمن]
[55.1]
{ الرحمن } اقتضاء جعله آية برأسه ان يكون خبرا لمبتدء محذوف وقد مضى فى اول الفاتحة ان الرحمن اسم خاص بصفة عامة، وان الرحمة الرحمانية تقتضى وجود الاشياء بكمالاته الاولية وبقاءها، وان الرحمة الرحيمية تقتضى الكمالات الثانية اللاحقة للاشياء الصاعدة، ولما كان تعليم القرآن الذى هو افاضة الوجود الذى هو اضافته الاشراقية على جميع الموجودات، وخلق الانسان وتعليمه البيان الذى هو تمام ذاته بالنطق الذى هو فصله الاخير من اقتضاء صفته الرحمانية أتى فى اول هذه السورة بالرحمن.
[55.2]
{ علم القرآن } خبر للرحمن، او مستأنف جواب لسؤال مقدر.
[55.3-4]
{ خلق الإنسان علمه البيان } تعداد لاصول النعم التى هى ايجاد كل موجود وايجاد كمالاته الاولية وذكر خلق الانسان بعد تعليم القرآن من قبيل ذكر الخاص بعد العام للاهتمام به، وذكر تعليم البيان الذى هو الكمال الاول للانسان المندرج فى خلق الانسان للامتنان والاهتمام به، وذكر تعليم البيان الذى هو الكمال الاول للانسان المندرج فى خلق الانسان للامتنان والاهتمام بهذا البيان فان الانسان غاية اخيرة لخلق العالم، والبيان وان كان كمالا اوليا للانسان لكنه باعتبار اطلاقه غاية اخيرة للانسان.
[55.5]
{ الشمس والقمر بحسبان } اقتضاء جواز حمل السابقة والآتية على الرحمن ان يكون هذه الجملة ايضا جائزة الحمل عليه فليقدر بحسبان عنده يعنى ان خلقهما وجريانهما ليس الا بمقدار خاص وميزان مخصوص لا يتجاوزانه لان نظام العالم وانتظام معاش بنى آدم منوط بانتظامهما فكونهما بحسبان من النعم كما ان وجودهما من نعم الانسان، واذا اريد بالشمس والقمر روح الانسان ونفسه فكونهما من نعمه بل اجل نعمائه واضح.
[55.6]
{ والنجم والشجر يسجدان } النجم النبات الذى لا ساق له، والشجر ما له ساق، او المراد بالنجم كواكب السماء، وسجودهما عبارة عن انقيادهما للنفس المربية المنمية لهما، او عبارة عن سجود جهتهما الملكوتية لله وتسبيحهما بالسنتهما الملكوتية الفصيحة، او المراد بالنجم والشجر قوى النفس الانسانية من الحساسة والمحركة فانها ساجدة للنفس، وسجدتها للنفس سجدتها لله تعالى شأنه والتقدير ههنا يسجدان لله.
[55.7]
{ والسمآء } اى سماء عالم الطبع وسماء الارواح وسماء روح الانسان وسماء الولاية { رفعها } بحيث لا يبلغ ابصاركم الى ما هى عليه { ووضع الميزان } قد سبق انه لا اختصاص للميزان بذى الكفتين بل كلما يوزن ويقاس به شيء آخر هو ميزان لذلك الشيء فالميزان ذو الكفتين والقبان والكيل والزرع وخيوط البنائين وغيرها من المحسوسات التى يقاس بها اشياء اخر موازين، وشريعة كل نبى ميزان لامته كما ان ولاية كل ولى وخلافته لنبيه ميزان لاتباعه فى اعمالهم، والنفوس الانسانية والعقول المعاشية والعقول المعادية موازين للاعضاء والقوى والاعمال وتمييز الاشياء باوصافها، وميزان الكل هو الولاية بوجهها الى عالم الكثرات.
[55.8-9]
{ ألا تطغوا في الميزان } ان تفسيرية ولا ناهية او مصدرية، ولا ناهية او نافية وان كانت نافية فالخبر يكون فى معنى النهى ليصح عطف الانشاء عليه، والمراد بالطغيان فى الميزان التجاوز عن حد الاعتدال الى الافراط كما ان قوله تعالى { وأقيموا الوزن بالقسط } امر بالاعتدال، وقوله تعالى { ولا تخسروا الميزان } نهى عن التفريط فيه، نهى تعالى عن الزيادة على الوزن سواء كان للوزان او عليه، كما نهى عن البخس سواء كان له او عليه، وامر باقامة الوزن، واقامته عبارة عن تسوية طرفى الميزان، وبالقسط تأكيد لهذا المعنى، او المراد باقامة الوزن تسوية طرفى الميزان باليد، وتقييدها بالقسط للاشارة الى تسوية القلب فى ذلك.
[55.10]
{ والأرض وضعها للأنام } بسطها او هو مقابل رفع السماء ذكر بسط الارض لان اتمام نعمة رفع السماء ببسط الارض.
[55.11]
{ فيها فاكهة } الجملة حالية او مستأنفة جواب لسؤال مقدر { والنخل ذات الأكمام } الاكمام هى غلف ثمر النخل، وقيل: المراد بها طلع النخل، وقيل: ليف النخل.
[55.12]
{ والحب ذو العصف } اى الورق او التبن { والريحان } قرئ بالرفع عطفا على الحب، وبالجر عطفا على العصف، والريحان نبت معروف طيب الرائحة، او مطلق النبت الطيب الرائحة، او مطلق الرزق، اذا عرفتما ايها الثقلان هذه الآلاء التى لا يقدر على ايتاء مثلها احد سوى الله.
[55.13]
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان } روى عن الرضا (ع) انه قال:
علم القرآن
[الرحمن: 2]، الله علم القرآن قبل خلق الانسان وذلك امير المؤمنين (ع) قيل علمه البيان؟ - قال: علمه بيان كل شيء يحتاج اليه الناس، قيل: الشمس والقمر بحسبان؟ - قال: هما بعذاب، قيل: الشمس والقمر يعذبان؟ - قال: سألت عن شيء فأتقنه، ان الشمس والقمر آيتان من آيات الله يجريان بأمره مطيعان له ضوؤهما من نور عرشه وحرهما من جهنم فاذا كانت القيامة عاد الى العرش نورهما وعاد الى النار حرهما فلا يكون شمس ولا قمر وانما عناهما لعنهما الله، اوليس قد روى الناس ان رسول الله (ص) قال: ان الشمس والقمر نوران فى النار؟ - قال: بلى، قال: اما سمعت قول الناس: فلان وفلان شمس هذه الامة ونورها؟ فهما فى النار، والله ما عنى غيرهما، قيل:
والنجم والشجر يسجدان
[الرحمن: 6]؟ - قال: النجم رسول الله (ص) وقد سماه الله فى غير موضع فقال:
والنجم إذا هوى
[النجم:1]، وقال
وعلامات وبالنجم هم يهتدون
[النحل:16] فالعلامات الاوصياء (ع)، والنجم رسول الله (ص)، قيل: يسجدان؟ - قال: يعبدان، وقوله والسماء رفعها ووضع الميزان؟ - قال: السماء رسول الله (ص) رفعه الله اليه، والميزان امير المؤمنين (ع) نصبه لخلقه، قيل: الا تطغوا فى الميزان؟ - قال: لا تعصوا الامام، قيل: { وأقيموا الوزن بالقسط }؟ - قال: اقيموا الامام بالعدل، قيل: { ولا تخسروا الميزان }؟ - فاق: لا تبخسوا الامام حقه ولا تظلموه، وقوله: والارض وضعها للانام؟ - قال: للناس فيها فاكهة، { والنخل ذات الأكمام }؟ - قال: يكبر ثمر النخل فى القمع ثم يطلع منه، قوله { والحب ذو العصف والريحان }؟ - قال: الحب الحنطة والشعير والحبوب، والعصف التبن والريحان ما يؤكل منه. وعن الصادق (ع) فى تفسير قوله تعالى: { فبأي آلاء ربكما تكذبان }؟ - فباى النعمتين تكفران؟ - بمحمد (ص) ام بعلى (ع)؟ وفى خبر، ابالنبى (ص) ام بالوصى (ع)؟! ولما كان التكرار فى مقام الامتنان بتعدد النعم مطلوبا كرر قوله: { فبأي آلاء ربكما تكذبان } تقريرا لها عند المقرين بها، وتوبيخا للمكذبين بها، ولذلك ورد عن النبى (ص): انه لما قرئ هذه السورة على الناس وسكتوا ولم يقولوا شيئا، قال: الجن احسن جوابا منكم لما قرأت عليهم { فبأي آلاء ربكما تكذبان }؟ - قالوا: لا بشيء من آلاء ربنا نكذب.
[55.14]
{ خلق الإنسان من صلصال } الصلصال الطين الطيب خلط بالرمل، او الطين ما لم يجعل خزفا { كالفخار } الفخارة الجرة جمعها الفخار، او هو الخزف.
[55.15]
{ وخلق الجآن } اسم جمع للجن او هو ابو الجن { من مارج من نار } اى نار خالصة من الدخان وقد سبق فى سورة البقرة كيفية خلق الجن من النار.
[55.16-17]
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان رب المشرقين ورب المغربين } المراد بالمشرقين مشرق الشمس فى الشتاء ومشرقها فى الصيف، وهكذا مغرباها، سئل امير المؤمنين (ع) عن هذه الآية، فقال: ان مشرق الشتاء عليحدة ومشرق الصيف عليحدة، اما تعرف ذلك من قرب الشمس وبعدها؟! قال: واما قوله
رب المشارق والمغارب
[المعارج:40] فان لها ثلاث مائة وستين برجا تطلع كل يوم من برج وتغيب فى آخر فلا تعود اليه الا من قابل فى ذلك اليوم، وعن الصادق (ع): ان المشرقين رسول الله (ص) وامير المؤمنين (ع)، والمغربين الحسن والحسين (ع) قال: وفى امثالهما يجرى.
[55.18-19]
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان مرج البحرين } ارسل البحر العذب الفرات والبحر الملح الاجاج، او البحر الفاعلى والبحر القابلى ومظهرهما، ومظهرهما على (ع) وفاطمة (ع) { يلتقيان } يتلاقيان من غير امتزاج.
[55.20]
{ بينهما برزخ } من قدرة الله، او من عالم المثال، او من محمد (ص) { لا يبغيان } لا يغلب احدهما الاخر ولا يبطل خاصيته وقد مر فى سورة الفرقان بيان اجمالى للبحرين.
[55.21-23]
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان فبأي آلاء ربكما تكذبان } روى عن الصادق (ع) انه قال: على (ع) وفاطمة (ع) بحران عميقان لا يبغى احدهما على صاحبه، يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان، قال: الحسن والحسين (ع) وفى خبر والبرزخ محمد (ص)، وعن الصادق (ع) عن على (ع) يخرج منهما قال، من ماء السماء ومن ماء البحر فاذا أمطرت فتحت الاصداف افواهها فى البحر فيقع فيها من ماء المطر فتخلق اللؤلؤة الصغيرة من القطرة الصغيرة، واللؤلؤة الكبيرة من القطرة الكبيرة.
[55.24]
{ وله الجوار المنشئات } قرئ بفتح الشين بمعنى المرفوعات الشرع، وقرئ بكسر الشين بمعنى الرافعات الشرع { في البحر كالأعلام } كالجبال الطوال.
[55.25-26]
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان كل من عليها } على الارض { فان } فان الكل بحسب الحدود والمهيات فانيات الذوات، وبحسب الوجود الذى هو وجه الله الباقى باقيات.
[55.27]
{ ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } فان الوجود لا يقبل الفناء والعدم اصلا، والا لزم اتصاف الشيء بضده وانما يقبل الموجودات العدم والفناء بحسب حدودها لا بحسب وجوداتها، ومن ههنا يستنبط ان الوجودات كلها ظهور الحق الاول، وبحسب حقيقتها غير قابلة للفناء، ويستنبط ان كلها متقوم بوجود الحق الواجب تعالى شأنه.
[55.28-29]
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان يسأله من في السماوات والأرض } فانه الغنى على الاطلاق والكل محتاجون اليه سائلون عنه بألسنة فقرهم واستعدادهم وحالهم كما ان الاكثر سائلون عنه بالسنة اقوالهم { كل يوم هو في شأن } مستأنف جواب لسؤال مقدر فى مقام التعليل يعنى ليس الكامل فى كماله مستغنيا عنه وعن سؤاله كما انه ليس الناقص مستغينا عنه لانه كل يوم فى شأن فالكامل ان كان كماله بشأن او شؤن منه لم يكن كاملا بجميع شؤنه فليكن سائلا منه شؤنه الاخر.
[55.30-31]
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان سنفرغ لكم أيه الثقلان } لما دل قوله: كل يوم هو فى شأن على ان له بحسب مراتب العالم طولا وعرضا شؤنا، وان له بحسب مراتب الانسان طولا وعرضا شؤنا، وله بحسب كل من القوى الدراكة والمحركة شأنا بل شؤنا جاز ان يتوهم متوهم انه اذا كان له شؤن لم يكن له فراغ بحساب الخلائق وجزائهم بالثواب والعقاب فرد ذلك التوهم بان تلك الشؤن انما هى بحسب مراتب الكثرات وسنفرغ اى سنظهر بشأن التوحيد فى القيامة فلم يكن لنا شأن سوى حساب الخلائق وانتهائهم الى جزائهم.
[55.32-33]
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان يمعشر الجن والإنس } حال من فاعل سنفرغ او من مفعوله بتقدير القول اى قائلين او مقولا فيكم او مستأنف جواب لسؤال مقدر بتقدير القول مثل الوجه السابق كأنه قيل: ما يقال لهم وقت الفراغ لهم؟ - او نداء من الله للثقلين من غير تقدير القول وخطاب لهم فى الدنيا { إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض } يعنى ان استطعتم ان تخرجوا بالنفوذ فى اقطارهما من اقطارهما وتحتهما فارين من الله او فارين من ملائكته او خارجين من ملكه { فانفذوا } امر للتعجيز { لا تنفذون إلا بسلطان } من الله وهو وليه الذى كان واسطة بينه وبين خلقه، او الا بسلطان وهو السكينة التى ينزلها الله على من يشاء من عباده فانه اذا نزل تلك السكينة وتمكن سهل على الانسان النفوذ والخروج من اقطار السماوات والارض الى عالم الملكوت والجبروت كما نفذ محمد (ص) وخرج من الملكوت والجبروت، او المعنى ان استطعتم ان تنفذوا بقوتكم العلامة وعقولكم الفكرية من اقطار السماوات والارض لتعلموا ما وراءهما فانفذوا لا تنفذون الا بسلطان هو ولى امركم وهو سكينتكم النازلة عليكم او برهانكم الذى تستنبطون ما غاب عنكم منه، وروى انه يحاط يوم القيامة على الخلق بالملائكة وبلسان من نار ثم ينادون: { يمعشر الجن والإنس } (الى قوله) { شواظ من نار } ، وعن الصادق (ع): اذا كان يوم القيامة جمع الله العباد فى صعيد واحد وذلك انه يوحى الى السماء الدنيا، ان اهبطى بمن فيك، فيهبط اهل السماء الدنيا بمثلى من فى الارض من الجن والانس والملائكة، فلا يزالون كذلك حتى يهبط اهل سبع سماوات فتصير الجن والانس فى سبع سرادقات من الملائكة ثم ينادى مناد: { يمعشر الجن والإنس إن استطعتم } (الآية) فينظرون فاذا قد احاط بهم سبع اطواق من الملائكة.
[55.34-37]
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان يرسل عليكما شواظ من نار } الشواظ كغراب وكتاب وقرئ بهما لهب لا دخان فيه، او دخان النار وحرها، وحر الشمس، والصياح وشدة الغلة { ونحاس } النحاس مثلثة، الصفر المذاب او المطلق، وما سقط من شرار الصفر او الحديد اذا طرق وقيل: المراد به الدخان، وقيل: المراد به المهل، وقرئ بالرفع وبالجر { فلا تنتصران فبأي آلاء ربكما تكذبان فإذا انشقت السمآء } فى العالم الصغير فانه فى حال الاحتضار تنشق سماء الروح الحيوانية فتنفلق الروح الانسانية منها، واذا انشقت السماء الدنيا فى العالم الصغير انشقت السماء الدنيا فى العالم الكبير فى نظر من انشقت سماؤه فى عالمه { فكانت وردة } اى كنور النبات فى انشقاقه وانفلاق الثمر منه وعدم الاحتياج اليه او صارت احمر واصفر وابيض يعنى بالوان مختلفة كلون النور، او كلون الفرس بين الكميت والاشقر فان الوردة واحدة الورد وهو من كل شجرة نورها، وغلب على الحوجم وفرس بين الكميت والاشقر والزعفران { كالدهان } الدهان جمع الدهن او هو الاديم الاحمر او هو عكر الزيت فان الدهن اذا صب بعضها فوق بعض اختلف الوانها ودردى الزيت ايضا تختلف الوانه.
[55.38]
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان } وجواب اذا اما قوله: فكانت وردة، او قوله فباى آلاء ربكما، او قوله تعالى { فيومئذ لا يسأل }.
[55.39]
{ فيومئذ لا يسأل } او قوله يعرف المجرمون { عن ذنبه إنس ولا جآن } لما دهمه من الدهشة والغشية والحيرة التى لا يبقى معها موقع سؤال عنه وانما السؤال فى القيامة الكبرى او لا يسئل عن ذنب المذنب انس ولا جان غيره بارجاع الضمير الى المذنب المستفاد بالملازمة لا الى الانس والجان، او يوم القيامة لا يسئل عن ذنبه انس ولا جان اذا كان من شيعة على (ع) كما فى الخبر عن الرضا (ع) واما غيرهم فيسئلون، او لا يسئل عن ذنبه سؤال استفهام لان المجرم يعرف بسيماه بقرينة قوله يعرف المجرمون.
[55.40-41]
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان يعرف المجرمون بسيماهم } تعليل لقوله تعالى لا يسئل عن ذنبه على الوجه الاخير واستيناف كلام على سائر الوجوه، والمراد بالسيما العلامة التى عليهم من سواد الوجه وزرقة العيون، او ما يغشيهم من القتر والذلة { فيؤخذ بالنواصي والأقدام } يعنى فتأخذهم الزبانية فتجمع بين نواصيهم واقدامهم بالغل ثم يسحبون فى النار، او يأخذهم الزبانية بنواصيهم واقدامهم فتسوقهم الى النار، عن الصادق (ع) انه سأل بعض اصحابه ما يقولون فى هذا؟ - قال: يزعمون ان الله تعالى يعرف المجرمين بسيماهم فى القيامة فيأمر بهم فيؤخذون بنواصيهم واقدامهم فيلقون فى النار، فقال: وكيف يحتاج تبارك وتعالى الى معرفة خلق انشأهم وهو خلقهم؟ - قال: وما ذاك؟ - قال: ذاك لو قام قائمنا اعطاه الله السيما فيأمر بالكافرين فيؤخذ بنواصيهم واقدامهم ثم يخبط بالسيف خبطا.
[55.42-44]
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان هذه جهنم } حالية او مستأنفة جواب لسؤال مقدر اى يقال لهم: هذه جهنم { التي يكذب بها المجرمون يطوفون بينها وبين حميم آن } يعنى يطوفون بين ماء حار واقع بين جهنم، او قد يطوفون بين جهنم فى النار، وقد يطوفون بين ماء حار غاية الحرارة.
[55.45-46]
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان ولمن خاف مقام ربه } اى مقام ربه بالنسبة الى نفسه وانه فى مقام يراه ويسمع قوله، او مقامه عند ربه للحساب، وعن الصادق (ع) قال: من علم ان الله يراه ويسمع ما يقول ويعلم ما يعمله من خير وشر فيحجزه ذلك عن القبيح من الاعمال فذلك الذى خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى { جنتان } بحسب صفحتى النفس العمالة والعلامة احديهما وهى التى تكون بحسب صفحتها العمالة جنة النعيم والاخرى جنة الرضوان وذلك انه منع قوته العمالة عن القبيح وقوته العلامة عن الشيطنة.
[55.47-48]
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان ذواتآ أفنان } جمع الفن بمعنى الانواع من الاشجار والاثمار والنعم، او جمع الفنن بمعنى الاغصان.
[55.49-50]
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما عينان تجريان } فى كل من الجنتين عينان او فى كل منهما عين.
[55.51-52]
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما من كل فاكهة } من فواكه الجنات { زوجان } اى الرطب واليابس، او المعروف من الثمار والغريب منها، او المراد ما فيه حظ للعلامة وما فيه حظ للعمالة، فان ثمار الدنيا يلتذ بها الباصرة كما يلتذ بها الذائقة، وفى الجنان يتميز الكيفيتان بمحالهما او صنف مستقدر لمقام تقدر الانسان وصنف مجرد لمقام تجرده.
[55.53-54]
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان متكئين } حال ممن خاف مقام ربه { على فرش بطآئنها } جمع البطانة بمعنى الباطن { من إستبرق } شخين الحرير { وجنى الجنتين دان } اى الثمار التى من شأنها ان تجنى دانية من الآكلين حتى ينالها القائم والقاعد والمضطجع.
[55.55-56]
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهن } اى فى الجنان { قاصرات الطرف } على ازواجهن، او تقصر الاطراف عن النظر اليهن لتلألئهن { لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جآن } الطمث الافتضاض والمس والانس.
[55.57-58]
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان كأنهن الياقوت والمرجان } فى الصفاء والشفيف فانه روى ان المرأة من اهل الجنة يرى مخ ساقها من وراء سبعين حلة من حرير.
[55.59-60]
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان هل جزآء الإحسان إلا الإحسان } اى ما جزاء من انعم عليه بالمعرفة اى معرفة الامام الا الجنة؟ - فان الاحسان اى صيرورة الانسان ذا حسن لا يحصل للانسان الا بقبول ولاية على (ع)، وفى رواية: هل جزاء من قال: لا اله الا الله الا الجنة؟! يعنى بشرطها وعلى (ع) من شروطها، وفى خبر: هل جزاء من انعمنا عليه بالتوحيد الا الجنة؟ - يعنى بالولاية، فان التوحيد لا يحصل الا بالولاية، وفى خبر ان هذه الآية جرت فى الكافر والمؤمن والبر والفاجر من صنع اليه معروف فعليه ان يكافى به وليس المكافاة ان تصنع كما صنع حتى تربى، فان صنعت كما صنع كان له الفضل بالابتداء.
[55.61-62]
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان ومن دونهما جنتان } عطف على جنتان اى لمن خاف مقام ربه من دون الجنتين الاوليين اللتين له بحسب قوته العمالة الانسانية وقوته العلامة الانسانية جنتان بحسب قوتيه العمالة الجزئية والعلامة الجزئية، وبعبارة اخرى بحسب مرتبته الاخرى التى شارك بها سائر الحيوان وبعبارة اخرى هاتان لمقامه المقدارى وتانك لمقامه المجرد، او حال او عطف على مجموع لمن خاف مقام ربه جنتان يعنى ان لله من غير تينك الجنتين جنتين لمن دون من خاف مقام ربه.
[55.63-64]
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان مدهآمتان } اى تضربان الى السواد من خضرتهما فان حسن الخضرة ان تضرب الى السواد او من كثرة اغصان اشجارهما والتفافهما وكثرة اوراقها.
[55.65-66]
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما عينان نضاختان } نضخه رشه ونضخ الماء اشتد فورانه، والنضاخ ككتان الغزير من المطر، قيل: تنضخ على اولياء الله بالمسك والعنبر والكافور، وقيل: تنضخان بانواع الخيرات.
[55.67-68]
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما فاكهة ونخل ورمان } لعدم جمعهما بين الصنفين لم يقل: زوجان، ولعدم اشتمالهما على فواكه المقام العالى لم يقل من كل فاكهة، ولكثرة فوائد النخل والرمان افردهما بعد ذكر الفاكهة.
[55.69-70]
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهن خيرات } نساء خيرات الاخلاق من نساء الدنيا او من الحور { حسان } اى حسان الوجوه، عن الصادق (ع): هن صوالح المؤمنات العارفات، وسئل عنه من قول الرجل للرجل: جزاك الله خيرا، ما يعنى به؟ - قال: ان خيرا نهر فى الجنة مخرجه من الكوثر، والكوثر مخرجه من ساق العرش، عليه منازل الاوصياء وشيعتهم، على حافتى ذلك النهر جوار نابتات كلما قلعت واحدة نبتت اخرى يسمين باسم ذلك النهر، وذلك قوله تعالى فيهن خيرات حسان، فاذا قال الرجل لصاحبه: جزاك الله خيرا فانما، يعنى بذلك تلك المنازل التى اعدها الله لصفوته وخيرته من خلقه.
[55.71-72]
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان حور } بدل من خيرات بدل الكل على ان يكون المراد بالخيرات الحور، او بالحور معناه اللغوى حتى يشمل النساء من الانس، او عطف على خيرات بحذف حرف العاطف من قبيل التعداد { مقصورات في الخيام } اى مخدرات فى الخيام، وقيل: مقصورات الاطراف على ازواجهن، او الانظار مقصورة عنهن، وقيل: كل خيمة درة مجوفة فرسخ فى فرسخ فيها اربعة آلاف مصراع من ذهب.
[55.73-76]
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جآن فبأي آلاء ربكما تكذبان متكئين على رفرف } جمع الرفرفة وقرئ رفارف { خضر } قيل الرفرف الفرش المرتفعة، وقيل: رياض الجنة، وقيل: المجالس، وقيل: الوسائد { وعبقري حسان } قيل: هى الزرابى، وقيل: الديباج، وقيل: البسط، وقيل: كل ثوب موشى هو عبقرى، وقيل: العبقرى منسوب الى العبقر وهو اسم بلد الجن بزعم العرب، وفى القاموس: عبقر موضع كثير الجن، وقرية ثيابها فى غاية الحسن، وامرأة، والعبقرى الكامل من كل شيء والسيد والذى ليس فوقه شيء والشديد وضرب من البسط.
[55.77-78]
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان تبارك اسم ربك } اسم الرب مطلقا هو اسمه الاعظم الذى هو على بعلويته { ذي الجلال والإكرام } وقرئ ذو الجلال بالرفع وصفا للاسم فان اسمه مثله ذو الجلال الاجل من ان يوصف وذو الاكرام الاتم.
[56 - سورة الواقعة]
[56.1]
{ إذا وقعت الواقعة } اى القيامة سميت واقعة لتحقق وقوعها، او المراد بالواقعة الموت فانه ايضا متحقق الوقوع.
[56.2]
{ ليس لوقعتها كاذبة } كذب، ليس ليس جوابا لاذا للزوم الفاء ان كان جوابا فالجملة حالية او معترضة جواب لسؤال مقدر، او هو جواب اذا بتقدير الفاء.
[56.3]
{ خافضة رافعة } خبر مبتدء محذوف بتقدير الفاء وجواب لاذا، او بدون تقدير الفاء ومستأنفة جواب لسؤال مقدر، واذا لم تكن هذه الجملة وسابقتها جوابا لاذا فالجواب محذوف اى تخفض جماعة من الانس والجن وترفع جماعة او تخفض فرقة من قوى النفس وترفع اخرى، او جواب اذا قوله تعالى { فأصحاب الميمنة } (الى آخره) او جواب اذا قوله تعالى { إذا رجت الأرض رجا }.
[56.4]
{ إذا رجت الأرض رجا } بتقدير الفاء، او { إذا رجت الأرض } بدل من { إذا وقعت الواقعة } او ظرف لوقعت، او لكاذبة او لخافضة او لرافعة، والرج التحريك والتحرك والاهتزاز والحبس.
[56.5]
{ وبست الجبال بسا } البس السوق اللين وان يلت السويق او الدقيق او الاقط المطحون بالسمن او الزيت، والفت ومنه البسيس للسويق.
[56.6]
{ فكانت هبآء منبثا } الهباء الغبار الذى ينبث فى الجو ويرى فى شعاع الشمس.
[56.7-8]
{ وكنتم أزواجا } اى اصنافا { ثلاثة فأصحاب الميمنة مآ أصحاب الميمنة } ما استفهامية للتعجب والجملة خبر اصحاب الميمنة بتقدير القول.
[56.9]
{ وأصحاب المشأمة مآ أصحاب المشأمة } والاستفهام والتعجب فى الاولى للتفخيم وفى الثانية للتحقير.
[56.10-12]
{ والسابقون السابقون } هذه جملة مبتدء وخبر والمعنى السابقون على اصحاب اليمين هم المعروفون بالسبق، او السابقون على اصحاب اليمين هم السابقون على الاطلاق فى جملة الكمالات، او السابقون هم الانبياء (ع) المعروفون بالسبق، او السابقون فى الفضل هم السابقون اصحاب اليمين، او السابقون فى الايمان هم السابقون على الكل كقول الشاعر: انا ابو النجم وشعرى شعرى، او السابقون الثانى تأكيد للاول وقوله تعالى { أولئك المقربون } خبره، او بدل منه واولئك المقربون مبتدء وخبر، او موصوف وصفة فالوقف عليه، او الوقف على قوله تعالى { في جنات النعيم } فانه خبر او خبر بعد خبر، او حال، او خبر مبتدء محذوف.
اعلم، ان بنى آدم لما كانوا جامعين بالقوة لجميع انموذجات الموجودات وهذا معنى
وعلم آدم الأسمآء كلها
[البقرة:31]، كانوا اذا صاروا بالفعل فى شيء من الاشياء صاروا من جنس ذلك الشيء بحسب الباطن، ولذلك قيل: ان الانسان بحسب الصورة نوع واحد وبحسب الباطن انواع مختلفة، وان العوالم بحسب الامهات ثلاثة: عالم الارواح الخبيثة، وعالم الارواح الطيبة، والعالم الواقع بين العالمين، وهو عالم الطبائع والكيان، وان تلك العوالم بمنزلة شخص انسانى يمينه عالم الارواح الطيبة، وشماله عالم الارواح الخبيثة، والانسان الواقع بين هذين العالمين ما لم يتمكن فى شيء من العالمين بل كان حاله باقية على البرزخية بينهما لا يحكم عليه بشيء من العالمين والخارج من البرزخية المتمكن فى الارواح الخبيثة يحكم عليه بانه منهم، وانه من اصحاب الشمال واصحاب المشئمة، والمتمكن فى الارواح الطيبة يحكم عليه بانه منهم وانه من اصحاب اليمين واصحاب الميمنة، والباقى على البرزخية لا يحكم عليه بشيء بل هو المرجى لأمر الله وهم اغلب الناس، والحائز لكمالات الانسان السابق على اصحاب اليمين وهم الانبياء والاولياء (ع) هو السابق وبعبارة اخرى الانسان اما قابل للولاية او معرض عنها، او غير قابل وغير معرض، والمعرض يحكم عليه بحسب اعراضه انه من اصحاب الشمال بشرط البقاء على اعراضه، والقابل يحكم عليه بانه من اصحاب اليمين، وغيرهما مرجى لامر الله، والقابل للولاية اما صار بالفعل فى بعض الكمالات وهو السابق، او لم يصر وهو من اصحاب اليمين، وهذه القسمة بحسب كونهم فى الدنيا وفى الانظار القاصرة، والا فهم بعد الموت وطى البرازخ اما سابقون، او اصحاب اليمين، او اصحاب الشمال، وهكذا حالهم فى الانظار البالغة فى الدنيا ، فان الناظرين فى العواقب يحكمون على الانسان بكونه من اصحاب الشمال، او اصحاب اليمين، او السابقين، فالاقسام اربعة فى الدنيا عند القاصرين وثلاثة فى الآخرة وفى الدنيا عند الكاملين فى الانظار، وقد مضى فى سورة المائدة عند قوله تعالى بل يداه مبسوطتان بيان للشمال واليمين وانهما بالنسبة الى انفسهما والى العالم تسميان باليمين والشمال، واما بالنسبة الى الله تعالى فكلتا يديه يمين،
" وعن النبى (ص) انه سئل عن هذه الآية فقال (ص): قال لى جبرئيل: ذلك على وشيعته هم السابقون الى الجنة المقربون من الله بكرامته "
، وعن على (ع) قال: { والسابقون السابقون * أولئك المقربون } والسابقون السابقون اولئك المقربون فى نزلت، وعن الباقر (ع): ونحن السابقون السابقون ونحن الآخرون، وقال الصادق (ع) قال ابى لاناس من الشيعة؛ انتم شيعة الله، وانتم انصار الله، وانتم السابقون الاولون، والسابقون الآخرون، والسابقون فى الدنيا الى ولايتنا، والسابقون فى الآخرة الى الجنة.
[56.13]
{ ثلة من الأولين } اى جمع كثير منهم من الاولين فى الزمان وهم من لدن آدم (ع) الى زمان الخاتم (ص)، او من الاولين فى البيعة وقبول الولاية، او من الاولين فى الرتبة وهذا هو المقصود، فان المقصود ان كثيرا من السابقين كانوا من الاولين فى الرتبة وقليل منهم كانوا من الآخرين فى الرتبة عرجوا بعد الموت بتصادم البرازخ الى مقام الاولين ولذلك لم يقل فى اصحاب الشمال، ثلة من الاولين مع ان اصحاب الشمال جمع كثير منهم من الاولين، وقيل: ثلة من الاولين من امة محمد (ص).
[56.14]
{ وقليل من الآخرين } منهم.
[56.15]
{ على سرر موضونة } وضن الشيء ثنى بعضه على بعض وضاعفه، او نضده، او نسجه.
[56.16]
{ متكئين عليها متقابلين } فان الراحة فى الاتكاء، واشرف المجالس التقابل.
[56.17]
{ يطوف عليهم ولدان } غلمان لانهم الطف واصفى واشهى من جملة الخدم { مخلدون } اى غير خارجين من الجنات فانهم لا يخرجون منها ابدا، او مخلدون من حيث كونهم غلمانا بمعنى انهم لا يغيرهم طول المدة عن حالهم كأبناء الدنيا يغيرهم الازمان عن صفائهم وطراوتهم، او المقرطون فان الخلد القرط .
[56.18]
{ بأكواب وأباريق } الكوب بالضم كوز لا عروة له او لا خرطوم له، والابريق معرب " آبريز " كوز له عروة وخرطوم { وكأس من معين } اى الخمر الجارية، ومن معين وصف للثلاثة، او وصف للاخير، والكأس الاناء يشرب فيه او ما دام الشراب فيه، مؤنثة مهموزة، والشراب، ويجوز ان يراد بها ههنا الاناء والشراب.
[56.19]
{ لا يصدعون عنها } لا يأخذهم من تلك الكأس الصداع كخمر الدنيا { ولا ينزفون } نزف كعنى ذهب عقله، ونزف البئر نزح ماءه، ونزف البئر فنى ماؤه لازم ومتعد، ونزفت عبرته فنيت، وقرئ ينزفون مبنيا للمفعول ومبنيا للفاعل.
[56.20-22]
{ وفاكهة } اى يطوفون عليهم بفاكهة { مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون وحور عين } قرئ بالجر عطفا على اكواب، وبالرفع عطفا على ولدان، وقرئ بالنصب مفعولا لمحذوف، وقيل: فى وجه اعرابها على القراءات الثلاث وجوه اخر.
[56.23-24]
{ كأمثال اللؤلؤ المكنون جزآء بما كانوا يعملون } فى دار الدنيا.
[56.25]
{ لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما } نسبة الى الاثم كما يسمعون فى الدنيا.
[56.26]
{ إلا قيلا سلاما سلاما } سلاما الثانى تأكيد للاول، وسلاما الاول مفعول لقيلا.
[56.27]
{ وأصحاب اليمين مآ أصحاب اليمين } اى على اى وصف اصحاب اليمين؟
[56.28]
{ في سدر مخضود } خضد الشجر قطع شوكه.
[56.29]
{ وطلح منضود } الطلح شجر عظام، والطلع، وشجر الموز، وقيل: شجر له ظل بارد رطب، وقيل: هو شجر من احسن الاشجار منظرا، وانما ذكر هاتين الشجرتين لان العرب تعرفهما وفيهما نفعهم.
[56.30]
{ وظل ممدود } اى غير مقطوع.
[56.31]
{ ومآء مسكوب } مصبوب اى دائم الجريان.
[56.32]
{ وفاكهة كثيرة } ولشرافة جنات السابقين قال هناك فاكهة مما يتخيرون.
[56.33-34]
{ لا مقطوعة ولا ممنوعة وفرش مرفوعة } عالية، او مرفوع بعضها فوق بعض، او المراد بالفرش النساء اى النساء العاليات ولذلك عقبه بقوله { إنآ أنشأناهن إنشآء }.
[56.35]
{ إنآ أنشأناهن إنشآء } اى انشأنا نساءهم انشاء عجيبا اى شابة طرية حسناء بعد ما صرن هرمات كريهات، او انشأنا الحور العين من غير طرو حالات عليهن بل انشأناهن بالغات طريات.
[56.36-37]
{ فجعلناهن أبكارا عربا } جمع العروب المرءة المتحببة الى زوجها، او العاشقة له، او المتحببة اليه المظهرة له ذلك، او الضاحكة { أترابا } جمع الترب بالكسر من ولد معك.
[56.38]
{ لاصحاب اليمين } وقد فسر اليمين بامير المؤمنين (ع)، واصحاب اليمين بشيعته وذلك لانه اصل عالم الارواح.
[56.39-40]
{ ثلة من الأولين وثلة من الآخرين } اى جماعة كثيرة من الاولين فى الرتبة من اصحاب اليمين وجماعة كثيرة من المتأخرين عن اصحاب اليمين فان اغلب من كان مبتلى فى البرازخ يلتحق بأصحاب اليمين بعد تطهيره فى البرازخ، وكثير ممن دخل فى الجحيم يخرج منها ويدخل فى الجنات ويلتحق باصحاب اليمين بخلاف السابقين فان الملتحق بهم من المتأخرين قليل، وبخلاف اصحاب الشمال فانهم لا يكونون الا من المتأخرين فان الاولين لا يلتحقون بالآخرين ولذلك لم يقل هناك ثلة، او قليل من الاولين، وقيل: ههنا ما قيل فى قوله تعالى { ثلة من الأولين * وقليل من الآخرين }.
[56.41-42]
{ وأصحاب الشمال مآ أصحاب الشمال في سموم } حر نار يدخل فى المسام { وحميم } ماء متناه فى الحرارة.
[56.43]
{ وظل من يحموم } من دخان اسود او جبل اسود فى جهنم.
[56.44]
{ لا بارد ولا كريم } يلتذ به النظر وقد فسر الشمال باعداء آل محمد واصحابهم اصحاب الشمال.
[56.45]
{ إنهم كانوا قبل ذلك مترفين } متنعمين أترفته النعمة اطغته او نعمته، وأترف فلان اصر على البغى، وأترفه تركه يصنع ما يشاء ولا يمنع من تنعمه، والمترف الجبار.
[56.46]
{ وكانوا يصرون على الحنث العظيم } الحنث بالكسر الاثم والخلف فى اليمين والميل من باطل الى حق او عكسه.
[56.47-50]
{ وكانوا يقولون أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون أو آبآؤنا الأولون } قل لهم { إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم } يعنى قل لهم ذلك ردا عليهم وتهديدا لهم.
[56.51-52]
{ ثم إنكم أيها الضآلون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم } قد مضى بيان الزقوم فى سورة الصافات.
[56.53-55]
{ فمالئون منها البطون فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم } الهيم بالكسر الابل العطاش جمع الهيمان والهيمى بمعنى العطشان، او الابل التى بها داء يصيبها شبه الاستسقاء جمع الهيمان والهيمى، والهيام كسحاب الرمل الذى لا يتمالك كلما صب عليه الماء استنقعه، والهائم المتحير والهيام كغراب حالة كالجنون من العشق.
[56.56]
{ هذا نزلهم يوم الدين } النزل ما يعد للنازل تشريفا له وهو تهكم بهم وتهديد بان هذا نزلهم فكيف بهم فى منازلهم المقررة لهم؟!.
[56.57]
{ نحن خلقناكم } لا غيرنا { فلولا تصدقون } بمخلوقيتكم حتى تصدقوا بخالقكم، او لولا تصدقون ببعثكم بعد اقراركم بخلقكم ابتداء، والبعث اهون فى انظاركم من الخلق ابتداء.
[56.58]
{ أفرأيتم ما تمنون } جواب شرط مقدر والتقدير ان لم نكن نحن خلقنا فأخبرونى عما تمنون.
[56.59]
{ أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون } او الفاء للسببية، والهمزة على التقديم والتأخير والتقدير نحن خلقنا بسبب ان يقال: اخبرونى عما تمنون عن جواب هذا السؤال الذى هو انتم تخلقونه ام نحن الخالقون ولا جواب لكم الا ان تقولوا: الله هو الخالق فلولا تصدقون بخالقيتنا؟
[56.60]
{ نحن قدرنا } قرئ بالتخفيف والتشديد { بينكم الموت } لا غيرنا { وما نحن بمسبوقين } بمغلوبين.
[56.61]
{ على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون } اى فى عالم لا تعلمونه يعنى نحن شأننا وشغلنا على الاستمرار تبديل الخلق بخلق آخر واخراج الخلق الاول من قبور الابدان وانشاؤهم فى عالم آخر نظير اخراج الجنين من الرحم وانشائه فى عالم لا يعلمه وتبديله بجنين آخر ولا مانع لنا من ذلك.
[56.62]
{ ولقد علمتم النشأة الأولى } اى النشأة الدنيا وتبديلنا للنبات بنبات آخر وانشاء النبات فى نشأة الحيوان والانسان وتبديل الحيوان وانشائه فى عالم الدنيا وتبديلنا للنبات بنبات آخر وانشاء النبات فى نشأة الحيوان والانسان وتبديل الحيوان وانشائه فى عالم حيوان آخر او انسان، وتبديل النطفة من صورة الى صورة ومن مقام الى مقام ومن حال الى حال وكلما طرأ عليها من الاحوال والصور كان اعلى واشرف من سابقه، وان الدنيا ليست الا كالرحم للجنين، وان نقل الجنين من الرحم الى الدنيا ليس الا النقل من السجن الى فسحة وسيعة { فلولا تذكرون } نقلكم من الدنيا الى الآخرة ولولا تذكرون؟! ان هذا النقل ايضا ليس الا النقل من السجن الى فسحة عظيمة وسيعة فلولا تذكرون؟! انه كما يكون نقل الجنين الى الدنيا استكمالا له بكثير من الكمالات التى لا يمكن تحصيلها له فى الرحم كذلك يكون نقل جنين الدنيا من رحم الدنيا الى الآخرة استكمالا بكثير من الكمالات التى لا يمكن تحصيلها له فى الدنيا، ولولا تذكرون؟! ان عالم الآخرة نسبته الى الدنيا مثل نسبة الدنيا الى الرحم بل فوق ذلك، ولقد علمتم النشأة الاولى وكونكم فى الدنيا واتصالكم بالآخرة فى النوم الذى هو اخو الموت وشهودكم لعالم المثال كل يوم مرة او مرتين، واطلاقكم من قبوركم التى يتعسر عليكم طى الزمان والمكان معها وطيكم للزمان وشهود ما يأتى وطيكم للمكان وشهود الوقائع الواقعة فى الامكنة البعيدة فلولا تذكرون؟! ان الموت ان لم يكن اشد من النوم فى ذلك لم يكن انقص منه فتشتاقوا الى هذا الاطلاق، وطى الزمان والمكان وشهود ما يأتى وشهود ما لم يكن فى مكانك وبلدتك، عن السجاد (ع) العجب كل العجب لمن انكر النشأة الاخرى وهو يرى النشأة الاولى.
[56.63-64]
{ أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون } اى ءانتم تنبتونه وتبلغونه الى مقام بلوغ الحب والحصاد ام نحن فاعلون ذلك؟ لستم تقولون ان الانبات والتبليغ الى الحصاد فعل البشر فانه { لو نشآء لجعلناه حطاما }.
[56.65]
{ لو نشآء لجعلناه حطاما } هشيما يليق للنار { فظلتم تفكهون } فكههم بملح الكلام اظرفهم بها فالمعنى تتحدثون بالاحاديث المليحة على سبيل التهكم او ظلتم تتحدثون وتنقلون بينكم الاحاديث والاسمار فى ذلك.
[56.66]
{ إنا لمغرمون } من الغرام بمعنى الشر الدائم والهلاك والعذاب والولوع.
[56.67]
{ بل نحن } قوم { محرومون } عن الارزاق.
[56.68-69]
{ أفرأيتم المآء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون } لا تقدرون ان تقولوا انزله البشر فانا { لو نشآء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون }.
[56.70]
{ لو نشآء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون } بتعظيم المنعم بهذه النعم بامتثال اوامره ونواهيه.
[56.71-73]
{ أفرأيتم النار التي تورون أأنتم أنشأتم شجرتهآ } اى الشجرة التى تأخذون منها الزند والزندة وهما تؤخذان من الشجر الاخضر فيحك الزند بالزندة فتنقدح النار { أم نحن المنشئون نحن جعلناها } اى النار او الشجرة { تذكرة } لتصرف الحق تعالى وجعل كل شيء من سنخه كالنار، او تذكرة لقدرة الحق وعنايته بخلقه حيث اخرج من الشجر الاخضر نارا تنتفعون بها فى كثير من معايشكم { ومتاعا } وما يتمتع به { للمقوين } اقوى استغنى وافتقر وبات على القى بالكسر اى القفر من الارض وكذلك القواء بالكسر والمد والقواية بالفتح؛ واقوى نزل فيه، اذا كان ربك يفعل هذه وينعم بهذه.
[56.74]
{ فسبح } انت ولا تكترث بردهم { باسم ربك العظيم } الباء للسببية اى سبح الله بسبب اسم ربك يعنى بسبب تذكره او بسبب بشرية على (ع) او بسبب مقام نورانيته فان الكل اسم الله، او سبح اسم ربك فيكون الباء صلة سبح.
[56.75]
{ فلا أقسم بمواقع النجوم } لا زائدة او نافية رد لما قالوه فى القرآن من انه سحر او شعر او اساطير الاولين، او نافية ونفى للقسم والمعنى لا اقسم فيما أدعيه من انه قرآن كريم بوضوحه وعدم احتياجه الى القسم، ومواقع النجوم مغاربها، او مطالعها، او انتشارها يوم القيامة، او الانواء التى كانوا فى الجاهلية يقولون: امطرنا بنوء كذا وهو سقوط كوكب وقت طلوع الفجر وطلوع آخر مقابله، او رجومها للشياطين كما فى الخبر، فانه روى عن الصادق (ع) ان مواقع النجوم رجومها للشياطين، وكان المشركون يقسمون بها فقال سبحانه: فلا اقسم بها، او المراد بمواقع النجوم مواقع نزول القرآن فانه نزل نجوما.
[56.76-77]
{ وإنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه لقرآن كريم } اى ان المتلو عليك او الموحى اليك او قرآن ولاية على (ع) قرآن كريم عزيز خطير.
[56.78]
{ في كتاب مكنون } هو كتاب العقول الذى هو الامام المبين، او كتاب النفوس الكلية الذى هو الكتاب المحفوظ، فان القرآن نزل من مقام جمع الجمع الذى هو المشية الى مقام الجمع الذى هو مقام العقول الطولية او العرضية، والى مقام النفوس الكلية وثبت فى تلك المقامات اولا ثم منها الى صدر النبى (ص) ثم منه الى حسه المشترك، ثم منه الى الخارج بصورة الالفاظ والحروف، او بصورة الكتابة والنقوش وهو فى كل تلك المقامات قرآن جامع بين الوحدة والكثرة واحكام القلب والقالب والعلم والعمل.
[56.79]
{ لا يمسه إلا المطهرون } خبر وباق على خبريته فان القرآن الذى هو فى كتاب مكنون لا يصل الى حريم قدسه الا الذى تطهر من الواث المعاصى والمحرمات، وادناس التوجه الى الكثرات والانانيات، وارجاس الحدود والتعينات، ولكن لما كان التكليف مطابقا للتكوين والظاهر موافقا للباطن كان التكليف بحسب المقام البشرى ان لا يمس قالب الانسان قالب القرآن وظاهره كما ورد فى الاخبار وافتى به العلماء وقالوا: ان الخبر ههنا فى معنى النهى اى الا المطهر من الاحداث والاخباث، ولذلك نهوا عن مس خيطه وعلاقته وجلده وقرطاسه بدون الطهارة واستشهدوا بهذه الآية، وروى انه لما استخلف عمر سأل عليا (ع) ان يدفع اليهم القرآن فقال: يا ابا الحسن ان جئت بالقرآن الذى جئت به الى ابى بكر حتى نجتمع عليه، فقال: هيهات ليس الى ذلك سبيل انما جئت به الى ابى بكر لتقوم الحجة عليكم ولا تقولوا يوم القيامة: انا كنا عن هذا غافلين او تقولوا: ما جئتنا به فان القرآن الذى عندى لا يمسه الا المطهرون والاوصياء من ولدى، فقال عمر: فهل وقت لاظهاره معلوم؟ - قال على: نعم، اذا قام القائم من ولدى يظهره ويحمل الناس عليه فتجرى السنة به.
[56.80]
{ تنزيل من رب العالمين } تشريف آخر له.
[56.81]
{ أفبهذا الحديث } اى القرآن الذى هو بهذا الوصف او قرآن ولاية على (ع) او حديث انه كريم لا يمسه الا المطهرون او حديث انحصار الخلق والزرع وانزال الماء وانشاء شجرة النار فى الله تعالى { أنتم مدهنون } دهن نافق، وداهن وادهن اظهر خلاف ما فى قلبه.
[56.82]
{ وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } اى تجعلون رزقكم الانسانى الذى هو الحظ من القرآن واستمداد الحياة الانسانية منه فان القرآن رزق الانسان بعلومه واخلاقه انكم تكذبون به، او بمحمد (ص) او بالله، او تجعلون تكذيبكم شبيه رزقكم الذى لا انفكاك لكم عنه، او تجعلون القرآن الذى رزقكم الله، او سائر ارزاقكم التى رزقكم الله بها على صفة انكم تكذبون منعمها ورازقها، او تجعلون شكر رزقكم انكم تكذبون كما نقل انه اصاب الناس عطش شديد فى بعض اسفار محمد (ص) فدعا (ص) فسقوا، فسمع رجلا يقول امطرنا بنوء كذا فنزلت الآية، وروى عن امير المؤمنين (ع) انه قرأ الواقعة فقال تجعلون شكركم انكم تكذبون، فلما انصرف قال: انى قد عرفت انه سيقول قائل لم قرء هكذا، قرأتها انى قد سمعت رسول الله (ص) يقرؤها كذلك وكانوا اذا امطروا قالوا امطرنا بنوء كذا وكذا فأنزل الله (وتجعلون شكركم انكم تكذبون).
[56.83-84]
{ فلولا إذا بلغت } الانفاس او الارواح { الحلقوم وأنتم } يا من بلغت ارواحكم الحلقوم او يا اهل المحتضرين { حينئذ تنظرون } الى احوالكم وخروج ارواحكم او تنظرون حال المحتضرين وخروج ارواحهم ولا يمكنكم علاجهم ورد ارواحهم.
[56.85]
{ ونحن أقرب إليه } اى الى المحتضر { منكم } ووجه كونه اقرب ان الناس قربهم له قرب مكانى مشتمل على البينونة والفرقة والغيبة بخلاف قربه تعالى فان قربه تعالى من الاشياء قرب تقويمى قرب الفصول للانواع وهذا القرب لا يكون لشيء من الاشياء الى شيء من الاشياء الا للمقوم بالنسبة الى المتقوم فان المقوم اقرب الى المتقوم منه الى نفسه ولذلك كان تعالى اقرب الى الاشياء من انفسهم { ولكن لا تبصرون } اى لا تبصروننا او لا تبصرون قربنا.
[56.86]
{ فلولا إن كنتم غير مدينين } اى غير مجزيين او غير محاسبين او غير مملوكين فان الدين بمعنى الجزاء والذل والداء والحساب والقهر والغلبة والاستعلاء والسلطان والحكم والاكراه والملك، والكل مناسب ههنا.
[56.87]
{ ترجعونهآ } اى الروح { إن كنتم صادقين } فى تكذيبكم فانه لا ثواب ولا عقاب ولا جزاء ولا اله.
[56.88-89]
{ فأمآ إن كان } المتوفى { من المقربين } اى السابقين { فروح } قرئ بضم الراء اى فله روح او فمنه روح فان السابق مالك للكل، او فهو روح فان الكل له ومنه وهو قوامه، والروح بالضم ما به حياة الانفس ويؤنث، والقرآن والوحى وجبرئيل وملك اعظم من جبرائيل وميكائيل، اوامر النبوة وحكم الله، وبالفتح الراحة والرحمة ونسيم الريح { وريحان } الريحان نبت معروف، او كل نبت طيب الرائحة والرزق { وجنت نعيم } كأنه تعالى اشار بالروح والريحان الى المراتب العالية من الجنان ، وبجنة النعيم الى المراتب الدانية، او المراد بجنة النعيم معنى يشمل جميع مراتب الجنات على تعميم النعيم للنعيم الصورى والمعنوى، او المعنى فروح وريحان فى البرازخ وجنة نعيم فى الآخرة كما فى الخبر.
[56.90]
{ وأمآ إن كان من أصحاب اليمين } قد مضى تفسير اليمين بعلى (ع) وتفسير اصحابه بشيعته الذين باعوا البيعة الخاصة الولوية على يده، وقد مضى ايضا مكررا ان اليمين عالم الارواح، واصحاب اليمين هم الذين تمكنوا فى التوجه او الاتصال بعالم الارواح الطيبة، ولا يحصل التوجه او الاتصال بعالم الارواح الطيبة الا بالولاية الحاصلة بالبيعة الخاصة الولوية.
[56.91]
{ فسلام لك } يا محمد (ص) { من أصحاب اليمين } يعنى انهم يكونون فى الجنات مجاورين لك بحسب مراتبك الدانية ويسلمون عليك سلام التحية او سلامة لك منهم بمعنى انهم بمنزلة اجزائك ولهم السلامة من آفات الآخرة وسلامتهم سلامتك او سلام لك يا من هو من اصحاب اليمين يعنى لا يكون بعضهم شرا لبعض، او يحيى بعضهم بعضا بتحية السلام، او يا مان يتأتى منه الخطاب فان اصحاب اليمين سلامة على الكل ويحيون الكل.
[56.92-93]
{ وأمآ إن كان من المكذبين الضآلين فنزل من حميم } الماء الحار البالغ فى الحرارة اى لهم ذلك معدا لهم كما يعد للنازل تشريفا له.
[56.94]
{ وتصلية جحيم } وادخال النار.
[56.95]
{ إن هذا } المذكور من الاصناف الثلاثة وجزاءهم { لهو حق اليقين }.
اعلم، ان الشيء المتيقن له ثلاث احوال: فان المدرك المتيقن اما متيقن فى مقام العلم، او فى مقام الشهود بمعنى ان المدرك كان مشهودا له ببصره او بصيرته، او فى مقام التحقق بمعنى ان المدرك كان متحققا بالمدرك وصار ذاته مثاله المتيقن بالنار بادراك الدخان الذى هو من آثارها او بشهودها، او بصيرورته عين النار، والاول هو علم اليقين، والثانى عين اليقين، والثالث حق اليقين، والاضافة من قبيل اضافة السبب الى المسبب، او المسبب الى السبب، والمعنى ان هذا لهو متحقق وواقع ومورث بآثاره لليقين او حاصل من اليقين به.
[56.96]
{ فسبح باسم ربك العظيم } قد مضى هذه الآية قبيل هذا.
[57 - سورة الحديد]
[57.1]
{ سبح لله ما في السماوات والأرض } قد مضى فى سورة بنى اسرائيل بيان تسبيح الاشياء عند قوله:
وإن من شيء إلا يسبح بحمده
[الإسراء: 44]، ومضى مكررا ان المقصود من التسبيح من اى شيء كان هو تنزيه لطيفته الالهية ووجهته الربانية من نقائص المادة وحدودها فان كل موجود مما له قوة واستعداد بفطرة ذاته يخرج من القوة الى الفعلية، ومن النقص الى الكمال، ومن الحدود الى الاطلاق بالاضافة الى مراتبه الناقصة، وهذا الخروج هو تسبيحه الفعلى ولما كان تلك الوجهة الالهية بوجه ربه وبوجه اسم ربه وبوجه مظهر الله وبوجه شيئية ذلك الشيء وذاته كان المقصود من التسبيح سواء علق على الله او على الرب او على اسم الرب هو تنزيه تلك اللطيفة، واللام فى الله زائدة للتقوية، والله مفعول به لسبح او للتعليل، ومفعوله محذوف، ولفظ سبح مأخوذ من سبحان الله بطريق المشتقات الجعلية اى قال سبحان الله، او هو من التسبيح بمعنى نزه الله، والاختلاف بالمضى والمضارعة فى تلك السور للاشعار بان التسبيح فطرى للاشياء غير مقيد بزمان دون زمان ولتجديد نشاط السامع والتفنن فى العبارة، والاتيان بالمصدر فى بنى اسرائيل للاشعار بانه تعالى منزه فى ذاته سبحه مسبح ام لم يسبحه { وهو العزيز } الغالب الذى غلبته تقتضى تسبيح كل شيء فان الغالب يتوجه كل شيء اليه ويعظمه وينزهه من كل نقص { الحكيم } الذى اتقن صنع كل شيء بحيث لا يوجد شيء الا وهو مسبح له ولاتقان صنعه لا يشعر احد بتسبيح شيء من الاشياء ولو اشعر هلك او جن ما لم ينفتح سمعه الملكوتى.
[57.2-3]
{ له ملك السماوات والأرض } وجه آخر لتسبيح كل شيء له { يحيي } على الاستمرار فى كل آن جمعا بنفخ الحياة الحيوانية فى الاجنة { ويميت } على الاستمرار جمعا من الحياة الحيوانية، او يحيى على الاستمرار نفوسا بالحياة الانسانية بنفخ النفخة الولوية فيهم ويميت نفوسا عن الحياة الانسانية، او يحيى بالحياة البرزخية ويميت عن الحياة الحيوانية، او يحيى الاراضي بالنبات، والنبات بالماء والنضارة والطراوة والحيوان بالحياة الحيوانية، والانسان بالحياة الانسانية، ويميت كل ذلك بالموت المناسب له، او يحيى كل شيء باخراجه من القوى والاستعدادات على الاستمرار ويميت ذلك الشيء عن الفعليات الناقصة، وهذا اوفق بتسبيح الاشياء كأنه قال: سبح لله ما فى السماوات وما فى الارض بالخروج من القوى الى الفعليات، والمخرج هو الله لانه يحيى بالفعليات ويميت عن النقائص { وهو على كل شيء } من الاماتة والاحياء وغير ذلك { قدير هو الأول والآخر } اى هو الاول فى تركيب الموجودات وهو الآخر فى تحليلها نظير الوحدة فى الاعداد وللاشارة الى هذا ورد: يا من لك وحدانية العدد، فان مراتب الاعداد كلها تركيبها من الوحدة لا غير، وتحليلها الى الوحدة لا غير، وبهذا اللحاظ قال تعالى { والظاهر والباطن } فان مراتب الاعداد ظواهرها وبواطنها ليست الا الوحدة وما به التميز بين المراتب ليس الا اعتباريا عدميا، او المعنى هو الاول بلحاظ المراتب واعتبار حيثية العلية والمعلولية فانه تعالى بهذا اللحاظ اول العلل الفاعلية وآخر العلل الغائية لانه مسبب الاسباب وعلة العلل وغاية الغايات ونهاية النهايات، او المعنى هو الاول فى الادراك فان الظاهر على المدارك اولا هو الوجود الذى حقيقته الحق الاول تعالى والآخر فى الادراك بمعنى ان المدرك كلما ميز مدركاته بعض اجزائها من بعض لم يجد المدرك فى الحقيقة الا الاول تعالى شأنه فكان آخر المدركات هو الاول تعالى وبهذا المعنى قال تعالى والظاهر والباطن يعنى ان المدرك من الاشياء اولا هو الاول تعالى لانه الظاهر من كل الاشياء، والمدرك من الاشياء آخرا هو ايضا لانه الباطن من كل شيء، والباطن المختفى من الادراك المدرك بالتعمل من الاشياء، او هو اشارة الى ما يقوله الصوفية من مقام التوحيد الذى يظهر لبعض السالكين بطريق الحال، ولبعض بنحو المقام، ولا يجوز التفوه به لاحد ما لم يصر ذلك التوحيد حالا او مقاما له، واذا صار حالا للسالك لا يجوز التفوه به له حين زواله، واذا لم يكن ذلك التوحيد حاله او مقامه فتفوه به كان مباح الدم وهو ان يتجلى الله للسالك باسم الواحد او الاحد فلا يرى فى الوجود الا الواحد او الاحد فلا يرى اولا ولا آخرا ولا علة ولا معلولا ولا ظاهرا ولا باطنا ولا صاعدا ولا نازلا ولا مدركا ولا مدركا بل يرى كل ذلك اعتبارات من النفوس المحجوبة عدميات لا حقية ولا حقيقة لها فيكون المعنى هو الاول من غير اعتبار اولية له، وهو الآخر من غير اعتبار آخرية له، وهو الظاهر والباطن كذلك يعنى ليس شيء وشيء ولا اعتبار واعتبار فى دار الوجود، والى هذا المقام كانت الاشارة فى هذا الشعر:
حلول واتحاد اينجا محال است
كه در وحدت دوئى عين ضلال است
وكلما ذكروا نثرا ونظما من هذه المقولة كان اشارة الى هذا المقام او ناشئا منه، والى عدم جواز التفوه بهذا الوحدة وعدم جواز اعتبارها لغير من كانت حاله او مقامه قيل:
آلا تابا خودى زنهار زنهار
عبارات شريعت را نكهدار
{ وهو بكل شيء عليم } بمنزلة قوله تعالى: وهو بكل شيء محيط فان علمه عين ذاته ولاحاطته بكل الاشياء كان اولا وآخرا وظاهرا وباطنا من الجميع.
[57.4]
{ هو الذي خلق السماوات والأرض } هذه الجمل كلها مستأنفة واجوبة لاسئلة مقدرة اذا لم تكن مع العاطف او حالية { في ستة أيام ثم استوى على العرش } قد مضى هذه الآية مع بيانها فى سورة الاعراف { يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السمآء وما يعرج فيها } قد مضى الآية ببيانها فى اول سورة السبا { وهو معكم أين ما كنتم } معية قيومية لازمة لرحمته الرحمانية فانه تعالى بوجوده الفعلى كل الاشياء وقوامها وفعليتها واولها وآخرها وظاهرها وباطنها وهو تهديد وترغيب { والله بما تعملون بصير } تتميم للتهديد والترغيب.
[57.5-6]
{ له ملك السماوات والأرض } تأكيد فى مقام المدح فان التأكيد والتكرير مطلوب فى مقام المدح والرضا، وفى مقام الذم والغضب، والاول فى مقام التعليل لتسبيح الاشياء والثانى فى مقام التعليل لاحاطة علمه بالاشياء وتتميم لتهديده وترغيبه { وإلى الله ترجع الأمور يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل } قد مضى الآية فى سورة آل عمران { وهو عليم بذات الصدور } من النيات والخطرات والخيالات والحالات والسجيات، او من القوى والاستعدادات التى لا خبر لصاحبى الصدور عنها.
[57.7]
{ آمنوا بالله ورسوله } بمنزلة النتيجة للسابق كأنه قال: اذا علمتم ذلك فلا عذر لكم فى الانصراف عن الله وعن رسوله (ص)، او لا عذر لكم فى الانصراف عن الله ورسوله (ص) فى الخروج عن قولهما فى ولاية على (ع) فآمنوا بالله وصدقوه فيما قاله لكم من مطلق الاوامر والنواهى، او فيما قاله لكم من ولاية على (ع) وآمنوا برسوله (ص) بالبيعة العامة او البيعة الخاصة، او صدقوه فيما قاله لكم من الاحكام او من ولاية على (ع)، ولما كان الخطاب من الله تعالى عاما للموجودين المسلمين وغير المسلمين والمعدومين فكان لفظ آمنوا ايضا عاما وشاملا للاذعان والتصديق والبيعة الاسلامية العامة والبيعة الايمانية الخاصة كأنه قال: ايها الكفار والمستعدون للاسلام من الموجودين والمعدومين آمنوا بالله ورسوله (ص) بالبيعة العامة على يد رسوله (ص) وايها المسلمون اذعنوا وصدقوا الله ورسوله (ص) فيما قال الرسول (ص) لكم من مطلق الاحكام او ولاية على (ع) وآمنوا بالبيعة الخاصة الولوية بالله ورسوله (ص) على يد رسوله (ص) او على يد خليفته، وقد مضى فى اول البقرة معانى الايمان { وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه } من الاموال الدنيوية والاعراض والحشمة والاعضاء والقوى ومن نسبة الافعال والاوصاف الى انفسكم ومن انانياتكم وللاشعار بان مالكم من جميع ذلك انما هو عارية لكم وشأن العارية ان يسترد حتى يسهل عليكم انفاقه قال مستخلفين { فالذين آمنوا } بالبيعة العامة او البيعة الخاصة { منكم وأنفقوا لهم أجر كبير } وعد الاجر الكبير للاشعار بان المنظور من الايمان البيعة الخاصة الولوية فان الاجر الكبير ليس الا على الولاية الحاصلة بالبيعة الخاصة.
[57.8-10]
{ وما لكم لا تؤمنون بالله } لا تذعنون او لا تسلمون بالبيعة العامة النبوية او لا تؤمنون بالبيعة الخاصة الولوية { والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم } المطلق الذى هو رب الارباب، او بربكم فى الولاية وهو على (ع) { وقد أخذ } الله { ميثاقكم } فى عالم الذر بالايمان بالله او بالبيعة مع محمد (ص) او بالبيعة مع على (ع) وقد اخذ الرسول (ص) ميثاقكم بعدم التخلف عن قوله فى البيعة العامة، وقرئ بالبناء للمفعول { إن كنتم مؤمنين } اى مصدقين مذعنين او بائعين البيعة العامة الاسلامية وجوابه محذوف بقرينة السابق اى ان كنتم مؤمنين فما لكم لا تؤمنون بعلى (ع) بالبيعة الخاصة الولولية وقد اخذ الرسول (ص) ميثاقكم على عدم التخلف عن قوله { هو الذي ينزل على عبده } الذى هو الرسول (ص) الداعى لكم الى الايمان بعلى (ع) { آيات بينات } من الآيات القرآنية والمعجزات النبوية { ليخرجكم من الظلمات إلى النور } اى من ظلمات المادة والشبهات والشكوك والاهوية والتعلقات الى نور التجرد واليقين والاطلاق من الاهوية والتعلقات { وإن الله بكم لرءوف رحيم وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله } حالكونكم فى سبيل الله الذى هو الجهاد، او سبيل الحج او سبيل الهجرة الى الرسول (ص) او الى الامام، او حالكونكم فى طريق القلب والسلوك اليه والى الله، او ما لكم ان لا تنفقوا فى تحصيل سبيل الله وهو الولاية وطريق القلب، او ما لكم لا تنفقون فى تعظيم سبيل الله وهو كل خير من العبادات والجهاد والحج، او هو الرسالة، او الولاية { ولله ميراث السماوات والأرض } جملة حالية فى موضع التعليل، واضافة الميراث اما بيانية او بتقدير فى او بتقدير اللام فان سماوات الارواح وما فيها واراضى الاشباح وما فيها ميراث مقام المشية يرثها الانسان الكامل والعقول من المشية، ويرثها ما بعد العقول من العقول، وما بعد النفوس من النفوس، وما بعد عالم المثال من عالم المثال، والكل من الله تعالى، والمواليد المكونة ميراث ومتخلف من الكملين من بعض لبعض، والاموال العرضية الدنيوية ميراث من بنى آدم من بعض الى بعض فما بال ما كان لله لا تنفقون منها بأمره تعالى { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل } ومن انفق من بعد الفتح وقاتل فحذف القرين بقرينة ما يأتى .
الانفاق قبل الفتح
اعلم، ان الفتح يطلق على النصر والظفر، وعلى اعطاء الله الغنائم الدنيوية او الاخروية الذى هو لازم الظفر وفتح البلاد وفتح باب القلب وعلى فتح البلاد وعلى فتح باب القلب، والمخاطبون كانوا مسلمين مقصورا همم اكثرهم على الظفر على الاعداء وفتح البلاد وجمع الغنائم الدنيوية، ومؤمنين مقصورا همم اكثرهم على فتح باب القلب وجمع الغنائم الاخروية، وآيات القرآن منزلة على مراتب حالات الناس بكثرتها وسعتها، واختلاف التفاسير الواردة من المعصومين (ع) باعتبار اختلاف احوال الناس، وسعة وجوه القرآن بحسب سعة احوال الناس فصح ان يقال: لا يستوى منكم من أنفق من قبل النصر والظفر، او من قبل الغنائم الدنيوية او الاخروية، او من قبل فتح البلاد للمسلمين او من قبل فتح مكة وان يقال: لا يستوى منكم من أنفق من قبل فتح باب القلب الى الملكوت ومن أنفق بعد قوة المسلمين وغلبتهم، وحين كثرة الغنائم وقوة رجاء تعاقبها وتعاقب فتح البلاد، وحين انفتاح باب القلب وشهود ما لا عين رأت ولا اذن سمعت، فان الانفاق والمقاتلة قبل ذلك لا يكونان الا عن قوة اليقين وثبات القلب وقوة الشجاعة والسخاوة، واما بعد الحضور فلا يبقى عدو وقوى حتى يكون المقاتلة صعبا ولا يبقى ميل ومحبة الى ماله من الاموال والقوى والانانيات لوجدان العوض الاشرف الاعلى الابهى حتى يكون الانفاق صعبا، فالمنفق والمقاتل حين ضعف المسلمين كان اعظم درجة لكونه اقوى يقينا والمنفق والمقاتل فى الغياب البتة اعظم اجرا من المنفق والمقاتل فى الحضور، وقيل: لا يستوى منكم من انفق من قبل فتح الرسول (ص) بسبب المعراج فانه (ص) بعد المعراج كان اقوى تأثيرا، ومن أنفق قبل المعراج كان كالتى يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، ونعم ما قال المولوى رضوان الله عليه فى بيان هذه الآية:
يؤمنون بالغيب مى بايد مرا
زان ببستم روزن فانى سرا
ليك يك درصد بود ايمان بغيب
نيك دان وبكذ راز ترديد وريب
بندكى درغيب آيد خوب وكش
حفظ غيب آيد دراستبعاد خوش
قلعه دارى كز كنار مملكت
دور از سلطان و سايه سلطنت
باس دارد قلعه را ازدشمنان
قلعه نفروشد بمال بى كران
نزد شه بهتر بود از ديكران
كه بخدمت حاضر ندوجان فشان
بس بغيبت نيم ذره حفظ كار
به كه اندر حاضرى زان صد هزار
{ أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى } المثوبة الحسنى او العاقبة الحسنى { والله بما تعملون خبير } فلا حاجة لكم فى اعمالكم الى الحضور.
[57.11]
{ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم } يعنى فيرده اليه مضاعفا وكان له اجر كريم لا امتنان فيه ولا قصور ولا زوال، وقد مضى الآية ببيانها فى اواخر البقرة، عن الكاظم (ع): نزلت فى صلة الامام، وفى رواية: فى دولة الفساق.
[57.12-13]
{ يوم ترى المؤمنين } ظرف ليضاعفه او للخبر فى قوله تعالى له اجر كريم او لكريم، او ظرف ليقال المقدر عند قوله تعالى بشريكم اليوم او ظرف ليسعى والمعنى كلما ترى المؤمنين { والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم } يعنى انك فتحت بصيرتك فيوم ترى المؤمنين تريهم يسعى نورهم بين ايديهم والمراد بهذا النور هو الكيفية الداخلة فى قلب البائع البيعة الخاصة الولوية بقبول الولاية وهو فعليته الاخيرة ولذلك يصير ابنا لمن باع معه وقد يرى فى الواقعة بصورة من باع على يده، وقد يرى بصورة ولده من صلبه وتلك الكيفية ليست كيفية عرضية بل هى صورة جوهرية نازلة من ولى امره داخلة فى قلبه وقوله تعالى:
ولما يدخل الإيمان في قلوبكم
[الحجرات:14] اشارة الى تلك الصورة، وتلك الصورة لا ترى بالابصار الحسية، وترى بالبصيرة فى الدنيا والآخرة، وفى البرازخ والآخرة يخلص تلك الصورة من غواشى المادة ويخلص البصيرة لكل احد من حجاب البصر فيشهدها كل احد ويشهدها صاحب النور ايضا فيرى تلك الكيفية بصورة امامه يسعى بين يديه، واختيار بين الايدى والايمان لان تلك الصورة نورانية يستنير منها كلما تظهر عليه، وخلف المؤمن الدنيا الظلمانية، وشماله الملكوت السفلى التى هى اظلم ولا مناسبة للنورانى مع الظلمانى، وقدامه عالم الغيب الذى هو نور محض، ويمينه عالم الارواح الطيبة الذى هو ايضا نورانى، وقد يظهر ذلك النور على السالك اذا اشتد محبته واستقام فى سلوكه ومات بالموت الاختيارى، وهذا هو الذى يقوله الصوفية من انه ينبغى للسالك ان يكون اهتمامه فى سلوكه بحصول حال الحضور، وها هو معرفة على (ع) بالنورانية التى هى معرفة الله، وهذا هو المسمى بالحضور والسكينة والفكر، وهذا هو ذكر الله الحقيقى { بشراكم اليوم } اى تقول او يقول الملائكة او يقال بشريكم اليوم { جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها } قد مضى فى آخر آل عمران بيان جريان الانهار من تحت الجنات { ذلك هو الفوز العظيم يوم يقول المنافقون } بدل من يوم ترى المؤمنين او من اليوم { والمنافقات للذين آمنوا انظرونا } انظروا الينا او انتظروا لنا { نقتبس من نوركم } ولمأ لم يكن بين المؤمنين ونورهم وبين المنافقين مناسبة { قيل ارجعوا ورآءكم } كما كنتم فى الدنيا راجعين الى ورائكم { فالتمسوا نورا } قيل ذلك لهم استهزاء { فضرب بينهم بسور } حائط { له باب باطنه } اى باطن الباب او باطن السور { فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب } فان السور هو الحجاب الحاجز بين الملكوت السفلى والملكوت العليا، وباطنه الى الملكوت العليا وفيها الرحمة والرضوان، وظاهره الى الملكوت السفلى وفيها الجحيم ونيرانها وانواع عذابها.
[57.14]
{ ينادونهم } اى ينادى المنافقون والمنافقات الذين آمنوا { ألم نكن معكم } فى الانسانية، او فى الاسلام والبيعة العامة، او فى الايمان والبيعة الخاصة { قالوا بلى } كنتم معنا فى ظاهر الاسلام وفى ظاهر الايمان { ولكنكم فتنتم } الفتنة اعجابك بالشيء واذابة الذهب والفضة والاضلال والايقاع فى الفتنة { أنفسكم وتربصتم } بمحمد (ص) او بالمؤمنين الدوائر { وارتبتم } فى دينكم وما كنتم فيه معنا { وغرتكم الأماني } عن طلب الآخرة والعمل لها { حتى جآء أمر الله } بقبض ارواحكم { وغركم بالله الغرور } اى الشيطان حيث قال ان الله كريم وزمان التوبة وسيع.
[57.15]
{ فاليوم لا يؤخذ منكم فدية } لو كان لكم الفدية ولا فداء لكم { ولا من الذين كفروا } ظاهرا وباطنا { مأواكم النار هي مولاكم } الذى يلى امركم فانها ملكتكم ولا تصرف لغيرها فيكم { وبئس المصير } النار.
[57.16]
{ ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله } لما ذكر حال المنافقين ونور المؤمنين وكان النفاق ينشأ من الوقوف على مرتبة والرضا بالمقام فيها استبطأ حركة المؤمنين الى مقاماتهم العالية بنحو يكون تحذيرا من المقام على مراتبهم الحاصلة فان الاستفهام ههنا للتوبيخ والانكار، وقد مضى فى سورة البقرة بيان معنى الخشوع والفرق بينه وبين الخضوع والتواضع عند قوله تعالى:
وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين
[البقرة:45]، والمراد بذكر الله هو الذكر المأخوذ من صاحب الذكر، او تذكر الله وتذكر عظمته، او صاحب الذكر الذى هو على (ع) ببشريته، او هو صاحب الذكر بمقام نورانيته { وما نزل من الحق } من آيات القرآن، او احكام الرسالة، او قرآن ولاية على (ع)، او الواردات الآفاقية، او الانفسية { ولا يكونوا } قرئ بالغيبة ويكون نفيا وعطفا على تخشع او نهيا وعطفا على الم يأن باعتبار المعنى كأنه قال: لا يقف المؤمنون على مقامهم ولا يكونوا، وقرئ بالخطاب نفيا وعطفا على تخشع ويكون التفاتا من الغيبة ونهيا وعطفا باعتبار المعنى ويكون التفاتا والتقدير لا يقفوا ولا يكونوا { كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد } الزمان اى طال زمان وقوفهم على مقامهم الحاصل لهم من دون الترقى الى المقامات المفقودة عنهم { فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون } يعنى صار كثير مهم منافقين فصاروا فاسقين خارجين من حكم امامهم، روى عن الصادق (ع) ان هذه الآية يعنى ولا تكونوا فى القائم (ع) والمعنى انها نزلت فى المؤمنين بالغيبة فان الله حذرهم ان يصيروا بسبب الوقوف على مقام واحد وعدم الخروج الى المقامات العالية منافقين مثل المنافقين الذين كانوا فى زمان محمد (ص) ونافقوا بسبب الوقوف وعدم الخروج، فانهم اوتوا كتاب النبوة وقبلوها قبلهم.
[57.17]
{ اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها } كأنه بعد ما حذرهم عن الوقوف ووبخهم عليه يئس جمع من الواقفين عن الرحمة وقالوا: فما لنا الا قساوة القلوب فقال رفعا ليأسهم وترجيحا بجانب الرجاء: اعلموا ان الله يحيى ارض قلوب المؤمنين بذكر الله فى الدنيا او بنور الامام فى الآخرة فلا تيأسوا من روح الله، عن الباقر (ع) انه قال: يحييها الله تعالى بالقائم بعد موتها { قد بينا لكم الآيات } التدوينية والآيات الآفاقية والانفسية { لعلكم تعقلون } تصيرون عقلاء، او تدركون ادراكا عقلانيا، او تدركون بعقولكم ان الوقوف مورث للقسوة، وان الذكر جلاء للقلوب ومورث للخشوع.
[57.18-19]
{ إن المصدقين والمصدقات } قرئ بتشديد الصاد من التفعل بمعنى الذين يعطون الصدقات، وقرئ بتخفيف الصاد من التفعيل بمعنى الذين صدقوا الله ورسوله { وأقرضوا الله } جملة حالية او معترضة او معطوفة على صلة الالف واللام، وعلى اى تقدير هو تقييد للتصدق ان كان بمعنى الانفاق المطلق، او تأكيد له ان كان بمعنى الانفاق لوجه الله، او يكون المراد بالتصدق الانفاق على الفقراء، وباقراض الله صلة الامام (ع)، وعلى قراءة تخفيف الصاد يكون عطفا وبمنزلة ان يقال: ان الذين آمنوا وانفقوا، وعلى قراءة تشديد الصاد يكون قوله: ان المصدقين والمصدقات واقرضوا الله { قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم أجر كريم } بمنزلة ان الذين يعطون الزكاة وبيانا لجزاء الانفاق ويكون قوله { والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون } بيانا لجزاء الايمان وبعبارة اخرى ان المصدقين بيان لجزاء القوة العمالة وان الذين آمنوا بيان لجزاء القوة العلامة، وبعبارة اخرى الاول بيان لجزاء الزكاة، والثانى بيان لجزاء الصلاة وترجيح لجانب القوة العلامة والصلاة على القوة العمالة والزكاة فان قوله تعالى اولئك هم الصديقون { والشهدآء عند ربهم } لحصر كمال الصدق والشهادة فيهم وقوله تعالى { لهم أجرهم ونورهم } تفخيم لاجرهم ونورهم باضافتهما اليهم بمعنى ان اجرهم لا يمكن معرفته الا باضافته اليهم، وقيل: ان الشهداء مبتدء وخبره لهم اجرهم، وعن الباقر (ع) انه قال: العارف منكم هذا الامر المنتظر له المحتسب فيه الخير كمن جاهدوا لله مع القائم (ع) بسيفه ثم قال: بل والله كمن جاهد مع رسول الله (ص) بسيفه، ثم قال الثالثة: بل والله كمن استشهد مع رسول الله (ص) فى فسطاطه، وفيكم آية من كتاب الله قيل: واى آية؟ - قال: قول الله والذين آمنوا بالله ورسله (الآية) ثم قال: صرتم والله صادقين شهداء عند ربكم، والاخبار الواردة بهذا المضمون يعنى تخصيص الصديقين والشهداء بشيعتهم كثيرة، وفى هذا الخبر غنية عن نقلها، وروى عن امير المؤمنين (ع) انه لما قتل يوم النهر وان الخوارج قام اليه رجل، فقال: يا امير المؤمنين (ع) طوبى لنا اذ شهدنا معك هذا الموقف وقتلنا معك هؤلاء الخوارج، فقال امير المؤمنين (ع): والذى فلق الحبة وبرأ النسمة لقد شهدنا فى هذا الموقف اناس لم يخلق الله آباءهم ولا اجدادهم بعد، فقال الرجل: وكيف شهدنا قوم لم يخلقوا؟ - قال: بل قوم يكونون فى آخر الزمان يشركوننا فيما نحن فيه ويسلمون لنا فاولئك شركاؤنا فيه حقا حقا { والذين كفروا وكذبوا بآياتنآ أولئك أصحاب الجحيم } مقابل الذين آمنوا بالله ورسله.
[57.20]
{ اعلموا } ابتداء كلام منقطع عن سابقه وتزهيد عن الحياة الدنيا ولوازمها، وترغيب فى الآخرة والانفاق وتسهيل له { أنما الحياة الدنيا لعب ولهو } اللعب ما له غاية خيالية غير عقلية، واللهو ما لم يكن له غاية خيالية مدركة مشعورا بها وان كان لا يجوز ان يكون فعل المختار بلا غاية، والتقدير اعلموا ان متاع الحياة الدنيا او حاصل الحياة الدنيا لعب ولهو { وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد } اى تغالب فى ذلك ولا يبقى للعاقلة شيء من ذلك { كمثل غيث } مفعول ثان لاعلموا او انما وما بعده قائم مقام المفعولين او هو خبر مبتدء محذوف { أعجب الكفار نباته } اى نبات الغيث الذى نبت بسبب الغيث وقال تعالى: اعجب الكفار لان الكفار لكفرهم بالله اشد اعجابا بصورة النبات بخلاف غير الكفار فانهم يفرحون بالمنعم وانعامه { ثم يهيج } ييبس ببلوغه الى غايته او بعاهة { فتراه مصفرا ثم يكون حطاما } لائقا للنار { وفي الآخرة عذاب شديد } مثل الحياة الدنيا ونزول ماء الحياة من سماء الارواح بنزول المطر من السماء وصورة الانسان فى بدو الامر بنبات النبات فى اول الامر ضعيفا ثم استواء الانسان باستواء النبات فى خضرته وطراوته واعجابه للغافل عن الآخرة ثم انحطاطه بانحطاط النبات ثم موته بيبس النبات واصفراره وتكسره ثم العذاب فى الآخرة للمفتون بالحياة باحتراق النبات اليابس { ومغفرة من الله ورضوان } لمن لم يفتتن او للكل بشرط الاستعداد والاستحقاق { وما الحياة الدنيآ إلا متاع الغرور } اى التمتع المسبب من الغرور او متاع سبب للغرور.
