1 - فريضة التفكير في كتاب الإسلام
2 - الموانع والأعذار
3 - المنطق
4 - الفلسفة
5 - العلم
6 - الفن الجميل
7 - المعجزة
8 - أمام الأديان
9 - الاجتهاد في الدين
10 - التصوف
صفحة غير معروفة
11 - المذاهب الاجتماعية والفكرية
12 - العرف والعادات
خاتمة
1 - فريضة التفكير في كتاب الإسلام
2 - الموانع والأعذار
3 - المنطق
4 - الفلسفة
5 - العلم
6 - الفن الجميل
7 - المعجزة
صفحة غير معروفة
8 - أمام الأديان
9 - الاجتهاد في الدين
10 - التصوف
11 - المذاهب الاجتماعية والفكرية
12 - العرف والعادات
خاتمة
التفكير فريضة إسلامية
التفكير فريضة إسلامية
تأليف
عباس محمود العقاد
صفحة غير معروفة
الفصل الأول
فريضة التفكير في كتاب الإسلام
من مزايا القرآن الكثيرة مزية واضحة، يقل فيها الخلاف بين المسلمين وغير المسلمين؛ لأنها تثبت من تلاوة الآيات ثبوتا تؤيده أرقام الحساب، ودلالات اللفظ اليسير، قبل الرجوع في تأييدها إلى المناقشات والمذاهب التي قد تختلف فيها الآراء ...
وتلك المزية هي التنويه بالعقل، والتعويل عليه في أمر العقيدة، وأمر التبعة والتكليف.
ففي كتب الأديان الكبرى إشارات صريحة أو مضمونة إلى العقل أو إلى التمييز، ولكنها تأتي عرضا غير مقصودة، وقد يلمح فيها القارئ بعض الأحايين شيئا من الزراية بالعقل أو التحذير منه؛ لأنه مزلة
1
العقائد، وباب من أبواب الدعوى والإنكار ...
ولكن القرآن الكريم لا يذكر العقل إلا في مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب العمل به، والرجوع إليه، ولا تأتي الإشارة إليه عارضة ولا مقتضبة في سياق الآية؛ بل هي تأتي في كل موضع من مواضعها مؤكدة جازمة باللفظ والدلالة، وتتكرر في كل معرض من معارض الأمر والنهي التي يحث فيها المؤمن على تحكيم عقله، أو يلام فيها المنكر على إهمال عقله، وقبول الحجر عليه.
ولا يأتي تكرار الإشارة إلى العقل بمعنى واحد من معانيه التي يشرحها النفسانيون من أصحاب العلوم الحديثة؛ بل هي تشمل وظائف الإنسان العقلية على اختلاف أعمالها وخصائصها، وتتعمد التفرقة بين هذه الوظائف والخصائص في مواطن الخطاب ومناسباته، فلا ينحصر خطاب العقل في العقل الوازع،
2
صفحة غير معروفة
ولا في العقل المدرك، ولا في العقل الذي يناط به التأمل الصادق والحكم الصحيح؛ بل يعم الخطاب في الآيات القرآنية كل ما يتسع له الذهن الإنساني من خاصة أو وظيفة، وهي كثيرة لا موجب لتفصيلها في هذا المقام المجمل؛ إذ هي جميعا مما يمكن أن يحيط به العقل الوازع، والعقل المدرك، والعقل المفكر الذي يتولى الموازنة والحكم على المعاني والأشياء ...
فالعقل في مدلول لفظه العام ملكة يناط بها الوازع الأخلاقي، أو المنع عن المحظور والمنكر، ومن هنا كان اشتقاقه من مادة «عقل» التي يؤخذ منها العقال، وتكاد شهرة العقل بهذه التسمية أن تتوارد في اللغات الإنسانية الكبرى التي يتكلم بها مئات الملايين من البشر؛ فإن كلمة «مايند»
Mind - وما خرج من مادتها في اللغات الجرمانية - تفيد معنى الاحتراس والمبالاة، وينادى بها على الغافل الذي يحتاج إلى التنبيه.
