وموقف الإسلام من العلم - أو من العلوم عامة - يتبين من موقف علمائه المجتهدين في كل حقبة من تاريخه، الذي تعاقبت به الأجيال بين القوة والضعف، والتقدم والتأخر، والنشاط والجمود؛ فقد مرت بالأمم الإسلامية عصور متخلفة، جهلت فيها الإسلام نفسه، فجهلت فضل العلم كما جهلت فضل الدين.
ولكن الإسلام لم يخل قط تاريخه بين المشرق والمغرب من أئمة مجتهدين، استمدوا حرية الفكر من ينبوع تلك القوة الحيوية التي لا تستنزفها المحن والطوارق، فحفظوا رسالة هذا الدين - ولا فرق بينها وبين رسالة العلم في مقصد من مقاصده - وأوجبوا على المسلم أن يتعلم حيث وجد العلم، وأن ينظر إلى الحكمة كأنها هي ضالته يعنيه أن يبحث عنها ويجدها، «وأينما وجدها فهو أحق بها»، كما تعلم من رسول الله.
واعتقد الأئمة المجتهدون جميعا أنهم يؤدون أمانة الكتاب في حثهم جماعة المسلمين على طلب المعرفة حيثما وجدوها، فكل معرفة صحيحة فهي معرفة قرآنية إسلامية، على اختلافهم في تفسيرها والنسبة إلى الكتاب الكريم، بين فئة ترى أن المعرفة محتواة فيه إجمالا وتفصيلا، وفئة ترى أن المعرفة مطلب من مطالب المؤمن بالكتاب لا يعوقه عائق منه أن يتحراها ويحققها، ويهتدي بها حيثما أصابها ...
إن موقف الإسلام من العلم - كتابا وسنة - لا يحتاج إلى بيان بعد ما تقدمت الإشارة إليه من تلك الآيات والأحاديث ...
ولكننا نعتقد أن الدين روح ينبث في الأخلاق والتقاليد إلى جانب النصوص والأحكام، ومن هذا الروح يظهر عمل الدين في الواقع، ولا يحسب لدين من الأديان عمل نافع في حياة البشر ما لم يثبت له هذا العمل بين أتباعه، بما يوحيه إليهم من روح يصدرون عنه فيما تعمدوه ولم يتعمدوه من أفعال أو خلائق وآداب.
وروح الإسلام الذي بثه بين أتباعه يتراءى في تاريخه المتشعب الطويل سماحة تعصمهم من تلك النقمة التي انصبت على ألوف من الخلق؛ لاستباحتهم من المعارف والدراسات ما تحرمه عليهم معتقداتهم الدينية، أو كهانهم الذين يستأثرون دونهم بتفسير تلك المعتقدات، وربما كانت سماحة الروح الإسلامي في عصور الجمود والجهالة أدل على فضل الإسلام من سماحة أتباعه في عصور القوة والحضارة؛ لأن الدين الذي يعمل عمله في الأخلاق والآداب وقومه جامدون محجوبون عن العلم أقمن بالهداية من دين يعمل وله سند من القوة والحضارة، ولو كان هذا السند قائما عليه ...
وروح الإسلام في العصور الأخيرة ظاهر في موقف المسلمين من العلوم الحديثة كظهوره في موقف الأئمة المجتهدين، الذين حفزوا قواهم إلى الإقبال على تلك العلوم والتبسط فيها، واعتبار العمل بها أمرا من أوامر القرآن الكريم؛ فإن العلوم العصرية عرفت باسم العلوم الأوروبية يوم كانت أوروبا كلها حربا على العالم الإسلامي تغير على بلاده، وتستذل شعوبه، وتقوض ما قام فيهم من دولة وسلطان، وتعفي على البقية الباقية حيث تخلفت للدولة والسلطان بقية تمانع في التسليم والاستسلام.
فكان خليقا بهذا العداء أن يتمثل في نفوس المسلمين عداء لكل وارد من القارة الباغية، وكل منسوب إلى الأوروبيين المعتدين، ولكن علوم الحضارة الأوروبية لم تجد من المسلمين بعد المقاومة الطبيعية، التي تخلقها المفاجأة أو المصادمة الأولى، إلا كل ترحيب وتقدير، ولعلهم - بعد تلك المصادمة - كانوا بحاجة إلى التحذير من الإفراط، ولم يكونوا يوما بحاجة جدية إلى التحذير من الإعراض والانقباض والتفريط في تحصيل ما استطاعوه من معارف القوم، كأنها ضالة مرتقبة هم أحق بها ممن يعتدي بها عليهم، ويسومهم من أجلها التسليم والاستسلام.
والإفراط إنما يحذر من محاولة التوفيق بين القرآن الكريم وبين تلك العلوم في كل جليل ودقيق مما ثبت ثبوت اليقين، ومما يعرضه أصحابه عرضا يحتمل المراجعة، بل يحتمل النقض والإلغاء ...
فمن الحق أن نعلم أن كتابنا يأمرنا بالبحث والنظر والتعلم والإحاطة بكل معلوم يصدر عن العقول، ولكن ليس من الحق أن نزعم أن كل ما تستنبطه العقول مطابق للكتاب، مندرج في ألفاظه ومعانيه؛ فإن كثيرا من آراء العلماء التي يستنبطونها أول الأمر لا يعدو أن يحسب من النظريات التي يصح منها ما يصح، ويبطل منها ما يبطل، ولا تستغني على الدوام عن التعديل وإعادة النظر من حين إلى حين ...
صفحة غير معروفة