[57.21-23]
{ سابقوا } هذا بمنزلة النتيجة او جواب لسؤال مقدر ناش من سابقه كأنه قيل: ان كان الحياة الدنيا متاع الغرور وفى الآخرة عذاب لاهلها او مغفرة فما نفعل؟ - فقال: سابقوا { إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السمآء والأرض } قد مضى فى سورة آل عمران بيان تشبيه عرض الجنة بعرض السماوات والارض { أعدت للذين آمنوا بالله ورسله } هذه صفة او حال او مستأنفة { ذلك } الايمان بالله ورسله او ذلك المذكور من المغفرة والجنة { فضل الله يؤتيه من يشآء } فان مبدء التوفيق للايمان الذى هو سبب المغفرة والجنة منه تعالى فلا يدخل الجنة احد بنفسه ولا بعمله { والله ذو الفضل العظيم مآ أصاب } منقطعة عن سابقها او جواب لسؤال ناش من السابق كأنه قيل: ان كان الله ذا الفضل بعباده فمم يكون هذه المصائب والبلايا؟ - فقال فى الجواب: ما اصاب { من مصيبة في الأرض } فى العالم الكبير من البلايا العامة الواردة على اموال اهل الارض { ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأهآ } اى من قبل ان نبرأ الأنفس او من قبل ان نبرأ الارض والانفس والمراد بالكتاب كتاب اللوح المحفوظ والمقصود انه ليست المصائب الا بعلمنا وقدرتنا واصابتنا { إن ذلك } الثبت فى الكتاب { على الله يسير لكيلا تأسوا } متعلق بقوله فى كتاب او متعلق بمحذوف والتقدير اخبرناكم بذلك لتعلموا ان ما يقع فى الارض هو ثابت فى اللوح وبعلمنا وارادتنا لكيلا تأسوا { على ما فاتكم ولا تفرحوا بمآ آتاكم } ولكى تصبروا وترضوا عند ما فاتكم وتشكروا الله عند ما آتيكم وهذا هو غاية الزهد فان عدم التغير فى فوت ما فى اليد وفى اتيان ما ليس فى اليد كمال الزهد كما روى عن امير المؤمنين (ع) انه قال: الزهد كله بين كلمتين من القرآن قال الله تعالى: { لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بمآ آتاكم } ، ومن لم يأس على الماضى ولم يفرح بالآتى فقد اخذ الزهد بطرفيه، وعن الباقر (ع): نزلت فى ابى بكر واصحابه واحدة مقدمة وواحدة مؤخرة لا تاسوا على ما فاتكم مما خص به على بن ابى طالب (ع) ولا تفرحوا بما اتيكم من الفتنة التى عرضت لكم بعد رسول الله (ص) { والله لا يحب كل مختال فخور } عطف على قوله ما اصاب والمقصود ان عدم الحزن على الفائتة وعدم الفرح قد يكون للاختيال والفخر وليس هذا ممدوحا انما المدح على ذلك اذا كان للزهد فى الدنيا، او المعنى ان المصدقين المنفقين والمؤمنين كذلك وغير المصدقين الذين يختالون ولا ينقصون من انانياتهم، والذين يفخرون ولا يؤمنون بالله ورسوله مبغوضون لله فانه قد تكرر فيما سبق ان مفهوم هذه العبارة وان كان اعم من كونهم مبغوضين لكن المراد بحسب المقام ذلك.
[57.24]
{ الذين يبخلون } باموالهم واعراضهم وقويهم وانانياتهم فلا ينفقون ولا ينقصون من انانياتهم فلا ينقادون لله ورسوله (ص) { ويأمرون الناس بالبخل ومن يتول } عن الانفاق والايمان فلا يضر الله شيئا { فإن الله هو الغني } الذى لا حاجة له الى اموالكم واعراضكم وانفاقكم مما ينبغى ان ينفق منه { الحميد } الذى لا حاجة له الى ايمانكم وتصديقكم وتعظيمكم والمقصود من يتول عن على (ع) او عن الله والرسول (ص) فى ولاية على (ع) فان عليا (ع) الذى هو مظهر الله هو الغنى عنه وعن انفاقه الحميد فى نفسه صدقه مصدق او كذبه ولما كان هناك مظنة ان يسأل احد: بما يصير الانسان مؤمنا ومنفقا حتى لا يتولى عن الايمان وعن على (ع)؟ - فقال تعالى جوابا لهذا السؤال.
[57.25]
{ لقد أرسلنا رسلنا بالبينات } اى بأحكام الرسالة او المعجزات الدالة على صدقهم فمن اراد الايمان فليقبل عليهم { وأنزلنا معهم الكتاب } اى كتاب النبوة والكتب التدوينية والملل الالهية صورها ولهذا ورد عن الصادق (ع) فى هذه الآية الكتاب الاسم الاكبر الذى يعلم به علم كل شيء الذى كان مع الانبياء (ع) قال: وانما عرف مما يدعى كتاب التوراة والانجيل والفرقان فيها كتاب نوح وفيها كتاب صالح وشعيب وابراهيم (ع) فأخبر الله عز وجل
إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى
(ع) [الأعلى:18-19] فاين صحف ابراهيم؟ انما صحف ابراهيم (ع) الاسم الاكبر وصحف موسى (ع) الاسم الاكبر { والميزان ليقوم الناس بالقسط } الميزان كلما يقاس به شيء آخر من ذوى الكفتين والقبان وخيوط البنائين وسيرة السلاطين فى سلطنتهم واحكام الشرائع القالبية الملية والعقل والرسول والرسالة والولى والولاية والكتب السماوية، لكن الميزان الذى يقوم الناس به بالقسط هو الولاية وقبولها واحكامها وولى الامر فان كلما سواها ميزان لقيام الناس بالقسط بشرط اتصاله بها، فالمراد بالكتاب الذى مع الرسل هو النبوة والرسالة وهما الاسم الاكبر الذى كل شيء فيه وشرائع الرسل وكتبهم صورتهما، والمراد بالميزان هو الولاية التى نزلت من مقامها العالى الى بشرية الرسل وظهرت بعدهم فى اوصيائهم ليقوم الناس بها بالقسط، ولما كانت الولاية التى هى ميزان العدل والنبوة والرسالة اللتان هما ميزانان بالولاية من اعظم اسباب قيام الناس بها بالقسط أتى بهذه الغاية قبل ذكر الحديد واضاف الحديد بعدها فقال { وأنزلنا الحديد } يعنى مع الرسل او مطلقا لكن لما كان المنظور من ذكر الحديد ترتب غاية نصرة الرسل عليه وعلى ما سبقه فالاولى ان يقال: وانزلنا الحديد مع الرسل، ومعنى انزال الحديد مع انه يتكون فى المعادن ايجاده، او المقصود ان كل موجود فى هذا العالم كان موجودا فى عالم المثال وفى العوالم التى فوقه ثم نزل من تلك العوالم الى عالم الكون والفساد { فيه بأس شديد } كما يرى من قطع الاعضاء والمفاصل من الحيوان به وقطع حياة الحيوان والانسان به { ومنافع للناس } لان منه آلات اكثر الصناع والصنائع { وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب } حالكون الناصر بالغيب من الله، او حالكون الله بالغيب من الناصر، او هو ظرف لينصره وقوله تعالى ليعلم عطف على قوله ليقوم الناس وقد مضى وجه تأخيره عن نزول الحديد { إن الله قوي عزيز } لا حاجة له الى نصرتكم لانه قوى يقدر على كل ما اراد عزيز لا مانع له من مراده ولا غالب عليه وانما اراد اختباركم بذلك وامتياز الكافر والمنافق من المؤمن الموافق.
[57.26]
{ ولقد أرسلنا } عطف على قوله لقد أرسلنا عطف التفصيل على الاجمال { نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب } اى الرسالة { فمنهم مهتد } فى غاية الاهتداء كالانبياء والاولياء (ع) او فى اواسط الاهتداء كسائر المؤمنين { وكثير منهم فاسقون } لم يقل فى مقابل منهم مهتد ومنهم فاسق للاشارة الى الغلبة فى جانب الضلالة.
[57.27]
{ ثم قفينا على آثارهم برسلنا } من انبياء بنى اسرائيل وموسى (ع) وشعيب (ع) { وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها } بالنسبة الى دين موسى (ع) لا انهم ابتدعوها فى الدين حتى تكون بدعة، والرأفة اشد الرحمة او ارقها او ما يظهر اثره فى الظاهر، والرحمة ما لا يظهره اثره في الظاهر او بالعكس، والرهبانية والرهبة مصدرا الراهب واحد رهبان النصارى الذين كانوا ينقطعون عن الناس ويلبسون المسوح ويتعبدون فى الجبال وفى الخلوات { ما كتبناها عليهم } اى ما القيناها فى قلوبهم { إلا ابتغآء رضوان الله } اى الا لابتغاء رضوان الله او فى حال ابتغاء رضوان الله فانه لا يجوز ان يكون مفعولا له لكتبنا او المعنى انهم ابتدعوها وما فرضناها عليهم اصلا ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله فيكون الاستثناء منقطعا ولكن قوله تعالى { فما رعوها حق رعايتها } يؤيد المعنى الاول بان جعلوها بأهوية انفسهم او ما عملوا بمقتضاها، او ما قصدوا بها رضوان الله، او ما انتهوا بها الى خليفة الله المؤسس لآداب السلوك الى الله ونسب الى النبى (ص) انه قال لتكذيبهم بمحمد (ص) { فآتينا الذين آمنوا } بمحمد (ص) { منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون } عن اتباع ولى الامر وخليفة الله، روى عن رسول الله (ص) انه قال:
" اختلف من كان قبلكم على ثنتين وسبعين فرقة نجا منهما ثنتان وهلكت سائرهن فرقة قاتل الملوك على دين عيسى (ع) فقتلوهم، وفرقة لم يكن لهم طاقة لموازاة الملوك ولا ان يقيموا بين ظهرانيهم يدعونهم الى دين الله تعالى ودين عيسى (ع) فساحوا فى البلاد وترهبوا "
وهم الذين قال الله عز وجل: { ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها } ثم قال: (من آمن بى وصدقنى واتبعنى فقد رعاها حق رعايتها، ومن لم يؤمن بى فاولئك هم الهالكون).
[57.28]
{ يأيها الذين آمنوا } بعد ما مدح المؤمنين من اهل الكتاب وذم الذين بقوا على صورة ملتهم ولم يؤمنوا بمحمد (ص) بقوله: وكثير منهم فاسقون نادى مطلق من آمن بمحمد (ص) بالبيعة العامة النبوية، او نادى المؤمنين بمحمد (ص) من اهل الكتاب بالبيعة العامة وقال: لو كان يكفى للنجاة الاسلام الحاصل بالبيعة العامة وقبول الملة لكان يكفى اهل الكتاب قبول ملتهم ولم يكونوا يسمون فاسقين فلا تقفوا انتم ايها المؤمنون على صورة ملة محمد (ص) ولا تكتفوا بالبيعة العامة بل { اتقوا } فى جميع اوامره ونواهيه او اتقوا الله فى مخالفة الرسول (ص) ومخالفة قوله فى على (ع) { وآمنوا برسوله } بالايمان الحقيقى الذى يحصل بالبيعة الخاصة الولوية { يؤتكم كفلين } نصيبين { من رحمته } نصيبا على قبول الرسالة ونصيبا على قبول الولاية، وبعبارة اخرى نصيبا على البيعة العامة ونصيبا على البيعة الخاصة، وبعبارة اخرى نصيبا على الاسلام ونصيبا على الايمان، وبعبارة اخرى نصيبا فى مقام النفس الانسانية ونصيبا فى مقام القلب، وبعبارة اخرى نصيبا من جنات النعيم ونصيبا من جنة الرضوان، وبعبارة اخرى نصيبا للقوة العمالة ونصيبا للقوة العلامة { ويجعل لكم نورا تمشون به } والمقصود من النور هو صورة ولى الامر الذى يدخل بالبيعة الخاصة فى قلب البائع المعبر عنه بالايمان الداخل فى القلب واذا خرج تلك الصورة من حجب الاهواء والتعلقات ظهر نورها بحيث كان الانسان يستغنى من نور الشمس واشرقت الارض بنور ربها اشارة الى ظهور تلك الصورة ومعرفة على (ع) بالنورانية التى هى معرفة الله ، وليست الا للمؤمن الممتحن قلبه للايمان عبارة عن ظهور هذه الصورة، واذا خلعت تلك الصورة من حجب النفس وتعلقاتها استغنى صاحبها من كل ما سواها وكانت تلك الصورة قرينة للنصر ونزول الملائكة، وظهور تلك الصورة هى نزول السكينة ولذلك قال: نورا تمشون به فى الناس فان تلك الصورة هى الفعلية الاخيرة للانسان وجميع افعال الشيء تكون بفعليته الاخيرة فيجعل الله بتلك البيعة نورا مختفيا او ظاهرا يكون جميع حركاته وسكناته وعباداته ومكاسبه بذلك النور { ويغفر لكم } بذلك النور فان هذا النور هو باعث غفران الله، فان الله يستحيى ان يعذب امة دانت بامامة امام عادل من الله وان كانت الامة فى اعمالها فجرة { والله غفور } سجيته المغفرة سواء كان لها باعث او لم يكن، فمن كان له مادة المغفرة التى هى الولاية كان مغفورا لا محالة { رحيم } سجيته الرحمة سواء كان لها باعث او لم يكن، وقد فسر النور بالامام الذى يأتمون به، وروى عن الصادق (ع) انه قال: كفلين من رحمته الحسن (ع) والحسين (ع) ونورا تمشون به يعنى اماما يأتمون به، وفى رواية والنور على (ع).
[57.29]
{ لئلا يعلم أهل الكتاب } لا زائدة والمعنى على ما ذكر فى نزول الآية ليعلم اهل الكتاب اى اليهود والنصارى { ألا يقدرون على شيء من فضل الله } قيل فى نزوله: ان رسول الله (ص) بعث جعفرا فى سبعين راكبا الى النجاشى يدعوه فقدم عليه ودعاه فاستجاب له وآمن به، فلما كان عند انصرافه قال ناس ممن آمن به من اهل مملكته وهم اربعون رجلا: ائذن لنا فنأتى هذا النبى فنسلم به فقدموا مع جعفر فلما رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة استأذنوا رسول الله (ص) وقالوا: يا نبى الله ان لنا اموالا ونحن نرى ما بالمسلمين من الخصاصة فان اذنت لنا انصرفنا فجئنا باموالنا فواسينا المسلمين بها، فأذن لهم فانصرفوا فأتوا باموالهم فواسوا بها المسلمين فانزل الله فيهم:
الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون
[القصص:52] (الى قوله)
ومما رزقناهم ينفقون
[القصص:54] فلما سمع اهل الكتاب ممن لم يؤمن به قوله
أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا
[القصص:54] فخروا على المسلمين فقالوا: يا معاشر المسلمين اما من آمن منا بكتابكم وكتابنا فله اجران، ومن آمن منا بكتابنا فله اجر كاجوركم فما فضلكم علينا؟ - فنزل قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله } (الآية) فجعل لهم اجرين وزادهم النور والمغفرة يعنى جعلنا لمن آمن بمحمد (ص) واتقى اجرين، ليعلم اهل الكتاب انهم لا يقدرون على شيء من فضل الله { وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشآء والله ذو الفضل العظيم } ولكن نقول على ما ذكر من الفرق بين الاسلام والايمان والملة والدين وان المراد بقوله: { يأيها الذين آمنوا } يا ايها الذين اسلموا بقبول الدعوة الظاهرة والبيعة العامة وان قوله آمنوا امر بالايمان الحقيقى وقبول الدعوة الباطنة بالبيعة الخاصة الولوية يجوز ان يراد باهل الكتاب اهل الملة سواء كان بنحو النحلة او بقبول الرسالة بالبيعة العامة وسواء كانوا اهل ملة محمد (ص) او اهل سائر الملل وان لا يكون لا فى قوله لئلا يعلم اهل الكتاب زائدة، ويكون تعليلا للقول المستفاد من قوله: { آمنوا برسوله } بالبيعة الخاصة يعنى قلنا آمنوا برسوله بقبول الدعوة الباطنة لان القانعين بالبيعة الاسلامية الذين كانوا اهل كتاب الرسالة لا يعلمون انهم لا يقدرون على شيء من فضل الله بل يظنون انهم قادرون على فضل الله الظاهر من اموال الدنيا وفضل الله الباطن من درجات الايمان ومقامات الرسالة والنبوة والولاية كما كنا نسمع من بعض يقول: اذا خلونا اربعين يحصل لنا كثير من المراتب الغيبية، واذا آمنتم بالرسول (ص) بالبيعة الخاصة الولوية وقبلتم الولاية ظهر لكم قصوركم وانكم لا تقدرون على شيء من فضل الله وبذلك تتدرجون فى نقصان الانانية التى هى اعظم المعاصى فى الطريق، واذا لم تعلموا ذلك تتدرجون فى ازدياد الانانية.
[58 - سورة المجادلة]
[58.1]
{ قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركمآ إن الله سميع بصير } نزلت فى امرأة من الانصار اسمها خولة وزوجها اوس بن الصامت وكانت امرأة حسن الجسم فأرادها زوجها فأبت فغضب عليها وقال: انت على كظهر امى، وكان فى الجاهلية اذا قال الرجل لاهله: انت على كظهر امى، حرمت عليه آخر الابد، فندم الرجل وقال لامرأته قد اتانا الاسلام فاذهبى الى رسول الله (ص) فاسأليه فأتت الى رسول الله (ص) فقالت:
" بابى أنت وامى ان اوس بن الصامت هو زوجى وابو ولدى وابن عمى فقال لى: انت على كظهر امى، وانا نحرم ذلك فى الجاهلية، وقد اتانا الله بالاسلام بك فقال لها رسول الله (ص): ايتها المرأة ما اراك الا حرمت عليه، فأعادت عليه قوله الاول، فقال (ص): ما اراك الا حرمت عليه ولم اومر فى شأنك بشيء، فجعلت تراجع رسول الله (ص) وكلما قال لها رسول الله (ص)، حرمت عليه هتفت وقالت: اشكو الى الله فاقتى وحاجتى وشدة حالى، اللهم فأنزل على لسان نبيك وكان هذا اول ظهار فى الاسلام فنزل عليه الآيات فقال: ادعى زوجك، فدعته، فتلا عليه رسول الله (ص) هذه الآيات (الى قوله) وللكافرين عذاب اليم ".
[58.2]
{ الذين يظاهرون منكم من نسآئهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور } يعفو عنهم ويغفر لهم اذا تابوا.
[58.3-6]
{ والذين يظاهرون من نسآئهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتمآسا } ظاهر الآية ان من ظاهر فليس عليه شيء ان لم يكرر القول، او ليس عليه شيء فى المرتبة الاولى فاذا عاد وظاهر ثانيا فعليه الكفارة المذكورة، وروى عن امير المؤمنين (ع) انه قال: ان الله عفى عن المظاهر الاول وغفر له بدون الكفارة، فان عاد احد بعد المظاهر الاول فعليه الكفارة، وقيل: معنى يعودون لما قالوا يعودون عما قالوا فانه يستعمل يعود فيما قال والى ما قال ولما قال بمعنى يعود عما قال، وقيل: يعودون الى نسائهم، وقوله تعالى، { لما قالوا } ، ابتداء كلام والمعنى فتحرير رقبة لما قالوا { ذلكم توعظون به } يعنى ذلكم التحرير توعظون به لكى ترتدعوا من مثله { والله بما تعملون خبير فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين } يكفى فى صدق تتابع الشهرين اتصال شيء من الشهر الثانى بالشهر الاول { من قبل أن يتمآسا } بالمجامعة او مطلقا { فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا } بقدر شبعهم او اعطاء كل مسكين مدا من الطعام { ذلك } المذكور من عدم الحرمة ابدا بالظهار كما كانت فى الجاهلية وجواز الرجوع الى النساء بعد الظهار والترتيب فى خصال الكفارة { لتؤمنوا } اى لترغبوا فى شريعة محمد (ص) ولا تنفروا عنها لما ترون فيها من التخفيف وتؤمنوا { بالله ورسوله وتلك حدود الله } حدود حماه لا يجوز التجاوز عنها { وللكافرين } بالله ورسوله (ص) او للكافرين بتلك الحدود { عذاب أليم إن الذين يحآدون الله ورسوله } حاده غاضبه وعاده وخالفه { كبتوا } كبته صرعه واخزاه وصرفه وكسره ورده بغيظه واذله والمكتبت الممتلئ غما { كما كبت الذين من قبلهم } الذين حادوا الله ورسوله من قوم نوح وعاد وثمود وقوم ابراهيم (ع) { وقد أنزلنآ } عليهم او عليكم { آيات } دالات على قدرتنا وحكمتنا، او دالات على صدقنا فى وعدنا ووعيدنا، او دالات على صدق رسولنا { بينات } واضحات او موضحات وهى الآيات التدوينية او الآيات الآفاقية والانفسية { وللكافرين } بتلك الآيات او بالله ورسوله (ص) { عذاب مهين يوم يبعثهم الله } ظرف لمهين، او لقوله للكافرين، او لقوله احصاه الله { جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله } رفع لتوهم متوهم ان العاملين لا يحصون اعمال انفسهم فكيف يحصى الله اعمال الجميع { ونسوه والله على كل شيء شهيد } تعميم وتعليل.
[58.7]
{ ألم تر } خطاب لمحمد (ص) او لكل من يتأتى منه الخطاب، وان كان خطابا لمحمد (ص) فالمعنى لا ينبغى لك الاستغراب عن كونه على كل شيء شهيدا لانك ترى وتنظر الى آثار احاطة علمه تعالى بما فى السماوات وما فى الارض، وان كان الخطاب عاما فالمعنى لا ينبغى الاستغراب لظهور آثار احاطة علمه تعالى وينبغى ان يراها كل راء لظهورها { أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة } نجوى جمع نجى او مصدر نجاه بمعنى ساره، او اسم مصدر بمعنى السر، وعلى الاول جاز ان يكون مضافا الى ثلثة بدلا منه ومعنى النجوى المصدرى المسارة بين اثنين او اكثر لكنه يطلق على حديث النفس وخطرات القلوب والرؤيا الصادقة والاحلام الكاذبة لانها مسارة الشيطان او الملك مع الانسان، وقد يطلق على مطلق المحاورة { إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم } اختيار المتناجين اى المتسارين لان المتناجين يكونون بحال لا يطلع على نجواهم غيرهم فيكون الاطلاع عليهم ابلغ فى الدلالة على الاطلاع على خفيات الامور، واختيار الثلاثة والخمسة من بين مراتب العدد لان العدد الوتر اشرف مراتب العدد، الا ترى انه تعالى قال
سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم، ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب، ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم
[الكهف:22] ولان الله وتر يحب الوتر، واقل مراتب العدد الوتر الثلاثة، واضاف اليها الخمسة ليعلم ان خصوص مرتبة الثلاثة ليس مقصودا، وقيل: كان من انزلت الآية فيهم ثلاثة وخمسة والفرق بين ثالث الثلاثة ورابع الثلاثة ان ثالث الثلاثة يكون واحدا من الثلاثة مقابلا للآخرين متمما عددهم ولذا قال تعالى: لقد كفر الذين قالوا ان الله ثالث ثلاثة واما رابع الثلاثة فهو الذى يجعل الثلاثة اربعة سواء كان من جنسهم وفى عدادهم او لم يكن، وسواء جعل الثلاثة اربعة بنفسه او بغيره فهذه العبارة لا تستلزم التحدد وكونه تعالى ثانيا لغيره وغير ذلك مما ينافى الوجوب كالعبارة الاولى فانه تعالى يجعل كل ثلاثة اربعة بان يوكل عليهم واحدا من وكلائه او اكثر، وايضا يجعل الثلاثة اربعة بان يكون هو بنفسه مقوما للثلاثة ومعهم لا معية الاثنين من الانسان بل معية قيومية لا ينفك شيء من الاشياء عنها منفردا كان او منضما الى واحد او اكثر وهذا المعنى لا يلزم شيئا من لوازم الامكان ولذلك لم يكتف بهذا وقال { ولا أدنى من ذلك } العدد { ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم } تعليل وتأكيد ونتيجة للسابق ونزول الآية كما روى عن الصادق (ع) فى ابى عبيدة الجراح وعبد الرحمن بن عوف وسالم مولى ابى حذيفة والمغيرة بن شعبة وعدة اخر حيث كتبوا الكتاب بينهم وتعاهدوا وتواثقوا لئن مضى محمد (ص) لا يكون الخلافة فى بنى هاشم ولا النبوة ابدا.
[58.8]
{ ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى } اى المسارة او المحاورة { ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول } يعنى يتناجون بغصب حق آل محمد (ص) ومعاداتهم ومخالفة قول الرسول (ص) فيهم، وبعبارة اخرى يتناجون بما فيه قوة القوة البهيمية الشهوية، وقوة القوة الغضبية السبعية، وقوة القوة الجهلية الشيطانية { وإذا جآءوك حيوك بما لم يحيك به الله } اظهارا لحبهم لك بالتحيات العالية سرا لنفاقهم عنك وعن المؤمنين { ويقولون في أنفسهم } من غير تلفظ او فيما بينهم من غير اطلاع الغير عليهم { لولا يعذبنا الله بما نقول } لانهم قبلوا الاسلام وصدقوا محمدا (ص) فى اكثر ما قاله من امر الآخرة ولم يصدقوه فى خلافة على (ع) { حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير } قيل: نزلت قوله: { ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى } (الآيات) فى اليهود والمنافقين انهم كانوا يتناجون فيما بينهم دون المؤمنين وينظرون الى المؤمنين ويتغامزون بأعينهم فاذا رأى المؤمنون نجويهم قالوا: ما نريهم الا وقد بلغهم عن اقربائنا واخواننا الذين خرجوا فى السرايا قتل او مصيبة او هزيمة، فيحزنهم ذلك فلما طال ذلك شكوا الى رسول الله (ص) فأمرهم ان لا يتناجوا دون المسلمين فلم ينتهوا عن ذلك وعادوا الى مناجاتهم، لكن نقول: ان كان نزولها فى اليهود فالمقصود منها منافقوا الامة الذين كانوا يتناجون فى رد قول محمد (ص) فى على (ع)، وقيل: نزلت قوله: { وإذا جآءوك حيوك } (الى آخر الآية) فى اليهود فانهم كانوا يأتون النبى (ص) فيقولون: السام عليك، والسام الموت وهم يوهمون انهم يقولون: السلام عليك وكان النبى (ص) يرد عليهم بقوله:
" وعليكم "
فان كان النزول فيهم فالمقصود منها المنافقون كما ذكرنا واشار الصادق (ع) فى الحديث السابق.
[58.9]
{ يأيها الذين آمنوا } بعد ما ذم النجوى مطلقا وذم المتناجين بالاثم والعدوان ومعصية الرسول (ص) نادى المؤمنين ونهاهم عن النجوى بما فيه قوة القوى الثلاث، فان الانسان اذا اجتمع مع غيره قوى فيه الشأن الذى هو عليه فنهاهم عن ذلك حتى يتنبهوا، واذا كانوا على تلك الشؤن ارتدعوا عنها فقال { إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول } يعنى راقبوا احوالكم فان تروا قوة الميل منكم الى ذلك فاعلموا انكم بعد فى شأن البهيمة او السبع او الشيطان فعالجوا انفسكم بدفع تلك القوة عنكم { وتناجوا بالبر } الذى هو لازم قوتكم العاقلة { والتقوى } من القوى الثلاث يعنى قووا بالاجتماع قوتكم العاقلة وضعفوا قواكم الثلاث { واتقوا الله } اى سخط الله فى تقوية القوى الثلاث { الذي إليه تحشرون } توصيف للتعليل.
[58.10]
{ إنما النجوى من الشيطان } اى مطلق التناجى بان حكم على الجنس بحكم اكثر الافراد واللام للتعريف يعنى النجوى المذكورة وهى النجوى بالاثم والعدوان ومعصية الرسول (ص)، او هى نجوى فاطمة سلام الله عليها ورؤياها كما سنذكر فى نزول الآية ان شاء الله { ليحزن الذين آمنوا وليس } اى الشيطان او التناجى { بضآرهم شيئا إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون } ولا يحزنوا بنجوى المنافقين، او بنجوى اليهود، او بالاحلام والرؤيا التى يرونها ويحزنون بها، وقد مضى فى سورة البقرة عند قوله تعالى
ولكن الله يفعل ما يريد
[البقرة:253] ما يبين به عدم اضرار الشيطان الا باذن الله، وفسر النجوى ههنا بالرؤيا الكريهة روى عن النبى (ص) انه قال:
" اذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون صاحبهما فان ذلك يحزنه "
، وعن الصادق (ع) انه كان سبب نزول هذه الآية ان فاطمة (ع) رأت فى منامها ان رسول الله (ص) هم ان يخرج هو وفاطمة (ع) وعلى (ع) والحسن (ع) والحسين (ع) من المدينة فخرجوا حتى جازوا من حيطان المدينة فعرض لهم طريقان، فأخذ رسول الله (ص) ذات اليمين حتى انتهى الى موضع فيه نخل وماء، فاشترى رسول الله (ص) شاة دراء وهى التى فى احدى اذنيها نقط بيض فامر بذبحها، فلما اكلوا ماتوا فى مكانهم، فانتبهت فاطمة (ع) باكية ذعرة فلم تخبر رسول الله (ص) بذلك فلما اصبحت جاء رسول الله (ص) بحمار فاركب عليه فاطمة (ع) وامر ان يخرج امير المؤمنين (ع) والحسن (ع) والحسين (ع) من المدينة كما رأت فاطمة (ع) فى نومها، فلما خرجوا من حيطان المدينة عرض لهم طريقان فأخذ رسول الله (ص) ذات اليمين كما رأت فاطمة (ع) حتى انتهوا الى موضع فيه نخل وماء، فاشترى رسول الله (ص) شاة دراء كما رأت فاطمة (ع) فأمر بذبحها فذبحت وشويت، فلما ارادوا اكلها قامت فاطمة (ع) وتنحت ناحية منهم تبكى مخافة ان يموتوا، فطلبها رسول الله (ص) حتى وقع عليها وهى تبكى فقال: ما شأنك يا بنية؟ - قالت: يا رسول الله (ص) رأيت البارحة كذا وكذا فى نومى وقد فعلت انت كما رأيته فتنحيت عنكم لئلا اراكم تموتون فقام رسول الله (ص) فصلى ركعتين ثم ناجى ربه فنزل عليه جبرئيل فقال: يا محمد (ص) هذا شيطان يقال له الزها وهو الذى ارى فاطمة (ع) هذه الرؤيا ويؤذى المؤمنين فى نومهم ما يغتمون به، فأمر جبرئيل فجاء به الى رسول الله (ص) فقال له: انت الذى اريت فاطمة (ع) هذه الرؤيا؟ - فقال: نعم يا محمد (ص)، فبزق عليه ثلاث بزقات قبيحة فى ثلاث مواضع ثم قال جبرئيل لمحمد (ص) يا محمد اذا رأيت شيئا فى منامك تكرهه او رأى احد من المؤمنين فليقل: اعوذ بما عاذت به ملائكة الله المقربون وانبياء الله المرسلون وعباده الصالحون من شر ما رأيت من رؤياى، ويقرء الحمد والمعوذتين وقل هو الله احد ويتفل عن يساره ثلاث تفلات فانه لا يضره ما رأى، فأنزل الله عز وجل على رسوله (ص): { إنما النجوى من الشيطان } (الآية)، وعنه (ص):
" اذا أرى الرجل منكم ما يكره فى منامه فليتحول عن شقه الذى كان عليه نائما وليقل: انما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا الا باذن الله ثم ليقل: عذت بما عاذت به ملائكة الله المقربون وانبياؤه المرسلون وعباده الصالحون من شر ما رأيت ومن شر الشيطان الرجيم "
، والمقصود من جميع تلك الآيات منافقوا الامة وان كان النزول فى غيرهم.
[58.11]
{ يأيها الذين آمنوا } لما اراد ان يأمرهم بادب من الآداب التى يكرهونها ناداهم تلطفا بهم وجبرانا لكلفة التأدب بما يكرهون { إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم } الفسحة بالضم السعة، فسح المكان ككرم وافسح وتفسح وانفسح فهو فسيح وفسح له كمنع وتفسح وسع له { وإذا قيل انشزوا فانشزوا } نشز من باب نصر وضرب ارتفع فى مكان وقرئ بهما، قيل: كانوا يتنافسون فى مجلس النبى (ص) حتى جاء جمع من البدريين وكان النبى (ص) مكرما لهم فقاموا بين يدى النبى (ص) ولم يكن لهم مجلس يجلسون فيه فقال النبى (ص):
" يا فلان، يا فلان، يا فلان، قوموا فقاموا "
، وكان ذلك شاقا على بعض فنزلت يعنى { إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس } يعنى لا يضم بعضكم ببعض حتى تتأذوا من حرارة الهواء وحرارة الانضمام، واذا قيل: وسعوا فى المجالس بان تخلوا لمن يأتى بعدكم مجلسا بان يضم بعضكم ببعض حتى يخلى مجلس للآتى، او يقوم بعض عن مجلسه بعد زيارته للرسول (ص) وقضاء وطره حتى يجلس فى مجلسه من يأتى بعده فافسحوا، وذكر الغاية المترتبة على الامتثال تطييبا لنفوسهم فقال: { يفسح الله لكم } ولم يقيده بالمجالس ايهاما للتعميم يعنى يفسح الله لكم فى المجالس والارزاق والصدور فى الدنيا والآخرة، واذا قيل: ارتفعوا وقوموا عن مجالسكم فقوموا ولا تغتموا بذلك { يرفع الله الذين آمنوا منكم } فى الدنيا بحسن الصيت والاعزاز من الخلق والتبسط عليهم وفى الآخرة فى درجات الجنان { والذين أوتوا العلم درجات } خصص المؤمنين برفع الدرجات لان غير المؤمنين لا درجة ولا رفع درجة لهم لان اجر العمل مشروط بالايمان، وخصص العلماء من بينهم بالذكر لشرفهم وعلو درجاتهم بالنسبة الى المؤمنين، فان فضل العالم على سائر الناس كفضل النبى (ص) على سائر الخلق او كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، والشفعاء يوم القيامة ثلاثة؛ الانبياء (ع) ثم العلماء ثم الشهداء، ويوزن دماء الشهداء مع مداد العلماء فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء { والله بما تعملون } من امتثال اوامره ونواهيه ومخالفتهما { خبير } ترغيب وتهديد.
[58.12]
{ يأيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة } لما كان هذا الادب مكروها لاكثر النفوس صدره بالنداء.
اعلم، ان المناجاة ههنا اعم من المسارة والمحاورة والمسائلة الجهرية وان المتحاورين اذا لم يكونا متناسبين لم تكن المحاورة بينهما مؤثرة فى جانب الآخرة ولا مورثة للتوافق ولا لنجح المسؤل فان المحاورة مع الرسول (ص) من حيث انه رسول لا تكون الا فى امور الآخرة وينبغى ان تكون مقربة اليها، واذا لم تكن بين المناجى والرسول (ص) مناسبة لم تكن مناجاته مؤثرة ولا مقربة الى الآخرة بل كانت مؤثرة فى عكس المراد ومبعدة من الآخرة والرسول (ص) لانه كما فى الخبر لا يجلس اثنان الا ويقومان بزيادة او نقيصة، الم يكن ابو جهل يحاور كثيرا الرسول (ص) ولم تكن محاورته مؤثرة بل كانت مبعدة، فالرب تعالى بكمال رأفته امر العباد بتقديم الصدقة التى هى كناية عن كسر الانانية التى هى ضد للرسول (ص) ومشاقة له حتى يوافق المناجى له بعض الموافقة فيتأثر من محاورته على ان فى التصدق بأمر الله تعالى نفعا للفقراء ومسا ليد الرسول (ص) وتعظيما له وامتثالا لامر الله تعالى وكسر الانانية التى هى شبكة الشيطان واعظم معصية للانسان وتمييزا للمخلص عن غيره، روى عن على (ع) انه قال فى كتاب الله لاية ما عمل بها احد قبلى ولا يعمل بها احد بعدى، آية النجوى انه كان لى دينار فبعته بعشرة دراهم فجعلت اقدم بين يدى كل ندوى اناجيها النبى (ص) درهما قال: فنسخها قوله ااشفقتم (الى قوله) خبير بما تعملون { ذلك } التصدق او التناجى { خير لكم } لانه ادخل فى النجح وفى التأثر بمحاورة الرسول (ص) { وأطهر } لانفسكم من رجس الانانية وحب المال والرغبة فى الدنيا { فإن لم تجدوا } صدقة تقدموها امام نجويكم فلا يضركم عدم التقديم { فإن الله غفور } يغفر بفضله رجس انانياتكم وان لم تتصدقوا صدقة فيها كسرها { رحيم } يرحمكم بنجح مسؤلكم وتأثركم بمحاورة الرسول (ص) بدون التصدق.
[58.13]
{ أأشفقتم } على ما فى ايديكم ومن الفقر والحاجة { أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات } جمع الصدقات ههنا لملاحظة جمع المتناجين، او للاشارة الى ان فى الصدقة الصورية كسرا للانانية وهو صدقة من الانانية، وخشوعا للقلب وهو تصدق من القلب، وخضوعا من الجسد وهو تصدق منه، وتوجها من القوى الدراكة الى الرسول (ص) والى جهة الآخرة، وامتثالا لامر الله وحركات من القوى العمالة فى جهة الآخرة وهى تصدقات منها { فإذ لم تفعلوا } تقديم الصدقات { وتاب الله عليكم } بان رخص لكم فى تركه، عن امير المؤمنين (ع) فى هذه الآية فهل تكون التوبة الا عن ذنب { فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } جبرانا لتقصير ترك الصدقة امام المناجاة فان الحسنات يذهبن السيئات فان فى الصلاة توجها الى الآخرة نحو التوجه فى التصدق، وفى الزكاة كسرا للانانية مثل ما فى التصدق امام المناجاة { وأطيعوا الله ورسوله } فى سائر ما أمراكم به ونهياكم عنه { والله خبير بما تعملون } ترغيب فى الامتثال وتهديد من تركه.
[58.14]
{ ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم } قيل المراد منهم قوم من المنافقين كانوا يوالون اليهود ويفشون اليهم اسرار المؤمنين ويجتمعون معهم على ذكر مساءة النبى (ص) والمؤمنين { ما هم منكم } لعدم ايمانهم باطنا { ولا منهم } لاقرارهم اللسانى بالاسلام { ويحلفون على الكذب } اى على عدم مجالستهم لهؤلاء القوم، او عدم استماعهم الى ازدراء المؤمنين، او على قصد تقوية الدين والكل كذب منهم { وهم يعلمون } انهم يحلفون على الكذب.
[58.15-18]
{ أعد الله لهم عذابا شديدا إنهم سآء ما كانوا يعملون اتخذوا أيمانهم جنة } معنوية لدفع لوم المسلمين وحفظ عرضهم ومالهم من المسلمين بصورة الاسلام ومن الكفار بالمسلمين { فصدوا عن سبيل الله } بصد قويهم عن طريق القلب وبتشكيك الضعفاء من المسلمين ومنع الراغبين فى الاسلام من الكافرين، او يتخذ الغاصبون بحق آل محمد (ص) ايمانهم عند المسلمين جنة يدفعون بها ظن المسلمين بهم النفاق ويدفعون بها لوم اللائمين لهم على الانحراف، فيصدون خلقا كثيرا عن سبيل الله الذى هو الولاية وهو امير المؤمنين (ع)، وقرئ ايمانهم بكسر الهمزة يعنى اتخذوا صورة اسلامهم جنة يدفعون بها لوم المسلمين ومعارضتهم ومقاتلتهم معهم ويدفعون بها معارضة الكفار ومقاتلتهم معهم { فلهم عذاب مهين لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا } من الاغناء او من عذاب الله { أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون يوم يبعثهم الله جميعا } ظرف لقوله تعالى لن تغنى او ليحلفون، على ان يكون الفاء زائدة او بتقدير اما او توهمها { فيحلفون له } اى لله فى القيامة { كما يحلفون لكم } فى الدنيا { ويحسبون أنهم على شيء } حيث يقولون انما اردنا بذلك تقوية الدين ونشر سنة سيد المرسلين (ص) ويحلفون لله ظنا منهم ان هذا منهم كان حقا وان الله يقبل منهم بحلفهم { ألا إنهم هم الكاذبون } البالغون فى الكذب لان كذبهم مثل جهلهم مركب لا علاج له لانهم اعتقدوا انهم صادقون فلا يمكن ارتداعهم من كذبهم.
اعلم، ان كل من اتصف بصفة وطلب امرا يعتقد ان اتصافه بتلك الصفة محمود مرضى لله وطلبه لذلك الامر المطلوب مرضى الا من شذ كما ان علماء العامة الذين ارادوا اصلاح الدين وحفظه بالقياس والرأى والظن والاستحسان التى ابتدعوها وليس هذا الا هدم الدين وصد العباد عن الائمة (ع) والعلماء يحسبون انهم مهتدون وانهم مصلحون للدين وللعباد، وان للمصيب منهم اجرين وللمخطى اجرا واحدا بل قال المصوبة منهم ان لاخطاء فى آرائهم وان حكم الله تابع لآرائهم وهكذا كان الحال فيهم الى يومنا هذا.
[58.19]
{ استحوذ عليهم الشيطان } استولى وغلب عليهم بحيث تمكن منهم { فأنساهم ذكر الله } الفطرى او الاختيارى { أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون } لاتلافهم بضاعتهم التى هى فطرتهم الانسانية ومدة اعمارهم الشريفة واخذ العذاب المؤبد عوضها وعوض النعيم الابدى الذى كان مقررا لفطرتهم وعوضا لاعمارهم، وقيل فى قوله يوم يبعثهم الله اذا كان يوم القيامة جمع الله الذين غصبوا آل محمد (ص) حقهم فيعرض عليهم اعمالهم فيحلفون له انهم لم يعملوا منها شيئا كما حلفوا لرسول الله (ص) فى الدنيا حين حلفوا ان لا يردوا الولاية فى بنى هاشم، وحين هموا بقتل رسول الله (ص) فى العقبة فلما اطلع الله نبيه (ص) واخبره حلفوا له انهم لم يقولوا ذلك ولم يهموا به حين انزل الله على رسوله (ص)
يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله
[التوبة: 74] فاذا عرض الله عز وجل ذلك عليهم فى القيامة ينكرونه ويحلفون له كما حلفوا لرسول الله (ص).
[58.20]
{ إن الذين يحآدون الله ورسوله } يغاضبونه او يناهضونه فى الحرب او يخالفونه { أولئك في الأذلين } فى جملة من هو اذل الخلق.
[58.21]
{ كتب الله } تعليل للسابق { لأغلبن } لما اجرى كتب مجرى القسم فى الاتيان به للتأكيد أتى له بجواب مثل جواب القسم { أنا ورسلي } فى الدنيا بالحجة والدين وعلى جنود الشياطين الذين كانوا فى مملكتهم وان صاروا مغلوبين بحسب اجسامهم بعض الاحيان { إن الله قوي عزيز } تعليل للسابق.
[58.22]
{ لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوآدون من حآد الله ورسوله ولو كانوا آبآءهم أو أبنآءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم } وذلك لان نسبة الايمان الى صاحب الايمان اذا ظهرت وقويت غلبت على النسب الجسمانية لان الانسان بالبيعة الخاصة الولوية ودخول الايمان والصورة الولوية فى قلبه بالبيعة يصير فعليته الاخيرة هى فعلية الايمان ويكون الحكم لتلك الفعلية لا للفعليات السابقة التى هى كالمادة ويكون محبته ناشئة من تلك الفعلية، وتلك الفعلية مضادة لمن حاد الله ورسوله فلا يصير محبته الناشئة عن صورة ولى الامر متعلقة بمن ضاد تلك الفعلية { أولئك كتب } اى كتب الله، وقرئ كتب مبنيا للمفعول اى ثبت ورسخ { في قلوبهم الإيمان } وهو الصورة الداخلة فى قلوبهم من ولى امرهم { وأيدهم بروح منه } المقصود من الروح هو رب النوع الانسانى وتأييده بالروح بان يوكل عليه ملكا من جنود هذه الروح يؤيده ويسدده به فان لقلب المؤمن اذنين اذن ينفث فيها الوسواس الخناس واذن ينفث فيها الملك الموكل عليه من قبل رب النوع، وعن الكاظم (ع) ان الله تبارك وتعالى ايد المؤمن بروح منه فتحضره فى كل وقت يحسن فيه وتبقى وتغيب عنه فى كل وقت يذنب فيه ويعتدى فهى معه تهتز سرورا عند احسانه وتسيخ فى الثرى عند اساءته فتعاهدوا عباد الله نعمه باصلاح انفسكم تزدادوا يقينا وتربحوا نفيسا ثمينا، رحم الله امرء هم بخير فعمله وهم بشر فارتدع عنه، ثم قال: نحن نؤيد بالروح بالطاعة لله والعمل له هذا فى الدنيا { ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار } قد مضى بيان جريان الانهار من تحت الجنات فى آخر سورة آل عمران { خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه }.
اعلم، ان انفحة الولاية التى تدخل قلوب المؤمنين كما انها سبب انعقاد القلب على الايمان تكون مادة رضوان الله عن عباده كما قال
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الأسلام دينا
[المائدة:3] ولما كان قبول الولاية بالبيعة الخاصة مادة لرضوان الله لم يقدم رضا العباد على رضاه كما قدم ما للعباد فى سائر الاوصاف على صفته مثل
فاذكروني أذكركم
[البقرة:152]
وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم
[البقرة:40] و
لئن شكرتم لأزيدنكم
[إبراهيم:7] { أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون }.
اعلم، ان الانسان ان دخل الايمان الذى هو صورة ولى امره فى قلبه بالبيعة مع ولى امره والتوبة على يده صار فعليته الاخيرة فعلية ولى امره وولى امره من جند الله فيصير البائع بتلك البيعة بواسطة تلك الفعلية من جند الله، وينصر بجنوده وجنود مملكته ولسان قاله وحاله دين الله، ويقاتل بفطرته وباختياره مع جنود الشيطان ويدعو عباد الله بوجوده ولسان حاله وقاله الى الله، ومن تمكن فى الجهل واتباع الشيطان صار من حزب الشيطان وكان للشيطان مثل من كان من حزب الله لله، ومن لم يدخل الايمان فى قلبه ولم يتمكن فى اتباع الشيطان لا يحكم عليه بشيء من كونه من جنود الرحمن او الشيطان كما لا يحكم عليه بالنقمة او النعمة بل كان مرجى لامر الله الى الاعراف اما يعذبه واما يتوب عليه.
[59 - سورة الحشر]
[59.1-2]
{ سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر } الحشر اخراج جمع من مكان الى آخر والمعنى اخرجهم فى اول حشر المؤمنين اليهم للقتال، او فى اول حشرهم من حصونهم للقتال، او لاجل حشرهم الاول الى الشام او الى خيبر وثانى حشرهم الى القيامة او الى الشام، او وقت ظهور القائم (ع) من الشام، او فى القيامة من الشام، او المعنى فى اول حشر وجلاء وقع فى زمان الرسول (ص) وبعده وقع جلاء وحشر لغيرهم على يد الرسول (ص) { ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله } اى من بأس الله { فأتاهم الله } اى أتاهم عذابه او بأسه او خليفته { من حيث لم يحتسبوا } لقوة وثوقهم واعتمادهم على حصونهم فأتاهم بأس الله فى حصونهم، عن القمى سبب ذلك انه
" كان بالمدينة ثلاثة ابطن من اليهود، بنى النضير وقريظة وقينقاع وكان بينهم وبين رسول الله (ص) عهد ومدة فنقضوا عهدهم وكان سبب ذلك بنى النضير وذلك انه اتاهم رسول الله (ص) يستسلفهم دية رجلين قتلهما رجل من اصحابه غيلة يعنى يستقرض، وكان (ص) قصد كعب بن الاشرف فلما دخل على كعب قال: مرحبا يا ابا القاسم واهلا وقام كأنه يصنع له الطعام وحدث نفسه ان يقتل رسول الله (ص) ويتبع اصحابه، فنزل جبرئيل فأخبره بذلك فرجع رسول الله (ص) الى المدينة وقال لمحمد بن مسلمة الانصارى: اذهب الى بنى النضير فأخبرهم ان الله تعالى قد أخبرنى بما هممتم به من الغدر فاما ان تخرجوا من بلدنا واما ان تأذنوا بحرب، فقالوا: نخرج من بلادك فبعث اليهم عبد الله بن ابى: الا تخرجوا وتقيموا وتنابذوا محمدا الحرب فانى انصركم انا وقومى وحلفائى، فان خرجتم خرجت معكم وان قاتلتم قاتلت معكم، فأقاموا وأصلحوا حصونهم وتهيؤا للقتال وبعثوا الى رسول الله (ص) انا لا نخرج فاصنع ما انت صانع، فقام رسول الله (ص) وكبر وكبر اصحابه وقال لامير المؤمنين (ع): تقدم الى بنى النضير فأخذ امير المؤمنين (ع) الراية وتقدم وجاء رسول الله (ص) واحاط بحصنهم وغدر بهم عبد الله بن ابى وكان رسول الله (ص) اذا ظهر بمقدم بيوتهم حصنوا ما يليهم وخربوا ما يليه، وكان الرجل منهم ممن كان له بيت حسن خربه وقد كان رسول الله (ص) امر بقطع نخلهم فجزعوا من ذلك وقالوا: يا محمد (ص) ان الله يأمرك بالفساد؟! ان كان لك هذا فخذه، وان كان لنا فلا تقطعه، فلما كان بعد ذلك قالوا: يا محمد (ص) نخرج من بلادك فأعطنا مالنا، فقال: " لا، ولكن تخرجون ولكم ما حملت الابل " ، فلم يقبلوا معه شيئا من ذلك، فبقوا اياما ثم قالوا: نخرج ولنا ما حملت الابل، فقال: " لا، ولكن تخرجون ولا يحمل احد منكم شيئا فمن وجدنا معه شيئا من ذلك قتلناه "
فخرجوا على ذلك ووقع قوم منهم الى فدك ووادى القرى، وخرج قوم منهم الى الشام، وقيل: لما غزا رسول الله (ص) غزاة بدر قال بنو النضير: هذا هو النبى الموعود انه لا ترد له راية، فلما غزا اغراة احد وهزم المسلمون ارتابوا، وكان بينهم وبين محمد (ص) عهد فنقضوا العهد وركب كعب بن الاشرف فى اربعين راكبا منهم الى مكة، فأتوا قريشا وابا سفيان وحالفوا على ان يكون كلمتهم واحدة على محمد (ص)، فأخبر الله تعالى رسوله (ص) بذلك، فلما ورد كعب بن الاشرف امر الله رسول (ص) بقتل كعب بن الاشرف فأمر محمد بن مسلمة وكان اخا كعب من الرضاعة بقتله فخرج محمد ومعه اربعة رجال وذهب الى قرب قصره واجلس قومه عند جدار وناداه: يا كعب، فانتبه، وقال: من انت؟ - قال: انا محمد بن مسلمة اخوك، جئتك استقرض منك دراهم فان محمدا (ص) يسألنا الصدقة وليس معنا الدراهم فقال: لا اقرضك الا بالرهن، قال: معى رهن انزل فخذه، وكانت له امرأة بنى بها تلك الليلة، فقالت: لا ادعك تنزل لانى ارى حمرة الدم فى ذلك الصوت فلم يلتفت اليها فخرج، وعانقه محمد بن مسلمة وهما يتحادثان حتى تباعدا من القصر الى الصحراء، ثم أخذ رأسه ودعا بقومه وصاح كعب فسمعت امرأته وصاحت وسمع بنو النضير صوتها فخرجوا نحوه فوجدوه قتيلا. ورجع القوم سالمين الى رسول الله (ص)، فأمر رسول الله (ص) بحربهم. قيل: كان اجلاء بنى النضير مرجع النبى (ص) من احد وكان فتح قريظة مرجعه من الاحزاب، وبينهما سنتان. وقيل: كان اجلاء بنى النضير قبل احد على رأس ستة اشهر من وقعة بدر، وقيل: كان ذلك بعد الحديبية، واليه اشار المولوى قدس سره بقوله:
وقت واكشت حديبيه رسول
در تفكر بود و غمكين و ملول
ناكهان اندر حق شمع رسل
دولت انا فتحنا زد دهل
آمدش بيغام از دولت كه رو
تو زمنع اين ظفر غمكين مشو
كاندرا بن خوارى بنقدت فتحها ست
نك فلان قلعه فلان قلعه تراست
بنكر آخر جونكه واكرديد تفت
برقريظه وبر نضير ازوى جه رفت
{ وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم } كانت بنو النضير يخربون بيوتهم بأيديهم ضنة بها على المسلمين واخراجا لآلاته النفيسة وتوسعة للقتال ومجالة مع المسلمين وتحصنا باطرافها التى تليهم بجمع آلات الاطراف التى تلى المسلمين فى الاطراف التى تليهم { وأيدي المؤمنين } فان المؤمنين ايضا كانوا يخربون الاطراف التى تليهم من بيوتهم لتوسعة القتال وامكان الوصول اليهم، ولما كانوا سببا لقتال المسلمين بنقض العهد نسب الاخراب بايدى المؤمنين اليهم، وقرئ يخربون بتشديد الراء { فاعتبروا يأولي الأبصار } فاتعظوا بحالهم فان الاعتبار عبارة عن ان ينظر الرجل الى امر حسن او الى امر قبيح وان ينظر الى عاقبته وما يترتب عليه ثم عطف النظر الى نفسه فارتدع عن القبيح ورغب فى الحسن، وتمسك بعض من اعتبر القياس بمثل هذه الآية ولا يخفى عدم دلالتها على اعتبار القياس .
[59.3]
{ ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا } مثل بنى قريظة { ولهم في الآخرة عذاب النار } يعنى ان عذاب النار ثابت لهم فى الآخرة وان لم يعذبوا فى الدنيا
[59.4]
{ ذلك بأنهم شآقوا الله ورسوله } عاندوا الله ورسوله (ص) ونبذوا عهده { ومن يشآق الله فإن الله شديد العقاب } فى الدنيا والآخرة يعنى يعاقبه بشدة العقوبة لان الله شديد العقاب.
[59.5]
{ ما قطعتم من لينة } اللينة اردء التمر، او ما كان اجناسا غير معروفة، ونسب الى الصادق (ع) انه قال: يعنى العجوة وهى ام التمر وهى التى انزلها الله من الجنة لآدم (ع) { أو تركتموها قآئمة على أصولها فبإذن الله } جواب عما قالوا: يا محمد ان الله يأمرك بالفساد؟! حين قطع النخل { وليخزي الفاسقين } بغيظهم وحسرتهم على قطع نخيلهم فى حضورهم.
[59.6-7]
{ ومآ أفآء الله على رسوله منهم } اى رده اليه.
اعلم، ان تمام ما سوى الله مملوك للحق تعالى شأنه نحو مملوكية القوى العلامة والعمالة للنفس الانسانية بل نحو مملوكية الصور الذهنية للنفس الانسانية وان الانسان كلما رقى مرتبة من المراتب الانسانية كان المرتبة الدانية فى عين مملوكيته خليفة للمرتبة العالية مثلا اذا عرج الانسان عن مقام النفس الى مقام القلب صار مقام النفس مملوكا للقلب وخليفة له فى التصرف فى القوى، وصارت القوى كما انها مملوكة للقلب مملوكة للنفس بعد القلب وهكذا، وان الله تعالى مالك لجميع ما سواه وبعده تعالى العقول مالكة لما دونها، وبعدها النفوس الكلية مالكة، وبعدها النفوس الجزئية مالكة، هذا فى النزول، واما فى الصعود وهو مختص بالانسان، فاذا استكمل الانسان واتصل بعالم الملأ الاعلى صار مالكا لما دونه وخليفة لله فيما دونه فكلما فى عالم الطبع فهو لله، وما كان لله فهو لرسوله (ص)، وما كان لرسوله (ص) فهو للائمة (ع)، وما كان للائمة (ع) فهو مباح لشيعتهم كما قال تعالى:
قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة
[الأعراف:32]، وما كان فى ايدى الاغيار فهو مغصوب فى ايديهم، وما اخذه الرسول (ص) والائمة (ع) والمؤمنون منهم فهو حقهم الذى كان مأخوذا منهم غصبا وصار عائدا الى اهله الذين كانوا مالكين له ولذلك سمى فيئا { فمآ أوجفتم عليه } وجف يجف اضطرب، والوجيف ضرب من سير الخيل والابل { من خيل ولا ركاب } الخيل جماعة الافراس لا واحد له، او واحده الخائل، ويطلق على جماعة الفرسان، والركاب ككتاب الابل واحدتها الراحلة، قيل: نزلت هذه الآية فى غنائم بنى النضير والآية الآتية فى سائر اموال الكفار التى يفيئها الله على رسوله (ص)، وقيل: كلتاهما نزلتا فى غنائم بنى قريظة وبنى النضير كانوا بقرب المدينة فمشوا الى قراهم سوى الرسول (ص) فانه ركب حمارا او جملا ولم يجر مزيد قتال ولذلك لم يعط الانصار منها شيئا الا رجلين او ثلاثة وفى غنائم خيبر وفدك، وقرى عرينه وينبع، والآية الاولى لبيان عدم استحقاق المقاتلين بحق المقاتلة، والآية الثانية لبيان المصرف { ولكن الله يسلط رسله على من يشآء والله على كل شيء قدير مآ أفآء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى } اى ذى قربى الرسول (ص) { واليتامى والمساكين وابن السبيل } من قرابات الرسول (ص) وقد خصص فى الاخبار كل ذلك باقرباء الرسول (ص) { كي لا يكون دولة بين الأغنيآء منكم } الدولة بالفتح والضم المال الذى يتداولونه بينهم، او بالضم فى المال، وبالفتح فى الحرب، او بالضم فى الآخرة، وبالفتح فى الدنيا، كذا فى القاموس { ومآ آتاكم الرسول } اى ما اعطاكم من غنائم بنى النضير، او من مطلق الغنائم، او من مطلق الاموال والاوامر { فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله } فى مخالفة الرسول (ص) { إن الله شديد العقاب } عن الصادق (ع) ان الله عز وجل ادب رسوله (ص) حتى قومه على ما اراد ثم فوض اليه فقال عز ذكره: ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا، فما فوض الله الى رسوله (ص) فقد فوضه الينا، والاخبار فى تفويض امر العباد الى رسول الله (ص) كثيرة وانه صلى الله عليه وآله احل وحرم اشياء فأجازه الله تعالى ذلك له.
[59.8-9]
{ للفقرآء المهاجرين } بدل من قوله لذى القربى،، او بدل من مجموع قوله لله وللرسول ويكون ابداله بالنسبة الى الله ورسوله نحو بدل الاشتمال، وبالنسبة الى ذى القربى وما بعده نحو بدل الكل من الكل والمراد بالمهاجرين من هاجر من مكة او من سائر بلاد الكفر الى المدينة او من هاجر السيئات الى الحسنات، او من هاجر من دار النفس الامارة الى دار النفس اللوامة، ومنها الى النفس المطمئنة اللتين هما دار الاسلام، ومنها الى القلب الذى هو دار الايمان { الذين أخرجوا } صفة للفقراء او ابتداء كلام ومبتدأ ويبغون خبره، او اولئك هم الصادقون خبره والجملة فى مقام التعليل، ووضع الظاهر موضع المضمر ليكون بعقد الوضع دالا على علة الحكم ايضا والمقصود انهم اخرجهم الكفار من مكة او من سائر بلادهم، او اخرجهم الملائكة من بلاد الكفر، او من مراتب نفوسهم وقال: اخرجوا دون خرجوا للاشعار بان الخارج من وطنه او من مقام الى مقام ان لم يكن بحسب الظاهر له مخرج فهو خارج بمخرج باطنى وليس خارجا بنفسه فيكون خروجه نعمة من ربه { من ديارهم وأموالهم يبتغون } فى ذلك الخروج { فضلا من الله ورضوانا } الفضل كما تكرر ذكره النعم الصورية والرسالة واحكامها وقبولها، والرضوان الولاية وآثارها وقبولها { وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون والذين تبوءوا الدار } عطف على الفقراء المهاجرين او على المهاجرين او على الذين اخرجوا او مبتدء وخبره يحبون من هاجر اليهم والجملة معطوفة على سابقتها والمعنى الذين اقاموا فى دورهم وهم الانصار الذين لم يكن لهم ان يخرجوا لهجرة الرسول (ص) اليهم { والإيمان } يعنى اقاموا فى الايمان فان الاوصاف كثيرا يحكم عليها بحكم الظروف { من قبلهم } اى من قبل المهاجرين فيكون المراد الذين آمنوا بمكة ثم رجعوا الى المدينة وانتظروا قدوم محمد (ص)، او المعنى تبوأوا الدار والايمان من قبل هجرة المهاجرين { يحبون من هاجر إليهم } من المؤمنين المهاجرين لانهم احسنوا الى المهاجرين واسكنوهم دورهم واشركوهم فى اموالهم { ولا يجدون في صدورهم حاجة ممآ أوتوا } اى المهاجرون اى لا يجد الذين تبوأوا الدار فى انفسهم حسدا او غيظا لازما للحاجة والفقر ناشئا مما اوتى المهاجرون، او من اجل ما اوتى المهاجرون من غنائم اهل القرى او غنائم بنى النضير، او مما اوتوا من الفضل الصورى والمعنوى لتسليمهم لقسم الله وتوكلهم على الله ورضاهم بما آتى الله العباد من الفضل الصورى والمعنوى، او لا يجدون فى صدورهم حاجة فى شيء من الاشياء لاجل ما اوتوا من قوة اليقين وقوة التوكل واستغناء القلب فيكون حينئذ مرفوع اوتوا راجعا الى الذين تبوؤا الدار { ويؤثرون } المؤمنين المهاجرين { على أنفسهم } بان يقدموا المؤمنين فى حظوظهم النفسانية وفى افضال الله بحسب الظاهر والباطن { ولو كان بهم خصاصة } فقر وحاجة { ومن يوق شح نفسه } يعنى من حفظه الله من شح نفسه والشحيح ابلغ من البخيل فان البخيل من يبخل بما فى يده ولا يعطيه لمستحقه، والشحيح من يبخل بمال الغير بمعنى انه يريد ان يكون ما فى يد الغير له ويحتال فى اخذ ما فى يد الغير بالحلال او الحرام، وقيل: شح النفس هو اخذ الحرام ومنع الزكاة { فأولئك هم المفلحون }
" روى انه جاء رجل الى رسول الله (ص) فشكى اليه الجوع فبعث رسول الله (ص) الى بيوت ازواجه فقلن: ما عندنا الا الماء، فقال رسول الله (ص): " من لهذا الرجل الليلة؟ " - فقال على بن ابى طالب (ع): انا له يا رسول الله (ص)، وأتى فاطمة (ع) فقال لها: " ما عندك يا ابنة رسول الله؟، فقالت: ما عندنا الا قوت العشية لكنا نؤثر ضيفنا، فقال يا ابنة محمد (ص) نومى الصبية واطفئ المصباح " ، فلما اصبح على (ع) غدا على رسول الله (ص) فأخبره الخبر فلم يبرح حتى انزل عز وجل: { ويؤثرون على أنفسهم } "
(الآية)، وقيل: انه اهدى لبعض الصحابة رأس مشوى وكان مجهودا فوجه به الى جار له فتداولته تسعة ثم عاد الى الاول فنزل: ويؤثرون على انفسهم. وقيل:
" قال رسول الله (ص) يوم بنى النضير للانصار: ان شئتم قسمتم للمهاجرين من اموالكم ودياركم وتشاركونهم فى هذه الغنيمة، وان شئتم كانت لكم دياركم واموالكم ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة "
فقال الانصار: بل نقسم لهم من اموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها، فنزلت الآية. وقيل: نزلت فى سبعة عطشوا فى يوم احد فجيئ بماء يكفى لاحدهم فقال واحد منهم: ناول فلانا حتى طيف على سبعتهم وماتوا ولم يشرب احد منهم، فأثنى الله سبحانه عليهم بهذه الآية.
[59.10]
{ والذين جآءوا من بعدهم } عطف على المهاجرين، او على الفقراء، او على من هاجر اليهم عطف المفرد، او مبتدأ وخبره يقولون والمعنى الذين يجيئون من بعد المهاجرين من مكة او من سائر البلاد، او الذين يجيئون من بعد المهاجرين والانصار من سائر المؤمنين من العدم الى الوجود { يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان } اى سبقونا فى رتبة الايمان او سبقونا فى اصل الايمان والتوصيف به لبيان وجه الاخوة وانها اخوة فى الدين { ولا تجعل في قلوبنا غلا } اى حقدا { للذين آمنوا ربنآ إنك رءوف رحيم } تجيب عبادك برأفتك.
[59.11-13]
{ ألم تر } يا محمد (ص) او من يمكنه الرؤية { إلى الذين نافقوا } وهو عبد الله بن ابى { يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب } يعنى بنى النضير { لئن أخرجتم } من دياركم { لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا } يعنى لا نطيع محمدا (ص) واصحابه فى القتال معكم { وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم } وكان كذلك حيث وعدهم ابن ابى ثم تخلف كما مضى { ولئن نصروهم } قضية فرضية فانه لم يقع منهم نصر لهم { ليولن الأدبار ثم لا ينصرون لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله } لانهم لا يخافون من الله ويخالفونه ويخافون منكم ويوافقونكم { ذلك بأنهم قوم لا يفقهون } لا يعلمون علما دينيا اخرويا وكان ادراكاتهم محصورة على ظاهر الدنيا ولذلك لا يخافون من الله ويخافون منكم.
[59.14]
{ لا يقاتلونكم } ايها المؤمنون { جميعا } اى المنافقون واليهود اذا اجتمعوا لا يقاتلونكم { إلا في قرى محصنة } لخوفهم منكم وهذه تجرئة للمؤمنين { أو من ورآء جدر بأسهم بينهم شديد } ولكن لالقاء الرعب فى قلوبهم لا يجترئون على مقاتلتكم لا لضعف وجبن فيهم { تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى } كما ان هذا شأن جميع اهل الدنيا تكون ابدانهم مجتمعة وقلوبهم متفرقة { ذلك بأنهم قوم لا يعقلون } لا عقل لهم، او لا يدركون بعقولهم، او لا يتعقلون ما فيه صلاحهم.
[59.15]
{ كمثل الذين من قبلهم } متعلق بواحد من الافعال السابقة، او خبر مبتدء محذوف والتقدير مثلهم فى ذلك كمثل الذين من قبلهم والمراد بمن قبلهم بنو قينقاع، او الذين قتلوا ببدر او كل ابناء الدنيا، فان من كان من اهل الدنيا حاله ان لا يفى بوعده ان لم يكن فى الوفاء نفعه الدنيوى وكان من يشاهدونهم اشد رهبة فى صدورهم ممن لا يشاهدونه وتحسبهم جميعا وقلوبهم شتى. قيل: ان بنى قينقاع نقضوا العهد وقت رجوع رسول الله (ص) من بدر فأمرهم رسول الله (ص) ان يخرجوا قال عبد الله بن ابى: لا تخرجوا فانى اتى الى النبى (ص) فاكلمه فيكم او ادخل معكم الحصن، فكان هؤلاء ايضا مغترين بارسال عبد الله بن ابى ثم ترك نصرتهم { قريبا } اى حالكونهم قريبا منكم او زمانا قريبا { ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم } فى الآخرة.
[59.16]
{ كمثل الشيطان } متعلق بقوله تعالى: من قبلهم، او بذاقوا او بقوله لهم فى لهم عذاب اليم، او خبر مبتدء محذوف والتقدير مثل عبد الله بن ابى فى غزوة بنى النضير وبنى قينقاع كمثل الشيطان { إذ قال للإنسان اكفر } قولا فعليا او قولا نفسانيا { فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين } الاتيان بالماضى للاشعار بان المراد بذلك القول وهذا الانسان قول شخصى وانسان مشخص لا القول النوعى والانسان الجنسى، والا كان المناسب ان يقول كمثل الشيطان يقول للانسان على الاستمرار اكفر، ولعله اشارة الى تمثله بصورة سراقة واغراء المشركين على محمد (ص) ببدر، وقيل: انه اشارة الى عابد بنى اسرائيل كان اسمه برصيصا، عبد الله زمانا من الدهر حتى بلغ من عبادته الى ان يؤتى بالمجانين اليه وكان يداويهم ويعوذهم، فيبرؤن، وأتى بامراة كانت فى شرف فى اهلها قد جنت وكان لها اخوة فأتوه بها فكانت عنده فلم يزل به الشيطان حتى وقع عليها فحملت فلما استبان حملها قتلها ودفنها، فذهب الشيطان فقال لاخوتها واحدا واحدا، فجعل الرجل يلقى اخاه فيقول: والله لقد أتانى آت فذكر لى شيئا يكبر على ذكره، فذكر بعضهم لبعض حتى بلغ ذلك ملكهم، فسار الملك والناس فاستذلوه فاقر لهم بما فعل، فأمر به فصلب، فلما رفع على خشبته تمثل له الشيطان فقال: انا الذى القيتك فى هذا فهل انت مطيعى فيما اقول لك اخلصك مما انت فيه؟ - قال: نعم، قال: اسجد لى سجدة واحدة فقال: كيف اسجد لك وانا على هذه الحالة؟ - فقال: اكتفى منك بالايماء، فأومى له بالسجود فكفر بالله وقتل الرجل.
[59.17-18]
{ فكان عاقبتهمآ } اى الشيطان والانسان الكافر بقوله او عاقبة الفريقين من الممثل له والممثل به { أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزآء الظالمين يأيها الذين آمنوا } بالبيعة الاسلامية { اتقوا الله } فى ارتكاب المناهى وترك الاوامر القالبية، او اتقوا الله فى نقض البيعة ونقض العهد كعبد الله بن ابى وبنى النضير وبنى قينقاع، او اتقوا الله فى شوب الاعمال القالبية بالاغراض النفسانية المباحة او الغير المباحة، او المعنى يا ايها الذين آمنوا بالبيعة الايمانية الولوية اتقوا الله فى الانحراف عن طريق القلب او اتقوا الله فى نسيان الذكر المأخوذ، او فى نسيان الله فى جميع اعمالكم، او المعنى يا ايها الذين آمنوا بالايمان الشهودى بشهود ملكوت ولى الأمر ونزول السكينة والحضور عند ولى امركم اتقوا الله فى الالتفات الى غير ولى امركم والالتذاذ بغير شهود جماله فانه ضيف عزيز غيور اذا نظرتم الى غيره او انصرفتم الى لذة غير لذة شهود جماله لم يقم فى بيوت قلوبكم وبقى لكم حسرة فراقه وندامته، او اتقوا الله فى نسبة الافعال والصفات الى انفسكم حين حضوركم عند ولى امركم { ولتنظر نفس ما قدمت لغد } نكر النفس مع ان المراد ولتنظر كل نفس ما قدمت لغد لايهام انه اذا نظر نفس واحدة من المؤمنين الى اعماله يكفى عن سائر المؤمنين لاتحاد بينهم، او للاشارة الى انهم نفس واحدة وان كان ابدانهم متعددة لان فعليتهم الاخيرة هى صورة ولى امرهم النازلة اليهم بالبيعة وقبول الولاية فعلى هذا يكون المعنى: ولتنظر نفس عظيمة هى صورة ولى امرهم وهى فعليتهم الاخيرة ما قدمت لغد، ويكون فيه اشارة الى ان من ينظر الى اعماله الاخروية فلينظر بالفعلية الاخيرة التى هى فعلية الولاية حتى يمكنه ان يميز بين صحيحها وفاسدها مشوبها وخالصها، مدخرها لغده وراجعها الى النفس والعاجل؛ فان هذا التميز امر صعب لا يحصل الا للناقد البصير المخلص، او للاشارة الى ان نفس ولى امرهم نفسية الكل والمعنى ولتنظر نفس عظيمة ما قدمت لغد بنفسها فان نظرها الى ما قدمت هى يكفى عن نظر المؤمنين، او لتنظر نفس ولى الامر ما قدمت لغد اى ما قدمت اتباعها لغد فان فعل الاتباع فعل ولى الامر بوجه، والمعنى ان ولى الامر مأمور بان ينظر الى اعمال اتباعه ويجبر نقصانها وقال لغد مع ان المراد ما قدمت للقيامة للاشارة الى قربها، ولان المراتب الطولية كالايام العرضية كل يجيء بعقب الاخرى وكل يخلف الاخرى ولان المراتب الطولية كل بالنسبة الى الاخرى يوم وليل باعتبارين كما سبق مكررا، ونكر الغد لتفخيمه وللاشارة الى انه لا يمكن تعريفه للمحجوبين بحجاب المادة، ولفظة ما نافية، والجملة صفة لنفس، او معلق عنها العامل، او استفهامية ومعلق عنها العامل، او موصولة ومفعول لتنظر { واتقوا الله } تأكيد لقوله اتقوا الله او النظر منه الى مرتبة اخرى من التقوى فان للتقوى كما مر فى اول البقرة واشرنا اليه ههنا مراتب عديدة مترتبة، او المقصود منه ان تتقوا الله بعد ما نظرتم الى اعمالكم الاخروية وميزتم سقيمها عن سليمها ومشوبها عن خالصها فى ان تفسدوها بالاغراض النفسانية، او تشوبوها بالانتفاعات النفسية ولو كانت تلك الانتفاعات القرب من الله او رضاه او المقامات الاخروية { إن الله خبير بما تعملون } فيميز المشوب عن الخالص فهو تأكيد للتقوى وتعليل للامر بها.
[59.19]
{ ولا تكونوا كالذين نسوا الله } مطلقا فلا يعملون لغد، او لا تكونوا كالذين نسوا الله فيما يعملون للآخرة فيجعلونها للدنيا من حيث لا يشعرون { فأنساهم أنفسهم } التى هى جهاتهم الالهية ولطيفتهم الانسانية فانها ذواتهم وانفسهم الانسانية، وبنسيان انفسهم ينسون ما ينفعها فلا يفعلون ما يفعلون الا لانفسهم الحيوانية لا لانفسهم الانسانية فيكونون فى الآخرة من الاخسرين اعمالا الذين ضل سعيهم فى الحياة الدنيا وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا، او فأنسيهم امامهم الذى هو نفسية انفسهم وبنسيان الامام لا يكون للانسان الا الوبال والخسران { أولئك هم الفاسقون } تعليل للسابق.
[59.20]
{ لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة } فى مقام التعليل كانه قال: نهيناكم عن المماثلة معهم لانه لا يستوى فى القيامة الناسون لانفسهم والمتقون لان الناسين اصحاب النار والمتقين اصحاب الجنة لكنه عدل عن المضمر الى هذا الظاهر لافادة انهم اصحاب النار وان المتقين اصحاب الجنة، وللاشارة الى علة عدم الاستواء { أصحاب الجنة هم الفآئزون } ويستفاد من حصر الفوز باصحاب الجنة بقرينة المقابلة ان اصحاب النار هم الخاسرون المعذبون.
[59.21]
{ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل } مع صلابته وعظمته { لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله } وقد انزلناه عليكم وانتم ضعفاء لينون وما خشعتم وما تصدعتم من خشية الله، وهذه قضية فرضية وتعريض ببنى آدم { وتلك الأمثال } الفرضية { نضربها للناس لعلهم يتفكرون } فى احوالهم وينظرون الى قساوتهم ويتدبرون فى تليين قلوبهم.
[59.22]
{ هو الله الذي لا إله إلا هو } كلام منقطع عن سابقه والمنظور اثبات التوحيد الذى هو المنظور من كل منظور ومبدء كل مبدء وغاية كل غاية والثناء عليه وتعداد محامده { عالم الغيب والشهادة } اى عالم بما غاب عن الخلق وبما كان مشهودا لهم، او عالم بعالم الغيب وعالم الشهادة { هو الرحمن } المفيض للوجودات وللكمالات الاولية على الموجودات { الرحيم } المفيض للكمالات الثانوية عليها، او الرحمن هو المفيض لاصل الوجود وجميع كمالاته على الاشياء والمفيض للوجود وكمالاته الاولوية على الانسان، والرحيم هو المفيض للكمالات الثانية على الانسان وقد سبق معناهما مفصلا فى سورة فاتحة الكتاب.
[59.23]
{ هو الله الذي لا إله إلا هو } لما كان المنظور التوحيد وتعداد المحامد أتى بهذه الجملة بدون العاطف بنحو التعداد، وفى هذه اشارة الى تعليل السابق وهو باعث لترك العاطف ايضا وهى تأكيد للاولى وهو ايضا باعث لترك العاطف { الملك } الذى يتصور كونه ملكا بتصوير كون النفس ملكا لقواها بل لصورها الذهنية وبذلك يثبت كونه رحمانا رحيما وكونه عالما بالغيب والشهادة { القدوس } الذى كان منزها عن الكثرات، ونسبة الافعال والصفات، ولحاظ تلك النسب والحيثيات، وقد مضى فى اول البقرة عند قوله تعالى:
ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك
[البقرة:30] بيان وتفصيل للتسبيح والتقديس، وقرئ قدوس بفتح الفاء وهما لغتان فيه والصيغة للمبالغة مثل سبوحا مفتوحا ومضموما { السلام } السالم من كل نقص وعيب ومن كل انحاء الكثرات والحدود والنسب والاضافات الا فى اعتبار المعتبرين، والسالم من تمسك به من كل اثم وذنب وخطاء، والسالم من خاف منه من كل امر مخوف، والسالم عباده من ظلمه { المؤمن } الذى آمن خلقه عن ظلمه، او آمن خلقه من المخوفات، او جعل عباده امناء، او امن بنفسه قبل ايمان خلقه، او دعى خلقه الى الايمان به { المهيمن } هيمن قال امين مثل امن، وهيمن الطائر على فراخه رف، وهيمن على كذا صار رقيبا عليه، والمهيمن من اسمائه تعالى بمعنى المؤتمن، او من آمن غيره من الخوف، او الامين، او الشاهد، او الرقيب، وقيل: هو مؤامن بهمزتين قلبت الثانية ياء ثم الاولى هاء { العزيز } الغالب الذى لا يغلب او ذو المناعة والتأنف { الجبار } الذى يجبر كل كسر ونقص وقصور وتقصير من عباده، او من سائر خلقه، او العظيم الشأن، او الذى يذل من دون ولا تناله يد غيره { المتكبر } البالغ فى كبره بحيث لا يبقى عنده جليل ولا حقير { سبحان الله عما يشركون } من الاصنام والكواكب والعناصر وسائر المواليد لعدم بقاء شيء عند كبره.
[59.24]
{ هو الله الخالق البارىء المصور } تعداد للمدائح وتعليل للسابق، والخالق هو الذى اوجد مادة الشيء اولا، والبارئ هو الذى سواه واوجده على ما ينبغى، والمصور هو الذى يعطى كله وكل اجزائه صورا لائقة بحالها { له الأسمآء الحسنى } الاسم كما سبق فى اول الفاتحة وفى اول البقرة عند قوله
وعلم آدم الأسمآء كلها
[البقرة:31] للاختصاص له بالاسم اللفظى بل كلما يدل على شيء آخر هو اسم لذلك الشيء سواء كان دلالته وضعية ام طبعية ام عقلية، وسواء كان الدال لفظا او معنى او ذاتا جوهريا، والاسم الحسن هو الذى لا يكون فى اطلاقه على الله وفى دلالته عليه شوب نقص وعدم وحد، وهذه العبارة تفيد بتقديم له ومعناه حصر الاسماء الحسنى فيه وذلك لحصر الصفات العليا فيه، وبمفهوم مخالفة الصفة تفيد عدم جواز اطلاق الاسماء السوءى عليه، والاسماء السوءى ما كان دلالته او اطلاقه عليه تعالى مستلزما للنقص والحد، والجملة فى مقام التعليل لاتصافه تعالى بالاسماء السابقة، وقد مضى فى سورة الاعراف عند قوله تعالى:
ولله الأسمآء الحسنى
[الأعراف: 180] تفصيل لهذه العبارة { يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم } لما كان السورة لبيان توجه الاشياء اليه تعالى، وتوجهه تعالى بالتربية اليهم ختم السورة بما فتحها به وجعله تعليلا لقوله تعالى: له الاسماء الحسنى فان تمام الاسماء الاضافية والاسماء الحقيقية تستفاد من تسبيح جميع الاشياء له، وقوله: { وهو العزيز الحكيم } تعليل وتأكيد لما يستفاد من تسبيح الاشياء له فانه لا يتصور ان تكون الاشياء مسبحة له تعالى الا اذا كان هو الفعلية الاخيرة للاشياء وكان قوام جميع الاشياء به، وهذا المعنى يستلزم جميع الصفات السلبية والاضافية والحقيقية ذات الاضافة والحقيقة المحضة.
[60 - سورة الممتحنة]
[60.1]
{ يأيها الذين آمنوا } بالبيعة العامة { لا تتخذوا عدوي وعدوكم أوليآء تلقون إليهم بالمودة } قيل: نزلت فى خاطب بن ابى بلتعة وذلك ان مولاة ابى عمرو اتت رسول الله (ص) من مكة الى المدينة بعد بدر بسنتين فقال لها رسول الله (ص):
" امسلمة جئت؟ - قالت: لا، قال: فما جاء بك؟ - قالت: احتجت حاجة شديدة فأتيتكم لترفعوا حاجتى، قال: فاين انت من شبان مكة؟ - وكانت مغنية نائحة قالت: ما طلب منى احد بعد وقعة بدر فحث رسول الله (ص) عليها بنى عبد المطلب فكسوها وحملوها وأعطوها نفقة، وكان رسول الله (ص) يتجهز لفتح مكة فأتاها خاطب بن ابى بلتعة وكتب معها كتابا الى اهل مكة واخبرهم ان محمدا (ص) يريدهم، فخرجت سارة ومعها الكتاب وكانت كتمته فى ذؤابتها، فنزل جبرئيل فأخبر النبى (ع) فبعث رسول الله (ص) عليا وعمارا وعمر والزبير وطلحة والمقداد وابا مرثد وكانوا كلهم فرسانا، وقال لهم: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاج وخذوا الكتاب منها، فخرجوا الى ذلك المكان فوجدوها به فقالوا لها: اين الكتاب؟ - فحلفت بالله ما معها كتاب ففتشوها فلم يجدوا معها كتابا فهموا بالرجوع، فقال على (ع): والله ما كذب رسول الله (ص) وسل سيفه وقال: اخرجى الكتاب والا والله لاضربن عنقك فأخرجته من ذؤابتها فرجعوا بالكتاب الى رسول الله (ص)، فقال لخاطب: ما حملك على ما صنعت؟ - قال: يا رسول الله (ص) والله ما كفرت منذ اسلمت ولا غششتك منذ نصحتك ولكن لم يكن احد من المهاجرين الا وله بمكة من يمنع عشيرته وكنت غريبا وكان اهلى بين ظهرانيهم فخشيت على اهلى فأردت ان اتخذ عندهم يدا وقد علمت ان كتابى لا يغنى عنهم شيئا { وقد كفروا بما جآءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم } من مكة { أن تؤمنوا } لان تؤمنوا "
{ بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغآء مرضاتي } شرط تهييجى { تسرون } تلقون { إليهم } فى السر او تظهرون اليهم فى السر { بالمودة } او تعلمونهم فى السر من احوال الرسول (ص) بسبب المودة التى بينكم وبينهم { وأنا أعلم } فعل او افعل التفضيل { بمآ أخفيتم ومآ أعلنتم } فاطلع رسولى عليكم { ومن يفعله منكم فقد ضل سوآء السبيل } وهو الصراط الانسانى يعنى ضل سواء السبيل الى الطرق الشيطانية.
[60.2]
{ إن يثقفوكم } فى موضع التعليل { يكونوا لكم أعدآء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء } بالقتل والضرب والشتم { وودوا لو تكفرون } عطف على جملة الشرط والجزاء .
[60.3]
{ لن تنفعكم أرحامكم } الذين تخالفون رسول الله (ص) بسببهم { ولا أولادكم } والملة جواب لسؤال مقدر عن كيفية انتفاعهم بأرحامهم او عن علة هذا القول { يوم القيامة } ظرف لقوله لن تنفعكم او لما بعده { يفصل بينكم } اى يفرق بينكم يوم القيامة بشدة الهول والخوف بحيث يفر كل من كل، وقرئ يفصل مبنيا للفاعل ومبنيا للمفعول من الثلاثى المجرد ومن التفعيل { والله بما تعملون بصير } فيجازيكم على ما عملتم فلا نجاة لكم من قبل ارحامكم ولا من قبل الله تعالى.
[60.4]
{ قد كانت لكم أسوة حسنة } اقتداء حسن او خصلة حسنة ينبغى ان يقتدى بها { في إبراهيم والذين معه إذ قالوا } بدل من ابراهيم او تعليل او ظرف لقوله معه { لقومهم إنا برءآؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم } اى تبرأنا منكم فان الكفر ههنا كما فى الخبر بمعنى البراءة { وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضآء أبدا } يعنى بغضنا لكم بغض لله وبغضكم لنا بغض للشيطان { حتى تؤمنوا بالله وحده } فحينئذ ينقلب العداوة محبة والفة { إلا قول إبراهيم } استثناء من ابراهيم استثناء متصلا فى كلام تام او استثناء مفرغ والتقدير لكم اسوة حسنة فى ابراهيم فى كل شيء منه الا فى قول ابراهيم (ع) { لأبيه لأستغفرن لك } فان هذا القول كان لموعدة وعدها اياه والا كان متبرء منه { ومآ أملك لك من الله من شيء } اى من قبل الله او من رحمة الله او من عذاب الله { ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير } اشارة الى الفناءات الثلاثة، فان التوكل ليس الا بترك نسبة الفعل الى النفس، والانابة حينئذ تكون بترك نسبة الصفات، واليك المصير اشارة الى فناء الذات، هذه الجمل من مقول القول الاول ومن جملة ما يتأسى به.