ونحسب أن اللغات في فروعها الأخرى لا تخلو من كلمة في معنى العقل لها دلالة على الوازع أو على التنبيه والاحتراس ...
ومن خصائص العقل ملكة الإدراك التي يناط بها الفهم والتصور، وهي على كونها لازمة لإدراك الوازع الأخلاقي، وإدراك أسبابه وعواقبه، تستقل أحيانا بإدراك الأمور فيما ليس له علاقة بالأوامر والنواهي، أو بالحسنات والسيئات ...
ومن خصائص العقل أنه يتأمل فيما يدركه، ويقلبه على وجوهه، ويستخرج منه بواطنه وأسراره، ويبني عليها نتائجه وأحكامه. وهذه الخصائص في جملتها تجمعها ملكة «الحكم»، وتتصل بها ملكة الحكمة، وتتصل كذلك بالعقل الوازع إذا انتهت حكمة الحكيم به إلى العلم بما يحسن وما يقبح، وما ينبغي له أن يطلبه، وما ينبغي له أن يأباه ...
ومن أعلى خصائص العقل الإنساني «الرشد»، وهو مقابل لتمام التكوين في العاقل الرشيد، ووظيفة الرشد فوق وظيفة العقل الوازع، والعقل المدرك، والعقل الحكيم؛ لأنها استيفاء لجميع هذه الوظائف، وعليها مزيد من النضج والتمام والتميز بميزة الرشاد؛ حيث لا نقص ولا اختلال. وقد يؤتى الحكيم من نقص في الإدراك، وقد يؤتى العقل الوازع من نقص في الحكمة، ولكن العقل الرشيد ينجو به الرشاد من هذا وذاك ...
وفريضة التفكير في القرآن الكريم تشمل العقل الإنساني بكل ما احتواه من هذه الوظائف بجميع خصائصها ومدلولاتها؛ فهو يخاطب العقل الوازع، والعقل المدرك، والعقل الحكيم، والعقل الرشيد، ولا يذكر العقل عرضا مقتضبا؛ بل يذكره مقصودا مفصلا على نحو لا نظير له في كتاب من كتب الأديان ... •••
فمن خطابه إلى العقل عامة - ومنه ما ينطوي على العقل الوازع - قوله تعالى في سورة البقرة:
إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون .
صفحة غير معروفة
ومنه في سورة المؤمنون:
وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون .
ومنه في سورة الروم:
ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون * وله من في السماوات والأرض كل له قانتون * وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم * ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون .
ومنه في سورة العنكبوت:
وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون .
ومنه ما يخاطب العقل وينطوي على العقل الوازع كقوله تعالى في سورة الملك:
وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير .
وفي سورة الأنعام:
ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون .
صفحة غير معروفة
ومنه بعد بيان حق المطلقات في سورة البقرة:
كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون .
ومنه في سورة يوسف:
وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون .
ومنه في سورة الحشر بيانا لأسباب الشقاق والتدابر بين الأمم:
تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون .
وهذا عدا الآيات الكثيرة التي تبتدئ بالزجر وتنتهي إلى التذكير بالعقل؛ لأنه خير مرجع للهداية في ضمير الإنسان ؛ كقوله تعالى في سورة البقرة:
أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون .
وكقوله في سورة آل عمران:
يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون .
صفحة غير معروفة
وكقوله تعالى في سورة المائدة:
وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون .
وفي سورة الأنعام:
وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون .
وفي سورة هود:
يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون .
وفي سورة الأنبياء:
أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون .
وفي غير هذه السور الكريمة تنبيه إلى العقل في مثل هذا السياق يدل عليه ما تقدم في هذه الآيات.
إن هذا الخطاب المتكرر إلى العقل الوازع يضارعه في القرآن الكريم خطاب متكرر مثله إلى العقل المدرك، أو العقل الذي يقوم به الفهم والوعي، وهما أعم وأعمق من مجرد الإدراك. وكل خطاب إلى ذوي الألباب في القرآن الكريم فهو خطاب إلى اللب - هذا العقل المدرك الفاهم - لأنه معدن الإدراك والفهم في ذهن الإنسان كما يدل عليه اسمه باللغة العربية ...
