فإذا كانت هذه حال حججهم، فأي لغو باطل وحشو يكون أعظم من هذا؟!»
ثم استطرد من هذا قائلا ما فحواه: إن الخلاف يقل كلما قل المنطق، ويكثر ويشتد كلما كثرت مناقشاته، واشتدت منازعاته. وبالجملة فالثبات والاستقرار في أهل الحديث والسنة أضعاف أضعاف ما هو عند أهل الكلام والفلسفة؛ بل المتفلسف أعظم اضطرابا وحيرة في أمره من المتكلم؛ لأن عند المتكلم من الحق الذي تلقاه عن الأنبياء ما ليس عند المتفلسف؛ ولهذا تجد مثل أبي الحسن البصري وأمثاله أثبت من مثل ابن سينا وأمثاله.
وأيضا تجد أهل الفلسفة والكلام أعظم الناس افتراقا واختلافا، مع دعوى كل منهم أن الذي يقوله حق مقطوع به قام عليه البرهان، وأهل السنة والحديث أعظم الناس اتفاقا وائتلافا، وكل من كان من الطوائف إليهم أقرب؛ كان إلى الاتفاق والائتلاف أقرب.
فالمعتزلة أكثر اتفاقا وائتلافا من المتفلسفة؛ إذ للفلاسفة في الإلهيات والمعاد والنبوات؛ بل وفي الطبيعيات والرياضيات وصفات الأفلاك من الأقوال ما لا يحصيه إلا ذو الجلال. وقد ذكر في جميع مقالات الأوائل؛ مثل أبي الحسن الأشعري في كتاب المقالات، ومثل القاضي أبي بكر في كتاب الدقائق من مقالاتهم ما يذكره الفارابي وابن سينا وأمثالهما أضعافا مضاعفة ...
وأهل الإثبات من المتكلمين، مثل الكلابية والكرامية والأشعرية، أكثر اتفاقا وائتلافا من المعتزلة؛ فإن في المعتزلة من الاختلاف وتكفير بعضهم بعضا حتى ليكفر التلميذ أستاذه من جنس ما بين الخوارج. وقد ذكر من صنف في فضائح المعتزلة من ذلك ما يطول وصفه؛ فلست تجد اتفاقا وائتلافا إلا بسبب اتباع آثار الأنبياء من القرآن والحديث وما يتبع ذلك، ولا تجد افتراقا واختلافا إلا عند من ترك ذلك وقدم غيره عليه ...
وقد سلك ابن تيمية هذا المسلك في مواضع كثيرة من رسائله وكتبه التي أدارها على مناقضة الجدليين والمناطقة المتشبثين بالمصطلحات والتعريفات اللفظية، فلا يسع منصفا أن يظن به أنه يحرم الحجة والبرهان. وهذه حججه وبراهينه تعتمد على الدليل والقرينة والاستقراء والمشاهدة، وكل ما تنتظم به قضايا المنطق ودعاواه.
وغاية ما يقوله المنصف: إن التحريم عنده مقصود به اللغو والجدل والولع بالسفسطة على غير جدوى، وإنه تحكيم للعقل في المنطق إنقاذا له من تحكيم المنطق فيه، ولا يكون المنطق متحكما في العقل صارفا له عن النظر القويم إلا إذا غلبت فيه أشكال اللفظ والصيغة على حقائق المعنى وجواهره. فهو بهذه المثابة ربقة للعقول ينبغي للمفكرين أن يطلقوها من شباكها؛ ليستقيموا بها على سوائها ...
وما كان ابن تيمية بالذي يظن به أن يعادي المنطق لأنه يجهله ويستخف به مداراة لعجزه عنه؛ فإن معرفته به ظاهرة في معارض قوله كأنه من زمرة المتخصصين له، والمتفرغين لدراسته وحذق أساليبه، ومثل هذا لا يتصدى للمنطق إلا أن يكون فيه ما يخشى ضرره على الناس، ولا سيما المشتغلين به من غير أهله ...
ولقد تصدى للمناطقة الجدليين هذان الإمامان الجليلان - أبو حامد الغزالي وابن تيمية - وكلاهما يلقب بحجة الإسلام، ويدل تلقيبه بهذا اللقب على المكانة التي استحقاها بين المسلمين بالقدرة على الاحتجاج وإقامة الدليل؛ فليس من شأن علماء الإسلام ولا من شأن المسلمين الذين يجلونهم، ويقتدون بهم، ويستمعون إليهم، أن تسقط عندهم الحجة، ويبطل بينهم الإقناع، وما خسر من المنطق شيئا من خلصت له الحجة القائمة؛ فإن إقامة الحجة هي المنطق السليم في جوهره الصحيح منطلقا من عوائق الأشكال والعناوين ...
ولا يخفى أن للمسلمين عقيدة واحدة فيما يرجع إلى أوامر القرآن ونواهيه، وإلى الصريح من نصوص التحليل والتحريم فيه. فلا مذاهب هنا ولا شيع ولا تأويلات، ومتى صرح الكتاب المبين بوجوب التعويل على العقل، أو فوض للإنسان حق التعويل على عقله، فليس لمسلم أن ينازع في هذا الحق أو في ذلك الواجب، ولكن الإسلام - كما هو معلوم - قد دانت به شعوب متفرقة الأصول والأجناس واللغات، جاءته بتراث في عاداتها وأفكارها، فسرى هذا الاختلاف إلى تفسيراتها لبعض الآيات، وتأويلاتها لبعض الأقوال والعبارات.
صفحة غير معروفة