[60.5]
{ ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا } اى لا تجعلنا امتحانا او ضلالا او اثما او كفرا او فضيحة او عذابا او اضلالا يعنى لا تجعلنا سبب ذلك لهم، او لا تجعلنا ممتحنين لاجل عذاب الذين كفروا، او لاجل هداية الذين كفروا ومعنى كونهم سببا لفتنة الذين كفروا ان يجعلهم بحال من الفقر والحاجة او من الابتلاء والمصيبة او من ارتكاب ما لا ينبغى ان يرتكبوا من المعاصى او من اختلاف الكلمة والنزاع بينهم، او من موالاة الكفار او اتباعهم فى بعض مالهم، او من المعارضة معهم، او من المجادلة معهم والضعف عن جوابهم يستهزء بهم او يغتابون او يعارضون او يشتمون او ينفر منهم ومن دينهم او يقاتلون، وقيل: معناه ولا تسلطهم علينا فيفتنونا عن دينك، وقيل: الطف بنا حتى نصبر على اذاهم ولا نتبعهم فنصير فتنة لهم، وروى عن الصادق (ع) انه قال: ما كان من ولد آدم (ع) مؤمن الا فقيرا ولا كافر الا غنيا حتى جاء ابراهيم (ع) فقال: { ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا } ، فصير الله فى هؤلاء اموالا وحاجة وفى هؤلاء اموالا وحاجة اقول على المؤمنين ان يشكروا ابراهيم (ع) ولا ينسوا منته التى منها عليهم { واغفر لنا } ما فرط منا حتى لا تؤاخذنا بذلك فتجعلنا فتنة لغيرنا { ربنآ إنك أنت العزيز } الغالب المنيع { الحكيم } الذى تعلم دقائق الامور وتتقن الصنع مشتملا على غايات دقيقة انيقة.
[60.6]
{ لقد كان لكم فيهم } فى ابراهيم (ع) وقومه { أسوة حسنة } كرره للتأكيد والترغيب ولتخصيصه بمن كان يرجوا لله { لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر } يعنى هذه الاسوة مختصة بمن كان يرجوا لله واما غيره فلا يتأسى { ومن يتول } عن التأسى منكم فلا يضر الله شيئا وانما امركم بالتأسى ترحما عليكم { فإن الله هو الغني الحميد } حمد ام لم يحمد
[60.7]
{ عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة } جواب لسؤال مقدر { والله قدير } على ان يبدل المعاداة والتبرى محبة وموالاة { والله غفور } يغفر ما صدر منهم من معاداتكم بجهالة وما صدر منكم من موالاتهم بجهالة { رحيم } يرحمهم ويرحمكم فضلا عن مغفرته لكم، فى خبر عن الباقر (ع): قطع الله ولاية المؤمنين من قومهم من اهل مكة واظهروا لهم العداوة فقال: عسى الله ان يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة فلما اسلم اهل مكة خالطهم اصحاب رسول الله (ص) وناكحوهم وتزوج رسول الله (ص) حبيبة بنت ابى سفيان بن حرب.
[60.8-9]
{ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم } بدل عن الذين لم يقاتلوكم { وتقسطوا إليهم } بتضمين تقضوا { إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم } بدل عن الذين قاتلوكم او التقدير كراهة ان تولوهم { ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون } بوضع الولاية غير موضعها بل موضع العداوة.
[60.10]
{ يأيها الذين آمنوا } ابتداء كلام وادب آخر للمؤمنين ولذلك صدره بالنداء جبرانا لكلفة التأديب وتنشيطا فى الاستماع { إذا جآءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن } بان تختبروا موافقة قلوبهن لالسنتهن بان يحلفن ما خرجن من بغض زوج ولا رغبة من ارض الى ارض ولا التماس دينا وما خرجن الا حبا لله، وعلى هذا كان معنى مؤمنات مذعنات ومصدقات، او مشرفات على الاسلام، قيل: صالح رسول الله (ص) بالحديبية على ان من أتاه من اهل مكة رده عليهم، ومن أتى اهل مكة من اصحاب رسول الله (ص) لم يردوه، فجاءت سبيعة بنت الحارث مسلمة بعد الفراغ من الكتاب والنبى (ص) بالحديبية فأقبل زوجها مسافر من بنى مخزوم فى طلبها وكان كافرا فقال: يا محمد اردد على امرأتى فانك قد شرطت اليوم ان ترد علينا من أتاك منا، فنزلت الآية فأعطى رسول الله (ص) زوجها مهرها وما انفق عليها ولم يردها عليه فزوجها عمر بن الخطاب وكان رسول الله (ص) يرد من جاءه من الرجال ويحبس من جاءه من النساء، اذا امتحن { الله أعلم بإيمانهن } وانما يأمركم بالامتحان ليظهر عليكم ايضا ايمانهن { فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم } فى موضع التعليل { ولا هم يحلون لهن } روى انه قيل للصادق (ع): ان لامرأتى اختا عارفة على رأينا بالبصرة وليس على رأينا بالبصرة الا قليل فازوجها ممن لا يرى رأيها؟ - قال: لا، ولا نعمة؛ ان الله يقول : فلا ترجعوهن الى الكفار (الآية) { وآتوهم } اى آتوا الكفار { مآ أنفقوا } على تلك النساء من المهر وغيره { ولا جناح عليكم أن تنكحوهن } ترخيص لهم فى نكاحهن بعد اسلامهن { إذآ آتيتموهن أجورهن } مهورهن سماها اجورا لان المهر اجر لبذل البضع، وهذا يدل على عدم الاكتفاء فى مهورهن بمهورهن الاولى المردودة الى ازواجهن { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } يعنى كما ان المؤمنات لا يحللن للكفار فكذلك المؤمنون لا يحلون للكافرات، والعصم جمع العصمة بكسر العين وقد يضم القلادة، وهذه الآية كما تدل على حرمة المشركات تدل على حرمة الكتابيات { واسألوا مآ أنفقتم } ان لحقت منكم امرأة بالكفار { وليسألوا مآ أنفقوا } يعنى اذا كان بينكم معاهدة فاسئلوا انتم ما أنفقتم وليسألوا ايضا ما أنفقوا ولا ترجعوا النساء الملحقات بكم منهم اليهم ولا تستردوا الملحقات بهم منكم { ذلكم } المذكور من حكم الملحقات بهم وبكم { حكم الله يحكم بينكم } به { والله عليم } بالمصالح والغايات المترتبة على الافعال والاحكام { حكيم } لا يفعل فعلا الا بغايات محكمة نافعة ولا يحكم حكما الا لمصالح عديدة وغايات شريفة.
[60.11]
{ وإن فاتكم شيء } اى واحدة { من أزواجكم إلى الكفار } اى راجعة الى الكفار { فعاقبتم } اى فأصبتم من الكفار عقبى اى غنيمة { فآتوا } ايها المؤمنون { الذين ذهبت أزواجهم مثل مآ أنفقوا } من الغنيمة التى اصبتم او المعنى فعاقبتم على نساء اخر فأتوا ايها المؤمنون من بيت مال المسلمين الذين ذهبت ازواجهم ما أنفقوا، وقيل: عاقبتم الكفار لسبى النساء منهم او باخذ الغنيمة او باتيان النساء منهم اليكم مؤمنات { واتقوا } ايها المؤمنون من عدم اعطاء ما أنفقوا { الله الذي أنتم به مؤمنون } قيل: كانت لحق المشركين من نساء المؤمنين ست نسوة فأعطى النبى (ص) ازواجهن مهورهن.
[60.12]
{ يأيها النبي } خص الخطاب والنداء به لاختصاص الحكم به فانه كان يأخذ البيعة من الرجال والنساء دون غيره { إذا جآءك المؤمنات } اى المذعنات او المشرفات على الاسلام { يبايعنك } لما كان زمان بعثة الرسول (ص) زمان فترة من الرسل (ع) واندراس من احكامهم وكان الناس بالاخذ من الآباء والمعلمين منتحلين لملتهم وكان البيعة التى كانت اصل جملة الخيرات ولم يكن شريعة ولم يصدق ملة الا بها مندرسة ممحوا اثرها من الاذهان، بل كانت غريبة فى انظارهم مستهجنة فى عقولهم الجزئية وكان الرجال بعد مشاهدة هذه الفعلة من الرسول (ص) واخذ البيعة من كل من اراد الاسلام ايقنوا انهم اذا ارادوا الاسلام وجب عليهم هذه الفعلة، واما النساء فكأنه خفى عليهن وجوبها وكأنهن اعتقدن ان الاسلام بان يقلن: لا اله الا الله، محمد رسول الله (ص)، ولم يعلمن ان الانسان بهذه الكلمة فى امان فاما الاسلام فلا يتحقق الا بالبيعة اظهر الله تعالى كيفية بيعتهن تعريضا بوجوبها عليهن ايضا { على أن لا يشركن بالله شيئا } من الاشياء او لا يشركن شيئا من الاشراك { ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن } بالوأد { ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن } قيل: كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها: هذا ولدى منك كنى بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها عن الولد الذى تلصقه بزوجها كذبا لان بطنها الذى تحمله فيه بين اليدين وفرجها الذى تلده بين الرجلين، وليس المعنى نهيهن عن الاتيان بولد من الزنا لان الشرط بنهى الزنا قد تقدم، وقيل: البهتان الذى نهين عنه قذف المحصنات والكذب على الناس، واضافة الاولاد الى الازواج على البطلان، يعنى اذا جاءك المؤمنات يبايعنك على ذلك فى الحاضر والمستقبل من الزمان { ولا يعصينك في معروف } يعنى لا يعصينك فما امرت به فانه ليس الا معروفا { فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم }.
اعلم، ان البيعة التى كانت معمولة فى جميع الشرائع كانت بمنزلة الانفحة للبن الوجود وما لم تتصل الانفحة باللبن لم ينعقد وبمنزلة التأبير لثمر النخل ما لم يؤبر النخل لم يحمل الثمر وبها يحصل اللب لجوز الوجود وفستقه، وبمنزلة الوصلة من الشجر الحلو على الشجر المر ما لم يتصل من الشجر الحلو وصلة بالشجر المر لم يصر ثمره حلوا، ولذلك كانوا فى كل شريعة من اول الامر مهتمين بالبيعة، قيل: كان النبى (ص) يبايع النساء بالكلام بهذه الآية: وما مست يد رسول الله (ص) يد امرأة قط الا امرأة يملكها، وروى انه كان اذا بايع النساء دعا بقدح ماء فغمس فيه يده ويقول ما قاله الله تعالى ثم اخرج يده ثم غمسن ايديهن فيه، وقيل: انه كان يبايعهن من وراء الثوب، وقيل: الوجه فى بيعة النساء مع انهن لسن من أهل النصرة بالمحاربة هو اخذ العهد عليهن بما يصلح شأنهن فى الدين والانفس والازواج، وكان ذلك فى صدر الاسلام، ولئلا ينفتق لهن فتق لما صنع من الاحكام فبايعهن النبى (ص) حسما لذلك.
[60.13]
{ يأيها الذين آمنوا } لما لم يكن هذا الحكم خاصا بالنبى (ص) خاطب جميع المؤمنين { لا تتولوا قوما غضب الله عليهم } قيل: كان فقراء المسلمين يخبرون اليهود اخبار المسلمين فيصيبون من ثمارهم فنهى الله عن ذلك { قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور } اى الكفار الذين هم جنس اهل القبور من الآخرة، او كما يئس الكفار من وصول خير من اهل القبور اليهم، او كما يئس الكفار من ان يحيى اهل القبور.
[61 - سورة الصف]
[61.1-3]
{ سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم يأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } قيل: نزلت فى قوم كانوا يقولون اذا لقينا العدو لم نفر ولم نرجع عنهم ثم لم يفوا يوم احد، وقيل: نزلت فى قوم قالوا: جاهدنا وأبلينا وفعلنا ولم يفعلوا، وقيل: نزلت فى المؤمنين فانهم بعدما سمعوا ثواب شهداء بدر قالوا: لو لقينا قتالا جهدنا غاية جهدنا ولم نفر، وقيل: ان المسلمين قالوا: لو علمنا احب الاعمال لبذلنا فيه اموالنا وانفسنا، فأنزل الله ان الله يحب الذين يقاتلون فى سبيله صفا فلم يفوا يوم احد وقال القمى: نزلت فى الذين وعدوا محمدا (ص) ان لا ينقضوا عهده فى امير المؤمنين (ع) فعلم الله انهم لا يفون بما يقولون وقد سماهم الله المؤمنين باقرارهم وان لم يصدقوا.
اعلم، ان القول ههنا اعم من القول اللسانى والقول النفسانى اى الاعتقاد الجنانى، واما الخطرات والخيالات التى تقذف فى قلوب الناس من غير عزم منهم عليها فهى ليست اقوالا لهم بل هى واردة عليهم من الشيطان او الملك فهى اقوال الشيطان او الملك، وهذا القول اعم من ان يكون فى الاحكام الالهية بان يقول الانسان بنحو الافتاء او التقليد حكما من الاحكام ولا يفعل به، وفى الامر بالمعروف والنهى عن المنكر بان يأمر غيره ولا يأتمر وينهى ولا ينتهى، وفى المواعظ والنصائح بان يعظ وينصح بما لم يفعله، وقد ابتلى بالاول والثانى المجتهدون الذين نصبوا انفسهم لبيان احكام العباد، والمقلدون الذين نصبوا انفسهم لذلك، وبالثالث القصاص والوعاظ وان كان لا يخلوا من الثلاثة اكثر الناس ولو بالنسبة الى من تحت يده، وفى المواعيد والعقود والبيعة الاسلامية والايمانية، فانه ورد عن الصادق (ع): عدة المؤمن اخاه نذر لا كفارة له فمن اخلف فبخلف الله بدأ ولمقته تعرض، وذلك قوله: يا ايها الذين آمنوا (الآيتين) وعن على: الخلف يوجب المقت عند الله وعند الناس قال الله تعالى: { كبر مقتا عند الله } (الآية) وفى الصنائع والحرف فان صاحب الحرفة اذا قال: ينبغى لصاحب الصنعة ان يكون صنعته كذا وكذا، او قال: الصنعة اذا كانت كذا وكذا كان المصنوع محكما وكان ابقى ولم يكن يفعل.
[61.4]
{ إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا } مصطفين تعليل لقوله: لم تقولون ما لا تفعلون على ما بين من نزوله فى الذين تمنوا القتال والجهاد ثم لم يثبتوا فى احد او مطلقا، فان توفيق الفعل للقول يحتاج الى كثير جهاد مع النفس والشيطان { كأنهم بنيان مرصوص } الرص اتصال بعض البناء ببعض واستحكامه، وعن امير المؤمنين (ع) انه قال: ان الله يحب الذين يقاتلون فى سبيله صفا، اتدرون ما سبيل الله؟ ومن سبيله؟! انا سبيل الله الذى نصبنى للاتباع بعد نبيه (ص).
[61.5]
{ وإذ قال موسى } اى ذكرهم اذ قال موسى (ع) { لقومه يقوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم } حتى يتذكروا بقبح فعل قوم موسى (ع) وغايته المترتبة عليه فارتدعوا من ايذائك او ايذاء عترتك بعدك { فلما زاغوا } عن الحق { أزاغ الله قلوبهم } عن الاستقامة الانسانية وجعلهم منكوسا رؤسهم { والله لا يهدي القوم الفاسقين } تعريض بمن خرج عن قول الرسول (ص) فى حق على (ع) او مطلقا، يعنى من لا يهديه الله لا يقبل الحق ولو أتى بالف آية والله لا يهدى القوم الفاسقين وانكم يا قوم محمد (ص) فساق بالخروج عن قوله وعدم طاعته.
[61.6-7]
{ وإذ قال عيسى ابن مريم } يعنى ذكرهم حتى يتذكروا بحقيتك ولا يخرجوا من طاعتك { يبني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد } والاخبار فى تبشير الانبياء (ع) واخبارهم بظهور محمد (ص) وبعثته اكثر من ان تحصى، ونسب الى الباقر (ع) ان اسم النبى (ص) فى صحف ابراهيم (ع) الماحى وفى توراة موسى (ع) الحاد، وفى انجيل عيسى (ع) احمد (ص)، وفى القرآن محمد (ص)، ونقل انه سأل بعض اليهود رسول الله: لم سميت احمد؟ - قال: لانى فى السماء احمد منى فى الارض { فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام } ظاهره منزل فى منكرى محمد (ص) ورسالته ومعجزاته وقولهم: ان الانبياء (ع) اوصوا ان لا نؤمن برسول حتى يكون كذا وكذا، او قالوا لنا: لا نبى بعدنا لكن التعريض بمن ادعى الخلافة بعد الرسول (ص) وادعوا ذلك من الرسول (ص) او من الله { والله لا يهدي القوم الظالمين } بوضع الولاية غير موضعها وبادعاء الخلافة من غير استحقاق، ويدل على ان المراد بها التعريض بمدعى الخلافة ومنكرى على (ع) قوله تعالى { يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم }.
[61.8]
{ يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم } لان نور الله هو الولاية وفسر فى آيات اخر بعلى (ع) { والله متم نوره ولو كره الكافرون } بالولاية، عن الكاظم (ع) يريدون ليطفؤا ولاية امير المؤمنين (ع) بافواههم والله متم الامامة لقوله:
فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا
[التغابن: 8] الذين آمنوا بالله ورسوله والنور الذى انزلنا، فالنور هو الامام، وقيل: والله متم نوره يعنى بالقائم من آل محمد (ص) اذا خرج يظهره الله على الدين كله حتى لا يعبد غير الله.
[61.9]
{ هو الذي أرسل رسوله بالهدى } اى الرسالة والاسلام الذى هو ما به الهداية الى الامام والايمان { ودين الحق } اى الطريق الى الله الذى هو سبب للوصول الى الحق، او مسبب عن الحق الذى هو الولاية المطلقة، والطريق الى الله بهذا الوصف على (ع) وولايته { ليظهره على الدين } يعنى على جنس الاديان والطرق المختلفة، ولما اراد الجنس المستغرق اكده بقوله { كله } فان طرق النفس الى الشيطان كثيرة والطريق الى الله واحد وهو طريق الولاية واذا تمسك الانسان به على ما ينبغى ظهر وغلب طريق الولاية على جميع الطرق بحيث لا يبقى للطرق الشيطانية اثر { ولو كره المشركون } بالولاية وقد سبق فى سورة التوبة هذه الآية مع بيان لها.
[61.10-11]
{ يأيها الذين آمنوا } اى اسلموا بالبيعة العامة، ولما اراد ان يأمرهم بالايمان والبيعة الثانية وكان ذلك شاقا على بعض تلطف بهم وناداهم جبرانا لكلفة هذا الامر ولذلك أدى الامر بصورة الاستفهام والدلالة على التجارة المنجية من العذاب الاليم ليتهيؤا لسماعه ويستعدوا لقبوله { هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله } بالايمان الخاص والبيعة الايمانية الولوية { وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم } ببذل الاموال التى هى كل ما ينسب الى الانسان { وأنفسكم } ببذلها بحيث لا يبقى لكم انفس ولا ما ينسب الى انفسكم وتؤمنون جواب لسؤال مقدر لبيان التجارة { ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون } يعنى ان كنتم من اهل العلم علمتم ذلك، او ان كنتم تعلمون ذلك اخترتم ذلك.
[61.12-13]
{ يغفر لكم ذنوبكم } مجزوم فى جواب الشرط يعنى ان كنتم تعلمون ذلك يغفر لكم لان العلم يجذب الى العمل واختيار المعلوم، واختيار المعلوم مورث لمغفرتكم، او فى جواب تؤمنون فانه فى معنى آمنوا، او فى جواب الاستفهام والمعنى هل ادلكم ان ادلكم يغفر لكم فان دلالتى ليست الا بتوجهى والتفاتى اليكم، وتوجهى والتفاتى اليكم مورث لتغيير احوالكم ورغبتكم الى العمل والآخرة وهى تورث مغفرتكم { ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن } اى جنات الاقامة وهى اخرى الجنات { ذلك } المذكور من المغفرة وادخال الجنات او ادخال جنات عدن { الفوز العظيم وأخرى تحبونها } اى لكم خصلة اخرى تحبونها، او تعطون نعمة اخرى، او هل ادلكم على تجارة اخرى ويكون المعنى هل ادلكم على ربح آخر لتجارتكم، او اخرى مبتدء وخبره { نصر من الله وفتح قريب } فى الدنيا بظهور القائم (ع) كما عن القمى ولما كان جل اصحاب الرسول (ص) طالبين للظفر والغنيمة واعلاء الكلمة قال: اخرى تحبونها { وبشر المؤمنين } بالظفر على جنود النفس بظهور القائم (ع) ونصرة الله فان الايمان يقتضى النصرة لا محالة بمنطوق:
وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض
[النور:55] (الآية).
[61.14]
{ يأيها الذين آمنوا } بالبيعة الخاصة الولوية { كونوا أنصار الله } لما كان اللطيفة الانسانية الفطرية واللطيفة الولوية التى هى انسانية اختيارية مظهر الله تعالى، ونصرته بالعلوم الاخروية والاعمال الصالحة تكون نصرة لله وكان خليفة الله ايضا مظهرا لله ونصرته تكون نصرة لله اراد بنصرة الله نصرة تلك اللطيفة وذلك الخليفة، وأداه بنصرة الله للاشعار بان نصرتهما نصرة لله فى الحقيقة { كما قال عيسى ابن مريم } يعنى قلنا لكم كونوا انصار الله كما قال عيسى (ع)، او المعنى قل يا محمد (ص): يا ايها الذين آمنوا كونوا انصار الله كما قال عيسى (ع)، او كما قال عيسى متعلق بكونوا انصار الله ويكون المشبه به كون الحواريين انصار الله { للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله } قد مضت هذه الآية فى سورة آل عمران مع بيان لها { فآمنت } بعد قول عيسى بن مريم (ع) { طآئفة من بني إسرائيل وكفرت طآئفة } يعنى بالله بواسطة عيسى او بعيسى (ع) بعد قوله هذا { فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين } يعنى غالبين وهذه تسلية للرسول (ص) وتبشير وتسلية للمؤمنين وتهديد للكافرين من امة محمد (ص).
[62 - سورة الجمعة]
[62.1]
{ يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض } قد مضى وجه الاداء بالماضى فى السور السابقة، والاتيان بالمضارع فى هذه السورة وفى التغابن { الملك القدوس } قد مضى بيان قدسه تعالى والفرق بينه وبين تسبيحه فى البقرة عند قوله تعالى: ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك { العزيز الحكيم } التوصيف بهذه الاوصاف لبيان علة تسبيح الاشياء تماما له، وقرئ الكل بالرفع على المدح.
[62.2]
{ هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم } كلام منقطع عن سابقه وبيان للامتنان على امة محمد (ص) وتمهيد للتعريض الآتى { يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } قد مضى بيان لهذه الآية ووجه تقديم التزكية على التعليم فيها، ووجه تقديم التعليم على التزكية فى دعاء ابراهيم (ع) بقوله:
ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم
[البقرة:129].
[62.3-4]
{ وآخرين منهم } من الاميين او من جنسهم من سائر الناس من الاعاجم وهو عطف على الاميين او على مفعول يعلمهم والمراد بالآخرين التابعون وتابعوا التابعين الى يوم القيامة، او غير اهل مكة من اهل العالم من الفارس والترك والروم، او المراد بالآخرين آخرون فى الرتبة، وروى ان النبى (ع) قرأ هذه الآية فقيل له: من هؤلاء؟ - فوضع يده على كتف سلمان رحمه الله وقال:
" لو كان الايمان فى الثريا لنالته رجال من هؤلاء "
{ لما يلحقوا بهم } وسيلحقون بهم الى يوم القيامة { وهو العزيز الحكيم ذلك } اى بعث رسول من جنس البشر او بعث مثل محمد (ص) الذى يزكيهم ثم يعلمهم الكتاب والحكمة { ضل الله يؤتيه من يشآء } من الامم فيكون منة منه تعالى على امة محمد (ص)، او ذلك الرسالة وتذكير اسم الاشارة باعتبار الخبر كأنه قال: ذلك الفضل الذى هو الرسالة والنبوة فضل الله يؤتيه من يشاء من افراد البشر { والله ذو الفضل العظيم } فيعطى ازيد من ذلك او لا ينقص من فضله شيء بايتاء الرسالة للمستحقين او ذو الفضل العظيم على الناس ببعثة محمد (ص) فيهم.
[62.5]
{ مثل الذين حملوا التوراة } حملهم التوراة انبياؤهم وعلماؤهم بان علموهم التوراة وكلفوهم العمل بها، وهذا بيان لحال اليهود وذم لهم لكنه تعريض بمنافقى امة محمد (ص) الذين لم يقروا بعلى (ع) والذين لم يعملوا بالقرآن { ثم لم يحملوها } بان لم يعملوا بها { كمثل الحمار يحمل أسفارا } فى كلفة الحمل والتعب فيها وعدم الانتفاع بها بل التضرر بثقلها وتعب حملها، فمن تعلم القرآن ولم يعمل بما فيه كائنا من كان كان من اهل هذا المثل مثل الصحابة الذين اهتموا بحفظ القرآن عن التغيير وبتلاوته وقراءته ولم يعملوا بما فيه من مراعاة العترة ومودتهم واتباعهم، وكذلك من تعلم القرآن وعلم احكامه وعمل بما فيه، ومن تعلم احكام الشريعة وعمل بها لكن كان منظوره من علم ذلك الحياة الدنيا لا الحياة الآخرة كان من اهل هذا المثل، ونعم ما قال المولوى:
علمهاى اهل دل حمالشان
علمهاى اهل تن احمالشان
علم جون بر دل زند يارى شود
علم جون برتن زند بارى شود
كفت ايزد يحمل اسفاره
بار باشد علم كان نبود زهو
علم كان نبود ز هو بيواسطه
آن نبايد همجو رنك ما شطه
ليك جون اين بار را نيكوكشى
بار بركيرند وبخشندت خوشى
هين بكش بهر خدا اين بار علم
تا ببينى در درون انبار علم
تا كه بر رهوار علم آئى سوار
آنكهان افتد ترا از دوش بار
{ بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله } يعنى كل من كذب بآيات الله وكل من كان اهل ملة ولم يرد وجه الله كان من اهل هذا المثل { والله لا يهدي القوم الظالمين } يعنى المكذبين بآيات الله والمحملين للكتب السماوية والغير الحاملين لها، لكنه وضع الظاهر موضع المضمر اشعارا بظلمهم وتعليلا للحكم يعنى ان الله لا يهديهم الى الصراط الانسانى او الى الجنة او الى مقاصدهم.
[62.6]
{ قل } لليهود تعريضا بمن ادعى منك الخلافة او بجميع امتك { يأيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أوليآء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين } فى هذا الادعاء يعنى ان كنتم اولياء لله فالحياة الدنيوية تحجبكم عنه وكل محب يتمنى لقاء المحبوب والموت يخرجكم من الحجاب ويوصلكم الى لقاء الله.
[62.7]
{ ولا يتمنونه أبدا } لانهم ناسون لله وراضون بالحياة الدنيا { بما قدمت أيديهم } من المعاصى التى يخافون ان يدخلوا بها النار، او من المعاصى التى تنسيهم الآخرة وتصرفهم الى جهة الدنيا بحيث صاروا محبين للدنيا غير محبين للآخرة { والله عليم بالظالمين } اى بهم ووضع الظاهر موضع المضمر اشعارا بظلمهم ومبالغة فى تهديدهم.
[62.8]
{ قل } لليهود او لجميع الخلق { إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم } فلا ينفعكم الفرار منه وليكن فراركم مما يضر فيما بعده { ثم تردون } بعد الموت { إلى عالم الغيب والشهادة } اى الى الذى يعلم جميع الغائبات عن المدارك او جميع الغائبات عن الخلق وجميع المشهودات، او جميع ما من شأنه ان يشاهد او عالم عالم الغيب وعالم عالم الشهادة وعلى اى تقدير فهو تحذير عن مخالفة الله فى السر والعلانية { فينبئكم بما كنتم تعملون } ويجازيكم بحسبه وبعد ما هدد المسلمين بالتعريض ناديهم تلطفا فقال { يأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة }.
[62.9]
{ يأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة }.
اعلم، ان ايام الاسبوع مظاهر للايام الربوبية ودوران الايام على الاسبوع ليس بمواضعة بنى آجم والا لكان الاختلاف فى دورانها وكان فرقة يديرها على الستة او الخمسة او الاربعة، وفرقة يديرها على الثمانية او التسعة، او غير ذلك ومن يديرها على السبعة لم يكن يديرها بتلك الادارة بان يجعل المبدء الاحد والمنتهى السبت، او المبدء السبت والمنتهى الجمعة، وفى الجملة لم يكونوا يسمى كلهم احدا احدا ومنسوبا الى الشمس والسبت سبتا ومنسوبا الى كوكب خاص وبالجملة لم يكن عند جميع المنجمين كل يوم مخصوص منسوبا الى كوكب خاص، وقد اتفق المنجمون من كل ملة وفى كل لسان على ادارة الايام على السبعة بهذا الترتيب المخصوص وانتساب كل يوم مخصوص الى كوكب خاص سميت بهذه الاسماء ام لم تسم، والايام الربوبية التى هذه الايام بازائها يوم المجردات التى هم قيام لا ينظرون، ويوم الصافات صفا، ويوم المدبرات امرا، ويوم ذوى الاجنحة مثنى وثلث ورباع، ويوم الكيان، ويوم الملكوت السفلى، او يوم المدبرات امرا، ويوم الركع والسجد، ويوم المتقدرات المجردة علويين كانوا ام سفليين، وهذه الايام كما اشير اليها فى سورة الاعراف هى الايام التى خلق السماوات والارض فيها وبها احتجب عن الخلق، واليوم السابع هو يوم جمع الجمع الذى يعبر عنه بالمشية ومقام الظهور، ولما كان الجمعة بازاء يوم الجمع طولا امر الله العباد بانعقاد الجمعة، وامر ان لا ينعقد الجمعة باقل من سبعة او خمسة، ولما كان يوم الجمع خاصا بمحمد (ص) لا حظ لاحد سواه (ص) فيه جعل الجمعة التى بازائه عيدا خاصا بمحمد (ص) وحرم السفر فيها على من كان المسافة بينه وبين مجمع الناس للجمعة اقل من فرسخين او بقدر فرسخين، ولذلك قال: اذا نودى للصلاة من يوم الجمعة يعنى اذا اذن لصلاة الجمعة { فاسعوا } اى فأسرعوا { إلى ذكر الله } يعنى الصلاة { وذروا البيع } فان البيع فى هذا اليوم خلاف مقتضى هذا اليوم خصوصا وقت وصول الشمس الى نصف النهار { ذلكم خير لكم } فانه اذا اعطى كل يوم حقه كان خيرا لكم { إن كنتم تعلمون } كان خيرا لكم يعنى ان اتبعتم عليا (ع) وقبلتم ولايته بالبيعة معه فان العلم والتعلم منحصران فى شيعة على (ع)، او ان كنتم تعلمون انه خير لكم اخترتموه.
[62.10]
{ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض } لما كان الاجتماع فى الجمعة لذكر الله بمنزلة الفناء الذاتى والبقاء فى ذلك الفناء يورث نقصان الوجود والمطلوب من الانسان استكماله بجميع جنوده ولا يمكن الا بالبقاء بعد الفناء امرهم بالانتشار فى الارض وابتغاء فضله كما قال { وابتغوا من فضل الله } الصورى بطلب ما تحتاجون اليه من جهة الحلال، وفضل الله المعنوى بزيارة الاخوان وعيادة مرضاهم وتشييع جنائزهم كما فى الخبر عن النبى (ص) وعن الصادق (ع): الصلاة يوم الجمعة، والانتشار يوم السبت، وعنه (ع) انى لاركب فى الحاجة التى كفاها الله ما اركب فيها الا التماس ان يرانى الله اضحى فى طلب الحلال، اما تسمع قول الله عز اسمه؟ فاذا قضيت الصلاة فانتشروا فى الارض وابتغوا من فضل الله { واذكروا الله كثيرا } فى حال ابتغاء الفضل او فى جميع الاحوال فان ذكر الله مرغوب فيه ولو كنت تبول فانه كما فى الخبر لا بأس بذكر الله وانت تبول وقد مضى فى سورة البقرة عند قوله تعالى:
فاذكروني أذكركم
[البقرة:152] بيان للذكر ومراتبه وكيفيته { لعلكم تفلحون } فان الفلاح بالذكر لان مناط الطاعة والمعصية كما يستفاد مما ورد عن الصادق (ع) الذكر والغفلة، روى عن النبى (ص)
" من ذكر الله مخلصا فى السوق عند غفلة الناس وشغلهم بما هم فيه كتب الله له الف حسنة ويغفر الله له يوم القيامة مغفرة لم تخطر على قلب بشر ".
[62.11]
{ وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا } اليها استدراك كأنه قال: لكنهم لا يقبلون واذا رأو تجارة او لهوا انفضوا { إليها } اى الى التجارة خص الضمير بها لان اللهو كان تبعا للتجارة { وتركوك قآئما } تخطب على المنبر كما فى خبر، او فى الصلاة كما فى خبر آخر { قل } لهم { ما عند الله } من النعيم المقيم { خير من اللهو ومن التجارة } فان التجارة ان كان فيه نفع دنيوى واللهو ان كان فيه نفع خيالى والتذاذ وهمى فما عند الله خير لان نفعه عقلى روحى وهو غير منقطع وغير مشوب بالآلام { والله خير الرازقين } روى عن جابر انه قال: اقبلت عير ونحن نصلى مع رسول الله (ص) فانفض الناس اليها فما بقى غير اثنى عشر رجلا انا فيهم فنزلت الآية، وفى رواية: اقبلت عير وبين يديها قوم يضربون بالدفوف والملاهى فقال النبى (ص): والذى نفسى بيده لو تتابعتم حتى لا يبقى احد منكم لسال بكم الوادى نارا، وعن الصادق (ع): ان الواجب على كل مؤمن اذا كان لنا شيعة ان يقرأ فى ليلة الجمعة بالجمعة وسبح اسم ربك الاعلى، وفى صلاة الظهر بالجمعة والمنافقين فاذا فعل ذلك فكأنما يعمل بعمل رسول الله (ص) وكان ثوابه وجزاؤه على الله الجنة.
[63 - سورة المنافقون]
[63.1]
{ إذا جآءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله } لبيان ان المشهود به صدق ورفع توهم رجوع التكذيب الى المشهود قدم هذا ثم قال { والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } لعدم مطابقة المشهود به لما فى قلوبهم.
[63.2]
{ اتخذوا أيمانهم جنة } عن القتل والاسر وحفظوا بها دماءهم واموالهم او اتخذوها جنة عن شتم المسلمين ولومهم، او جنة عن سوء ظن المسلمين بهم وفرارهم عنهم، وقرئ ايمانهم بكسر الهمزة { فصدوا } منعوا او اعرضوا { عن سبيل الله } الذى هو على (ع) وولايته { إنهم سآء ما كانوا يعملون }.
اعلم، ان النفاق عبارة عن اظهار ما لم تكن تعتقده مثل الذين اظهروا الاسلام وباعوا البيعة النبوية من غير اعتقاد برسالة الرسول (ص) او مع الشك فى رسالته، او كانوا معتقدين ثم طرأ الشك والانكار، هذا بحسب الظاهر والاعتقاد وقد يعتبر النفاق بحسب الاعمال الظاهرة من غير موافقة الاحوال الباطنة وهذا نفاق قل من يخلو عنه من المسلمين، فان الاذكار والافعال الواقعة فى الصلاة كلها عناوين واظهار لاحوال النفوس فان قول القائل بسم الله الرحمن الرحيم تعبير عن نفسه وانه يسم نفسه بالعبادة فاذا لم يكن حاله موافقا لهذا التعبير كان منافقا حالا، وهكذا الحمد الله رب العالمين وهكذا اياك نعبد حصر للعبادة فيه واياك نستعين حصر للاستعانة فيه فلو كان حال القائل ذلك ان يرى موصوفا آخر او يعتقد موصوفا آخر بالصفات الحميدة او كان له معبود آخر من الاهوية او الاناسى، او كان نظره الى معين آخر والاستعانة بغير الله كان منافقا حالا، وفعل الركوع تعبير عن نفسه بانه خاشع لله بحيث دعا خشوعه له الى الانثناء، وسجوده تعبير عن كمال خضوعه له تعالى فاذا لم يكن حاله على هذا المنوال كان منافقا، وهكذا قنوته وسائر دعواته فى احوال الصلاة، وصيامه تعبير عن نفسه بانه صام عن غير التذاذ بجمال الله والسلوك اليه، وزكاته كناية عن انه فى نقصان الانانية، فلو لم ينقص من انانيته بل كان فى زكاته معجبا بنفسه رائيا عمله كان منافقا، وقد ورد: ما زاد خشوع الجسد على خشوع القلب فهو من النفاق.
[63.3]
{ ذلك } الكذب واتخاذ الايمان جنة والصد او الصدود عن سبيل الله { بأنهم آمنوا ثم كفروا } والكفر بعد الايمان ابلغ واشد من الكفر الاول، وكفر النفاق افضح { فطبع على قلوبهم } بحيث لم يبق فيها مدخل ومخرج للملك والنور { فهم لا يفقهون } لا يدركون ادراكا اخرويا مؤديا الى ادراك آخر.
[63.4]
{ وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم } بحسنها وتجملها بما يتجمل بها وطراوتها ونضارتها { وإن يقولوا تسمع لقولهم } لطلاقة لسانهم وحلاوة كلامهم وتسمع قام مقام القول اى يقل اسمع لقولهم { كأنهم خشب مسندة } على الحائط فى كونهم خالين عن الروح والعقل، وفى عدم الانتفاع بهم بوجه آخر مثل الخشب المسندة التى ليست عمدا لسقف او غيره { يحسبون كل صيحة عليهم } لعدم توكلهم على ربهم وجبنهم واتهامهم فى المسلمين { هم العدو } استيناف جواب سؤال مقدر كأنه قيل: فما شأنهم؟ وما نفعل بهم؟ - فقال: هم الكاملون فى العداوة { فاحذرهم قاتلهم الله } اخبار عن حالهم بانهم قاتلهم الله عن الحياة الانسانية، او اخبار عما يفعل بهم بعد لكنه اداه بالماضى لتحقق وقوعه، او دعاء عليهم لمقاتلة الله لهم { أنى يؤفكون } كيف يصرفون عن الحق.
[63.5]
{ وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم } كناية عن الانكار والاستكبار { ورأيتهم يصدون } يعرضون او يمنعون { وهم مستكبرون } عن الاتيان والاعتذار والاستغفار.
[63.6]
{ سوآء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم } تعليل لاستواء الاستغفار وعدمه ومبالغة فى بأسهم عن مغفرة الله فان عدم مغفرته مع استغفار الرسول (ص) دليل ان ليس فيهم ما يمكن المغفرة لهم { إن الله لا يهدي القوم الفسقين } تعليل آخر والمقصود عدم الهداية الى الجنة او الى الحق.
[63.7]
{ هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا } يتفرقوا { ولله خزآئن السماوات والأرض } جملة حالية { ولكن المنافقين } الذين يقولون لا تنفقوا حتى ينفضوا { لا يفقهون } اى لا يدركون ذلك ادراكا اخرويا.
[63.8]
{ يقولون لئن رجعنآ إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل } كنوا عن انفسهم بالاعز وعن المؤمنين بالاذل { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون } ان العزة الدنيوية والاخروية لله وعند الله ولمن كان من حزب الله وان كانوا بحسب الانظار الظاهرة مغلوبين، نزلت الآيات كما عن القمى، فى غزوة بنى المصطلق فى سنة خمس من الهجرة وكان رسول الله (ص) خرج اليها فلما رجع منها نزل على بئر وكان الماء قليلا فيها وكان سيار حليف الانصار وكان جهجاه بن سعيد الغفارى اجيرا لعمر بن الخطاب فاجتمعوا على البئر فتعلق دلو سيار بدلو جهجاه فقال سيار: دلوى وقال جهجاه: دلوى، فضرب جهجاه يده على وجه سيار فسال منه الدم فنادى سيار بالخزرج ونادى جهجاه بقريش فاخذ الناس السلاح وكاد ان تقع الفتنة فسمع عبد الله بن ابى النداء فقال: ما هذا؟ - فأخبروه بالخبر فغضب غضبا شديدا ثم قال: قد كنت كارها لهذا المسير انى لاذل العرب؟! ما ظننت انى ابقى الى ان اسمع مثل هذا فلا يكون عندى تغيير، ثم اقبل على اصحابه فقال: هذا عملكم، أنزلتموهم منازلكم وواسيتموهم بأموالكم، ووقيتموهم بأنفسكم وأبرزتم نحوركم للقتل، فأرمل نساءكم وايتم صبيانكم، ولو اخرجتموهم لكانوا عيالا على غيركم، ثم قال:
" لئن رجعنا الى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل "
وكان فى القوم زيد بن ارقم وكان غلاما قد راهق وكان رسول الله (ص) فى ظل شجرة فى وقت الهاجرة وعنده قوم من اصحابه من المهاجرين والانصار،
" فجاء زيد فأخبره بما قال عبد الله بن ابى، فقال رسول الله (ص): لعلك وهمت يا غلام؟ - قال: لا والله ما وهمت، فقال: لعلك غضبت عليه؟ قال: لا والله ما غضبت عليه، قال: فلعله سفه عليك؟ - قال: لا والله، فقال رسول الله (ص) لشقران مولاه فأحدج فاحدج راحلته وركب وتسامع الناس بذلك، فقالوا: ما كان رسول الله (ص) ليرحل فى مثل هذا الوقت فرحل الناس الى ان قال: فسار رسول الله (ص) يومه كله لا يكلمه احد فأقبلت الخزرج على عبد الله بن ابى يعذلونه فحلف عبد الله انه لم يقل شيئا من ذلك، فقالوا: فقم بنا الى رسول الله (ص) حتى نعتذر اليه فلوى عنقه، فلما جن الليل سار رسول الله (ص) ليله كله والنهار فلم ينزلوا الا للصلاة، فلما كان من الغد نزل رسول الله (ص) ونزل اصحابه وقد امهدهم الارض من السهر الذى اصابهم، فجاء عبد الله بن ابى الى رسول الله (ص) فحلف انه لم يقل ذلك وانه ليشهد ان لا اله الا الله وانك لرسول الله وان زيدا قد كذب على، فقبل رسول الله (ص) منه وأقبلت الخزرج على زيد بن ارقم يشتمونه (الى ان قال) فنزل الوحى عليه فلما نزل جمع اصحابه وقرأ عليهم سورة المنافقين ففضح الله عبد الله بن ابى "
، وعن الكاظم (ع) ان الله تبارك وتعالى سمى من لم يتبع رسوله (ص) فى ولاية على (ع) وصيه منافقين، وجعل من جحد وصيه امامته كمن جحد محمدا (ص) وانزل بذلك قرآنا فقال: يا محمد اذا جاءك المنافقون بولاية وصيك قالوا نشهد انك لرسول الله والله يعلم انك لرسوله والله يشهد ان المنافقين بولاية على لكاذبون، اتخذوا ايمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله والسبيل هو الوصى انهم ساء ما كانوا يعملون، ذلك بانهم آمنوا برسالتك وكفروا بولاية وصيك فطبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون، يقول: لا يعقلون نبوتك، واذا قيل لهم: ارجعوا الى ولاية على (ع) يستغفر لكم النبى (ع) من ذنوبكم لووا رؤسهم قال الله { ورأيتهم يصدون } عن ولاية على (ع) وهم مستكبرون عليه، ثم عطف القول بمعرفته بهم فقال: سواء عليهم استغفرت لهم ام لم تستغفر لهم ان الله لا يهدى القوم الفاسقين يقول الظالمين لوصيك.
[63.9]
{ يأيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله } فان القلب للطافته يران عليه ويقسيه اشتغاله بالكثرات الخيالية وذكر الله يجلوه عن الرين، فلو اشتغل الانسان بالاموال والاولاد فاذا كان ذاكرا لله صار الذكر جاليا لقلبه عن الرين، واذا كان غافلا عن ذكر الله صار الرين متراكما على قلبه بحيث يتشكك اولا ثم يكفر وينافق { ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون } لاتلاف بضاعتهم وعدم اخذ العوض له.
[63.10]
{ وأنفقوا من ما رزقناكم } من الاموال والقوى والاعراض، ومن نسب الافعال والاوصاف الى انفسكم، ومن انانياتكم { من قبل أن يأتي أحدكم الموت } فيؤخذ جميع ذلك منكم فلا تروا شيئا مما تنسبونه الى انفسكم { فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب } يعنى الى مدة قريبة من هذه المدة ان كان هذا القول حال الاحتضار، او من مدة قريبة من وقت الموت ان كان هذا القول فى القيامة او فى البرزخ { فأصدق } فأتصدق مما ينبغى ان يتصدق منه { وأكن من الصالحين } مجزوم معطوف على مجموع الفاء وما بعده فانه واقع موقع المضارع المجزوم فى جواب لولا، وقرئ منصوبا عطفا على ما بعد الفاء، ومرفوعا بتقدير انا اكون من الصالحين.
[63.11]
{ ولن يؤخر الله } جملة حالية ورفع لتوهم انه يجوز التأخير ام لا { نفسا إذا جآء أجلهآ } اذا قدر مجيء اجلها، عن الباقر (ع) ان عند الله كتبا موقوفة يقدم منها ما يشاء ويؤخر ما يشاء، فاذا كان ليلة القدر انزل الله فيها كل شيء يكون الى مثلها فذلك قوله: { ولن يؤخر الله نفسا إذا جآء أجلهآ } اذا انزل الله، وكتبه كتاب السماوات وهو الذى لا يؤخره { والله خبير بما تعملون } تهديد للمنافقين والكافرين، او ردع وزجر للكافر فى القيامة.
[64 - سورة التغابن]
[64.1]
{ يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض له الملك } اى ما ينبغى ان يملك { وله الحمد } اى ما ينبغى ان يوصف الكامل به { وهو على كل شيء قدير } فيقدر على استنطاق الاشياء بالتسبيح وهذه تعداد الاوصاف الجميلة واشارة الى علة تسبيح الاشياء له، ولكونها تعدادا لاوصافه الحميدة قال { هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن }.
[64.2]
{ هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن } بدون العاطف والمعنى فمنكم مؤمن بالولاية، ومنكم كافر بالولاية كما مر مرارا ان مناط الكفر والايمان معرفة الولاية وانكارها، وعن الصادق (ع) انه سئل عن هذه الآية فقال: عرف الله ايمانهم بولايتنا وكفرهم بتركها يوم اخذ عليهم الميثاق فى صلب آدم (ع) وهم ذر { والله بما تعملون بصير } تهديد للكافر وترغيب للمؤمن.
[64.3]
{ خلق السماوات والأرض بالحق } فلم يكن اسباب السماوات والارض التى بها ايجادكم وابقاؤكم الا لامر حق وغاية شريفة متقنة لا لهذه الغايات الدنية الباطلة التى هى وصول القوى الشهوية والغضبية والشيطانية الى مستلذاتها فلا تقطعوا غاياتكم الشريفة ولا تبطلوا ذواتكم { وصوركم فأحسن صوركم } لتكونوا مقربين له فانه خلقكم وصوركم مشتملين على جميع ما فى عالم الامر والخلق بل على جميع ما فى العالم الالهى لتصيروا بطرح الطوارى عن وجوه ذواتكم بشأنه تعالى وتصيروا احقاء بقربه فلا تبطلوا ذواتكم دون الوصول الى غاياتكم { وإليه المصير } اى مصيركم ترغيب وتهديد يعنى استعدوا للحضور عنده وتهيؤا للوصول اليه بأحسن الوجوه.
[64.4]
{ يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون } تهديد وترغيب { والله عليم بذات الصدور } قد مضى امثال هذه الآية مع تفسيرها مكررا.
[64.5]
{ ألم يأتكم } ايها الناس { نبأ الذين كفروا من قبل } فتعتبروا بأحوالهم وترتدعوا عن مثل افعالهم { فذاقوا وبال أمرهم } فى الدنيا فاحذروا عن مثل افعالهم { ولهم عذاب أليم } فى الآخرة.
[64.6]
{ ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات } كما جاءكم رسولكم بالبينات { فقالوا أبشر يهدوننا } مثل ما تقولون لو شاء الله ان يرسل رسولا لأنزل ملائكة { فكفروا } بالرسل مثلكم { وتولوا } عنهم وعن بيناتهم وعن التدبر فيها { واستغنى الله } عنهم يعنى استغنى الله فى مظاهر رسلهم (ع) بمعنى استغنى الرسل عنهم وعن الاعتداد بهم فلم يكن من قبلهم استعداد لقبول الايمان ولم يكن من قبل الرسل دعوة لهم { والله غني } عنهم وعن عبادتهم وعن ايمانهم { حميد } فى نفسه عرف ام لم يعرف، حمد ام لم يحمد.
[64.7-8]
{ زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير فآمنوا } يعنى اذا كنتم تبعثون فآمنوا { بالله } الذى تبعثون اليه { ورسوله } الذى يعلمكم طريق الايمان به { والنور الذي أنزلنا } والنور المنزل هو ولاية على (ع) التى كانت مع كل نبى سرا ومع محمد (ص) سرا وجهرا، وقد فسر فى الاخبار بالامامة وبالامام، وسئل الباقر (ع) عن هذه الآية فقال: النور والله الائمة (ع)، لنور الامام فى قلوب المؤمنين انور من الشمس المضيئة بالنهار، وهم الذين ينورون قلوب المؤمنين ويحجب الله نورهم عمن يشاء فتظلم قلوبهم ويغشيهم بها.
اعلم، ان النور هو الذى ظهر بذاته واظهر غيره وهذا حق الوجود فانه الظاهر بذاته بحيث انه اقدم البديهيات واول المدركات، وبعد تعيين المفهوم هو اول المسؤلات، فان السؤال بما الشارحة الذى هو سؤال عن مفهوم اللفظ مقدم على السؤال بهل البسيطة، وبعد تعيين مفهوم اللفظ لا يسأل الا بهل البسيطة وبعد السؤال بهل البسيطة يكون سائر السؤالات، ومعنى كونه مظهرا للاشياء انه لا ظهور لشيء من الاشياء على مدرك من المدارك الا بالوجود، والوجود الظاهر بذاته المظهر لغيره هو المشية التى هى فعل الحق الاول تعالى واضافته الى الاشياء وهى الولاية المطلقة التى جميع الولايات الجزئية حصص منها وكل موجود موجود بها وكل ظاهر ظاهر بها حتى النور العرضى الذى به يظهر السطوح والاشكال والالوان، فانه لولا الوجود لما ظهر ذلك النور على الابصار ولما اظهر الاشياء، وكل امام لما صار متصلا بالمشية نحو اتصال فى الصعود بعد ما كان متصلا بها مثل سائر الاشياء فى النزول وبذلك الاتصال يؤثر فيمن اتصل به ويفيده فعلية وجودية فى الصعود لم تكن له تلك الفعلية وبتلك الفعلية يظهر عليه وجوده وفسروا النور بالامام قبل الاتصال بالامام، وتلك الفعلية وجود حادث فى فعليات هذا المتصل ومقومة لسائرها ومحيطة بها، وهى الايمان الداخل فى قلب المؤمن بالبيعة الخاصة الولوية، وبتلك الفعلية يظهر على المؤمن السالك دقائق اخلاقه التى هى ادق من الشعر واخفى من دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء فى الليلة الظلماء، ويظهر عليه مثل هذا الشرك الخفى ولم تكن تظهر عليه امثال هذه قبل ذلك ، ولم تكن تظهر بنور الشمع والسراج، ولا بنور الكواكب والقمر، ولا بنور الشمس التى هى انور، ولمثل هذا النور وهذا الظهور قد يرى المؤمن نفسه اسوء من كل مسيء واشد ذنبا من كل مذنب، وقد يصير مبغضا لنفسه اشد بغض، ولمثل هذا الظهور يصير الدنيا سجنا له، هذا هو الظهور العلمى والحالى الوجدانى، وقد يظهر الامام بصورته الملكوتية النورانية على صدر السالك وهذا الظهور هو ظهور القائم (ع) فى العالم الصغير وحينئذ تشرق ارض وجود السالك بنور ربه اشراقا اشد من اشراق ارض العالم الكبير بنور الشمس ولشدة الاشراق لا ترى فيها عوجا ولا امتا، ويومئذ تحدث اخبارها، واخرجت اثقالها، فعليكم بالاتصال بهذا النور فان لم يظهر عليكم الامام بصورته الملكوتية فلا اقل من ظهور الرذائل والخصائل بنوره ولا اقل من ادراك قبح الرذائل ثم الانزجار منها وادراك حسن الخصائل ثم الرغبة فيها والطلب لها { والله بما تعملون خبير } ترغيب وتهديد.
[64.9-10]
{ يوم يجمعكم ليوم الجمع } ظرف لخبير او لاذكروا مقدرا كأنه قيل: فما نفعل حتى يستقيم ايماننا بهذا النور؟ - فقال: اذكروا حضوركم عند ربكم حتى يسهل عليكم الايمان بهذا النور وتستقيموا على الايمان به { ذلك يوم التغابن } يوم ظهور غبن المغبون، او يوم غبن اهل الجنة اهل النار بنزولهم منازل اهل النار فى الجنة، وفى الخبر يوم يغبن اهل الجنة اهل النار { ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا } اى صالح كان حتى يظهر بعمل صالح ما صحة ايمانه او يعمل صالحا عظيما هو قبول الولاية بالبيعة الخاصة الولوية { يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيهآ أبدا ذلك الفوز العظيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنآ أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير } قد مضى الايتان مكررتين.
[64.11]
{ مآ أصاب من مصيبة إلا بإذن الله } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: ان كان من يؤمن بالله ويعمل صالحا كذا وكذا فى الآخرة فلم يصيبهم المصائب فى الدنيا؟ - فقال: اصابة المصيبة لا تكون الا باذن الله، وليست الا لحكمة تكميل المؤمن، او كأنه قيل: كأن كفر الكافر ليس باذن الله؟ - فقال: { مآ أصاب من مصيبة إلا بإذن الله } غاية الامر ان مصيبة المؤمن تكون تكميلا له، ومصيب الكافر او كفره كانت باستعداده السابق ونقمة له { ومن يؤمن بالله } بالبيعة العامة { يهد قلبه } للايمان الخاص والبيعة الخاصة، او من يؤمن بالله بالبيعة الخاصة يهد قلبه الى العلم بان اصابة المصائب ليست الا باذن الله، عن الصادق (ع) ان القلب ليترجج فيما بين الصدر والحنجرة حتى يعقد على الايمان، فاذا عقد على الايمان قر وذلك قول الله عز وجل: { ومن يؤمن بالله يهد قلبه } { والله بكل شيء عليم } فيعلم القلوب وايمانها وسائر احوالها.
[64.12]
{ وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول } فى جميع ما قالاه لكم او فى خصوص ولاية على (ع) وهذا هو المنظور، فان المقصود من طاعة الله ورسوله (ص) فى سائر ما امر رسوله (ص) انتهاء الطاعة الى قبول الولاية لانها المنظور من كل منظور، والمطلوب من كل مطلوب { فإن توليتم } عن الله ورسوله فلا يرد عليه شين من ذلك { فإنما على رسولنا البلاغ المبين } وقد بلغ رسالته او احكام رسالته او ولاية خليفته.
[64.13]
{ الله لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون } لان الايمان يقتضى الاقرار بان لا مبدء لحادث من الحوادث الا الله، وهذا الاقرار يقتضى التوكل عليه والتوسل به؛ وترك التوسل والتوكل على غيره، ولما كان الاشتغال بالكثرات مطلقا مانعا للقلب عن التوجه الى الله والاشتغال بطريق الولاية وكان الايمان بالنور الذى هو الولاية امرا مهما مرغوبا فيه، وكان الاشتغال بما يكون القلب متعلقا به من الكثرات اشد منعا واكثر تأثيرا فى ذلك خصوصا الازواج والاولاد لشدة تعلق القلب بهما نادى المؤمنين تلطفا بهم وحذرهم عن التعلق بهما، ثم امرهم بالعطوفة عليهما فقال { يأيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم }.
[64.14]
{ يأيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم } يعنى ان بعض الاولاد والازواج يكونون معينين لكم فى امر آخرتكم ويكونون محبين لكم فى ذلك، لكن البعض الآخر يكونون اعداء لكم فى امر آخرتكم لا سيما اذا كانوا مخالفين او موافقين فى جهة الدنيا لا فى جهة الآخرة سواء ظهر منهم عداوة فى الظاهر او لم يظهر { فاحذروهم } ولا تخالفوا امر الله فى رضاهم ولكن لا تدعوهم الى انفسهم وادعوا الله لهم واطلبوا من الله المغفرة لهم { وإن تعفوا } عن مسيئهم { وتصفحوا } بتطهير القلوب عن الحقد عليهم { وتغفروا } مساويهم يغفر الله لكم ويرحمكم او يغفر الله لكم ولهم ويرحمكم واياهم { فإن الله غفور رحيم } نسب الى الباقر (ع) فى هذه الآية، ان الرجل كان اذا اراد الهجرة الى رسول الله (ص) تعلق به ابنه وامرأته وقالوا: ننشدك الله ان تذهب عنا وتدعنا فنضيع بعدك، فمنهم من يطيع اهله فيقيم فحذرهم الله ابناءهم ونساءهم ونهاهم عن طاعتهم، ومنهم من يمضى ويذرهم ويقول: اما والله لئن لم تهاجروا معى ثم يجمع الله بينى وبينكم فى دار الهجرة لا انفعكم بشيء ابدا، فلما جمع الله بينه وبينهم امره الله ان يحسن اليهم ويصلهم فقال: وان تعفوا وتصفحوا وتغفروا فان الله غفور رحيم.
[64.15]
{ إنمآ أموالكم وأولادكم } التى امر الله بحفظها { فتنة } لكم اى اختبار او فساد او عذاب لكم { والله عنده أجر عظيم } لمن آثر طاعة الله على محبة الاموال والاولاد، او لمن حفظهما بأمر الله وتوجه اليهما لله وتحمل مشاق حفظهما ومشاق تربية الاولاد وتنمية الاموال لله، عن امير المؤمنين (ع): لا يقولن احدكم: اللهم انى اعوذ بك من الفتنة لانه ليس احد الا وهو مشتمل على فتنة ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلات الفتن فان الله يقول: واعلموا انما اموالكم واولادكم فتنة وقد مضى هذه الآية فى سورة الانفال.
[64.16]
{ فاتقوا الله } فى تعلق القلب بالكثرات وفى ترك الكثرات وطرحها وفى الانتقام من الازواج والاولاد او الحقد عليهم، او اذا كان الله عنده اجر عظيم فاتقوا الله فى جميع اوامره ونواهيه { ما استطعتم } فان الله لا يكلف نفسا الا وسعها { واسمعوا } منه اوامره ونواهيه على السنة خلفائه { وأطيعوا } رسوله (ص) { وأنفقوا } من اموالكم واعراضكم وقواكم ونسب الافعال والاوصاف الى انفسكم وانانياتكم { خيرا لأنفسكم } صفة مفعول مطلق، او هو مفعول به لانفقوا، او مفعول لمحذوف اى انفقوا وادركوا خيرا مما تنفقون لانفسكم وهو النعيم الباقى الاخروى، او خبر لكان محذوفا اى انفقوا يكن الانفاق خيرا لانفسكم { ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } قد سبق هذه الآية فى سورة الحشر.
[64.17]
{ إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم } قد مضى الآية مع بيانها فى سورة البقرة { والله شكور } ومقتضى شكوريته ان يضاعف المقرض عوض قرضه { حليم } لا يعاجل بالمؤاخذة من لم يقرض { عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم }.
[65 - سورة الطلاق]
[65.1]
{ يأيها النبي } نداء وخطاب له تشريفا له ولكن المقصود بالحكم امته ولذلك اشرك الامة فى الخطاب معه حين الحكم { إذا طلقتم النسآء فطلقوهن لعدتهن } فى عدتهن، والعدة ههنا هى الطهر كما عن الباقر (ع): العدة الطهر من المحيض { وأحصوا العدة } اى مدة التربص وهى ثلاثة قروء فى ذوات القرء، وثلاثة اشهر فى ذوات الاشهر، ووضع الحمل فى الحامل { واتقوا الله ربكم } فى التضييق عليهن حتى يضطررن الى الفداء للطلاق، او فى تطويل المدة والعدة، او فى حبسهن بعد العدة، او فى عدم طلاقهن وابقائهن بلا قسامة { لا تخرجوهن من بيوتهن } بعد الطلاق حتى تنقضى عدتهن { ولا يخرجن } بانفسهن لعل الله يجعل بينهن وبين ازواجهن تعاطفا والفة، وعن الكاظم (ع) انما عنى بذلك التى تطلق تطليقة بعد تطليقة فتلك التى لا تخرج ولا تخرج حتى تطلق الثالثة، فاذا طلقت الثالثة فقد بانت منه ولا نفقة لها، والمرأة التى يطلقها الرجل تطليقة ثم يدعها حتى يخلو اجلها فهذه ايضا تقعد فى منزل زوجها ولها النفقة والسكنى حتى تنقضى عدتها { إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } المراد بالفاحشة ههنا الزنا او اذاها لاهل الرجل وسوء خلقها، او اشرافها على الرجال، او سلاطتها على زوجها، او مساحقتها وقد اشير الى كل فى الاخبار { وتلك حدود الله } حدود حماه واحكامه المقررة لعباده { ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدرى } يا محمد (ص)، او يا من يتأتى منه الخطاب، او الفاعل راجع الى النفس فى نفسه، او الى المطلقة المستفادة بالتضمن { لعل الله يحدث بعد ذلك } الطلاق او بعد ذلك البقاء فى بيوت ازواجهن { أمرا } وهو رغبة الزوج فى المطلقة ورجةعه اليها، وهذا هو علة التربص وعدم الخروج من بيوتهن.
[65.2]
{ فإذا بلغن أجلهن } اى قاربن من آخر مدتهن { فأمسكوهن بمعروف } اى راجعوهن وأمسكوهن فى بيوتكم مع ان تحسنوا صحبتهن وقسامتهن { أو فارقوهن بمعروف } بنحو يعده العقل والعرف حسنا بان تدعوهن يخرجن من بيوتكم ويتزوجن بغيركم { وأشهدوا ذوي عدل منكم } على الطلاق او على الطلاق وعلى الامساك يعنى الرجوع اليهن { وأقيموا } ايها الشهود { الشهادة لله } لابتغاء مرضاة الله لا لرضا المشهود له، او للاعراض والاغراض الدنيوية { ذلكم } الامر بالطلاق فى الطهر واحصاء العدة وعدم اخراج المطلقات والامساك بالمعروف او المفارقة بالمعروف { يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر } فانه الملتفت لحكمه ومصالحه والطالب لان يأتمر بأوامر الله { ومن يتق الله } فى خلاف اوامره ونواهيه والتجاوز عن حدوده { يجعل له مخرجا } من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت وشدائد يوم القيامة ومن كل فتنة ومن كل بلية فى الدنيا او الآخرة وقد اشير الى كل فى الاخبار، ولعل اطلاق المخرج كان لتعميمه لكل ما يمكن ان يصدق عليه، وعن الصادق (ع) عن آبائه عن على (ع): من آتاه الله برزق لم يخط اليه برجله، ولم يمد اليه يده، ولم يتكلم فيه بلسانه، ولم يشد اليه ثيابه، ولم يتعرض له كان ممن ذكره الله عز وجل فى كتابه: { ومن يتق الله } (الآية)، وعنه (ع) ان قوما من اصحاب رسول الله (ص) لما نزلت هذه الآية اغلقوا الباب واقبلوا على العبادة وقالوا: قد كفينا فبلغ ذلك النبى (ص) فأرسل اليهم فقال:
" ما حملكم على ما صنعتم؟ - فقالوا: يا رسول الله (ص) تكفل لنا بأرزاقنا فأقبلنا على العبادة، فقال: انه من فعل ذلك لم يستجب له، عليكم بالطلب ".
[65.3]
{ ويرزقه من حيث لا يحتسب } عن الصادق (ع): هؤلاء قوم من شيعتنا ضعفاء ليس عندهم ما يتحملون به الينا فيستمعون حديثنا ويقتبسون من علمنا فيرحل قوم فوقهم وينفقون اموالهم ويتعبون ابدانهم حتى يدخلوا علينا فيسمعوا حديثنا فينقلوه اليهم فيعيه هؤلاء ويضيعه هؤلاء فاولئك الذين يجعل الله عز وجل لهم مخرجا ويرزقهم من حيث لا يحتسبون، ولا يخفى تعميم الرزق للرزق النباتى والحيوانى والانسانى { ومن يتوكل على الله } فى امور دنياه وآخرته لان التوكل عبارة عن الخروج عن ارادة النفس وانتفاعه والايتمار بأمر الله من دون النظر الى غاية نافعة من امره تعالى وامتثاله للنفس، وهذا المعنى لا ينافى الجد فى مكاسب الدنيا او عبادات العقبى كما يظن { فهو حسبه } لكمال علمه وقدرته واحاطته { إن الله بالغ أمره } الى ما يريد من غير مانع يمنعه ومن غير عجز له { قد جعل الله لكل شيء قدرا } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: فما لنا نرى المتوكلين على الله لا يكفى مهماتهم؟ - فقال: قد جعل الله لكل شيء قدرا تقديرا فى عالم التقدير، او مقدرا لا يتجاوز عنه، ولذلك: لا يعجل كفاية امور المتوكلين، او هو ايضا تعليل للامر بالتوكل.
[65.4]
{ واللائي يئسن من المحيض من نسآئكم } بانقطاع الحيض عنهن لمرض او حمل او لكبر لكن لم يبلغ كبرهن الى خمسين او ستين، او كان بلوغهن مشكوكا فيه، واما اللائى يئسن من المحيض بسبب البلوغ الى الخمسين او الستين فلا يصبرن بعد التفريق ثلاثة اشهر ولا يعتددن من الطلاق اصلا ولذلك قال { إن ارتبتم } فى كبرهن وبلوغهن الى سن من لا تحيض { فعدتهن ثلاثة أشهر واللاتي لم يحضن } بعد ولكنهن بلغن سن من تحيض فعدتهن ثلاثة اشهر مثل من قطع حيضهن ولم يبلغن خمسين او ستين { وأولات الأحمال أجلهن } اى مدة عدتهن او آخر عدتهن { أن يضعن حملهن } وبيان الطلاق وكيفيته واقسامه مذكورة فى الكتب الفقهية { ومن يتق الله } فى امر النساء، او فى احكام الطلاق، او فى الرفق بهن وعدم الاقدام على الطلاق، او فى مطلق احكام الله { يجعل له من أمره يسرا } فى الدنيا او فى الدنيا والآخرة.
[65.5]
{ ذلك } المذكور من امر النساء او من امر الطلاق والعدة { أمر الله } اى حكمه { أنزله إليكم ومن يتق الله } تأكيد للسابق واشارة الى غاية اخرى، او الاول اشارة الى التقوى فى امر النساء، والثانى الى التقوى فى مطلق احكام الله { يكفر عنه سيئاته } التى وقعت منه قبل التقوى او بالخطاء { ويعظم له أجرا } فى الآخرة.
[65.6]
{ أسكنوهن } اى أسكنوا المطلقات اللاتى لا يخرجن من بيوتكم { من حيث سكنتم } يعنى لا تجعلوا مساكنهن ادون من مساكنكم { من وجدكم } مما تجدون لسكناكم { ولا تضآروهن } فى السكنى او لا تضاروهن من جهة اخرى غير السكنى { لتضيقوا عليهن } فتلجئوهن الى الخروج من مساكنكم { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } يعنى ان الرجعيات اللاتى عليهن البقاء فى بيت الزوج لهن النفقة والبائنات لا نفقة لها الا ان يكن حاملات فلهن النفقة حتى يضعن حملهن { فإن أرضعن لكم } اولادكم بعد وضع الحمل وانقطاع علاقة النكاح { فآتوهن أجورهن } على الارضاع لكم { وأتمروا بينكم بمعروف } يعنى ليأمر بعضكم بعضا بالمعروف فى الارضاع وفى ايتاء الاجر { وإن تعاسرتم } اى تضايقتم ايها الآباء عن اتمام الاجرة وايفاء ما هو حق الامهات من الاجور، وايتها الامهات من المساهلة فى مقدار الاجرة { فسترضع له أخرى } مرضعة اخرى وهو عتاب للآباء على المضائقة فى الاجرة ومقدارها، وللامهات على المضائقة المزبورة.
[65.7]
{ لينفق } على ما ينبغى ان ينفق عليه من النفس والاولاد والآباء والازواج وسائر من تحت اليد من العبيد والاماء والخدم والمطلقات الرجعيات والبائنات الحاملات، او لينفق على المطلقات الرجعيات والبائنات الحاملات، او على البائنات الحاملات، او على البائنات الخارجات عن العدة المرضعات للاولاد { ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق ممآ آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا مآ آتاها سيجعل الله بعد عسر } وضيق فى المعيشة { يسرا } وسعة فى المعيشة، روى عن الصادق (ع) انه سئل عن الرجل الموسر يتخذ الثياب الكثيرة الجياد والطيالسة والقمص الكثيرة يصون بعضها بعضا يتجمل بها ايكون مسرفا؟ - قال: لا، لان الله عز وجل قال: لينفق ذو سعة من سعته.
[65.8]
{ وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله } عطف على قوله: { ومن يتق الله } ، وتلويح الى ان من لا يتقى يكون له العاقبة السوءى { فحاسبناها حسابا شديدا } بالاستقصاء في المحاسبة والمداقة فيها ومن يداقه الله فلا مناص له { وعذبناها عذابا نكرا } منكرا لا يعرفه احد لعظمته.
[65.9]
{ فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا } ضياعا لاصل البضاعة وبيانه قوله { أعد الله لهم عذابا شديدا }.
[65.10-12]
{ أعد الله لهم عذابا شديدا } فى الدنيا او القيامة وبعدها { فاتقوا الله يأولي الألباب } الذين صاروا ذوى لب بالولاية والبيعة الولوية ولذلك فسره بقوله { الذين آمنوا } بالبيعة الخاصة الولوية ودخول الايمان بها فى قلوبهم، ويجوز ان يكون التقدير يا ايها الذين آمنوا، ويجوز ان يكون خبرا لمبتدء محذوف { قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا } المراد بالذكر الرسول (ص)، او المراد بالذكر جبرئيل، او المراد بالذكر القرآن، ورسولا بدل منه بدل الاشتمال { يتلوا عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا } بالبيعة العامة او الخاصة { وعملوا الصالحات } بالوفاء بالشروط المأخوذة فى البيعتين { من الظلمات إلى النور ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيهآ أبدا قد أحسن الله له رزقا الله } بدل من الله فى احسن الله له رزقا، او مبتدء خبره الموصول الآتى، او خبر لمبتدء محذوف { الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن } فى العدد، روى عن الرضا (ع): ان الارضين السبع احديها الارض التى تحت اقدامنا، وثانيتها السماء الاولى، وثالثتها السماء الثانية، الى السادسة، وعلى ما سبق منا مكررا من ان العوالم بعضها الغالب عليه الكيفية الارضية، وبعضها الغالب عليه الكيفية السماوية نقول: الارض الاولى هى الهيولى الاولى، والثانية الامتداد الجسمانى، والثالثة البسائط العنصرية، والرابعة المادة الجمادية، والخامسة المادة النباتية، والسادسة المادة الحيوانية، والسابعة المادة البشرية؛ او الاولى عالم المثال السفلى، والثانية عالم المواد، والثالثة عالم الطبائع، والرابعة عالم النفوس النباتية، والخامسة عالم النفوس الحيوانية، والسادسة عالم النفوس البشرية، والسابعة عالم المثال العلوى { يتنزل الأمر بينهن لتعلموا } بتنزل الامر بينهن او بخلق السماوات السبع والارضين السبع { أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما } فان الناظر الى السماوات فى العالم الكبير او الصغير والى الارضين فيهما يظهر آثار قدرته وعلمه ورأفته بخلقه له، وهكذا احاطة علمه بالجليل والحقير.
[66 - سورة التحريم]
[66.1]
{ يأيها النبي لم تحرم مآ أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور } يغفر لكم ما لحقكم من ايمانكم { رحيم } يرحمكم بعد المغفرة.
[66.2]
{ قد فرض الله لكم } اى اوجب الله او قدر الله او اثبت { تحلة أيمانكم } اى تحليل ايمانكم او كفارة ايمانكم فانها ما به التحليل { والله مولاكم } فهو اولى بالاسترضاء { وهو العليم } بمصالحكم فاذا قال حللوا ايمانكم بالكفارة فحللوا { الحكيم } فى فعاله واقواله فلا يشرع لكم ولا يأمركم ولا ينهاكم الا بما فيه مصالح وله غايات شريفة انيقة، وقال الذين توسلوا بأمثال هذه الآية فى تصحيح خلافة خلفائهم وامامة ائمتهم: ان فى هذه الآية دلالة على انه تعالى عاتب نبيه (ص) وليس العتاب الا لذنب صدر منه والذنب ههنا كما نقل فى نزول الآية تحريمه (ص) من قبل نفسه بدون امر الله مارية القبطية او شرب العسل على نفسه، فنقول: مثل هذا العتاب يدل على كمال عنايته بمحمد (ص) ورأفته به بحيث لم يرض انه (ص) حرم على نفسه بعض الملاذ المباحة، كالاب الشفيق الذى يمنع ولده عن ترك بعض الملاذ النفسانية شفقة عليه ومنعا له من الامساك عن بعض ما فيه حظوظ النفس، ولا يدل على انه صدر منه ذنب او خلاف امر، غاية الامر انه يدل على انه امتنع عن بعض الملاذ استرضاء لبعض ازواجه، واسترضاء الازواج مما ندب عليه، اما ترى جواز الكذب للازواج استرضاء لهن قال القمى وغيره سبب نزول الآيات
" ان رسول الله (ص) كان فى بيت عايشة او فى بيت حفصة، فتناول رسول الله (ص) مارية، فعلمت حفصة بذلك فغضبت واقبلت على رسول الله (ص)، فقالت يا رسول الله، فى يومى فى دارى وعلى فراشى؟!. فاستحيى رسول الله (ص)، فقال كفى، فقد حرمت مارية على نفسى وانا اقضى اليك سرا ان انت اخبرت به فعليك لعنة الله والملائكة والناس اجمعين، فقالت نعم ما هو!. فقال (ص) ان ابا بكر يلى الخلافة بعدى ثم بعده ابوك، فقالت من انبأك هذا؟ قال نبأنى العليم الخبير، فاخبرت حفصة به عايشة من يومها ذلك، واخبرت عايشة ابا بكر، فجاء ابو بكر الى عمر، فقال له ان عايشة اخبرتنى بشيء عن حفصة ولا اثق بقولها، فاسئل انت حفصة، فجاء عمر الى حفصة وقال: ما هذا الذى اخبرت عنك عايشة؟ فانكرت ذلك وقالت ما قلت لها من ذلك شيئا، فقال لها عمر ان هذا حق فاخبرينا حتى نتقدم فيه، فقالت نعم قال رسول الله (ص) "
،فنزل جبرئيل على رسول الله بهذه السورة واظهره الله عليه يعنى اظهره الله على ما اخبرت به وعرف بعضه اى خبرها وقال لم اخبرت ما اخبرتك؟! واعرض عن بعض يعنى لم يخبرهم بما يعلم، وقيل:
" خلا النبى (ص) فى بيت عائشة مع مارية فاطلعت عليه حفصة فقال لها رسول الله: لا تعلمى عائشة ذلك وحرم مارية على نفسه، واخبرها ان اباها يملك بعده وبعده عمر فأعلمت حفصة عائشة الخبر واستكتمتها اياه فاطلع الله نبيه (ص) على ذلك "
وهو قوله: { وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا } (الآية)، وقيل: ان رسول الله (ص) كان اذا صلى الغداة يدخل على ازواجه واحدة واحدة وكان اذا دخل على حفصة حبسته واحضرت العسل له وان عائشة انكرت احتباسه عندها، فتواطئت مع بعض ازواجه انه اذا دخل النبى (ص) عليهن يقلن متفقات: انا نجد منك ريح المغافير، فلما دخل الرسول على كل قلن ذلك، فقال الرسول (ص):
" لا اشرب العسل بعد ذلك "
، وقيل: كانت زينب بنت جحش تحبس النبى (ص) فتواطئت عائشة مع بعض ازواجه ان يقلن ذلك لما علمن انه كان يشرب عند زينب العسل.
[66.3]
{ وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا } حديث خلافة ابى بكر وعمر، او حديث تحريم مارية وامرها بكتمانه { فلما نبأت به } عائشة به { وأظهره الله } اى اظهر اخبارها لعائشة { عليه } على محمد (ص) { عرف } تلك الزوج المأمورة بالكتمان { بعضه وأعرض عن بعض } كما مضى { فلما نبأها به قالت } حفصة { من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير } ثم خاطب الله على لسان جبرئيل ومحمد (ص) حفصة وعائشة فقال: { إن تتوبآ إلى الله }.
[66.4]
{ إن تتوبآ إلى الله } من افشاء ما امرتما بكتمانه او من همتكما لسمه { فقد صغت قلوبكما } الفاء سببية والجزاء محذوف يعنى ان تتوبا الى الله لاجل ميل قلوبكما عن الحق والى خلاف محمد (ص) الذى ينبغى التوبة منه كان خيرا لكما فقد صغت قلوبكما، او الفاء للجزاء وقوله: قد صغت قلوبكما قائم مقام الزاء والمعنى ان تتوبا الى الله كان واجبا عليكما التوبة لانه قد صغت قلوبكما، وجمع القلوب لما عليه العرب من انه اذا اضيف تثنية الى تثنية اتى بالتثنية الاولى بصورة الجمع كراهة الاجتماع بين التثنيتين، وللاشعار بان لكل منهما قلوبا متعددة، والآية باتفاق المفسرين من الخاصة والعامة فى عائشة وحفصة { وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير } والمراد بصالح المؤمنين على بن ابى طالب (ع) قيل: انه سئل عمر بن الخطاب من اللتان تظاهرتا على رسول الله (ص)؟ - فقال: عائشة وحفصة، وعن الباقر (ع) قال: لقد عرف رسول الله (ص) عليا (ع) اصحابه مرتين، اما مرة فحيث قال: من كنت مولاه فعلى (ع) مولاه، واما الثانية فحيثما نزلت هذه الآية اخذ رسول الله (ص) بيد على (ع) وقال: يا ايها الناس هذا صالح المؤمنين، وقد ورد الرواية بطريق العامة والخاصة ان المراد بصالح المؤمنين على بن ابى طالب (ع).
[66.5]
{ عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات } الاتيان بالايمان بعد الاسلام للاشارة الى ان الايمان غير الاسلام فليكن الطالب للآخرة طالبا للايمان بعد الاسلام { قانتات تائبات عابدات سائحات } قيل : المراد منه الصائمات، لقول النبى (ص):
" سياحة امتى الصيام "
، فان الصوم عن مشتهيات النفس اطلاق للنفس، وفى اطلاقها سياحة لها فى ملك الرب، وقيل: المراد به ماضيات فى امر الله وطاعته، وقيل: مهاجرات الى رسول الله (ص) { ثيبات وأبكارا } أتى بالعاطف لانهما بمنزلة صفة واحدة
[66.6-7]
{ يأيها الذين آمنوا } بالبيعة العامة النبوية، او بالبيعة الخاصة الولوية { قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة } وقاية الشخص لنفسه من النار بحفظه لها عن اتباع الشهوات والغضبات والحيل الشيطانية، ووقايته لاهليه بأمرهم بالمعروف وتعليمه لهم ونهيهم عن المنكر وتعليمه لهم وترغيبهم فى الخيرات وتحذيرهم عن الشرور واعلامهم بما هو غاية الغايات ونهاية النهايات من الولاية واتباع ولى الامر، عن الصادق (ع): لما نزلت هذه الآية جلس رجل من المسلمين يبكى وقال: عجزت عن نفسى كلفت اهلى، فقال رسول الله (ص):
" حسبك ان تأمرهم بما تأمر به نفسك وتنهاهم عما تنهى عنه نفسك "
، وبهذا المضمون ورد عنهم اخبار كثيرة { عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله مآ أمرهم ويفعلون ما يؤمرون يأيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون } وهو حال او مستأنف بتقدير القول من الملائكة او من الله.
[66.8-11]
{ يأيها الذين آمنوا } بالبيعة العامة { توبوا إلى الله } بالبيعة الخاصة، او المعنى يا ايها الذين آمنوا بالبيعة الخاصة توبوا وارجعوا من مقام نفوسكم الى الله الذى مظهره قلوبكم { توبة نصوحا } خالصة من وصمة العود، او توبة ناصحا صاحبها لنفسه فيها بان يكون نادما على ما مضى وعازما على الترك فيما يأتى، او توبة ترقع الخروق التى وقعت فى الدين وترتق الفتوق وتصلح الفاسد من النصح بمعنى الخياطة، او المراد بها التوبة الجارية على يد ولى الامر فى البيعة الخاصة الولوية فانها التى يخلص صاحبها عن كل سوء وغش وغل، وهى التى يبصر بها صاحبها كل سوء ورذيلة فينصح نفسه فى الخلاص عنها، وهى التى ترقع كل خرق وقع للنفس قبلها. اعلم، ان للتوبة بحسب الصورة معانى فان معناها ان يقول الانسان: أتوب الى الله، او تبت الى الله، وان يرجع الى نبى وقته او ولى وقته وباع على يده بيعة عامة او بيعة خاصة، وان يندم على المعاصى القالبية، وان يندم على الرذائل النفسانية، وان يندم على العقائد الزائغة، وان يرجع عن ملاحظة نسبة الافعال الى نفسه، او ملاحظة نسبة الصفات الى نفسه، او نسبة الوجود الى نفسه، وان يندم على تلونه فى مقاماته ويطلب التمكين ويرجع اليه والكل توبة والكل منظور من الآية بحسب مراتب الاشخاص { عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم } من المعاصى القالبية والرذائل النفسانية والعقائد الزائغة ومن رؤية الافعال من انفسكم ونسبة الصفات الى انفسكم ومن انانياتكم { ويدخلكم } بعد ازالة السيئات { جنات تجري من تحتها الأنهار } قد مضى فى سورة آل عمران فى آخرها بيان جريان الانهار من تحت الجنات { يوم لا يخزى الله النبي والذين آمنوا معه } اى باعوا البيعة العامة او الخاصة معه لكن المناسب لقوله تعالى { نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم } هو المعنى الثانى وقد مضى فى سورة التغابن بيان هذا النور وانه فى قلب المؤمن انور من الشمس المضيئة بالنهار، واختار من جملة الجهات ما بين الايدى والايمان اشعارا بجهتى النفس المطيعة التى هى بحسب قوتيها العلامة والعمالة، واما الخلف واليسار فانهما لا يكونان للنفس المطيعة بمعنى انه لا يكون لها جهة شيطانية ولا جهة حيوانية اللتان يعبر عنهما بالخلف واليسار ولو كانتا لم يكن ذلك النور فى تينك الجهتين { يقولون } حالا وقالا { ربنآ أتمم لنا نورنا } فانهم بظهور هذا النور والصورة الملكوتية من امامهم يشتد لوعتهم ويزداد حرقتهم ويزيد طلبتهم فيطلبون ازدياد الظهور واشتداد هذا النور بحيث لا يبقى لهم ذات واثر، فان مثلهم فى تلك الحال مثل الفراش والسراج لا يسكنون ما كان لهم ذات وحركة { واغفر لنآ } الحدود والنقائص الملحقة بنا المانعة لنا من كمال ادراك هذا النور { إنك على كل شيء قدير يأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين } فى العالم الصغير والعالم الكبير، وقرأ الصادق (ع): جاهد الكفار بالمنافقين قال: ان رسول الله (ص) لم يقاتل منافقا قط انما كان يتألفهم، وفى خبر عنه: جاهد الكفار والمنافقين، قال: هكذا نزلت فجاهد رسول الله (ص) الكفار، وجاهد على (ع) المنافقين فجهاد على (ع) جهاد رسول الله (ص) { واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير ضرب الله مثلا للذين كفروا } كفر النفاق وان كان لهم قرب الى الانبياء والاولياء (ع) { امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا } الخاصين بنا { صالحين } وكونهما تحتهما كناية عن كمال قربهما { فخانتاهما فلم يغنينا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون } فان وصلة الكفار ومخالطتهم لا تضرهم كما ان وصلة آسية ومخالطتها لفرعون ما كانت تضرها { إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين } اى القبطى التابعين له.
[66.12]
{ ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها } من ان ينظر اليه او تنظر هى بنفسها اليه { فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه } المراد بالكلمات هى الكلمات الوجودية وهى مراتب العالم مندرجة فى ابن آدم (ع)، والمراد بالكتب احكام النبوات والرسالات وآثار الولايات، ومنها الكتب التدوينية { وكانت من القانتين } لا من القانتات بل هى عدت من الرجال،
" روى عن النبى (ص) انه قال: كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء الا اربع، آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وخديجة (ع) بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله ".