صفحة غير معروفة
والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب [سورة آل عمران: 7].
قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون [سورة المائدة: 100].
الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب [سورة الزمر: 18].
لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب [سورة يوسف: 111].
يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب [سورة البقرة: 269].
وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب [سورة البقرة: 197].
ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون [سورة البقرة: 179].
ومن هذه الآيات نتبين أن اللب الذي يخاطبه القرآن الكريم وظيفته عقلية، تحيط بالعقل الوازع، والعقل المدرك، والعقل الذي يتلقى الحكمة ويتعظ بالذكر والذكرى . وخطابه خطاب لأناس من العقلاء لهم نصيب من الفهم والوعي أوفر من نصيب العقل الذي يكف صاحبه عن السوء، ولا يرتقي إلى منزلة الرسوخ في العلم والتمييز بين الطيب والخبيث، والتمييز بين الحسن والأحسن في القول ... •••
أما العقل الذي يفكر ويستخلص من تفكيره زبدة الرأي والروية، فالقرآن الكريم يعبر عنه بكلمات متعددة تشترك في المعنى أحيانا، وينفرد بعضها بمعناه على حسب السياق في أحيان أخرى؛ فهو الفكر والنظر والبصر والتدبر والاعتبار والذكر والعلم وسائر هذه الملكات الذهنية التي تتفق أحيانا في المدلول - كما قدمنا - ولكنها لا تستفاد من كلمة واحدة تغني عن سائر الكلمات الأخرى ...
ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون [سورة البقرة: 219].
صفحة غير معروفة
الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض [سورة آل عمران: 191].
قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون [سورة الأنعام: 50].
ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون [سورة النحل: 11].
أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق [سورة الروم: 8].
انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون [سورةالأنعام: 65].
أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء [سورة الأعراف: 185].
قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون [سورة يونس: 101].
أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج [سورة ق: 6].
أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت [سورة الغاشية: 17].
من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون [سورة القصص: 72].
صفحة غير معروفة
أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون [سورة السجدة: 27].
والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار [سورة آل عمران: 13].
أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين [سورة المؤمنون: 68].
كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب [سورة ص: 29].
أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها [سورة محمد: 24].
فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار [سورة الحشر: 2].
ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون [سورة البقرة: 221].
وهذا صراط ربك مستقيما قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون [سورة الأنعام: 126].
أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب [سورة الرعد: 19].
وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون [سورة النحل: 13].
صفحة غير معروفة
أو يذكر فتنفعه الذكرى [سورة عبس: 4].
فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون [سورة النحل: 43].
ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون [سورة القصص: 43].
ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون [سورة البقرة: 151].
قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم [سورة البقرة: 247].
وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون [سورة الأنعام: 97].
قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون [سورة الزمر: 9].
يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير [سورة المجادلة: 11].
هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون [سورة يونس: 5].
قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا [سورة الكهف: 66].
صفحة غير معروفة
خلق الإنسان * علمه البيان [سورة الرحمن: 3، 4].
الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم [سورة العلق: 4، 5].
وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب [سورة آل عمران: 7].
بهذه الآيات - وما جرى مجراها - تقررت ولا جرم فريضة التفكير في الإسلام، وتبين منها أن العقل الذي يخاطبه الإسلام هو العقل الذي يعصم الضمير، ويدرك الحقائق، ويميز بين الأمور، ويوازن بين الأضداد، ويتبصر ويتدبر ويحسن الادكار والروية، وأنه هو العقل الذي يقابله الجمود والعنت والضلال، وليس بالعقل الذي قصاراه من الإدراك أنه يقابل الجنون؛ فإن الجنون يسقط التكليف في جميع الأديان والشرائع، وفي كل عرف وسنة، ولكن الجمود والعنت والضلال غير مسقط للتكليف في الإسلام، وليس لأحد أن يعتذر بها كما يعتذر للمجنون بجنونه، فإنها لا تدفع الملامة، ولا تمنع المؤاخذة بالتقصير ...
