أما في المشرق، فقد أغنى عن الدعوة الحثيثة إلى نشر المذهب الظاهري أن الخلفاء والأمراء كانوا يبنون المدارس، ويجرون فيها الجراية على طائفة من علماء المذاهب الأربعة، لا يشترك فيها غيرهم من أصحاب الاجتهاد، وفيهم من كان في طبقة الأئمة الأربعة في العلم والصلاح، وكان له أتباع يأتمون به ربما قاربوا في عددهم أتباع الأئمة أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد، ولكن مذاهبهم لا تدرس في المعاهد التي تفرض لها الجراية من خزائن الدولة، وهبات الخلفاء والأمراء. •••
وانتهى الأمر في أوائل القرن السابع بأمر الخليفة المستعصم علماء الفقه في المدرسة المستنصرية أن يقصروا دروسهم على أقوال الأئمة من قبلهم، ولا يدرسوا كتابا من كتبهم لتلاميذهم ، فدعاهم الوزير وأبلغهم أمر الخليفة، فقال جمال الدين الجوزي أستاذ المذهب الحنبلي: إنه على هذا الرأي، وقال الشرمساحي أستاذ المذهب المالكي: إنه يرتب النقط في مسائل الخلاف، وليس لأصحابه تعليقة؛ أي شروح مدونة، وقال شهاب الدين الزنجاني أستاذ المذهب الشافعي، وعبد الرحمن اللمغاني أستاذ المذهب الحنفي: إن المشايخ كانوا رجالا ونحن رجال.
فلما رفع الوزير إجابتهم إلى الخليفة دعاهم إليه، وأعاد إليهم أمره فأطاعوه، وجرى مثل ذلك في المدارس الكبرى، فتضاءل شأن القائلين بآرائهم في مسائل الفقه والأصول، وكثر الإقبال على دروس المذاهب التي يتعلمها الطلاب في معاهد الدولة، ومنهم يختار القضاة والمعلمون وخطباء المساجد وعمال الدواوين ...
جاء في شرح جمع الجوامع أن الشيخ أبا زرعة سأل أستاذه البلقيني عن الشيخ تقي الدين السبكي: كيف يقلد وقد استكمل آلة الاجتهاد؟!
قال الشيخ: فسكت عني، ثم قلت: ما عندي أن الامتناع عن ذلك إلا للوظائف التي تجري على فقهاء المذاهب الأربعة، وأن من خرج على ذلك واجتهد لم ينله شيء، وحرم ولاية القضاء، وامتنع الناس عن استفتائه، ونسب إلى البدعة. فتبسم ووافقني على ذلك.
كان هذا في القرن السابع للهجرة وما بعده بقليل، ثم رانت على العالم الإسلامي غاشية الجمود والضعف، فانقطع الناس عن العلم اجتهادا وتقليدا، وتواكلوا في كل شيء من جلائل الأمور وصغائرها، وقل الاعتماد على النفس، وقل من يثق بنفسه أو يستحق الثقة من غيره، وندر من يتقدم لادعاء الاجتهاد، ومن يصغي إليه لو ادعاه، وجرت أحوال الحياة جميعا على الاتباع والانقياد، ولم يبال الناس ما خالف الولاة وما وافقوا من سنن الدين أو سنن العرف المأثور.
وطالت هذه الفترة نحو أربعة قرون، تتابعت فيها الضربات والقوارع على الأمم الإسلامية حتى تيقظت فيها بعد السبات الطويل بقايا الحياة، التي كمنت في سرائرها من وحي عقيدتها، فنبغ في كل أمة منها رهط من القادة الغيورين، يجاهدون ويجتهدون ويعودون بها كما بدأ الإسلام إلى حظيرة الدين، وتعلم المسلمون من عهود الخمول والنكسة دروسا كالتي تعلموها من عهود العزة والتقدم، فحواها من طرفيها المتناقضين أن العجز عن الاجتهاد والعجز عن الحياة مقترنان، وأن المسلمين يحتفظون بمكانهم بين أمم العالم ما احتفظوا بفريضة التفكير.
الفصل العاشر
التصوف
قبل تمييز الخاصة التي انفرد بها التصوف الإسلامي نسأل عن الخاصة المميزة للتصوف عامة؛ ما هي؟
صفحة غير معروفة