[67 - سورة الملك]
[67.1-2]
{ تبارك الذي بيده الملك } الملك يطلق على عالم الطبع مقابل الملكوت العامة التى هى جملةعالم الارواح، او الخاصة وهى عالم المثال، وهذا الاطلاق هو المشهور عندهم، ويطلق على جملة ما سوى الله، وعلى الرسالة والصدر المستنير بنورها، وعلى النبوة والقلب المستضيء بضوئها، وعلى الولاية التى بها يكون التصرف فى العباد ودعوتهم الى التوحيد، واليد تطلق على ما به التصرف، وعلى القدرة التى هى مبدء التصرف، وعلى صفات الله اللطفية والقهرية، وعلى عالمى الملكوت العليا والملكوت السفلى، والكل مناسب ههنا { وهو على كل شيء } من الممكنات الواقعة فى عالم الطبع وعالمى الملكوت { قدير الذي خلق الموت } لما كان الموت من اعدام الملكات، واعدام الملكات لها حظ ضعيف من الوجود وماله حظ من الوجود صح تعلق الخلق به قال: خلق الموت { والحياة } ولما كان الموت فى عالم الطبع بوجه مقدما على الحياة بالطبع، او كان المنظور من ذكر خلق الموت والحياة التهديد عن الشرور والترغيب فى الخيرات وكان الموت فى هذا المنظور ابلغ قدم الموت { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } ولم يقل، او اسوء عملا، للاشارة الى ان المنظور من كل ذلك ان يحسن الانسان عمله، وسوء العمل يكون من الطوارى وليس علة غائية وحسن العمل يكون بنية حسنة كاملة، والنية الحسنة تكون بالعقل الكامل ولذلك ورد فى اخبار عديدة ان المراد به ايكم اتم عقلا، وروى عن الصادق (ع) انه قال: ليس يعنى اكثر عملا ولكن اصوبكم عملا وانما الاصابة خشية الله والنية الصادقة ثم قال: الابقاء على العمل حتى يخلص اشد من العمل، والعمل الخالص الذى لا تريد ان يحمدك عليه احد الا الله عز وجل، والنية افضل من العمل، الا وان النية هو العمل، ثم تلا قوله عز وجل:
قل كل يعمل على شاكلته
يعنى على نيته { وهو العزيز } الذى لا مانع له من حكمه وارادته فليحذر الذين يخالفون امره ويسيئون فى عملهم وليرج الذين يطيعونه ويحسنون عملهم { الغفور } فلا ييأس الذين يعملون السيئات.
[67.3]
{ الذي خلق سبع سماوات طباقا } مصدر او جمع، والموصول بدل من الذى فى تبارك الذى، او صفة للعزيز، او خبر بعد خبر، او مبتدء وخبره قوله { ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت } والعائد الرحمن الذى هو بمعناه والمنظور منه بيان قدرته وحكمته وعنايته بخلقه وعدم اهمالهم بلا ثواب وعقاب والمراد بالتفاوت الاختلاف فى الاتقان وعدمه، وقرئ من تفوت وهو بمعنى التفاوت { فارجع البصر } يعنى انظر الى السماء ثم تفكر فى نفسك وتأمل فى خلل السماء ثم ارجع بصرك الى السماء { هل ترى من فطور } انشقاق فيها وخلل وفساد فى خلقها.
[67.4]
{ ثم ارجع البصر كرتين } فى ارتياد الخلل والنقص والفساد ليس التثنية منظورة بل المنظور تكرار النظر وكثرته { ينقلب إليك البصر خاسئا } خسأ الكلب كمنع طرده، وخسأ الكلب بعد كانخسأ، وخسى من باب علم وخسأ البصر كمنع كل، والخاسى من الكلاب والخنازير المبعد الذى لا يترك ان يدنو من الناس { وهو حسير } كليل ومنقطع من الابصار من طول المدى فى الابصار، ونعم ما قال المولوى قدس سره فى بيان هذه الآية:
اندر اين كردون مكرر كن نظر
زانكه حق فرمود ثم ارجع بصر
يك نظر قانع شو زين سقف نور
بارها بنكر ببين هل من فطور
جونكه كفتت كاندر اين سقف نكو
بارها بنكر جو مرد عيب جو
[67.5]
{ ولقد زينا السمآء الدنيا } اى اقرب السماوات الى الارض فان جنس سماء الطبع اقرب اصناف السماوات الى الارض، وان كان المكوكبة منه هى الثامنة منها، فان سماوات عالم المثال وعالم النفوس وعالم العقول ابعد السماوات الى الارض، وهكذا فى العالم الصغير سماء الصدر المنشرح بالاسلام وسماء القلب الداخل فيه الايمان اقرب السماوات الى ارض البدن وارض النفس الامارة واللوامة { بمصابيح } بالكواكب الصورية او بالكواكب الذكرية النفسانية { وجعلناها رجوما للشياطين } كون النجوم الذكرية رجوما للشياطين واضح، واما كون الشهب السماوية رجوما للشياطين فقد انكر الفلاسفة سقوط الكواكب عن محالها لانها بسائط وليست مركبة من العناصر بل هى على ما خلقت من غير تغيير وتغير، والشهب التى تترائى انما تتكون فى كرة الدخان وهى انموذج للشهب التى بها ترجم الشياطين والا فالشياطين من اهل عالم المثال السفلى ولا تزاحم بين اهل عالم المثالين واجزاء عالم الطبع، وقد مضى فى سورة الحجر وسورة الصافات بيان لهذه الآية { وأعتدنا لهم عذاب السعير } فى الآخرة.
[67.6-7]
{ وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير إذآ ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا } صوتا كصوت الحمير وقد مضى فى سورة هود بيان ان لهم فيها زفيرا وشهيقا { وهي تفور } اى تغلى بهم غليان المرجل بما فيه.
[67.8-11]
{ تكاد تميز من الغيظ } اى تتفرق من الغيظ على اعداء الله { كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتهآ ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جآءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير وقالوا } اعترافا بعدم التحقيق وعدم التقليد { لو كنا نسمع } وننقاد لاولياء الامر وكنا فى تقليد صحيح { أو نعقل } اى ندرك بعقولنا ونميز الحق من الباطل وكنا محققين { ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم } لما رأوا قصورهم وتقصيرهم فى تشخيص حال الانبياء (ع) { فسحقا لأصحاب السعير } اى بعدا، روى ان هذه الآيات فى اعداء على (ع) واولاده، والتى بعدها فى اوليائهم.
[67.12]
{ إن الذين يخشون ربهم بالغيب } حالكونهم فى الغيب من ربهم، او حالكون الرب فى الغيب منهم، او بسبب غيبة حالهم، او غيبة حال الرب فى رضاه وسخطه عنهم، وقد سبق الاشارة الى ان الخوف فى مقام النفس وظنه والخشية ايضا فى مقام النفس لكن بعد ترقبه الى ادنى مرتبة العلم او اعلاها، وقد سبق فى سورة الفاطر عند قوله:
إنما يخشى الله من عباده العلماء
[فاطر:28] بيان للخشية { لهم مغفرة وأجر كبير } والآيتان وعيد ووعد للفريقين.
[67.13]
{ وأسروا قولكم أو اجهروا به } عطف على واحد من الجمل السابقة لكون الانشاء فى معنى الخبر فان الامر للتخيير فهو فى معنى انتم مخيرون بين الاسرار والاعلان او للتسوية، والمعنى سواء اسراركم واجهاركم بالقول عنده { إنه عليم بذات الصدور } التى هى اخفى من القول الخفى، والمراد بذات الصدور الخطرات والخيالات، او النيات والعزمات، او القوى والاستعدادات المكمونات التى لا شعور لصاحبى الصدور بها.
[67.14]
{ ألا يعلم من خلق } تأكيد لاحاطة علمه فان الخالق لا يكون جاهلا بمخلوقه { وهو اللطيف } فى علمه بحيث لا يشذ عن علمه اصغر ما يكون { الخبير } ببواطن الامور، روى ان المشركين كانوا يتكلمون فيما بينهم باشياء فيخبر الله بها رسوله فيقولون: اسروا قولكم لئلا يسمع اله محمد (ص) فنبه الله على جهلهم.
[67.15]
{ هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا } مستأنف جواب لسؤال مقدر { فامشوا } اى اذ كانت ذلولا فامشوا { في مناكبها } اى فى نواحيها { وكلوا من رزقه وإليه النشور } فاحذروا كفران نعمه ومخالفة امره.
[67.16]
{ أأمنتم من في السمآء } يعنى الملائكة الذين هم فى السماء { أن يخسف بكم الأرض } كما فعل بقارون { فإذا هي تمور } تضطرب قبل الخسف او بعده يعنى صرتم آمنين فتكفرون به وتكفرون بنعمائه لذلك وتخالفون امره وامر رسوله (ص) فى ولاية على (ع).
[67.17]
{ أم أمنتم من في السمآء أن يرسل عليكم حاصبا } اى راميا لكم بالحصباء او ريحا حاملة للتراب { فستعلمون كيف نذير } اى انذارى حين رأيتم المنذر به.
[67.18]
{ ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير } انكارى عليهم فاعتبروا انتم بهم وتسل انت يا محمد (ص) عن تكذيبهم.
[67.19]
{ أولم يروا إلى الطير } الم ينظروا فى آيات قدرته ولم يروا الى الطير { فوقهم صافات } باسطات اجنحتهن { ويقبضن } بالدفيف أتى به مضارعا لان الدفيف يكون مكررا متدرجا ويناسبه المضارع الدال على الاستمرار التجددى، والصفيف اذا وقع يكون باقيا على الحالة الاولى ويناسبه الفاعل الدال على الاستمرار من دون التجدد فى الحدوث { ما يمسكهن } فى الجو { إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير } فيعلم دقائق ما يحتاج اليه المخلوق والغرض من النظر الى الطير ان ينظر العاقل الى انها مخلوقة من التراب والغالب عليه الجزء الارضى وهى بالطبع طالب للمركز، وان الله تعالى خلقها بحيث يكون تعيشها فى الجو وقوتها يكون من حركتها فى الجو فى الاغلب فخلقها تعالى بحيث يكون جميع ما تحتاج اليه فى حركتها وتعيشها فى الجو مهيأة، وليس هذا الا فعل حكيم بصير قدير وليس فعل طبيعة السماء والسماوات كما يقول الدهريون، ولا فعل الطبائع الارضية كما يقول الطبيعيون فيعلم من ذلك مبدء قديرا عليما حكيما لنفسه، ويعلم ان الذى لا يهمل شيئا مما يحتاج اليه الطير لا يهمل الانسان الذى هو اشرف من الطير ولم يخلقه عبثا.
[67.20]
{ أمن هذا الذي هو جند لكم } ام منقطعة ومن استفهامية للانكار وهذا الذى خبره { ينصركم من دون الرحمن } ينصركم حال او مستأنف جواب لسؤال مقدر او صفة لجند وتوحيد الضمير لوحدة صورة الجند ولذلك حمل على هذا ومن دون الرحمن بمعنى من عند الرحمن متعلق بينصركم او حال عن فاعل ينصركم، او بمعنى من غير الرحمن، وحال من فاعل ينصركم او صفة اخرى لجند يعنى لا يقدر اصنامكم وسائر جنودكم ان تنصركم فباى قوة تعصوننى { إن الكافرون إلا في غرور } من الشيطان.
[67.21]
{ أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك } الله { رزقه بل } ليس اعتمادهم فى مخالفتهم على رازق سوى الله يرزقهم ولكنهم { لجوا } خاصموا نبينا { في عتو } فى استكبار عن الحق واهله وتجاوز عن الحد فى اللجاجة { ونفور } من الحق واهله.
[67.22]
{ أفمن يمشي مكبا على وجهه } اى مصروعا على وجهه فان كبه واكبه بمعنى صرعه، واكب بمعنى انكب لازم ومتعد { أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم } غير منحرف عن المقصد، سئل الكاظم (ع) عن هذه الآية فقال: ان الله ضرب مثلا من حاد عن ولاية على (ع) كمن يمشى على وجهه لا يهتدى لامره وجعل من تبعه سويا على صراط مستقيم، والصراط المستقيم امير المؤمنين (ع).
[67.23]
{ قل } يا محمد (ص) لقومك { هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة } ذكرا من اصول ما يحتاج اليه الانسان ما هو اظهر، والحاجة اليه اكثر { قليلا ما تشكرون } شكرا قليلا او نعيما قليلا من نعمائه تشكرون.
[67.24]
{ قل هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون } فهو المبدء والمنتهى والفاعل والغاية، ومن تحتاجون اليه فى الدنيا والآخرة.
[67.25-26]
{ ويقولون } اى قومك المنكرون للبعث { متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل } لهم ان البعث خارج عن الزمان انما هو فى طول الزمان لا فى عرضه وانتم تسألون عن وقته فى عرض الزمان و { إنما العلم } بمرتبته فى طول الزمان { عند الله } من العلوم الخاصة به لا يعلمها غيره { وإنمآ أنا نذير } من عنده { مبين } ظاهر او مظهر لصدقى.
[67.27]
{ فلما رأوه زلفة } ذا زلفة اى لما رأوا الموعود ذا قرب { سيئت وجوه الذين كفروا وقيل } لهم { هذا الذي كنتم به تدعون } قرئ بتخفيف الدال وبتشديده، والمعنى فى كليهما واحد يعنى هذا الذى كنتم تستعجلون به وتدعون الله بتعجيله، وقيل: هو من الدعوى والمعنى كنتم تدعون انه ليس بحق، ويكون الباء للتعدية او للالصاق، روى عن الباقر (ع): هذه نزلت فى امير المؤمنين (ع) واصحابه الذين عملوا ما عملوا، يرون امير المؤمنين (ع) فى اغبط الاماكن لهم فيسيء وجوههم ويقال: هذا الذى كنتم به تدعون الذى انتحلتم اسمه، وعنه (ع) فلما رأوا مكان على (ع) من النبى (ص) سيئت وجوه الذين كفروا يعنى الذين كذبوا بفضله، والاتيان بالماضى فى قوله فلما رأوا لتحقق وقوعه على الاولين ولما ضويته على الاخير.
[67.28]
{ قل أرأيتم } ايها الكفار { إن أهلكني الله } اماتنى { ومن معي أو رحمنا } بابقائنا الى آخر اعمارنا { فمن يجير الكافرين من عذاب أليم } هو عذاب الدنيا او عذاب الموت او البرازخ او القيامة، وهذا جواب لهم حيث قالوا نتربص به ريب المنون.
[67.29]
{ قل هو الرحمن } المفيض للوجود وكمالات الوجود على كل موجود { آمنا به } تؤمنون به او لا تؤمنون { وعليه توكلنا } فلا نبال معاداتكم ومودتكم { فستعلمون من هو في ضلال مبين } روى عن الباقر (ع) فستعلمون يا معشر المكذبين حيث انبأتكم رسالة ربى فى ولاية على (ع) والائمة (ع) من بعده من هو فى ضلال مبين، كذا انزلت.
[67.30]
{ قل أرأيتم إن أصبح مآؤكم غورا } غائرا فى الارض بحيث لا يمكن اجراؤه على وجه الارض ولا نيله بدلو وغيره { فمن يأتيكم بمآء معين } جار او ظاهر، ولما لم يكن اسم الماء خاصا بالماء العنصرى الذى هو جسم سيال محيط بالارض بل كل ما كان سببا لحياة ما وسببا لتماسك الاجسام اليابسة ماء فالعلم والايمان وافاضات الله كلها مياه بوجه، والامام الذى به يكون الايمان، والولاية التى هى البيعة الخاصة الايمانية التى بها يحصل الايمان ويدخل بذر المعرفة فى القلوب ماء، والحياة النباتية والحيوانية بمراتبها، والانسانية بمراتبها كلها مياه، والعقول والارواح والنفوس الكلية والجزئية البشرية والحيوانية والنباتية كلها مياه، والروح النفسانية التى هى مركب القوى الدراكة والحيوانية التى هى مركب حياة الاعضاء ماء، والمشية التى هى اصل كل اصل ومبدء كل مبدء ومنتهى كل منتهى اصل المياه، فاذا عرفت ذلك سهل عليك تصور وجوه الآية ونعم ما قال المولوى قدس سره فى بيان وجه من وجوه الآية:
مقرئى ميخواند از روى كتاب
ماؤكم غورا ز جشمه بندم آب
آبرا در جشمه كه آرد دكر
جز من بى مثل وبا فضل وخطر
فلسفيى منطقيى مستهان
ميكذشت ازسوى مكتب آن زمان
جونكه بشنيد آيت او از نابسند
كفت آريم آب را ما با كلند
شب بخفت وديد او يك شيرمرد
زد طبانجه هرد وجشمش كور كرد
كفت زين دوجشمه جشم اى شقى
با تبر نورى بيار ارصادقى
روز برجست ودوجشمش كورديد
نور فائض از دو جشمش نابديد
[68 - سورة القلم]
[68.1]
{ ن } روى عن الصادق (ع) واما ن فهو نهر فى الجنة قال الله عز وجل: اجمد، فجمد، فصار مدادا ثم قال عز وجل للقلم: اكتب، فسطر القلم فى اللوح المحفوظ ما كان وما هو كائن الى يوم القيامة فالمداد مداد من نور والقلم قلم من نور، واللوح لوح من نور، وبهذا المعنى مع اختلاف فى اللفظ اخبار كثيرة، وقيل: المراد به الحوت الذى عليه الارضون، وقيل: هو لوح من نور، وقيل: هو الدواة، وقيل: هو مطلق الحوت فى البحر، وقيل: هو من اسماء السورة، وقيل: هو من حروف اسم الرحمن، وقيل: هو من أسماء محمد (ص) ولعلك بعد ما سبق فى اول البقرة يسهل عليك التوفيق بين هذه الاقوال؛ وتعلم ان ن كناية عن مرتبة من مراتب العالم وان محمدا (ص) متحد مع جميع مراتب العالم وان مراتب العالم مراتب سعة وجود الله تعالى، وان السورة ظهور لتلك المرتبة { والقلم } قيل: المراد به مطلق القلم، اقسم الله به لكثرة منافع الخلق به، اذ هو احد لسانى الانسان بل هو اشرف لسانيه لان لسانه لا يبلغ ما فى جنانه الى من بعد منه زمانا او مكانا ، والقلم يبلغ ما فى جنان الانسان الى الاباعد منه، والكلام يفنى من حينه ولو بقى اثره فى قلب السامع لم يبق فى الاغلب الى آخر عمره، ولو بقى لم يبق بعده بخلاف كتاب القلم كما قيل: ان البيان بيانان، بيان اللسان وبيان البنان، وبيان اللسان تدرسه الاعوام، وبيان الاقلام باق على مر الايام، وبالقلم يحفظ احكام الاديان وبه يستقيم امور العالمين كما قيل: ان قوام الدنيا بشيئين، القلم والسيف، والسيف تحت القلم، وقد قيل:
ان يخدم القلم السيف الذى خضعت
له الرقاب ودانت حذره الامم
كذا قضى الله للاقلام مذ برئت
ان السيوف لها مذ ارهفت خدم
وروى ان المراد به القلم الاعلى الذى سطر ما كان وما هو كائن وهو ملك من الملائكة { وما يسطرون } اقسم بالمسطورات او بالملائكة الذين يسطرون ما كان وما هو كائن او الملائكة الذين يسطرون احوال الارضيين، او كتاب الاعمال الذين يسطرون اعمال بنى آدم، او الناس الذين يسطرون الكتب السماوية والاحكام الالهية والشرائع الحقة والفنون والصناعات المعاشية والديون والمعاملات والمحاسبات الخلقية.
[68.2]
{ مآ أنت بنعمة ربك بمجنون } بنعمة ربك حال والباء للمصاحبة، والعامل فيها معنى النفى، او للسببية ومتعلقة بمعنى النفى.
[68.3]
{ وإن لك لأجرا } على التبليغ وتحمل مشاقه { غير ممنون } اى غير مقطوع او غير ممنون به عليك.
[68.4]
{ وإنك لعلى خلق عظيم } الخلق بالضم وبالضمتين السجية والطبع والمروءة والدين، والكل مناسب ههنا، ولكن المراد هو السجية، فان المقصود انك على خلق تتحمل به كل ما يرد عليك مما يغير غيرك اذا ورد عليه ولا يغيرك لا ظاهرا ولا باطنا، ومثل ذلك الخلق لا يكون الا عن دين عظيم هو ولاية على (ع) وهى الولاية المطلقة، فان من ترقى عن مقام البشرية ووصل الى مقام الولاية المطلقة يتبدل جميع اوصافه الرذيلة التى هى الاخلاق الحيوانية والرذائل النفسانية بالاوصاف الملكية التى هى الخصائل الحسنة ومنها المروة الكاملة، وسبب الكل هو الطبع الكامل والمزاج المعتدل وقد فسر فى الاخبار بالدين والاسلام، وعن الصادق (ع): ان الله عز وجل ادب نبيه (ص) فأحسن ادبه فلما اكمل له الادب قال: انك لعلى خلق عظيم، وفى خبر ان الله ادب نبيه (ص) فاحسن تأديبه فقال: خذ العفو وامر بالعرف واعرض عن الجاهلين، فلما كان ذلك انزل الله انك لعلى خلق عظيم.
[68.5-6]
{ فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون } الباء بمعنى مع، والمفتون بمعنى المصدر، او المفتون اسم مفعول، والمعنى بأيكم العقل المفتون، او هو من باب التجريد اى مع ايكم الرجل المفتون، او الباء زائدة، او بمعنى فى والمعنى فى اى الفريقين منكم المفتون، روى عن الباقر (ع) انه قال:
" قال رسول الله (ص): ما من مؤمن الا وقد خلص ودى الى قلبه، وما خلص ودى الى قلب احد الا وقد خلص ود على (ع) الى قلبه، كذب يا على من زعم انه يحبنى ويبغضك "
، فقال رجلان من المنافقين: لقد فتن رسول الله (ص) بهذا الغلام فأنزل الله تبارك: { فستبصر ويبصرون * بأييكم المفتون } فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون، قال: نزلت فيهما (الى آخر الآيات).
[68.7]
{ إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله } الذى هو ولاية على (ع) والضال عن سبيل الولاية هو المجنون حقيقة { وهو أعلم بالمهتدين } الى الولاية.
[68.8]
{ فلا تطع المكذبين } لله اولك فى على (ع) او لعلى.
[68.9]
{ ودوا لو تدهن } المداهنة والادهان اظهار خلاف ما تضمر والغش { فيدهنون } والمعنى ودوا ادهانك وغشك او نفاقك او مداراتك معهم بخلاف ما اضمرت فيدهنون بعدك او ودوا ادهانك بسبب انهم يدهنون على الاستمرار، وقال القمى: اى احبوا ان تغش فى على (ع) فيغشون معك.
[68.10]
{ ولا تطع كل حلاف مهين } تأكيد للاول وتبديل للمكذبين بالاوصاف الاخر ذما لهم بجميع ذلك فان كل كذاب يكون كثير الحلف، وكل كثير الحلف يكون مهينا عند الخلق وعند الله، فان كثرة الحلف لا تكون الا من كون الحالف مهينا لا يقبل منه، وكثرة حلفه تصير سببا لكونه مهينا ايضا.
[68.11]
{ هماز } عياب طعان { مشآء بنميم } النم التوريش والاغراء ورفع الحديث اشاعة له وافسادا وتزيين الكلام، والنميم والنميمة اسم له.
[68.12]
{ مناع للخير } يمنع قواه ومداركه واهل مملكته عن خيراتهم الحقيقية التى هى انقيادهم لولى امرهم وللعقل ثم عن خيراتهم المجازية اللازمة لتلك الخيرات، ثم يمنع اهل المملكة الكبيرة عن الخيرات الحقيقية، ثم عن الخيرات المجازية { معتد } متجاوز عن الحد او ظالم على نفسه بالطغيان على الامام { أثيم } كثير الاثم.
[68.13]
{ عتل } العتل الاكول المنيع الجافى الغليظ { بعد ذلك } المذكور من المثالب { زنيم } الزنيم المستلحق فى قوم ليس منهم والدعى واللئيم المعروف بلؤمة او شره، روى عن النبى (ص) انه سئل عن العتل الزنيم فقال:
" هو الشديد الخلق المصحيح الاكول الشروب الواجد للطعام والشراب الظلوم للناس، الرحب الجوف "
، وعن على (ع): الزنيم هو الذى لا اصل له، وقال القمى: الخير امير المؤمنين (ع) معتد اى اعتدى عليه عتل بعد ذلك قال: العتل العظيم الكفر والزنيم الدعى.
[68.14-15]
{ أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين } قد مضى بيان الاساطير مكررا فى السابق، وقيل: نزلت الآيات فى الوليد بن المغيرة كان يمنع عشيرته عن الاسلام وكان موسرا وله عشر بنين فكان يقول لهم وللحمته: من اسلم منكم منعته رفدى وكان دعيا ادعاه ابوه بعد ثمانى عشرة من مولده.
[68.16]
{ سنسمه على الخرطوم } على الانف قيل: قد اصاب انف الوليد جراحة يوم بدر فبقى اثره، وقيل: انه كناية عن ان يذله غاية الاذلال، وقال القمى: { أساطير الأولين } اى اكاذيب الاولين { سنسمه على الخرطوم } قال فى الرجعة اذا رجع امير المؤمنين (ع) ويرجع اعداؤه فيسمهم بميسم معه كما يوسم البهائم على الخراطيم الانف والشفتان.
[68.17]
{ إنا بلوناهم } اى اهل مكة بالقحط والجوع { كما بلونآ أصحاب الجنة } المعهودة التى كانت مالكوها مستعدين لان يصرموها فلما دخلوها وجدوها بلا ثمر لانهم لم يستثنوا وكانت تلك الجنة على تسعة اميال من صنعاء اليمن وكانت يقال لها الرضوان { إذ أقسموا } اى المالكون لها { ليصرمنها مصبحين } وقت الصباح.
[68.18]
{ ولا يستثنون } لا يقولون ان شاء الله وسمى استثناء لما فيه من الاخراج من مشية القائل والتعليق على مشية الله تعالى.
[68.19-20]
{ فطاف عليها طآئف } اى حر طائف كالسموم، او برد طائف { من ربك وهم نآئمون فأصبحت } صارت وقت الصباح { كالصريم } كالجنة المقطوعة الثمار او كالليل المظلم باحتراقها، او كالنهار المضيء بابيضاضها وعدم خضرتها، فان الصريم يطلق على الليل والنهار.
[68.21]
{ فتنادوا } نادى بعضهم بعضا { مصبحين } وقت الصباح.
[68.22-23]
{ أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين فانطلقوا } الى جنتهم للصرم { وهم يتخافتون } يتسارون.
[68.24-25]
{ أن لا يدخلنها } مفعول ليتخافتون بلا واسطة او بواسطة الباء الجارة { اليوم عليكم مسكين وغدوا على حرد } اى على منع للفقراء، او على جد من امرهم، او على غضب على الفقراء وقت الصرم { قادرين } اى يقدرون عند انفسهم ذلك.
[68.26]
{ فلما } دخلوا بستانهم و { رأوها قالوا إنا لضآلون } عن جنتنا فانها ليست على صفة جنتنا، او لضالون عن طريق الحق فى امرنا حيث اردنا منع الفقراء فلذلك عوقبنا.
[68.27]
{ بل نحن محرومون } بل هى جنتنا لكنا صرنا محرومين من ثمارها بارادتنا منع الفقراء.
[68.28]
{ قال أوسطهم } سنا او اعدلهم او افضلهم واعقلهم { ألم أقل لكم لولا تسبحون } تنزهون الله فتؤدوا شكر نعمه وتؤدوا حقوقها، او تصلون.
[68.29-31]
{ قالوا } اعترافا بظلمهم لانفسهم وتنزيها للحق تعالى عن الظلم { سبحان ربنآ إنا كنا ظالمين فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون قالوا } اعترافا بطغيانهم { يويلنا } يا قوم ويلنا او نادوا الويل لغاية دهشتهم { إنا كنا طاغين } وهذه تقال عند شدة الغيظ وغلظ اليأس، ويقال عند التوجه الى الله والتوبة اليه والندم على ما فرط.
[68.32-33]
{ عسى ربنآ أن يبدلنا خيرا منهآ } وهذه تدل على انهم تابوا الى الله وندموا على ما فرط منهم { إنآ إلى ربنا راغبون كذلك العذاب } فى الدنيا { ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون } نسب الى عبد الله بن مسعود انه قال: بلغنى ان القوم اخلصوا وعرف الله تعالى منهم الصدق فابدلهم بها جنة يقال لها الحيوان فيها عنب بحمل البغل منها عنقودا، وقال ابو خالد اليمامى: رأيت تلك الجنة ورأيت كل عنقود منها كالرجل الاسود القائم.
[68.34-35]
{ إن للمتقين } عن المعاصى او عن رؤية انفسهم { عند ربهم جنات النعيم أ } لم نجعل لهم جنات { فنجعل المسلمين كالمجرمين } كانوا يقولون ان كان بعث وجزاء كما يقوله محمد (ص) فان حالنا يكون افضل فى الآخرة كما فى الدنيا ولو لم يكونوا يقولون ذلك بالسنتهم فانهم كانوا يقولون ذلك بلسان حالهم فقال الله تعالى، ذلك ظن فاسد وزعم باطل.
[68.36]
{ ما لكم كيف تحكمون } على الله ما لا يرضاه الجاهل او كيف تحكمون بينكم بترجيح الكافر المعاند على المسلم الموافق.
[68.37]
{ أم لكم كتاب فيه تدرسون } ذلك اى تقرأون والحال ان ليس لكم كتاب وكتاب الله الذى هو القرآن يحكم بخلاف ذلك.
[68.38]
{ إن لكم فيه لما تخيرون } تدرسون معلق عنه او هو استفهام على الاستيناف بتقدير اداة الاستفهام.
[68.39]
{ أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة } اى ثابت علينا الى يوم القيامة او كاملة باقية { إن لكم لما تحكمون } جواب للقسم.
[68.40-41]
{ سلهم أيهم بذلك } المذكور من جعلنا المسلمين كالمجرمين { زعيم أم لهم شركآء } لله يجعلونهم مثل المسلمين { فليأتوا بشركآئهم إن كانوا صادقين } فى دعويهم امر للتعجيز.
[68.42]
{ يوم يكشف عن ساق } ظرف لقوله تعالى: { فليأتوا } ، او المعنى فليأتوا بشركائهم فى الدنيا حتى نعلم ان لهم شركاء ويوم يكشف ظرف لقوله تعالى: { ترهقهم ذلة } كناية عن هول اليوم وشدته، فان الامر اذا اشتد واحتاج الانسان الى الفرار يكشف عن ساقه يعنى يوم يشتد الامر عليهم، او المعنى يوم يكشف عن ساق البدن الاخروى فان البدن الدنيوى كالحجاب واللباس للبدن الاخروى بل بساق البدن الاخروى ولارادة ساق البدن الاخروى نكر الساق اشارة الى منكوريته لهم او الى تفخيمه، او المعنى يكشف عن شدة عظيمة فانه يكنى عن الشدة بالساق، وهذا معنى قوله تعالى: والتفت الساق بالساق، او المعنى يوم يكشف عن اصل الامور وحقيقتها { ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون } لان استكبارهم عن السجود فى الدنيا يظهر بصورة عدم الاستطاعة له فى الآخرة، عنهما (ع) انهما قالا: افحم القوم ودخلتهم الهيبة وشخصت الابصار وبلغت القلوب الحناجر لما رهقهم من الندامة والخزى والذلة، وعن الرضا (ع) انه قال حجاب من نور يكشف فيقع المؤمنون سجدا ويدبح اصلاب المنافقين فلا يستطيعون السجود.
[68.43]
{ خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة } من شدة الهول وكثرة الشدائد { وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون } فى الدنيا، وعن الصادق (ع) وهم سالمون اى مستطيعون، وقال القمى: يكشف عن الامور التى خفيت وما غصبوا آل محمد (ص) حقهم ويدعون الى السجود قال: يكشف لامير المؤمنين (ع) فيصير اعناقهم مثل صياصى البقر يعنى قرونها فلا يستطيعون ان يسجدوا وهى عقوبة لهم لانهم لم يطيعوا الله فى الدنيا فى امره وهو قوله { وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون } قال الى ولايته فى الدنيا وهم يستطيعون.
[68.44-45]
{ فذرني ومن يكذب بهذا الحديث } اى حديث ولاية على (ع)، تهديد بليغ لهم { سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين } قد مضى الآية فى سورة الاعراف.
[68.46]
{ أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون } قد مضت الآية فى سورة الطور.
[68.47]
{ أم عندهم الغيب فهم يكتبون } من ذلك ما يستغنون به عنك وما يحكمون به.
[68.48]
{ فاصبر } اى فانتظر { لحكم ربك } فيهم ولا تعجل بالدعاء عليهم او فاصبر على أذاهم وتدبيرهم لمنع على (ع) عن حقه لاجل حكم ربك بامهالهم ولا تعاجل بالدعاء عليهم { ولا تكن كصاحب الحوت } يعنى يونس بن متى (ع) حيث تعجل بالدعاء على قومه فوعده الله العذاب وتاب على قومه ورفع عنهم العذاب فغضب يونس (ع) وفر منهم وابتلى ببطن الحوت { إذ نادى } فى بطن الحوت او نادى الله بالعذاب على قومه { وهو مكظوم } مملو غيظا على قومه، وعن الباقر (ع) اى مغموم.
[68.49-52]
{ لولا أن تداركه نعمة من ربه } وهى التوبة عليه والشفقة { لنبذ بالعرآء } اى الارض الخالية من الاشجار والنبات والسقوف { وهو مذموم فاجتباه ربه } بان اخرجه من بطن الحوت ونبذه بارض ذات ظل وجعله ثانيا رسولا الى قومه { فجعله من الصالحين وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون وما هو } اى محمد (ص) او القرآن او قرآن ولاية على (ع) { إلا ذكر للعالمين } قيل : نزلت حين نزول القرآن وقراءته حيث كانوا ينظرون اليه من شدة البغض والحسد نظرا يكادون يصرعونه بنظرهم، وورد فى الخبر: انها نزلت حين قال: من كنت مولاه فهذا على مولاه آخذا بعضد على (ع) رافعا له وقال بعضهم لبعض: انظروا الى عينيه تدوران كأنهما عينا مجنون، وقيل: نزلت فى اصابة العين فانه روى انه كان فى بنى اسد عيانون فأراد بعضهم على ان يعينه (ص)، وورد ان العين ليدخل الرجل القبر والجمل القدر، وروى انه مر الصادق (ع) بمسجد الغدير فنظر الى ميسرة المسجد فقال: ذاك موضع قدم رسول الله (ص) حيث قال: من كنت مولاه فعلى مولاه، ثم نظر الى الجانب الآخر فقال: ذاك موضع فسطاط بعض المنافقين فلما ان رأوه رافعا يده قال بعضهم لبعض: انظروا الى عينيه تدوران كأنهما عينا مجنون، فنزل جبرئيل بهذه الآية.
[69 - سورة الحاقة]
[69.1-2]
{ الحاقة ما الحآقة } من حق بمعنى وجب او ثبت، او من حق يحق من باب نصر من حاققته فحققته احقه من المغالبة، وعلى اى معنى فسميت القيامة حاقة لتحققها وثبوتها، او لغلبتها على الكافرين وابطالهم، او لتحقق الامور فيها وثبوت الحق فيها وبطلان الباطل ليكون من قبيل الوصف بحال المتعلق، والاستفهام عنها واتيان الظاهر موضع المضمر للتفخيم والتعجيب.
[69.3]
{ ومآ أدراك ما الحاقة } انكار درايته (ص) بالاستفهام الانكارى الدال على المبالغة والاتيان بالاسم الظاهر موضع المضمر والاتيان بالاستفهام كلها يدل على التفخيم.
[69.4]
{ كذبت ثمود وعاد بالقارعة } بالقيامة سميت بها لانها تقرع قلوب الكفار باهوالها وافزاعها، او تقرع فيها رؤسهم بالمقارع من النار فلينظر هؤلاء الى تكذيبهم بها وعاقبتهم حتى يرتدعوا عن التكذيب.
[69.5]
{ فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية } الصيحة والرجفة المتجاوزة عن الحد كما مضى مكررا.
[69.6]
{ وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية } قد مضى قصتهم مكررا ومضى فى سورة فصلت وسورة القمر بيان الريح الصرصر.
[69.7]
{ سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام } قد مضى فى سورة القمر بيان الايام الثمانية، وقد مضى سابقا قصة عاد وثمود { حسوما } الحسوم بالضم الشؤم والدؤب فى العمل، ويجوز ان يكون جميعا لحاسم بمعنى القاطع او بمعنى المانع، فالمعنى ثمانية ايام شومات، او متتابعات او قاطعات لحياتهم، او مانعات لهم، قال القمى: كان القمر منحوسا بزحل { فترى القوم فيها صرعى } موتى { كأنهم أعجاز نخل خاوية } خالية الاجواف تشبيه لهم بعد خروج ارواحهم باعجاز النخل المتأكلة الاجواف.
[69.8-9]
{ فهل ترى لهم من باقية وجآء فرعون ومن قبله } من الامم الماضية، وقرئ من قبله بكسر القاف وفتح الباء اى من عنده من اتباعه { والمؤتفكات } اى قرى قوم لوط التى ائتفكت بأهلها { بالخاطئة } اى بالخطيئة.
[69.10]
{ فعصوا رسول ربهم فأخذهم } ربهم { أخذة رابية } مثل زيادة عملهم فى القبح، او اخذة زائدة على خطائهم.
[69.11]
{ إنا لما طغا المآء } فى امة نوح (ع) { حملناكم في الجارية } اى السفينة الجارية يعنى حملنا آباءكم وانتم فى اصلابهم.
[69.12]
{ لنجعلها لكم تذكرة وتعيهآ أذن واعية } اى لنجعل الفعلة من طغيان الماء وحملكم فى الجارية واهلاك الكافرين وانجاء المؤمنين تذكرة لكم وعظة وتعى هذه الفعلة او التذكرة اذن واعية، وللاشارة الى التأويل روى انه قال الرسول (ص) لعلى (ع):
" يا على ان الله تعالى أمرنى ان ادنيك ولا اقصيك، وان اعلمك وتعى، وحق على الله ان تعى "
، فنزل: وتعيها اذن واعية، وفيه اشارة ما الى التأويل فان فيه انا لما التقى ماء البحر الاجاج من الارض الهيولوية وماء سماء الاهوية وطغى الماءان الملتقيان وحملناكم فى سفينة نوح (ع) التى هى سفينة الشريعة التى من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك، او سفينة الولاية التى هى المركب المنجى الحقيقى فان مثل عترته مثل سفينة نوح (ع) ينجو من ركبها ويهلك من تخلف عنها، لنجعل تلك الفعلة من طغيان الماء او ركوب السفينة او نفس السفينة التى هى الشريعة او الطريقة تذكرة لامور الآخرة وتعيها اى الشريعة او الطريقة بآدابها، او هذه التذكرة اذن واعية شأنها ان تعى ما يسمع ويرى، وورد ان رسول الله (ص) لما نزلت هذه الآية قال:
" سألت الله عز وجل ان يجعلها اذنك يا على (ع) "
، وفى رواية قال (ص):
" اللهم اجعلها اذن على (ع) "
[69.13]
{ فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة } لما ذكر القيامة وفخمها فضلها للتهويل والتهديد والمراد بالنفخة هى النفخة الاولى او الثانية، والتوصيف بالواحدة للاشعار باختصارها وسهولتها مثل قوله تعالى:
ومآ أمرنآ إلا واحدة كلمح بالبصر
[القمر:50].
[69.14]
{ وحملت الأرض } اى رفعت عن مكانها { والجبال فدكتا دكة واحدة } اى دقتا وكسرتا، والتوصيف بالواحدة مثل توصيف النفخة يعنى يجعل الارض مثل الاديم المنبسط ليس فيها تلال ولا وهاد.
[69.15]
{ فيومئذ وقعت الواقعة } اى القيامة، سميت واقعة لوقوعها لا محالة.
[69.16-17]
{ وانشقت السمآء فهي يومئذ واهية } رخوة { والملك على أرجآئهآ } اى جنس الملك بكثرتها على اطراف السماء { ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية } روى عن النبى (ص) ان حملة العرش اليوم اربعة فاذا كان يوم القيامة ايدهم باربعة اخرى فيكونون ثمانية، وعن الصادق (ع): حملة العرش والعرش العلم ثمانية، اربعة منا واربعة ممن شاء الله.
اعلم، ان حملة العرش والعرش بوجه جملة المخلوقات، وبوجه العلم، وبوجه الوجود المطلق الذى هو اضافة الحق الاول اضافته الاشراقية بوجهه الذى الى الحق تعالى شأنه فى النزول اربعة من الاملاك وهم الملائكة المقربون وفى الصعود وعود النفوس الى الله يصير الحملة ثمانية، اربعة من الملائكة المقربين واربعة من نفوس الكملين من الانبياء المرسلين (ع) الذين وصلوا الى اعلى درجات الكاملين واتحدوا مع الملائكة المقربين.
[69.18]
{ يومئذ تعرضون لا تخفى منكم } قرئ بالتاء الفوقانية والياء التحتانية { خافية } اى نفس خافية او فعلة او خصلة او خطرة خافية، او هو مصدر او اسم فاعل، والتاء للمبالغة لا للتأنيث.
[69.19]
{ فأما من أوتي كتابه } عطف من قبيل عطف التفصيل على الاجمال { بيمينه فيقول } تبجحا { هآؤم اقرؤا كتابيه } ها اسم لخذ وقد يمد ويلحق بهما كاف الخطاب ويتصرف فيها تصرف الضمائر بحسب حال المخاطب، وقد يستغنى بتصريف الهمزة نحو تصاريف الكاف عن الحاق الكاف فيقال: هاء بفتح الهمزة وهاء بكسرها، وهاؤما، وهاؤم، وهاؤن.
[69.20]
{ إني ظننت أني ملاق حسابيه } لما كان علوم النفس مغايرة لمعلوماتها وجائزة الانفكاك عنها كالظنون كثيرا ما يعبر عنها بالظنون كما سبق مكررا والمعنى انى كنت فى الدنيا موقنا انى ملاق حسابى عند ربى فعملت على طبق يقينى، عن الصادق (ع): كل امة يحاسبها امام زمانها ويعرف الائمة (ع) اولياءهم واعداءهم بسيماهم وهو قوله:
وعلى الأعراف رجال يعرفون
[الأعراف:46]، وهم الائمة (ع) يعرفون كلا بسيماهم فيعطوا اولياءهم كتابهم بيمينهم، فيمروا الى الجنة بلا حساب، ويعطوا اعداءهم كتابهم بشمالهم، فيمروا الى النار بلا حساب فاذا نظر اولياؤهم فى كتابهم يقولون لاخوانهم: هاؤم اقرؤا كتابيه انى ظننت انى ملاق حسابيه.
[69.21]
{ فهو في عيشة راضية } اى راض صاحبها بها وقيل راضية بمعنى المرضية.
[69.22]
{ في جنة عالية } على الجنات.
[69.23]
{ قطوفها } جمع القطف بالكسر العنقود، واسم للثمار المقطوفة اى المجنية، وقطف العنب من باب ضرب جناه { دانية } يعنى ثمارها التى من شأنها ان تجنى دانية للقائم والقاعد.
[69.24]
{ كلوا } حال او مستأنف بتقدير القول { واشربوا هنيئا بمآ أسلفتم في الأيام الخالية } اى الماضية من الاعمال الحسنة.
[69.25-26]
{ وأما من أوتي كتابه بشماله } قيل: نزلت فى معاوية { فيقول يليتني لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه } لما يرى من سوء العاقبة وثبت الاعمال السيئة.
[69.27]
{ يليتها } اى يا ليت الموتة التى متها { كانت القاضية } لى من غير حياة بعدها.
[69.28]
{ مآ أغنى } الله او ما اغنى العذاب { عني ماليه } اى الذى كان لى من الاتباع والاولاد والاموال، او ما اغنى مالى عنى مالى الذى جمعته فى الدنيا.
[69.29]
{ هلك عني سلطانيه } سلطنتى او سلطانى الذى كان يأمرنى بأعمال فى الدنيا، او سلطانى الذى كنت اشركه بالله واجعله شفيعا لى عند الله.
[69.30-31]
{ خذوه } حال او مستأنف بتقدير القول { فغلوه ثم الجحيم صلوه } اى ادخلوه.
[69.32]
{ ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه } وقد وصف الصادق (ع) تلك السلسلة بان حلقة منها لو وضعت على الدنيا لذابت الدنيا من حرها، وعنه (ع): وكان معاوية صاحب السلسلة التى قال الله عز وجل فى سلسلة ذرعها (الآية)، وعن الباقر (ع): كنت خلف ابى (ع) وهو على بغلته فنظرت بغلته فاذا هو شيخ فى عنقه سلسلة ورجل يتبعه فقال: يا على بن الحسين (ع) اسقنى، فقال الرجل: لا تسقه لا سقاه الله، قال: وكان الشيخ معاوية، وقال القمى: معنى السلسلة سبعون ذراعا فى الباطن هم الجبابرة السبعون.
اعلم، ان الانسان واقع بين الحيوانية وبين الملكية ولنفسه وجه الى الحيوانية ووجه الى الملكية ويعبر عن الجهتين باليسار واليمين، واذا عمل الانسان عمله من حيث وجهته الى الحيوانية يثبت ذلك العمل فى صفحة النفس التى تلى الحيوانية، وبحذائها الكتاب الذى بيد كاتب السيئات فيثبت ذلك العمل كاتب السيئات فى كتاب السيئات سواء كان ذلك العمل بحسب صورته من الطاعات او من المعاصى، ولذلك ورد فى حق الناصب: صلى او زنى، واذا بعث ذلك العامل يوم القيامة يتمثل العمل الذى كان فى صفحة النفس الدانية ويأتيه كتاب عمله الذى كتبه كاتب السيئات من تلك الجهة وهى شمال النفس والانسان، واذا عمل عمله من حيث وجهته الى الملكية ثبت ذلك العمل اولا فى صفحة نفسه الملكية وبحذائها الكتاب الذى بيد كاتب الحسنات فيثبته كاتب الحسنات فى كتاب الحسنات سواء عد ذلك العمل بحسب صورته من السيئات او من الحسنات، وهذا احد وجوه تبديل السيئات حسنات، واذا بعث ذلك العامل يوم القيامة يتمثل صورة العمل الذى كان فى صفحة النفس العليا ويؤتى كتابه من تلك الجهة فيرى صورة اعماله فى صفحة نفسه وفى كتابه على غاية الحسن والبهاء فيتبجح ويقول من غاية الوجد والسرور: { هآؤم اقرؤا كتابيه }.
[69.33-34]
{ إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين } يعنى انه لم يكن صاحب خير لا بحسب قوته العلامة ولا بحسب قوته العمالة.
[69.35]
{ فليس له اليوم ها هنا حميم } لان النسب الجسمانية صارت منقطعة والنسب الروحانية الالهية لم تكن له حاصلة لان حصولها لا يكون الا بالايمان بالله بالبيعة العامة او الخاصة فلم يكن له فى ذلك الموقف حميم جسمانى ولا حميم روحانى.
[69.36]
{ ولا طعام إلا من غسلين } هو ما يغسل من الثوب ونحوه كالغسالة، وما بسيل من جلود اهل النار، وما كان شديد الحر، واسم شجر فى النار ولم يكن له طعام الا من غسلين لانه لم يكن يطعم من طعامه حتى يعطيه طعاما طيبا عوضا من طعامه.
[69.37]
{ لا يأكله إلا الخاطئون } اى المذنبون من خطئ الرجل اذا اذنب عمدا او خطأ.
[69.38-39]
{ فلا أقسم } لفظة لا مزيدة للتأكيد وشاع زيادتها فى القسم { بما تبصرون وما لا تبصرون } بكل ما من شأنه ان يبصر وان لا يبصر.
[69.40]
{ إنه } اى القرآن او قرآن ولاية على (ع) { لقول رسول كريم } وقول الرسول (ص) من حيث انه رسول ليس الا من المرسل سواء اريد بالرسول جبرئيل او محمد (ص).
[69.41-42]
{ وما هو بقول شاعر } كما تقولون تارة انه شاعر { قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن } كما تقولون اخرى { قليلا ما تذكرون } قليلا صفة مفعول مطلق محذوف، او ظرف لتذكرون وما زائدة للتأكيد او صفته والاتيان بالايمان فى جانب نفى كونه شعرا لان تميز كونه من الله دون الشعر يحتاج الى الايمان العام او الخاص، او الاذعان بالله واليوم الآخر حتى يعلم ان مضمونه ليس الا الهيا اخرويا عقليا بخلاف الشعر فانه لا يكون فى الاغلب الا خياليا نفسانيا، واتى فى جانب نفى الكهانة بالتذكر لعدم اكتفاء الايمان فى تميز القرآن من الكهانة التى هى ايضا اخبار بالغيب، وللحاجة الى تذكر حال الكاهن وحال الرسول (ص) واقوالهما وان حال الكاهن لا يشبه حال الالهيين الاخرويين وان حال الرسول (ص) وقوله لا يشبه حال الكاهنين الشيطانيين.
[69.43-45]
{ تنزيل } اى بل هو تنزيل { من رب العالمين ولو تقول } ابتدع { علينا } كذبا { بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين } لامسكنا من اعضائه بيمينه كما يمسك من اعضاء الجانى المستحق للعذاب بيده، وذكر اليمين لانه اشرف اطرافه فيكون ابلغ فى الدلالة على الاذلال او لاخذنا منه باليمين للقطع اى قطعناها فانه حينئذ يكون سارقا فى الدين، والسارق يقطع منه اليمين، او لاخذناه بقوتنا، واستعمال اليمين فى القوة لظهورها على اليد فى الاغلب، واليمين اقوى الاطراف.
[69.46]
{ ثم لقطعنا منه الوتين } وهو حبل القلب اذا قطع هلك صاحبه، وقطعه كناية عن اهلاكه.
[69.47]
{ فما منكم من أحد عنه حاجزين } مانعين وكافين وجمع الحاجزين لحمله على احد المفيد للعموم فى سياق النفى.
[69.48]
{ وإنه } اى القرآن او قرآن ولاية على (ع) { لتذكرة للمتقين } وقد مضى بيان التقوى ومراتبها فى اول البقرة.
[69.49-52]
{ وإنا لنعلم أن منكم مكذبين وإنه لحسرة على الكافرين وإنه لحق اليقين فسبح باسم ربك العظيم } قد سبق مكررا ان المراد بتسبيح الرب تنزيه اللطيفة الانسانية التى هى مظهر الله وهو الرب بوجه واسم الرب بوجه سواء علق التسبيح على الله او على الرب او على اسم الرب، والباء ههنا صلة التسبيح لتأكيد اللصوق او سببية، روى عن الكاظم (ع) انه لقول رسول كريم يعنى جبرئيل عن الله فى ولاية على (ع)، قال (ع) قالوا: ان محمدا (ص) كذب على ربه وما امره الله بهذا فى على (ع) فأنزل الله بذلك قرآنا فقال: ان ولاية على (ع) تنزيل من رب العالمين ولو تقول علينا محمد (ص) بعض الاقاويل (الآية) ثم عطف القول فقال: ان ولاية على (ع) لتذكرة للمتقين وان عليا (ع) لحسرة على الكافرين وان ولايته لحق اليقين فسبح باسم ربك العظيم يقول اشكر ربك العظيم الذى اعطاك هذا الفضل، وعن الصادق (ع): لما اخذ رسول الله (ص) بيد على (ع) فأظهر ولايته قالا جميعا: والله ما هذا من تلقاء الله ولا هذا الا شيء اراد ان يشرف ابن عمه فأنزل الله: ولو تقول علينا (الآيات) وفى خبر: نزلت فى امير المؤمنين (ع) ومعاوية عليه ما عليه.
[70 - سورة المعارج]
[70.1]
{ سأل سآئل بعذاب واقع } سأل يتعدى بنفسه وبعن وبالياء الى المفعول الثانى، ويخفف الهمزة فيقال: سال يسال مثل خاف يخاف، وقرئ به ايضا، قيل: نزلت فى ابى جهل حين قال الرسول (ص) لقريش: ان الله بعثنى ان اقتل جميع ملوك الدنيا واجر الملك اليكم فأجيبونى الى ما ادعوكم اليه تملكوا بها العرب وتدين لكم بها العجم وتكونوا ملوكا فى الجنة، فقال ابو جهل: اللهم ان كان هذا الذى يقول محمد (ص) هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء وائتنا بعذاب اليم حسدا لرسول الله (ص)، وقيل: نزلت فى الحارث بن عمر الفهرى حين قال رسول الله (ص) فى على (ع) ما قال فقال:
اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك
[الأنفال: 32] (الآية) وقد سبق فى سورة الانفال عند قوله:
إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السمآء
[الأنفال: 32]، بيان لنزول الآية، وفى خبر: لما اصطفت الخيلان يوم بدر رفع ابو جهل يده فقال: اللهم اقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرفه ففاجئه العذاب، فأنزل الله تبارك وتعالى سأل سائل بعذاب واقع.
[70.2]
{ للكافرين } اللام للتبيين او متعلق بواقع واشارة الى ان الكافر لا حاجة له الى انتظار العذاب بل العذاب واقع له { ليس له دافع } يدفعه عنهم.
[70.3]
{ من الله ذي المعارج } المعراج والمعرج كمكحل والمعرج يفتح الميم والراء السلم، والله باضافته الاشراقية التى هى فعله وغير خالية منه معراج لعباده السالكين، وله معارج بعدد نفوس السالكين بل بعدد نفوس الخلق اجمعين، وله ايضا معارج بعدد انواع الموجودات فهو بوجه معارج، وبوجه ذو معارج.
[70.4]
{ تعرج الملائكة والروح إليه } هو رب النوع الانسانى وهو اعظم من جميع الملائكة المقربين وهو الذى لم يكن مع احد من الانبياء (ع) وكان مع نبينا (ص) وكان مع اوصيائه الكاملين { في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة } والمقصود انه تعرج الملائكة والروح اليه فى تلك المعارج، فان الملائكة والروح تنزل من مقامها العالى الى مقام الطبع فى الملك الكبير والصغير ثم تعرج الى الله ومقامها الاول فى تلك المعارج، وقد مضى فى سورة بنى اسرائيل وسورة السجدة بيان لهذه الآية، وعن الصادق (ع) ان للقيامة خمسين موقفا كل موقف مقام الف سنة ثم تلا الآية.
[70.5]
{ فاصبر صبرا جميلا } على تكذيب قومك وكفرهم بولاية على (ع) لانهم واقعون فى العذاب من غير انتظار لمجيئه.
[70.6]
{ إنهم يرونه بعيدا } اى يرون ذلك اليوم او العذاب بعيدا من الامكان او بعيدا امده.
[70.7]
{ ونراه قريبا } من الوقوع او قريبا امده وانت ترى برؤيتنا فينبغى ان تراه قريبا.
[70.8]
{ يوم تكون السمآء كالمهل } كالفلز المذاب او كدردى الزيت ويوم بدل من قوله فى يوم او خبر مبتدء محذوف او ظرف ليبصرونهم او ليود المجرم.
[70.9]
{ وتكون الجبال كالعهن } العهن القطعة من الصوف او المصبوغ الوانا.
اعلم، ان الملائكة الموكلة على بنى آدم والروح النازلة اليهم من مقامها العالى تعرج الى مقاماتها بل الى الله تعالى بالموت الاختيارى او الاضطرارى، وبالموت يصير سماوات مقامات الارواح كالصفر المذاب فى عدم تماسكها وعدم تمانعها وانشقاقها لخروج الروح الانسانية الناطقة وتصير جبال الانانيات كالصوف المنفوش فى عدم ثباتها وعدم تمانعها، وتصير الاعضاء البدنية ايضا كالعهن فى تخلخلها بخروج الروح عنها.
[70.10]
{ ولا يسأل حميم حميما } قرئ بالبناء للفاعل وقرئ بالبناء للمفعول يعنى ان كلا منهم مشغول بنفسه بحيث لا يسأل الحميم عن حميمه او لا يسأل حميم عن حميم حمل اوزاره او دفع العذاب عنه، لمعرفته انه لا يغنى عنه شيئا، او المعنى على البناء للمفعول لا يسئل حميم عن حال حميمه لعدم الاحتياج الى ذلك لمعرفة كل كل من سواه، او لان المذنب والمحسن والكافر والمؤمن كانوا ذوى علامات مغنية عن الاستفسار.
[70.11-13]
{ يبصرونهم } قرئ مبنيا للمفعول ومبنيا للفاعل وبصره من التفعيل يستعمل فى معنى عرفه وفى معنى قطعه، وعن الباقر (ع) يعرفونهم ثم لا يتساءلون { يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه } اى عشيرته التى يأوى هو اليهم فى نوائبه وكانوا يؤويه فى كل امر وكان يأوى اليهم فى نسبه وصار منفصلا عنهم بالتولد منهم.
[70.14]
{ ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه } ذلك الفداء.
[70.15]
{ كلا } اى يقال له كلا ردعا له عن ذلك الوداد وعن انجاء الفداء { إنها لظى } اللظى كالفتى النار او لهبها ولظى معرفة كما ههنا اسم لجهنم او لواد منها وضمير انها للقصة او لجهنم، واستغنى عن ذكرها بشهودها.
[70.16]
{ نزاعة للشوى } قرئ بالرفع خبرا للظى، او خبرا بعد خبر لان وقرئ بالنصب حالا والشوى الامر الهين ورذال المال واليدان والرجلان والاطراف وقحف الرأس وما كان غير مقتل، والنزاعة من نزعه قلعه، او من نزع الى اهله نزوعا اشتاق.
[70.17]
{ تدعوا من أدبر } حينئذ عنها او من ادبر عن الولاية { وتولى } عنها او عن الولاية او اليها، واستعمال تدعو فى معنى تجر بعنف للتهكم بهم.
[70.18]
{ وجمع } المال { فأوعى } فى وعاء الكنز.
[70.19]
{ إن الإنسان خلق هلوعا } تعليل للجمع والايعاء يعنى ان الانسان بطبعه شديد الحرص وقليل الصبر، وقوله تعالى { إذا مسه الشر جزوعا }.
[70.20]
{ إذا مسه الشر جزوعا } اذا ظرف لجزوعا، وجزوعا ومنوعا بدل تفصيلى من هلوعا، وهلوعا حال مقدرة او محققة، او جزوعا خبر لكان مقدرا، واذا ظرف له او لشرطه.
[70.21]
{ وإذا مسه الخير منوعا } والمراد بالشر كل ما لا يلائم طبعه وبالخير كل ما يلائم طبعه.
[70.22]
{ إلا المصلين } قد مضى فى اول البقرة بيان الصلاة ومراتبها.
[70.23]
{ الذين هم على صلاتهم دآئمون }.
اعلم، ان الصلاة اسم لكل ما به يتوجه الى الله ولذلك لم يكن شريعة الا وكانت الصلاة فى تلك الشريعة وبعبارة اخرى الصلاة هى التحلى بحلى اوصاف الروحانيين كما ان الزكاة كانت اسما للتبرى من كل ما يتبرى منه ولذلك كانت فى كل شريعة، وصلاة القالب كانت فى الشرائع بحسب الاذكار والافعال مختلفة، ولما كانت شريعة محمد (ص) اكمل الشرائع جعلت الصلاة القالبية فيها اكمل الصلوات مشتملة على عبادات جميع اصناف الملائكة من الذين هم قيام لا ينظرون ومن الركع والسجد وعلى صلاة جميع اصناف المواليد من الطبائع المنطبعة والنفوس النباتية التى هى بوجه قيام لا ينظرون، وبوجه سجد ومنطبعة، ومن النفوس الحيوانية التى هى بالطبع راكعة منكوسة، ومن النفوس الانسانية التى هى قائمة باحسن التقويم متمكنة من الركوع والسجود، والقيام التى كانت لسائر الموجودات، ولما كانت الصلاة القالبية مانعة من الاشغال الضرورية من الاكل والشرب وطلب الحاجات وقضاء الحاجة والنوم كانت لا يمكن ادامتها الا على ضرب من التأويل والمجاز بان يكون المراد من ادامتها عدم فوتها عن اوقاتها المقررة، فليكن المراد ادامة الصلاة القلبية المأخوذة من ولى الامر فانها ان كان الانسان مواظبا عليها مستغرقا فيها لم يكن يمنع الاشغال الضرورية عن اقامتها بل يكون الانسان فى حالة النوم ايضا مشغولا بها من غير تعمل وفكر وروية، ولذلك قال: على صلاتهم يعنى صلاتهم المخصوصة بهم فان لكل انسان صلاة خاصة لا يشاركه فيها غيره بخلاف الصلاة القالبية فانها مشرعة للكل لا اختصاص لها بفرد دون فرد، وفى الخبر: اذا فرض على نفسه شيئا من النوافل دام عليه، وفى خبر: الذين يقضون ما فاتهم من الليل بالنهار وما فاتهم من النهار بالليل، ومجمل القول ان الولاية الحاصلة بالبيعة الثانية هى الصلاة التى تزكى الانسان من الرذائل التى منها كونه هلوعا وتحليه بحلية الخصائل الحسنة التى منها ادامة الصلاة القالبية والقلبية والصدرية.
[70.24-25]
{ والذين في أموالهم حق معلوم للسآئل والمحروم } فى الخبر ليس المراد بالحق المعلوم الزكاة ولا الصدقة المفروضتين بل هو ما يخرجه من ماله يصل به اقرباءه واخوانه، والمحروم هو الذى قد حرم كد يده فى الشرى، او المحترف الذى لم يبسط له فى رزقه.
[70.26]
{ والذين يصدقون بيوم الدين } اى يوم الجزاء.
[70.27-28]
{ والذين هم من عذاب ربهم مشفقون إن عذاب ربهم غير مأمون } تعليل لاشفاقهم.
[70.29-35]
{ والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فأنهم غير ملومين فمن ابتغى ورآء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم بشهاداتهم قائمون والذين هم على صلاتهم يحافظون أولئك في جنات مكرمون } قد مضى اكثر تلك الآيات فى سورة المؤمنون فلا نعيد تفسيرها.
[70.36]
{ فمال الذين كفروا } يعنى اذا كان هذا حال المنافقين الذين ادبروا عن الولاية ولم يقبلوها وذلك حال من اقبل على الولاية وباع البيعة الخاصة فما للذين كفروا بالولاية؟! فان الآية كما فى الاخبار نزلت فى المنافقين الذين لم يقبلوا ولاية على (ع) { قبلك } يعنى فما لهم عندك { مهطعين } مسرعين اليك، او مقبلين عليك، او ناظرين اليك.
[70.37]
{ عن اليمين وعن الشمال } اى عن يمينك وشمالك { عزين } العزة كالعدة الجماعة والعصبة منقوص واوى جمعه عزين، وقيل: معناه قعود، عن امير المؤمنين (ع) فى ذكر حال المنافقين: وما زال رسول الله (ص) يتألفهم ويقربهم ويجلسهم عن يمينه وشماله حتى اذن الله له فى ابعادهم بقوله:
واهجرهم هجرا جميلا
[المزمل:10]، وبقوله:
فمال الذين كفروا قبلك مهطعين
[المعارج:36] (الآيات).
[70.38]
{ أيطمع كل امرىء منهم أن يدخل جنة نعيم } قيل: هو انكار لقولهم: لو صح ما يقوله لنكون فيها افضل حظا منهم كما فى الدنيا.
[70.39]
{ كلا } ردع لهم عن هذا الطمع { إنا خلقناهم مما يعلمون } اى من نطفة قذرة لاثقة للمزابل لا لجنات النعيم وانما يدخل الجنات اذا بدل مادته بمادة شريفة لطيفة قابلة للجنان الاخروية، ولا يكون ذلك الا بالايمان بعلى (ع) فانه الماء الذى كلما دخل فيه واتصل به صار من سنخه وجنسه.
[70.40-41]
{ فلا أقسم } لفظة لا قد مضى مكررا انها شائع دخولها فى القسم، وتكون زائدة للتأكيد { برب المشارق والمغارب } مشارق عالم الطبع ومغاربه فان للشمس فى كل يوم بل فى كل آن مشرقا ومغربا غير ما كان له فى الآن السابق، ومشارق العوالم العالية ومغاربها، فان كل عالم مشرق بوجه ومغرب بوجه، وله مشرق بوجه ومغرب بوجه { إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم } بان نذهبهم ونجعل بدلهم جمعا يكونون خيرا منهم { وما نحن بمسبوقين } بمغلوبين ان اردنا ذلك يعنى نقدر على ذلك ولا مانع لنا ولكنا اهملناهم لحكمة ومصلحة.
[70.42-43]
{ فذرهم يخوضوا } فى اباطيلهم { ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون يوم يخرجون من الأجداث } اى القبور { سراعا } مسرعين { كأنهم إلى نصب } النصب بالفتح والسكون وقرئ به وبالتحريك العلم المنصوب، وبالضمتين كلما جعل علما وكلما عبد من دون الله وقرئ به، والنصب بالضم والسكون كلما عبد من دون الله { يوفضون } اى يسرعون، قال القمى: الى الداعى يبادرون.
[70.44]
{ خاشعة أبصارهم } للخوف والدهشة { ترهقهم ذلة ذلك اليوم } العظيم { الذي كانوا يوعدون } فى الدنيا وكانوا ينكرونها ويقولون استهزاء: لو كان ما يقولون حقا لكنا خيرا منهم فيها.
[71 - سورة نوح]
[71.1]
{ إنآ أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم } فى الدنيا، او فى الآخرة، او بين الدنيا والآخرة حين الاحتضار، او فى البرازخ { قال } امتثالا لامرنا وتبادرا الى تبليغ رسالته.
[71.2]
{ يقوم إني لكم نذير مبين } ظاهر الصدق، او مظهر لصدقى، او مظهر لما انذر به، او مظهر للامر بعبادة الله.
[71.3-4]
{ أن اعبدوا الله } ان تفسيرية وتفسير لنذير او لمبين، او مصدرية بتقدير اللام، او مصدرية مفعول به لمبين { واتقوه وأطيعون يغفر لكم من ذنوبكم } بعض ذنوبكم فان الكل لا يغفر الا بعد الفناء التام وهو الفناء عن الفناء { ويؤخركم إلى أجل مسمى } هو آخر مدة اعمارهم وهو الاجل المعين الذى سمى فى الالواح العالية { إن أجل الله إذا جآء } اذا قدر مجيئه او اذا قرب مجيئه { لا يؤخر } فاعملوا لما بعده فى زمان الامهال { لو كنتم تعلمون } لامتنعتم مما انتم عليه اوليتكم كنتم تعلمون عقوبة افعالكم، اوليتكم كنتم من اهل العلم.
[71.5-6]
{ قال } بعد ما دعاهم ولم يجيبوه اظهارا لامتثاله وتشكيا من عدم اجابتهم { رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعآئي إلا فرارا } عنى وعن الايمان بك وعن تصديقى.
[71.7]
{ وإني كلما دعوتهم } اليك والى الايمان بك { لتغفر لهم } مساويهم اللازمة لذواتهم وشنائع اعمالهم { جعلوا أصابعهم في آذانهم } لئلا يسمعوا قولى { واستغشوا ثيابهم } لئلا يرونى ادعوهم اليك، لجاجا وتنفرا عن الحق { وأصروا } على الامتناع { واستكبروا استكبارا } عظيما عن انقيادى وسماع قولى.
[71.8]
{ ثم إني دعوتهم جهارا } تفصيل لدعائه ليلا ونهارا ولذلك عطف بثم، وجهارا مفعول مطلق نوعى من غير لفظ الفعل.
[71.9]
{ ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا } يعنى دعوتهم اولا جهارا فلما رأيت انه لا ينفع فيهم لفقت الجهر والاسرار بالنسبة الى كل، او اعلنت لبعض واسررت لبعض آخر لان بعضهم كانوا يتأنفون عن قبول الدعاء جهارا.
[71.10]
{ فقلت استغفروا ربكم } بيان لكيفية دعائه يعنى انى دعوتهم ووعدتهم على مقتضى اهويتهم ليكون دعائى سببا لميلهم الى المدعو ولا سببا لنفرتهم { إنه كان غفارا } لمن يستغفره.
[71.11]
{ يرسل السمآء } اى السحاب { عليكم مدرارا } كثير الدر والمطر.
[71.12]
{ ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا } فى الدنيا والآخرة.
[71.13]
{ ما لكم لا ترجون لله وقارا } هو من قول نوح (ع)، او ابتداء كلام من الله خطابا معهم، والوقار الرزانة والعظمة، والرجاء ضد اليأس، وقد يستعمل فى الخوف، والمعنى اى حال لكم؟ اسفهاء انتم ام مجانين؟ لانكم لا ترجون لله وقارا فتستعجلونه بالعذاب، او اى نفع لكم فى حال كونكم لا ترجون لله وقارا وعظمة، او ما حالكم؟ - امجانين انتم ام سكارى؟! لانكم لا تخافون عظمة الله، او اى نفع لكم فى ذلك؟
[71.14]
{ وقد خلقكم أطوارا } نطفة قذرة وعلقة ومضغة وعظما ولحما ونفسا ناقصة وكاملة، او خلقكم متطورين فى احوالكم من الرضا والسخط والبسط والقبض والغنى والفقر والعزة والذلة من غير تصرف لكم فيها ومن دون ارادة واختيار، فما لكم لا ترجون رزانته وقد شاهدتموها فى تطوراتكم الخلقية، او ما لكم لا تخافون عظمته وقد شاهدتموها فى تطوراتكم فى احوالكم.
[71.15]
{ ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا } هذه ايضا من كلام نوح (ع) استشهادا على عظمته، او من كلام الله تعالى.
[71.16]
{ وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا } مثل الشمس بالسراج فى مقابل القمر للاشعار بان نورها من ذاتها كالسراج دون القمر، وللاشارة الى انها بضوئها تزيل ظلمة الليل كالسراج.
[71.17]
{ والله أنبتكم من الأرض نباتا } انشأكم منها من غير مداخلة اختياركم فيه.
[71.18]
{ ثم يعيدكم فيها } بجعل ابدانكم واوائل موادكم جزء منها وقد كنتم متحدين معها مدة حياتكم، او الله انبتكم بحسب نفوسكم من ارض ابدانكم ونطفكم نباتا منكورا لا تعرفونها، ثم يعيدكم فيها بعد اختياركم بتوجهكم الى ابدانكم بلوازم معاشكم { ويخرجكم إخراجا } يعنى يوقع ذلك بكم مكررا، او يخرجكم بالموت اخراجا، او يخرجكم من ابدانكم البرزخية اخراجا منكورا لكم.
[71.19-20]
{ والله جعل لكم الأرض بساطا لتسلكوا منها سبلا فجاجا } واسعات، ومن يفعل ذلك ينبغى ان يرجى له الرزانة او يخاف منه العظمة }.
[71.21]
{ قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا } اى الرؤساء الذين ابطرهم كثرة اموالهم واولادهم.
[71.22]
{ ومكروا مكرا كبارا } كبيرا غاية الكبارة.
[71.23]
{ وقالوا } فيما بينهم { لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا } يعنى لا تذرن هؤلاء مخصوصا، قيل: كان هذه اسماء قوم صالحين كانوا بين آدم ونوح (ع) فنشأ قوم بعدهم يأخذون اخذهم فى العبادة فقال لهم ابليس: لو صورتم صورهم كان انشط لكم واشوق الى العبادة، ففعلوا فنشأ بعدهم قوم فقال لهم ابليس: ان الذين كانوا قبلكم كانوا يعبدونهم، فعبدوهم، فصار عبادة الاوثان سيرة من ذلك الزمان، وقيل: كان نوح (ع) يحرس جسد آدم (ع) على جبل بالهند ويحول بينه وبين الكفار لئلا يطوفوا بقبره فقال لهم ابليس: ان هؤلاء يفخرون عليكم ويزعمون انهم بنو آدم دونكم وانما هو جسد وانا اصور لكم مثله تطوفون به فنحت خمسة اصنام وحملهم على عبادتها وهى ود وسواع ويعوق ويغوث ونسر، فلما كان ايام الطوفان دفن تلك الاصنام وطمها التراب فأخرجها الشيطان لمشركى العرب، وقيل: صارت اوثان قوم نوح (ع) الى العرب فكانت ود لقضاعة، ويغوث لبطنان من طى، ويعوق صار الى همدان، ونسر لخثعم، وسواع لآل ذى الكلاع، واللات لثقيف، والعزى لسليم، ومناة لقديد، واساف ونائلة وهبل لاهل مكة، وقيل: كان ود على صورة الرجل، وسواع على صورة امراة، ويغوث على صورة اسد، ويعوق على صورة فرس، ونسر على صورة النسر.
[71.24]
{ وقد أضلوا كثيرا } اى اضل عابدوا تلك الالهة كثيرا من الناس، او اضل هؤلاء الآلهة كثيرا بما ظهر من الشيطان على هياكلها { ولا تزد الظالمين إلا ضلالا } لما كان دعاء الانبياء (ع) على وفق الواقع والتكوين وقد شاهد نوح (ع) من قومه انهم فى ازدياد الضلال والبعد عن طريق الانسان ورأى انهم قطعوا الانسانية والفطرة ويئس من صلاحهم وخيرهم دعا بذلك، او لما بالغوا فى العتو والنفار واخذه البغض فى الله واشتد غضبه لله دعا بذلك.
[71.25]
{ مما خطيئاتهم } اى من اجل خطاياهم وذنوبهم { أغرقوا } بالطوفان { فأدخلوا نارا } بسبب الاغراق فانهم ماتوا وخرجت انفسهم بالموت الى النار { فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا } يدفعون عنهم العذاب.
[71.26-27]
{ وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا } وهذا دليل على انه علم انهم قطعوا الفطرة بحيث لا يبقى فيهم استعداد تولد المؤمن منهم، روى عن الباقر (ع) انه سئل: ما كان علم نوح (ع) حين دعا على قومه انهم لا يلدون الا فاجرا كفارا؟ - فقال: اما سمعت قول الله تعالى لنوح (ع):
أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن
[هود 36] انه لن يؤمن لك من قومك الا من قد آمن.
[71.28]
{ رب اغفر لي } بعد ما دعا على قومه لشدة غضبه لله تضرع على الله واستغفر من غضبه لله فان الحب فى الله اولى من البغض فى الله { ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا } عن الصادق (ع) يعنى الولاية، من دخل فى الولاية دخل فى بيت الانبياء (ع) { وللمؤمنين والمؤمنات } اى المسلمين والمسلمات الذين قبلوا الدعوة العامة ولم يقبلوا الدعوة الخاصة، او المراد بهم المؤمنون والمؤمنات بالولاية بالبيعة الخاصة الولوية لكن المراد بمن دخل بيته من باع البيعة الخاصة على يده، وبالمؤمنين والمؤمنات من باع البيعة الخاصة على يده وعلى ايدى غيره من الانبياء والاولياء (ع) { ولا تزد الظالمين إلا تبارا } بعد دعائه للمؤمنين كرر دعاءه على الظالمين لجمعه بين الحب فى الله والبغض فيه، وهذا هو الكمال التام للانسان حيث لا يذهب بغضه فى الله حبه فى الله، ولا حبه فى الله بغضه فى الله كما اشار تعالى الى هذا الكمال بقوله:
محمد رسول الله والذين معه أشدآء على الكفار رحمآء بينهم
[الفتح: 29]، قيل: دعا نوح (ع) دعوتين، دعوة على الكفار ودعوة للمؤمنين، فاستجاب الله دعوته على الكافرين فأهلك من كان منهم على وجه الارض، ونرجو ان يستجيب ايضا دعوته للمؤمنين فيغفر لهم.
[72 - سورة الجن]
[72.1-2]
{ قل } لاهل مكة { أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنآ أحدا } قد سبق فى سورة الاحقاف نزول الآية وقصة الجن.
[72.3]
{ وأنه تعالى جد ربنا } الجد بمعنى البخت، وروى عن الباقر (ع): انما هو شيء قالته الجن بجهالة فحكى الله عنهم، او هو مستعار للعظمة، وقرئ انه بكسر الهمزة على انه محكى بقول الجن، وقرئ بفتحها على انه معطوف على الضمير المجرور فى قوله: { فآمنا به } ، او على انه معطوف على انه استمع، وهكذا الحال فى اختلاف القراءة وفى العطف فيما بعد الا ان بعض الفقرات لا يمكن ان يكون معطوفا على انه استمع { ما اتخذ صاحبة ولا ولدا } كما يقول بعض الانس.
[72.4]
{ وأنه كان يقول سفيهنا } اى من كان منحرفا منا عن الدين { على الله شططا } قولا بعيدا عن الحق مجاوزا عن الحد، او هو بمعنى الظلم، والمراد بالسفيه الشيطان، او مطلق المنحرفين عن الحق.
[72.5]
{ وأنا ظننآ أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا } يعنى ان كنا نتبع السفيه فلذلك كان من ذلك الظن يعنى كان تصديقنا واتباعنا لمن قال لله تعالى بالشريك والصاحبة والولد لذلك حتى سمعنا القرآن وايقنا انهم يقولون كذبا.
[72.6]
{ وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن } من فى من الجن تبعيضية، او تعليلية، روى عن الباقر (ع) فى هذه الآية: انه كان الرجل ينطلق الى الكاهن الذى يوحى اليه الشيطان فيقول: قل لشيطانك: فلان قد عاذ بك، وقيل: كان الرجل من العرب اذا نزل واديا فى سفره ليلا قال: اعوذ بعزيز هذا الوادى من شر سفهاء قومه، وقيل: كان رجال من الانس يعوذون برجال من الانس من اجل شر الجن { فزادوهم رهقا } الرهق محركة السفه والخفة وركوب الشر والظلم، وغشيان المحارم، وحمل الانسان على ما لا يطيقه، والكذب، والعجلة، وضمير فاعل زادوهم للرجال من الانس، او للرجال من الجن، والمفعول بعكس ذلك، او هو للرجال العائذين او للمعوذ بهم او للجن، والمفعول ايضا يحتمل الكل.
[72.7]
{ وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا } هذا من قول مؤمنى الجن لكفارهم يعنى ان هؤلاء الرجال العائذين لضعف حالهم وسوء عقيدتهم عاذوا بالجن او بالاناسى، فانهم ظنوا كما ظننتم ايها الجن ان لن يبعث الله احدا رسولا الى بنى آدم، او لن يبعث الله احدا فى القيامة او هو معترض من الله والمعنى انهم اى الجن ظنوا كما ظننتم ايها الانس ان لن يبعث الله احدا.
[72.8]
{ وأنا لمسنا السمآء } اى قربناها، او صعدنا اليها، او طلبنا الصعود اليها { فوجدناها ملئت حرسا شديدا } الحرس جمع الحارس وتذكير الشديد لاجراء الفعيل بمعنى الفاعل مجرى الفعيل بمعنى المفعول فى استواء التذكير والتأنيث فيه اى حفظة اقوياء لا يمكن الاستراق معهم { وشهبا } جمع الشهاب.
[72.9]
{ وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا } يترصده للرمى له وقد مضى فى سورة الحجر بيان لهذه الآية ولاستماع الجن وردعهم بالشهب.
[72.10]
{ وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض } فان تغيير اوضاع السماء يدل على حدوث حادث عظيم { أم أراد بهم ربهم رشدا } خيرا وصلاحا.
[72.11]
{ وأنا منا الصالحون ومنا } قوم { دون ذلك } فى الصلاح او دون ذلك بان بعضهم فى غاية الشرارة وبعضهم لا يكون فى غاية الشرارة يعنى منا غير صالحين { كنا طرآئق قددا } اى ذوى طرائق مختلفة متفرقة، او كنا بانفسنا طرائق متفرقة، او الطرائق بمعنى الاماثل.
[72.12]
{ وأنا ظننآ } اى علمنا، والاتيان بالظن لما سبق مكررا ان علوم النفوس شأنها شأن الظن فى مغايرتها لمعلوماتها وجواز انفكاك معلوماتها عنها { أن لن نعجز الله في الأرض } اينما كنا فيها { ولن نعجزه هربا } حال او تميز او مفعول مطلق لمحذوف حال يعنى ظننا انا لن نعجزه اذا هربنا منه الى السماء.
[72.13]
{ وأنا لما سمعنا الهدى } اى القرآن او الرسالة او الولاية { آمنا به فمن يؤمن بربه } الفاء للسببية { فلا يخاف بخسا } نقصا او ظلما او مشاحة فى الحساب او فقأ لعينه { ولا رهقا } قد مضى الرهق قبيل ذلك، عن الكاظم (ع) انه قال: الهدى الولاية، آمنا بمولانا فمن آمن بولاية مولاه فلا يخاف بخسا ولا رهقا، قيل: تنزيل؟ - قال: لا، تأويل.
[72.14]
{ وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون } اى الخارجون عن الحق { فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا } عن الباقر (ع) اى الذين اقروا بولايتنا.
[72.15]
{ وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا } يعنى يحرقون به او يوقد الجحيم بهم.
[72.16]
{ وألو استقاموا } ان هذه مخففة من الثقيلة والمجموع معطوف على قوله انه استمع نفر، او ان زائدة فى الكلام والجملة ابتداء كلام من الله { على الطريقة } اى الولاية او الطريقة المعهودة المأخوذة من الآباء وهى طريقة الكفر، ونظير الوجهين قوله تعالى:
ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السمآء والأرض
[الأعراف:96] وقوله تعالى:
ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة
[الزخرف:33] { لأسقيناهم مآء غدقا } اى كثيرا، لما كان الماء عزيز الوجود فى ملك العرب وكان جل الخيرات منوطا به كنى به عن كثرة الخيرات، وعن الصادق (ع): لافدناهم علما كثيرا يتعلمونه من الائمة (ع)، وعن الباقر (ع) يعنى لو استقاموا على ولاية امير المؤمنين (ع) على (ع) والاوصياء (ع) من ولده وقبلوا طاعتهم فى امرهم ونهيهم لاسقيناهم ماء غدقا يقول: لاشربنا قلوبهم الايمان.
[72.17]
{ لنفتنهم فيه } لنختبرهم فى ذلك الماء، او لنعذبهم بسببه { ومن يعرض عن ذكر ربه } اى عن ذكره لربه او ذكر ربه له، او عما به ذكر ربه، واصل ما به ذكر الرب على (ع) وولايته كما روى عن ابن عباس انه قال: ذكر ربه ولاية على بن ابى طالب (ع) { يسلكه } اى يدخله { عذابا صعدا } صاعدا كل العذاب او غالبا وغالبا على المعذب.
[72.18]
{ وأن المساجد لله } اى مختصة به { فلا تدعوا مع الله أحدا } فيها، او المعنى فلا تدعوا مع مظاهر الله التى هى المساجد احدا، وقد فسر المساجد ههنا بالوجه واليدين والركبتين والابهامين، وعن الكاظم (ع) ان المساجد هم الاوصياء (ع) وقد سبق فى سورة البقرة عند قوله تعالى:
ومن أظلم ممن منع مساجد الله
[البقرة: 114] (الآية) بيان للمساجد.
[72.19]
{ وأنه لما قام عبد الله } يعنى محمدا (ص) { يدعوه } اى يعبده، او يدعوه بلسانه، او يقول: لا اله الا الله او يقرأ القرآن، او يدعو اليه وهو من جملة ما اوحى اليه (ص)، او هو من قول الجن بعضهم لبعض { كادوا } يعنى الجن لاستماع دعائه او اصحابه لاستماع القرآن واحاديثه، او قريشا لمنعه وردعه { يكونون عليه لبدا } اللبدة بالكسرة والسكون وبالضم والسكون الصوف المتراكم بعضه على بعض، واللبد بالكسر او الضم والفتح، وقرئ بهما جمع لهما، وقرئ لبدا بالضم والتشديد جمع لابد ولبدا بالضمتين.
[72.20]
{ قل إنمآ أدعوا } وقرئ قال: انما ادعوا { ربي ولا أشرك به أحدا } سواء رضيتم عنى او سخطتم.
[72.21]
{ قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا } حتى آتى بما تستعجلون من العذاب او آتى بما تقترحون من الآيات، وروى عن الكاظم (ع) ان رسول الله (ص) دعا الناس الى ولاية على (ع) فاجتمعت اليه قريش فقالوا: يا محمد (ص) اعفنا من هذا، فقال لهم رسول الله (ص):
" هذا الى الله ليس الى "
، فاتهموه وخرجوا من عنده فأنزل الله عز وجل:
قل لا أملك
[يونس:49] (الآية).
[72.22]
{ قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا } ملتجأ او منحرفا وهو تعريض بهم حيث اعتمدوا على الاوثان او على رؤساء الضلالة.