ويندب الإسلام من يدين به إلى مرتبة في التفكير أعلى من هذه المرتبة التي تدفع عنه الملامة، أو تمنع عنه المؤاخذة، فيستحب له أن يبلغه بحكمته ورشده، ويبدو فضل الحكمة والرشد على مجرد التعقل والفهم من آيات متعددة في الكتاب الكريم يدل عليها قوله تعالى:
ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا [سورة البقرة: 269].
ويدل عليها أن الأنبياء يطلبون الرشد، ويبتغون علما به من عباد الله الصالحين، كما جاء في قصة موسى وأستاذه عليهما السلام.
والذي ينبغي أن نثوب إليه مرة بعد مرة أن التنويه بالعقل على اختلاف خصائصه لم يأت في القرآن عرضا، ولا تردد فيه كثيرا من قبيل التكرار المعاد؛ بل كان هذا التنويه بالعقل نتيجة منتظرة يستلزمها لباب الدين وجوهره، ويترقبها من هذا الدين كل من عرف كنهه وعرف كنه الإنسان في تقديره ...
فالدين الإسلامي دين لا يعرف الكهانة، ولا يتوسط فيه السدنة والأحبار بين المخلوق والخالق، ولا يفرض على الإنسان قربانا يسعى به إلى المحراب بشفاعة من ولي متسلط أو صاحب قداسة مطاعة، فلا ترجمان فيه بين الله وعباده يملك التحريم والتحليل، ويقضي بالحرمان أو بالنجاة، فليس في هذا الدين إذن من أمر يتجه إلى الإنسان من طريق الكهان، ولن يتجه الخطاب إذن إلا إلى عقل الإنسان حرا طليقا من سلطان الهياكل والمحاريب، أو سلطان كهانها المحكمين فيها بأمر الإله المعبود، فيما يدين به أصحاب العبادات الأخرى.
فأينما تولوا فثم وجه الله [سورة البقرة: 115].
صفحة غير معروفة
لا هيكل في الإسلام، ولا كهانة حيث لا هيكل ... فكل أرض مسجد، وكل من في المسجد واقف بين يدي الله ...
ودين بلا هيكل ولا كهانة لن يتجه فيه الخطاب - بداهة - إلى غير الإنسان العاقل حرا طليقا من كل سلطان يحول بينه وبين الفهم القويم والتفكير السليم ...
كذلك يكون الخطاب في الدين الذي يلزم كل إنسان طائره في عنقه، ويحاسبه بعمله، فلا يؤخذ أحد بعمل غيره:
ولا تزر وازرة وزر أخرى [سورة فاطر: 18].
كل امرئ بما كسب رهين [سورة الطور: 21].
وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى [سورة النجم: 39، 40].
فإذا كان في الأديان دين يجتبي
3
القبيلة بنسبها، أو يجتبي المرء قبل مولده لأنه مولود فيها، أو كان في الأديان دين يحاسبه على خطيئة ليست من عمله، فليس في الإسلام إنسان ينجو بالميلاد، أو يهلك بالميلاد، ولكنه الدين الذي يوكل فيه النجاة والهلاك بسعي الإنسان وعمله، ويتولى فيه الإنسان هدايته بفهمه وعقله، ولا يبطل فيه عمل العقل أن الله بكل شيء محيط، فإن خلق العقل للإنسان لا يسلبه القدرة على التفكير، ولا يسلبه تبعة الضلال والتقصير.
وعلى هذا النحو يتناسق جوهر الإسلام ووصاياه، وتأتي فيه الوصايا المتكررة بالتعقل والتمييز منتظرة مقدرة لا موضع فيها للمصادفة، ولا هي مما يطرد القول فيه متفرقا غير متصل على نسق مرسوم؛ فإنها لوصايا «منطقية» في دين يفرض المنطق السليم على كل مستمع للخطاب قابل للتعليم، وهكذا يكون الدين الذي تصل العبادة فيه بين الإنسان وربه بغير واسطة ولا محاباة، ويحاسب فيه الإنسان بعمله كما يهديه إليه عقله، ويطلب فيه من العقل أن يبلغ وسعه من الحكمة والرشاد ...
