{ وكذلك } اى مثل هداية الله لكم الى الايمان بالله تعالى والمنزل على ابراهيم واسماعيل ومثل الهداية الى الصراط المستقيم المستفاد من السابق، ولذا أتى بأداة العطف كأنه قال: هديناكم الى الايمان بالله وبما أنزل والى الصراط المستقيم وكذلك { جعلناكم } الخطاب للائمة (ع) وآل الرسول بحسب مقام رسالته وهم الائمة (ع) والاتباع الذين صاروا منهم بقوة متابعتهم { أمة } الامة تطلق على من يؤم شخصا آخر واحدا كان او جماعة وتطلق على من يؤتم به واحدا كان ام جماعة، وفى اللغة الامة بالضم الرجل الجامع للخير والامام وجماعة أرسل اليهم رسول والجماعة من كل حى والجنس ومن هو على جين الحق والعالم، ومن الرجل قومه؛ والامة هاهنا اما بمعنى الآئمة او بمعنى الآمين { وسطا } متوسطة بين المفرطين والمفرطين كما ورد: نحن النمرقة الوسطى بنا يلحق التالى والينا يرجع الغالى { لتكونوا شهدآء على الناس } وهذا يدل على ان المراد بالامة الأئمة (ع) ومن يحذو حذوهم من مشايخهم نسب الى الباقر (ع) انما أنزل الله وكذلك جعلناكم ائمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول شهيدا عليكم، قال: ولا يكون شهداء على الناس الا الأئمة الرسل فأما الامة فانه غير جائز ان يستشهدها الله وفيهم من لا تجوز شهادته فى الدنيا على حزمة بقل. ونسب اليه (ع) وأيم الله لقد قضى الامر ان لا يكون بين المؤمنين اختلاف ولذلك جعلهم شهداء على الناس ليشهد محمد (ص) علينا، ولنشهد على شيعتنا، وليشهد شيعتنا على الناس، والشهداء جمع الشهيد وقد يكسر شينه بمعنا الحامل للشهادة او المؤدى لها فيكون فعيل بمعنى الفاعل والشهيد بمعنى القتيل فى سبيل الله فهو فعيل بمعنى المفعول لانه مشهود عليه يعنى حضرته الملائكة او شهد الله عليه وملائكته الجنة { ويكون الرسول عليكم شهيدا } والمراد بالشهادة عليهم اظهار ما هم عليه من الخير والشر فتكون اعم من الشهادة عليهم ولهم وانما عدى العبارة بعلى للاشعار بأن شهادتهم ليست كشهادة الناس بعضهم على بعض بل الشهادة هناك عبارة عن احاطة الشاهد بالمشهود عليه وله واظهاره ما للمشهود عليه وما عليه، لا الأخبار باللسان فقط وان كان لهم هناك اخبار بلسان موافق لذلك العالم وهذا لا يكون الا باستيلاء الشاهد المستفاد من لفظ على { وما جعلنا القبلة التي كنت عليهآ } يعنى بيت المقدس كنت عليها مدة اربع عشرة سنة { إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه } يرتد عن دين محمد (ص) بعد التدين به، شبه المرتد عن الدين بمن يرجع القهقرى، واسناد العلم بنحو الحدوث فى المستقبل او فى الحال الى الله اما باعتبار مظاهره وخلفائه او باعتبار العلم الذى هو مع المعلوم لا العلم الذى هو قبل المعلوم كما نسب الى الامام (ع) انه قال يعنى الا لنعلم ذلك منه وجودا بعد ان علمناه سيوجد واتصاف العلم الذى هو مع المعلوم بالحدوث انما هو باعتبار تعلق معلوم به لا باعتبار انتسابه الى العالم فان الواجب بالذات واجب من جميع الجهات، او المعنى الا ليظهر علمنا او لتميز، وقوله تعالى { ممن ينقلب } دليل هذا المعنى فان لفظة من هاهنا هى التى تستعمل بعد التميز فان كان نزول الآية قبل صرفهم الى الكعبة كان المعنى وما جعلنا القبلة التى كنت عليها فى مكة الا لنعلم من يتبع الرسول ومن يتبع الهوى فان أهل مكة لآلفهم الى مكة كان هواهم فى الكعبه، وان كان بعد صرفهم الى الكعبة يحتمل ان يراد بالقبلة الكعبة وبيت المقدس نسب الى الامام (ع) انه قال: وذلك ان هوى أهل مكة كان فى الكعبة فأراد الله تعالى ان يبين متبع محمد (ص) ممن خالفه باتباع القبلة التى كرهها ومحمد (ص) يأمر بها، ولما كان هوى أهل المدينة فى بيت المقدس امرهم بمخالفتها والتوجه الى الكعبة لتبين ان من يوافق محمدا فيما يكرهه فهو مصدقه وموافقه { وإن كانت } القبلة التى كنت عليها او الصلاة الى تلك القبلة فى ذلك الوقت { لكبيرة إلا على الذين هدى الله } لا على الذين بايعوا محمدا (ص) لأغراض نفسانية من دون هداية من الله، ولفظة ان مخففة من المثقلة { وما كان الله ليضيع إيمانكم } اى صلاتكم سمى الصلاة ايمانا لأنها أعظم آثاره وبدونها لم يكن الايمان ايمانا { إن الله بالناس لرءوف رحيم } تعليل للسابق والرأفة كالرحمة لفظا ومعنى لكنها هنا أشد الرحمة او أرقها او الاثر الظاهر من الرحمة وفى حديث: قال المسلمون للنبى بعد ما انصرف الى الكعبة ارأيت صلواتنا التى كنا نصلى الى بيت المقدس ما حالنا فيها وحال من مضى من أمواتنا وهم يصلون الى بيت المقدس فأنزل وما كان الله ليضيع ايمانكم.