[72.23-24]
{ إلا بلاغا من الله ورسالاته } اى تبليغا من جانب الله او بلوغ الوحى من الله الى وهو استثناء من ملتحدا او من احدا وضرا او رشدا، روى عن الكاظم (ع) انه قال الا بلاغا من الله ورسالاته فى على (ع)، قيل: هذا تنزيل؟ - قال: نعم { ومن يعص الله ورسوله } فى ولاية على (ع) كما عن الكاظم (ع) { فإن له نار جهنم خالدين فيهآ أبدا حتى إذا رأوا ما يوعدون } من العذاب او من الحساب او من كون على (ع) قسيم الجنة والنار، او من الموت، او القائم (ع) وانصاره، او على (ع) فى الرجعة { فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا } كما يقولون: نحن اقوياء واكثر عددا من على (ع).
[72.25]
{ قل إن أدري أقريب ما توعدون } مما ذكر { أم يجعل له ربي أمدا } اى مدة وهو كناية عن البعد، قال القمى: لما اخبرهم رسول الله (ص) بما يكون من الرجعة قالوا: متى يكون هذا؟ - قال الله: قل يا محمد (ص) { إن أدري } (الآية).
[72.26-27]
{ عالم الغيب } اى عالم عالم الغيب او عالم ما هو الغيب عن الابصار والاسماع { فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول } عن الرضا (ع) فرسول الله (ص) عند الله مرتضى، ونحن ورثة ذلك الرسول (ص) الذى اطلعه الله على من يشاء من غيبه، فعلمنا ما كان وما يكون الى يوم القيامة، وقد مضى وجه عدم المنافاة بين هذه الآية وبين قوله تعالى:
قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله
[النمل:65]، وان المطلعين على الغيب ليس اطلاعهم الا بلطيفة الهية { فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا } سلك زيد المكان وفى المكان، وسلك زيد عمرا لازم ومتعد، واسم ان راجع الى الرسول (ص)، او الى الله، وهكذا فاعل يسلك وهو لازم او متعد، ورصدا مصدر، او جمع للراصد والمعنى ان الله لا يظهر على غيبه احدا الا من ارتضاه من رسول بشرى او ملكى لان الرسول (ص) يسلك من بين يدى نفسه اى الآخرة ومن خلفه اى الدنيا مترقبا لامورهما، او للاطلاع على اسرارهما، او هو مفعول مطلق نوعى او يجعل رصادا ومترقبين من بين يديه ومن خلفه من قواه الدراكة والملائكة الموكلة عليه حتى يعلموه اخبار الدنيا واسرار الآخرة، او يسلك الله بمظاهره الذين هم ملائكته الموكلة على الرسول مترقبا للاخبار واعلام الرسول (ص) او يجعل الله رصادا له لاعلامه.
[72.28]
{ ليعلم } الله { أن قد أبلغوا } الى الرسل الذين هم الملائكة او الرسل البشريون { رسالات ربهم } والمعنى ليظهر علمه بذلك او ليعلم الرسول (ص) ان قد ابلغ الملائكة او ابلغ الرسل الماضون رسالات ربهم { وأحاط بما لديهم } عطف على عالم الغيب ورفع لتوهم ان يكون لله علم حادث كما يتوهم من قوله ليعلم { وأحصى كل شيء عددا } تأكيد وتعميم بعد تخصيص.
[73 - سورة المزمل]
[73.1]
{ يأيها المزمل } تزمل تلفف بالثياب او اللحاف او امثال ذلك او اختفى، والخطاب خاص بالنبى (ص) او عام وكان النبى (ص) يتلفف بثيابه او لحافه وينام او كان متلففا باحكام الرسالة وكان يختفى من الناس تأنفا من المقابلة مع امثالهم، والمعنى يا من تلحفت باللحاف او بثيابك او بأحكام الرسالة، او المعنى يا من اختفى مما يرى من مدعى الرياسة ويرى ان معاداتهم كانت شيئا عن العاقل.
[73.2]
{ قم الليل } لصلاة الليل فانه ليس لك ان تنام كل الليل، او قم فى عالم الكثرة واهد عباد الله الى الوحدة، او قم فى عالم الطبع وانظر الى العوالم العالية، او قم عن الاشتغال بالكثرات بحكم الرسالة وتوجه الى الوحدة، او قم عن الاختفاء واظهر امرك واصدع بما تؤمر، ونعم ما قال المولوى رحمه الله:
احمقان سرور شدستند و زبيم
عاقلان سرها كشيده در كليم
خواند مزمل نبى را زان سبب
كه برون آ از كليم اى بوالهرب
سر مكش اندر كليم و رو مبوش
كه جهان جسمى استسر كردان توهوش
هين مشو بنهان ز ننك مدعى
كه تو دارى نور وحى شعشعى
هين قم الليل كه شمعى اى همام
شمع دايم شب بود اندر قيام
خيز و بنكر كاروان ره زده
غول كشتيبان اين بحر آمده
خضر وقتى غوث هر كشتى توئى
همجو روح الله مكن تنها روى
{ إلا قليلا } من الليل.
[73.3-4]
{ نصفه } بدل من المستثنى او المستثنى منه، وايا ما كان فالمعنى واحد { أو انقص منه قليلا أو زد عليه } قليلا، او المعنى يا من تلفف بثياب طبعه من افراد البشر قم فى ليل طبعك وظلمة نفسك، او عن ليل طبعك واهوية نفسك للسلوك الى ربك الا قليلا من الليل فان ضروريات البدن تحصل فى قليل من الليل فى نصفه او اكثر او انقص، فان الوقت ينبغى ان يكون اثلاثا او ارباعا لطلب المعيشة وتلذذات النفوس وطلب المعاد، او طلب المعاش وتلذذات النفوس والراحة وطلب المعاد، يعنى ان كنت قويا فاجعل نصف اوقاتك للسلوك الى الله، وان كنت اقوى فاجعل اكثر اوقاتك للسلوك، وان كنت ضعيفا فاجعل قليلا من اوقاتك للسلوك { ورتل القرآن ترتيلا } ترتيل القرآن بحسب لفظه ان تقرأه قراءة متوسطة بين السرعة المفرطة والبطوء المفرط وابانة حروفه وحفظ وقوفه، فان ترتيل الكلام ان تحسن تأليفه وتترسل فيه كما عن الصادق (ع) انه قال: قال امير المؤمنين (ع) فى بيان الآية: بينه تبيينا ولا تهذه هذ الشعر ولا تنثره نثر الرمل ولكن افزعوا قلوبكم القاسية ولا يكن هم احدكم آخر السورة، وفى خبر آخر: هو حفظ الوقوف وبيان الحروف، وفى خبر: هو ان تمكث وتحسن به صوتك، او المعنى فصل المعانى المجتمعة المندرجة فى وجودك بعد القيام من رقدتك وغفلتك، واخرج ما كان فيك بالقوة الى الفعلية بالنظر والمراقبة التى هى من لوازم سلوكك، وانظر الى خطرات نفسك انها من اى الخطرات شيطانية هى ام رحمانية وانظر الى تجليات ربك وجذباته، ولعله للاشارة الى هذا الوجه من التأويل قال امير المؤمنين (ع): ولكن افزعوا قلوبكم القاسية ولا يكن هم احدكم آخر السورة.
[73.5]
{ إنا سنلقي } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: لم امرت بقيام الليل وترتيل القرآن الذى هو تفصيل المعانى المجملة فى الوجود فى العالم الكبير او العالم الصغير؟ - فقال: لانا سنلقى { عليك قولا ثقيلا } لا يتحمله من كان ضعيفا فى قوته العمالة والعلامة، وقيام الليل يقوى القوة العمالة ويعد القوة العلامة لادراك دقائق الامور وترتيل القرآن يعنى تفصيل المعانى المجملة فى العقول الكلية والنفوس الكلية فى الكثرات الكونية، وتفصيلها فى الصغير يقوى القوة العلامة وينشط القوة العمالة، والمراد بالقول الثقيل القرآن فانه كان من ثقله اذا نزل يأخذ النبى (ص) شبه الغشى، وكان فى بعض الاحيان يرى سرة دابته كأنها تمس الارض، او آثار الولاية فانها لثقلها لم يكن موسى (ع) يطيق الصبر على ما يرى من الخضر (ع)، او المراد نصب على (ع) بالخلافة فانها لثقلها لم يكن يظهره النبى (ص) حتى عوتبه فى ذلك ونزل عليه فان لم تفعل فما بلغت رسالتك، او المراد مصائب اهل بيته بعده فانها لثقلها كادت لا يمكن ان تسمع، او المراد هو السكينة التى لم تكن تنزل الا ومعها جنود لم تروها ولم تكن تنزل حتى يطهر القلب من الاغيار، ولم يطهر الا باستنارة القوة العلامة ونشاط القوة العمالة، ولا يكون ذلك الا بقيام الليل وترتيل القرآن.
[73.6]
{ إن ناشئة الليل هي أشد وطأ } جواب لسؤال ناش من مجموع ما تقدم كأنه قيل: لم امرت بقيام الليل وترتيل القرآن لاجل القاء القول الثقيل؟ - فقال: ان ناشئة الليل اى النفس المرباة فى الليل او النفس المتجاوزة حد البلوغ او الجماعة الناشئة بالليل، او الناشئة مصدر بمعنى الفاعل اى الشخص النامى بالليل اشد وطأ اى اخذا او ضغطا او قدما والمقصود الثبات والقوة فى القوة العمالة { وأقوم قيلا } اى اعدل قولا، ولما كان القول مسببا عما فى الضمير من العلوم كما قال امير المؤمنين (ع): المرء مخبوء تحت لسانه، كان هذا اشارة الى اعتدال القوة العلامة وقوتها، ويجوز ان يكون المعنى كما اشير اليه فى الخبر ان قيام الرجل فى الليل عن فراشه هو اشد وطأ، ويكون نسبة اشد وطأ الى ناشئة الليل بمعنى القيام فى الليل مجازا عقليا.
[73.7]
{ إن لك في النهار سبحا طويلا } هذا ايضا جواب لسؤال مقدر تقديره اذا امرتنا بقيام الليل فمتى ننام؟ - واذا ننام فى النهار فمتى نصلح معيشتنا؟ - فقال: { إن لك في النهار سبحا طويلا } ، والسبح الفراغ والتصرف فى المعاش والنوم والسكون والتقلب فى الانتشار فى الارض والابعاد فى السير، والكل مناسب ههنا، او المعنى لا تطلب فى ليل طبعك وظلمة نفسك سبحا فى آثار الله فان لك بعد الخلاص من الطبع والدخول فى نهار الروح سبحا طويلا.
[73.8]
{ واذكر اسم ربك } يعنى ان المقصود من قيام الليل ذكر اسم الرب { وتبتل إليه تبتيلا } اى التج بالانقطاع عن الخلق الى الله.
[73.9-10]
{ رب المشرق والمغرب } التوصيف للاشعار بوجه الحكم { لا إله إلا هو } فاذا كان كذلك { فاتخذه وكيلا واصبر على ما يقولون } فى الله او فيك او فى ابن عمك { واهجرهم هجرا جميلا } بان تكون فى الباطن مجانبا مباينا متباعدا منهم وفى الظاهر مخالطا مداريا بهم.
[73.11-14]
{ وذرني والمكذبين } بالله او بك او بوصيك، وعن الكاظم (ع) والمكذبين بوصيك، قيل: هذا تنزيل؟ - قال: نعم { أولي النعمة ومهلهم } ولا تعاجلهم بالعقوبة من عندك او بطلب العقوبة من عند الله { قليلا إن لدينآ } تعليل { أنكالا } جمع النكل بالكسر القيد الشديد، او القيد من النار، او ضرب من اللجم { وجحيما وطعاما ذا غصة } ينشب فى الحلق ولا يسيغ { وعذابا أليما يوم ترجف الأرض } تضطرب او تخسف كما قال القمى { والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا } الكثيب التل من الرمل، وهال عليه التراب والتراب مهيل.
[73.15]
{ إنآ أرسلنآ } جواب سؤال مقدر كأنه قيل بعد ما هددهم بقوله: { وذرني والمكذبين }: ما فعلت بنا؟ وما تفعل بعد بنا؟ - فقال: انا ارسلنا { إليكم رسولا شاهدا } يشهد { عليكم } يوم القيامة بالرد والقبول والاقرار والنكول { كمآ أرسلنآ إلى فرعون رسولا } نكر الرسول لعدم تعلق الغرض بتعيين الرسول.
[73.16]
{ فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا } ثقيلا فاحذروا انتم عن مثل فعله حتى لا نأخذكم مثلهم.
[73.17]
{ فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا } لطوله او لشدة هوله ويوما مفعول تتقون وهو اليق لتوصيفه بما ينبغى ان يتقى منه او ظرف لتتقون والمفعول محذوف.
[73.18-19]
{ السمآء منفطر به } اى فيه او بسببيه اى بسبب شدة البلاء والهول فيه { كان وعده مفعولا إن هذه } المذكورات من الوعد والوعيد { تذكرة } للنفوس المتيقظة { فمن شآء اتخذ إلى ربه } فى الولاية { سبيلا } هو قبول ولايته بالبيعة معه واتباع اوامره ونواهيه او الى ربه المطلق والسبيل الى الرب المطلق هو صاحب الولاية وقبول ولايته بالبيعة معه واتباعه.
[73.20]
{ إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل } اى الزيادة على النصف { ونصفه وثلثه وطآئفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار } بحسب ساعاتهما واثلاثهما وارباعهما وانصافهما لا انتم { علم أن لن تحصوه } انتم اى لن تحصوا قدرهما او لن تحصوا كلا من الليل والنهار { فتاب عليكم } عن تكليفه لكم بالقيام فى نصف الليل او ازيد او انقص من النصف بقليل فرفع هذا الحكم عنكم ولذلك ورد انها نسخت هذه الآية الآية الاولى { فاقرءوا ما تيسر من القرآن } يعنى فى الصلاة فى الليل بقرينة المقام، وفى خبر عن الباقر (ع): واعلموا انه لم يأت نبى قط الا خلا بصلاة الليل، ولا جاء نبى قط بصلاة الليل فى اول الليل { علم أن سيكون } جواب سؤال ووجه آخر للترخيص { منكم مرضى } لا يقدرون على قيام الليل { وآخرون يضربون في الأرض } فيكون القيام شاقا عليهم { يبتغون من فضل الله } الصورى كالمسافرين للتجارة او المعنوى كالمسافرين لطلب الدين والعلم { وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرءوا ما تيسر منه } لما كان بعض النفوس مولعة بالعبادة وقيام الليل والامر بترك العبادة خصوصا ما كان منها موظفا عليها كان ثقيلا عليها كرر الامر بقراءة ما تيسر من القرآن والصلاة وكان الاول مترتبا على عدم الاحصاء والثانى على المرض والضرب فى الارض، وروى عن الرضا (ع) انه قال: ما تيسر منه لكم فيه خشوع القلب وصفاء السر { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } قد مضى بيان الصلاة والزكاة ومراتبهما واقامة الصلاة وايتاء الزكاة { وأقرضوا الله } من اصل ما لكم او هو بيان لايتاء الزكاة وترغيب فيه واشعار بان من آتى الزكاة آتاه الله عوضه فى الدنيا او فى الآخرة او فيهما { قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير } تعميم بعد تخصيص او بيان وتعميم للقرض { تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا } اى تجدوه بعينه خيرا منه حين آتيتموه وتجدوا اجره ايضا عظيما، او تجدوه بما هو اجره خيرا من نفسه واعظم { واستغفروا الله } حين الصلاة والزكاة حتى يستر عليكم دواعى نفوسكم فى ذلك، او استغفروه فى جميع احوالكم فانه ما منكم احد الا وله مساو لا تليق بشأنه { إن الله غفور رحيم }.
[74 - سورة المدثر]
[74.1]
{ يأيها المدثر } تدثر تلفف بثيابه، روى عن الرسول (ص) انه قال:
" جاورت شهرا بحراء فلما قضيت جوارى نزلت فاستبطنت الوادى فنوديت، فنظرت امامى وخلفى وعن يمينى وشمالى فلم ار احدا، ثم نوديت فرفعت رأسى فاذا هو على العرش فى الهواء يعنى جبرئيل فقلت: دثرونى دثرونى فصبوا على ماء "
فأنزل الله عز وجل: { يأيها المدثر } ، وفى خبر:
" فرعبت ورجعت الى خديجة فقلت: دثرونى "
، فنزل جبرئبل يا ايها المدثر.
[74.2]
{ قم } عن نومك او عن التحافك او عن الكثرات او عن طبعك { فأنذر } العباد عن الشيطان وعن مساوى النفس وعن رذائلها وعن سخط الله وعقوباته، ولما كان ينبغى ان يكون الرسول (ص) واقعا بين الوحدة والكثرة جامعا لهما بحيث لا يستر جهة الوحدة ولا يتدنس بعلائق الكثرة حين الاشتغال بالكثرة ولا يغفل عن الكثرة حين الاستغراق فى الوحدة قال تعالى: قم عن الاشتغال بالكثرات وتوجه الى جهة الوحدة وانذر بعد ذلك حتى لا يذهب انذارك جهة الوحدة عنك.
[74.3]
{ وربك فكبر } اى لكن ربك فكبر حتى لا ترى شيئا الا ورأيت الله محيطا به، وقدم الرب لشرافته ولارادة الحصر، والفاء زائدة للتأكيد، او لتقدير اما او توهمه.
[74.4]
{ وثيابك فطهر } كناية عن تطهير القلب من ادناس الكثرات فانه كثيرا يكنى بتلوث الثياب عن تلوث القلب وتعلقاته، وعن الصادق (ع) فى خبر انه قال: شمر، وفى خبر: ارفعها ولا تجرها، وفى خبر عنه: وثيابك فقصر.
[74.5]
{ والرجز فاهجر } الرجز بالضم والكسر وقرئ بهما القذر وعبادة الاوثان والعذاب والشرك، والكل مناسب، وقيل: المعنى اهجر الاصنام، وقيل: اجتنب المعاصى، وقيل: اجتنب المعاصى، وقيل: اجتنب الفعل القبيح والخلق الذميم، وقيل: اجتنب حب الدنيا لأنه رأس كل خطيئة.
[74.6]
{ ولا تمنن تستكثر } اى لا تعط طلبا لاكثر مما عطيت، او لا تمنن على العباد عادا لعطائك كثيرا، او لا تمنن بحسناتك على الله مستكثرا لها، او لا تمنن ما اعطاك من النبوة او القرآن او الدين على الناس مستكثرا به الاجر من العباد، وقيل: هو نهى عن الربا المحرم.
[74.7]
{ ولربك فاصبر } على مشاق التكليف واثقال النبوة، او فاصبر على اذى القوم، او على محاربة العرب والعجم، او على الطاعات والمصائب وعن المعاصى.
[74.8]
{ فإذا نقر } الفاء سببية يعنى لانه اذا نقر { في الناقور } اى نفخ فى الصور فى النفخة الاولى او الثانية او حين ظهور القائم (ع).
[74.9-10]
{ فذلك } اليوم { يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير } على الكافرين متعلق بعسير او بيسير، وهذا التقييد يدل على سهولته ويسره على المؤمنين، وعن الصادق (ع) فى هذه الآية: ان منا اماما مظفرا مستترا فاذا اراد الله اظهاره نكت فى قلبه نكتة فظهر فقام بأمر الله.
[74.11]
{ ذرني ومن خلقت وحيدا } الوحيد بمعنى المتوحد وهو حال عن فاعل خلقت، او عن من، او عائده المحذوف، او المراد به الوليد بن المغيرة فانه كان يسمى وحيدا فى قومه فيكون بدلا من من، او لانه كان لا يعرف له اب، والوحيد من لا يعرف له اب، وحينئذ يكون حالا عن من.
[74.12]
{ وجعلت له مالا ممدودا } اى كثيرا او متصلا منافعه لا يقطع فى فصل، ولا يكون كسائر الضياع وسائر الاموال، او ممدودا ما بين مكة الى الطائف من الابل والخيل والنعم والجوارى والعبيد والمستغلات التى لا تنقطع غلتها فانه كان له اموال كذلك، ومائة الف دينار وعشرة بنين او ثلاثة عشر بنين.
[74.13]
{ وبنين شهودا } حاضرين معه بمكة لا يسافرون لطلب المعيشة لعدم حاجتهم الى السفر لغنائهم.
[74.14]
{ ومهدت له تمهيدا } بسطت له فى العيش بحيث لا يحتاج الى شيء الا كان له، او بسطت له فى الرياسة والجاه بحيث لم يكن احد ينازعه فى ذلك وكان يلقب ريحانة قريش ووحيدا.
[74.15-16]
{ ثم يطمع أن أزيد كلا } ردع له عن ذلك الطمع او ردع لمن ظن له ذلك { إنه كان لآياتنا } الآفاقية والانفسية وخصوصا الآيات العظمى { عنيدا } اى جاحدا رادا فان معنى عنده رده عارفا بحقه فهو عنيد وعاند.
[74.17]
{ سأرهقه صعودا } الارهاق ان يحمل الانسان على ما لا يطيقه والصعود بفتح الصاد مصدر ضد الهبوط او العقبة الشاقة او جبل فى جهنم والمعنى ساحمله على صعود لا يمكنه تعريفه ولا يحتمله الانسان ، او ساحمله على الجبل المعروف فى جهنم، او على عقبة عظيمة، وقيل: هو جبل من صخرة ملساء فى النار يكلف ان يصعدها حتى اذا بلغ اعلاها احدر الى اسفلها، ثم يكلف ايضا ان يصعدها، فذلك دأبه ابدا يجذب من امامه بسلاسل الحديد ويضرب من خلفه بمقامع الحديد فيصعدها فى اربعين سنة.
[74.18]
{ إنه فكر } فى القرآن وفيما اراد ان يقول فى رده وطعنه { وقدر } فى نفسه ما اراد ان يقول، روى ان النبى (ص) لما انزل عليه
حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب
[غافر:1-3] قام الى المسجد والوليد بن مغيرة قريب منه يسمع قراءته، فلما فطن النبى (ص) لاستماعه لقراءته اعاد قراءة الآية فانطلق الوليد حتى اتى مجلس قومه بنى مخزوم فقال: والله لقد سمعت من محمد (ص) آنفا كلاما ما هو من كلام الانس ولا من كلام الجن وان له لحلاوة وان عليه لطلاوة وإن اعلاه لمثمر وان اسفله لمغدق وانه ليعلو وما يعلى، ثم انصرف الى منزله فقال قريش: صبأ والله الوليد والله لتصبأن قريش كلهم وكان يقال للوليد ريحانة قريش فقال لهم ابو جهل: انا اكفيكموه، فانطلق فقعد الى جنب الوليد حزينا فقال: مالى اراك حزينا يا ابن اخى؟ - قال: هذه قريش يعيبونك على كبر سنك ويزعمون انك زينت كلام محمد (ص) فقام مع ابى جهل حتى أتى مجلس قومه فقال: اتزعمون ان محمدا (ص) مجنون؟ - فهل رأيتموه يجن قط؟ - فقالوا: اللهم لا، قال: اتزعمون انه كاهن؟ فهل رأيتم عليه شيئا من ذلك؟ - قالوا: اللهم لا، قال: اتزعمون انه شاعر؟ فهل رأيتموه انه ينطق بشعر قط؟ - قالوا: اللهم لا، قال: اتزعمون انه كذاب؟ فهل جربتم عليه شيئا من الكذب؟ - فقالوا: اللهم لا، وكان يسمى الصادق الامين قبل النبوة من صدقه، فقالت قريش للوليد: فما هو؟ - فتفكر فى نفسه ثم نظر وعبس فقال: ماهو الا ساحر اما رأيتموه يفرق بين الرجل واهله وولده ومواليه فهو ساحر وما يقوله سحر يؤثر، فكان لا يلقى بعد ذلك احد منهم النبى (ص) الا قال: يا ساحر، واشتد عليه ذلك فأنزل تعالى: { يأيها المدثر } (الى قوله) { إلا قول البشر }.
[74.19-20]
فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر } تأكيد للاول والجملتان دعائيتان.
[74.21]
{ ثم نظر } عطف على فكر وقدر.
[74.22]
{ ثم عبس وبسر } تأكيد للاول او الاول بمعنى كلمح الوجه، والثانى بمعنى نظر بالكراهة.
[74.23]
{ ثم أدبر } عن الحق { واستكبر } عن الانقياد.
[74.24]
{ فقال إن هذآ } الذى يقرءه محمد (ص) { إلا سحر يؤثر } يروى او يتعلم ويؤخذ، او يختار من بين افنان السحر.
[74.25-26]
{ إن هذآ إلا قول البشر } وليس كما يقول محمد (ص) قول الله { سأصليه سقر } جواب لسؤال مقدر.
[74.27-28]
{ ومآ أدراك } يا محمد (ص) او يا من شأنه السماع والادراك { ما سقر لا تبقي } شيئا لا تأخذه { ولا تذر } بعدما اخذته، او لا تبقى شيئا من المأخوذ بعدما أخذته ولا تذر شيئا لم تأخذه، او لا تبقى شيئا من العذاب بل تعذب المعذب بجميع انواع العذاب ولا تذر احدا من المستحقين للعذاب.
[74.29]
{ لواحة } اى مغيرة غاية التغيير او مسودة { للبشر } روى عن الباقر (ع) ان فى جهنم جبلا يقال له: صعود، وان فى صعود لواديا يقال له: سقر، وان فى سقر لجبا يقال له هبهب كلما كشف غطاء ذلك الجب ضج اهل النار من حره وذلك منازل الجبارين.
[74.30]
{ عليها تسعة عشر } ملكا او صنفا من الملائكة لجميع الثقلين او لكل واحد منهم، قيل فى وجه هذا العدد: ان المنصرف عن الانسانية يحكم عليه المادة والطبيعة الجسمانية والطبائع العنصرية والصورة الجمادية والنفس النباتية والنفس الحيوانية والمدارك العشرة الحيوانية والقوة الثلاثة الشيطانية والبهيمية والسبعية، وقيل فيه: هى الملكوت الارضية التى تلازم المادة من روحانيات الكواكب السبعة والبروج الاثنى عشر الموكلة بتدبير العالم السفلى المؤثرة فيه تقمعهم بسياط التأثير وتردهم الى مهاويها، وقيل غير ذلك، وكل ذلك من قبيل الاستحسانات والتخمينات، فان علم امثال ذلك موكول الى الله والى من كان علمه علم الله ولا حظ لغيرهم فيه ولذلك لم يرد من المعصومين (ع ) فى بيان ذلك شيء، قيل: لما نزلت هذه الآية قال ابو جهل لقريش: ثكلتكم امهاتكم اتسمعون ابن ابى كبشة يخبركم ان خزنة النار تسعة عشر وانتم الدهم الشجعان افيعجز كل عشرة منكم ان يبطشوا برجل من خزنة جهنم؟! فقال رجل منهم: انا اكفيكم سبعة عشر عشرة على ظهرى وسبعة على بطنى فاكفونى انتم اثنين، فنزلت هذه الآية.
[74.31]
{ وما جعلنآ أصحاب النار إلا ملائكة } يعنى لا يقوم تمام اهل الدنيا بواحد منهم { وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا } الفتنة بالكسر الاختبار والضلال والاثم والكفر والفضيحة والعذاب والاضلال والجنون والمحنة واختلاف الناس فى الآراء، والكل مناسب ههنا لان خزنة النار وان كانوا فى الآخرة لكن بمضمون وان جهنم لمحيطة بالكافرين يكون من كل انموذج فى الدنيا ويكون موكلا بانموذجه على الكافر فى الدنيا كما انه فى الآخرة بنفسه يكون موكلا عليه، وقيل: سبب افتتانهم بهذا العدد استهزاؤهم واستبعادهم ان يتولى هذا العدد القليل تعذيب اكثر الثقلين { ليستيقن } قيل تعليل لمحذوف اى قلنا ذلك ليستيقن { الذين أوتوا الكتاب } من اليهود والنصارى بنبوة محمد (ص) لما رأوا الخبر موافقا لما فى كتبهم { ويزداد الذين آمنوا } اى اسلموا بمحمد (ص) { إيمانا } لما اخبرهم اهل الكتاب بموافقته لما فى كتبهم { ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون } هذا ما فسروه بحسب الظاهر به ولكن نقول ايتاء الكتاب كناية عن قبول النبوة اية نبوة كانت ولا اختصاص باليهود والنصارى بل كل من قبل نبوة محمد (ص) بالبيعة على يده وقبول احكام نبوته والانقياد تحت حكمه وقبول دعوته الظاهرة كان ممن اوتى الكتاب والايمان، وان كان يستعمل فى الاسلام وقبول الدعوة الظاهرة بالبيعة العامة مجازا او على سبيل الاشتراك، لكن المراد به ههنا الايمان الحقيقى الحاصل بالبيعة الخاصة وقبول الدعوة الباطنة والدخول تحت احكام الولاية، والى هذين اشار تعالى بقوله:
لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد
[ق:37] فان الاول اشارة الى المؤمن المحقق والثانى الى المسلم المقلد، وقد ذكرنا ان كلما يكون فى الآخرة يكون انموذجه فى الدنيا فان الدنيا بوجه مادة الآخرة وبوجه صورة الجحيم او انموذجها، فالمعنى عليها تسعة عشر صنفا او شخصا من الملائكة ليكونوا سائقين للكفار الى النار وللمؤمنين الى الجنة، ومن قبل النبوة لما لم يكن يدرك بالذوق والوجدان امور الآخرة لم يكن يستيقن بمحض تلك البيعة لامور الآخرة، ولما كان هؤلاء الملائكة فى الدنيا سائقين لهم الى الآخرة كانوا بذلك السوق يدركون بالوجدان امور الآخرة فيستيقنونها، ولما كان المؤمنون موقنين فسوقهم يصير سببا لازدياد ايقانهم، ويجوز ان يكون تعليلا لقوله: وما جعلنا اصحاب النار الا ملائكة، او لقوله وما جعلنا عدتهم الا فتنة، ويجوز ان يكون تعليلا للكل على سبيل التنازع { وليقول الذين في قلوبهم مرض } ممن قبل الدعوة الظاهرة اى من فى قلبه نفاق { والكافرون } اى الذين لم يقبلوا الاسلام { ماذآ أراد الله بهذا } العدد او بهذا القول او بجعل عدتهم فتنة او بجعل اصحاب النار ملائكة { مثلا } تميز عن هذا او حال عنه اى حالكونه مستغربا غرابة المثل او حالكونه جاريا على الالسن جريان المثل، واللام للعاقبة مثل قوله تعالى ليكون لهم عدوا وحزنا، او للغاية على ما بينا يعنى ما جعلنا اصحاب النار الا ملائكة ليكونوا فى الدنيا سائقين لاهل النار الى النار وموصلين لاهل الجنة الى الجنة { كذلك } الاضلال باظهار ما ليس فى وسعهم ادراكه { يضل الله من يشآء ويهدي من يشآء وما يعلم جنود ربك } من الملائكة والجن وجميع الموجودات فان الكل من جنوده { إلا هو } فليس قلة عدد اصحاب النار لقلة جنوده بل لعدم الحاجة الى ازيد من ذلك { وما هي } اى المعهودة المطلقة التى هى ولاية على بن ابى طالب (ع)، وقيل: ما السقر او عدة الخزنة او السورة، وقد ورد عن الكاظم (ع) تفسيرها بالولاية { إلا ذكرى للبشر } والتذكرة الحقيقية هى الولاية وان كانت سقر وعدة الخزنة والسورة ايضا تذكرة.
[74.32-33]
{ كلا } ردع لمن لا يعظم الولاية او لا يعتنى بسقر او الخزنة { والقمر والليل إذ أدبر } قرئ اذ بسكون الذال وادبر من الادبار وهذه هى القراءة الصحيحة فان الليل الذى هو عالم الكون وجوده على الادبار فهو مدبر ابدا بخلاف صبح الملكوت فانه يسفر بعد بالنسبة الى اهل عالم الملك، وقرئ اذا بالالف ودبر من الثلاثى المجرد.
[74.34-35]
{ والصبح إذآ أسفر إنها لإحدى الكبر } يعنى الولاية او سقر او خزنة جهنم او السورة احدى الآيات او النقم والبلايا الكبر.
[74.36]
{ نذيرا للبشر } حال او مفعول له او مفعول مطلق لمحذوف.
[74.37]
{ لمن شآء منكم } بدل من قوله للبشر { أن يتقدم } الى الولاية { أو يتأخر } عن سقر، فى الخبر: من تقدم الى ولايتنا اخر عن سقر، ومن تاخر عن ولايتنا تقدم الى سقر.
[74.38]
{ كل نفس بما كسبت رهينة } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: كيف يكون الولاية احدى الآيات الكبر؟ - فقال: لان كل نفس بما كسبت رهينة الا من تمسك بها والمعنى كل نفس بما كسبت من خير او شر فانه مفاد الاطلاق مرهونة فان كل ما عملت الانفس بانانياتها سواء كانت بحسب الصورة خيرا او شرا كانت وبالا عليها وقيدا لها، وكانت الانفس مرهونة مقيدة بها الا من تولى عليا (ع) لان الولاية هى المبدلة للسيئات بالحسنات ويجزى الله الذين تولوا عليا (ع) بازاء جملة اعمالهم باحسن ما كانوا يعملون.
[74.39]
{ إلا أصحاب اليمين } فان اليمين امير المؤمنين (ع) واصحاب اليمين شيعته.
[74.40-41]
{ في جنات يتسآءلون عن المجرمين } يعنى يتساءلون بينهم او يسألون غيرهم عن حال المجرمين او يتساءلون هم والمجرمون عن حال المجرمين.
[74.42]
{ ما سلككم في سقر } وهذا الخطاب والسؤال دليل على ان اصحاب اليمين يسألون المجرمين عن حالهم.
[74.43]
{ قالوا } فى الجواب { لم نك من المصلين } اى من المتولين عليا (ع) فان الصلاة الحقيقية لا تكون الا بالولاية بل الولاية هى الصلاة حقيقة ولذلك قال على (ع): انا الصلاة، او لم نكن من اتباع السابقين فانهم يسمون الذى يلى السابق فى الحلبة مصليا، او لم نكن من اتباع وصى محمد (ص) ولم نصل عليهم، والى الكل اشير فى الخبر، او لم نك من المصلين صلاة القالب المقررة فى الشريعة، واليه ايضا اشير فى خبر عن على (ع).
[74.44]
{ ولم نك نطعم المسكين } من الحقوق الواجبة او المستحبة، او لم نكن نعطى حقوق آل محمد (ص) من الخمس.
[74.45]
{ وكنا نخوض } فى الآيات بالرد والقدح والطعن والاستهزاء { مع الخآئضين } فى ذلك.
[74.46-47]
{ وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين } بالموت وكشف الحجب.
[74.48]
{ فما تنفعهم شفاعة الشافعين } لقطعهم الفطرة التى هى الولاية التكوينية التى هى سبب للولاية التكليفية ولذلك قيل: " مردود شيخى را اكر تمام مشايخ عالم جمع شوندوخواهند اصلاح نمايند نتوانند " لان المردود لا يصير مردودا الا بعد قطع الفطرة والولاية التكوينية وهو الذى يسمى بالمرتد الفطرى الذى لا يقبل توبته لا ظاهرا ولا باطنا، وقد سبق بيان الارتداد والمرتد الملى والفطرى فى سورة آل عمران عند قوله تعالى:
ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه
[آل عمران:85].
[74.49]
{ فما لهم } يعنى اذا كان الولاية ذكرى للبشر وكانت هى احدى الكبر فما لهم { عن } هذه { التذكرة معرضين } اى عن الولاية.
[74.50]
{ كأنهم حمر مستنفرة } بالغة فى النفار.
[74.51]
{ فرت من قسورة } من اسد، التوصيف لزيادة المبالغة.
[74.52]
{ بل يريد كل امرىء منهم أن يؤتى صحفا منشرة } ناطقة بصدق محمد (ص) فى نبوته او فى ولاية على (ع) وهو اضراب من الادنى الى الاعلى، يعنى بل ما لهم لا يكتفون بالاعراض ويدعون ما لا يليق بشأنهم، وقيل: المعنى يزيدون صحفا من الله بالبراءة من العقوبة واسباغ النعمة حتى يؤمنوا، وقيل: يريد كل منهم ان يكون رسولا يوحى اليه وينزل عليه كتاب مثل القرآن، وقيل: المراد معنى قوله تعالى:
ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه
[الإسراء:93].
[74.53]
{ كلا } ردع عن هذه الارادة وعن ظن انهم يريدون ذلك واقعا { بل لا يخافون الآخرة } اى ليس اقتراحهم لطلب الدين بل لا يخافون الآخرة فيعاندون ويريدون اظهار عجز الرسول (ص) عن مقترحهم.
[74.54-56]
{ كلا } ردع عن ذلك الاعراض وتلك الارادة { إنه } اى قرآن ولاية على (ع) او عليا (ع) بنفسه { تذكرة فمن شآء ذكره وما يذكرون إلا أن يشآء الله } يعنى ان مشيتكم وذكركم وجميع افعالكم مسبوقة بمشية الله التكوينية سواء كانت مرضية لله او مبغوضة فان مشيته التى هى عبارة عن رحمته الرحمانية سابقة على رضاه وغضبه وبمنزلة المادة لهما { هو أهل التقوى } حقيق بان يتقى منه { وأهل المغفرة } فان مغفرته غير مشوبة بغرض وغاية بخلاف غيره لعدم خلوص مغفرته عن شوب غرض وغاية.
[75 - سورة القيامة]
[75.1-2]
{ لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة } لفظة لا مزيدة للتأكيد او جواب ونفى لاعتقادهم لعدم البعث، او نفى للقسم والمعنى لا اقسم بيوم القيامة لانكم لا تعتقدونه، ولا اقسم بالنفس اللوامة لعدم اعتقادكم لها.
اعلم، ان النفس ذات انواع واصناف كثيرة وكل فرد منها ذات مراتب ودرجات عديدة، والنفس الانسانية ذات مراتب، فمرتبة منها تسمى بالامارة وهى التى تكون محكومة وخادمة للشيطنة والغضب والشهوة ولا تكون الا امارة بالسوء، ومرتبة منها تسمى باللوامة وهى التى تلوم نفسها فى جميع فعالها فى سيئاتها لسؤئتها وفى خيراتها لقصورها وتقصيرها ونسبتها الى نفسها، ومرتبة منها تسمى بالمطمئنة لاطمينانها عن كد الطلب لخروجها من قوتها الى الفعليات.
[75.3]
{ أيحسب الإنسان } هذه قرينة جواب القسم المحذوف { ألن نجمع عظامه } قيل: نزلت فى عدى بن ربيعة سأل رسول الله (ص) عن امر القيامة فأخبره به فقال:
" لو عاينت ذلك اليوم لم اصدقك او يجمع الله هذه العظام "
؟
[75.4]
{ بلى } نجمعها { قادرين على أن نسوي بنانه } التى فيها دقائق الصنع وصغار المفاصل والاوتار، وقيل: المعنى على ان نسوى بنانه فنجعلها كالخف والحافر ولكن هذا المعنى غير مناسب ههنا.
[75.5]
{ بل يريد الإنسان } يعنى ليس انكاره البعث لالتفاته الى الآخرة وانجرار دليله الى الانكار بل لاقامته على الفجور وعدم نزوعه عنه وعدم التفاته الى البعث والآخرة { ليفجر أمامه } اى فى مستقبل امره.
[75.6]
{ يسأل أيان يوم القيامة } استهزاء وهو لا يدرى انه فى الذهاب الى القيامة وان القيامة لا تكون فى الزمان بل هى خارجة عن حد الزمان.
[75.7]
{ فإذا برق البصر } كناية عن شخوص البصر وعدم القدرة على تحريك الجفن، وهذه كناية شائعة عن ذلك فى العرب والعجم.
[75.8]
{ وخسف القمر } ذهب ضوؤه.
[75.9]
{ وجمع الشمس والقمر } وهذه امارات الموت وامارات القيامة الصغرى وامارات ظهور القائم (ع).
[75.10]
{ يقول الإنسان يومئذ أين المفر } يعنى لا مفر.
[75.11]
{ كلا } ردع عن تمنى المفر { لا وزر } لا ملجأ ولا معتصم.
[75.12]
{ إلى ربك يومئذ المستقر } لا استقرار لاحد الى احد الا الى ربك المضاف وهو الرب فى الولاية وهو على (ع).
[75.13]
{ ينبؤا الإنسان يومئذ بما قدم وأخر } بما عمل وما ترك من خير وشر، او بما عمل فى حياته وما سن من سنة يعمل بها بعد مماته، او بما قدم من ماله فى حياته لنفسه وما ترك لورثته.
[75.14]
{ بل الإنسان على نفسه بصيرة } البصيرة للقلب كالبصر للجسد، وتستعمل بمعنى الحجة وتكون مؤنث البصير، فاذا كانت مؤنث البصير يكون التقدير عين بصيرة، او المراد ان الانسان بجوارحه بصير على نفسه فانث الخبر لاقامة الانسان مقام الجوارح، او التاء ليست للتأنيث بل للمبالغة.
[75.15]
{ ولو ألقى معاذيره } ولو اعتذر الى الناس بكل ما يعتذر به فان القاء الاعذار وان كان يخفى الشر على الاغيار لكنه لا يستره على نفسه يعنى يعلم ما صنع وان اعتذر، عن الصادق (ع): ما يصنع احدكم ان يظهر حسنا ويستر سيئا اليس اذا رجع الى نفسه يعلم انه ليس كذلك والله عز وجل يقول: { بل الإنسان على نفسه بصيرة } ان السريرة اذا صلحت قويت العلانية، وفى خبر من اسر سريرة البسه الله رداءها، ان خيرا فخير وان شرا فشر.
[75.16]
{ لا تحرك به لسانك لتعجل به } الخطاب لمحمد (ص) والمعنى لا تحرك بالقرآن لسانك قبل ان يتم وحيه لتأخذه على عجلة مخافة ان ينفلت منك، روى انه
" كان النبى (ص) اذا نزل عليه القرآن عجل بتحريك لسانه لحبه اياه وحرصه على اخذه مخافة ان ينساه "
، او المعنى لا تحرك بما اردت اظهاره من البراءة من معاوية كما سيأتى، وقيل: الخطاب عام والمقصود تقريع المسيئين يوم القيامة بهذا الخطاب فانه اذا اوبى العباد يوم القيامة كتب اعمالهم وينظر الانسان الذى هو على نفسه بصيرة وبرى سيئاته ضجر فيقال له توبيخا: لا تعجل بقراءة كتابك.
[75.17]
{ إن علينا جمعه وقرآنه } اى تأليفه وتنظيمه.
[75.18]
{ فإذا قرأناه فاتبع قرآنه }
" روى انه كان النبى (ص) بعد هذا اذا نزل عليه جبرئيل اطرق فاذا ذهب قرأ { ثم إن علينا بيانه } ".
[75.19]
{ ثم إن علينا بيانه } اى اظهار حقائقه عليك لتتحقق بها.
[75.20]
{ كلا } قيل: ردع عن القاء المعاذير وما بينهما اعتراض، وكونه ردعا عن التعجيل والتحريك اولى { بل تحبون العاجلة } يعنى ليس القاء المعاذير لاصلاح النفوس او لجهل نقائص النفس بل لحب الدنيا واصلاحها.
[75.21-22]
{ وتذرون الآخرة وجوه يومئذ ناضرة } جواب سؤال مقدر عن حال الآخرة.
[75.23-24]
{ إلى ربها ناظرة } اى الى ربها المضاف لظهور الولاية وصاحبها فى ذلك اليوم، او الى ربها المطلق لظهور آثاره اى الى آثاره ناظرة، او منتظرة الى ثواب ربها، روى عن امير المؤمنين (ع) فى حديث: ينتهى اولياء الله بعد ما يفرغ من الحساب الى نهر يسمى الحيوان فيغتسلون فيه ويشربون منه فتبيض وجوههم اشراقا فيذهب كل قذى ووعث ثم يؤمرون بدخول الجنة، فمن هذا المقام ينظرون الى ربهم كيف يثيبهم؟ - قال: فذلك قوله تعالى: { إلى ربها ناظرة } وانما يعنى بالنظر اليه النظر الى ثوابه تبارك وتعالى، وفى الخبر والناظرة فى بعض اللغة هى المنتظرة الم تسمع الى قوله:
فناظرة بم يرجع المرسلون
[النمل:35] اى منتظرة و { وجوه يومئذ باسرة } عابسة او شديدة العبوس.
[75.25]
{ تظن أن يفعل بها فاقرة } الفاقرة الداهية ولعلها كانت فى الاصل بمعنى الكاسرة لفقرات الظهر ثم غلب على الداهية لكسرها فقرات الظهر المعنوى.
[75.26-27]
{ كلا } ردع عن اختيار الدنيا او ردع عن ظن النجاة بصاحبى تلك الوجوه { إذا بلغت } النفس { التراقي وقيل من راق } رافع لك عن هذه المهالك؟ قيل: ذلك على سبيل التحسر، او يقول الملائكة: من يرفعه بروحه، ملائكة الرحمة او ملائكة العذاب؟ او من يشفيه بأسماء الله تعالى من الرقية وهو طلب الشفاء بأسماء الله تعالى.
[75.28]
{ وظن } اى علم لكن لما كان علوم النفس فى حكم الظنون لمغايرتها لمعلوماتها وجواز انفكاك المعلومات عنها عبر عنها بالظنون كما ذكرنا سابقا مكررا { أنه الفراق } من الدنيا.
[75.29]
{ والتفت الساق بالساق } كناية عن انتزاع الروح فانه يلتف فى كثير الساقان حينئذ، ولما كان آخر الدنيا بمنزلة الساق لها واول الآخرة ايضا بمنزلة الساق لها جاز ان يقال: التفت الدنيا بالآخرة، ولما كانوا يكنون عن شدة الامر بالساق جاز ان يقال: التفت شدة هول الدنيا بشدة هول الآخرة.
[75.30]
{ إلى ربك يومئذ المساق } هذه الجملة جواب اذا بتقدير الفاء، او الجواب محذوف بقرينة المقام.
[75.31]
{ فلا صدق } يجوز ان يكون هذه الجملة جوابا ويكون المعنى اذا بلغت التراقى لا يكون له راحة لانه لا صدق { ولا صلى } اى لا صدق الانبياء والاولياء (ع) ولا صلى.
[75.32]
{ ولكن كذب } الانبياء والاولياء (ع) { وتولى } عن طاعة الله وطاعة خلفائه.
[75.33]
{ ثم ذهب إلى أهله يتمطى } يتبختر سواء كان اصله التمطى بالياء او التمطط بالطاء.
[75.34]
{ أولى لك فأولى } اولى فعل ماض اصله اولاك الله ما تكرهه، او اولاك الله البعد من الخير او الهلاك، بمعنى ولاك الله فحذف الفاعل والمفعول الثانى وادخل اللام الزائدة على المفعول الاول للتأكيد، او بمعنى قرب الله منك الهلاك او قرب منك الهلاك، او بمعنى ارجعك الله الى الهلاك من، آل يؤل مقلوبا، او بمعنى اهلك الله من الويل او هو افعل التفضيل بمعنى احرى اى احرى لك النار او الهلاك او اللعن او بمعنى اقرب فحذف المبتدء او هو افعل من الويل بعد القلب بمعنى ويل لك او شدة الويل لك، او هو فعلى من آل يؤل بمعنى مرجعك النار وعلى اى تقدير هو كلمة تهديد صار كالامثال لا يغير ولا يذكر المحذوف المقدر، قيل: اخذ رسول الله (ص) بيد ابى جهل ثم قال له ذلك فقال: باى شيء تهددنى؟ لا تستطيع انت ولا ربك ان تفعلا بى شيئا وانى لاعز اهل هذا الوادى فأنزل الله سبحانه كما قال له رسول الله (ص)، وقال القمى: ان رسول الله (ص) دعا الى بيعة على (ع) يوم غدير خم فلما بلغ واخبرهم فى على (ع) ما اراد ان يخبرهم رجعوا الناس فاتكى معاوية على مغيرة بن شعبة وابى موسى الاشعرى ثم اقبل يتمطى نحو اهله ويقول: ما نقر لعلى (ع) بالولاية ابدا ولا نصدق محمدا (ص) مقالته فأنزل الله عز وجل: { فلا صدق ولا صلى } (الآيات).
[75.35]
{ ثم أولى لك فأولى } التكرير لمحض التأكيد او الاول وتأكيده للدنيا، والثانى وتأكيده للآخرة.
[75.36]
{ أيحسب الإنسان أن يترك سدى } مهملا.
[75.37]
{ ألم يك نطفة من مني يمنى } استفهام تقريرى فى مقام التعليل لانكار هذا الحسبان.
[75.38]
{ ثم كان علقة فخلق فسوى } اى فسواه ذكرا بالغا وانثى بالغة، او فسواه بحسب اعضائه بمعنى فكسونا العظام لحما.
[75.39]
{ فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى } يعنى ان الله جعل لهذا البنيان ولمادة الانسان تبدلات من اخس الاحوال الى اشرفها، فاذا صار انسانا بالغا ذكرا او انثى لا يهمله بل اذا استكمل فى جهة روحانيته بالموت الاختيارى او الاضطرارى صار اشد اهتماما به من حاله الخسيسة التى كان فيها نطفة قذرة او علقة او مضغة او جنينا.
[75.40]
{ أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى } والحال ان الموت هو سبب حياته الحقيقية، عن الرضا (ع): انه قرأ هذه السورة قال عند فراغها: سبحانك اللهم بلى.
[76 - سورة الانسان]
[76.1]
{ هل أتى على الإنسان حين من الدهر } استفهام تقريرى والمعنى قد أتى ولذا فسر به { لم يكن شيئا مذكورا } فى الخلق يعنى كان مقدرا مقدورا ولم يكن مكونا مخلوقا.
[76.2]
{ إنا خلقنا الإنسان } جواب سؤال مقدر كأنه قيل: فكيف خلق الانسان؟ - فقال: انا خلقناه { من نطفة أمشاج } مشج من باب نصر خلط وشيء مشيج كقتيل وسبب وكتف مخلوط، والجمع امشاج، كون النطفة امشاجا اما لاختلاط الاخلاط او العناصر او استعدادات الاعضاء والقوى فيها، او لاختلاط المائين ماء الرجل وماء المرأة { نبتليه } نستخلصه من الفضول ومما لا يليق به ونعطيه ونتفضل عليه بما يليق بشأنه { فجعلناه سميعا بصيرا } يعنى على اشرف احوال الحيوان.
[76.3]
{ إنا هديناه السبيل } جواب سؤال مقدر كأنه قيل: ما فعلت به بعد ذلك؟ وما تفعل به؟ - فقال: انا هديناه السبيل بحسب فطرته فان الكل بحسب الفطرة يعرف الخير والشر الانسانيين وبحسب التكليف بتوسط الانبياء والاولياء (ع) { إما شاكرا } اى عاملا بما عرفناه { وإما كفورا } تاركا لما عرفناه.
[76.4]
{ إنآ أعتدنا } جواب لسؤال مقدر عن حال الكفور { للكافرين سلاسل } بها يقادون عنفا { وأغلالا } بها يقيدون { وسعيرا } بها يحترقون.
[76.5-6]
{ إن الأبرار يشربون } جواب لسؤال مقدر عن حال الشاكرين { من كأس } من خمر او من كأس فيها خمر { كان مزاجها كافورا عينا يشرب بها } اى منها { عباد الله يفجرونها } يجرونها باى نحو والى اى مكان شاؤا، او يخرجون ماؤها من اى مكان شاؤا { تفجيرا } لا يعرف لعظمته.
اعلم، ان للانسان حالات ومراتب ودرجات فانه فى اولى مراتبه جماد فى تطوراته، وفى ثانية مراتبه نبات فى تفنناته، وفى ثالثة مراتبه حيوان فى تبدلاته وتقلباته، وفى رابعة مراتبه انسان فى كثرة نشآته، ولتلك المراتب ميول واقتضاءات وشهوات وغضبات ومحبات واشتياقات وعزمات وارادات وحركات وسكنات، فاذا بلغ الانسان مبلغ الرجال والنساء فاما ان تكون حركاته وسكناته بحكم ميوله الجمادية او اقتضاءاته النباتية او شهواته وغضباته الحيوانية، او ادراكاته وحيله الشيطانية، واما ان تكون بحكم عقله الانسانى فان كانت من القسم الاول كانت جملة حركاته وسكناته وعزماته واراداته من حيث انجرارها الى العمل السىء والاسوء سلاسل تجره فى الدنيا الى اسفل النفس التى هى صورة جحيم الآخرة والى العمل القبيح الذى هو من آثار لهبات الجحيم، وتلك السلاسل فى الدنيا مستورة عن الانظار الحسية وان كانت مشهودة بالانظار الملكوتية لاهلها، لكن فى الآخرة تصير مشهودة ظاهرة بناء على تجسم الاعمال وموجبة لسلاسل اخرى اخروية بناء على جزاء الاعمال فى الآخرة بالجزاء المناسب لها، وكانت كلها من حيث اكتساب النفس منها سوأة وثقلا اغلالا لها مستورة عن الانظار الدنيوية مشهودة للانظار الاخروية، وان كانت من القسم الاخير صارت سببا لاطلاقه من الاغلال وخلاصه من السلاسل وسببا لخروجه من هاوية النفس وعروجه على مراقى الانسانية الى اعلى عليين وقرب ربه رب العالمين وبعبارة اخرى كلما يفعله الانسان بعد بلوغه اما ان يكون بامر آمر الهى من غير شراكة لنفسه وامرها فيه او يكون بشراكة لنفسه فيه واما ان يكون بامر نفسه من غير شراكة لربه وامر ربه فيه، فان كان من القسم الاول صار سببا لاطلاقه ونجاته ويكون مما يتقرب به قرب الفرائض، وان كان من القسم الثانى فاما ان يكون شراكة النفس فى الفعل لامر الله من حيث توجهها الى الله واعانتها لامتثال امر الله وقربها من الله، او من حيث انصرافها من الله وتوجهها الى حظوظها ومآربها، والاول كالاول فى صيرورته سببا لاطلاق النفس ونجاتها ويكون مما يتقرب به قرب النوافل، والثانى يكون مما يكون العامل فيه مشركا فى العبادة ويكون مردودا اليه ومما يتركه الله تعالى لشريكه لكونه اغنى الشركاء ويترك لشريكه كل عمل يعمل بشراكة غيره، ويكون سلسلة وغلا لنفسه، وان كان من القسم الثالث لا يكون الا غلا وسلسلة واليها اشار تعالى شأنه بقوله:
كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين
[المدثر:38-39] فان اصحاب اليمين اى الذين قبلوا ولاية على (ع) بالبيعة الخاصة الولوية هم الذين توجهوا الى الله وابتغوا مرضاته ولقائه، فان كانوا فى حال الحضور وكان ولى امرهم ظاهرا عليهم وفاعلا فعلهم بآلات اعضائهم من دون مدخلية لانفسهم فى فعلهم كان فعلهم من القسم الاول، وان لم يكن لهم حالة الحضور لكن كان حبهم لربهم ولولى امرهم بحيث لم يبق لهم التفات الى انفسهم وحظوظها كان فعلهم ايضا من القسم الاول، وان لم يبلغ حبهم الى مرتبة لم يبق لهم التفات الى انفسهم وحظوظها بل كانت انفسهم ايضا باعثة على اعمالهم ولكن كانت حظوظ انفسهم فى امتثال امر الله وابتغاء مرضاته كان من القسم الثانى الملحق بالاول، وان كانوا فى افعالهم غافلين من ربهم وامره مبتغين لحظوظ انفسهم حظوظها السفلية لم يكونوا حينئذ من اصحاب اليمين فى تلك الافعال فان قيد الحيثية معتبرة فى امثال المقام، وكانوا مرهونين باعمالهم مثل سائر الناس ولم يكونوا ينتفعون ببيعتهم فى تلك الاعمال لكن اذا لم يقطعوا حبل الولاية ولم يفسدوا بذر الايمان انتفعوا ببيعتهم عند الموت وبعده، وقد اشار المولوى قدس سره الى السلاسل والاغلال المستورة بقوله:
خلق ديوانند شهوت سلسله
ميكشد شان سوى دكان و غله
هست اين زنجير از خوف و وله
تو مبين اين خلق را بى سلسله
ميكشاندشان بسوى نيك و بد
كفت حق فى جيدها حبل المسد
قد جعلنا الحبل فى اعناقهم
واتخذنا الحبل من اخلاقهم
واعلم، ايضا ان الشاربين للخمر الخبيثة المحرمة لهم حالات وبحسب اختلافهم فى الحالات يختلف شربهم للخمر الصورية فانه قد يغلب الحرارة على مزاجهم، وقد يغلب البرودة، وقد يعتدل امزجتهم، وبحسب اختلاف تلك الاحوال قد يمزجون بشرابهم الكافور وقد يمزجون الزنجبيل وقد يشربونها خالصا وقد يشربون شرابا خالصا ليذهب باذى الخمر وكسالة سكره، ويسمى بالطهور والغسال، وللسالكين الى الله ايضا انواع من الشراب المعنوى الروحانى فانه قد يغلب عليهم برد السلوك فيسقيهم ربهم شرابا زنجبيليا يسخنهم ويزيد فى حرارة شوقهم وطلبهم، وقد يغلب عليهم حرارة الشوق فيسقيهم ربهم شرابا كافوريا ليعتدل سخونة اشتياقهم ببرد كافور السلوك، وقد يسقيهم شرابا خالصا غير ممزوج اذا كانوا فى السلوك والجذب معتدلين، وقد يسقيهم شرابا طهورا يغسلهم من نسبة الاموال والافعال والصفات الى انفسهم بل من انانياتهم وهذه الاحوال تطرو عليهم فى الآخرة وفى الجنات.
[76.7]
{ يوفون بالنذر } النذر ما اوجبه الانسان على نفسه بشرط او بغير شرط، والمراد به العهد الذى كان فى ضمن البيعة العامة او الخاصة والوفاء بهذا النذر يستلزم الوفاء بجميع العهود والشروط { ويخافون يوما كان شره مستطيرا } اى متفرقا غاية التفرق وفى الخبر كلوحا عابسا، وقيل: عظيما.
[76.8-9]
{ ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزآء ولا شكورا } بل اطعمناكم ابتغاء لمرضاة الله.
[76.10]
{ إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا } كريها يعبس فيه الوجوه { قمطريرا } شديد العبوس قد روى كثيرا من العامة والخاصة ان الآيات الى قوله: وكان سعيكم مشكورا نزلت فى على (ع) وفاطمة (ع) والحسن (ع) والحسين (ع) وجارية لهم تسمى فضة، والاخبار الواردة مختلفة بحسب الالفاظ مجمل مضمون اكثرها واشهرها انه مرض الحسن (ع) والحسين (ع) فنذر هو وفاطمة (ع) وفضة صوم ثلاثة ايام ان شفاهما الله فبرئا واستقرض على (ع) ثلاثة اصوع من الشعير من يهودى او آجر نفسه يهوديا ليغزل له صوفا واخذ ثلاثة اصوع من الشعير فصاموا وطحنت فاطمة (ع) صاعا منها واختبزته وصلى على (ع) المغرب وقربته اليهم فاتاهم مسكين يدعو لهم وسألهم، فأعطوه ولم يذوقوا الا الماء، فلما كان اليوم الثانى اختبزت صاعا آخر منها وقربته وقت الافطار اليهم، فاذا يتيم بالباب يستطعم، فأعطوه ولم يذوقوا الا الماء، فلما كان اليوم الثالث جاء اسير يستطعم، فاعطوه ولم يذوقوا الا الماء، فلما كان اليوم الرابع وقد قضوا نذورهم اتى على (ع) ومعه الحسن (ع) والحسين (ع) الى النبى (ص) وبهما ضعف فبكى رسول الله (ص) ونزل جبرئيل بسورة هل أتى، وفى بعض الاخبار فرءاهم النبى (ص) جياعا فنزل جبرئيل ومعه صحفة من الذهب مرصعة بالدر والياقوت مملوة من الثريد وعراق يفوح منها رائحة المسك والكافور فجلسوا واكلوا حتى شبعوا ولم ينقص منها لقمة واحدة،
" وخرج الحسن (ع) والحسين (ع) ومع الحسين قطعة عراق فنادته يهودية: يا اهل البيت الجوع من أين لكم هذه؟ اطعمنيها، فمد يده الحسين (ع) ليطعمها فهبط جبرئيل واخذها من يده ورفع الصحفة الى السماء، فقال (ص): لولا ما اراد الحسين (ع) من اطعام الجارية تلك القطعة لتركت تلك الصحفة فى اهل بيتى يأكلون منها الى يوم القيامة ".
[76.11]
{ فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة } فى الوجوه { وسرورا } فى القلوب.
[76.12-13]
{ وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا متكئين فيها على الأرائك } الاريكة السرير فى حجلة وكل ما يتكأ عليه من سرير وغيره، او سرير منجد فى قبة او بيت { لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا } يعنى لا يرون حرا ولا بردا بل يكونون فى هواء معتدل.
[76.14]
{ ودانية عليهم ظلالها } اى قريبة منهم افياؤها او دائمة عليهم افياؤها، ومعنى دنو الظلال دنو المظلة منهم، او الظلال ههنا جمع الظلة بالضم بمعنى المظلة { وذللت } اى سهلت { قطوفها } للجنى { تذليلا } فان ثمارها كأنها باختيار الجانى يجنيها متى شاء وكيف شاء وعلى اى حال شاء.
[76.15-16]
{ ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب } جمع الكوب وهو كوز لا عروة له ولا خرطوم { كانت قواريرا قواريرا } قرئ فيهما بالتنوين للمناسبة، وقرئ فى الاول فقط بالتنوين { من فضة } يعنى كانت الاكواب مثل القوارير فى الصفاء والشفيف، او كانت القوارير مأخوذة من الفضة لا من سائر الاحجار مثل قوارير الدنيا { قدروها تقديرا } صفة للاكواب او للآنية والاكواب والمعنى اكواب كان المؤمنون يقدرون قدرها فى انفسهم، او كانوا يتمنونها، او كان الغلمان المديرون يقدرونها بقدر ميل المؤمنين، وقرئ قدروها على البناء للمفعول.
[76.17]
{ ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا } الكأس تطلق على الخمر ولذلك تؤنث، ولما كان السالك الباقى عليه من نفسه بقايا لا بد له من حرارة الطلب واشتياق السير فى عالم الصفات التى لا نهاية لها كان قد يسقى من الشراب الزنجبيلى الذى به يشتد حرارة طلبه والتذاذ سيره ووجده.
[76.18]
{ عينا فيها تسمى سلسبيلا } بدل من كأسا بدل الاشتمال، والسلسبيل الشراب السهل الدخول فى الحلق، اللذيذ فى المذاق يقال: شراب سلسل وسلسال وسلسبيل كذا فى المجمع.
[76.19]
{ ويطوف عليهم ولدان } جمع الوليد بمعنى الغلام { مخلدون } دائمون فى الجنة، او مخلدون على حال الغلمان { إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا } فى الصفاء والحسن والتلألؤ { منثورا } متفرقا غير منظوم فى الكثرة او فى الخدمة.
[76.20]
{ وإذا رأيت } شيئا { ثم } فى الجنة حذف المفعول للاشارة الى ان كلما كان مرئيا هناك كان مشتملا على جميع ما يكون فى المملكة الكبيرة { رأيت نعيما وملكا كبيرا } واسعا جدا فان ادناهم منزلة ينظر فى ملكه من مسيرة الف عام يرى اقصاه كما يرى ادناه، وقيل: هو القدرة على ما يتمنى ونفاذ الامر، وقيل: هو استيذان الملائكة ورسل الله (ع) على المؤمنين.
[76.21]
{ عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق } اى ما رق من الحرير وما غلظ { وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا } يطهرهم من كل ما كان منسوبا اليهم من الاموال والافعال والاوصاف والذوات حتى لا يبقى فيهم سوى محبوبهم فيصير لذتهم خالصة غير مشوبة وغير محجوبة، فى خبر: يطهرهم من الحسد ويسقط عن ابشارهم الشعر، وفى خبر: يطهرهم من كل شيء سوى الله.
[76.22-23]
{ إن هذا كان لكم جزآء } خطاب من الله لعباده فى الدنيا او منه او من الملائكة لعباده فى الآخرة { وكان سعيكم مشكورا إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا } يعنى ان قرآن ولاية على (ع) ليس الا من عندنا فما لك تخشى عن الناس وتخفيه عنهم وتخاف عن ردهم او ارتدادهم او صرف على (ع) عن حقه.
[76.24]
{ فاصبر لحكم ربك } ولا تحزن على ما يقولون فى حق على (ع) ولا تغير ما نزلناه عليك { ولا تطع منهم آثما } عاصيا لك فى على (ع) { أو كفورا } ساترا لولايته او ساترا لنبوتك فبينهما عموم من وجه.
[76.25]
{ واذكر اسم ربك } اسم الرب هو اللطيفة الانسانية التى هى الولاية التكوينية وتتقوى بالولاية التكليفية ثم صاحب الولاية والرسالة ثم كل من قبل الولاية ثم كل وجود عينى امكانى ثم الالفاظ والحروف الموضوعة ثم النقوش المكتوبة، وذكر الكل من حيث كونها اسماء الرب مأمور به ونافع للانسان ومورث لنجاته من المهاوى والنيران { بكرة وأصيلا } دائما او فى هذين الوقتين مخصوصا لشرافتهما.
[76.26]
{ ومن الليل } الذى هو مظهر عالم الطبع ومظهر ظلمة النفس وانانياتها { فاسجد له } بكسر انانية النفس { وسبحه ليلا طويلا } اى بعضا طويلا من الليل، او ليل الطبع الذى طوله بقدر العمر، عن الرضا (ع): ان هذا التسبيح هو صلاة الليل وقد فسر قوله: بكرة واصيلا، بصلاة الغداة والظهرين وقوله ومن الليل فاسجد له، بالعشائين، وقوله: وسبحه ليلا طويلا، بالتهجد فى طائفة طويلة من الليل.
[76.27]
{ إن هؤلاء } المشركين او المنافقين الممتنعين من ولاية على (ع) { يحبون العاجلة } ولذلك لا يأتمرون بأمر الله ولا بأمر نبيه (ص) ولا ينقادون لنبيه (ص) ولا وصيه { ويذرون ورآءهم يوما ثقيلا } يعنى امامهم لكنه تعالى عبر بورائهم للاشعار بانهم منكوسون مقبلون على الدنيا التى هى مدبرة عنهم ومدبرون عن الآخرة التى هى مقبلة عليهم، والمراد بثقله ثقل حسابه وثقل شدائده وثقل حسابه.
[76.28-30]
{ نحن خلقناهم وشددنآ أسرهم } اى خلقهم او مفاصلهم بالاعصاب والاوتار او الياف المعدة والمثانة حتى صارتا باختيار صاحبهما { وإذا شئنا بدلنآ أمثالهم } باذهابهم وجعل اولادهم اخلافهم، أتى باذا لتحقق وقوعه { تبديلا إن هذه } اى ولاية على (ع)، او قرآن ولايته، او هذه السورة التى فيها ذكر الولاية { تذكرة فمن شآء اتخذ إلى ربه سبيلا وما تشآءون } لما اوهم قوله تعالى فمن شاء استقلالهم بالمشية رفع ذلك فقال وما تشاؤن { إلا أن يشآء الله }.
اعلم، انه لا يكون شيء من المكونات ومن افعال العباد واخلاقهم واراداتهم ومشياتهم الا بمباد سبعة، بمشية من الله، وارادة منه، وقدر منه سبحانه وقضاء واذن واجل وكتاب وان المشية هى اضافته الاشراقية التى هى فعله وكلمته، وان كل شيء من المبدعات والمنشئات والمخترعات والمكونات قوام وجوده مشية الله، وان مشية الله غير محبته ورضاه، وان الرضا والسخط بمنزلة صورة للمشية، والمشية كالمادة وان مشية العباد هى مشية الله بضميمة خصوصية الاضافة الى العباد فمعنى ما تشاؤن الا ان يشاء الله الا فى حال ان يشاء الله، او بسبب ان يشاء الله، او لان يشاء الله، واما جعل ان يشاء الله مفعولا لتشاؤن فبعيد بحسب الظاهر وان كان له معنى صحيح بحسب دقيق النظر، لان كل ما يشاؤه العباد فهو متقوم بمشية الله بل هو عين مشية الله التى صارت بحسب الاضافة محدودة بحدود الممكنات، وقد مضى بيان واف لكون مشية الله وارادته عين مشية العباد واراداتهم من غير لزوم جبر وتسخير عند قوله تعالى: ولكن الله يفعل ما يريد، من سورة البقرة { إن الله كان عليما } فبعلمه بدقائق الصنع ومصالح المصنوع جعل مشيته عين مشية العباد { حكيما } بحيث لطف فى هذا الصنع لطفا لا يدركه احد بل يتوهمون ضده ويقولون: ان الله فوض امور العباد وافعالهم اليهم.
[76.31]
{ يدخل من يشآء في رحمته } اى من يحب ويرضاه { والظالمين أعد لهم عذابا أليما }.
[77 - سورة المرسلات]
[77.1]
{ والمرسلات عرفا } قد فسرت بالملائكة المرسلة المتتابعة لتعذيب اهل الدنيا وجحيم النفس او الملائكة المرسلة للمعروف والاحسان الى العباد بتعذيب اهل الشر والفساد.
[77.2]
{ فالعاصفات عصفا } من قبيل عطف الصفات المتعددة لذات واحدة، وتخلل الفاء للاشعار بان هذه الصفة اى شدة الهبوب والمرور فى مقام التعذيب ابلغ من الارسال، وفسرتا بالرياح المرسلة لتعذيب اهل الدنيا بافساد زراعاتهم واهلاك مواشيهم.
[77.3]
{ والناشرات نشرا } فسرت بملائكة الرحمة الذين ينشرون العلوم فى قلوب الانبياء وسائر العباد، والذين يأتون بالسحاب، وفسرت برياح الرحمة التى تنشر السحاب، وفسرت بالامطار التى تنشر النبات من الارض وفسرت بنفوس الانبياء (ع) الذين ينشرون العلوم والاحكام فى العباد.
[77.4]
{ فالفارقات فرقا } فسر هذه بموافقة سابقتها.
[77.5]
{ فالملقيات ذكرا } اى الملائكة والرياح او السحب والامطار او الانبياء (ع) فان كلا منها يذكر الانسان قدرة الله وحكمته فى صنعه، ويستفاد من بيان الفقرات وجه اختلاف العطف بالفاء والواو.
[77.6]
{ عذرا أو نذرا } اى يلقين الذكر عذرا اى سببا لنجاتهم، او نذرا اى تخويفا فيكونان بمعنى ارجاء وتخويفا وهما بدلان من ذكرا، او مفعولان له، او حالان وقد فسرت الفقرات بالواردات الالهية فى العالم الصغير الانسانى من الالهامات والقبضات والبسطات والمنامات المنذرات والمبشرات والبلايا الواردات، وجبرانها بالالطاف الالهيات والخطرات والخيالات والسطوات والرأفات والملائكة المرسلات بالنبوات والرسالات.
[77.7]
{ إنما توعدون لواقع } جواب للقسم والمراد بما يوعدون البعث والحساب، او الثواب والعقاب.
[77.8]
{ فإذا النجوم طمست } اى محقت او محى نورها، وجواب اذا محذوف بقرينة السابق اى كان ما توعدون، او بقرينة اللاحق اى اهلكناهم، او الجواب قوله لاى يوم اجلت بتقدير القول.
[77.9]
{ وإذا السمآء فرجت } صدعت.
[77.10]
{ وإذا الجبال نسفت } نسف البناء قلعها ونسف الجبال دكها.
[77.11]
{ وإذا الرسل أقتت } وقرئ وقتت ع لى الاصل اى عينت يعنى وقت حضورها للشهادة او للبشارة والتخويف او بلغ وقت ظهورها حين ظهور القائم او القيامة.
[77.12]
{ لأي يوم أجلت } استفهام للتعجيب والتفخيم وجواب لاذا بتقدير القول، او حال عن الرسل (ع) بتقدير القول، او استيناف بتقدير استفهام كأنه تعالى: قال اتدرى لاى يوم اجلت؟
[77.13]
{ ليوم الفصل } اجلت جواب من الله تعالى.
[77.14-15]
{ ومآ أدراك ما يوم الفصل ويل يومئذ للمكذبين } جواب للاستفهام بتقدير القول او جواب لسؤال مقدر بتقدير القول اى يقال فيه: { ويل يومئذ للمكذبين } ، او جواب لسؤال مقدر بدون تقدير القول كأنه قيل: ما حال الناس فيه؟ - فقال: { ويل يومئذ للمكذبين }.
[77.16]
{ ألم نهلك الأولين } جواب سؤال مقدر كأنه قيل: ما تفعل بهم فى الدنيا؟ - فقال: نفعل بهم ما فعلنا بالاولين الم نهلك الاولين كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم.
[77.17]
{ ثم نتبعهم الآخرين } من المجرمين قرئ برفع نتبعهم عطفا على الم نهلك، وقرئ بالجزم عطفا على نهلك والمعنى الم نهلك الاولين من قوم نوح وعاد وثمود، ثم لم نتبعهم الآخرين من قوم لوط وشعيب وفرعون.
[77.18]
{ كذلك نفعل بالمجرمين } من قومك يا محمد (ص).
[77.19]
{ ويل يومئذ للمكذبين } لما كان التكرير والتأكيد والتهديد والتغليظ مطلوبا فى مقام السخط كرر هذه الكلمة.
[77.20]
{ ألم نخلقكم } تعداد للنعم التى تدل على كمال الاهتمام بهم وعدم اهمالهم من غير ثواب وعقاب { من مآء مهين } قذر.
[77.21-25]
{ فجعلناه في قرار مكين إلى قدر معلوم فقدرنا } فسويناكم { فنعم القادرون ويل يومئذ للمكذبين ألم نجعل الأرض كفاتا } كفته يكفته صرفه عن وجهه، وكفت الشيء ضمه وقبضه، والكفات الموضع الذى يكفت فيه الشيء اى يضم او هو مصدر، او جمع لكافت، او جمع كفت بمعنى الوعاء وهو مفعول ثان لنجعل، او حال، او المفعول الثانى قوله تعالى { أحيآء وأمواتا }.
[77.26]
{ أحيآء وأمواتا } وعلى الاول فاحياء وامواتا حالان من ذى حال محذوف اى للناس، او حالان من الارض وكون الارض احياء وامواتا باعتبار صلاحها للنبات والزراعات وعدم صلاحها لها، او باعتبار وقت انباتها للنبات ووقت عدم انباتها كالخريف والشتاء، او مفعولان لكفاتا، وتنكيرهما حينئذ للتفخيم، او لان احياء الانس وامواتهم بعض الاحياء والاموات.
[77.27]
{ وجعلنا فيها رواسي شامخات } جبالا ثوابت طوالا { وأسقيناكم مآء فراتا } هذان الفعلان معطوفان على مجموع الم نجعل الارض فانه فى معنى جعلنا الارض البتة كفاتا.
[77.28-29]
{ ويل يومئذ للمكذبين انطلقوا } حال او جواب لسؤال مقدر بتقدير القول اى يقال لهم: انطلقوا { إلى ما كنتم به تكذبون } من العذاب.
[77.30-31]
{ انطلقوا } قرئ هذا امرا، وقرئ على الاخبار جوابا لسؤال مقدر { إلى ظل } اى ظل دخان جهنم بقرينة ما يأتى { ذي ثلاث شعب }.
اعلم، ان النفس الانسانية الامارة مظهر لجهنم، وكلما لها من الاوصاف الرذيلة شعبة وشعلة من لهبها، وهى سبب لدخولها، وان اصل جميع الرذائل هى القوى الثلاث البهيمية والسبعية والشيطانية، وانها لهبات من الجحيم وادخنة منها تحترق الانسانية بها، وما دام الانسان فى الدنيا وكان اسيرا للنفس الامارة لا يستشعر بحرقته فاذا مات تمثل له ما كان مخفيا عنه فى الدنيا فيظهر عليه اللهبات الثلاث وادخنتها وظلال ادخنتها فيقال له: انطلق الى هذا الظل، استهزاء، فينطلق الى ظلها لانه كان فى الدنيا مسخرا لها ويكون ذلك الظل غير ذى برودة ولذلك قال { لا ظليل } لانه ظل الدخان فيكون حارا لا باردا وهذا رد لما اوهم لفظ الظن { ولا يغني من اللهب } اى من حر اللهب كسائر الظلال المغنية من حر الشمس.
[77.32]
{ إنها ترمي بشرر كالقصر } قرئ بسكون الصاد بمعنى المنزل الرفيع، وقرئ بالتحريك بمعنى اصول النخل والشجر وبقاياه واعناق الناس والابل، والكل مناسب، فان القوى الثلاث فى الدنيا ترمى بخطرات وآمال وانانيات، وفى الآخرة تتمثل تلك بشرر عظام.
[77.33]
{ كأنه } اى كأن القصر او الشرر فانه جنس للشررة { جمالة صفر } جمع الجمل، وقرئ جمالات بكسر الجيم وضمها جمع الجمالة بكسر الجيم وضمها جمع الجمل فان الجمالة والجمالات مثلثتى الجيم جمع للجمل.
[77.34-35]
{ ويل يومئذ للمكذبين هذا يوم لا ينطقون } اعلم ان ايام الآخرة كثيرة ففى بعضها ينطق الناس ويسألون ويتضرعون، وفى بعضها لا ينطقون فلا ينافى ذلك سائر الآيات والاخبار الدالة على تنطقهم واستنطاقهم.
[77.36-38]
{ ولا يؤذن لهم } فى النطق او فى الاعتذار { فيعتذرون ويل يومئذ للمكذبين هذا يوم الفصل } بين المحق والمبطل، او المؤمن والكافر، او اهل الجنة واهل النار ، او يوم القضاء والحكم { جمعناكم } فيه { والأولين } حال او استيناف.
[77.39]
{ فإن كان لكم كيد فكيدون } كما كنتم تكيدوننى فى الدنيا بالكيد مع خلفائى وهذا على التعجيز والتهكم.
[77.40-41]
{ ويل يومئذ للمكذبين إن المتقين في ظلال وعيون } جواب سؤال مقدر كأنه قيل: هذا حال المكذبين فما حال المتقين عن تكذيب الرسل او الحشر؟
[77.42-45]
{ وفواكه مما يشتهون كلوا واشربوا } استيناف بتقدير القول { هنيئا بما كنتم تعملون إنا كذلك نجزي المحسنين ويل يومئذ للمكذبين } لما كان السورة لتهديد المكذبين كرر ههنا هذه الكلمة وثنى ذكر المكذبين واضرب عن المتقين مع انه كان المناسب ان يقول: طوبى يومئذ للمتقين.
[77.46]
{ كلوا } استيناف او حال بتقدير القول { وتمتعوا قليلا } يعنى فى الدنيا { إنكم مجرمون } تعليل للتهديد المستفاد من قوله تعالى: كلوا وتمتعوا.
[77.47-48]
{ ويل يومئذ للمكذبين وإذا قيل لهم } عطف على مجرمون، او حال والتفات من الخطاب { اركعوا } اى صلوا كما قيل: انها نزلت فى ثقيف حين امرهم رسول الله (ص) بالصلاة فقالوا: لا ننحنى فان ذلك سبة علينا، او تواضعوا وانقادوا { لا يركعون } او المعنى اذا قيل لهم اسجدوا فى القيامة لا يقدرون على السجود كما قال تعالى:
ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون
[القلم: 42].
[77.49-50]
{ ويل يومئذ للمكذبين فبأي حديث بعده يؤمنون } اى بأى حديث بعد القرآن او بعد ما حدثتك به من امر الآخرة والحشر والحساب والثواب والعقاب، او بعد حديث الولاية، او بعد هذا اليوم يؤمنون؟!
[78 - سورة النبإ]
[78.1]
{ عم يتسآءلون } استفهام لتفخيم المسؤل عنه كانوا يتساءلون بينهم عن المبدء وصفاته وعن القيامة وعلاماته، وعن البعث وثوابه وعقابه، او كانوا يتساءلون عن الولاية بعد ما اشار الرسول (ص) اليها فانها النبأ العظيم الذى يقع الاختلاف فيه، وانها النبأ الذى ينبغى ان يهدد الناس فى تركها لانها الفارقة بين اهل الجنة والنار فان القابل لها اذا وصل بها الى الآخرة يدخل الجنة من غير ريب، والخارج منها اذا خرج بالخروج منها الى الآخرة يدخل النار، فانه لو عبد الله عبد سبعين خريفا تحت الميزاب قائما ليله صائما نهاره ولم يكن له ولاية على بن ابى طالب (ع) لأكبه الله على منخريه فى النار وان الله لا يستحيى ان يعذب امة دانت بامامة امام جائر، وان كانت الامة فى اعمالها بررة، وان الله ليستحيى ان يعذب امة دانت بامامة امام عادل وان كانت الامة فى اعمالها فجرة، وسئل الباقر (ع) عن تفسير عم يتساءلون فقال: هى فى امير المؤمنين (ع)، وبهذا المضمون اخبار كثيرة منهم (ع).
[78.2]
{ عن النبإ العظيم } بدل عن عم بتقدير حرف الاستفهام، او متعلق بمحذوف وجواب من الله او متعلق بيتساءلون وعم متعلق بمحذوف يفسره المذكور.
[78.3-4]
{ الذي هم فيه مختلفون كلا } عن الاختلاف، فانه امر لا ينبغى ان يختلف فيه، او عن الانكار المستفاد من الاختلاف، فان الاختلاف لا يكون الا بالاقرار والانكار { سيعلمون } حين رفع الحجب عن الابصار عند الموت او القيامة الكبرى.
[78.5]
{ ثم كلا سيعلمون } تأكيد للاول، وتخلل ثم للمبالغة فى التأكيد.
[78.6]
{ ألم نجعل الأرض مهادا } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل كأنه قيل: الم يجعل الله دليلا لعباده على الولاية؟ او على الحشر والحساب والثواب والعقاب؟ - او قال: الم يجعل لهم وليا؟ او الم يكن لهم حشر وحساب؟ - فقال: كيف لم نجعل لهم دليلا على ذلك، او كيف اهملناهم ولم نجعل لهم رئيسا واماما بعد الرسول (ص)؟! او كيف نهملهم ولا نبعثهم والحال انا ما اهملناهم حين لم يكونوا شيئا مذكورا او جعلنا لهم جميع اسباب وجودهم واسباب بقائهم.
[78.7-8]
{ والجبال أوتادا وخلقناكم أزواجا } ذكرا وانثى حتى يستأنس بعضكم ببعض وليسكن ويمكن التناسل، او جعلناكم اصنافا لتعارفوا، وليرفع بعضكم حاجة بعض.
[78.9]
{ وجعلنا نومكم سباتا } اى راحة او قطعا عن الاعمال والمتاعب.
[78.10]
{ وجعلنا الليل لباسا } اى ساترا يستر كل عورة.
[78.11]
{ وجعلنا النهار معاشا } وقت تمتعكم او سبب ابتغاء معاشكم.
[78.12]
{ وبنينا فوقكم سبعا شدادا } لا يقبل الانثلام وببنائها وجعل الكواكب فيها يكون بقاؤكم وتعيشكم.
[78.13]
{ وجعلنا } اى خلقنا { سراجا وهاجا } لا يمكن وجودكم ولا بقاؤكم بدونه.
[78.14]
{ وأنزلنا من المعصرات } اى السحائب التى صارت معصورة اى متراكمة بالبرد والريح او الريح التى تكون معصرة للسحاب، او الرياح التى تكون ذوات الاعاصير الى الاغبرة فان الرياح تكون اسباب نزول المطر، وقد قرئ انزلنا بالمعصرات وهو يؤيد المعنى الاخير { مآء ثجاجا } سيالا الى مواضع زراعاتكم وروضاتكم وبه يكون حياتكم.
[78.15]
{ لنخرج به حبا } لارزاقكم وارزاق دوابكم { ونباتا } كذلك.
[78.16]
{ وجنات ألفافا } الالفاف الاشجار الملتفة واحدها لف بالكسر والفتح او بالضم وهو جمع لفاء فيكون الالفاف حينئذ جمع جمع.
[78.17]
{ إن يوم الفصل كان ميقاتا } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: اذا لم تهملهم بلا حساب وثواب وعقاب فهل لهم موعد لذلك؟ - او اذا لم تهملهم بلا ولى ورئيس فهل لظهور ذلك الولى موعد؟ - فقال: ان يوم الفصل كان موعدا لهم، والمراد بيوم الفصل يوم خروج الروح عن البدن، او يوم فصل المحق عن المبطل والناجى من الهالك.
[78.18-19]
{ يوم ينفخ في الصور } النفخة الاولى او النفخة الثانية { فتأتون أفواجا وفتحت السمآء فكانت أبوابا } أتى بالماضى اما لتحقق وقوعه او للاشعار بان السماء كانت من اول خلقته منفتحة منشقة يتراءى بحسب الانظار الظاهرة انها غير منفرجة فان كل ممكن زوج تركيبى منشق الى مهية ووجود ووجوب وامكان، ومعنى كونها ابوابا انها ابواب للملكوت كما ان سماوات عالم الارواح ابواب للغيب وفعله الذى هو عالم المشية.