صفحة غير معروفة
الفصل الثاني
الموانع والأعذار
حين يكون العمل بالعقل أمرا من أوامر الخالق يمتنع على المخلوق أن يعطل عقله مرضاة لمخلوق مثله، أو خوفا منه، ولو كان هذا المخلوق جمهرة من الخلق تحيط بالجماعات وتتعاقب مع الأجيال.
والموانع التي تعطل العقل من هذا القبيل كثيرة يستقصيها القرآن الكريم كما استقصى خطاب العقل بجميع وظائفه وملكاته، ولكنها قد تتجمع في ثلاثة موانع كبرى بمثابة الأصول التي تتشعب منها الموانع المختلفة، فمن سلم منها أوشك أن يسلم من كل مانع يحجر على عقله، ويأخذ السبيل على تفكيره، فلا يهتدي إلى رأي سواه ...
أكبر الموانع في سبيل العقل عبادة السلف التي تسمى بالعرف، والاقتداء الأعمى بأصحاب السلطة الدينية، والخوف المهين لأصحاب السلطة الدنيوية.
والإسلام لا يقبل من المسلم أن يلغي عقله ليجري على سنة آبائه وأجداده، ولا يقبل منه أن يلغي عقله خنوعا لمن يسخره باسم الدين في غير ما يرضي العقل والدين، ولا يقبل منه أن يلغي عقله رهبة من بطش الأقوياء، وطغيان الأشداء، ولا يكلفه في أمر من هذه الأمور شططا لا يقدر عليه؛ إذ القرآن الكريم يكرر في غير موضع أن الله لا يكلف نفسا ما لا طاقة لها به، ولا يطلب من خلقه غير ما يستطيعون ...
لا تكلف نفس إلا وسعها [سورة البقرة: 233].
لا نكلف نفسا إلا وسعها [سورة الأنعام: 152، سورة الأعراف: 42].
ولا نكلف نفسا إلا وسعها [سورة المؤمنون: 62].
لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به [سورة البقرة: 286].
صفحة غير معروفة
وما من أحد يهتدي بعقله لا يسعه أن يرى الصواب، وأن يكف عن الخطأ؛ فإذا قسر على نبذ الصواب واقتراف الخطأ، ففي وسعه أن ينجو بنفسه من القسر حيث كان، وفي وسعه إذا حيل بينه وبين النجاة أن يلقى الضرر الذي يجنيه عليه من يهدر كرامته، ويقتل ضميره؛ فذلك - لا ريب - أهون الضررين في هذه الحال، ولا معنى للدين ولا للخلق إذا جاز للناس أن يخشوا ضررا يصيب أجسامهم، ولا يخشوا ضررا يصيبهم في أرواحهم وضمائرهم، وينزل بحياتهم الباقية إلى ما دون الحياة التي ليس لها بقاء، وليس فيها شرف ولا مروءة. •••
وهذه الموانع كلها - موانع العرف والقدرة العمياء والخوف الذليل - إنما تقوم وتبقى قائمة ما هان على الإنسان أن يعيش بغير عقل يرجع إليه في أكرم مطالبه «الإنسانية»، وهو صلاح ضميره، ولكنها تزول على الأثر يوم يرجع إلى عقله أمام كل عقبة من عقباتها، وقد يشق عليه أن يذلل تلك العقبات أو يناجزها، ولكنه حق العقل عليه، ولا بد من حق تهون من أجله المشقة؛ لأنها أهون من سلب الإنسان فضيلته العليا، وارتكانه إلى حياة لا تعقل، أو حياة تعقل ولكنها تؤثر الحطة على علمها بما هو أرفع منها ...