[2.144]
{ قد نرى تقلب وجهك في السمآء } ابتداء كلام منه تعالى لابداء حكم ولذا لم يأت بأداة الوصل كأنه (ص) بعد ما انزجر من اليهود وما قالوه فيه وفى توجهه فى صلاته الى قبلتهم كان يسأل ربه تحويل وجهه فى الصلاة ومن شأن السائل المتضرع ان يقلب وجهه فى جهة المسؤل وكأنه كان يريد الكعبة لأنها كانت قبلة ابراهيم (ع) وبناءه ومولد على (ع) وموطنه وموطن نفسه { فلنولينك قبلة ترضاها } فى صلاتك وهى الكعبة وانما يرضيها للميل الفطرى الذى يكون للانسان بالنسبة الى موطنه ومولده وموطن آبائه وآثار أجداده ولأنها كانت مرجعا للعرب والتوجه اليها يقتضى رغبتهم الى دين الاسلام { فول وجهك شطر المسجد الحرام } اى الحرام هتكه، والحرام اما مشترك بين المصدر والصفة او فى الاصل مصدر يستعمل فى معنى الصفة والمسجد الحرام جزء من الحرم كما ان الكعبة جزء من المسجد، والكعبة قبلة اهل الحرم والحرم قبلة أهل العالم كما روى فالمراد بالمسجد الحرام اما تمام الحرم من باب استعمال الجزء فى الكل او المسجد نفسه، ولم يقل شطر الكعبة لأن المعتبر من القبلة للبعيد هو استقبال الجهة التى يكون البيت فيها لا استقبال عين البيت وهذا المعنى يستفاد من شطر المسجد مع ان فيه تطبيقا للتنزيل على التأويل والمعنى ول وجه بدنك شطر المسجد الحرام الصورى ووجه نفسك شطر المسجد الحرام الذى هو الصدر المنشرح بالاسلام الذى فيه كعبة القلب فى حال الصلاة البدنية وفى حال الصلاة النفسية التى هى كل الاحوال. وفى الخبران النبى (ص) بعد ما اغتم بقول اليهود ان محمدا (ص) تابع لقبلتنا خرج فى بعض الليل يقلب وجهه فى السماء فلما أصبح صلى الغداة فلما صلى من الظهر ركعتين جاء جبرئيل فقال له : قد نرى تقلب وجهك فى السماء فلنولينك قبلة ترضيها فول وجهك شطر المسجد الحرام ثم أخذ بيد النبى (ص) فحول وجهه الى الكعبة وحول من خلفه وجوههم حتى قام الرجال مقام النساء والنساء مقام الرجال فكان أول صلاته الى بيت المقدس وآخرها الى الكعبة فسمى ذلك المسجد مسجد القبلتين { وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } خصه (ص) اولا بالخطاب تعظيما لشأنه (ص) وتنبيها على اجابة مسؤله وعلى مراعاة رغبته وان الحكم له (ص) بالأصالة ولامته بالتابعية ثم عمم الحكم والخطاب للأمة والأمكنة كلها ان كان الرسول (ص) داخلا فى المخاطبين او صرف الخطاب عنه الى أمته وخاطبهم للاشارة الى عموم الحكم وأنه ليس له (ص) خاصة؛ وهذا الوجه هو الانسب، لأنه تعالى كرر هذا الحكم وفى كل من مراتب التكرار ذكر الرسول (ص) وحده ثم ذكر الأمة وعلق الحكم حين ذكر الرسول (ص) على ما يناسب شأنه وحين ذكر الامة على ما يناسب شأنهم كما سنذكره { وإن الذين أوتوا الكتاب } والمراد بالكتاب الشريعة الالهية من اى نبى كانت او كتاب التوراة والانجيل والجملة حال او عطف باعتبار المعنى كأنه قال: فانه حق من ربكم { وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه } اى التحويل او التوجه او شطر المسجد او المسجد من حيث التوجه { الحق من ربهم } لأنهم أهل شرائع الهية وكل من دخل فى شريعة الهية يعلم ان احكام كل شريعة مغايرة لشريعة أخرى، وبعض ما فى شريعة ينسخ بشريعة اخرى على ان اهل الكتاب قرأوا فى كتبهم وسمعوا من أحبارهم بأخبار أنبيائهم أن محمدا (ص) يصلى الى القبلتين { وما الله بغافل عما يعملون } وعد ووعيد للمقر والمنكر، وقرئ يعملون بالغيية.