[78.20]
{ وسيرت الجبال فكانت سرابا } يعنى ان الجبال تحسبها ثابتة وهى تمر مر السحاب باقتضاء التجدد الجوهرى، وكونها سرابا من جهة انها تتراءى جبالا عظيمة ثابتة جامدة وليست كذلك، وقد فسر الافواج فى خبر عن النبى (ص) باصناف من المعاقبين من اصناف المسيئين.
[78.21]
{ إن جهنم كانت مرصادا } رصده رقبه والمرصاد الطريق او المكان يرصد فيه العدو كأن الخزنة يرصدون فى جهنم اعداء اولياء الله والجملة جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: ما يفعل بهم بعد اتيانهم افواجا؟ -
[78.22]
{ للطاغين مآبا } طغى كرضى طغيا وطغيانا بالضم والكسر فيهما جاوز القدر وارتفع وغلا فى الكفر واسرف فى المعاصى والظلم، وطغا يطغو طغوا وطغوانا بضمهما.
[78.23]
{ لابثين فيهآ أحقابا } جمع الحقب بالضم والضمتين وهى ثمانون سنة او اكثر، والدهر والسنة او السنون، وقيل: المراد باللبث احقابا انه كلما مضى حقب جاء بعده حقب آخر، وقد فسر الحقب بثمانين سنة من سنى الآخرة، وقيل: ان الاحقاب ثلاثة واربعون حقبا كل حقب سبعون خريفا، كل خريف سبعمائة سنة، كل سنة ثلثمائة وستون يوما، كل يوم الف سنة، وقيل المعنى لابثين فيها احقابا موصوفة بانهم لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا، ثم يلبثون فيها يذوقون غير الحميم والغساق من انواع العذاب فهذا توقيت لانواع العذاب لا لمكثهم فى النار.
[78.24]
{ لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا } يعنى بردا ينفعهم من حر النار ولا شرابا ينفعهم من عطشهم، او المراد بالبرد النوم كما قيل { إلا حميما }.
[78.25]
{ إلا حميما } اى الماء الحار الشديد الحرارة { وغساقا } الغساق صديد اهل النار، او ما يخرج من صديد اهل النار.
[78.26]
{ جزآء وفاقا } مفعول له او وصف لحميما وغساقا، او مفعول مطلق لمحذوف اى يجازون جزاء، او يجزيهم الله جزاء موافقا لاعمالهم.
[78.27]
{ إنهم كانوا لا يرجون حسابا } اى لا يعتقدون حشرا وحسابا، او لا يخافون حسابا كما قيل.
[78.28-29]
{ وكذبوا بآياتنا } من حيث انها آيات واعظمها على (ع) { كذابا وكل شيء أحصيناه } ومن الاشياء التى احصيناه اعمالهم التى عملوها { كتابا } اى فى كتاب او حالكونه مكتوبا عندنا.
[78.30-31]
{ فذوقوا } بتقدير القول { فلن نزيدكم إلا عذابا إن للمتقين مفازا } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: هذا حال المكذبين بالنبأ العظيم فما حال المصدقين بالولاية؟ - والمفاز الفوز والنجاة، او محل الفوز، ويستعمل فى الهلاك والمهلك.
[78.32]
{ حدآئق وأعنابا } بساتين واثمارها لكن خصص العناب بالذكر لامتيازها من بين الاثمار.
[78.33]
{ وكواعب } اى جوارى ثديهن كاعبات { أترابا } مستويات فى السن يعنى كلهن فى اول البلوغ.
[78.34]
{ وكأسا دهاقا } ممتلئة او متتابعة.
[78.35]
{ لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا } قرئ بتشديد الذال بمعنى التكذيب وبتخفيف الذال بمعنى المكاذبة.
[78.36]
{ جزآء من ربك } لتشريفهم اصناف الجزاء ههنا الى الرب { عطآء حسابا } كافيا او على قدر اعمالهم.
[78.37]
{ رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن } قرئ رب السماوات، والرحمن بالجر والرفع { لا يملكون منه خطابا } منه حال من خطابا او ظرف لغو متعلق بلا يملكون اى لا يملكون مخاطبته او لا يملكون من اذنه مخاطبة ولا يقدرون ولا يؤذنون فيها.
[78.38]
{ يوم يقوم الروح } ظرف لواحد من الافعال السابقة او لقوله: لا يتكلمون، والروح ههنا عبارة عن رب النوع الانسانى الذى هو اعظم من جميع الملائكة ومقامه فوق مقام جميع الملائكة بل فوق عالم الامكان لم يكن مع احد من الانبياء (ع)، وكان مع محمد (ص) وبعده مع اوصيائه (ع) ويعبر عنه بروح القدس { والملائكة صفا } فى صف او حال كونهم مصطفين { لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال } فى الدنيا { صوابا } او قال عند الله صوابا.
[78.39]
{ ذلك اليوم الحق فمن شآء اتخذ إلى ربه مآبا } اى من شاء اتخذ الى ربه المضاف الى على (ع) مآبا، او من شاء اتخذ الى ربه المطلق مآبا، والمآب حينئذ هو الولاية واتباع على (ع).
[78.40]
{ إنآ أنذرناكم } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: ان كان ذلك اليوم الحق فما فعلت بهم لاجل ذلك اليوم؟ - فقال: انا انذرناكم { عذابا قريبا يوم ينظر المرء } بدل من عذابا نحو بدل الاشتمال او حال من عذابا { ما قدمت يداه } من خير او شر وهو يوم الموت او يوم القيامة الكبرى { ويقول الكافر } بالولاية { يليتني } اى يا قوم ليتنى { كنت ترابا } فى الدنيا فلم يكن لى حشر ونشر وحساب وعقاب، او ليتنى كنت ترابا فى هذا اليوم فلم يكن لى حساب، او ليتنى كنت ترابا قابلا لخلق الاشياء الاخر منى فان الكافر بسبب الفعليات السيئة الحاصلة فيه لا يكون قابلا لفعليات اخر منه فيتمنى ان يكون ترابا مستعدا لان يخلق فيه صور اخرى، وقيل بعد ما يحشر الخلائق فى صعيد واحد ويقتص من الظالم للمظلوم حتى للجماء من القرناء يقول الرب لغير الثقلين: انا خلقناكم وسخرناكم لبنى آدم وكنتم مطيعين لهم ايام حياتكم فارجعوا الى الذى كنتم كونوا ترابا، فاذا التفت الكافر الى ما صار ترابا يقول: يا ليتنى كنت على صورة شيء منها وكنت اليوم ترابا، وقيل: المراد بالكافر ابليس اذا رأى كرامة آدم وولده وقد عابه على كونه من طين يتمنى ان يكون اصله ترابا، او المراد بالكافر الكافر بالولاية فانه يتمنى ان يكون من شيعة على (ع) فانه روى عن ابن عباس انه سئل:
" لم كنى رسول الله (ص) عليا (ع) ابا تراب؟ - قال: لانه صاحب الارض وحجة الله على اهلها بعده وله بقاؤها واليه سكونها قال: ولقد سمعت رسول الله (ص) يقول: انه اذا كان يوم القيامة وراى الكافر ما اعد الله تبارك وتعالى لشيعة على (ع) من الثواب والزلفى والكرامة قال: يا ليتنى كنت ترابا اى من شيعة على (ع) "
وذلك قول الله عز وجل: { ويقول الكافر يليتني كنت ترابا }.
[79 - سورة النازعات]
[79.1]
{ والنازعات غرقا } اقسم تعالى شأنه بالنفوس المشتاقة الى اوطانها الحقيقية من نزع نزوعا اشتاق، او بالنفوس المرتدعة عن النفس وعلائقها من قولهم: نزع من الامر انتهى، التى تغرق فى الاهتمام بالسير الى الله، او فى بحار حبه، او فى بحار صفاته، او فى بحر الاحدية.
[79.2]
{ والناشطات نشطا } اى النفوس الناشطات الطيبات فى السير الى الله، او الناشطات فى الخروج من دار النفس، او الخارجات من دار النفس الى دار القلب، او المراد بالنازعات ملائكة العذاب تنزع ارواح الكفار، وبالناشطات ملائكة الرحمة تخرج ارواح المؤمنين برفق، او المراد بالنازعات النجوم تنزع من مطالعها وتغرق فى مغاربها، والناشطات النجوم التى تخرج من برج الى برج، او المراد بالنازعات القسى تنزع بالسهم، والمراد بالناشطات الخيل السمينة فى الجهاد، او المراد بالنازعات النفوس المشتاقة الى الله، وبالناشطات النفوس المسرعة فى الخروج عند الموت.
[79.3]
{ والسابحات سبحا } النفوس السابحة فى بحار اوصافه تعالى، او الجارية المسرعة الى الله، او الملائكة الذين يسرعون فى امر الله من غير تأمل وتوان كالسابح فى الماء، او الملائكة الذين يسبحون ارواح المؤمنين يسلونها سلا رقيقا ثم يدعونها حتى تستريح كالسابح بالشيء فى الماء، او الملائكة الذين ينزلون من السماء الى الارض باسراع كما يقال للفرس الجواد سابح، او النجوم التى تسبح فى فلكها، او خيل الغزاة تسبح فى عدوها.
[79.4]
{ فالسابقات سبقا } الملائكة الذين سبقوا ابن آدم بالخير، او سبقوا الشيطان فى حفظ ابن آدم منه، او سبقوا الشيطان بالوحى الى الانبياء (ع)، او الذين سبقوا بأرواح المؤمنين الى الجنة، او النفوس البشرية التى تسبق سائر النفوس فى الذهاب الى الله او القرب منه، او التى تسبق الملائكة فى المرتبة، او التى تسبق ملك الموت فى الخروج الى الله شوقا اليه، او النجوم التى يسبق بعضها بعضا فى السير، او خيل الغزاة يسبق بعضها بعضا.
[79.5]
{ فالمدبرات أمرا } اى الملائكة المدبرة امر اهل الارض، او الرؤساء من الغزاة يدبرون امر الجنود والجهاد، او النفوس الكاملة الراجعة من السير الى الله فى السير الى العباد لتكميلهم، او النفوس السالكة المدبرة امر السير الى الله دون المجذوبة اليه من غير سلوك، او النجوم المدبرة امر العالم، وعطف الاخيرين بالفاء للاشعار بشرافة الصفتين او الصنفين، وجواب القسم محذوف بقرينة الاتى كأنه قال: لتبعثن.
[79.6]
{ يوم ترجف الراجفة } ظرف للمدبرات امرا، او لمحذوف هو جواب القسم اى لتبعثن يوم ترجف الراجفة، او لقوله تعالى: { تتبعها الرادفة } ، او لقوله تعالى: { واجفة } ، ويكون يومئذ تأكيدا له او لاذكر او ذكر مقدرا ورجف بمعنى حرك وتحرك واضطرب شديدا، ورجفت الارض زلزلت، والمراد بالراجفة النفخة الاولى.
[79.7]
{ تتبعها الرادفة } اى النفخة الثانية والجملة استيناف جواب لسؤال مقدر سواء جعل يوم ترجف الراجفعة متعلقا به، او لم يجعل او حال.
[79.8]
{ قلوب يومئذ واجفة } مضطربة.
[79.9]
{ أبصارها } اى ابصار القلوب { خاشعة } وفى اضافة الابصار الى القلوب اشعار بان ابصار الابدان تصير فى ذلك اليوم متعطلة.
[79.10]
{ يقولون } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: ما يقولون فى حق هذا اليوم؟ - فقال: ينكرونها ويقولون { أإنا لمردودون في الحافرة } اى فى اول حالنا يعنى فى الحياة الثانية المشابهة للحياة الاولى، والحافرة الخلقة الاولى، والعود فى الشيء حتى يرد آخره على اوله.
[79.11]
{ أإذا كنا عظاما نخرة } بالية متفتتة.
[79.12]
{ قالوا تلك } الكرة { إذا كرة خاسرة } يعنى خاسر اهلها يعنى قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء، او على سبيل الفرض والشك.
[79.13]
{ فإنما هي } اى الكرة او الرجعة { زجرة واحدة } اى صيحة واحدة لان الزاجر للشيء فى الاغلب يكون زجرة بصياحة وللاشارة الى سهولتها عليه تعالى وسرعة خروجهم من القبور بالصيحة اطلق الصيحة الى الرجعة ووصفها بالواحدة.
[79.14]
{ فإذا هم } من القبور { بالساهرة } اى على وجه الارض، وقيل: الساهرة موضع بالشام.
[79.15]
{ هل أتاك حديث موسى } جواب لسؤال مقدر كأنه قال: ما افعل بهؤلاء المنكرين المكذبين؟ - وما تفعل انت بهم؟ - فقال: افعل بهم ما فعل موسى (ع) بفرعون وقومه، ونفعل بهم ما فعلنا بفرعون وقومه، فلا تكن فى ضيق مما يمكرون فان لك عليهم سلطانا كما لموسى (ع) على قوم فرعون.
[79.16-18]
{ إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى اذهب } حال بتقدير القول او مستأنف جواب لسؤال مقدر بتقدير القول { إلى فرعون إنه طغى فقل هل لك } ميل { إلى أن تزكى } اى تتطهر مما انت فيه من الشرك والذنوب او تتنعم، او تنمو فيما انت فيه من العز والسلطنة، وهذا تعليم لموسى (ع) كيف يتكلم له بالقول اللين.
[79.19]
{ وأهديك إلى ربك فتخشى } فحصل لك مقام الخشية التى هى للعالم بالله.
[79.20]
{ فأراه } اى فأتاه ودعاه بالملاينة معه فأريه { الآية الكبرى } التى هى الثعبان او اليد البيضاء.
[79.21]
{ فكذب وعصى } فى حضوره.
[79.22]
{ ثم أدبر } عنه طلبا لما يكسر به آيته ظنا منه ان آيته سحر { يسعى } يجهد فى طلب ما يكسر به حجته، او يسعى فى الافساد فى الارض.
[79.23-24]
{ فحشر } قومه وجنوده واهل مملكته { فنادى فقال أنا ربكم الأعلى } عطف على نادى عطف التفصيل على الاجمال وكان مقصوده من هذا التمويه على العوام وانكار ان يكون فوقه رب سواه، وقيل: كان مقصوده ان الاصنام ارباب لكم وانا ربكم ورب الاصنام.
[79.25]
{ فأخذه الله نكال الآخرة والأولى } نكال مفعول مطلق من غير لفظ الفعل، او منصوب بنزع الخافض اى اخذه الله بنقمة لائقة لكلمته الآخرة التى هى قوله: انا ربكم الاعلى، والاولى التى هى قوله:
ما علمت لكم من إله غيري
[القصص:38] فان الكبرياء والانانية كانت رداءه تعالى فمن نازعه فى ردائه اخذه اخذا شديدا، وكان بين الكلمتين كما عن ابى جعفر (ع) اربعون سنة.
[79.26]
{ إن في ذلك لعبرة } واتعاظا { لمن يخشى } الله تعالى بالغيب وكان فى مقام العلم وقد خرج من مقام الظن الذى كان لاصحاب النفوس ولم يصل الى مقام الشهود.
[79.27]
{ أأنتم أشد خلقا } عظما واتقانا وادامة { أم السمآء } يعنى ان خلقكم ابتداء اضعف من خلق السماء وقد خلقكم وخلق السماء فكيف يكون عاجزا عن خلقكم ثانيا { بناها } جواب لسؤال مقدر او حال.
[79.28]
{ رفع سمكها } اى جهتها المرتفعة { فسواها } اى اتمها بجميع ما فيها وجميع ما فيه مصالح العباد.
[79.29]
{ وأغطش ليلها } اى جعل ليلها مظلما { وأخرج } من الليل او اظهر { ضحاها } ونسبة الليل والضحى الى السماء لكونها مبدأهما وهذه الجمل تفصيل لسويها فان تتميمها يكون بما ذكر بعدها.
[79.30]
{ والأرض بعد ذلك دحاها } اى بعد بناء السماء ورفع سمكها واظلام ليلها واخراج ضحيها، ودحو الارض عبارة عن بسطها.
اعلم، انه لا تقدم لسماء العالم الكبير على ارضها، وما ورد فى الآيات والاخبار مشعرا بتقدم خلق الارض على السماء او تقدم السماء على الارض فمؤل لانه ليس بين الارض والسماء علية لعدم جواز العلية بين الاجسام كما قرر فى محله ولذلك قيل: المراد بقوله تعالى بعد ذلك مع ذلك اى الارض مع بناء السماء دحاها فليكن المراد بدحو الارض بسطها بتوليد مواليدها، فان مرتبة المواليد فى الخلقة بعد مرتبة العناصر والسماوات، او ليكن بعد بمعنى مع كما قيل: او ليكن المقصود من الارض والسماء ما فى العالم الصغير فان سماءه بوجه مقدمة على ارضه وبوجه مؤخرة.
[79.31-32]
{ أخرج منها مآءها ومرعاها والجبال أرساها } اى اثبتها فى اوساط الارض لتوليد المعادن فيها وانبات النبات والاشجار التى لا تنبت الا فيها وسهولة اجراء المياه من تحتها والعيون على سفحها.
[79.33]
{ متاعا لكم ولأنعامكم } اى حالكونها اشياء تتمتعون بها فى معاشكم او لتمتعكم وتمتع انعامكم فقوله متاعا حال او منصوب بنزع الخافض وليس مفعولا له لعدم اتحاد مرفوعه مع مرفوع عامله، او هو مفعول مطلق لفعل محذوف.
[79.34]
{ فإذا جآءت الطآمة الكبرى } يعنى اذا كان خلق السماء اشد من خلقكم ابتداء، وخلقكم ثانيا اسهل من خلقكم ابتداء فلا مانع من خلقكم ثانيا وقد اخبركم به فهو محقق لا محاله فاذا جاءت القيامة، سميت بالطامة الداهية التى تغلب ما سواها والقيامة داهية تغلب جميع الدواهى.
[79.35]
{ يوم يتذكر الإنسان ما سعى } اى ما عمله فان يوم القيامة يوم الذكر ودار الآخرة دار الذكر فيتذكر الانسان فيها جميع ما عمله بمعنى انه يرى آثاره على نفسه ويشاهدها ويشاهد جزاءها.
[79.36]
{ وبرزت الجحيم لمن يرى } اى لمن يراها اى لمن كان من شأنه رؤيتها فان منهم من لا يراها اصلا وليس من شأنه رؤيتها.
[79.37]
{ فأما من طغى } طغى يطغو من باب نصر وطغى يطغى من باب منع خرج من الطاعة.
[79.38]
{ وآثر الحياة الدنيا } على الحياة الآخرة.
[79.39]
{ فإن الجحيم هي المأوى } اى مأواه.
[79.40]
{ وأما من خاف مقام ربه } عن مقامه عند ربه او قيام ربه للحساب، او محل قيام ربه للحساب، او تمكن ربه وقدرته عند الحساب { ونهى النفس } اى نفسه { عن الهوى } اى هواها.
[79.41-42]
{ فإن الجنة هي المأوى يسألونك عن الساعة } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل بعد ما سجل عليهم قيام الساعة: ما يقولون فيها؟ - فقال: يسألونك عن وقتها، او استفهام بتقدير حرف الاستفهام { أيان مرساها } اى متى يكون ثباتها.
[79.43]
{ فيم أنت من ذكراها } تفخيم لامرها ونفى لعلمه (ص) بها تأكيدا فى اخفائها.
[79.44]
{ إلى ربك منتهاهآ } يعنى ان الساعة منتهاها الرب فان كنت تقدر على معرفة الرب تقدر على معرفتها، او المعنى الى ربك المضاف وظهوره منتهى وقت الساعة يعنى ان الساعة اى وقت القيام عند الله من اول الموت الى ظهور ربك عليك، وحين ظهور الرب يكون تمام القيام عند الله سواء كان الموت اختياريا او اضطراريا ولذلك فسرت الساعة تارة بظهور القائم (ع) وتارة بالقيامة وتارة بالرجعة وتارة بالموت، فان الكل بعد طى البرازخ اختيارا او اضطرارا ينتهى الى على (ع) فان آيات الخلق اليه وحسابهم عليه ورجوعهم اليه (ع) وهو قيامتهم وهو رجعتهم سواء جعل المراد بالرجعة الرجعة الى الصحو بعد المحو، او الى القوى والجنود بعد الفناء عنها، او الرجعة الى الآخرة وهو ظاهر، او الرجعة الى الدنيا فانه بعد رجوعهم الى امامهم كان اول رجعتهم الى الدنيا والى المراتب الدانية التى كانوا مدبرين معرضين عنها، وبعد ما نفى علمه بالساعة حصر شأنه فى الانذار تأكيدا لنفى علمه بالساعة فقال { إنمآ أنت منذر من يخشاها }.
[79.45]
{ إنمآ أنت منذر من يخشاها } يعنى محصور شأنك فى انذار من كان عالما بها وباهوالها لا ينفع انذارك لغيرهم ولا شأن لك سوى ذلك الانذار.
[79.46]
{ كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها } وهذا جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: فما كان حالهم فى الساعة؟ - فقال: كانوا حين يرونها كأنهم لم يلبثوا فى الساعة الا آخر النهار او اوله حتى اخرجوا الى النار، او كأنهم لم يلبثوا فى الدنيا لصغر الدنيا فى اعينهم او لشدة اهوالهم الا ساعة من النهار.
[80 - سورة عبس]
[80.1]
{ عبس وتولى } قيل: نزلت الآية فى عبد الله بن ام مكتوم كان اعمى وذلك انه جاء الى رسول الله (ص) وعنده جمع من صناديد قريش يدعوهم الى الاسلام وفى رواية كان عنده عتبة بن ربيعة وابو جهل والعباس وأبى وامية ابنا خلف يدعوهم الى الله ويرجو اسلامهم فقال: يا رسول الله (ص) اقرأنى وعلمنى مما علمك الله فجعل يناديه ويكرر النداء ولا يدرى انه مشتغل بغيره، فظهرت الكراهة فى وجه رسول الله (ص) ويقول فى نفسه: يقول هؤلاء الصناديد انما اتباعه العميان والعبيد فأعرض عنه وأقبل على القوم وكان رسول الله (ص) بعد ذلك يكرمه ويقول: مرحبا بمن عاتبنى فيه ربى، وروى عن الصادق (ع): ان المراد كان رجلا من بنى امية كان عند النبى (ص) فجاء ابن ام مكتوم فلما رآه تقذر منه وجمع نفسه واعرض عنه فحكى الله سبحانه ذلك وأنكره عليه، وعن القمى انها فى عثمان وابن ام مكتوم وكان مؤذنا لرسول الله (ص) وجاء الى رسول الله (ص) فقدمه رسول الله (ص) على عثمان فعبس عثمان وجهه وتولى عنه.
[80.2-3]
{ أن جآءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى } يتطهر او يصلح فى اعماله كمال الصلاح او ينمو فى دينه وايمانه.
[80.4]
{ أو يذكر } اى يتذكر ان لم يكن يزكى { فتنفعه الذكرى } حتى يسلم بعد او ينتفع بها حين موته.
[80.5]
{ أما من استغنى } فى ماله او استغنى عن الاسلام.
[80.6]
{ فأنت له تصدى } تتعرض.
[80.7]
{ وما عليك ألا يزكى } ولا بأس عليك فى ان لا يتطهر ذلك الغنى او اى شيء يرد عليك فى ان لا يزكى، او ليس عدم تزكيته وبالا عليك، وقال القمى: المعنى لا تبالى ازكيا كان او غير زكى اذا كان غنيا.
[80.8]
{ وأما من جآءك يسعى } فى طلب الدين وازدياد ايمانه.
[80.9]
{ وهو يخشى } ربه بالغيب.
[80.10]
{ فأنت عنه تلهى } وقد استبعد بعض العلماء كون الآيات فى رسول الله (ص) لبعد مقامه عن العبوس والتولى عن الاعمى، وعلو رتبته عن ان يصير معاتبا بمثل هذا العتاب، اقول: لو كانت الآيات فيه (ص) والعتاب له لم يكن فيه نقص لشأنه ولم يكن منافيا لما قاله تعالى فى حقه من قوله: انك لعلى خلق عظيم فان اقباله (ص) وادباره وعبوسه واستبشاره كان لله فان عبوسه ان كان لمنع الاعمى عن نشر دين الله واستماع كلماته لاعداء الله واعداء دينه وتقريبهم الى دينه لم يكن فيه نقص فيه وفى خلقه، واما امثال العتاب له (ص) فانها تدل على تفخيمه والاعتداد به فان كلها كانت باياك اعنى واسمعى يا جارة فالخطاب والعتاب يكون لغيره لا له، وكذا زريه تعالى له (ص) بالعبوس والتولى يكون متوجها الى غيره فى الحقيقة.
[80.11]
{ كلا } ردع له عن مثله { إنها تذكرة } اى القرآن، وتأنيث الضمير لمطابقة المسند او الرسالة تذكرة فليس لك ان تكون حريصا على قبولهم او ولاية على (ع) تذكرة.
[80.12]
{ فمن شآء ذكره } اى القرآن او شأن الرسالة او الولاية.
[80.13]
{ في صحف مكرمة } حال او خبر بعد خبره، ويجوز ان يكون ظرفا لغوا متعلقا بقوله تعالى ذكره، والمراد بالصحف المكرمة الالواح العالية، او الاقلام العالية، التى هى العقول الطولية او العرضية او صحف قلوب الانبياء (ع) ونفوسهم.
[80.14]
{ مرفوعة } عن نيل الايدى الناقصة { مطهرة } عن نقائص المادة وسؤاتها.
[80.15]
{ بأيدي سفرة } جمع السافر بمعنى الكاتب، او المراد الملائكة الذين كانوا سفراء بينه وبين انبيائه (ع).
[80.16]
{ كرام بررة } بارين الى الانبياء (ع)، او الى الخلائق، او محسنين فى انفسهم مطيعين لامر ربهم.
[80.17]
{ قتل الإنسان } دعاء على الانسان المطلق بسبب شأنه الذى اودعه الله فيه من كفران النعمة، او الكفر بالله، او الرسول (ص) او الولاية، وجواب لسؤال مقدر كأنه قيل: ما حال الانسان مع ما جعلته تذكرة من القرآن او شأن الرسالة او الولاية؟ - فقال: قتل الانسان { مآ أكفره } يعنى حاله شدة الكفران او الكفر، والصيغة للتعجب او مركبة من لفظة ما الاستفهامية والفعل الماضى من باب الافعال، ويجوز ان يكون المقصود من قوله ما اكفره ما اكفره بعلى (ع).
[80.18]
{ من أي شيء خلقه } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: هل له ما يدله على الآلهة او الرسالة او الولاية او البعث؟ - فقال: { من أي شيء خلقه } حتى يعلم ان ذلك حق فالاستفهام للتقرير.
[80.19]
{ من نطفة خلقه } يعنى خلقه من نطفة ضعيفة الوجود لا تحفظ صورته بنفسه آنين قذرة منتنة ادل دليل على المبدء والرسالة والولاية والبعث { فقدره } بحسب اعضائه واجزائه ومقدار طوله وعرضه قدرا يليق بشأنه ويتمشى منه الافعال المترقبة منه بسهولة.
[80.20-21]
{ ثم السبيل } اى سبيل الخروج من بطن امه، او سبيل السلوك لطلب معيشة، او سبيل السلوك الى الله وطلب معاده، او سبيل السلوك من الدنيا الى الآخرة بالموت الاضطرارى { يسره ثم أماته } عن صورة وفعلية ينبغى ان تطرح { فأقبره } فى صورة اخرى الى ان اماته عن جميع الصور بالموت الاختيارى او الاضطرارى فأقبره فى القبر الترابى وفى الصور البرزخية والمثالية.
[80.22]
{ ثم إذا شآء أنشره } من قبره.
[80.23]
{ كلا } ردع للانسان عن ترقب رؤية ما ذكره من النشر { لما يقض مآ أمره } اى لما يقض ذلك الانسان ما امره الله من اخلاص العبادة واتمام العبودية حتى يشاهد ما يتمنى شهوده من النشر والحساب والعقاب، او لما يقض الانسان ما امره الله تعالى به من الاوامر الشرعية القالبية حتى يشاهد آثار الالهة او الرسالة او الولاية، او يشاهد نشر العباد وحسابهم من طريق باطنه، او لما يقض الله ما امره وقدره من حشر الخلائق ونشرهم وحسابهم وثوابهم وعقابهم حتى يشاهدوا ما نقول من نشر الخلائق.
[80.24]
{ فلينظر الإنسان } الى الاسباب والمسببات ويشاهد كيفية ترقيها وترتبها ووصولها الى غاياتها ومسبباتها حتى يعلم بعلم اليقين ان لها الها وان له رسولا واماما، وان الانسان ينتهى فى تقلباته الى ان خرج من قشره وقالبه، ووصل الى لبه وقلبه، والى حسابه وربه فلينظر من جملة الاسباب والمسببات { إلى طعامه } الصورى والمعنوى.
[80.25]
{ أنا صببنا المآء } من السحب { صبا } عجيبا يكون بقدر الحاجة وليس كثيرا بحيث يستضرون به ولا فى غير وقت الحاجة.
[80.26]
{ ثم شققنا الأرض شقا } بانبات النبات والاشجار.
[80.27]
{ فأنبتنا فيها حبا } نباتا ذا حب.
[80.28]
{ وعنبا } خصه من بين الفواكه لكثرة منافعه { وقضبا } القضب جمع القضبة وهى ما اكل من النبات المقتضب غضا.
[80.29]
{ وزيتونا } شجر الزيتون { ونخلا } تخصيصهما من بين الاشجار بالذكر لكثرة منافعهما كالعنب.
[80.30]
{ وحدآئق غلبا } جمع الغلباء الحديقة المتكاثفة.
[80.31]
{ وفاكهة } وسائر انواع الفواكه { وأبا } الكلأ والمرعى وما انبتت الارض.
[80.32]
{ متاعا } هو بمعنى التمتيع او بمعنى التمتع مفعول له او منصوب بنزع الخافض او مفعول مطلق لمحذوف هو حال، او بمعنى ما يتمتع به فيكون حينئذ حالا { لكم ولأنعامكم } فكيف نهملكم بعد ما بلغناكم من ادنى مراتب وجودكم وهو مقام كونكم نطفة قذرة الى اعلى مقاماتكم وهو مقام روحانيتكم ومشاركتكم للملائكة بل نبعثكم الى عالم اعلى من عالمكم.
[80.33]
فإذا جآءت الصآخة } الصخ الضرب بشيء صلب على مصمت، والصاخة صيحة تصم الاسماع لشدتها والقيامة والداهية، والكل مناسب ههنا.
[80.34]
{ يوم يفر المرء من أخيه } يوم الموت او يوم القيامة الكبرى.
[80.35-38]
{ وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرىء منهم يومئذ } تأكيد ليوم يفر المرء من اخيه وهو متعلق بيغنيه او يوم يفر المرء من اخيه ظرف لجاءت او لمحذوف اى اذكر ويومئذ متعلق بيغنيه { شأن يغنيه وجوه يومئذ مسفرة } مشرقة.
[80.39]
{ ضاحكة مستبشرة } لما رأته مما اعد الله لها.
[80.40]
{ ووجوه يومئذ عليها غبرة } الغبرة محركة الغبار.
[80.41]
{ ترهقها قترة } تغشيها كدرة وسواد من هول القيامة والقتر والقترة محركتين والقترة بالفتح والسكون الغبار او التلطخ بالغبار، وقيل: الغبرة ما انحط من السماء الى الارض، والقترة ما ارتفعت من الارض الى السماء، وهذا مناسب لتأدية اللفظين بقوله: عليها غبرة ترهقها قترة.
[80.42]
{ أولئك هم الكفرة } فى علومهم { الفجرة } فى اعمالهم فهم الناقصون فى قوتيهم العلامة والعمالة.
[81 - سورة التكوير]
[81.1]
{ إذا الشمس كورت } التكوير التلفيف على التدوير والصرع، كوره صرعه، وكور المتاع جمعه وشده، والتكور التقطر والتشمر والسقوط، والكل مناسب ههنا، والمراد بوقت تكوير الشمس وقت الموت وظهور آثار الآخرة، او وقت القيامة الكبرى.
[81.2]
{ وإذا النجوم انكدرت } بذهاب ضوئها.
[81.3]
{ وإذا الجبال سيرت } باندكاكها وانتثارها او بسيرها فى الاصقاع فانك ترى الجبال تحسبها جامدة وهى تمر مر السحاب بتجددها فى جوهرها، وهكذا حال جبال الانيات.
[81.4]
{ وإذا العشار } جمع العشراء وهى الناقة التى اتت عليها من حملها عشرة اشهر، وتسمى بهذا الاسم بعد وضعها وهى انفس مال عند العرب { عطلت } واهملت بلا راع.
[81.5]
{ وإذا الوحوش حشرت } اى وحوش العالم الصغير عند الموت ووحوش العالم الكبير فى القيامة.
[81.6]
{ وإذا البحار سجرت } سجر التنور احماه، والنهر ملأه والماء فى حلقه صبه، والمسجور البحر، وتسجير الماء تفجيره، فقيل: المعنى اذا البحار ارسل مالحها على عذبها، وعذبها على مالحها حتى امتلأت، وقيل: فجر بعض فى بعض فصارت البحور بحرا واحدا، وقيل: اوقدت فصارت المياه نيرانا، وقيل: يبست وذهب ماؤها فلم يبق فيها قطرة، وقيل: ملأت من القيح والصديد الذى يسيل من ابدان اهل النار فى النار.
[81.7]
{ وإذا النفوس زوجت } كل من سنخه من الاناسى والشياطين، او مع الملك والحور العين والجنة والشياطين، او كل مع بدنه المناسب له، او كل مع جزاء عمله فى الآخرة.
[81.8]
{ وإذا الموءودة سئلت } الموؤدة الجارية المدفونة حيا، كانوا يدفنون البنات حيا خوفا من لحوق العار، كانوا يقولون: انها يسبين فيتزوجن فى غير اهلهن، او خوفا من العيلة، وقيل: كانت المراة اذا حان وقت ولادتها حفرت حفرة وقعدت على رأسها، فان ولدت بنتا رمت بها فى الحفرة.
[81.9]
{ بأى ذنب قتلت } والمقصود انه يسئل عن الموؤدة نفسها او يسئل القاتلون عن حالها.
[81.10]
{ وإذا الصحف نشرت } اى صحف الاعمال نشرت للحساب والجزاء.
[81.11]
{ وإذا السمآء كشطت } ازيلت عن موضعها.
[81.12]
{ وإذا الجحيم سعرت } اوقدت حتى ازدادت شدة على شدة.
[81.13]
{ وإذا الجنة أزلفت } قربت من اهلها للدخول فيها او قربت ليشاهدها المؤمنون فيزداد سرورهم.
[81.14]
{ علمت نفس مآ أحضرت } النفس فى معنى الجنس الحاصل فى عموم الافراد مثل قولهم تمرة خير من جرادة، وما استفهامية معلق عنها الفعل او موصولة، او المراد بنفس فرد عظيم فى النكارة لا يمكن ان يعرف وهو نفس الثانى.
[81.15]
{ فلا أقسم } لا زائدة او جوابية او نافية، والمعنى لا اقسم لعدم الحاجة الى القسم لوضوح المقسم عليه { بالخنس } الخنس الكواكب كلها او السيارة، او النجوم الخمسة السيارة غير النيرين، وخنوسها عبارة عن غيبوبتها تحت الافق او تحت ضوء الشمس.
[81.16]
{ الجوار } السيارات كجريان السفن فى البحار { الكنس } اى المتواريات فى البروج، وقيل: خنوسها اختفاءها بالنهار تحت ضوء الشمس، وكنوسها انها تغيب فى الافق وقت غروبها.
[81.17]
{ والليل إذا عسعس } اى اذا ادبر او اقبل، فان العسعسة من الاضداد تستعمل فى الادبار والاقبال.
[81.18]
{ والصبح إذا تنفس } شبه امتداد الشفق بتنفس الانسان.
[81.19]
{ إنه لقول رسول كريم } اى القرآن ليس من عند نفس محمد (ص) بل هو قول جبرئيل او قرآن ولاية على (ع)، او نصبه بالخلافة والولاية قول جبرئيل الذى هو رسول من الله الى الانبياء (ع) وله الكرامة عند الله.
[81.20-21]
{ ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع } فى الملائكة او فى جملة المخلوقات لانه فى العالم الكبير بمنزلة النفس الانسانية فى العالم الصغير { ثم أمين } على وحى الله ومدائن علمه، وروى عن الصادق (ع) فى قوله { ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع } انه قال يعنى جبرئيل قيل: قوله { مطاع ثم أمين } قال يعنى رسول الله (ص) هو المطاع عند ربه الامين يوم القيامة.
[81.22]
{ وما صاحبكم بمجنون } عن الصادق (ع) يعنى النبى (ص) فى نصبه امير المؤمنين (ع) علما للناس.
[81.23]
{ ولقد رآه } اى رأى القرآن او قرآن ولاية على (ع) او جبرئيل او عليا (ع) { بالأفق المبين } وهو افق عالم الغيب.
[81.24]
{ وما هو على الغيب بضنين } اى بخيل حتى يكتمه ولا يظهره عليكم، وقرئ بالظاء المؤلف بمعنى المتهم من الظنة بالكسر بمعنى التهمة، وروى عن الصادق (ع) انه قال: وما هو تبارك وتعالى على نبيه (ص) بغيبه بضنين عليه.
[81.25-26]
{ وما هو بقول شيطان رجيم فأين تذهبون } عن على (ع).
[81.27]
{ إن هو } اى القرآن او على (ع) { إلا ذكر للعالمين } وعن الصادق (ع) انه قال: أين تذهبون فى على { إن هو إلا ذكر للعالمين } لمن اخذ الله ميثاقه على ولايته.
[81.28]
{ لمن شآء منكم } بدل من قوله للعالمين بدل البعض من الكل { أن يستقيم } فى طاعة على (ع) والائمة من بعده كما عن الصادق (ع)، او يستقيم فى افعاله واقواله واحواله واخلاقه اى يتمكن على الصدق فيها.
[81.29]
{ وما تشآءون إلا أن يشآء الله رب العالمين } روى عن الكاظم (ع) ان الله جعل قلوب الائمة موردا لارادته فاذا اراد الله شيئا شاؤه وهو قوله تعالى: { وما تشآءون إلا أن يشآء الله رب العالمين } وقد مضى بيان هذه العبارة فى سورة الدهر بطريق الاجمال.
[82 - سورة الإنفطار]
[82.1]
{ إذا السمآء انفطرت } انشقت مثل قوله تعالى: { ويوم تشقق السمآء بالغمام }.
[82.2]
{ وإذا الكواكب انتثرت } تفرقت بالتساقط عن محلها.
[82.3]
{ وإذا البحار فجرت } انفجر الماء وتفجر سال، وفجره من الثلاثى المجرد وفجره من التفعيل اساله، والمراد سيلان البحار بعضها فى بعضها، او سيلان مائها بحيث لم يبق فيها ماء.
[82.4]
{ وإذا القبور بعثرت } بعثر نظر وفتش، وبعثر الشيء فرقه وقلب بعضه على بعض واستخرجه وكشفه وأثار ما فيه، وبعثر الحوض هدمه وجعل اسفله اعلاه، والمراد وقت الموت او وقت البعث.
[82.5]
{ علمت نفس ما قدمت وأخرت } قد سبق هذه العبارة فى اول سورة التكوير وقد سبق معنى التقديم والتأخير فى سورة القيامة عند قوله تعالى: ينبؤا الانسان يومئذ بما قدم وأخر.
[82.6]
{ يأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم } التوصيف بالكرم تهكم به حيث يقول المغترون به تعالى: ان الله كريم فيقول تبارك وتعالى: ان الله كريم لكنك ما عملت ما استحققت به كرمه، او المنظور تلقينه حجة غروره كأنه قال: ما غرك بربك غير كرمه والمقصود انك ما فعلت فعلا لائقا لكرمه حتى يعمك كرمه.
[82.7]
{ الذي خلقك فسواك } بخلق جميع ما تحتاج اليه فى معاشك ومعادك. { فعدلك } جعلك معتدلا فى بدنك ونفسك لم يجعل قامتك طويلة بحيث لا يمكنك تحصيل مأكولها ومشروبها وملبوسها ومسكونها، ولا قصيرة بحيث لا يتمشى منها بعض الافعال المترقبة منها، وجعل اعضاءك متوافقة كلا مع الآخر والكل مع البدن والنفس.
[82.8]
{ في أى صورة ما شآء ركبك } اى شرطية وما زائدة لتأكيد الابهام، وشاء فعل الشرط وركبك جزاء الشرط، او اى شرطية وما شرطية بدل منها او فى اى صورة استفهام تفخيمى وما شاء ركبك جملة شرطية، او اى استفهامية للتفخيم وما زائدة لتأكيد الابهام والتفخيم، وشاء صفة صورة بتقدير العائد وركبك مستأنفة متعلقة للظرف والمراد بالصورة المركوبة الصورة البدنية من الحسن والقبيح، والطويل والقصير، والذكر والانثى، والابيض والاسود، او الصورة النفسية والاخلاق الباطنية، او الصورة التى هى الفعلية الاخيرة من الفعليات العلوية الملكوتية او السفلية الملكوتية.
[82.9]
{ كلا } ردع عن الاغترار بالكرم { بل تكذبون بالدين } اضراب عن الاغترار بكرمه وبيان لاغترارهم بأمانيهم وتكذيبهم بالدين اى الجزاء او ولاية على (ع) او شريعة محمد (ص).
[82.10-11]
{ وإن عليكم لحافظين } حال عن الدين وقيد للدين المكذب به فيكون هو ايضا مكذبا به او حال عن الفاعل وقيد للتكذيب { كراما كاتبين }.
[82.12]
{ يعلمون ما تفعلون } توصيف للحافظين تفخيما لامر الجزاء والحساب والعقاب فاذا كانوا يعلمون ما تفعلون فلا تجترؤا على معصية الله.
[82.13]
{ إن الأبرار لفي نعيم } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل : اذا كان علينا حافظون فما حالنا فى الآخرة؟ - فقال: { إن الأبرار لفي نعيم }.
[82.14-15]
{ وإن الفجار لفي جحيم يصلونها } يتقاسون حرها { يوم الدين } اى يوم الجزاء.
[82.16]
{ وما هم عنها بغآئبين } يعنى انهم حاضرون فيها فى هذه الدنيا وان كانت هى غائبة عنهم فيها، او المعنى ما هم فى الآخرة عن الجحيم بغائبين حتى يفوتونها، او المعنى ما هم عنها فى الآخرة غائبون زمانا ما بل يكونون ابدا فيها.
[82.17]
{ ومآ أدراك ما يوم الدين } تفخيم لشأن ذلك اليوم وانه لا يمكنك معرفته.
[82.18]
{ ثم مآ أدراك ما يوم الدين } تأكيد لذلك التفخيم.
[82.19]
{ يوم لا تملك نفس لنفس شيئا } قرئ برفع يوم لا تملك على انه بدل من يوم الدين او خبر لمحذوف او مبتدء لمحذوف { والأمر يومئذ لله } لا امر لاحد لا فى نفس الامر ولا بحسب الظن والتخمين كما فى الدتيا، او المعنى يظهر ان الامر يومئذ لله.
[83 - سورة المطففين]
[83.1]
{ ويل للمطففين } الطفيف القليل والناقص من الشيء، والمطفف كما فسرته الآية هو الذى يعطى اقل من الوزن او الكيل الذى وقع البيع عليه ويأخذ بأكثر مما وقع البيع عليه، فانه ايضا تقليل فى الثمن فالتطفيف لا يكون الا فى المعاملات، والمعاملات تكون بين الشخص وبين الله، او بينه وبين من فوقه فى الدين مثل امامه واخوانه الذين سبقوه بالايمان، او تكون بين الشخص ومن تحت يده من اهله واولاده وخادمه وخادمته، او بينه وبين من كان مساويا له فى الدين او فى الدنيا كسائر المؤمنين من عشائره وغيرهم، او بينه وبين من كان ادون منه كسائر فرق المسلمين، وجميع انواع الكفار، وايضا تكون المعاملات اما فى الاموال والاعراض الدنيوية او فى الافعال والآداب البدنية، او فى الاحوال والاغراض والاخلاق النفسية، او فى العلوم والعقائد القلبية ولكل من العباد وسائر افراد الحيوان حق عليك لا بد ان تؤديه وافيا ولك على كل حق لا بد ان يؤدوه وافيا، فان كنت لا توفى الحق الذى عليك كنت مطففا، وان كنت تطلب منهم اكثر من حقك الذى عليهم كنت مطففا فانظر الى حالك مع ربك ومع خلقه حتى لا تكون مطففا، هيهات هيهات!. كيف نخرج من التطفيف ونطلب من الله ما لا نقدر على اداء شكر عشر من اعشار ما اعطاناه! ونطلب عن الخلق الثناء على ما لا نفعل ونغضب ان ذمونا على ما لنا من المعايب والنقائص! فما لم نخرج من الانانيات ولم نصر عبدا لله فانيا فيه لم نخرج من التطفيف فلنطلب العفو من الله والمغفرة منه لتطفيفاتنا.
[83.2]
{ الذين إذا اكتالوا على الناس } بان اكتالوا اجناس الناس لانفسهم { يستوفون } لم يقل او وزنوا لان المطفف فى الكيل مطفف فى الميزان، ولان اكثر المعاملات كانت بالمكيال مثل هذا الزمان فى بعض البلدان.
[83.3]
{ وإذا كالوهم } اى كالوا لهم من اجناسهم، واما جعل الضمير تأكيدا للمرفوع فبعيد لفظا ومعنى لعدم اثبات الالف فى الخط وعدم كون المقصود كالوا بانفسهم ولكون المقصود كالوا اجناسهم للناس بقرينة المقابلة { أو وزنوهم يخسرون } فى الاتيان بالاكتيال والكيل فى القرينتين اشعار بتعملهم فى الكيل حين الاكتيال على الناس والمسامحة فى الكيل حين الكيل للناس، قيل: لما قدم رسول الله (ص) المدينة كانوا من اخبث الناس فى الكيل والوزن فانزل الله عز وجل: { ويل للمطففين } ، فأحسنوا الكيل بعد ذلك، وقيل: الصلاة مكيال فمن وفى لله وفى الله له، ومن طفف فقد سمعتم ما قال الله فى المطففين.
[83.4-5]
{ ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم } استفهام للتعجيب.
[83.6-7]
{ يوم يقوم الناس لرب العالمين كلا } ردع عن عدم ظن البعث { إن كتاب الفجار لفي سجين } قدم بيان احوال الفجار لفى سجين لان الكلام فيهم ولان يختم الآية بالابرار واحوالهم، والسجين الدائم والشديد وهو مبالغة فى السجن فانه عبارة عن الملكوت السفلى التى هى دار الجنة والشياطين وفيها الجحيم ونيرانها وعقاربها وحياتها، وهى والملكوت العليا مكتنفتان بالانسان، فان كان اعماله من حيث انقياده تحت حكم العالم وتقليده له كان كلما عمل منها حصل له منها صورة فى نفسه من حيث جهتها العليا وكان يكتب الكتبة اعماله فى الكتب التى هى من العالم العلوى ويعبر عنه بالعليين مبالغة فى العلو، وان لم يكن بتقليد العالم كان كلما عمل من الاعمال حصل له منها صورة فى نفسه من حيث جهتها السفلى وكان يكتب الكتبة اعماله فى الكتب التى هى من العالم السفلى ويعبر عنه بالسجين مبالغة فى السجن فانه اضيق سجن للنفوس الانسانية، ولما كان كل عالم كتابا من الحق تعالى مرقوما بصورة ونفوسه على صفحات مواد ذلك العالم فسر السجين بقوله كتاب.
[83.8]
{ ومآ أدراك ما سجين } تفخيم وتهويل لشأن ذلك العالم.
[83.9-10]
{ كتاب مرقوم ويل يومئذ للمكذبين } من ذلك السجن السجين.
[83.11-12]
{ الذين يكذبون بيوم الدين وما يكذب به إلا كل معتد } متجاوز عن الحق الذى هو طريق القلب وهو طريق الولاية { أثيم } بالغ فى الاثم فان يوم الدين ان كان الانسان ناظرا الى وجوده واطوار وجوده كان مشهودا له لم يكن له حاجة الى الآخرة واما المتجاوز عن طريق القلب التابع لاهوية نفسه فهو اعمى من مشهوداته التى لا حاجة له الى تعمل فى النظر اليها، فكيف بما كان محتاجا الى التعمل فى النظر اليه!
[83.13-14]
{ إذا تتلى عليه آياتنا } التدوينية فى بيان الاحكام الشرعية، او فى المواعظ والنصائح، او فى بيان آياتنا التكوينية الحاصلة فى الآفاق او الانفس وخصوصا الآيات العظمى الذين هم الانبياء والاوصياء (ع)، او فى بيان آيتنا العظمى الذى هو على (ع) وولايته { قال أساطير الأولين كلا } ردع له عن هذا القول { بل ران على قلوبهم } اى ليس آياتنا من الاساطير بل ران، والرين الطبع والدنس، وران ذنبه على قلبه غلب { ما كانوا يكسبون } فان ما كانوا يكسبون لم يكن الا فعلية جهة النفس السفلى وهى ختم لجهتها العليا وكدرة لها وسد لروزنتها الى الملكوت العليا، وروى عن الباقر (ع): ما من عبد مؤمن الا وفى قلبه نكتة بيضاء فاذا اذنب ذنبا خرج فى تلك النكتة نكتة سوداء، فان تاب ذهب ذلك السواد وان تمارى فى الذنوب زاد ذلك السواد حتى يغطى البياض، فاذا غطى البياض لم يرجع صاحبه الى خير ابدا وهو قول الله عز وجل: { بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون }.
[83.15-17]
{ كلا } ردع لهم عن توقع الخير وشهود جماله تعالى فى الآخرة { إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالو الجحيم ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون } عن الكاظم (ع) قال يعنى امير المؤمنين (ع) قيل: تنزيل؟ - قال: نعم، وعلى هذا فالمعنى انهم عن على (ع) لمحجوبون ثم يقال: هذا على (ع) الذى كنهتم به تكذبون.
[83.18]
{ كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين } قد مضى بيانه عند قوله كتاب الفجار لفى سجين.
[83.19-21]
{ ومآ أدراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون } من الملائكة فان عالم المثال العلوى مشهود لجميع الملائكة المقربين، او من الانبياء والمرسلين (ع) والاولياء المقربين فانهم بانظارهم الملكوتية يشهدون اعمال الخلائق وصحائف اعمالهم.
[83.22]
{ إن الأبرار لفي نعيم } جواب لسؤال مقدر.
[83.23-25]
{ على الأرآئك } جمع الاريكة السرير فى حجلة وكل ما يتكأ عليه من سرير ومنصة وفراش او سرير منجد مزين فى قبه او بيت { ينظرون تعرف في وجوههم نضرة النعيم يسقون من رحيق } الرحيق الخمر او اطيبها او افضلها او الخالص او الصافى، وضرب من الطيب { مختوم } مطبوع بحيث لا يمسه يد غير يد ساقيه.
[83.26]
{ ختامه } اى الطين الذى يختم به { مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } اى فليرغب الراغبون او فليتنازع المتنازعون لا فى مثل مهويات الانفس الفانيات الزائلات المستعقبات للحسرة والندامة.
[83.27]
{ ومزاجه من تسنيم } علم لعين فى الجنة من ارفع عيون الجنة، او شرابها من اعلى اقسام شراب الجنة، او تأتى اهل الجنة من فوقهم ولذلك سميت بتسنيم.
[83.28]
{ عينا يشرب بها } اى منها { المقربون } خالصة يعنى ان المقربين يشربون منها خالصة غير ممزوجة واما غير المقربين فيشربون منها ممزوجة، او هو كناية عن كون الابرار كلهم مقربين.
[83.29]
{ إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون } جواب لسؤال مقدر.
[83.30]
{ وإذا مروا بهم يتغامزون } اى يشير بعضهم الى بعض بالاعين والحواجب استهزاء، ورد من طريق العامة والخاصة: ان الآية نزلت فى على (ع) ومنافقى قريش.
[83.31]
{ وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين } الفكه المتلذذ باغتياب الناس واعراضهم وبالسخرية منهم.
[83.32]
{ وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون } حيث رأوهم غير متنعمين فى الدنيا ثابتين على ما هم عليه من ولاية على (ع) مع كمال الضيق ورثاثة الحال.
[83.33]
{ ومآ أرسلوا عليهم حافظين } لاعمالهم او حافظين لهم عن الضلال حتى ينكروا عليهم ما رأوه منهم مخالفا لما هم عليه.
[83.34]
{ فاليوم } اى يوم القيامة سواء جعل اللام للعهد الحضورى فان يوم القيامة مشهود لله وللرسول المخاطب (ص)، او للعهد الذهنى او للعهد الذكرى فانه مذكور بالالتزام عند قوله: ان الابرار لفى نعيم { الذين آمنوا } يعنى عليا (ع) واتباعه على ما سبق من تفسير الآيات { من الكفار يضحكون } قيل انه يفتح للكفار باب الى الجنة ويقال لهم: اخرجوا اليها فاذا وصلوا اليها اغلق دونهم، يفعل ذلك بهم مرارا فيضحك منهم المؤمنون، وقيل: يضحكون لما رأوا الكفار فى العذاب وانفسهم فى النعيم، ويجوز ان يقال: ان المؤمنين فى الجنة مسرورون من قبل الكافرين، لانهم كانوا فى الدنيا يصبرون على اذاهم واستهزائهم فصار ذلك سببا لتنعمهم فى الجنة وسرورهم فيها لا انهم ينظرون اليهم ويتعجبون من عذابهم ويضحكون منه لان ذلك يستلزم الحقد وتشفى النفس، والمؤمنون مطهرون منهما فى الجنة.
[83.35]
{ على الأرآئك ينظرون } تكرار لسابقه وهو ممدوح فى مقام المدح.
[83.36]
{ هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون } يعنى هل جوزى الكفار عن ما كانوا يفعلون، على تجسم الاعمال، او جزاء ما كانوا يفعلون، والجملة حالية او مستأنفة جواب لسؤال مقدر بتقدير القول اى على الارائك ينظرون حالكونهم يقال لهم: هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون، او مستأنفة منقطعة عن سابقها من دون كونها جوابا لسؤال مقدر بل تكون ابتداء خطاب مع محمد (ص) كأنه قال بعد ما ذكر جزاءهم: هل يثوب الكفار ما كانوا يفعلون؟ والاتيان بالماضى لتحقق وقوعه، او لان محمدا (ص) كان مجازاة اهل النار فى النار واهل الجنة فى الجنة مشهودة له واقعة بالنسبة اليه، ويجوز ان تكون متعلقة بينظرون معلقا عنها العامل، يعنى على الارائك ينظرون الى الكفار هل له واقعة بالنسبة اليه، ويجوز ان تكون متعلقة بينظرون معلقا عنها العامل، يعنى على الارائك ينظرون الى الكفار هل جوزوا ما كانوا يفعلون ام لا؟
[84 - سورة الإنشقاق]
[84.1]
{ إذا السمآء انشقت } اعلم ان الانسان حين الموت ينشق سماء روحه الحيوانية بخروج الروح الانسانية منها وتنتثر كواكب قواه وتنكدر وتتناثر وتندك جبال اعضائه وجبال انياته، وتنبسط ارض بدنه واعضائه، وتخرج جميع القوى الانسانية والحيوانية التى هى اثقالها وتتخلى منها، ولما كان العالم الصغير انموذجا من الكبير كان كلما وقع فيه وقع فى الكبير ايضا فيظهر انشقاق سماء لعالم الكبير وانكدار كواكبها وانتثارها واندكاك الجبال وغير ذلك.
[84.2]
{ وأذنت لربها } اى سمعت وانقادت { وحقت } بالاستماع والانقياد لانها مفطورة على ذلك حق لك ان تفعل كذا وحققت ان تفعل كذا، مبنيا للفاعل ومبنيا للمفعول بمعنى فانه لازم ومتعد اى حقت بان تنقاد.
[84.3]
{ وإذا الأرض مدت } اى بسطت بخروج ما به جمعها وقبضها من الروح الانسانية وباندكاك جبال العالم الكبير وتسطيح آكامها وتلالها ووهادها.
[84.4]
{ وألقت ما فيها } من القوى الموجودة المشهودة والمكمونة فى الكبير والصغير { وتخلت } من جميعها فان المتصل بالملكوت يرى الملك خاليا من جميع ما يراه المحجوب فى الارض الصغيرة والكبيرة.
[84.5]
{ وأذنت لربها } فى ذلك { وحقت } وجواب اذا محذوف اى يلقى الانسان ربه او عمله.
[84.6-7]
{ يأيها الإنسان } أتى بالنداء ههنا تنبيها للانسان عن غفلته فان الكدح محسوس له ومشهود ان لم يكن غافلا والجملة مع النداء جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: هل ينتهى بالانسان الى ما ذكر؟ - فقال: انت غافل عن نفسك وحركاتها فتنبه حتى تعلم { إنك كادح } اى ساع بالجهد والجد { إلى ربك } او انك كادح بالجد الى انشقاق السماء وتخلى الارض ذاهب الى ربك مجاوزا عن ذلك { كدحا فملاقيه فأما من أوتي } تفصيل لكيفية ملاقاته { كتابه بيمينه } بان يكون فعليته فعلية الهية ويكون نفسه وقواها وبدنه وما فيه بتصرف فعليته الالهية فانه يعبر عن فعليته الالهية الاخيرة باليمنى.
[84.8]
{ فسوف يحاسب حسابا يسيرا } لفظة سوف للتأكيد او للتسويف فان مقام المحاسبة بعد مقام ايتاء الكتاب فان اول ايتاء الكتاب يكون فى الدنيا ثم عند الموت ثم فى البرازخ ثم فى الاعراف والقيامة.
[84.9-10]
{ وينقلب إلى أهله } اى الى من ينبغى ان يكون اهلا له { مسرورا وأما من أوتي كتابه ورآء ظهره } بيده التى هى فعليته الشيطانية او الحيوانية السبعية او البهيمية فانه قد يعبر عن تلك الفعلية بخلف الانسان وورائه لانها خلف الانسانية فان الانسانية هى اللطيفة المقبلة على الله المدبرة عن الشيطنة والحيوانية وقد يعبر عنها بالشمال كما يعبر عن فعليته الالهية باليمين.
[84.11]
{ فسوف يدعوا ثبورا } بقوله: يا ثبوراه، يا هلاكاه ائت فانه قد حضر وقتك.
[84.12]
{ ويصلى } اى يدخل { سعيرا } يتقاسى حرها.
[84.13]
{ إنه كان في أهله مسرورا } فى الدنيا من غير غم لآخرته ومن غير خزن على العمل لاجلها.
[84.14]
{ إنه ظن أن لن يحور } هذه وسابقتها جواب لسؤال مقدر فى مقام التعليل يعنى كان مسرورا لانه كان يظن ان لا يرجع الى الله او الى الآخرة.
[84.15]
{ بلى } رد له عن اعتقاد عدم الرجوع اى بلى يرجع { إن ربه كان به بصيرا } جواب لسؤال مقدر فى مقام التعليل او فى مقام بيان حالهم، او بيان وتفصيل للاجمال المستفاد من بلى.
[84.16]
{ فلا أقسم بالشفق } قد مضى بيان للا اقسم، والشفق الحمرة فى الافق من الغروب الى العشاء الآخرة، او المراد به النورية الباقية من النفس لانسانية بعد غروبها فى البدن، او فى المرتبة الحيوانية.
[84.17]
{ والليل وما وسق } اى ما جمع فان النهار كان سببا للنشور والليل للجمع والسكون، وكذلك ليل بدن الانسان يجمع المتضادات ويؤلف المتخالفات.
[84.18]
{ والقمر إذا اتسق } انتظم وتكامل فى نوره، وهكذا قمر القلب اذا تكامل.
[84.19]
{ لتركبن طبقا عن طبق } اى مرتبة مجاوزة عن مرتبة اى بعد مرتبة من مراتب الآخرة يعنى انتم فى ركوب المراتب الاخروية فى الدنيا ولكنكم غافلون منه، او حالا بعد حال لورود الاحوال المختلفة عليكم، او لتركبن سنن من كان قبلكم مطابقين لهم بعد جمع آخر مطابقين لهم، او بعد حال اخرى مطابقة لحالهم كما فى كثير من الاخبار، وفى بعضها: لتسلكن سبيل من كان قبلكم من الامم فى الغدر فى الاوصياء بعد الانبياء (ع) وفى بعضها، او لم تركب هذه الامة بعد نبيها (ص) طبقا عن طبق فى امر المنافقين، والطبق محركة غطاء كل شيء ومن كل شيء ما ساواه، ومن الناس والجراد الكثير او الجماعة منهم، وبمعنى الحال.
[84.20]
{ فما لهم } اى اى نفع لهم؟ او اى مانع لهم؟ او اى حال لهم. ألهم الجنون؟ او العقل؟ { لا يؤمنون } جملة حالية او مستأنفة جواب لسؤال مقدر فى مقام التعليل، او فى مقام بيان حالهم، او لفظة ما نافية والمعنى فليس لهم شيء من المنافع، او ليس لهم مانع، وجملة لا يؤمنون مثل السابق والمراد بعدم الايمان عدم الايمان بالله او بالرسالة او بالولاية.
[84.21-23]
{ وإذا قرىء عليهم القرآن لا يسجدون } لا يخضعون لله، روى
" ان النبى (ص) قرأ ذات يوم واسجد واقترب، فسجد هو ومن معه من المؤمنين، وقريش تصفق فوق رؤسهم وتصفر فنزلت { بل الذين كفروا يكذبون والله أعلم بما يوعون } "
اى بما يضمرون فى قلوبهم او بما يجمعون فى نفوسهم من نتائج اعمالهم.
[84.24-25]
{ فبشرهم بعذاب أليم إلا الذين آمنوا } استثناء منقطع او متصل والمعنى الا الذين آمنوا بعد منهم فيكون الماضى بعد الموصول بمعنى المضارع { وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون } اى غير مقطوع او غير ممنون به عليهم.
[85 - سورة البروج]
[85.1]
{ والسمآء ذات البروج } الاثنى عشر، او المراد سماء روح الانسان التى هى ذات مراتب ودرجات.
[85.2]
{ واليوم الموعود } الذى هو القيامة الكبرى للروح الانسانية التى لا تكون الا بالفناء التام.
[85.3]
{ وشاهد ومشهود } نكرهما للاشعار بان الشاهد لمقام الاحدية لا يمكن معرفته، والمشهود الذى هو مقام الاحدية ايضا لا يعرف وقد فسر الشاهد بيوم الجمعة والمشهود بيوم عرفة، او بيوم القيامة، وفسر الشاهد بمحمد (ص) والمشهود بيوم القيامة وفسرا بالنبى (ص) وامير المؤمنين (ع)، وبالملك ويوم القيامة، وبنبى كل زمان وامته، وبمحمد (ص) وجميع الخلق وبهذه الامة وسائر الامم، وباعضاء بنى آدم وانفسهم، وبالحجر الاسود والحجاج، وبالايام وبنى آدم، وبالانبياء ومحمد (ص)، وبالله ولا اله الا الله، وبالخلق والحق.
[85.4]
{ قتل أصحاب الأخدود } جواب للقسم او جملة دعائية معترضة بين القسم وجوابه او خبرية معترضة واخبار عن حال الكفار الذين احرقوا المؤمنين او اخبار عن حال المؤمنين الذين احرقوا فى الاخدود.
ذكر حكاية اصحاب الاخدود
وذكر حكاية اصحاب الاخدود فى روايات الخاصة والعامة باختلاف؛ فانه روى
" عن رسول الله (ص) انه كان ملك وكان له ساحر فلما مرض الساحر قال: ادفع الى غلاما اعلمه السحر، فدفع اليه غلاما وكان بينه وبين الساحر راهب فمر الغلام بالراهب فافتتن به فبينما هو كذلك قد حبس الناس حية، فقال: اليوم اعلم امر الساحر والراهب فأخذ حجرا فقال: اللهم ان كان امر الراهب احب اليك فاقتل هذه الحية فقتلها ومضى الناس فأخبر بذلك الراهب، فقال: يا بنى انك ستبتلى فلا تدل على، وجعل يداوى الناس ويبرء الاكمه والابرص فعمى جليس الملك فاتاه وحمل اليه مالا كثيرا فقال: اشفنى ولك ما ههنا، فقال: ان الله يشفى فان امنت بالله دعوت الله فآمن فدعا الله فشفاه، فجلس الى الملك فقال: من شفاك؟ - قال: ربى، قال: انا؟ - قال: لا، ربى وربك الله، فأخذه ولم يزل به حتى دله على الغلام، فأخذه فلم يزل به حتى دله على الراهب، فوضع المنشار عليه فنشره شقين وقال للغلام: ارجع عن دينك، فأبى، فأمر ان يصعدوا به الى جبل كذا فان رجع والا يدهدهوه، ففعل به، فلما صعدوا به الجبل قال: اللهم اكفنيهم، فكفاه الله واهلكهم، فرجع الى الملك وقال: كفانيهم الله، فقال: اذهبوا به فأغرقوه فى البحر، فكفاه الله تعالى واغرقهم، فجاء الى الملك وقال: كفانيهم الله، وقال: انك لست بقاتلى حتى تفعل بى ما آمرك، اجمع الناس ثم اصلبنى على جذع ثم خذ سهما من كنانتى ثم ضعه على كبد القوس، ثم قل: باسم رب الغلام فانك ستقتلنى، ففعل به ما قال فوقع السهم فى صدغه ومات، فقال الناس: آمنا برب الغلام، فقيل له: أرأيت ما كنت تخاف قد نزل بك: آمن الناس برب الغلام فأمر بالاخدود فخدت على افواه السكك ثم اضرمها نارا فقال: من رجع عن دينه فدعوه، ومن ابى فأقمحموه فيها، وجاءت امرأة بابن لها فقال لها يا امه اصبرى فانك على الحق، فلما رأى الناس ذلك اشتد ثبات المؤمنين وشوق سائر الناس الى دين الغلام "
ونسب الى امير المؤمنين (ع) ان ملكا سكر فوقع على ابنته او قال على اخته، فلما افاق قال لها: كيف المخرج ما وقعت فيه؟ - قالت: تجمع اهل مملكتك وتخبرهم انك ترى نكاح البنات وتأمرهم ان يحلوه، فجمعهم فأخبرهم، فأبوا ان يتابعوه فخد لهم اخدودا فى الارض واوقد فيه النيران وعرضهم عليها، فمن أبى قذفه فى النار ومن اجاب خلى سبيله، ونسب الى امير المؤمنين (ع) ان الله بعث رجلا حبشيا نبيا فكذبوه قومه فقاتلهم فقتلوا اصحابه واسروه ثم بنوا له حيزا ثم ملأوه نارا ثم جمعوا الناس وقالوا: من كان على ديننا وامرنا فليعتزل، ومن كان على دين هؤلاء فليرم نفسه فى النار معه، فجعل اصحابه يتهافتون فى النار فجاءت امرأة ومعها صبى ابن شهر فتكلم الصبى كما سبق، وروى عن على (ع) ايضا: ان اصحاب الاخدود كانوا عشرة وعلى مثالهم عشرة يقتلون فى هذا السوق يعنى سوق الكوفة، وقيل ان يوسف بن ذى نواس الحميرى سمع ان بنجران اليمن جمعا على دين عيسى (ع) فسار اليهم وحملهم على التهود فأبوا فخد لهم فى الارض واوقد وعرضهم عليها، فمن رجع عن دين عيسى سلم ومن لم يرجع كان يلقى فى النار، واذا امرأة جاءت مع ابن لها فتكلم الصبى كما سبق، واصحاب الاخدود على التأويل من دخل فى اخاديد الطبع وابتلى بنار شهوات النفس وغضباتها واهلك عن الفطرة الانسانية.
[85.5]
{ النار } بدل من الاخدود بدل الاشتمال { ذات الوقود } التوصيف بذات الوقود اشارة الى كثرة الحطب وادامة ايقادها.
[85.6]
{ إذ هم } اى الملك واصحابه { عليها قعود } قيل: كانوا على كراسى حول النار ويعذبون المؤمنين.
[85.7]
{ وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود } حاضرون على تعذيبهم.
[85.8]
{ وما نقموا منهم } اى ما كافؤا منهم او ما انكروا او ما كرهوا { إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد } وقد مضى نظير الاية فى سورة المائدة والتوبة.
[85.9]
{ الذي له ملك السماوات والأرض } اى مملكة السماوات والارض او ملكهما الذى يكون فى الانظار مستقلا بالوجود ومتأبيا عن المملوكية فكيف بملكوتهما { والله على كل شيء شهيد } فضلا عن مالكيته وشهوده على كل شيء نحو شهود النفس على صورها الادراكية فيكون مالكيته ايضا نحو مالكية النفس لصورها الذهنية.
[85.10]
{ إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات } بالايذاء من غير استحقاق او بالايذاء مطلقا { ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم } اعاذنا الله منه { ولهم عذاب الحريق } الحريق اسم للاحتراق بمعنى ان لهم عذابا مسببا عن الاحتراق، او عذابا هو الاحتراق والمقصود ان لهم فى جهنم عذاب الحيات والعقارب والحميم والزقوم، ولهم عذاب الاحتراق، او المراد بالذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات اصحاب الاخدود والمراد بعذاب الحريق احتراقهم بنار الاخدود، فانه كما نقل بعد ما القوا المؤمنين فى النار كان المؤمنون يدخلون الجنة من غير احساس الم النار وانقلبت النار على الكفار فأحرقتهم.
[85.11-12]
{ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات } جواب لسؤال مقدر عن حال المؤمنين { لهم جنات تجري من تحتها الأنهار } قد مضى بيان جريان الانهار من تحت الجنات فى آخر سورة آل عمران عند قوله فالذين هاجروا واخرجوا { ذلك الفوز الكبير إن بطش ربك } يا محمد (ص) او من يتأتى منه الخطاب { لشديد } الجملة فى مقام التعليل لعذاب الكافرين ونعيم المؤمنين، والاتيان بالبطش والحكم عليه بالشدة اشعار بشدة العذاب فان البطش هو الاخذ بالعنف والسطوة.
[85.13]
{ إنه هو يبدىء ويعيد } تعليل لشدة بطشه فان البطش ممن بيده اعادة الشيء وابداؤه يكون شديدا بالنسبة اليه.
[85.14]
{ وهو الغفور الودود } لا غفور الا هو، ولا ودود الا هو، فيكون مغفرته ووداده بالنسبة الى مستحقهما فوق ما يتصور، جمع بين القهر واللطف والوعيد والوعد كما هو ديدنه وديدن خلفائه.
[85.15]
{ ذو العرش المجيد } قرئ بالرفع وبالجر، والعرش جميع ما سواه فله العظمة والمالكية لجميع ما سواه فله اعطاء ما يريد.
[85.16]
{ فعال لما يريد } من غير مانع وعجز وقد مضى فى سورة البقرة عند قوله:
ولكن الله يفعل ما يريد
[البقرة:253] بيان تام لقوله: { فعال لما يريد }.
[85.17]
{ هل أتاك حديث الجنود } استفهام للتقرير وجواب لسؤال مقدر كأنه قيل: هل على وعده ووعيده دليل مما مضى؟ - فقال: الدليل على ذلك حكايات الجنود الذين تجندوا على انبيائهم فيما سلف وقد سمعت حكاياتهم وما فعل بالكفار منهم وما اكرم به المؤمنين منهم.
[85.18]
{ فرعون وثمود } اطلق اسم الرئيس على الجماعة مجازا او قدر جنود فرعون وثمود يعنى قد سمعت ذلك فانظر ماذا فعل بالكفار منهم وماذا فعل بالمؤمنين حتى تكون على يقين بوعيده ووعده.
[85.19]
{ بل الذين كفروا في تكذيب } يعنى ليسوا لم يسمعوا حكايات الجنود بل لا شأن لهم سوى شأن التكذيب، ومن كان كذلك لو رأوا جميع ما فعل بالكفار الماضين والمؤمنين ما اقروا ولا صدقوا لعدم شأن لهم سوى التكذيب، لانهم محجوبون على دار العلم والتصديق ولذلك يكذبونك ويكذبون كتابك.
[85.20]
{ والله من ورآئهم محيط } اى من خلفهم فانهم ناكسون رؤسهم ومدبرون عن الله ولما كان احاطة الله من ورائهم لم يكونوا يشاهدونه ويشاهدون احاطته، ولما استفيد من قوله بل الذين كفروا فى تكذيب تكذيبهم لمحم (ص) ورسالته وكتابه قال: ليس تكذيبهم لك ولكتابك عن برهان وفى محله لان كتابك ليس بكاذب.
[85.21]
{ بل هو قرآن } مجموع فى بساطته ووحدته { مجيد } ذو مجد وشأن.
[85.22]
{ في لوح محفوظ } عن ايدى المحجوبين، او عن التغير والتبدل، او عن مسيس الشياطين، او عن اختلاق المختلقين، وقرئ محفوظ بالرفع والجر والمعنى واحد والمراد باللوح المحفوظ النفوس الكلية او العقول الكلية فانها بوجه كتب والواح او صدور الراسخين فى العلم من صدر محمد (ص) واوصيائه (ع)، وهذا اللوح هو ام الكتاب ومنه نسخ جميع الكتب.
[86 - سورة الطارق]
[86.1]
{ والسمآء والطارق } اقسم بالسماء وبالكواكب او بكوكب الصبح وعظم شأن الكوكب فقال: { ومآ أدراك ما الطارق }.
[86.2]
{ ومآ أدراك ما الطارق } واجاب بعد تفخيمه بالاستفهام التعجيبى فقال { النجم الثاقب }.
[86.3]
{ النجم الثاقب } اى المضيء او الثاقب للأفلاك بضوئه، روى عن الصادق (ع) انه قال لرجل من اهل اليمن: ما زحل عندكم فى النجوم؟ - فقال: اليمانى نجم نحس، فقال (ع): لا تقولن هذا فانه نجم امير المؤمنين (ع) وهو نجم الاوصياء (ع) وهو النجم الثاقب الذى فى كتابه فقال له اليمانى: فما يعنى بالثاقب؟ - قال: لان مطلعه فى السماء السابعة وانه ثقب بضوئه حتى اضاء فى السماء الدنيا، فمن ثم سماه الله النجم الثاقب.
[86.4]
{ إن كل نفس لما عليها حافظ } قرئ لما بالتخفيف فان مخففة من الثقيلة واللام فارقة وما مزيدة، وقرئ لما بالتشديد فان نافية ولما استثنائية ويحتمل وجوه اخر ضعيفة مما مضى فى سورة هود فى بيان قوله تعالى: وان كلا لما ليوفينهم ربك اعمالهم فلينظر اى اذا كان على كل نفس حافظ من الله يحفظ عليه اعماله.
[86.5]
{ فلينظر الإنسان مم خلق } اى فلينظر الى مادته وانها كانت اضعف موجود واخسه حتى يعلم ان له خالقا قادرا عليما حكيما، ويعلم ان خالقه يقدر على اعادته فيعمل لحال اعادته.
[86.6]
{ خلق من مآء دافق } دفق الماء صبه بقوة فالدافق بمعنى المدفوق، او المعنى ماء دافع بقوة الرطوبات البلية البدنية بالتبخير والتعريق، وقيل: استعمل دفق الماء لازما فيكون الدافق بمعنى المنصب بقوة.
[86.7]
{ يخرج من بين الصلب والترآئب } الصلب بالضم والصلب بالتحريك العظم الذى من لدن الكاهل الى العجب، والترائب عظام الصدر او ما ولى الترقوتين منه، او ما بين الثديين والترقوتين، او اربع اضلاع من يمنة الصدر واربع من يسرته، او اليدان والرجلان والعينان، او موضع القلادة.
اعلم، ان التحقيق كما عليه معظم الحكماء ان النطفة فضلة الهضم الرابع وهى تفضل فى جميع البدن وتنزل الى البيضتين فهى تخرج من جميع اجزاء البدن لا اختصاص لها بالصلب والترائب، لكن لما كان الكليتان ادخل فى اصلاح النطفة فى الرجل والثديان فى المرأة قال يخرج من بين صلب الرجل وبين ترائب المرأة ، او المقصود ان النطفة تخرج من اجواف الرجل والمرأة وهى محل كثافات البدن، او المنظور ان الصلب والترائب فى الرجل والمرأة ادخل فى اصلاح النطفة فكأنه تخرج النطفة من بين صلب الرجل ومن بين ترائبه، ومن بين صلب المرأة ومن بين ترائبها.
[86.8]
{ إنه على رجعه لقادر } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: اذا كان خلقه من ماء ضعيف قذر فهل يقدر على رجوعه؟ - فقال: انه على رجعه لقادر.
[86.9]
{ يوم تبلى السرآئر } اى تختبر كل سريرة هل هى خالصة او مغشوشة؟ والمراد بالسرائر اما الاعمال القالبية فانها سرائر من حيث الخلوص والشوب، ومن حيث المبادى والغايات، او الفعليات الحاصلة للنفس منها، او النيات، او مكمونات النفوس التى لا يعلمها صاحبوا النفوس، والظرف متعلق بقادر دون رجعه للفصل بينه وبينه بالاجنبى، او متعلق بمحذوف بقرينة قوله { فما له من قوة ولا ناصر }.
[86.10]
{ فما له من قوة ولا ناصر } يعنى لم يكن له فى ذلك اليوم قوة يدفع بها عن نفسه العذاب، ولا ناصر ينصره من بأس الله.
[86.11]
{ والسمآء ذات الرجع } اى ذات الرجوع الى وصفه الاول فانها ليست فى وضع الا وترجع اليه فى ثانى الحال، او ذات المطر، او ذات الشمس والقمر والنجوم فانها فى الرجع دائما او ذات الخير الدائم فانها ترجع به على الاتصال على اهل العالم.
[86.12]
{ والأرض ذات الصدع } بالنبات والاشجار.
[86.13]
{ إنه لقول فصل } اى القرآن او امر الرسالة او امر الولاية او الرسول (ص) او على (ع) قول فاصل بين الحق والباطل، او المحق والمبطل، او القول بالبعث والجزاء قول مقطوع به.
[86.14]
{ وما هو بالهزل } اى هو جد وليس مزاحا.
[86.15]
{ إنهم يكيدون كيدا } عظيما والجملة جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: فما يفعل هؤلاء بالنسبة الى هذا القول؟ -
[86.16]
{ وأكيد كيدا } عظيما فاذا كنت اكيد كيدا عظيما بهم.
[86.17]
{ فمهل الكافرين } وضع الظاهر موضع المضمر لتفضيحهم { أمهلهم } تأكيد لمهل، والاتيان بمهل وتأكيده بأمهل للاشعار بتعمله (ص) فى امهالهم { رويدا } مفعول مطلق نوعى من غير لفظ الفعل والمعنى امهلهم امهالا يسيرا.
[87 - سورة الأعلى]
[87.1]
{ سبح اسم ربك الأعلى } الا على صفة للاسم او لربك، والرب تطلق على النفس الانسانية التى تربى البدن، وعلى العقل الذى يربى النفس والبدن، وعلى ولى الامر الذى يربى الناس بحسب الظاهر او الباطن، وهو الرب فى الولاية، وعلى رب الارباب وليس المراد باسم الرب اسمه اللفظى بل اسمه العينى واسماؤه العينية ذات مراتب من مراتب اللطيفة الانسانية ومراتب الانبياء والاوصياء (ع)، ومن مراتب العقول والنفوس وسائر الموجودات واعلى اسمائه الاسم الجامع الذى يعبر عنه بالمشية، واعلى اربابه المطلق هو رب الارباب، واعلى اربابه المضاف سائر مراتب اربابه، وقد سبق مكررا ان المراد بالتسبيح سواء كان متعلقا بالله او بالرب او باسم الرب تنزيه اللطيفة الانسانية عن التدنس بالادناس الحيوانية والشيطانية فانها رب بوجه ومظهر لله فكانت هى الله بوجه واسما لله وللرب بوجه.
[87.2]
{ الذي خلق } صفة للرب او لاسم الرب فان اسماءه العينية وسائط خلقه وخالقون باذنه { فسوى } فجعل جميع اعضائه واجزائه على ما ينبغى.
[87.3]
{ والذي قدر } لكل شيء كمالا خاصا وغاية مخصوصة { فهدى } اى هداه الى ذلك الكمال وتلك الغاية هداية تكوينية فى جميع الاشياء وهداية اختيارية تكليفية فى الانسان وبنى الجان.
[87.4]
{ والذي أخرج المرعى } فى العالم الكبير والصغير يعنى بعد ما هدى الاشياء الى كمالاتها وغاياتها هيأ لها اسباب بلوغها الى ذلك باخراج المرعى اى الاشجار والنباتات التى بها يتعيش الانسان وسائر الحيوان واخراج جميع القوى والاهوية المكمونة فى الانسان.
[87.5]
{ فجعله غثآء } اى هشيما كالغثاء الذى تراه فوق السيل، والغثاء كغراب القمش والزبد والبالى من ورق الشجر المخالط زبد السيل { أحوى } اسود لان الكلأ يسود اذا يبس فى الاغلب، وهذا تمثيل للحياة الدنيا واخراج القوى والمدارك والاهوية ويبسها بالموت الاختيارى او الاضطرارى ولذلك قال تعالى خطابا لمحمد (ص) ولمن يتأتى منه الخطاب بعد ذكر جفاف المرعى.
[87.6]
{ سنقرئك } يعنى بعد جفاف مرعى القوى والمدارك بالموت الاختيارى البتة نقرئك او عن قريب نقرئك آيات الاحكام القالبية والحكم القلبية { فلا تنسى } بعده لان الباعث للنسيان الخروج من دار الذكر ، وسبب الخروج من دار الذكر ليس الا القوى والمدارك ومشتهياتها، واذا جعلناها يابسة حواء لم يكن باعث للخروج من دار الذكر فلم يكن نسيان.
[87.7]
{ إلا ما شآء الله } استثناء مفرغ من قوله سنقرئك، او من قوله فلا تنسى اى سنقرئك جميع ما يمكن ان نقرئك الا ما شاء الله او فلا تنسى شيئا منها الا ما شاء الله فانك بحسب بشريتك ومرتبة منك واقع فى دار النسيان فيقع منك نسيان ما بمشية الله { إنه يعلم الجهر وما يخفى } جواب لسؤال مقدر وتعليل لقوله: سبح يعنى سبح اسم ربك بقولك المجهور والمخفى او بأعمالك الظاهرة والباطنة لان الله يعلم الجهر والمخفى، او جواب لسؤال مقدر ناش عن قوله فلا تنسى الا ما شاء الله كأنه قيل: هل يعلم الله تذكر العباد ونسيانهم؟ - فقال: انه يعلم المذكور الذى كان ظاهرا على الخيال والمنسى الذى كان مخفيا عنه، او يعلم مطلق الظاهر والمخفى ومنهما المذكور والمنسى، او جواب سؤال ناش من قوله: { والذي أخرج المرعى } بناء على تعميم المرعى للقوى والمدارك والاهوية الانسانية كأنه قيل: هل يعلم الله مخفيات الانسان ومكموناته حتى يخرجها؟ - فقال: انه يعلم الظاهر من اقواله وافعاله واحواله واخلاقه والمخفى منها، ولكون هذا جوابا لسؤال مقدر عدل عن التكلم الى الغيبة.
[87.8-9]
{ ونيسرك } اى نلينك ونسهل حالتك { ل } لجهة ا { ليسرى } وهى جهة الكثرات فانك كنت منزجرا عن الكثرات فارا منها منقبضا عنها، وبعد اخراج مرعى وجودك وجعله غثاء تأنس بالكثرات نحو انسك بالله فانك تراها مظاهر لله تعالى فيسهل عليك التوجه اليها والمحادثة معها، وقيل فيه غير ذلك فاذا صرت لين الجانب بالنسبة الى الكثرات { فذكر } الخلق بالله وباحكامه وبالمعاد وجنته وناره لتكميلهم { إن نفعت الذكرى } قيل: شرط للتذكير يعنى ان لم تنفع فلا تذكر، وهذا مناف لتعميم دعوته، وقيل: المعنى ان نفعت الذكرى وان لم تنفع، وقيل: ان بمعنى قد، وقيل: قال تعالى ذلك بعد ما عمهم بالتذكير ولزمت الحجة، وقيل: استبعاد لنفعهم بالذكرى.
[87.10]
{ سيذكر } بالله وجنته وناره { من يخشى } من كان فيه حالة العلم وحالة الخشية.
[87.11]
{ ويتجنبها الأشقى } اى اشقى الكفار او اشقى العصاة فان للكفر والعصيان درجات، والاشقى منهم يبالغ فى اجتناب الذكرى بخلاف غيره فانه يسمع قليلا ويجتنب ولذلك قال { الذى يصلى النار الكبرى }.