إن حق العقل في الإسلام يقاس بكل قوة من قوى تلك الموانع التي ترصد له، وتصده عن طريقه، وأولها وأقواها في صدر الإسلام قوة العرف أو عبادة السلف؛ لأن العرف في الجاهلية بلغ مبلغ العبادة في المهابة والرعاية، وتسخير النفوس لحكمه بما يفرضه عليها من العادات، وما هي في الواقع إلا ضرب من العبادات يملك الإنسان في جميع أوقاته وعلاقاته؛ حيث تتراخى عنه أحيانا سطوة العبادات الدينية، ولعل العبادات لم يكن لها من سطوة في عصور الجاهلية وما شابهها إلا لأنها تستمد تلك السطوة من العادات ...
كانت الدعوة الإسلامية تثير أهل الجاهلية، وتحنقهم أشد الحنق على الرسول القائم بها صلوات الله عليه. وأشد ما كان يحنقهم من دعواته أنه يسفه بها أحلام الآباء والأجداد، فقلما كانوا يقولون في مقام الغضب منه والتحريض عليه: إنه يسفه أحلامنا، ويستخف بعقولنا، وإنما كان غضبهم كله منه، وتحريضهم كله عليه إذ يقولون عنه: إنه يسفه أحلام آبائنا، ويستخف بعقول أسلافنا، ويقول عن أصول النسب التي يفخرون بها: إنها كانت على ضلالة، وكانت لا تعقل ما تصنع من أمور الدين ...
والإسلام حين يأبى على الإنسان أن يعنو
1
بعقله كله لهذه السطوة الجائحة إنما يعطي العقل حقه في مقاومتها، ولا يكتفي بأن يفرض عليه واجب المقاومة، وإنما يمده بالحجة التي تعينه عليها؛ حيث لا حجة له بين يديها، فهو يكلفه ويعينه وهو يثيره، ويضع في يده السلاح الذي يشحذه في ثورته، فهو نصير معين يلقي العبء، ويعطي المدد الذي يعينه عليه ...
وحين يقول الإسلام للإنسان: يجب عليك أن تفتح عينك ولا تنقاد لما يوبقك مغمض العينين، فكأنه يقول له: يحق لك أن تنظر في شأنك؛ بل في أكبر شأن من شئون حياتك ، ولا يحق لآبائك أن يجعلوك ضحية مستسلمة للجهالة التي درجوا عليها.
وإن الإسلام ليأبى على المرء أن يحيل أعذاره على آبائه وأجداده، كما يأبى له أن تحال عليه الذنوب والخطايا من أولئك الآباء والأجداد، وإنه لينعي على الذين يستمعون الخطاب أن يعفوا أنفسهم من مؤنة العقل؛ لأنهم ورثوا من آبائهم وأجدادهم عقيدة لا عقل فيها ...
وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون [سورة البقرة: 170].
صفحة غير معروفة
وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون [سورة المائدة:104].
وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون [سورة الأعراف: 28].
واتل عليهم نبأ إبراهيم * إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون * قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين * قال هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون * قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون [سورة الشعراء: 69-74].
إنهم ألفوا آباءهم ضالين * فهم على آثارهم يهرعون [سورة الصافات: 69، 70].
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان [سورة التوبة: 23].
وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون * قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون [سورة الزخرف: 23، 24].
ولقد كان هذا حق العقل الذي استمده من الإسلام في مواجهة العرف أو عبادة السلف، وكانت للعرف في صدر الإسلام قوة أكبر من قوة العبادة وقوة الحكومة، ويستوي أن نقول: إن العقل أحق بالاستقلال أمام هاتين القوتين، وأن نقول: إن الاستقلال أمامهما أوجب عليه من الاستقلال أمام العرف أو عبادة السلف.
ولعلنا لا نعدو الصواب إذا عممنا القول على جميع العصور، ولم نقصره على العصر الجاهلي الذي كانت فيه عبادة السلف أظلم للناس من سلطان رجال الدين وسلطان الحاكم بأمره؛ فإن حرية العقيدة قد يرجع الأمر فيها إلى من يتولون أمرها من القائمين عليها في المعابد والمحاريب، أو من القائمين عليها في ولاية الشعائر والحدود.