[2.145]
{ ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية } معجزة مقترحة لهم او غير مقترحة { ما تبعوا قبلتك } لأنهم أصحاب النفس والنفس كالشيطان من فطرتها عدم الانقياد، وطلب الآية ليس الا للفرار من الانقياد ولو اتيت بالآية المقترحة لما انقادت واعتذرت بعذر آخر واقترحت آية أخرى وهذا قطع لأطماع المؤمنين عن اتباع أهل الكتاب لهم { ومآ أنت بتابع قبلتهم } قطع لأطماعهم عن متابعته (ص) قبلتهم فانهم قالوا: لو كنت ثابتا على قبلتنا لكنا نرجو ان تكون صاحبنا الذى ننتظره { وما بعضهم } كالنصارى بتابع { قبلة بعض } كاليهود فان اليهود كما قيل تستقبل الصخرة والنصارى مطلع الشمس { ولئن اتبعت أهواءهم } خطاب له (ص) والمقصود أمته (ص) كسابقتها فان المؤمنين لرغبتهم فى اسلام اهل الكتاب كانوا يودون لو كان رسول الله (ص) بقى على قبلتهم حتى يسلموا { من بعد ما جآءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين } قطع لاطماع المؤمنين عن بقائه (ص) على قبلتهم واتباعه (ص) لأهواءهم.
[2.146]
{ الذين آتيناهم الكتاب } جواب لسؤال مقدر ولذا لم يأت بأداة الوصل كأنه قيل: الا يعرف أحد منهم محمدا (ص) وقبلته؟ - فقال الذين آتيناهم الكتاب يعنى أحبارهم ولذا نسب الفعل الى نفسه تشريفا لهم ونسب الكتمان الى فريق منهم { يعرفونه } اى محمدا (ص) او تحويله الى قبلة اخرى فى صلاته { كما يعرفون أبناءهم } فى منازلهم بحيث لا يمكن الشك والريبة لهم { وإن فريقا منهم } وهم الذين عاندوا الحق عن علم لمحض اللجاج { ليكتمون الحق وهم يعلمون } الحق او ان محمدا (ص) نبى، او المراد أنهم علماء على ان يكون المفعول منسيا.
[2.147-148]
{ الحق من ربك } مبتدأ وخبر جواب لسؤال مقدر كأنه (ص) قال فما أفعل؟ - فقال تعالى: { الحق من ربك } اى اثبت عليه ولا تغتم بكتمانه وقرئ الحق بالنصب؛ على ان يكون مفعول يعلمون { فلا تكونن من الممترين ولكل وجهة هو موليها } الضمير لله او لكل والتولية بمعنى الاقبال والادبار وبمعنى التوجيه وقرئ لكل وجهة بالاضافة وقرئ هو { موليها } بالألف اسم مفعول؛ والآية بتنزيلها رد على من أنكر التوجه الى الكعبة فى الصلاة من أهل الكتاب ومن ضعفاء المسلمين والمعنى لكل أمة قبلة مخصوصة بها تلك الامة، والله موليها اليها، فاستبقوا الخيرات ولا تشتغلوا بالقول فى أمر القبلة، وبتأويلها رد على من أنكر الولاية وتوجه النفوس الى القلب وصاحب القلب كالعامة، وترغيب فى التوجه من الجهات النفسانية الفانية الى الجهة القلبية الاخروية الولاية الباقية والمعنى لكل صنف او فرد وجهة يتوجه اليها ولا ينفك احد منكم عن التوجه الى جهة من الجهات فتوجهوا الى ما ينفعكم ويبقى معكم وهو جهة القلب التى لا يمكن التوجه اليها الا بقبول الولاية فاستبقوا الولاية التى هى اصل جميع الخيرات ولذا فسر الخيرات بالولاية فى الخبر، وسيأتى بيان للخير وأن أصل الخير والحسن والحق والصلاح هى الولاية، وكل ما كان مرتبطا بالولاية كان خيرا وحسنا كائنا ما كان، وكلما لم يرتبط بالولاية لم يكن خيرا كائنا ما كان. { أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا } استئناف فى مقام التعليل يعنى اينما تكونوا من جهات النفس ومقامات الانسان والشيطان والسباع والبهائم يأت بكم الله؛ وهذا يقتضى استباق الخيرات او الأمر بالاستباق حتى تكونوا مرضيين عنده، وورد فى أخبار كثيرة ان المراد أصحاب القائم (ع) وأنهم المفتقدون من فراشهم المصبحون بمكة وهذا وجه من وجوه تأويله { إن الله على كل شيء قدير } فيقدر على جمعكم فى مكان واحد ومقام واحد ومحشر واحد مع اختلافكم فى المكان والمقام.
[2.149]
صفحة غير معروفة