[87.12]
{ الذى يصلى النار الكبرى } فان غيره يصلى النار الوسطى والصغرى.
[87.13]
{ ثم لا يموت فيها } فيستريح { ولا يحيى } حياة ينتفع بها فيتعيش فيها.
[87.14]
{ قد أفلح } جواب لسؤال مقدر { من تزكى } اى تطهر او نما، او ادى زكاة ماله.
[87.15]
{ وذكر اسم ربه } اى اجرى على لسانه اسم ربه المضاف وهو ربه فى الولاية وهو الرسول او خليفته { فصلى } عليه اى قال اللهم صل عليه، او قال صلوات الله عليه، او تذكر اسم ربه المطلق اسمه النقشى القلبى، او اسمه المثالى الخيالى، او اسمه العينى، فصلى عليه او صلى الصلاة الفريضة، او صلى الصلاة المطلقة، او توجه الى جهة الغيب واستكمل بذلك، او ذكر اسم ربه بالتكبيرات الواردة قبل صلاة العيدين فصلى صلاة العيدين، او ذكر اسم ربه فى التكبيرة الافتتاحية فعقد صلاته بها، او ذكر اسم ربه بان جعل امامه نصب عينه فصلى كما ورد وقت تكبيرة الاحرام: تذكر رسول الله (ص) واجعل واحدا من الائمة نصب عينك.
[87.16]
{ بل تؤثرون الحياة الدنيا } يعنى لكنكم لا تفعلون ذلك بل تؤثرون الحياة الدنيا وتدعون الفلاح والصلاة.
[87.17-19]
{ والآخرة خير } من الدنيا يعنى على زعمكم ان الدنيا لها حسن او بحسب الواقع فان الدنيا باعتبار انها مزرعة الآخرة كان لها محاسن عديدة { وأبقى إن هذا } اى فلاح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى، او كون الآخرة خيرا وأبقى { لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى }
" عن ابى ذر رحمه الله انه سأل رسول الله (ص) كم انزل الله من كتاب؟ - قال: مائة كتاب واربعة كتب، فأنزل الله على شيث خمسين صحيفة، وعلى ادريس ثلاثين صحيفة، وعلى ابراهيم عشرين صحيفة، فانزل التوراة والانجيل والزبور والفرقان، قال: قلت: يا رسول الله (ص) وما كان صحف ابراهيم (ع)؟ - قال: كانت امثالا كلها ، وكان فيها: ايها الملك المبتلى المغرور انى لم ابعثك لتجمع الدنيا بعضها الى بعض ولكنى بعثتك لترد عنى دعوة المظلوم فانى لا اردها وان كانت من كافر، وعلى العاقل ما لم يكن مغلوبا ان يكون له ثلاث ساعات، ساعة يناجى ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يتفكر فيما صنع الله عز وجل اليه، وساعة يخلو فيها بحظ نفسه من الحلال فان هذه الساعة عون لتلك الساعات، واستجمام للقلوب وتوديع لها، وعلى العاقل ان يكون بصيرا بزمانه مقبلا على شانه، حافظا للسانه، فان من حسب كلامه من عمله قل كلامه الا فيما يعنيه، وعلى العاقل ان يكون طالبا لثلاث، مرمة لمعاش، وتزود لمعاد، وتلذذ فى غير محرم (الى ان قال) قلت: فهل فى ايدينا مما انزل الله عليك شيء مما كان فى صحف ابراهيم (ع) وموسى (ع)؟ - قال: يا ابا ذر اقرء: قد افلح من تزكى ".
[88 - سورة الغاشية]
[88.1]
{ هل أتاك حديث الغاشية } الاستفهام للتقرير والخطاب له (ص) والمقصود تذكير غيره والغاشية الداهية التى تعم افراد الناس، او تعم جميع اعضاء الانسان واجزائه، والمراد بها شدائد القيامة او نفس يوم القيامة او شدائد جهنم.
[88.2]
{ وجوه يومئذ خاشعة } ذليلة من العذاب.
[88.3]
{ عاملة ناصبة } صفتان لوجوه، او هما خبران بعد خبر والمراد بالوجوه وجوه الابدان او اشراف الناس، والمعنى وجوه كانت فى الدنيا عاملة اعمالا يحسبون انها حسنات لها وكانت ناصبة فى اعمالها يومئذ خاشعة ذليلة لا ينفعها عملها ونصبها فى عملها، لانهم كانوا اصحاب آراء واهواء، او المعنى وجوه يومئذ خاشعة عاملة فى جهنم فانهم يكلفون ارتقاء جبل من حديد، او المعنى عاملة فى الدنيا ناصبة فى الآخرة.
[88.4]
{ تصلى نارا حامية } فى غاية الحرارة بالنسبة الى نار الدنيا.
[88.5]
{ تسقى من عين آنية } بالغة فى الحرارة غايتها.
[88.6-7]
{ ليس لهم طعام إلا من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع } والضريع شيء فى جهنم امر من الصبر وانتن من الجيفة واحر من النار، والضريع فى اللغة نوع من الشوك يقال له الشبرق وهو اخبث طعام وابشعه لا ترعاه دابة، ونقل ان الضريع عرق اهل النار وما يخرج من فروج الزوانى،
" وعن النبى (ص) عن جبرئيل: لو ان قطرة من الضريع قطرت فى شراب اهل الدنيا لمات اهلها من نتنها "
، وقال القمى: هم الذين خالفوا دين الله وصلوا وصاموا ونصبوا لامير المؤمنين (ع) عملوا ونصبوا فلا يقبل شيء منهم من افعالهم وتصلى وجوههم نارا حامية، وفى رواية: كل من خالفكم وان تعبد واجتهد فمنسوب الى هذه الآية: عاملة ناصبة (الآية) وفى حديث فى بيان قوله تعالى: { هل أتاك حديث الغاشية } يغشاهم القائم (ع) بالسيف خاصة قال: لا تطيق الامتناع، عاملة قال: عملت بغير ما انزل الله، ناصبة قال: نصبت غير ولاة امر الله، تصلى نارا حامية قال: تصلى نار الحرب فى الدنيا على عهد القائم (ع)، وفى الآخرة نار جهنم، وفى رواية اخرى: الغاشية الذين يغشون الامام { لا يسمن ولا يغني من جوع } قال: لا ينفعهم الدخول ولا يغنيهم القعود.
[88.8]
{ وجوه يومئذ ناعمة } وهم اتباع امير المؤمنين (ع).
[88.9-11]
{ لسعيها راضية في جنة عالية لا تسمع فيها لاغية } اللغو واللاغية السقط وما لا يعتد به من كلام وغيره، وكلمة لاغية فاحشة.
[88.12]
{ فيها عين جارية } العين الجارية احسن وابهى، وماؤها اشهى من العين الواقفة، وليس جريان عيون الجنة فى الاخاديد بل هى بارادة مالكها كلما اراد اجراها على اى مكان شاء.
[88.13]
{ فيها سرر مرفوعة } قيل: انها مرتفعة ما لم يجئ اهلها، فاذا جاؤا تواضعت لهم حتى يجلسوا عليها، فاذا جلسوا ارتفعت كما كانت.
[88.14]
{ وأكواب موضوعة } على حافات العيون الجارية، والكوب قد مر انه كوز لا عروة له ولا خرطوم.
[88.15]
{ ونمارق } جمع النمرق والنمرقة مثلثة النون الوسادة الصغيرة { مصفوفة } متصلة بعضها ببعض على هيئة مجالس الملوك.
[88.16]
{ وزرابي } جمع الزربى بالكسر وقد يضم النمارق والبسط او كل ما بسط واتكئ عليه { مبثوثة } مبسوطة.
[88.17]
{ أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت } لما وصف الله تعالى الجنة وما فيها كان ينبغى ان يشتاق النفوس اليها ويسأل عما دل عليها وعلى بقاء النفوس فيها ، فقال تعالى جوابا عن هذا السؤال: ينبغى ان ينظروا الى الابل وعجائب خلقتها، فان الله تعالى خلقها عظيمة الجثة بحيث تحمل احمالا ثقيلة، تبرك للحمل، وتنهض بالحمل، تتحمل الجوع والعطش حتى تقوى على قطع المفاوز البعيدة، منقادة للاطفال مع عظم جثتها، طويلة العنق حتى يتأتى لها ان ترعى النبات قائمة من غير حاجة الى البروك ترعى كلما تنبت من الارض حتى يتأتى لها البقاء فى كل صقع من الارض.
[88.18]
{ وإلى السمآء كيف رفعت } وفى رفعتها توليد المواليد وتعيشها وبقاؤها فان الكل منوط بتأثير الكواكب وتأثير اشعتها، ولولا تلك الرفعة لما اثرت تلك التأثيرات.
[88.19]
{ وإلى الجبال كيف نصبت } وفى نصبها تهية اسباب معاشكم من توليد المعادن فيها، وتسفيح سفحها، وتكون المياه تحتها وسهولة جريان العيون والقنوات منها.
[88.20]
{ وإلى الأرض كيف سطحت } وفى تسطيحها سهولة توليد المواليد وسهولة تعيشكم.
[88.21]
{ فذكر } يعنى اذا كان حال الكفار كذا وحال المؤمنين كذا والادلة على ذلك كثيرة فذكر المؤمنين ترغيبا فيما اعد لهم والكافرين تحذيرا مما يبتلون به بسوء اعمالهم { إنمآ أنت مذكر } يعنى شأنك بحسب رسالتك التذكير سمعوا ام لم يسمعوا.
[88.22]
{ لست عليهم بمصيطر } المسيطر بالسين والصاد الرقيب والحافظ المتسلط، وقرئ بهما.
[88.23]
{ إلا من تولى وكفر } استثناء مفرغ من قوله ذكر او من قوله انما انت مذكر، او استثناء متصل فى كلام تام من قوله: { لست عليهم بمصيطر } اى لست متسلطا عليهم الا على من تولى وكفر يعنى لست مسلطا عليهم لا بحسب ابدانهم فتقتلهم وتجبرهم على القبول ولا بحسب ارواحهم فتتصرف فيهم بحسب مرتبة رسالتك وتغيرهم عما هم عليه الا من تولى فانك بحسب رسالتك مسلط عليه بحسب بدنه، فتقتله وتجبره على قبول التذكير، او استثناء منقطع كأنه قال: لكن من تولى وكفر.
[88.24]
{ فيعذبه الله العذاب الأكبر } اى عذاب القتل والاسر والنهب على يدك فى الدنيا ولا عذاب اكبر منه، او يعذبه الله فى الآخرة العذاب الاكبر وهو العذاب فى النار.
[88.25]
{ إن إلينآ إيابهم } جواب لسؤال مقدر عن حالهم فىالآخرة على المعنى الاول وفى مقام التعليل على المعنى الثانى.
[88.26]
{ ثم إن علينا حسابهم } عن الباقر (ع): اذا كان يوم القيامة وجمع الله الاولين والآخرين لفصل الخطاب دعى رسول الله (ص) ودعى امير المؤمنين (ع) فيكسى رسول الله (ص) حلة خضراء تضيء ما بين المشرق والمغرب، ويكسى على (ع) مثلها، ويكسى رسول الله (ص) حلة وردية ويكسى على (ع) مثلها، ثم يصعدان عندها ثم يدعى بنا فيدفع الينا حساب الناس، فنحن والله ندخل اهل الجنة الجنة واهل النار النار، وعن الكاظم (ع): الينا اياب هذا الخلق وعلينا حسابهم، فما كان لهم من ذنب بينهم وبين الله عز وجل حتمنا على الله فى تركه لنا فأجابنا الى ذلك، وما كان بينهم وبين الناس استوهبناه منهم واجابوا الى ذلك وعوضهم الله عز وجل، وعن الصادق (ع): اذا كان يوم القيامة وكلنا الله بحساب شيعتنا، فما كان لله سألنا الله ان يهبه لنا فهو لهم، وما كان لنا فهو لهم، ورزقنا الله ذلك.
[89 - سورة الفجر]
[89.1]
{ والفجر } اقسم الله بالفجر وهو بياض الصبح، او صلاة الصبح مطلقا، او فجر ذى الحجة او صلاته، او فجر يوم النحر او صلاته، او اراد بالفجر النهار كله مطلقا، او نهار الايام المذكورة.
[89.2]
{ وليال عشر } اى عشر ذى الحجة، وقيل: هى العشر من آخر رمضان، وقيل: هى العشر التى اتم موسى (ع) بها ثلاثين.
[89.3]
{ والشفع والوتر } يعنى الزوج والفرد من العدد والمعدود كلها، وقيل: الزوج الخلق لان كلا من الخلق زوج تركيبى، والوتر الله، وقيل: الشفع والوتر الركعتان من صلاة الليل، والركعة الواحدة منها، وقيل: الشفع يوم النحر لانه يشفع بيوم النفر الاول، والوتر يوم عرفة لانه ينفرد بالموقف، وقيل: الشفع يوم التروية، والوتر يوم عرفة، وقيل: الشفع يوم النفر الاول، والوتر يوم النفر الثانى، وقيل: الشفع على (ع) وفاطمة (ع)، والوتر محمد (ص)، وقيل: الشفع الروح الانسانية المنضمة الى البدن، والوتر الروح المجردة عن البدن.
[89.4]
{ والليل إذا يسر } قرئ بحذف الياء وصلا ووقفا اجراء للوصل مجرى الوقف وتوفيقا للفظ والمعنى، فان السير فى الاغلب لا يتم فى الليل بل يمتد الى النهار، وقرئ باثبات الياء على الاصل، وقرئ بالتنوين المبدل من حرف المد، ونسبة السير الى الليل مجاز عقلى والمعنى اذا يسرى فيه، او المراد القسم بالليل اذا ادبر مثل والليل اذا ادبر، او المراد القسم بالليل اذا اقبل علينا، ولذلك عدل عن اذ الى اذا، وعن الماضى الى المستقبل، والمراد بالليل مطلق الليل او ليل المزدلفة فانه يسير الحاج فى اوله من عرفات الى المزدلفة وفى آخره واول نهاره من المزدلفة الى منى.
[89.5]
{ هل في ذلك قسم لذى حجر } استفهام تقريرى يعنى فى تلك الاقسام قسم كاف لذى عقل حقير او لذى عقل عظيم يعنى ان صاحب العقل يعلم ان هذه الاشياء التى اقسم بها الله اشياء عظيمة شريفة فيها دلالات بوجوه عديدة على علمه وحكمته وقدرته وعنايته تعالى بخلقه وان كان غير ذى الحجر لا يرى هذه الاقسام شيئا.
[89.6-7]
{ ألم تر } هذا الخطاب لمحمد (ص) او عام وهذا قرينة جواب القسم والتقدير لنهلكن الذين افسدوا فى الارض الم تر { كيف فعل ربك بعاد } عاد اسم لقوم هود سموا باسم ابيهم فان عادا كان عادين، عادا الاولى، وعادا الاخرى وقوله تعالى { إرم } كعنب اسم آخر لعاد، او هو اسم جد عاد، او هو اسم سام بن نوح، فان عادا كان ابن عوص بن آدم بن سام بن نوح (ع)، وقوم هود كانوا اولاد عاد سموا باسم جدهم وابيهم، او هو اسم لقبيلة هود، وقيل: هو اسم لقبيلة من قوم هود كان الملك فيهم، وقيل: هو اسم بلد، وقيل: هو دمشق، وقيل: هو مدينة الاسكندرية، وقيل: هو اسم لجنة شداد، وعلى اى تقدير فهو بدل من عاد اما بدل الكل من الكل، او بدل الاشتمال، فانه اذا كان اسما للبلد فان اريد به اهله كان بدل الكل من الكل، وان اريد به نفس البلد كان بدل الاشتمال { ذات العماد } العماد بالكسر الشجعان من العسكر والابنية الرفيعة والعمود والاخبية، واهل العماد اهل الاخبية ، وقيل: سماهم الله ذات العماد لانهم كانوا اهل الاخبية وكانوا سيارين لرعى مواشيهم، وقيل: معناه ذات الطول والشدة، او كانوا اهل القصور الرفيعة، او كان فيه شجعان قوية.
وصف ارم ذات العماد
قيل: خرج رجل يقال له عبد الله بن قلابة فى طلب ابل له شردت، فبينا هو فى صحارى عدن اذ هو قد وقع على مدينة عليها حصن فلما دنى منها ظن ان فيها احدا يسأله عن ابله فنزل عن دابته وعقلها وسل سيفه ودخل الحصن، فاذا هو ببابين عظمين لم ير اعظم منهما مرصعين بالياقوت الابيض والاحمر فدهش، وفتح احد البابين فاذا هو بمدينة لم ير احد مثلها، فيها قصور فوقها غرف وفوق الغرف غرف مبنية بالذهب والفضة واللؤلؤ والياقوت، ومصاريع تلك الغرف مثل مصراع المدينة مفروشة كلها باللئالى وبنادق من مسك وزعفران، فلما لم ير فيها احدا هاله ذلك ونظر فرأى اشجارا فى ازقتها مثمرة وتحت الاشجار انهار جارية من قنوات من فضة، فظن الرجل انها هى الجنة الموصوفة فى القرآن فحمل معه من لؤلؤها ومن بنادق المسك والزعفران، ولم يستطع ان يقلع من زبرجدها وياقوتها وخرج ورجع الى اليمن واخبر الناس فانتشر الخبر حتى بلغ معاوية خبره، فأرسل اليه فقص عليه القصة فأرسل معاوية الى كعب الاحبار فلما أتاه سأله عن ذلك فقال: اخبرك بتلك المدينة وبمن بناها، بناها شداد بن عاد والمدينة ارم ذات العماد التى وصفها الله تعالى ان عادا الاولى ابا قوم هود كان له ابنان شداد وشديد فهلك عاد وبقيا وقهرا البلاد، فهلك شديد وبقى شداد مالكا لجميع ملوك الارض، فدعته نفسه الى ان بنى مثل الجنة التى وصفها الله لانبيائه (ع) فأمر ببناء تلك المدينة وامر على صنعتها مائة قهرمان مع كل قهرمان الف من الاعوان، وكتب الى ملوك الدنيا ان يجمعوا له ما فى بلادهم من الجواهر واقاموا فى بنائها مدة طويلة ثم سار الملك اليها فى جنده ووزرائه فلما كان منها على مسيرة يوم بعث الله عليه وعلى من معه صيحة من السماء فأهلكتهم جميعا، وسيدخلها فى زمانك رجل من المسلمين احمر اشقر قصير على حاجبه خال وعلى عنقه خال يخرج فى طلب ابل له وكان الرجل عند معاوية فالتفت اليه وقال: هذا والله ذلك الرجل.
[89.8-9]
{ التي لم يخلق مثلها في البلاد وثمود الذين جابوا الصخر } اى حفروا الصخر وقطعوها لبناء البيوت { بالواد } اى وادى القرى.
[89.10]
{ وفرعون ذى الأوتاد } قد مضى فى سورة ص بيان كونه ذا الاوتاد.
[89.11-13]
{ الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب } السوط الخلط وهو ان تخلط شيئين فى انائك ثم تضربهما بيدك حتى يختلطا، والمقرعة والنصيب والشدة والضرب بالسوط، واستعمال الصب للاشعار بكثرة العذاب وشدته.
[89.14]
{ إن ربك لبالمرصاد } المرصاد الطريق والمكان الذى يرصد ويترقب فيه العدو والمعنى انه تعالى فى محل يرصد فيه جميع افعالهم واقوالهم واحوالهم فلا يفوته شيء منها فيجازيهم عليها، وعن الصادق (ع): المرصاد قنطرة على الصراط لا يجوزها عبد بمظلمة عبد.
[89.15]
{ فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه } كأنه قال: هذا حال الرحمن فاما الانسان اذا ما ابتلاه ربه { فأكرمه ونعمه } بيان لاكرامه { فيقول ربي أكرمن } هذا خبر الانسان ولذلك ادخل الفاء التى تكون عقيب اما عليه، وقوله: اذا ما ابتليه على تقدير التأخير يعنى يفرح بالنعمة ويحسب ان النعمة كرامة من الله له والحال انها قد تكون استدراجا ونقمة.
[89.16]
{ وأمآ إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن } لانه لا يحسب النعمة فى غير النعم الصورية ويحسب ان الكرامة والنعمة والعزة انما هى فى النعم الصورية.
[89.17-19]
{ كلا } ردع له عن هذا الحسبان وتعليق للتوسعة والتقتير على فعل الانسان يعنى ليس التوسعة والتقتير على ما تزعمون { بل لا تكرمون اليتيم ولا تحاضون } اى لا تحاثون، والحض والحث لازمان ومتعديان { على طعام المسكين وتأكلون التراث أكلا لما } التراث من الارث بمعنى ما يورث، ولما كان جميع الدنيا مما اورث من السابقين او يورث للاحقين يصدق عليها التراث، فقيل: كانوا لا يورثون الايتام والنساء وكانوا يأكلون انصبائهم، وقيل : المعنى يأكلون الميراث ولا يخرجون حقوقه الواجبة والمندوبة لكن الحق عدم التخصيص بل المراد انهم يأكلون ما يؤكل، ويجمعون ما يجمع، ويدخرون ما يدخر، وينكحون ما ينكح، ويركبون ما يركب، ويلبسون ما يلبس، ويدركون ما يدرك، ويتخيلون ما يتخيل، اكلا جامعا بين صحيحها وفاسدها، حلالها وحرامها، مأمورها ومنهيها، وجامعا بين حتى الهيتها ونفسانيتها، ولما اما اصله لما بالتنوين، اجرى الوصل على الوقف، او اصله لما بالالف المقصورة اما وهو مصدر للم بمعنى جمع، وحينئذ تكون مفعولا مطلقا لفعل محذوف، او صفة لاكلا، او هو بمعنى جميعا وتأكيد للتراث.
[89.20]
{ وتحبون المال حبا جما } الجم الكثير من كل شيء او هو مصدر جم بمعنى كثر وهو اما صفة لجما او مفعول مطلق لفعل محذوف هو حال.
[89.21]
{ كلا } ردع لهم عن ذلك { إذا دكت الأرض دكا دكا } الدك الدق والهدم وتسوية صعود الارض وهبوطها، واندك المكان استوى، وكنس التراب وتسويته.
[89.22]
{ وجآء ربك } المضاف الذى هو القائم فى وجودك وقد سماه الصوفية بالفكر والحضور والسكينة وهو ملكوت ولى الامر، ولا يظهر على السالك الا بعد موته الاختيارى، واذا ظهر ظهر جميع آثار القيامة فى عالمه الصغير وجميع ما ورد من علائم ظهور القائم (ع) وآثاره فى الاخبار وكان مؤيدا بالملائكة ويظهر الملك على السالك حين ظهوره وبعده ولذلك قال تعالى { والملك صفا صفا } المراد بالملك الجنس ولذلك قال صفا صفا فان الواحد لا يكون صفا صفا والمراد ان الملائكة يجيؤن فى صفوف عديدة بحسب مراتبهم فى القرب والبعد.
[89.23]
{ وجيء يومئذ بجهنم } فان الظاهر عليه ولى امره ينفتح بصيرته الاخروية فيرى ما لا يراه غيره فيرى جهنم وانواع عقباتها وعقوباتها، ويرى الجنان ايضا وانواع نعيمها،
" عن الرسول (ص) انه قال: ان روح الامين اخبرنى ان الله لا اله الا هو اذا برز الخلائق وجمع الاولين والآخرين اتى بجهنم تقاد بالف زمام اخذ بكل زمام مائة الف يقودها من الغلاظ الشداد، لها حدة وغضب وزفير وشهيق وانها لتزفر الزفرة، فلولا ان الله اخرهم للحساب لاهلكت الجميع ثم يخرج منها عنق فيحيط بالخلائق البر منهم والفاجر من خلق الله عبدا من عباد الله ملكا ولا نبيا الا ينادى: رب نفسى!. نفسى!. وانت يا نبى الله تنادى امتى امتى!. ثم يوضع عليها الصراط ادق من الشعر واحد من حد السيف عليه ثلاث قناطر، فاما واحدة فعليها الامانة والرحم، والثانية فعليها الصلاة، والثالثة فعليها رب العالمين لا اله غيره فيكلفون الممر عليها فيحبسهم الرحم والامانة، فان نجوا منها حبستهم الصلاة، فان نجوا منها كان المنتهى الى رب العالمين وهو قوله: ان ربك لبالمرصاد، والناس على الصراط، متعلق بيد، وتزل قدم، ويستمسك بقدم والملائكة حولها ينادون: يا حليم اعف واصفح وعد بفضلك وسلم سلم، والناس يتهافتون فى النار كالفراش فاذا نجا ناج برحمة الله مر بها، فقال: الحمد لله وبنعمته تتم الصالحات وتزكوا الحسنات والحمد لله الذى نجانى منك بعد أياس عنه وفضله، ان ربنا لغفور شكور "
{ يومئذ يتذكر الإنسان } هذه جواب اذا او هذه مستأنفة وجواب اذا محذوف او جوابها قوله تعالى: يقول يا ليتنى قدمت، او قوله: فيومئذ لا يعذب عذابه احد والمقصود ان الانسان فى ذلك اليوم يتذكر خيره وشره، وان اى الاعمال كان نافعا وايها كان ضارا لكن لا ينفعه ذلك التذكر ولذلك قال { وأنى له الذكرى } اى الذكرى النافعة.
[89.24]
{ يقول يليتني قدمت لحياتي } اى ليتنى قدمت لانتفاعى فى حياتى فى الآخرة، او ليتنى قدمت فى حياتى الدنيا.
[89.25-27]
{ فيومئذ لا يعذب عذابه } قرئ يعذب بالبناء للفاعل وبالبناء للمفعول وعلى القرائتين فضمير عذابه لله او للانسان وعذابه مفعول مطلق نوعى وهذه اوصاف الانسان الغافل الكافر { أحد ولا يوثق وثاقه أحد يأيتها النفس المطمئنة } حال او جواب لسؤال مقدر عن حال الانسان المؤمن ناش عن ذكر الانسان الكافر واحكامه وكلا الوجهين بتقدير القول، ونفس الانسان ذات مراتب ودرجات عديدة وامهات مراتبها بحسب تمكن الشيطان منه وتمكنه فى دار الرحمن وتوسطه منهما ثلاث؛ وتسمى الاولى بالامارة وهى التى تأمر بالسوء اى بما تهواه سواء كان فى صورة الخير او الشر، ولا ترتدع ولا تندم عليه، والثانية باللوامة وهى التى تلوم نفسها فى كل ما تأتى خيرا كان او شرا وتحزن على ما فعل من حيث شريته، او من حيث نقصانه عن درجة الكمال، او من حيث نسبته الى نفسها، والثالثة بالمطمئنة لاطمينانها الى ربها وخروجها عن انانيتها التى هى سبب اضطرابها.
[89.28]
{ ارجعي إلى ربك } المضاف الذى هو ولى امرك وهو على الاطلاق على (ع) او الى رب الارباب بالرجوع الى مظاهره ودار كرامته وضيافته { راضية } بما فعل ربك بك { مرضية } عند ربك وخلفائه.
[89.29]
{ فادخلي في عبادي } لخروجك عن انانيتك ودخولك فى العبودية بالخروج من الانانية.
[89.30]
{ وادخلي جنتي } المضاف الى نفسى المعدة لاوليائى.
اعلم، انه لا يحصل الاطمينان للسلاك الى الله الا بنزول السكينة التى تسمى فى اصطلاح الصوفية بالفكر والحضور، وهو ان يتمثل ملكوت ولى الامر فى صدر السالك، وحصول صورة ولى الامر اما يكون بنحو المباينة او بنحو الاتصال او بنحو الاتحاد او بنحو الوحدة، ولا يحصل الاطمينان التام الا فى المرتبة الاخيرة وان كان يحصل اطمينان ما فى المراتب الاخر ايضا، وفيما روى عن الصادق (ع) دلالة على ما ذكر وهو انه سئل هل يكره المؤمن على قبض روحه؟ - قال: لا والله انه اذا اتاه ملك الموت لقبض روحه جزع عند ذلك فيقول له ملك الموت: يا ولى الله لا تجزع فوالذى بعث محمدا (ص) لانا أبر بك وأشفق من والد رحيم لو حضرك، افتح عينيك فانظر، قال: ويتمثل له رسول الله (ص) وامير المؤمنين (ع) وفاطمة (ع) والحسن (ع) والحسين (ع) والائمة (ع) من ذريتهم فيقال له: هذا رسول الله (ص) وامير المؤمنين (ع) وفاطمة (ع) والحسن (ع) والحسين (ع) والائمة (ع) رفقاؤك فيفتح فينظر فينادى روحه مناد من قبل رب العزة فيقول: يا ايتها النفس المطمئنة اى الى آل محمد (ص) واهل بيته ارجع الى ربك راضية بالولاية مرضية بالثواب فادخلى فى عبادى يعنى محمدا (ص) واهل بيته وادخلى جنتى فما من شيء احب اليه من استلال روحه واللحوق بالمنادى وفسر الآية بالحسين بن على (ع) ولذلك سميت السورة بسورة الحسين بن على (ع).
[90 - سورة البلد]
[90.1]
{ لا أقسم بهذا البلد } اى بلد مكة وهو البلد الحرام وقد مضى بيان لا اقسم وان لا زائدة لتأكيد القسم او نافية، ونفى لمعتقدهم، او نافية ونفى للقسم.
[90.2]
{ وأنت حل بهذا البلد } اى انت حلال هتكك ومالك ودمك، او انت حلال لك ما تفعله بهذا البلد وان كان فى وقت وهو عام الفتح، او حال ومقيم بهذا البلد، والتقييد تعظيم له (ص) واشارة الى ان فخامة المكان تكون بالمكين.
[90.3]
{ ووالد وما ولد } اى آدم (ع) وما ولد، او ابراهيم (ع) وما ولد، او على (ع) وما ولد من الائمة (ع) كما روى، والتنكير للتفخيم والاتيان بما فى مقام من للتعجيب، او المراد كل والد وما ولد بحسب الولادة الجسمانية فان التوالد بالكيفية المخصوصة فى النزو، وقرار النطفة فى مقر مخصوص وخروج الجنين منه ونموه وبلوغه مبلغ والده امر عجيب يقسم به، او المراد كل والد وما ولد بحسب الولادة الروحانية فان الولادة الروحانية اعجب من الولادة الجسمانية، او المراد والد الكل بالولادة الروحانية وهو محمد (ص) وبعده على (ع).
[90.4]
{ لقد خلقنا الإنسان في كبد } اى فى شدة ومشقة فى الدنيا او فى الرحم او من اول خلقته او مستقيما منتصبا بخلاف سائر الدواب، وعن الصادق (ع) انه قيل له: انا نرى الدواب فى بطون ايديها الرقعتين مثل الكى فمن اى شيء ذلك؟ - قال: موضع منخريه فى بطن امه وابن آدم منمتصب فى بطن امه، وذلك قول الله عز وجل: { لقد خلقنا الإنسان في كبد } ، وما سوى ابن آدم فرأسه فى دبره ويداه بين يديه.
[90.5]
{ أيحسب أن لن يقدر عليه أحد } ضمير يحسب راجع الى الانسان والمراد به مطلق الانسان، او المراد به الانسان المخصوص يعنى يحسب ان لن يقدر عليه احد فى قتله ابنة النبى (ص)، وقيل: هو ابو الاسد بن كلدة كان قويا شديد الخلق.
[90.6]
{ يقول أهلكت مالا لبدا } اللبد كصرد وسكر واللابد المال الكثير يعنى يقول انفقت مالا كثيرا فى عداوة محمد (ص) مفتخرا به، او اهلكت مالا كثيرا فى نصرته مغتما به، او اهلكت مالا كثيرا بامره فى الكفارات وغيرها اظهارا للغرامة والندامة، وقيل: هو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف وذلك انه اذنب ذنبا فاستفتى رسول الله (ص) فأمره ان يكفر فقال: لقد ذهب مالى فى الكفارات والنفقات منذ دخلت فى دين محمد (ص)، وفى خبر يعنى الذى جهز به النبى (ص) فى جيش العسرة، وفى خبر هو عمرو بن عبدود حين عرض عليه على بن ابى طالب (ع) الاسلام يوم الخندق قال: فاين ما انفقت فيكم مالا لبدا وكان انفق مالا فى الصد عن سبيل الله.
[90.7]
{ أيحسب أن لم يره أحد } اى انه لم يره احد فى اعماله وافعاله واقواله فيطالبه بذلك ويسأله عنه والمقصود انه يظن ان لم يره الله تعالى فى ذلك وبئس الظن ذلك لا ينبغى ان يظن ذلك كيف لم يره احد ولم نره وقد خلقناه وجعلنا فيه دقائق القوى والمدارك والاعضاء ومن جعل له هذه الامور الدقيقة كيف لا يراه؟!
[90.8]
{ ألم نجعل له عينين } مشتملتين على عشرة اجزاء بحيث جعلنا فيها نورا يبصر به الاشياء.
[90.9]
{ ولسانا } مركبا من اللحم والعصب والشرائين والاوردة والاوتار والعظم مفهما به ما فى ضميره مدركا به طعم الطعوم { وشفتين } تكونان حافظتين للسان وسائر ما فى الفم محسنتين للصورة معينتين على التكلم.
[90.10]
{ وهديناه النجدين } عطف على مجموع الم نجعل فانه بمعنى جعلنا له عينين او على مدخول النفى، والمراد بالنجدين سبيل الخير والشر كما فى الاخبار، وقيل: المراد بهما الثديان، قيل لامير المؤمنين (ع): ان اناسا يقولون فى قوله: { وهديناه النجدين }: انهما الثديان، فقال: لا، هما الخير والشر.
[90.11]
{ فلا اقتحم العقبة } قحمته فى الامر تقحيما رميته فيه فجأة بلا روية فانقحم واقتحم، وقحم فى الامر قحوما رمى بنفسه فيه فجأة بلا روية، واقتحم بالغ فيه والعقبة المرقى الصعب من الجبال، والمراد بها عقبات النفس التى هى الرذائل التى لا مرقى اصعب منها فان العبور عنها وتخلية النفس منها والترقى منها الى الخصائل اصعب كل شيء ولذلك اتى بالاستفهام التعجيبى لتفخيمها وفسرها بالعبور عن الرذائل والدخول فى الخصائل بالاشارة الى امهاتها فقال: { ومآ أدراك ما العقبة فك رقبة }.
[90.12-13]
{ ومآ أدراك ما العقبة فك رقبة }.
شرح فى القوى الاربع للانسان
اعلم، ان الانسان له قوى اربع وكل من الاربع لها اعتدال وتوسط بين الافراط والتفريط فى الآثار، والتوسط والاعتدال منها ممدوح ومطلوب، والافراط والتفريط مذموم وقبيح، والقوى الاربع هى العلامة والعمالة والشهوية والغضبية، فالعلامة كسلطان البلد يأمر وينهى ويدبر، والعمالة كالوزير الذى يمضى فى امر الملك، والشهوية كالناظر الوكيل لخرج الجنود، والغضبية كامير الجنود، واعتدال العلامة بتمييزها بين الحق والباطل والمحق والمبطل والخير والشر كما هى، ويسمى ذلك التميز بالحكمة العلمية، ولما كان الحكمة العلمية هى التميز بين الذوات والاقوال والافعال والاحوال والاخلاق والعلوم والوجدانات والخطرات والخيالات والمشاهدات والتفاتات القلب من حيث ارتباطها ورجوعها الى الآخرة، وكان فى ازديادها ازدياد كمال النفس وفى نقصانها نقصانه لم يكن لها طرفا افراط وتفريط، بل كانت الجربزة التى عدوها افراط القوة العلامة النفسانية تفريطا وقصورا للنفس عن البلوغ الى درجة الحكمة، لان الجربزة هى التصرف بحسب العلم الوهمى فى الامور الدنيوية زائدا على ما ينبغى وليس ذلك الا من نقصان ادراك الامور الاخروية، فالجربزة والبلادة اللتان عدوهما طرفى افراط العلامة وتفريطها معدودان من قسم البلادة ولذلك فسروا الاحمق والسفيه بمن لا يعرف الحق سواء كان بحسب الدنيا سفيها او لم يكن، مثل معاوية فانه كان بحيث سماه اهل زمانه باعقل زمانه، ولاجل عدم طرف الافراط المذموم للحكمة قالوا: الرذائل بحسب الامهات سبع، والخصائل بحسب الامهات اربع، واعتدال العمالة بان تكون تحت حكم العاقلة العلامة وان تقدر على الاتيان بما يأمرها العاقلة ويسمى بالعدل الذى هو وضع كل شيء فى محله ولا يمكن ذلك الا باستخدام الشهوية والغضبية، وطرفا افراطه وتفريطه يسميان بالظلم والانظلام، واعتدال القوة الشهوية ان تكون مطيعة للعمالة المنقادة للعاقلة العلامة ويسمى اعتدالها بالعفة، وطرفا افراطها وتفريطها يسميان بالشره والخمود، واعتدال الغضبية يسمى بالشجاعة وطرفا افراطها وتفريطها يسميان بالتهور والجبن، وقد يقال: ان القوى الاربع فى الانسان هى البهيمية والسبعية والشيطنة التى هى العلامة النفسانية الوهمية، والعاقلة التى هى العلامة العقلانية ويجعل العمالة خادمة للقوى الاربع ويجعل العدل المتوسط بين الظلم والانظلام من شعب الشجاعة، ويجعل الحكمة التى هى التوسط بين البلادة والجربزة من مقتضيات العلامة النفسانية، ويجعل مقتضى العلامة العقلانية تعديل القوى الثلاث وتعديل العمالة بحيث لا يخرج شيء منها من حكم العاقلة ويسمى بالعدالة وتلك العدالة ليس لها طرفا افراط وتفريط بل لها التفريط فقط وتفريطها هو قصور العاقلة عن تسخير القوى الثلاث وهو ظلم من القوى وانظلام للعاقلة وكأنه اراد العلامة النفسانية من العمالة من جعل العمالة منشأ لبعض الخصال للتلازم الواقع بينهما فقوله تعالى: فك رقبة ان كان المراد به فك رقبة نفسه عن التقيد بقيود النفس كان المراد به اصل الخصال وروحها الذى يعبر عنه بالفناء عن نسبة الافعال والصفات الى نفسه بل عن نسبة الذات الى نفسه ولذلك قدمه على الجميع، وان كان المراد به فك رقاب الناس عن رقية انفسهم وعن النار كان اشارة الى اشرف اقسام العدل، وان كان المراد به فك رقاب العبيد الصورية عن الرقبة كان اشارة الى اعلى اقسام السخاوة التى هى اشرف انواع العفة.
[90.14]
{ أو إطعام في يوم ذي مسغبة } اى ذى مجاعة اشارة الى السخاوة على المعانى الثلاثة الاول لقوله فك رقبة والى صنف آخر من السخاوة على الاخير.
[90.15-16]
{ يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة } ذا فقر من ترب تربا ومتربا ومتربة بمعنى افتقر.
[90.17]
{ ثم كان من الذين آمنوا } عطف على اطعام من قبيل عطف الفعل على الاسم الخالص بتأويل المصدر بتقدير ان، وحينئذ يكون فك رقبة اشارة الى الفناء الذى هو اصل جملة الخصال، ويكون لفظة او للترديد بينه وبين الخصال التى تحصل بالبقاء بالله بعد الفناء فى الله، ويكون الاطعام اشارة الى العفة، والكون من الذين آمنوا، اشارة الى افضل انواع الحكمة، ويكون قوله تعالى { وتواصوا بالصبر } اشارة الى الشجاعة فان حبس النفس عن الجزع عند المصيبة، وعن المعصية عند اقتضاء القوى النفسانية، وعلى الطاعة من قوة القلب التى هى الشجاعة، وقوله تعالى { وتواصوا بالمرحمة } اشارة الى العدالة فان العدل الذى هو وضع كل شيء فى محله لا يتأتى الا بالمرحمة، والتواصى بها شعبة من العدالة، او قوله كان من الذين آمنوا عطف على قوله تعالى اقتحم العقبة والعطف بثم للتفاوت بين المرتبتين.
[90.18]
{ أولئك } هم { أصحاب الميمنة } جواب لسؤال مقدر وقد مضى ان اصحاب اليمين شيعة امير المؤمنين (ع).
[90.19-20]
{ والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة عليهم نار مؤصدة } اوصد اتخذ حضيرة لابله، واوصد الكلب اغراه، والباب اطبقه واغلقه.
[91 - سورة الشمس]
[91.1]
{ والشمس وضحاها } اقسم بالشمس الصورية، او بالشمس الحقيقية، او بالروح الانسانية.
[91.2]
{ والقمر إذا تلاها } اى خلفها فى الاضاءة، او تبعها فى الطلوع او تلاها عند غروبها بان طلع حين غروبها وهو فى اواسط الشهر، او اقسم بقمر النفس الانسانية اذا تلى وتبع الروح فى العروج الى الله.
[91.3]
{ والنهار إذا جلاها } اى جلى الشمس وابرزها بكمال الظهور وهو اوقات اواسط النهار، او المراد بالشمس الامام وبالنهار الصدر المنشرح بالاسلام اذا ابرز الامام اذا ابرز الامام واستشرق بنور الامام، وهو وقت نزول السكينة على السالك بظهور الامام بملكوته عليه.
[91.4]
{ والليل إذا يغشاها } اقسم بالليل ووقت احاطة ظلمته نور الشمس فان بقاء المواليد وتوليدها لا يكون الا بظهور الشمس وغشيان الليل.
[91.5]
{ والسمآء وما بناها } اى والذى بناها، أتى بما ليكون موافقا لاعتقاد جميع الفرق، او لفظة ما مصدرية.
[91.6]
{ والأرض وما طحاها } طحى كسعى بسط وانبسط واضطجع، وطحى يطحو بعد وهلك، والقى انسانا على وجهه.
[91.7-8]
{ ونفس } كان اللائق بسياق الكلام ان يقول والنفس بلام الجنس لكنه عدل عنه اما لتفخيم النفس بالنسبة الى السابق، او لارادة نفس مخصوصة مفخمة بحيث لا يمكن تعريفه وهى النفس الكلية او نفس النبى (ص) او الولى (ع) او نفس محمد (ص) او على (ع)، او لارادة نوع مخصوص منها عظيم وهو نوع نفس الانسان { وما سواها فألهمها فجورها وتقواها } يعنى القى فى خاطرها فعل فجورها او الهمها معرفة فجورها حتى تجتنب ومعرفة تقويها حتى ترتكب.
[91.9]
{ قد أفلح من زكاها } انميها واصلحها او طهرها.
[91.10]
{ وقد خاب } خسر، او كفر، او افتقر، او جاع { من دساها } دسا يدسو نقيض زكى وبمعنى استخفى، ودسى مثل سعى من اليائى ضد زكا ايضا، ودساه من التفعيل اغواه وافسده، وقيل: قد خاب من دسى نفسه فى اهل الخير اى اخفيها فيهم وليس منهم.
[91.11]
{ كذبت ثمود } جواب سؤال مقدر واستشهاد على خيبة من دسى نفسه { بطغواهآ } الباء للسببية، والطغوى بمعنى الطغيان والعصيان، وقيل: الباء صلة كذبت والطغوى اسم للعذاب الذى نزل بهم.
[91.12]
{ إذ انبعث } اى نهض لعقر الناقة { أشقاها } اى اشقى ثمود واسمه قداركهمام وكان اسم ابيه سالفا قال رسول الله (ص) لعلى بن ابى طالب (ع):
" من اشقى الاولين؟ - قال: عاقر الناقة، قال: صدقت، فمن اشقى الآخرين؟ - قال: قلت: لا اعلم يا رسول الله (ص)، قال: الذى يضربك على هذه، واشار الى يافوخه ".
[91.13]
{ فقال لهم } الاولى ان يكون الفاء للسببية الخالصة { رسول الله } اى صالح (ع) { ناقة الله وسقياها } منصوب من باب التحذير او الاغراء، او منصوب بفعل محذوف من غير باب التحذير والاغراء اى اتركوا، والمراد بسقيها نوبة شربها او الماء الذى كانت تشربها بالنوبة.
[91.14]
{ فكذبوه } فى رسالته، او فى التحذير والاغراء، او فى نزول العذاب { فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم } دمه طلاه، والبيت جصصه، والسفينة قيرها، والارض سواها، وفلانا عذبه عذابا تاما وشدخ رأسه وشجه وضربه، والقوم طحنهم فأهلكهم كدمدمهم ودمدم عليهم { فسواها } اى سوى الدمدمة عليهم وعمهم بها، او سوى ثمود فى الدمدمة بان عمهم بها، او بان سوى بعضهم ببعضهم بان جعل كبيرهم على مقدار صغيرهم.
[91.15]
{ ولا يخاف عقباها } اى لا يخاف الله عقبى الدمدمة، او عقبى التسوية لانه لا يرد عليه شيء من فعله لانه لا يعارضه احد ولا ينتقم منه احد او لا يخاف العاقر عقبى فعلته، او لا يخاف صالح عقبى العقوبات التى خوفهم بها لكونه على ثقة من ربه فى نجاته، او لا يخاف عقبى دعوته على القوم وتبعتها، لان دعوته على القوم كانت باذن من الله واستحقاق منهم.
[92 - سورة الليل]
[92.1]
{ والليل إذا يغشى } بظلمته نور الشمس والابصار، وببرودته المدارك والروح الحيوانية والنفسانية حتى تجتمعا فى الباطن، او يغشى الناس بالنوم، او اقسم بليل الطبع او النفس او البلايا، او ليل القدر اذا يغشى اهله.
[92.2]
والنهار إذا تجلى } وقت الضحى الى الآصال او نهار الروح او السرور او نهار عالم المثال اذا تجلى لاهله.
[92.3]
{ وما خلق الذكر والأنثى } لفظة ما مصدرية او موصولة بمعنى من، والتأدية بما لتوافق اعتقاد الجميع والمراد بالذكر والانثى جنسهما، او آدم وحواء او على (ع) وفاطمة (ع)، وقرئ وخلق الذكر والانثى بدون ما.
[92.4]
{ إن سعيكم لشتى } اى متفرق، اعلم ان السعى عبارة عن حركات الاعضاء، ولما كان الحركات الارادية لا بد لها من مبدء ارادى والمبدأ الارادى لا يكون الا العلة الغائية التى هى مبدأ فاعلية الفاعل بحسب التصور وغاية الفعل بحسب الوجود، وكان الانسان ذا قوى كثيرة بحسب شعب القوى الشهوية والغضبية والشيطنة والعاقلة منفردة او مركبة، ولكل قوة مباد وغايات عديدة مثل شهوة النساء مثلا فان المشتهى لهن قد يكون الداعى فى سعيه النظر فقط، وقد يكون مع ذلك اللمس، وقد يكون التقبيل والتعانق والتحادث، وقد يكون الالتحاف معهن، وقد يكون السفاد كان سعيه مع اختلافه بحسب الصورة مختلفا فى المبدء والغاية.
[92.5]
{ فأما من أعطى } من ماله لله، ومن جاهه وعرضه، ومن قوة قواه وحركات اعضائه، ومن قوته المتخيلة والعاقلة { واتقى } من البخل ومن الاعطاء فى غير طلب رضا الله، وهذا اشارة الى الكمال العملى.
[92.6]
{ وصدق } تقليدا بان استمع من صادق وصدق، او تحقيقا بان وجد انموذج ما استمع فى نفسه { بالحسنى } اى العاقبة او المثوبة او الخصلة او الفضيلة او الكلمة الحسنى، وروى عن الصادق (ع) ان المراد بها الولاية فانه لا حسنى احسن منها، وقيل: المراد بها السير فى الله وهو ايضا آخر مقامات الولاية وهذا اشارة الى الكمال العلمى.
[92.7]
{ فسنيسره } بحسب العمل { لليسرى } اى الخصلة اليسرى التى هى ايسر شيء على انسانية الانسان وهى الجد فى طلب مرضاة الله فانه بعد ما كان الانسان مصدقا خصوصا اذا كان تصديقه تحقيقيا كان الطاعة ايسر شيء والذ شيء عنده فقوله تعالى: { من أعطى } ، اشارة الى العمل التقليدى، وصدق اشارة الى انتهاء العمل الى التحقيق، وقوله تعالى: { فسنيسره لليسرى } اشارة الى العمل التحقيقى، او المراد باليسرى السير فى الله فانه الخصلة اليسرى على الاطلاق فان السير فى الله لا يكون الا بعد الخروج عن انانيات النفس والفناء الذاتى، وكل عمل يكون مع بقاء انانية للنفس يكون له عسرة ما على النفس، او المراد باليسرى ضد اليمنى، ويسرى النفس الانسانية هى الكثرات يعنى سنيسره للاشتغال بالكثرات بحيث يكون فى نهاية اليسر عليه بعد ما كان عسيرا عليه.
[92.8]
{ وأما من بخل } بحسب العمل التقليدى { واستغنى } عن موائد الآخرة بترك العمل لها وهذا اشارة الى النقصان العملى والعلمى.
[92.9]
{ وكذب بالحسنى } اشارة الى النقصان العلمى.
[92.10]
{ فسنيسره للعسرى } اى الطريقة العسرى وهى طريق النفس الى الملكوت السفلى، ولا اعسر على الانسانية منها.
[92.11]
{ وما يغني عنه ماله إذا تردى } اى سقط فى الهاوية من: تردى فى البئر اذا سقط فيها، قال القمى: نزلت فى رجل من الانصار كانت له نخلة فى دار رجل وكان يدخل عليه بغير اذن فشكا ذلك الى رسول الله (ص) وفى المجمع
" كان لرجل نخلة فى دار رجل فقير ذى عيال وكان الرجل اذا جاء فدخل الدار وصعد النخل ليأخذ منها التمر فربما سقطت التمرة فيأخذها صبيان الفقير فينزل الرجل من النخلة حتى يأخذ التمر من ايديهم، وان وجدها فى فى احدهم ادخل اصبعه حتى يأخذ التمرة من فيه، فشكا ذلك الى النبى (ص) واخبره بما يلقى من صاحب النخلة فقال النبى (ص) لصاحب النخلة، تعطينى نخلتك المائلة التى فرعها فى دار فلان ولك بها نخلة فى الجنة؟ - فأبى، فقال (ص) بعنيها بحديقة فى الجنة؟ فأبى، وانصرف، فمضى اليه ابو الدحداح واشتراها منه بأربعين نخلة، واتى الى النبى (ص) فقال: يا رسول الله (ص) خذها واجعل لى فى الجنة الحديقة التى قلت لهذا، فلم يقبله، فقال رسول الله (ص) لك فى الجنة حدائق وحدائق وحدائق "
، فأنزل الله الآيات، وعن الباقر (ع) فأما من أعطى مما آتاه الله واتقى وصدق بالحسنى اى بان الله يعطى بالواحد عشرا الى مائة الف فما زاد فسنيسره لليسرى لا يريد شيئا من الخير الا يسر له، { وما يغني عنه ماله إذا تردى } قال: والله ما تردى من جبل ولا من حائط ولا فى بئر ولكن تردى فى نار جهنم، وعنه (ع) فاما من أعطى واتقى وآثر بقوته، وصام حتى وفى بنذره، وتصدق بخاتمه وهو راكع، وآثر المقداد بالدينار على نفسه، وصدق بالحسنى وهى الجنة والثواب من الله فسنيسره لذلك بان جعله اماما فى الخير وقدوة وأبا للائمة يسره الله لليسرى.
[92.12]
{ إن علينا للهدى } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: اليس لله صنع فى الاعطاء والبخل حتى نسب تلك الافعال الى العباد بالاستقلال؟ - فقال: ليس علينا الا الهدى واراءة طريق الخير والشر.
[92.13]
{ وإن لنا للآخرة والأولى } مبدء وغاية وملكا فنعطى منهما ما نشاء لمن نشاء.
[92.14-16]
{ فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاهآ إلا الأشقى الذي كذب } بالولاية { وتولى } عنها، او كذب بالآخرة، او بالرسالة.
[92.17]
{ وسيجنبها الأتقى } اى سيجعل منها على جانب او بعد.
[92.18-20]
{ الذى يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغآء وجه ربه الأعلى } استثناء منقطع او استثناء متصل من محذوف جواب لسؤال مقدر اى لا يؤتى ماله الا ابتغاء وجه ربه الاعلى.
[92.21]
{ ولسوف يرضى } ان كانت الآيات نزلت فى رجل خاص فالمعنى عام والاصل فى من أعطى واتقى على (ع)، وفى من بخل واستغنى هو عدوه، وقيل: المراد بمن أعطى ابو بكر حيث اشترى بلالا فى جماعة من المشركين كانوا يؤذونه فأعتقه، والمراد بالاشقى ابو جهل وامية بن خلف.
[93 - سورة الضحى]
[93.1]
{ والضحى } وقت ارتفاع الشمس او النهار تماما بقرينة قوله تعالى { والليل إذا سجى }.
[93.2]
{ والليل إذا سجى } او ضوء النهار وقدم الضحى ههنا لان الخطاب ههنا لمحمد (ص) والمقدم فى نظره ضحى عالم الارواح بخلاف السورة السابقة فان المخاطب فيها من كان سعيهم شتى والغالب عليهم التقيد بعالم الطبع الظلمانى وسجى سجوا سكن اهله او ركد ظلامه.
[93.3]
{ ما ودعك } قرئ بالتشديد وبالتخفيف اى ما تركك { ربك وما قلى } اى ما ابغضك، عن الباقر (ع) ان جبرئيل ابطأ على رسول الله (ص) وانه كانت اول سورة نزلت:
اقرأ باسم ربك الذي خلق
[العلق:1] ثم ابطأ عليه فقالت خديجة: لعل ربك قد تركك فلا يرسل اليك؟! فأنزل الله تبارك وتعالى: ما ودعك ربك وما قلى، وفى حديث: ان الوحى قد احتبس عنه اياما فقال المشركون: ان محمدا (ص) ودعه ربه، وقيل:
" ان اليهود سألوا محمدا (ص) عن ذى القرنين واصحاب الكهف فقال (ص): اخبركم غدا ولم يستثن فاحتبس الوحى واغتم لشماتة الاعداء "
، فنزلت تسلية.
[93.4]
{ وللآخرة } اى الدار الآخرة { خير لك من الأولى } اى الدنيا او الكرة الآخرة من جبرئيل فى الوحى عليك خير لك من المرة الاولى.
[93.5]
{ ولسوف يعطيك ربك فترضى } اى سوف يعطيك فى الدنيا او فى الآخرة ما يحصل لك به مقام الرضا او ما يحصل لك الرضا به، وقد فسر المعطى بالشفاعة الكبرى ولذلك ورد ان هذه الآية ارجى آية فى كتاب الله، وعن الصادق (ع) رضا جدى (ص) ان لا يبقى فى النار موحد.
[93.6]
{ ألم يجدك } استفهام انكارى واستشهاد على اعطاء ما يرضاه كأنه قيل: ما الدليل على صدق هذا الوعد؟ - فقال: الدليل عليه انه وجدك { يتيما } عن الاب والام { فآوى } اى آواك اليه او وجدك يتيما فآوى الناس اليك كما فى الخبر.
[93.7]
{ ووجدك ضآلا فهدى } عطف على الم يجدك فانه فى معنى وجدك يتيما اى وجدك قاصرا عن مرتبة الكمال المطلق فهداك اليه، او وجدك متحيرا فى امر معاشك فهداك الى تدبير معيشتك فانه يقال للمتحير فى مكسبه: انه ضال، او وجدك لا تعرف ما الكتاب ولا الايمان فهديك اليهما، وقيل: المعنى وجدك ضالا فى شعاب مكة فهداك الى جدك عبد المطلب لانه روى انه ضل فى شعاب مكة وهو صغير فرآه ابو جهل ورده الى جده، وقيل: ان حليمة التى كانت ترضعه ارادت ان ترده الى جده بعد اتمام رضاعه وجاءت به الى جده فضل فى الطريق فطلبته جزعة فرأت شيخا متكأ على عصاه فسألها عن حالها فاخبرته بذلك فقال: لا تجزعى انا ادلك عليه فجاء الى هبل فقال: هذه السعدية ضل عنها رضيعها وجئت اليك لترد محمدا (ص) عليها فلما تفوه باسم محمد (ص) تساقطت الاصنام وسمع صوتا ان هلاكنا على يدى محمد (ص) فخرج واسنانه تصطك فأخبرت عبد المطلب (ع) فطاف بالبيت فدعا فأشعر بمكانه فأقبل عبد المطلب فى طلبه فاذا هو تحت شجرة يلعب باوراقها، وقيل: انه خرج مع عمه ابى طالب (ع) فى قافلة ميسرة غلام خديجة فبينما هو راكب ذات ليلة جاء ابليس فأخذ بزمام ناقته فعدل به عن الطريق فجاء جبرئيل ورده الى القافلة، او المعنى وجدك ضالا عن قومك بمعنى ان قومك كانوا لا يعرفون مرتبتك فهدى قومك الى معرفتك.
[93.8]
{ ووجدك عآئلا } اى فقيرا { فأغنى } يعنى وجدك محتاجا فى المال فأغناك بمال خديجة، او بالقناعة او فى العلم فأغناك بالوحى، او وجدك ذا عيال فأغناك، او وجدك تمون قومك بارزاقهم المعنوية فأغناك بالوحى، روى عن الرضا (ع) انه قال: فردا لا مثل لك فى المخلوقين فآوى الناس اليك، ووجدك ضالا اى ضالة فى قوم لا يعرفون فضلك فهداهم اليك، ووجدك عائلا تعول اقواما بالعلم فأغناهم بك.
[93.9]
{ فأما اليتيم } عن الاب الصورى او عن الامام بان لا يكون له امام او بان انقطع عن امامه بغيبته او بموته او بعدم الحضور الملكوتى عنده وان كان حاضرا عنده بالحضور الملكى، او اليتيم عن العلم { فلا تقهر } اى لا تقهره على ماله فتذهب بحقه او لا تحتقره ،
" روى ان رسول الله (ص) قال: من مسح على رأس يتيم كان له بكل شعرة تمر على يده نور يوم القيامة "
، وفى خبر:
" لا يلى احدكم يتيما فيحسن ولايته ووضع يده على رأسه الا كتب الله له بكل شعرة حسنة، ومحا عنه بكل شعرة سيئة، ورفع له بكل شعرة درجة "
، وفى خبر:
" انا وكافل اليتيم كهاتين فى الجنة اذا اتقى الله عز وجل، واشار بالسبابة والوسطى ".
[93.10]
{ وأما السآئل فلا تنهر } اى لا تزجر، والمراد بالسائل من يسأل من اعراض الدنيا، او من يلتمس امرا من امور الآخرة، روى عن رسول الله (ص):
" اذا اتاك سائل على فرس باسط كفيه فقد وجب الحق ولو بشق تمرة ".
[93.11]
{ وأما بنعمة ربك فحدث } النعمة كما مر مرارا ليست الا الولاية، او ما كان لاهل الولاية من حيث انهم اهل الولاية سواء كان من لوازم الحياة الدنيا وطواريها، او من لوازم الحياة الآخرة وغاياتها، وسواء كان بصورة النعمة او بصورة البلاء، والتحديث اعم من ان يكون بالفعل او بالقول او بالكتابة او بالاشارة بل التحديث بالفعال احب الى الله من التحديث بالمقال، فاذا انعم الله على عبد بنعمة من النعم الصورية الدنيوية او الاخروية المعنوية احب ان يرى من المنعم عليه ان يظهرها بلسانه او بفعاله، فلو كتمها من غير مرجح الهى كان كافرا لانعم الله، ولما كان الخطاب يعم الرسول (ص) واتباعه كان الامر بالتحديث مختلفا بحسب اختلاف الاشخاص والاحوال، فانه اذا كان الخطاب لمحمد (ص) كان الامر بتحديث الولاية والنبوة والرسالة والقرآن واحكام الولاية والنبوة والرسالة ونزول الوحى والملك عليه والنعم الصورية جميعا، وان كان الخطاب لخلفائه كان الامر بتحديث جميع ذلك لكن فى النبوة والرسالة القرآن بنحو الخلافة لا الاصالة، وان كان الخطاب للمؤمنين كان الامر بتحديث الولاية التى قبلوها بالبيعة الخاصة والرسالة التى قبلوها بالبيعة العامة وبتحديث احكامهما وبتحديث النعم الصورية، وان كان الخطاب للمسلمين كان الامر بتحديث الرسالة التى قبلوها بالبيعة العامة وبتحديث احكامها وبتحديث سائر النعم، وعن الصادق (ع ) انه قال: اذا انعم الله على عبده بنعمة فظهرت عليه سمى حبيب الله محدثا بنعمة الله، واذا انعم الله على عبده بنعمة فلم تظهر عليه سمى بغيض الله مكذبا بنعمة الله، وعن امير المؤمنين (ع) فى حديث منعه لعاصم بن زياد عن لبس العباء وترك الملأ: لابتذال نعم الله بالفعال احب اليه من ابتذاله لها بالمقال وقد قال الله تعالى: واما بنعمة ربك فحدث والاخبار فى اظهار العلم والدين وسائر النعم اذا لم يكن مانع من ذلك كثيرة.
[94 - سورة الشرح]
[94.1]
{ ألم نشرح لك صدرك } لما كان اول هذه السورة على سياق السورة السابقة وتعداد النعمة تعالى على محمد (ص) ورد فى بعض الاخبار انه لا يقرأ فى الفريضة احديهما بدون الاخرى، وافتى بعض العلماء لذلك انهما سورة واحدة، وشرح كمنع كشف وقطع كشرح من التشريح وفتح وشرح الشيء بمعنى جعله وسيعا، وشرح الصدر توسعته بحيث لا يضيق عن ملائم ولا عن غير ملائم، وشرح صدر محمد (ص) كان عبارة عن عدم ضيقه عن الجمع بين الكثرات والوحدة، ودعوة الخلق وعبادة الحق،
" روى انه سئل النبى (ص) فقيل: يا رسول الله (ص) اينشرح الصدر؟ - قال: نعم، قال: يا رسول الله (ص) وهل لذلك علامة يعرف بها؟ - قال: نعم، التجافى عن دار الغرور، والانابة الى دار الخلود، والاعداد للموت قبل نزول الموت ".
[94.2-3]
{ ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك } اى حملك الثقيل الذى صوت، او ثقل، او كسر ظهرك، والمراد ثقل دعوة الخلق او معاشرتهم، او ثقل استماع الوحى ورؤية الملك فانه (ص) فى اول نزول الوحى صار محموما وقال: دثرونى كما سبق، او ثقل اظهار النبوة واظهار الصلاة وغيرها، او ثقل اذى الكفار والغموم التى تلحقه منهم، او ثقل اصلاح المسلمين واقامتهم على الدين.
[94.4]
{ ورفعنا لك ذكرك } بعد ما كنت خامدا مختفيا فى شعب عمك مدة مديدة، فانه رفع ذكره حتى سمع به فى حياته العرب والعجم وسمع به بعد وفاته جميع البلاد، ورفع ذكره بحيث قرنه بذكره تعالى فى الاذان الاعلامى وفى اذان الصلاة واقامتها، ورفع ذكره بحيث يذكره الخطاب والوعاظ فى خطبهم ومواعظهم ومنابرهم، ورفع ذكره بحيث كل من سمع به صلى عليه، ورفع ذكره بان شق اسمه من اسمه.
[94.5]
{ فإن مع العسر يسرا } الفاء للسببية والمعنى سهلنا لك امورك بعد ما كان صعبا اليك بسبب انا جعلنا ان يكون لكل عسر يسرين فهو تعليل لسابقه ووعد له (ص) بيسر آخر، والمراد بالعسر الفقر او تألمه (ص) عن عدم ايمان قومه وعن ايذاء المشركين له (ص) وللمؤمنين، او ضيق صدره عن المعاشرة مع الخلق ودعوتهم واقامة عوجهم.
[94.6]
{ إن مع العسر يسرا } تكرير للاول وتأكيد له ولذلك لم يأت باداة الوصل، والمكرر اذا كان معرفا باللام كان عين الاول اذا لم يكن قرينة، واذا كان منكرا كان غيره اذا لم يكن قرينة على خلافه، ولذلك ورد فى الاخبار انه: لا يغلب عسر يسرين،
" فعن النبى (ص) انه خرج مسرورا فرحا وهو يضحك ويقول: لن يغلب عسر يسرين فان مع العسر يسرا، ان مع العسر يسرا ".
[94.7-8]
{ فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب } نصب من باب علم بمعنى اعيى واتعب، وعيش ناصب ذو كد وجهد، ونصب من باب ضرب بمعنى رفع ووضع من الاضداد، ونصب له من باب ضرب بمعنى عاداه، والناصبى من كان معاديا لعلى (ع) مبالغة فى الناصب، او منسوب الى من ابدع المعاداة له (ص) اولا، والمعنى كلما فرغت مما عليك من مرمة معاشك ومن دعوة الخلق وجهادهم ومما افترض الله عليك من امور دينك فاجهد واتعب فى ابتغاء وجه الله ومرضاته، وقيل: اذا فرغت من عبادة فعقبها باخرى ولا تخل وقتا من اوقاتك فارغا لم تشغله بعبادة، وعن الصادقين (ع): فاذا فرغت من الصلاة المكتوبة فانصب الى ربك فى الدعاء وارغب اليه فى المسئلة يعطك، وعن الصادق (ع): هو دعاء فى دبر الصلاة وانت جالس، وقيل: اذا فرغت من الفرائض فانصب فى قيام الليل، وقيل: اذا فرغت من دنياك فانصب فى عبادة ربك، وقيل: اذا فرغت من الجهاد فانصب فى العبادة، او فانصب فى جهاد نفسك، وقيل: اذا فرغت من العبادة فانصب لطلب الشفاعة، وقيل: اذا صححت وفرغت من المرض فانصب فى العبادة، وقيل: اذا فرغت مما يهمك فانصب فى الفرار من النار، وعن الصادق (ع): اذا فرغت من نبوتك فانصب عليا (ع)، { وإلى ربك فارغب } ، وعنه انه قال: يقول: فاذا فرغت فانصب علمك واعلن وصيك فأعلمهم فضله علانية فقال: من كنت مولاه فعلى مولاه، الحديث، قال: وذلك حين أعلم بموته ونعيت اليه نفسه، وظاهر هذين الخبرين انه (ع) قرئ: انصب بكسر الصاد، ويمكن استفادة هذا المعنى من القراءة المشهورة لجواز ان يكون المعنى اذا فرغت من تبليغ الرسالة وتبليغ جميع الاحكام، او من حجة الوداع فجد واتعب فى خلافة على (ع) فيكون بمعنى اعى، او بمعنى ارفع خليفتك واعلنه، او بمعنى ارفع خليفتك عليهم، قال الزمخشرى: ومن البدع ما روى عن بعض الرافضة انه قرئ فانصب بكسر الصاد اى فانصب عليا (ع) للامامة، ولو صح هذا للرافضى لصح للناصبى ان يقرأه هكذا ويجعله آمرا بالنصب الذى هو بغض على (ع) اقول: ليس فى القراءات المشهورة ولا فى الشاذة قراءة انصب بكسر الصاد، ولا دلالة فيما ذكرناه من الروايتين على القراءة المذكورة، وقوله تعالى بعد ذلك: { وإلى ربك فارغب } ، يدل على انه امر بنصب الخليفة فان ظاهره يدل على نعى نفسه (ص)، والمناسب لنعى نفسه تعيين الوصى لنفسه ونصب خليفة للناس لئلا ينفصم نظامهم.
[95 - سورة التين]
[95.1]
{ والتين والزيتون } التين فاكهة معروفة وهو غذاء وادام وفاكهة كثير الغذاء قليل الفضول لا نوى له ولا قشر نافع لكثير من الامراض واسم جبل بالشام ومسجد بها، وجبل بقطفان، واسم دمشق، ومسجد، وطور تيناء بفتح التاء والمد او القصر بمعنى طور سيناء، والزيتون شجرة الزيت او ثمرتها وهو ايضا كثير المنافع يعصر منه دهن يكون اداما وجزء لاكثر الادام فى بلادهم، ومسجد دمشق، او جبال الشام، وبلد بالصين، وقرية بالصعيد، ويجوز لله تعالى القسم بكل منهما، ولكن لما كان قوله: { وطور سينين } ، وهذا البلد الامين معطوفا عليهما فالاوفق ان يكون المراد بهما احد الامكنة بحسب الظاهر، والاوفق بحسب التأويل ان يكون المراد بالتين جهة النفس العمالة الالهية، وبالزيتون جهتها العلامة فانهما مسجدان فى العالم الصغير.
[95.2]
{ وطور سينين } سينين وسينا بالمد مكسورة السين ومفتوحتها، وسينى بفتح السين والقصر يضاف اليها الطور، وقد مضى فى سورة المؤمنون بيان لها.
[95.3]
{ وهذا البلد الأمين } اى مكة، وكونها امينا لجعلها مأمنا بالمواضعة ومأمنا بمحض مشية الله حيث ابتلى بعض من اراد التعرض لها كأصحاب الفيل، وطور سينين بحسب التأويل فى العالم الصغير اشارة الى الجهة العليا من النفس التى يناجى الصاعد عليها ربه ويشاهد حضرته، وهذا البلد الامين الى مقام القلب ونواحيه، وعن الكاظم (ع) انه قال:
" قال رسول الله (ص) ان الله تبارك وتعالى اختار من البلدان اربعة فقال تعالى: والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الامين فالتين المدينة، والزيتون بيت المقدس، وطور سينين الكوفة، وهذا البلد الامين مكة "
، وقال القمى: التين رسول الله (ص)، والزيتون امير المؤمنين (ع)، وطور سينين الحسن (ع) والحسين (ع)، وهذا البلد الامين الائمة، وعن الكاظم (ع) التين والزيتون الحسن (ع) والحسين (ع)، وطور سيناء على بن ابى طالب (ع)، وهذا البلد الامين محمد (ص)، وهذه الاخبار اشارة الى بعض وجوه التأويل.
[95.4]
{ لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } قومه جعله معتدلا، وقومه ازال عوجه، وكون الانسان فى احسن تقويم بحسب الصورة والمعنى مشهود ومحسوس فانه جعل جميع اجزائه واعضائه مناسبا وموافقا له، وجعل جميع مراتبه العالية ايضا مناسبا وموافقا، واذا لوحظ مع كل مولود من النبات والحيوان كان احسن تعديلا منه.
[95.5]
{ ثم رددناه أسفل سافلين } نكر السافلين للاشارة الى انهم من فظاعة حالهم ونكارة تسفلهم لا يمكن تعريفهم فانهم يجعلهم اخس واسفل من النسوان والاطفال والمجانين، او جعلناه من اهل اسفل دركات الجحيم، وقد فسر الانسان بمنافقى الامة فى الاخبار فيكون الاستثناء منقطعا، وان كان المراد مطلق الانسان وهو الاوفق كان الاستثناء متصلا وكان المعنى لقد خلقنا هذا الجنس فى ضمن جميع الافراد فى احسن تقويم بحسب صورته وباطنه، ثم رددناه اسفل سافلين بحسب صورته وبحسب باطنه حيث انزلناه الى اسفل دركات الجحيم.
[95.6]
{ إلا الذين آمنوا } بالبيعة العامة او بالبيعة الخاصة { وعملوا الصالحات } قد مضى مكررا بيان هذه العبارة يعنى لا نردهم اسفل سافلين { فلهم أجر غير ممنون } يعنى بسبب ان لهم اجرا غير مقطوع او غير ممنون به عليهم فان المؤمنين كما يكونون من اول الصبا فى النمو بحسب الصورة يكونون فى النمو بحسب الباطن الى آخر العمر ليس ينقص زيادة العمر من ايمانهم شيئا، وكما يكونون بحسب الباطن فى النمو يكون اكثرهم بحسب الظاهر فى ازدياد البهاء والنضرة الى آخر العمر.
[95.7]
{ فما يكذبك } كذب بالامر من باب التفعيل انكره، وكذبه حمله على الكذب وجعله كاذبا وعده كاذبا والمعنى اى شيء يحملك او يجعلك او يعدك كاذبا { بعد } اى بعد هذا الدليل المشهود المحسوس على الحشر { بالدين } بالحشر والجزاء، او بسبب هذا الدين الذى انت عليه، او بولاية على (ع) او بعلى (ع)، والخطاب خاص بمحمد (ص) على التعريض او عام.
[95.8]
{ أليس الله بأحكم الحاكمين } اى احسن الحاكمين فى حكمه او اشد المتقنين فى اتقان صنعه يعنى انك اذا نظرت الى صورة الانسان وسيرته ايقنت بانه احسن حكما واتقن صنعا من كل صانع، ومن كان كذلك لا يهمل صنعه الذى عمل فيه دقائق الصنع التى تحير فيها اولوا الالباب ولا يبطله بلا غاية، فان ادنى صانع اذا كان عاقلا لا يبطل صنعه من غير فائدة.
[96 - سورة العلق]
[96.1]
{ اقرأ باسم ربك } فى اكثر الاخبار من طرق العامة والخاصة ان هذه السورة اول سورة نزلت عليه (ص) وكانت هذه السورة فى اول يوم نزل جبرئيل على رسول الله (ص) واول ما نزل كان خمس آيات من اولها، وقيل: اول ما نزل سورة المدثر، وقيل: فاتحة الكتاب، ولفظة الباء فى باسم ربك للسببية او للاستعانة، والمعنى انك كنت قبل ذلك تقرأ بنفسك، وبعد ما فنيت من نفسك وابقيت بعد الفناء وارجعت الى الخلق صرت مشاهدا للحق فى الخلق وفاعلا وقائلا وقاريا بالحق لا بنفسك، فاقرء مكتوبات الله فى الواح الطبائع والمثال ومقروات ملائكته عليك ومسموعاتك من وسائط الحق تعالى بعد ما رجعت الى الخلق باسم ربك لا بنفسك، وقيل: لفظة الباء زائدة، والمعنى اقرء اسم ربك والمعنى انك كنت تقرأ قبل الفناء اسماء الاشياء، وبعد البقاء ينبغى ان تقرأ اسم ربك لانك لا ترى بعد ذلك الا اسماء الله لا اسماء الاشياء { الذي خلق } يعنى بعد الرجوع لا ترى الاشياء الا مخلوقين من حيث انهم مخلوقون، ولما كان قوام المخلوق من حيث انه مخلوق بالخالق بل ليس للمخلوق من تلك الحيثية شيئية وانانية الا شيئية الخالق وانانيته فلم يكن فى نظرك الا اسم الله الخالق، ولما كان ظهور خالقيته واتقان صنعه ودقائق حكمته وحسن صانعيته بخلق الانسان والسير من مقام كماله فى خلقه او فى امره وخلقه الى اخس مواده بطريق السير المعكوس قال تعالى { خلق الإنسان من علق }.
[96.2]
{ خلق الإنسان من علق } العلق محركة الدم عامة، او الشديد الحمرة، او الغليظ، او الجامد منه، والطين الذى يعلق باليد، والكل مناسب.
[96.3]
{ اقرأ } خلق الانسان بدل من خلق نحو بدل البعض من الكل، او نحو بدل الكل من الكل، او تأكيد له او مستأنف وتفسير له، جواب لسؤال مقدر او مفعول لاقرء الثانى وهو جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: ما اقرء؟ - فقال: اقرء خلق الانسان من علق { وربك الأكرم } الكريم السخى الحيى الذى يعطى بلا عوض ولا غرض، ويتحمل من غير عجز، ولا يظهر اساءة المسيء فى وجهه، والاكرم البالغ فى ذلك، وهو خبر ربك او وصفه.
[96.4]
{ الذى علم بالقلم } اى علم الانسان الخط بالقلم، او علم جميع ما دون الاقلام العالية جميع ما يحتاجون اليه تعليما وجوديا او تعليما شعوريا بتوسط الاقلام العالية، او اشعر الانسان بالقلم الطبيعى حتى حصل انواع الخطوط بتوسطه، او اشعر الانسان بالاقلام العالية وانها اوائل علله حتى يطلب التشبه بها والوصول اليها.
[96.5]
{ علم الإنسان ما لم يعلم } بدل او تأكيد او مستأنف جواب لسؤال مقدر والمراد من التعليم بالقلم التعليم الوجودى وبتعليم ما لم يعلم التعليم الشعورى يعنى علم الانسان بالتعليم الشعورى ما لم يعلم بالتعليم الوجودى او كلاهما عام.
[96.6-8]
{ كلا } ردع وجواب لسؤال مقدر كأنه قيل: ان كان الرب الاكرم الذى علم الانسان ما لم يعلم فما له لم يعلم جميع الاناسى من اول اعمارهم جميع ما لم يعلموا حتى يستغنوا من اول الامر بحسب العلم؟ - فقال: كف عن هذا السؤال وهذا التمنى { إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى إن إلى ربك الرجعى } خطاب لمحمد (ص) او للانسان، وجواب لسؤال مقدر كأنه (ص) قال: فما له بعد هذا الطغيان؟ - او كأن الانسان قال: فما لنا بعد الطغيان؟ - قال: ان الى ربك الرجعى.
[96.9-10]
{ أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى } نزلت فى ابى جهل فانه قال: لو رأيت محمدا (ص) يعفر لوطئت عنقه، فقيل: هو يسجد، فجاءه ثم رجع على عقبه وكان يتقى بيديه، فقيل له فى ذلك، فقال: ان بينى وبينه خندقا من النار وهولا واجنحة.
[96.11-12]
{ أرأيت إن كان } المصلى { على الهدى أو أمر بالتقوى } اى وامر بالتقوى لكنه أتى بلفظة او للاشعار بان كلا من الوصفين يكفى فى سوء حال الناهى عن الصلاة، وجواب الشرط محذوف.
[96.13]
{ أرأيت } هذه وسابقتها تكرير وتأكيد للاولى فان المقام مقام الذم والسخط، والتكرير مطلوب { إن كذب وتولى } متعلق كذب وتولى يجوز ان يكون الله او الرسول او الصلاة.
[96.14]
{ ألم يعلم بأن الله يرى } يعنى ان كان يعلم فهو ملوم مستحق للعذاب مرتين، وان كان لا يعلم فهو ملوم ومستحق للعذاب مرة واحدة.
[96.15]
{ كلا } ردع للانسان عن فعلته { لئن لم ينته لنسفعا بالناصية } سفعه لطمه وضربه، وسفع الشيء وسمه، وسفع السموم وجهه لفحه لفحا يسيرا، وسفع بناصيته قبض عليها فاجتذبها، ويجوز ان يكون السفع ههنا من كل من هذه اى لنقبضن على ناصيته ونجرنه الى النار، او لنسودن وجهه، والاختصاص بالناصية لانه اشرف اجزاء الوجه وما به ظهوره اولا، او لنعلمنه او لنذلنه، او لنضربنه، وقد مضى فى سورة هود تحقيق الاخذ بناصية كل دابة عند قوله تعالى:
ما من دآبة إلا هو آخذ بناصيتهآ
[هود:56].
[96.16]
{ ناصية كاذبة خاطئة } نسبة الكذب والخطيئة الى الناصية مجاز.
[96.17]
{ فليدع ناديه } اى اهل ناديه، قيل: ان ابا جهل قال: اتهددنى وانا اكثر اهل الوادى ناديا؟! فنزلت.
[96.18]
{ سندع الزبانية } جمع الزبنية كشرذمة متمرد الجن والانس والشديد منهما، والشرطى، او الزبانية جمع الزبنى بكسر الزاء والنون وتشديد الياء بمعنى الشرطى، يعنى سندعوا الزبانية لاخذه فليدع ناديه لدفع العذاب ومدافعتنا.
[96.19]
{ كلا } ردع لمحمد (ص) عن انثلام عزيمته فى طاعة ربه، او الخطاب عام وكلا ردع لمن اراد اتباع ابى جهل فى غوايته { لا تطعه } فى النهى عن الصلاة او فى تكذيبه لمحمد (ص) { واسجد } ولا تكترث بنهيه اى صل واسجد فى صلاتك او تذلل لربك { واقترب } بسجدتك الى ربك فان اقرب ما يكون العبد الى ربه وهو ساجد، والسجود ههنا فرض، فعن ابى عبد الله (ع): العزائم الم تنزيل، وحم السجدة، والنجم اذا هوى، واقرء باسم ربك، وما عداها فى جميع القرآن مسنون وليس بمفروض، وفرض السجدة على الامة ان كان الخطاب خاصا بمحمد (ص) كان بتبعيته وفرض السجدة لقراءة امثال هذه الآية واستحبابه لما ذكرنا مكررا ان القارى ينبغى ان يكون حين القراءة فانيا عن نسبة الافعال الى نفسه ويكون لسانه لسان الله لا لسان نفسه حتى لا يكون فى زمرة من قال الله تعالى:
يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب
[آل عمران:78] فاذا صار لسان القارى لسان الله ينبغى ان يستمع الامر بالسجدة من الله فيسجد لسماع الامر بالسجدة امتثالا لامر الله المسموع من لسانه الذى صار لسان الله.
[97 - سورة القدر]
[97.1]
{ إنا أنزلناه } اى القرآن، ابهمه من دون ذكر له تفخيما له بادعاء انه معين من غير تعيين كما ان نسبة الانزال الى ضمير المتكلم وتعيين الظرف تفخيم له وقد انزل القرآن بصورته { في ليلة القدر } التى هى صدر محمد (ص)، وفى ليلة القدر التى هى النقوش المدادية والالفاظ الذى يختفى المعانى تحتها.
اعلم، انه يعبر عن مراتب العالم باعتبار امد بقائها، وعن مراتب الانسان باعتبار النزول بالليالى وباعتبار الصعود بالايام لان الصاعد يخرج من ظلمات المراتب الدانية الى انوار المراتب العالية، والنازل يدخل من انوار المراتب العالية فى ظلمات المراتب النازلة كما انه يعبر عنها باعتبار سرعة مرور الواصلين اليها وبطوء مرورهم بالساعات والايام والشهور والاعوام، وايضا يعبر عنها باعتبار الاجمال فيها بالساعات والايام وباعتبار التفصيل بالشهور والاعوام، وان المراتب العالية كلها ليال ذوو الاقدار وان عالم المثال يقدر قدر الاشياء تماما فيه ويقدر ارزاقها وآجالها وما لها وما عليها فيه، وهو ذو قدر وخطر، وهكذا الانسان الصغير وليالى عالم الطبع كلها مظاهر لتلك الليالى العالية، فانها بمنزلة الارواح لليالى عالم الطبع وبها تحصلها وبقاؤها لكن لبعض منها خصوصية، بتلك الخصوصية تكون تلك الليالى العالية اشد ظهورا فى ذلك البعض ولذلك ورد بالاختلاف وبطريق الابهام والشك: ان ليلة القدر ليلة النصف من شعبان، او التاسع عشر او الحادى والعشرون، او الثالث والعشرون، او السابع والعشرون، او الليلة الاخيرة من شهر رمضان وغير ذلك من الليالى، وعالم الطبع وكذلك عالم الشياطين والجن بمراتبها ليس بليلة القدر، وهذان العالمان عالما بنى امية وليس فيهما ليلة القدر، والاشهر المنسوبة الى بنى امية التى ليس فيها ليلة القدر كناية عن مراتب ذينك العالمين.
[97.2]
{ ومآ أدراك ما ليلة القدر } الاتيان بالاستفهامين لتفخيم تلك الليلة، ولما لم يمكن بيان حقيقة تلك الليلة قال تعالى { ليلة القدر خير من ألف شهر }.
[97.3]
{ ليلة القدر خير من ألف شهر } ليس فيها ليلة القدر، فى اخبار كثيرة عن طريق الخاصة: فأصبح كئيبا حزينا فهبط عليه جبرئيل فقال: يا رسول الله (ص) مالى اراك كئيبا حزينا؟ - قال: يا جبرئيل انى رأيت بنى امية فى ليلتى هذه يصعدون منبرى من بعدى يضلون الناس عن الصراط القهقرى، فقال: والذى بعثك بالحق نبيا انى ما اطلعت عليه فعرج الى السماء فلم يلبث ان نزل عليه بآى من القرآن يونسه بها، قال: افرأيت ان متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما اغنى عنهم ما كانوا يتمتعون وانزل عليه: انا انزلناه فى ليلة القدر وما ادريك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من الف شهر، جعل الله ليلة القدر لنبيه (ص) خيرا من الف شهر ملك بنى امية، روى انه ذكر لرسول الله (ص) رجل من بنى اسرائيل انه حمل السلاح على عاتقه فى سبيل الله الف شهر فعجب من ذلك عجبا شديدا وتمنى ان يكون ذلك فى امته فقال: يا رب جعلت امتى اقصر الامم اعمارا واقلها اعمالا فأعطاه الله ليلة القدر وقال: ليلة القدر خير من الف شهر الذى حمل الاسرائيلى السلاح فى سبيل الله لك ولامتك من بعدك الى يوم القيامة فى كل رمضان.
[97.4]
{ تنزل الملائكة والروح } تنزل نزل فى مهلة ومضى فى سورة بنى اسرائيل بيان الروح وانه اعظم من جميع الملائكة وانه رب النوع الانسانى { فيها بإذن ربهم } بعلمه او اباحته { من كل أمر } لاجل كل امر قدر فى تلك الليلة وقرئ من كل امرء بهمزة فى آخره يعنى من اجل كل انسان من حيث خيره او شره، وقيل: من كل امر متعلق بقوله تعالى { سلام هي }.