فهنا مجال الحق الذي يتمسك به العقل حيث تدعو الحاجة إلى ذلك الحق، أو حيث يستوجبه الخطر في أمر الاعتقاد خاصة دون ما عداه من أمور يعمها العرف الشائع، أو تعمها عبادة الأسلاف.
وأيا كان الرأي في تفاوت القوى التي يخنع
صفحة غير معروفة
2
لها العقل، وتذهله عن حقه في الحرية، أو عن واجبه في التمييز والنهوض بالتبعة؛ فالأمر الذي لا مرية فيه أن التحذير من فساد الكهان والأحبار خليق أن يناسب الخطر الذي يخشى من فسادهم أينما كان، وكثيرا ما يكون ...
وقد بدأ الإسلام بالتحذير الشامل من هذا الفساد؛ فأسقط الكهانة، وأبطل سلطان رجال الدين على الضمائر، ونفى عنهم القدرة على التحريم والتحليل، والإدانة والغفران ...
ثم نبه إلى سيئاتهم وعاقبة الذين استسلموا لخديعتهم، وكثير منهم خادعون ...
اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون [سورة التوبة: 31].
يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم [سورة التوبة: 34].
وحرص القرآن على أن يعم القول من لهم سلطان ديني كالأحبار، ومن ليس لهم هذا السلطان، ولكنهم يستمدون من السمعة الدينية نصيبا من السلطان لا يقل عن نصيب الأحبار.
وهذا على تنبيه القرآن الكريم إلى ما كان من فضل الصالحين من الرهبان والقسيسين على أممهم؛ حيث جاء فيه:
ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون [سورة المائدة: 82].
وما نحسب أن التفرقة بين الفريقين تعسر على عارف ولا جاهل، فما من لبس هناك بين أناس لا يستكبرون، ولا يهيمون بالمال يأكلون أينما وجدوا الحلال والحرام منه، وبين أناس يتصدون للجاه والخيلاء ، ويأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سواء السبيل ... •••
صفحة غير معروفة
ويكاد الذين كتبوا في تاريخ العقائد يتفقون على تهوين خطر الحكم المستبد على الضمير الإنساني بالقياس إلى خطر العرف، أو خطر الخديعة من رؤساء الأديان؛ لأن الحكم المستبد يتسلط على الضمير من خارجه، ولا يستهويه من باطنه كما يستهويه حب السلف، أو الاسترسال مع القدوة الخادعة من قبل رؤساء الدين؛ فهو مشكلة مكان لا مشكلة عقل أو ضمير، إما أن ينفضه الإنسان عن مكانه، أو يلوذ منه بمكان أمين.
وكثيرا ما يكون الحكم المستبد حافزا للضمير إلى المقاومة، محرضا للعقل على الرفض والإنكار، وأكبر ما يخشى منه أن يؤدي إلى تشبث العناد؛ لأن هذا التشبث خطر على التفكير كخطر الاستهواء والتسليم، ولا يزال الاستبداد على كل حال قهرا للعقل بغير إرادته، يترك له الإرادة طليقة للمقاومة أو الحيلة أو الخضوع، فهو غير الانقياد للضلال إيثارا له، ومحبة للمضللين ...
فمن هنا كان حق العقل في مقاومته - بحكم الإسلام - كحقه في مقاومة سلطان العرف وسلطان الأحبار، ويزيد عليه أنه يلوم المسلم على الخضوع في مكانه إذا كان في وسعه أن يرحل منه إلى مكان بعيد من سلطانه ...
قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها [سورة النساء: 97].
ونحن مع العقل في الإسلام حين نذكر أن الإسلام يأمره باستقلال النظر في مواجهة السلف، ومواجهة الأحبار، ومواجهة الاستبداد، ثم يكون هو الدين الذي امتاز بين الأديان بوصاياه الكثيرة في توقير الآباء، والرجوع إلى أهل الذكر، وتمحيض الطاعة لولاة الأمور ...