[97.5]
{ سلام هي } والظاهر انه متعلق بتنزل ومعنى سلام هى { حتى مطلع الفجر } ان تلك الليلة سلامة من كل شر وآفة، او هى تحية على طريق المجاز كما ورد عن السجاد (ع) يقول: يسلم عليك يا محمد (ص) ملائكتى وروحى سلامى من اول ما يهبطون الى مطلع الفجر، وقال القمى: تحية يحيى بها الامام الى ان يطلع الفجر، وفى خبر ان علامة ليلة القدر ان يطيب ريحها ان كانت فى برد دفئت، وان كانت فى حر بردت، وفى رواية: لا حارة ولا باردة تطلع الشمس فى صبيحتها ليس لها شعاع.
[98 - سورة البينة]
[98.1]
{ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب } اى اليهود والنصارى فانهم كانوا معروفين بهذا الاسم { والمشركين } عبدة الاصنام او عبدة الاصنام وغيرهم من اصناف المشركين، وسمى اهل الكتاب كافرين لانهم ستروا الدين والطريق الى الله، وستروا الحق بحسب صفاته وان كانوا اقروا بالتوحيد { منفكين } اى لم يكونوا متفرقين بان يكون بعضهم على الحق وبعضهم على الباطل بل كان جميعهم على الباطل مجتمعين فيه او منفكين عن دينهم او عن الوعد باتباع الحق اذا جاءهم محمد (ص) او عن الاقرار بمحمد (ص) ورسالته او عن الحجج والبراهين { حتى تأتيهم البينة } المراد بالبينة الرسول (ص) او رسالته او معجزاته، واستقبال تأتيهم بالنسبة الى قوله لم يكن والا فهو على المضى.
[98.2]
{ رسول من الله } بدل من البينة بدل الكل او بدل الاشتمال او رسوله خبر مبتدء محذوف او مبتدء خبر محذوف او مبتدء خبره قوله تعالى { يتلوا } عليهم { صحفا مطهرة } والمراد بالصحف الالواح العالية والاقلام الرفيعة، او الصدور المستنيرة والقلوب المضيئة، او الكتب الماضية السماوية من كتب الانبياء الماضين والكل مطهر من التغيير والتبديل والمادة ونقائصها وانقلاباتها ومن مس ايدى الاشرار ومن اتيان البطلان اليها.
[98.3]
{ فيها كتب قيمة } اى مكتوبات مستقيمة لا عوج فيها اصلا، او مقيمة تقيم كل من اتصل بها، او معتدلة لا انحراف فيها، او كافية يكفى جميع امور من توسل بها، او المراد بالصحف المطهرة القرآن وفيها جميع العلوم القلبية والقالبية الكافية لمن تدبرها وتوسل بها.
[98.4]
{ وما تفرق الذين أوتوا الكتاب } فيما ذكر سابقا { إلا من بعد ما جآءتهم البينة } يعنى لم يكونوا منفكين عن دينهم او اجتماعهم او تصديق محمد (ص) وما تفرقوا الا بعد الرسول (ص) بان صدق بعضهم وكذب بعضهم وبقى بعضهم على دينه وترك بعضهم دينه.
[98.5]
{ ومآ أمروا } اى والحال انهم ما امروا بشيء { إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفآء } الحنيف الصحيح الميل الى الاسلام الثابت عليه وكل من حج او كان على دين ابراهيم { ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة } قد مضى فى اول البقرة بيان لاقامة الصلاة وايتاء الزكاة يعنى ان اهل الكتاب ما امروا على لسان انبيائهم (ع) وفى كتبهم الا بتوحيد العبادة المستلزم لتوحيد الواحب والمبدء، وباقامة الصلاة التى هى عماد الدين وجالب الخصائل، وايتاء الزكاة الذى هو تطهير من كل رذيلة، وما تأمرهم انت ايضا الا بذلك، فما لهم اختلفوا فى تصديقك وتكذيبك؟! { وذلك } اى توحيد العبادة وتوحيد المبدء واقامة الصلاة وايتاء الزكاة { دين القيمة } اى دين الكتب القيمة، وقيل: القيمة جمع القائم اى دين القوم القائمين بأمر الله.
[98.6-8]
{ إن الذين كفروا } بالرسول (ص) او بكتابه او بأمر الله تعالى فى رسوله (ص) او بالولاية والجملة جواب لسؤال مقدر عن حال المختلفين { من أهل الكتاب والمشركين } عطف على الذين كفروا او على اهل الكتاب { في نار جهنم خالدين فيهآ أولئك هم شر البرية إن الذين آمنوا } من اهل الكتاب والمشركين او من اى فرقة كانوا { وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية جزآؤهم عند ربهم جنات عدن تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيهآ أبدا رضى الله عنهم ورضوا عنه } ومقام الرضا آخر مقامات النفس الانسانية كما ان جنة الرضوان آخر الجنان { ذلك لمن خشي ربه } قد مضى مكررا ان الخشية حالة حاصلة من امتزاج الخوف والحب ولا تكون الا بعد العلم بالمخشى منه الذى كان له محبوبية ولذلك قال تعالى:
إنما يخشى الله من عباده العلماء
[فاطر: 28] انما يخشى الله من عباده العلماء يعنى من لم يعلم بالله لم يخشه لعدم حصول المحبة له.
[99 - سورة الزلزلة]
[99.1]
{ إذا زلزلت الأرض زلزالها } المعهود وهو زلزال القيامة الصغرى او الكبرى او الزلزال اللائق بحالها وهو الزلزال المحيط بها وهو الزلزال العام الذى ليس الا فى القيامة، فان ارض البدن عند الاحتضار يتزلزل تزلزلا عظيما.
[99.2]
{ وأخرجت الأرض أثقالها } اثقال الارض عبارة عن القوى والارواح وعن القوى والاستعدادات المكمونة فى ارض العالم الكبير او فى الابدان فان ارض البدن عند الموت تخرج بالموت جميع ما فيها من الفعليات الموجودة والاستعدادات المكمونة وتظهر حينئذ جميع المكمونات فى العالم الكبير.
[99.3-4]
{ وقال الإنسان } الواقع فى الزلزال او الناظر الى الزلزال تعجبا من ذلك الزلزال { ما لها يومئذ تحدث أخبارها } روى عن الباقر (ع) ان امير المؤمنين (ع) قال: انا الانسان واياى تحدث اخبارها، وروى عن النبى (ص) انه قال: اتدرون ما اخبارها؟ - قالوا: الله ورسوله اعلم، قال: اخبارها ان تشهد على كل عبد وامة بما عمله على ظهرها، تقول: عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا، فهذه اخبارها.
[99.5]
{ بأن ربك أوحى لها } ان تحدث وحى الهام او وحيا بتوسط الملك.
[99.6]
{ يومئذ } اى يوم القيامة الصغرى { يصدر الناس } اى القوى والمدارك الانسانية فى العالم الصغير من مرافدها ومحالها او يوم القيامة الكبرى يصدر افراد الناس من مراقدهم ومواقفهم { أشتاتا } متفرقين فى صفوف عديدة بحسب مراتبهم ودرجاتهم فى السعادة والشقاوة { ليروا أعمالهم } قرئ بفتح الياء وضمها، وقد مضى مكررا ان العامل يحصل من عمله فعلية فى نفسه ويراه العامل بعد الموت بصورة مناسبة لذلك العمل وهذا العامل، ويرى صورة اخرى موافقة لتلك الصورة فى الآخرة فيرى أعماله بانفسها وبصورها اللائقة بها المعبر عن تلك الصور بجزاء الاعمال.
[99.7]
{ فمن يعمل } من المؤمنين { مثقال ذرة } اى مقدار ذرة { خيرا يره } يعنى لا يعزب عن نظر المؤمنين شيء يسير من اعماله ويرى اعماله بصورها وبجزائها، واما شرور المؤمن فاما ممحوة او مغفورة او مبدلة، فلا يراها، او المعنى فمن يعمل من المؤمن والكافر مثقال ذرة خيرا يره لكن المؤمن يراه فى ميزان نفسه والكافر يراه فى ميزان المؤمن، فيزداد تحسره.
[99.8]
{ ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } يعنى من يعمل من الكافر فان خيرات الكافر تحبط، وشرور المؤمن قد ذكر انه لا يراها، او من الكافر والمؤمن فان المؤمن يرى شروره فى ميزان الكافر.
[100 - سورة العاديات]
[100.1]
{ والعاديات ضبحا } اقسم بالخيل العاديات فى الجهاد، والضبح صوت انفاس الخيل وهو مفعول مطلق للعاديات فانها مستلزمة للضبح، او لفعله المحذوف، او حال بمعنى ضابحات.
[100.2]
{ فالموريات قدحا } ورى الزند خرجت ناره، واوريت الزند اخرجت ناره، وقدح بالزند رام اخراج ناره، عبر عن خروج النار من ملاقات حوافر الخيل والاحجار بالايراء والقدح.
[100.3]
{ فالمغيرات صبحا } اى وقت صبح، واغار بمعنى عجل فى المشى واغار على القوم غارة واغارة، واغار الفرس اشتد عدوه فى الغارة.
[100.4]
{ فأثرن به } اى بالصبح او بالعدو { نقعا } اى غبارا.
[100.5-6]
{ فوسطن به جمعا إن الإنسان لربه لكنود } الكنود كافر النعم، والكافر واللوام لربه تعالى، والبخيل، والعاصى، ومن يأكل وحده ويمنع رفده ويضرب عبده، والمراد بالانسان مطلق الانسان، فانها كما روى نزلت فى غزاة على (ع) لاهل الوادى اليابس كانوا اثنى عشر الفا قد استعدوا وتعاهدوا وتعاقدوا على ان يقتلوا محمدا (ص) وعلى بن ابى طالب (ع) فأرسل النبى (ص) اليهم ابا بكر فلما وصل اليهم ورأى عدتهم وكثرتهم جبن وجبن اصحابه ورجع الى رسول الله (ص) فقال الرسول (ص) خالفت قولى وعصيت الله وعصيتنى، ثم ارسل اليهم عمر، ففعل مثل ما فعل صاحبه، ثم ارسل اليهم عليا (ع) واخبر انه سيفتح الله على يديه، فسار على (ع) اليهم فى اربعة آلاف من المهاجرين والانصار وسار بهم غير مسير صاحبيه فانهما كانا يسيران برفق وسار على (ع) واتعب القوم حتى وصل الى مكان يرونهم فلما سمع اهل الوادى اليابس بمقدم على (ع) اخرجوا اليه منهم فأتى رجل شاكى السلاح وخرج على (ع) مع نفر من اصحابه فقالوا لهم: من انتم؟ - ومن اين اقبلتم؟ - قال: انا على بن ابى طالب جئنا اليكم لنعرض عليكم الاسلام فان تقبلوا والا قتلناكم، فقالوا: انا قاتلوك وقاتلوا اصحابك، والموعود بيننا وبينك وقت الضحوة من غد، فانصرفوا وانصرف على (ع)، فلما جنه الليل امر اصحابه ان يحسنوا الى دوابهم فلما انشق عمود الصبح صلى بالناس بغلس ثم غار عليهم بأصحابه، فلم يعلموا حتى وطئتهم الخيل فما أدرك آخر اصحابه حتى قتل مقاتليهم، وسبى ذراريهم، واستباح اموالهم، وخرب ديارهم، واقبل بالاسارى والاموال معه، فصعد الرسول (ص) المنبر قبل وصول على (ع) واخبر الناس بما فتح الله على المسلمين واعلمهم انذه لم يفلت منهم الا رجلان، ونزل، فخرج يستقبل عليا (ع) فى جميع اهل المدينة حتى لقيه على ثلاثة اميال من المدينة، فلما رآه على (ع) مقبلا نزل عن دابته ونزل النبى (ص) حتى التزمه وقبل ما بين عينيه، وعن جعفر بن محمد (ع): ما غنم المسلمون مثلها قط الا ان يكون من خيبر فانها مثل خيبر فانزل الله تبارك فى ذلك اليوم هذه السورة.
[100.7]
{ وإنه على ذلك لشهيد } يعنى ان الانسان يشهد ويعلم انه كنود، او الله يشهد على انه كنود.
[100.8]
{ وإنه لحب الخير لشديد } اى بخيل او قوى، والمراد بالخير المال او الحياة او كل ما كان ملائما للانسان.
[100.9]
{ أفلا يعلم إذا بعثر } اى بعث { ما في القبور } اى قبور التراب من الاموات، وقبور الابدان من القوى والفعليات، والقوى والاستعدادات المكمونات.
[100.10]
{ وحصل ما في الصدور } من النيات والارادات والخيالات والاعتقادات.
[100.11]
{ إن ربهم بهم يومئذ لخبير } الجملة مفعول يعلم معلق عنها العامل يعنى انه ينبغى ان يعلم ذلك فيرتدع من خلاف قول رسوله (ص) وضمير بهم راجع الى الانسان لانه اما فى معنى الجنس، او راجع الى ما فى القبور، والتعبير بما لان ما فى القبور ما دام فى القبور فى حكم غير ذى الشعور، واذا بعث من القبور صار فى حكم ذى الشعور.
[101 - سورة القارعة]
[101.1-3]
{ القارعة ما القارعة ومآ أدراك ما القارعة } وضع الظاهر موضع المضمر وتكرير الاستفهام ونفى دراية محمد (ص) او دراية من له شأن الدراية تعظيم وتهويل للقارعة والمراد بالقارعة اما القيامة فانها تقرع كل من كان له فى الدنيا انانية بما فيها من الاهوال، او المراد بها الداهية الى تكون فى القيامة.
[101.4]
{ يوم يكون الناس كالفراش المبثوث } الذى يتهافت على السراج ولا يكون لحركته وطيرانه نظام، شبه الناس فى القيامة به لشدة تحيرهم وعدم انتظام حركاتهم مثل قوله تعالى:
كأنهم جراد منتشر
[القمر:7] ويوم منصوب بالقارعة، او باعنى محذوفا، او بيكون محذوفا.
[101.5]
{ وتكون الجبال كالعهن المنفوش } العهن الصوف او المصبوغ منه الوانا، والمنفوش المنتشر والمعنى تكون الجبال كالصوف المصبوغ المندوف.
[101.6-7]
{ فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية } اى ذات رضا، او الوصف بحال المتعلق اى فى عيشة راض صاحبها بها.
[101.8-9]
{ وأما من خفت موازينه فأمه هاوية } الام ههنا بمعنى المسكن او الخادم، او المعنى ام رأسه ساقطة فى النار، لكن الاول اولى ليوافق ظاهره التفسير الذى فى قوله تعالى { ومآ أدراك ما هيه نار حامية }.
[101.10-11]
{ ومآ أدراك ما هيه نار حامية } شديدة الحرارة.
[102 - سورة التكاثر]
[102.1]
{ ألهاكم التكاثر } اى التفاخر والتغالب بكثرة المال والاولاد، او بكثرة العشائر والقبائل، او الاهتمام فى تكثير الاموال والاولاد، والى كل اشير فى الاخبار.
[102.2]
{ حتى زرتم المقابر } يعنى ما قنعتم بالتكاثر بالاحياء حتى عددتم الاموات والحال ان الاعتبار بالاموات كان اولى من الافتخار بهم، او الهاكم التفاخر او طلب الكثرة حتى متم ودخلتم المقابر، والى كل اشير فى الاخبار
[102.3]
{ كلا } ردع عنه اى انتهوا عن ذلك { سوف تعلمون } ان الاشتغال عن الآخرة بالتكاثر سبب دخول الجحيم بل هو دخول فى الجحيم لكن لما كان مدارككم خدرة وابصاركم فى غشاوة فى الدنيا لم تحسوا بألمها ولم تبصروا نارها وانواع عذابها، او المعنى سوف تصيرون من اهل العلم واذا صرتم عالمين رأيتم الجحيم ولم يك ينفعكم علمكم حينئذ.
[102.4]
{ ثم كلا سوف تعلمون } تأكيد للاول وتخلل ثم للمبالغة فى التأكيد، او الاول فى القيامة الصغرى والثانى فى القيامة الكبرى.
[102.5-6]
{ كلا لو تعلمون علم اليقين لترون } فى الدنيا { الجحيم } كما انكم فى الآخرة تصيروت عالمين فترون الجحيم وقد مضى مكررا ان علوم النفوس لكونها غير المعلومات وجواز انفكاك المعلومات عنها اذا كانت النفوس مدبرة عن دار العلم سميت ظنونا فى الكتاب والاخبار بخلاف ما اذا كانت مقبلة على دار العلم، فان ظنونها تصير علوما بل اشرف من العلوم حينئذ، ومراتب اليقين ثلاث؛ علم اليقين وهو ادراك الشيء بصورته الحاصلة عند النفس بشهود آثار ذلك الشيء او وجدانها فى وجوده، وعين اليقين وهو مشاهدة عين ذلك الشيء، وحق اليقين وهو التحقق بذلك الشيء، والمعنى لو تعلمون فى الدنيا علم اليقين لادى بكم الى رؤية الجحيم فى الدنيا فان الظن يؤدى الى العلم، والعلم الى الرؤية، والرؤية الى المعاينة، والمعاينة الى التحقق، ولقد مر تفصيل تام لمراتب الظن والعلم واليقين ، والفرق بين العلم الاخروى والعلم الدنيوى فى سورة البقرة عند قوله تعالى:
ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون
[البقرة:102].
[102.7]
{ ثم لترونها عين اليقين }.
اعلم، ان للرؤية مراتب؛ فاولى مراتبها المشاهدة بدرجاتها مثل ان يشاهد الشيء عن بعد من غير تميز جميع معيناته وجميع دقائق شخصه وصورته، وثانية مراتبها المعاينة بدرجاتها مثل ان يشاهد الشيء بجميع مشخصاته ودقائق وجوده، وثالثة مراتبها التحقق بالمرئى بدرجاتها.
[102.8]
{ ثم لتسألن } الاتيان بثم للاشارة الى ان هذا السؤال بعد ما علموا انهم اشتغلوا بما لا فائدة لهم فيه، او للترتيب فى الاخبار { يومئذ عن النعيم } قد ذكر فى اخبار كثيرة من جملة النعيم المسؤل عنه ملائمات القوى الحيوانية والملاذ الدنيوية كالطعام واللباس والرطب والماء البارد، وفى اخبار اخر انكار ان يكون النعيم المسؤل ذلك وان السؤال والامتنان بالنعمة وصف الجاهل اللئيم، وان الله نهى عن ذلك وان الله لا يوصف بما لا يرضاه لعباده، وان النعيم المسؤل عنه محمد (ص) وعلى (ع)، او حبنا اهل البيت، او ولايتنا اهل البيت، والتحقيق فى هذا المقام والتوفيق بين الاخبار ان النعمة كما مر مرارا ليست الا الولاية وكل ما اتصل بالولاية سواء كان من ملائمات الحيوانية او من موذيات القوى الحيوانية، وبعبارة اخرى سواء عد من النعم الدنيوية او من النقم الدنيوية كان نعمة، وكل ما انقطع عن الولاية كان نقمة وان كان بصورة النعمة، وكل من اتصل بالولاية كان ضيفا لله وكان جميع نعمه الصورية والمعنوية مباحة له وكان مأمورا بالتصرف فيها بمنطوق قوله تعالى:
يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم
[البقرة: 172] ولا يسأل الله عن شيء منها ولو سأل كان سؤاله مثل السؤال عن الضيف وانه كيف أكل؟ ولم أكل؟ وعلى اى مقدار أكل؟ ولم لم يعمل لى على قدر ما أكل؟ وكان قبيحا عن البشر فكيف بخالق البشر، ومن انقطع عن الولاية كان جميع نعمه الصورية مغصوبة فى يده وللحاكم والمالك ان يسألا الغاصب عن تصرفاته فى العين المغصوبة، ولا قبح فى ذلك السؤال، ولما كان الخطاب للمحجوبين المنقطعين عن الولاية كان المراد بالنعيم الولاية ثم جميع الملائمات الحيوانية والانسانية وكان السؤال عن اداء شكرها وصرفها فى مصرفها او غير مصرفها، او المعنى اذا رفع حجاب الخيال والوهم عن بصائركم ووصلتم الى دار العلم وشاهدتم الجحيم وآلامها والجنات ولذاتها وعاينتم ان النعيم الصورى صار سببا لدخول الجحيم، وايقنتم ان النعيم الصورى كان نقمة فى الحقيقة، وان النعيم كان الولاية ولوازمها التى هى الجنة ونعيمها تسألون اكان ما كنتم فيه من الملاذ الحيوانية نعيما ام ما عليه المؤمنون توبيخا لكم؟ او المعنى انكم اذا وصلتم الى مقام المعاينة تسالون عن مقام حق اليقين ما هو؟ لانكم بالمعاينة تجدون ذوق الحقيقة وجاز لكم السؤال والجواب عنها، وما روى عن الرسول (ص) يؤيد ما وفقنا به بين الاخبار فانه قال: كل نعيم مسؤل عنه صاحبه الا ما كان فى غزو او حج، فان السالك القابل للولاية فى غزو وحج شعر به ام لا، وكذلك ما روى عن الصادق (ع) انه قال: من ذكر اسم الله على الطعام لم يسأل عن نعيم ذلك فان الذاكر لاسم الله ليس الا من قبل الولاية بالبيعة الخاصة الولوية فان غيره بمضمون: من لم يكن له شيخ تمكن الشيطان من عنقه، قد تمكن الشيطان منه، ويكون كل افعاله واقواله واحواله بتصرف الشيطان فاذا قال، بسم الله: يتصرف الشيطان فيه ويخلى اللفظ من معناه ويجعل نفسه فى الله فيصير بسم الله فى الحقيقة بسم الشيطان كما مر تحقيقه فى اول فاتحة الكتاب، ويؤيد ذلك التوفيق السورة الآتية فان السؤال عن النعمة التى انعم الله بها على عباده خسران بوجه.
[103 - سورة العصر]
[103.1]
{ والعصر } المراد بالعصر وقت صلاة العصر، اقسم به كما اقسم بالضحى، او المراد به الدهر مطلقا، او عصر النبى (ص) على ان يكون اللام لتعريف العهد، او صلاة العصر، او الملكوت فانها بعدها يختفى شمس الحقيقة فى عالم الطبع وانها بمثالها الصاعد معصورة عالم الطبع كما انها بمثالها الهابط معصورة الجبروت، او المراد بالعصر مطلق عالم الطبع لكونه عصير الملكوت.
[103.2]
{ إن الإنسان لفى خسر } خسر كفرح وضرب ضل، والخسر بالضم وبالضمتين مصدره، وخسر وضع فى تجارته عن رأس ماله، والانسان ما لم يؤمن بالبيعة الخاصة الولوية لم يكن على الطريق فان الطريق على (ع) وولايته، ولم ينفتح باب قلبه وما لم ينفتح باب قلبه بالولاية التكليفية التى هى حبل من الناس كان كلما فعل حصل له فعلية فى جهة نفسه الجهة السفلية وكلما حصل للنفس من جهتها السفلية فعلية اختفى تحت تلك الفعلية انسانيته التى هى الولاية التكوينية التى هى الحبل من الله وبضاعته انسانيته واختفاؤها خسران بضاعته ولا يخلوا الانسان آنا ما من فعل وفعلية، فجميع افراد الانسان فى خسر على الاستمرار.
[103.3]
{ إلا الذين آمنوا } بالبيعة العامة { وعملوا الصالحات } بالبيعة الخاصة او الا الذين آمنوا بالبيعة الخاصة وعملوا الصالحات بالوفاء بشروط البيعة { وتواصوا بالحق } التواصى اعم من ان يكون بالقال او بالحال او بالفعال او بالدعاء والالتماس من الله فى الحضور او بظهر الغيب، فانه قد مر فى سورة البقرة عند قوله تعالى:
أولئك يدعون إلى النار والله يدعوا إلى الجنة
[البقرة:221] بيان ان المؤمن بوجوده يدعو الى الجنة وان لم يكن له دعوة قالا، والمراد بالحق الولاية فانها حقة بحقيقة الحقية، وان كان المراد به الحق المطلق كان المراد منه ايضا الولاية لان ظهور الحق المطلق لا يكون الا بالحق المضاف الذى هو الولاية ويراد كل امر ثابت وكل امر غير باطل بارادة الولاية فان الكل من شعب الولاية { وتواصوا بالصبر } على الحق او بالصبر مطلقا فان جميع انواع الصبر التى امهاتها ثلاث؛ الصبر على المصائب، والصبر عن المعاصى، والصبر على الطاعات، راجعة الى الصبر على الحق فان المنظور من الصبر على المصائب ان لا يجزع عند المصيبة لان الجزع لا يكون الا بالغفلة عن الولاية، والمنظور من الصبر عن المعاصى عدم خروج النفس عن انقياد العقل فى ادامة الحق، والخروج عن الانقياد لا يكون الا بالغفلة عن الولاية، والصبر على الطاعة ليس الا الصبر على الولاية التى هى روح كل طاعة، ولا شك ان المؤمنين اذا التقيا حصل لكل بملاقاة الآخر صبر وزيادة توجه واشتداد ترقب لوجهته الولوية، وليجد المؤمن ذلك من وجوده.
[104 - سورة الهمزة]
[104.1]
{ ويل لكل همزة لمزة } الهمز الغمز، والضغط والنخس والدفع والضرب والعض والكسر، والكل من باب نصر وضرب، واللمز العيب والاشارة بالعين ونحوها، والضرب والدفع والفعل من البابين، قيل: المراد بالهمزة الطعان، وباللمزة المغتاب، وقيل: العكس، وقيل: الهمزة الذى يطعن فى وجهك واللمزة الذى يطعن فى غيابك، والصيغتان تستعملان فيما صار عادة وسجية، والرذيلتان حاصلتان فى تركيب الشيطنة والسبعية والبهيمية فان صاحبهما بشيطنته يتكبر على الناس ويحقرهم وبغضبه يدفع فضل من يتفضل عليه، وبشهوته يريد ان يكون ممدوحا فى الناس، ذا فضيلة عندهم محبوبا لهم، واذا اجتمع هذه الخصال يغتاب ويغمز ويطعن فى الناس لرؤية نفسه واستكباره على الخلق وتحقيرهم، وارادة كونه محبوبا فيهم بظهور النقص فيهم وعدم ظهوره فيه، فهما اخس الرذائل.
[104.2]
{ الذى جمع مالا } بحرصه الذى هو نتيجة قوته الشهوية { وعدده } اى عده مرة بعد اخرى لحبه اياه او اعده لنوائبه، والاعداد للنوائب نتيجة القوى الثلاث؛ فانه بشيطنته يريد الاستكبار على الخلق ويدبر لذلك ويهيئ اسبابه، وبشهوته يحب المال ويدخره، وبغضبه يريد دفع ما يرد عليه بما ليس ملائما له ويدفع من اراد ان يدفعه عما هو عليه فيهيئ لذلك اسبابه.
[104.3]
{ يحسب أن ماله أخلده } هو على الاخبار، او على الاستخبار بتقدير الاستفهام.
[104.4]
{ كلا } ردع له عن هذا الحسبان، ليموتن و { لينبذن في الحطمة } الحطم الكسر او خاص باليابس، والحطمة كالهمزة النار الشديدة واسم لجهنم او باب لها.
[104.5-7]
{ ومآ أدراك ما الحطمة نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة } يعنى انها ليست مثل نيران الدنيا لا تتجاوز عن الاجسام بل هى تتجاوز عن الاجسام وتصل الى القلب بل الى عليا مرتبة القلب بل الى عليا مرتبة القلب التى تلى الروح وهى الفؤاد، وانموذج ذلك فى الدنيا ان الموصوف بالرذيلتين المقهور تحت حكم القوى الثلاث تحترق نفسه الانسانية وقلبه وتنحطم بحيث كأنه لم يكن له انسانية وقلب واذا نظرت حق النظر رأيته لم يكن فيه شيء من صفات الانسان.
[104.8]
{ إنها عليهم مؤصدة } اى مطبقة اى يطبق ابوابها عليهم، او ينطبق النار عليهم بحيث لا تدع منهم شيئا.
[104.9]
{ في عمد ممددة } العمد بالتحريك والعمد بالضمتين، وقرئ بهما جمع العمود، والظرف حال عن الضمير المجرور بعلى يعنى انهم موثقون على الاعمدة الطويلة، او حال عن الضمير المنصوب اى ان النار بابوابها مطبقة عليهم حالكونها فى مسامير من الحديد المحمى يعنى ان الابواب تطبق عليهم ثم تشد بمسامير من الحديد، وقيل: المراد عمد السرادق التى فى قوله تعالى:
أحاط بهم سرادقها
[الكهف:29]، وقيل: المراد بالعمد الاغلال التى يقيدون بها.
[105 - سورة الفيل]
[105.1]
{ ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل } الخطاب عام او خاص بمحمد (ص) يعنى ان قضيتهم مشهورة بحيث تكاد ترى لكل راء وان كان قد مضى زمانها، ومحمد (ص) فتح الله بصيرته بحيث صار الماضى والآتى فى نظره كالحاضر.
[105.2]
{ ألم يجعل كيدهم } لخراب البيت { في تضليل } فى الافناء والاهلاك او فى عدم الاهتداء الى المقصد، قد اجمع الرواة ان الذى قصد بالفيل الكعبة هو ملك اليمن، وقيل: كان من قبل النجاشى ملك الحبشة على اليمن وكان حركته الى مكة بأمره، والنجاشى هذا كان جد النجاشى الذى كان فى زمن النبى (ص) وأقر به، وكان اسم ملك اليمن ابرهة بن الصباح الاشرم وكنيته ابو يكسوم بنى كعبة باليمن وامر الناس ان يحجوا اليها، وان رجلا من بنى كنانة خرج حتى قدم اليمن ثم نظر اليها فقعد فيها لقضاء حاجته فغضب ابرهة لذلك واحلف ان يهدم البيت، ثم خرج بجنوده ونزل على ستة اميال من مكة فبعث مقدمته واصاب مقدمته مأتى بعير لعبد المطلب فلما بلغه خرج حتى أتى القوم فاستأذن على ابرهة فأذن له بعد ما عرفوه انه رئيس القوم فدخل عليه وهو على سريره فعظمه ونزل من سريره وجلس معه ثم قال: ما حاجتك؟ قال: حاجتى مأتا بعير اصابتها مقدمتك، قال: اعجبتنى رؤيتك وزهدنى فيك كلامك، قال: ولم ايها الملك؟ - قال: لأنى جئت لاهدم بيت عزكم وشرفكم وجئت تسألنى حاجتك ولا تسأل عن انصرافى عن بيتكم؟! فقال: انا رب الابل وللبيت رب يمنعك منه، فأمر ابو يكسوم برد ابله فخرج فلما اصبحوا بعثوا فيلهم فلم ينبعث، وقيل: كان معهم فيل واحد اسمه محمود، وقيل: ثمانية افيال، وقيل: اثنا عشر، فظهر عليهم طير من قبل البحر مع كل ثلاثة احجار حجر فى منقاره وحجران فى رجليه، وكانت ترفرف على رؤسهم وترمى فى دماغهم فيدخل الحجر فى دماغهم ويخرج من ادبارهم وينتقض ابدانهم فصاروا كما قال تعالى { كعصف مأكول } ، ولم يبق منهم الا رجل واحد هرب فجعل يحدث الناس بما رأى اذ طلع عليه طائر منها بعد ما وصل الى اليمن فرفع رأسه فقال: هذا منها وجاء الطير حتى حاذى رأسه ثم القى الحجر عليه فخرج من دبره فمات، وكان ذلك فى العام الذى ولد فيه رسول الله (ص)، وقيل: كان قبل مولده بثلاث وعشرين سنة، وقيل: باربعين سنة.
[105.3]
{ وأرسل عليهم طيرا أبابيل } ابابيل جمع بلا واحد يقال: ابل ابابيل اى فرق، او هو جمع الابالة بكسر الهمزة وتشديد الباء، او جمع الابيل كسكيت بمعنى القطعة من الطير، والابل والمتتابعة منها، وكان الطير هذه الطير المعروفة بابابيل، وفى خبر عن الباقر (ع): كان رؤسها كامثال رؤس السباع وأظفارها كأظفار السباع ولا رأوا قبل ذلك مثلها ولا بعدها.
[105.4]
{ ترميهم بحجارة من سجيل } معرب " سنك كل "
[105.5]
{ فجعلهم كعصف مأكول } كورق زرع اكله الدود، او كزرع اكل حبه فبقى بلا حب او كتبن اكلته الدواب فدفعته.
[106 - سورة قريش]
[106.1-2]
{ لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتآء والصيف } قرئ ليلاف قريش بدون الهمزة، الافهم من دون ياء، وقرئ ليلاف قريش مثل القراءة الاولى ايلافهم بهمزة وياء بعدها وقرئ لايلاف قريش ايلافهم فى كليهما بهمزة وياء بعدها، والجار والمجرور متعلق بقوله تعالى: جعلهم كعصف مأكول، او بقوله:
فعل ربك بأصحاب الفيل
[الفيل:1] لان السورة الاولى كانت فى مقام الامتنان على قريش بجعل بيتهم ومسكنهم مأمنا، او متعلق بقوله تعالى: { فليعبدوا رب هذا البيت }.
[106.3]
{ فليعبدوا رب هذا البيت } يعنى لان جعل الله قريشا ذات الفة بملوك النواحى مثل ملك الفارس والشام والحبشة واليمن بواسطة كونهم اهل مكة وصاحبى بيت الله فليعبدوا ربه قيل: كان هاشم يألف الى الشام وعبد شمس الى الحبشة، والمطلب الى اليمن، ونوفل الى فارس، وكان تجار قريش يختلفون الى هذه الامصار بسبب هذه الاخوة والفتهم لملوك تلك النواحى، وقيل: انما كانت قريش تعيش بالتجارة وكانت لهم رحلتان فى كل سنة، رحلة فى الشتاء الى اليمن لانها بلاد حامية، ورحلة فى الصيف الى الشام لانها باردة، فلما قصد اصحاب الفيل مكة اهلكهم الله لتألف قريش هاتين الرحلتين وكانت لا يتعرض لهم احد بسوء وكانوا يقولون: قريش سكان حرم الله وولاة بيته، ويجوز ان يكون اللام للتعجب والعامل محذوفا.
[106.4]
{ الذي أطعمهم من جوع } اخرجهم بالاطعام من جوع { وآمنهم من خوف }.
[107 - سورة الماعون]
[107.1-2]
{ أرأيت الذي يكذب بالدين } قرئ ارأيت على الاصل، واريت بلا همز وارايتك بكاف الخطاب او الخطاب خاص بمحمد (ص) او عام، وتكذيب الدين للجهل المركب الذى هو داء عياء وهو اصل جميع الشرور يعنى ارأيت يا محمد (ص) الذى جمع بين رذائل القوى الثلاث العلامة والسبعية والبهيمية، ولما كان الجهل اصل جملة الشرور عطف على تكذيب الدين الرذائل الاخر بالفاء فقال { فذلك الذي يدع } اى يدفع { اليتيم } بعنف، قيل: نزلت فى العاص بن وائل، وقيل: فى الوليد بن المغيرة، وقيل: فى ابى سفيان كان ينحر فى كل اسبوع جزورين فأتاه يتيم فسأله شيئا فقرعه بعصاه، وقيل: نزلت فى رجل من المنافقين، وقيل: نزلت فى ابى جهل كان وصيا ليتيم فأتاه عريانا وسأله اللباس عن مال نفسه فضربه ودفع اليتيم وضربه رذيلة الغضبية بل اردأ رذائلها لان تحقير الحقير الضعيف ومن شأنه ان يرحم عليه وضربه ودفعه والاستكبار عليه اردأ من الاستكبار على القوى المنيع.
[107.3]
{ ولا يحض على طعام المسكين } وهو رذيلة الشهوية لان عدم الحض على طعام المسكين من حب المال.
[107.4]
{ فويل للمصلين } اى لهم ولذلك عطف بالفاء لكنه أتى بالظاهر مقام المضمر للاشعار بانهم ان صلوا لم يكن صلاتهم صلاة بل كانت وبالا عليهم ومعصية.
[107.5-6]
{ الذين هم عن صلاتهم ساهون } اضاف الصلاة اليهم للاشعار بان لكل انسان صلاة خاصة به يكون تلك الصلاة القالبية تذكرة لها، والمصلى بالصلاة القالبية لا بد وان يكون متذكرا لصلاته الخاصة به والا كان مستحقا بصلاته للويل الذى ليس الا للكفار والصلاة المخصوصة بكل انسان، اما ولايته التكوينية او التكليفية او ذكره المأخوذ من ولى امره او صورة ولى امره التى دخلت فى قلبه مختفية فيه او ظاهرة، او التوجه الى الله، ويجوز ان يكون المعنى ويل للمصلين الذين يتهاونون بصلاتهم القالبية بعدم حفظ حدودها او بعدم حفظ مواقيتها، او بتأخيرها من اول اوقاتها ولكن قوله تعالى: { الذين هم يرآءون } ، الناس، يؤيد المعانى الاول، فان المرائى يأتى بها ويتم حدودها ويحفظ اوقاتها والا لم يتأت له المراياة، وهذه من رذائل العلامة والشهوية.
[107.7]
{ ويمنعون الماعون } الماعون المعروف والماء وكل ما انتفعت به او كل ما يستعار، والزكاة، وهذه من رذائل الشهوية، عن الصادق (ع): هو القرض تقرضه والمعروف تصنعه، ومتاع البيت تعيره، ومنه الزكاة، قيل: ان لنا جيرانا اذا اعرناهم متاعا كسروه وافسدوه فعلينا جناح ان نمنعهم؟ - فقال: ليس عليكم جناح ان تمنعوهم اذا كانوا كذلك.
[108 - سورة الكوثر]
[108.1]
{ إنآ أعطيناك الكوثر } قد فسر الكوثر بنهر فى الجنة وهو حوض النبى (ص) عليه آنية عدد نجوم السماء يذود محمد (ص) وعلى (ع) عنه اعداءهما ويسقيان شيعة على (ع) عنه، والكوثر فى اللغة الكثير من كل شيء والكثير الملتف من الغبار، والاسلام، والنبوة، والرجل الخير المعطاء كالكثير مثل الصقيل، والسيد، ومطلق النهر ونهر فى الجنة يتفجر منه جميع انهارها.
اعلم، ان الولاية هى الكوثر باكثر معانيه وهى التى اعطاها بتمام حقيقتها محمدا (ص) وبسببها اعطاه النبوة والرسالة والعلم والحكم والاتباع الكثير والاولاد الكثيرين والقرآن ودين الاسلام والصيت والسلطنة والخير الكثير فى الدنيا والآخرة، وهى التى تكون بصورة النهر والحوض فى الآخرة وهى التى تصورت بصورة على (ع) فى الدنيا، وقد اعطاه الله محمدا (ص) ومن به عليه.
[108.2]
{ فصل لربك } اى اذا كان الله اعطاك الكوثر فتوجه وتضرع عليه وادعه شكرا لهذه النعمة، او صل الغداة من العيد بجمع { وانحر } بمنى، او صل صلاة العيد وانحر اضحيتك، قيل: كان ينحر النبى (ص) قبل ان يصلى فامر ان يصلى ثم ينحر، وقيل: كان اقوام يصلون لغير الله وينحرون لغير الله فأمره ان يصلى لله وينحر لله، وقيل: صل الصلاة المكتوبة واستقبل القبلة بنحرك فانه يقول العرب: منازلنا تتناحر يعنى بعضها يستقبل بعضا، وفى خبر قال ابو عبد الله (ع) فى قوله: فصل لربك وانحر هو رفع يديك حذاء وجهك، وفى خبر قال النبى (ص) لجبرئيل: ما هذه النحيرة التى امرنى بها ربى؟ - قال: ليست بنحيرة ولكنه يأمرك اذا تحرمت للصلاة ان ترفع يديك اذا كبرت، واذا ركعت، واذا رفعت رأسك من الركوع، واذا سجدت؛ فانه صلاتنا وصلاة الملائكة فى السماوات السبع.
[108.3]
{ إن شانئك } اى مبغضك { هو الأبتر } اى المنقطع عن الخير او عن الولد او عن الصيت فى الناس او عن الدين، قيل: ان العاص بن وائل التقى رسول الله (ص) عند باب المسجد وتحدثا واناس من قريش جلوس فى المسجد فلما دخل العاص قالوا: من الذى كنت تتحدث معه؟ - قال: ذلك الابتر فسماه ابتر لانه كان له ولد اسمه عبد الله وكان من خديجة فمات ولم يكن له ابن غيره، وكانوا يسمون من لم يكن له ولد ابتر.
[109 - سورة الكافرون]
[109.1]
قل يأيها الكافرون } روى
" ان نفرا من قريش اعترضوا لرسول الله (ص) فقالوا: يا محمد (ص) هلم نعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد فنشرك نحن وانت فى الامر؟ فقال: معاذ الله ان اشرك به غيره، قالوا: فاستلم بعض آلهتنا نصدقك ونعبد الهك، فقال: حتى انظر "
، فنزلت السورة فأيس قريش من محمد (ص) وتصديقه، وقد مضى فى الفصل السادس من فصول اول الكتاب ان القارى ينبغى ان يجاهد حتى يشاهد او يتحد مع خلفاء الله او مع فعل الله فيصير لسانه لسان الله او لسان خلفائه، فيصير حين قراءة امثال هذه السورة عن مخاطبات الله آمرا من الله بل يصير امره امر الله؛ فاعلم ان الانسان لكونه مختصرا من جميع العوالم وفيه لطائف جميع العوالم ولطائف جميع مقامات الانبياء والاولياء(ع) ينبغى ان يجاهد وقت قراءته حتى يصير لسانه لسان الله او لسان وسائط الوحى ويصير سمعه سمع اللطيفة النبوية فاذا قال: قل، يصير ذلك القول امرا من الله باللسان المنسوب الى الله او الى الملك المبلغ من الله ويصير المستمع لطيفته النبوية فيتمثل الامر ويخاطب كفار وجوده من القوى البهيمية والسبعية والشيطانية بعد ابائهم عن اتباعه واصرارهم على كفرهم وعبادتهم اصنامهم التى هى اهويتهم وبعد دعوتهم نبيهم الذى هو لطيفته النبوية الى موافقتهم فيقول: يا ايها الكافرون.
[109.2]
{ لا أعبد ما تعبدون } اى لا اعبد فى المستقبل لان لا لا تستعمل فى الحال.
[109.3]
{ ولا أنتم عابدون } فى المستقبل فان الصيغة وان كانت مشتركة بين الازمنة الثلاثة لكنها مخصصة بالاستقبال بقرينة ما قبلها { مآ أعبد } فى الحال او فى الحال والاستقبال.
[109.4]
{ ولا أنآ عابد } فى الماضى بقرينة ما بعده، او فى الماضى والحال او مطلقا { ما عبدتم } فى الماضى
[109.5]
{ ولا أنتم عابدون مآ أعبد } واشار بتغيير الصيغة فى جانب الكفار الى انهم كانوا عابدين لاهويتهم بعبادة الاصنام واهويتهم غير ثابتة بل هى متغيرة متبدلة فكان معبودهم فى الامس غير معبودهم فى الحال والمستقبل، وبتوافق الصيغة فى جانب محمد (ص) الى ان معبوده كان فى الماضى والحال والآتى واحدا غير متعدد ولا مختلف ولا يحصل تلك اللطيفة الا بالتكرار، والوجه الاخر للتكرار ان السورة فى مقام التبرى واظهار السخط والمغايرة، والتكرار مناسب لهذا المقام، ويجوز ان يكون لفظة ما مصدرية فى المواضع الاربعة او فى الموضعين الاخيرين، والاتيان بما فى قوله تعالى: ما اعبد، على تقدير كون ما موصولة دون من للمشاكلة لقوله: ما تعبدون ولان المناسب لمقام التبرى والسخط والمحاجة الاتيان باللفظ العام دون الخاص وليطابق اعتقادهم لتصورهم ان رب السماوات والارض يكون مثل اربابهم، نقل انه سأل ابو شاكر الديصانى ابا جعفر الاحول عن وجه التكرار وقال: هل يتكلم الحكيم بمثل هذا القول ويكرر مرة بعد مرة؟! فلم يكن عند الاحول فى ذلك جواب فدخل المدينة فسأل الصادق (ع) عن ذلك فقال: كان سبب نزولها وتكرارها ان قريشا قالت لرسول الله (ص) تعبد الهنا سنة ونعبد الهك سنة؛ فأجابهم الله بمثل ما قالوا.
[109.6]
{ لكم دينكم ولي دين } ليس هذه متاركة واباحة حتى يقال: انها منسوخة بآية القتال بل هى ايضا تهديد بليغ لهم مثل قوله تعالى: افعلوا ما شئتم.
[110 - سورة النصر]
[110.1]
{ إذا جآء نصر الله والفتح } قيل هذه آخرة سورة نزلت عليه (ص) كما ان
اقرأ باسم ربك
[العلق:1] كانت اولى سورة نزلت عليه، وقيل: نزلت فى حجة الوداع بمنى، وقيل: عاش (ص) بعدها سنتين، وقيل: مات من سنته، وقال (ص) بعد نزول السورة:
" نعيت الى نفسى "
، وروى
" انه بكى العباس بعد نزولها فقال: ما يبكيك يا عم؟ - قال: نعيت اليك نفسك، قال: انه لكما تقول "
، واستفادة نعى نفسه (ص) من السورة تكون من القرائن المنضمة والحالية التى تكون بين المتخاطبين وان لم يكن فى اللفظ ما يدل صريحا عليه، واعلم ان النصر والفتح يطلقان بمعناهما المصدرى ويراد بهما النصرة على الاعداء وفتح البلاد، واستعمال المجيء فيهما من باب الاستعارة وتشبيه النصرة والفتح بالجائى، ويطلقان على نصرة الانسان على اعدائه الباطنة وعلى فتح باب القلب، ويطلقان على معنى حقيقى هو الملك النازل على صدر النبى (ص)، وصورة ولى الامر النازلة على صدر السالك، وكما تكون نصرا من الله على الاعداء الظاهرة والباطنة تكون فتحا من الله، وبها تكون الفتح الظاهر والباطن ويطلقان على النصر المطلق الذى لا نصر بعده وهو النصر فى الخروج من جميع قيود الامكان، والفتح المطلق الذى هو فتح الغيب المطلق وهو الخروج من مقام الامكان والعروج من مقام الواحدية الى الاحدية وهو مقام القدس والتقديس، ولما كان النصر مضافا الى الله والفتح مطلقا كان المراد هذا النصر وذلك الفتح وقد يستنبط نعى نفسه (ص) من هذا فان النصر المطلق والفتح بهذا المعنى قلما يكون بدون وقت الارتحال.
[110.2]
{ ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا } لما فتح الله تعالى مكة صار جميع الاعراب فى الاطراف ذليلا منقادا لمحمد (ص) وكانوا يدخلون فى الاسلام من دون مقاتلة ودعوة، والدين كما يطلق على الملة وعلى الولاية التى هى الطريق الى الله بحسب التكليف والاختيار يطلق على مطلق الطريق الى الله تكوينا او تكليفا لذوى الشعور او غير ذوى الشعور، واذا ارتفع القيود والحدود عن نظر الكامل يرى الكل داخلين فى دين الله يعنى فى طريق السلوك الى الله بل يرى الكل عقلاء علماء عرفاء ساعين الى الله والى مظاهره اللطفية والقهرية ولا يرى شيئا من الموجودات خارجا من دين الله فانه اذا جاء الفتح المطلق للسالك يرى جميع الحدود والتعينات مرتفعة كما قيل:
صورت خود را شكستى سوختى
صورت كل را شكست آموختى
واذا انقلب البصر ورأى السالك ذلك كان زمان ارتحاله الكلى ونقلته العظمى قريبا فيستنبط من هذا ايضا نعى نفسه.
[110.3]
{ فسبح بحمد ربك } اى نزه ربك او لطيفتك الانسانية عما لا يليق بشأنه تعالى وشأنها وليكن تنزيهك بالجمع بين صفات الجلال والجمال ولا تكن كموسى (ع) ناظرا الى المظاهر ولا كعيسى (ع) ناظرا الى الظاهر، وكن ناظرا الى المظاهر والظاهر من دون رجحان احد النظرين الى الآخر، فان هذا معنى التسبيح بالحمد يعنى اذا جاء نصر الله المطلق والفتح المطلق بحيث ترى الكل يدخلون فى دين الله افواجا فجاهد حتى لا يختفى الكثرات عن نظرك ولا تشتغل بالتوحيد عن حضورك، والكل جنودك بل تكون جامعا بين الوحدة والكثرة والحق والخلق { واستغفره } واطلب منه ستر الحدود حتى لا يغلب رؤية الحدود على رؤية الحق الاول تعالى فى المظاهر { إنه كان توابا } كثير المراجعة على العباد، او استغفره لجنودك كما ترى عليهم من الحدود والنقائص انه كان توابا على جميع خلقه.
[111 - سورة المسد]
[111.1]
{ تبت يدآ أبي لهب وتب } تب تبا وتببا وتبابا وتبيبا نقص وخسر، وتب الشيء قطعه، ونسبة التب الى يديه لاجل قطعه حياته الابدية ووصلته الاخروية بيديه، ولكون اعماله التى هى سبب الخسران والهلاك ظاهرة على يديه فى الاغلب، والجملة الاولى دعائية والثانية خبرية او كلتاهما دعائية او خبرية، ويكون الاولى بالنسبة الى الدنيا والاخرى بالنسبة الى الآخرة، او بملاحظة ان الاولى بالنسبة الى نفسه والثانية بالنسبة الى الاغناء بالمال، وابو لهب هذا عم رسول الله (ص) واسمه عبد العزى وكنوه بتلك الكنية لبريق وجنتيه، وأتى بكنيته دون اسمه لمراعاة الجناس مع قوله: { ذات لهب } ، وكان شديد المعاداة لمحمد (ص): قيل: رأيت فى سوق ذى المجاز شابا يقول: ايها الناس قولوا: لا اله الا الله تفلحوا، واذا برجل خلفه يرميه قد ادمى ساقيه، ويقول: ايها الناس انه كذاب فلا تصدقوه، فقلت: من هذا؟ - فقالوا: هو محمد (ص) يزعم انه نبى وهذا عمه ابو لهب: يزعم انه كذاب.
[111.2]
{ مآ أغنى عنه ماله } لفظة ما موصولة وهى فاعل تب اى تب الاغناء الذى اغنى عنه ماله او مصدرية وهى مع صلتها فاعل تب، او فاعل تب ابو لهب، وما نفية والجملة خبرية او دعائية او لفظة ما استفهامية { وما كسب } ما موصولة او مصدرية او نافية او استفهامية ومعطوفة على ما اغنى او مصدرية او موصولة ومعطوفة على ماله والمقصود مما كسب ما كسبه بماله من الارباح والعرض والجاه والخدم والحشم، او المقصود مما كسب اولاده، او المجموع، وهذا اخبار منه (ص) بما سيقع وقد وقع الامر كما اخبر فانه لما انذره النبى (ص) بالنار قال: ان كان ما تقول حقا افتد بمالى وولدى، فافترسه اسد فى طريق الشام وقد احدق به العير ولم يغن عنه ماله ولا ولده، ومات بالعدسة بعد وقعة بدر بايام معدودة وترك ثلاثا حتى انتن ثم استأجروا بعض السودان حتى دفنوه.
[111.3]
{ سيصلى نارا ذات لهب } اى سيقاسى حرها.
[111.4]
{ وامرأته حمالة الحطب } قرئ حمالة الحطب بالرفع وحينئذ يجوز ان يكون امرأته عطفا على المستتر فى يصلى وان يكون عطفا على ما اغنى على ان يكون فاعل تب او على يدا ابى لهب ويكون حمالة الحطب على التقادير خبر مبتدء محذوف او صفة لامرأته اذا جعل معرفة بالاضافة، ويجوز ان يكون امرأته مبتدء وحمالة الحطب خبره او صفته، والجملة معطوفة على واحدة من الجمل السابقة، وقرئ حمالة الحطب بالنصب حالا او مفعولا لمحذوف او منصوبا على الاختصاص، وامرأته على الوجوه السابقة الا انه اذا كان مبتدء يكون خبره بعده وسميت حمالة الحطب لانها كانت تحمل الاوزار التى هى وقود جهنم بمعاداة الرسول (ص) او تحمل الناس وتحمل زوجها على معاداة الرسول وتجرهم الى جهنم بالصد عن رسول الله (ص) والحمل على معاداته، او لانها كانت تمشى بالنميمة بين الناس فيوقد نار العداوة بينهم وتسمى النميمة حطبا لذلك، او لانها كانت تحمل حزمة الشوك والخسك فتنشرها فى طريق الرسول (ص).
[111.5]
{ في جيدها حبل من مسد } المسد بالسكون الفتل، وبالتحريك المحور من حديد، وحبل من ليف او ليف المقل او من اى شيء كان، او المفتول المحكم الفتل من اى شيء كان، وقيل: هو حبل يكون له خشونة الليف وحرارة النار وثقل الحديد يجعل فى عنقها زيادة فى عذابها، وقيل: فى عنقها سلسلة من حديد طولها سبعون ذراعا تدخل من فيها وتخرج من دبرها وتدار على عنقها فى النار، وقيل: كانت قلادة فى عنقها فاخرة من الجواهر فقالت: لا نفقنها فى عداوة محمد (ص) فيكون عذابا لها يوم القيامة، وزوجة ابى لهب كانت بنت حرب واخت ابى سفيان وكنيتها ام جميل ولقبها العوراء. ولما نزلت السورة اقبلت ولها ولولة وهى تذم رسول الله (ص) فقال ابو بكر: يا رسول الله (ص) قد اقبلت ام جميل (وانى اخاف عليك)، فقال رسول الله (ص): انها لا ترانى فجاءت ورأت ابا بكر ولم تر محمدا (ص).
[112 - سورة الإخلاص]
[112.1-4]
{ قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد } نزلت السورة حين سأل المشركون رسول الله (ص) فقالوا: انسب لنا ربك، او حين أتى رجلان منهم فقالا ذلك، او حين جاء اناس من احبار اليهود فسألوه ذلك، او حين انطلق عبد الله بن سلام اليه فسأل ذلك وقد نقل كل ذلك فى نزوله، وقرئ احد الله الصمد بالوصل وتحريك التنوين بالكسر، وقرئ احد الله الصمد بالوصل واسقاط التنوين تشبيها للتنوين بحرف اللين، وقرئ بالوقف باسقاط التنوين، وقرئ كفوا مضمومة الفاء وبالواو وقرئ كفؤا ساكنة الفاء مهموزة، وقرئ كفوا مضمومة الفاء مهموزة.
واعلم، ان الانبياء (ع) لهم حالات بالنسبة الى الله والى عالم الغيب وتختلف مناجاتهم لله ومخاطبات الله لهم ومخاطباتهم للخلق بحسب اختلاف احوالهم، فانه اذا انسلخ النبى (ص) من جميع ما له من نسبة الافعال والاوصاف والذات ولم يبق فى وجوده الا فاعلية الله تعالى يكون مخاطبات الله له بلسانه الذى صار لسان الله فيصير كلام الله كلاما الهيا بشريا ويسمى حديثا قدسيا، واذا تنزل عن ذلك المقام باقيا ببقاء الله متوجها الى كثرات وجوده وهذا التوجه والالتفات يسمى بالنبوة او خلافة النبوة، او متوجها الى كثرات العالم وهذا التوجه يسمى بالرسالة او خلافة الرسالة، فكلما تلقى من الله بطريق القذف والالهام وكلما شاهد فى عالم المثال فى هذه الحال او قبل النزول الى ذلك المقام وكلما وجد انموذجة من مدركاته وكلما القى اليه الملك من العلم والحكم لا بنحو الوساطة من الله كان حديثا نبويا، واذا تنزل الى مقام البشرية فكلما تكلم به من حيث تدبير الحياة الدنيوية من غير اظهار لحاظ الجهة الالهية يكون كلاما بشريا، واذا كان خطاب الله فى تلك الاحوال بتوسط الملك المرسل من الله لتبليغ خطابه كان كلاما الهيا وكتابا سماويا، فان كان النبى (ص) فى مقام الانسلاخ كان الخطاب من مقام الغيب واحدية الذات، وان كان فى مقام النبوة والرسالة كان الخطاب من مقام الظهور والواحدية وهو مقام الولاية، وكان الكلام فى المقام الاول مشتملا على التنزيه ونفى النسب والاضافات، وفى المقام الثانى مشتملا على الاضافات واحكام الكثرات: ولذلك سميت السورة بسورة التوحيد، وسورة الاخلاص، وسورة الولاية، لان المخاطب بها خوطب بها حين خلوصه من شوب الكثرات وحصول مقام الوحدة له وظهوره بشأن الولاية، وسميت الفاتحة بسورة النبوة لان المخاطب بها خوطب بها حين ظهوره بشأن النبوة فقوله تعالى: { قل هو الله أحد } خطاب من مقام الاحدية ولذلك أتى باسمه الخالص من شوب الصفات اولا وهو لفظ هو بخلاف قوله تعالى: { قل أعوذ برب الفلق } ، و { قل أعوذ برب الناس } ، وامثال هذين.
اعراب سورة الاخلاص
واعراب السورة المباركة بحسب الوجوه المحتملة كثيرة: فأقول، لفظ هو ضمير الشأن او ضمير يشار به الى مقام الغيب لتعينه فى الاذهان او ادعاء تعينه او هو علم واسم لمقام الغيب، وعلى الاخيرين فالله بدل منه او عطف بيان او خبر او مبتدء ثان، واحد خبره والجملة خبر هو واكتفى عن العائد بتكرار المبتدء بالمعنى، واحد خبر او خبر بعد خبر والله الصمد مبتدء وخبر، او صفة وموصوف وخبر بعد خبر او مبتدء وخبره لم يلد، وعلى تقدير كونه مبتدء فالجملة خبر بعد خبر او حالية او مستأنفة جواب لسؤال عن حاله تعالى فى نفسه او عن علة الحكم ولم يلد خبر او خبر بعد خبر او حال او مستأنفة جواب لسؤال عن حاله تعالى مع غيره او عن علة الحكم، واذا كان هو ضمير الشأن فالله احد خبره والله الصمد مبتدء وخبر وخبر بعد خبر لهو او خبر بعد خبر لله او حال او مستأنفة فى مقام السؤال عن الحال او عن علة الحكم او الله الصمد موصوف وصفة وخبر بعد خبر لله، او مبتدء ولم يلد خبره والجملة خبر بعد خبر لهو او لله او حال او مستأنفة.
معنى الاحد
واحد يقال بمعنى الواحد سواء جعل مهموزا فى الاصل او واويا ويوم من الايام، ويقال للامر المتفاقم احدى الاحد، ويقال: فلان احد الاحدين وواحد الاحدين وواحد الاحاد واحدى الاحد لا مثل له، وقد يستعمل الاحد خاصا بالله والوجه ان فى الاحد مبالغة فى الوحدة والبالغ فى الوحدة ان لا يكون فيه شوب كثرة بوجه من الوجوه لا كثرة العدد ولا كثرة الاجزاء المقدارية ولا كثرة الاجزاء الخارجية من المادة والصورة ولا كثرة الاجزاء العقلية من الجنس والفصل او من المهية والوجود، وبهذا المعنى لا يوصف به الا الله، ولهذه المبالغة خصص الاحد فى اصطلاحهم بمقام الغيب الذى ليس فيه كثرة ولا لحاظ كثرة وقالوا: الاحد اسم لمقام الغيب الذى لا اسم له ولا رسم ولا صفة له ولا خبر عنه، والواحد اسم لمقام ظهوره تعالى بأسمائه وصفاته ففى مقام الواحدية هو متكثر بكثرة الاسماء والصفات بحيث لا ينثلم وحدته بها، وفى مقام الاحدية لا كثرة فيه لا فى الواقع ولا فى العقل ولا فى الاعتبار.
معنى الصمد
والصمد بالتحريك السيد لان الصمد بالسكون بمعنى القصد والسيد من شأنه ان يقصد، والدائم والرفيع والمصمت الذى لا جوف له، والرجل الذى لا يعطش ولا يجوع فى الحرب، خاطب الله سبحانه نبيه (ص) فى مقام انسلاخه عن جميع الكثرات وجميع الاعتبارات بقوله: قل يا محمد (ص) فى ذلك المقام مشيرا الى الذات بدون اعتبار صفة من الصفات.
تفسير السورة
هو، فان لفظ هو اسم له تعالى مجردا عن جميع الاعتبارات حتى عن اعتبار التعين، الله يعنى ان الذات المجردة عن اعتبار الصفات عين الذات المعتبرة باعتبار جميع الاسماء والصفات لا مغايرة بينهما الا بالاعتبار، فان الله اسم للذات باعتبار جملة الصفات ولذلك قيل: انه امام الائمة وقد مضى بيان لفظ الله فى اول الفاتحة، احد يعنى انه فى عين استجماعه لجملة الصفات منزه عن جميع الكثرات لا يشوبه كثرة من كثرة الصفات، الله الصمد اى السيد المصمود الذى يصمده كل موجود وانتهى سؤدده ومصموديته فانه يستفاد الانتهاء فى ذلك من الحصر المستفاد من تعريف المسند، والدائم الذى لا يأكل ولا يشرب ولا ينام، والمرتفع الذى لا رفيع فوقه، والقائم بنفسه الغنى عن غيره، لم يلد بانفصال شيء منه سواء كان المنفصل ولدا مماثلا له او شيئا غير مماثل له فانه لا مباين له حتى يكون منفصلا منه او غير منفصل، ولم يولد ولم ينفصل هو من شيء من الاشياء فانه لا شيء غيره حتى يكون هو منفصلا منه ومباينا له، ولم يكن له كفوا احد تقديم الظرف لشرافته، وتقديم الخبر للاهتمام بنفى الكفاءة ولمراعاة رؤس الاى، وقد ورد فى بعض الاخبار ما يدل على اعتبار الحروف فى الاسماء، وما يدل على ان دلالة الاسماء على المسميات ليست بمحض المواضعة بل يتعبر المناسبات الذاتية بين الاسماء وحروفها وبين المسميات فانه ورد عن الباقر (ع) انه قال: قل اى اظهر ما اوحينا اليك ونبأناك به لتأليف الحروف التى قرأناها لك ليهتدى بها من القى السمع وهو شهيد، وهو اسم مكنى مشار به الى غائب، فالهاء تنبيه على معنى ثابت، والواو اشارة الى الغائب عن الحواس كما ان قولك هذا اشارة الى الشاهد عند الحواس وذلك ان الكفار نبهوا عن آلهتهم بحرف اشارة الشاهد المدرك، فقالوا: هذه آلهتنا المحسوسة المدركة بالابصار فأشر انت يا محمد (ص) الى الهك الذى تدعو اليه حتى نراه وندركه ولا نأله فيه، فأنزل الله تبارك وتعالى: قل هو فالهاء تثبيت للثابت، والواو اشارة الى الغائب عن درك الابصار ولمس الحواس وانه تعالى عن ذلك بل هو مدرك الابصار ومبدع الحواس، قال (ع): الله معناه المعبود الذي أله الخلق عن درك مائيته والاحاطة بكيفيته، ويقول العرب: أله الرجل اذا تحير فى الشيء فلم يحط به علما، ووله اذا فزع الى شيء مما يحذره ويخافه، والاله هو المستور عن حواس الخلق، قال (ع): الاحد الفرد المتفرد، والاحد والواحد بمعنى واحد وهو المتفرد الذى لا نظير له، والتوحيد الاقرار بالوحدة وهو الانفراد، والواحد المتباين الذى لا ينبعث من شيء ولا يتحد بشيء ومن ثم قالوا: ان بناء العدد من الواحد وليس الواحد من العدد لان العدد لا يقع على الواحد بل يقع على الاثنين فمعنى قوله: الله احد اى المعبود الذى يأله الخلق عن ادراكه والاحاطة بكيفيته فرد بالهيته متعال عن صفات خلقه، قال (ع): وحدثنى ابى زين العابدين (ع) عن ابيه الحسين بن على (ع) انه قال: الصمد الذى لا جوف له والصمد الذى قد انتهى سؤدده، والصمد الذى لا يأكل ولا يشرب، والصمد الذى لا ينام، والصمد الدائم الذى لم يزل ولا يزال، قال (ع): كان محمد بن الحنفية يقول: الصمد القائم بنفسه والغنى عن غيره، وقال غيره: الصمد المتعالى عن الكون والفساد، والصمد الذى لا يوصف بالتغاير قال (ع): الصمد السيد المطاع الذى ليس فوقه آمر ولا ناه، قال (ع): وسئل على بن الحسين (ع) عن الصمد فقال: الصمد الذى لا شريك له ولا يؤده حفظ شيء ولا يعزب عنه شيء، وروى عن زيد بن على (ع) انه قال: الصمد الذى اذا اراد شيئا قال له: كن فيكون، والصمد الذى ابدع الاشياء فخلقها اضدادا واشكالا وازواجا، وتفرد بالوحدة بلا ضد ولا شكل ولا مثل ولا ند، وعن الصادق (ع) عن ابيه (ع) ان اهل البصرة كتبوا الى الحسين بن على (ع) يسألونه عن الصمد فقال: كتب اليهم بسم الله الرحمن الرحيم اما بعد فلا تخوضوا فى القرآن ولا تجادلوا فيه ولا تتكلموا فيه بغير علم فقد سمعت جدى رسول الله (ص) يقول: من قال فى القرآن بغير علم فليتبوء مقعده من النار، وان الله سبحانه قد فسر الصمد فقال الله: قل هو الله احد الله الصمد ثم فسره فقال: لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد، لم يلد يخرج منه شيء كثيف كالولد وسائر الاشياء الكثيفة التى تخرج من المخلوقين، ولا شيء لطيف كالنفس ولا تنشعب منه البدوات كالسنة والنوم والخطرة والهم والحزن والضحك والبكاء والخوف والرجاء والرغبة والسأمة والجوع والشبع، تعالى عن ان يخرج منه شيء وان يتولد منه شيء كثيف او لطيف، ولم يولد ولم يتولد من شيء ولم يخرج من شيء كما يخرج الاشياء الكثيفة من عناصرها كالشيء من الشيء والدابة من الدابة والنبات من الارض والماء من الينابيع والثمار من الاشجار، ولا كما يخرج الاشياء اللطيفة من مراكزها كالبصر من العين والسمع من الاذن، والشم من الانف، والذوق من الفم، والكلام من اللسان، والمعرفة والتميز من القلب، وكالنار من الحجر، لا بل هو الله الصمد الذى لا من شيء ولا فى شيء ولا على شيء مبدء الاشياء وخالقها، ومنشئ الاشياء بقدرته، يتلاشى ما خلق للفناء بمشيته ويبقى ما خلق للبقاء بعلمه، فذلكم الله الصمد الذى لم يلد ولم يولد عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال، ولم يكن له كفوا احد، وعن الصادق (ع) انه قدم وفد من فلسطين على الباقر (ع) فسألوه من مسائل، فأجابهم، ثم سألوه عن الصمد فقال: تفسيره فيه، الصمد خمسة احرف، فالالف دليل على انيته وهو قوله عز وجل:
شهد الله أنه لا إله إلا هو
[آل عمران:18] وذلك تنبيه واشارة الى الغائب عن درك الحواس، واللام دليل على الهيته بانه هو الله، والالف واللام مدغمان ولا يظهران على اللسان ولا يقعان فى السمع ويظهران فى الكتابة دليلان على ان الهيته بلطفه خافية لا تدرك بالحواس ولا تقع فى لسان واصف ولا اذن سامع لان تفسير الاله هو الذى أله الخلق عن درك مائيته وكيفيته بحس او بوهم لا بل هو مبدع الاوهام وخالق الحواس وانما يظهر ذلك عند الكتابة فهو دليل على ان الله تعالى اظهر ربوبيته فى ابداع الخلق وتركيب ارواحهم اللطيفة فى اجسادهم الكثيفة فاذا نظر عبد الى نفسه لم ير روحه كما ان لام الصمد لا يتبين ولا يدخل فى حاسة من حواسه الخمس فاذا نظر الى الكتابة ظهر له ما خفى ولطف، فمتى تفكر العبد فى مائية البارى وكيفيته أله فيه وتحير ولم تحط فكرته بشيء يتصور له لانه عز وجل خالق الصور فاذا نظر الى خلقه ثبت له انه عز وجل خالقهم ومركب ارواحهم فى اجسادهم، واما الصاد فدليل على انه عز وجل صادق، وقوله صدق، وكلامه صدق، ودعا عباده الى اتباعه الصدق بالصدق، ووعد بالصدق دار الصدق، واما الميم فدليل على ملكه وانه الملك الحق لم يزل ولا يزول ملكه، واما الدال فدليل على دوام ملكه وانه عز وجل دائم تعالى عن الكون والزوال بل هو عز وجل مكون الكائنات الذى كان بتكوينه كل كائن ثم قال (ع): لو وجدت لعلمى الذى اتانى الله عز وجل حمله لنشرت التوحيد والاسلام والايمان والدين والشرائع من الصمد وكيف لى بذلك ولم يجد جدى امير المؤمنين (ع) حملة لعلمه حتى كان يتنفس الصعداء ويقول على المنبر: سلونى قبل ان تفقدونى، فان بين الجوانح منى علما جما هاه هاه الا لا اجد من يحمله الا وانى عليكم من الله الحجة البالغة
لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور
[الممتحنة:13]، وعن الصادق (ع) انه سأل سائل عن التوحيد فقال: ان الله عز وجل علم انه يكون فى آخر الزمان اقوام متعمقون فأنزل الله { قل هو الله أحد } والآيات من سورة الحديد الى قوله:
عليم بذات الصدور
[الحديد:6] فمن رام وراء ذلك فقد هلك، والمراد بالآيات من سورة الحديد آيات اولها الى قوله
عليم بذات الصدور
[الملك: 13] فان الله تعالى ادرج فيها دقائق التوحيد الذى لا يصل اليها ادراك المتعمقين فى التوحيد فكيف بغيرهم!. وسئل الرضا (ع) عن التوحيد فقال: كل من قرأ قل هو الله احد وآمن بها فقد عرف التوحيد، قيل: كيف يقرؤها؟ - قال: كما يقرؤها الناس وزاد فيها كذلك الله ربى مرتين، ولما كان السورة مشتملة على توحيده تعالى واضافاته وكان القارى كأنه يقرأ بلسان الله ويأمر بلسان الله نفسه بالتوحيد وبكيفية اضافاته ورد عنهم بعد تمامه: كذلك الله ربى، مرتين، اشارة الى امتثال امره واقرارا بتوحيده واضافاته، ولما كان السورة مشتملة على توحيده واضافاته وسلوبه روى عن الفضيل بن يسار، ان ابا جعفر امرنى ان اقرأ قل هو الله احد واقول اذا فرغت منها: كذلك الله ربى، ثلاثا، اشارة الى الامتثال بالاقرار بالتوحيد واضافاته وسلوبه، ولما كان العلوم ثلاثة بمضمون ما ورد عن النبى (ص) من قوله:
" انما العلم ثلاثة؛ آية محكمة، او فريضة عادلة، او سنة قائمة "
، وتمام القرآن لبيان هذه الثلاثة، وهذه السورة مشتملة بايجازها على تمام الآيات المحكمات ورد عنهم: ان من قرأها كان كمن قرء ثلث القرآن، والوجه الآخر فى ذلك ان السالك الى الله لا يحصل له السلوك الا بالجذب والانسلاخ من الكثرات وبالتوجه الى الكثرات، والتوجه الى الكثرات اما لمرمة المعاش او تزود المعاد، وتمام القرآن لبيان كيفية هذه الثلاثة والسورة المباركة فى مقام الجذب والانسلاخ، والوجه الآخر ان القرآن لاثبات الرب وتوحيده واثبات الخلق وتكثيرهم، واثبات الوسائط بين الرب والخلق، والوجه الآخر ان القرآن لبيان اضافة الحق الى الخلق واضافة الخلق الى الرب وبيان الوسائط بين الاضافتين، ولما لم يكن يتم سلوك السالك الا بطرو حال الجذب والانسلاخ عليه فانه لو لم يكن للسالك حرارة الجذب جملة ولم يتحرك الى الله ورد عن الصادق (ع): من مضى به يوم واحد فصلى فيه خمس صلوات ولم يقرء فيه بقل هو الله احد قيل له: يا عبد الله لست من المصلين، وليس المراد بقراءة قل هو الله لقلقة اللسان فقط فانها ربما تصير وبالا على القارى، بل المراد توفيق الحال للقال حتى ذاق القارى ووجد فى وجوده انموذج الانسلاخ ولهذا الوجه ورد عنه (ع): من مضت له جمعة ولم يقرء بقل هو الله احد ثم مات مات على دين ابى لهب لان ابا لهب كان فارغا من حرارة الجذب الفطرى، وقد ورد فى حق هذه السورة فضائل كثيرة عنهم (ع) ولفضلها لا يجوز العدول عنها فى الفريضة الى غيرها اذا شرع المصلى فيها، واذا صلى ولم يقرء فى صلاته بقل هو الله احد كان صلاته ناقصة كما فى الاخبار، وقد روى عن النبى (ص) انه قال:
" من قرأ قل هو الله احد مرة بورك عليه، فان قرأها مرتين بورك عليه وعلى اهله، فان قرأها ثلاث مرات بورك عليه وعلى اهله وعلى جميع جيرانه، فان قرأها اثنتى عشرة مرة بنى له اثنا عشر قصرا فى الجنة؛ فتقول الحفظة: انطلقوا بنا ننظر الى قصر اخينا! فان قرأها مأة مرة كفر عنه ذنوب خمس وعشرين سنة ما خلا الدماء والاموال، فان قرأها اربعماة كفر عنه ذنوب اربعمائة سنة، فان قرأها الف مرة لم يمت حتى يرى مكانه من الجنة او يرى له "
، والاخبار فى انها تعدل ثلث القرآن وان من قرأها ثلاث مرات كان كمن قرأ القرآن كله كثيرة، وروى انه جاء رجل الى النبى (ص) فشكى اليه الفقر وضيق المعاش فقال له رسول الله (ص):
" اذا دخلت بيتك فسلم ان كان فيه احد وان لم يكن فيه احد فسلم واقرأ قل هو الله احد مرة واحدة "
، ففعل الرجل فافاض الله عليه رزقا حتى افاض على جيرانه، وعن الصادق (ع) انه قال: من اصابه مرض او شدة فلم يقرأ فى مرضه او شدته بقل هو الله احد ثم مات فى مرضه وفى تلك الشدة التى نزلت به فهو من اهل النار، وسبب ذلك ان هذا المبتلى لو كان بقى فطرته التى بها ينجذب الى عالم الآخرة والى الله يصير مرضه وشدته لا محالة سببا لانسلاخه وتوجهه الى الله، وهذا الانسلاخ هو قراءة قل هو الله قرأ او لم يقرء، واذا لم ينسلخ علم انه لم يبق فيه الفطرة فكان من اهل النار لان من لم يبق فيه فطرة الانسانية كان مرتدا فطريا غير مقبول التوبة، وعنه (ع) انه قال: من يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع ان يقرأ فى دبر الفريضة بقل هو الله احد فانه من قرأها جمع له خير الدنيا والآخرة وغفر الله له ولوالديه وما ولد، او وجهه يستنبط مما ذكرنا، فان الفريضة عبارة عن التوجه الى الله والى الآخرة، فاذا كان من صلى الفريضة كما هو مأمور بها لا بد وان تنتهى به الى حالة الانسلاخ والدخول فى دار القلب التى هى دار التوحيد وفى ذلك الانسلاخ وهذا الدخول خير الدنيا والآخرة وغفران الذنوب له ولمن اتصل به؛ فجاهدوا اخوانى حتى يكون صلاتنا باعثة لانسلاخنا من انفسنا واهويتها ومورثة لدخولنا فى دار القلب او توجهنا اليها، ولا نكون ممن يصلى والصلاة تلعنه، وعن ابى الحسن (ع) انه يقول: من قدم قل هو الله احد بينه وبين كل جبار منعه الله منه، يقرأها بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، فاذا فعل ذلك رزقه الله خيره ومنعه شره، وسر ذلك ما ذكرنا.
[113 - سورة الفلق]
[113.1]
{ قل أعوذ برب الفلق } يعنى قل يا محمد (ص) اذا تنزلت الى مقام بشريتك وصرت بحال تتأثر مما يرد عليك اذا لم يكن ملائما لك ويؤثر فيك تصرفات الخلق وسحرهم اعوذ برب الفلق يعنى أنشئ العوذ بهذه الكلمة او اخبر من عوذى بهذه الكلمة حتى تكون بذلك العوذ محفوظا من شر الاشرار، والفلق محركة الصبح، او ما انفلق من عموده، او الفجر، او الخلق كلهم او جهنم اوجب فيها، والمناسب ان يكون الاستعاذة فى حال نزوله (ص) الى مقام البشرية الى رب الصبح منتظرا لطلوعه وذهاب ظلمة ليلة بشريته.
[113.2]
{ من شر ما خلق } أتى بلفظ ما دون من للتعميم وأتى بلفظ خلق للاشارة الى ان المبدعات والمنشآت والمخترعات العلوية لا شرية فيها، واما المخترعات للتعميم وأتى بلفظ خلق للاشارة الى ان المبدعات والمنشآت والمخترعات العلوية لا شرية فيها، واما المخترعات السفلية فهى داخلة فى الخلق.
[113.3]
{ ومن شر غاسق إذا وقب } الغاسق الليل اذا غاب الشفق والقمر وكل هاجم بضرره والمعنى اعوذ من شر الليل اذا دخل لان كل ذى شر فى الاغلب يظهر شره فى الليل اكثر من النهار، او من شر كل ما يهجم بشره، وقيل: المعنى من شر الثريا اذا سقطت لكثرة الاسقام عند سقوطها، وقيل: المعنى من شر الذكر اذا قام، والغسق محركة ظلمة اول الليل وشيء من قماش الطعام كالزوان ونحوه، وغسقت عينه كضرب وسمع اظلمت او دمعت، وغسق الجرح سال منه ماء اصفر، وعسق الليل واغسق اشتدت ظلمته.
[113.4]
{ ومن شر النفاثات في العقد } اى من شر النفوس اللاتى يعقدن على الشعور والخيوط وينفثن فيها ويسحرن الناس بها، او النساء اللاتى يفعلن ذلك.
[113.5]
{ ومن شر حاسد إذا حسد } اى من شر من له قوة الحسد اذا ظهر حسده فان الحسد المكمون لا يضر المحسود ولا يضر الحاسد الا انه نقصان فى وجود الحاسد، خص هذه الثلاث بالذكر بعد تعميم الاستعاذة من شر جميع ذوى الشرور للاهتمام بالاستعاذة منها، لان ضر هذه الثلاث وشرها خفى لا يمكن التحرز منها فينبغى ان يتعوذ منها بالله العليم بالخفيات القدير على الحفظ منها، روى ان لبيد بن الاعصم اليهودى سحر رسول الله (ص) ثم دس ذلك فى بئر لبنى زريق، فمرض رسول الله (ص) فبينا هو نائم اذا اتاه ملكان فقعد احدهما عند رأسه والآخر عند رجليه فأخبراه بذلك وانه فى بئر كذا، فانتبه رسول الله (ص) وبعث عليا والزبير وعمارا، فنزحوا ماء تلك البئر ثم رفعوا الصخرة التى كانت فى قعر البئر فاذا فيه مشاطة رأس وأسنان من مشطة واذا فيه معقد فيه اثنا عشر عقد مفروزة بالابر، فنزلت هاتان السورتان فجعل كلما يقرأ آية انحلت عقدة ووجد رسول الله (ص) خفة فقام فكأنما انشط من عقال، وروى قصة نزول السورتين بغير هذا الطريق مع اختلاف فى اللفظ والمعنى، ولما كان المقصود من الامر بالقراءة ان يصير القارى بحال يكون لسانه لسان الله او لسان الملك النازل من الله لا لسان نفسه ويصير سمعه سمع اللطيفة النبوية فيصير فى امثال هذه المخاطبات آمرا من الله للطيفته النبوية ويجعل عالمه الصغير انموذجا للعالم الكبير، جاز ان ينظر القارى حين قراءة السورة الى عالمه واستعاذ من اهل مملكته من اعضائه وقواها ونفسه وجنودها فيقول امتثالا لامر الله: اعوذ برب الفلق اى برب المواليد المنفلق من بدنى ونفسى، او برب الصبح المنفلق او الفالق لظلمة ليل طبعى ونفسى من شر ما خلق فى مملكتى من القوى البهيمية والسبعية والشيطانية، ومن الاعضاء والآلات البدنية او من شر الاحتجاب بالخلق عن الحق فان شر الكل من اهل العالم الكبير او الصغير راجع الى الاحتجاب بهم عن الحق، ومن شر غاسق اى البدن وظلماته اذا دخل ظلمته فى عالم الروح وجعل الروح مظلما بظلمانيته، او من شر امراض البدن اذا دخلت واثرت فى الروح، او من شر القبض او النفس واهويتها اذا اثرت فى الروح، ومن شر النفاثات اى القوى العلامة والعمالة التى تعقد فى طريق السالك وتنفث بحيلها فيها حتى لا يمكن للروح حلها والتجاوز عنها فان العلامة الشيطانية تحمل العمالة على امر باطل لا حقيقة له فيجعله العلامة بتمويهاتها بحيث لا يمكن الانسان ان يتجاوز عنها ولا ان يتركها فتهوى بالانسانية من عالمها الى شبكة ذلك الامر فتهلكها، ومن شر حاسد من النفس وقواها التى تتمنى مداما زوال النعمة عن الانسانية وعدم ترقيها الى مقام القلب ومقام الشهود والغنى، وتتمنى ان تكون الانسانية فى الحجاب والبعد والعذاب مثلها اذا حسد الانسانية والقاها فى شبائكها.
[114 - سورة الناس]
[114.1-3]
{ قل أعوذ برب الناس } لما كان الله تعالى شأنه امر نبيه (ص) بالاستعاذة من الوسواس الصادر من شياطين الجن والانس، وكان ذلك الوسواس لا يتعلق بغير الانسان الناسى لذكر الله اضاف الرب الى الناس وعبر بالناس للاشارة الى ان ذلك الوسواس لا يكون الا للناسى، ورب الناس هو رب الارباب لكن باسمه المحيط بكل الاسماء المسخر لكل الارباب وهو رب النوع النوع الانسانى، وهو المعبر عنه بالروح وهو اعظم من جبرئيل وميكائيل ولم يكن مع احد من الانبياء (ع) وكان مع محمد (ص) ومرتبته فوق الامكان وتحت الوجوب وهى مقام علوية على (ع) والمعنى يا محمد (ص) اخبر عن استعاذتك بالله وانشئها بلسان قالك وبلسان حالك، ولما كان استعاذتك من شر الوسواس وليس يظهر ذلك الا فى مظهر الناس سواء كان بلسان الناس او بلسان الجن فى صدر الناس كان ينبغى لك الاستعاذة برب الناس مخصوصا بخلاف استعاذتك فى السورة السابقة، ولما كان يظهر اول الامر آثار ربوبيته للسالك بالتنقيص والتكميل والخذلان والجبران بالغفران امر نبيه (ص) بان يعبر عنه اولا بعنوان الربوبية وابدل عنه قوله { ملك الناس } اشعارا بانه تعالى فى ثانى الاحوال يظهر على السالك ملكيته ومالكيته لكل الاشياء، وذلك بعد الفناء التام والتقوى التامة وابدل عنه آخرا قوله { إله الناس } للاشارة الى انه تعالى بعد فناء العبد وبقائه بعد الفناء يصير معبودا للعبد، واما قبل ذلك فمعبوده يكون اسما من اسمائه واظهر الناس مع ان المقام كان مقام الاضمار اشعارا بذمه على نسيانه بفطرته مع انه لا ينبغى ان يكون ناسيا لربه الموصوف بتلك الاوصاف الثلاثة.
[114.4]
{ من شر الوسواس } الوسواس بكسر الواو مصدر وسوس والوسواس بالفتح اسم للمصدر وهو على معناه المصدرى فيكون قوله تعالى { الخناس } بدلا منه بدل الاشتمال او هو بمعنى الموسوس فيكون الخناس صفة له، وسمى الموسوس بالوسواس للمبالغة، والخنوس التأخر او الغيبة، ولما كان الشيطان الموسوس من عادته التأخر عن الانسان او الغيبة عنه حين ذكر الله سمى خناسا.
[114.5]
{ الذى يوسوس في صدور الناس } والوسوسة حديث النفس وحديث الشيطان بما لا خير فيه ولا نفع، ووسوس له واليه.
[114.6]
{ من الجنة والناس } من تبعيضيته او بيانية، والظرف حال من الوسواس على ان يكون الوسواس بمعنى الموسوس، او ابتدائية والظرف ايضا حال على ان يكون بمعنى المصدر، او ابتدائية والظرف متعلق بيوسوس اى يوسوس من جهة الجنة والناس.
صفحة غير معروفة