فإذا أمر العقلاء فهكذا يؤمرون، وغير ذلك من الأوامر إنما يكون للآلات التي تعمل على وتيرة واحدة في أيدي من يحركونها ويديرونها، أو يكون للخلائق البكماء التي تقاد أو تساق، ولا رأي لها في مقادة أو مساق ...
إنما يكون أمر العقلاء أن يؤمروا بالتمييز بين مختلف الأحوال، فلا يقال لهم: إنكم ترفضون كل الرفض، أو تقبلون كل القبول، ولا فرق عندهم بين مرفوض ومرفوض، ولا بين مقبول ومقبول ...
عليكم أن تبروا بالآباء، ولكن البر معهم غير الضلال معهم على غير بصيرة، والعقلاء هم الذين يعرفون موضع هذا وموضع ذاك ...
وعليكم أن تسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون، ولكن أهل الذكر الذين لا ينتفعون بذكرهم لا ترجى منهم التذكرة لغيرهم، ومن لم يكن من أهل الذكر فليس بعسير عليه أن يكون من المميزين بين الصادقين منهم والمنافقين، وبين سيرة الرشد والاستقامة وسيرة الغواية والاعوجاج ...
وعليكم أن تطيعوا ولاة الأمر منكم، ولكن لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولا خير في فتنة يضرمها العصيان على غير بصيرة، ومن لم تكن له قدرة على الطاعة، ولم يكن في عصيانه أمان من الفتنة الطامة، فله في الهجرة متسع يأوي إليه ما استطاع ...
صفحة غير معروفة
وقوام الأمر كله، بل قوام جميع الأمور في جميع التكاليف أن النفس تحاسب على ما تستطيع، ولا تؤمر بغير ما تطيق، ومن وراء ذلك تبعة الأمة كلها حين تؤخذ الأمة بوزر الأمة، ولا ينفرد منها كل فرد بمصيره مع مصائر الأمم بحذافيرها، فلا مناص من هذه الوحدة في حساب الأمم، ولا خير للأفراد - مع تطاول الزمن - في عيشة يقف فيها خير الفرد وشره عند بابه، ولا يحسب فيها حساب شركائه في بيئته.
فلا تناقض بين أمر الفرد بالعقل واشتراكه في تبعة الأمر الذي يعم الجميع، ولا يخص أحدا من الآحاد، ولكن الأمم تخاطب بتحكيم العقل، كما يخاطب به أفرادها متفرقين، ولا تحاسب الأمم إلا على سنة الأمم في أطوار الاجتماع ...
وصفوة القول: إن الإسلام لا يعذر العقل الذي ينزل
3
عن حق الإنسان رهبة للقوة أو استسلاما للخديعة، ولا حدود لذلك إلا حدود الطاقة البشرية، ولكنها الطاقة البشرية عامة كما تقوم بها الأمم، ولا ينتهي أمرها بما يكون للفرد من طاقة لا تتعداه.
الفصل الثالث
المنطق
المنطق علم يجمع الأصول والقواعد التي يستعان بها على تصحيح النظر والتمييز، وحكم الإسلام فيه - بهذه المثابة - واضح لا يجوز فيه الخلاف؛ لأن القرآن الكريم صريح في مطالبة الإنسان بالنظر والتمييز، ومحاسبته على تعطيل عقله ، وضلال تفكيره ...
بيد أننا نحتاج إلى التفرقة بين شيئين مختلفين في هذا الموضوع قبل أن نعرض لفتاوى الفقهاء فيه بتحريم أو تحليل؛ وهما: المنطق والجدل أو الخطاب الإقناعي، فإنهما ليختلفان ويتباعدان حتى ينتهي الاختلاف والتباعد بهما إلى الطرفين النقيضين ...
فالمنطق بحث عن الحقيقة من طريق النظر المستقيم، والتمييز الصحيح، والجدل بحث عن الغلبة والإلزام بالحجة، قد يرمي إلى الكسب والدفاع عن مصلحة مطلوبة، وقد يتحرى مجرد المسابقة للفوز على الخصم وإفحامه في مجال المناقضة واللجاج.
صفحة غير معروفة