لقد آثر الإنسان - طوال الجزء الأكبر من تاريخه - ألا يواجه الواقع مواجهة مباشرة، وأن يستعيض عنه بأخيلته أو صوره الذاتية، وهذا أمر لا يصعب فهمه؛ إذ إن المواجهة المباشرة للواقع فيها صعوبة ومشقة، وتحتاج منه إلى بذل جهد كبير، وعليه أن يروض ذاته على اطراح ميولها الخاصة جانبا، وقبول الظواهر على ما هي عليه، ثم استخلاص القانون الكامن من وراء هذه الظواهر، وهو أمر يقتضي مستوى عاليا من التجريد. وهكذا يمكن القول: إن اتجاه الإنسان نحو العلم ينطوي على قدر كبير من التضحية؛ التضحية بالراحة والهدوء والاستسلام للخيال السهل الطليق، كما ينطوي على عادات عقلية فيها قدر كبير من الصرامة والقسوة على النفس. ولقد قال البعض: إن العلم لم يبدأ إلا مع «الرياضة»، وأحسب أن هذه العبارة تغدو أبلغ وأدق في التعبير عن البداية الحقيقية للحلم لو فهمنا لفظ «الرياضة» هذا، لا بمعنى أنه علم الأرقام والكم فحسب، بل أيضا بالمعنى النفسي والأخلاقي؛ أي بمعنى رياضة «الروح أو النفس» على اتباع نهج شاق من أجل فهم الظواهر بالعقل والمنطق الدقيق.
وبعبارة أخرى فإن العلم يظهر منذ اللحظة التي يقرر فيها الإنسان أن يفهم العالم كما هو موجود بالفعل، لا كما يتمنى أن يكون، ومثل هذا القرار ليس عقليا فحسب، بل هو بالإضافة إلى ذلك - وربما «قبل» ذلك - قرار معنوي وأخلاقي، ولا بد للعقل البشري أن يكون قد تجاوز مرحلة الطفولة - التي نصور فيها كل شيء وفقا لأمانينا - إلى مرحلة النضج التي تتيح لنا أن نعلو على الخلط بين الواقع والحلم أو الأمنية، وهذا مستوى لا يصل إليه الإنسان إلا في مرحلة متأخرة من تطوره.
أما قبل هذه المرحلة فكان من الطبيعي أن يستعيض الإنسان عن العلم بالحلم، دون أن يدري أنه يحلم. وكان من الطبيعي أن تظل البشرية كلها - طوال ألوف عديدة من السنين وفي جميع أرجاء الأرض بلا استثناء - مبتعدة عن رؤية الواقع وفهمه على ما هو عليه. وخلال هذه الفترة «الحالمة» كان الأدب والفن هما المظهر الرئيسي لنشاط الإنسان الروحي. وفي الآداب والفنون يهتم الإنسان بمشاعره الذاتية أكثر مما يهتم بالعالم المحيط به، وإذا اتجه إلى هذا العالم الخارجي فإنما يتجه إليه من خلال أحاسيسه الخاصة وميوله الذاتية، فلا يرى إلا مرآة تنعكس عليها انفعالاته وعواطفه.
بل إننا نستطيع أن نقول إن الفلسفة ذاتها - حين سارت في طريقها الخاص بوصفها نشاطا عقليا خالصا عند اليونانيين - كانت تهتم باتساق بنائها الداخلي، وبتماسك التركيب العقلي الذي يكونه الفيلسوف أكثر مما تهتم بالعالم الواقعي، وهذه سمة يمكن استنتاجها بوضوح مما عرضناه من قبل عن الصفات المميزة للعلم النظري (المختلط بالفلسفة) عند اليونانيين، وحين كانت الفلسفة تتحدث عن عالم الواقع كانت في معظم الأحيان تصفه بأنه خداع، بل تعد الحواس خداعة؛ لأنها تختص بإدراك عالم مادي من طبيعته ألا يكون موضوعا لمعرفة صحيحة.
وهكذا ظل الإنسان طويلا يستعيض عن العلم بخيالاته وانفعالاته وحدسه وأفكاره المجردة، ولم يصطنع منهجا يتيح له الاتصال المباشر بالواقع عن طريق الجمع بين العقل والتجربة إلا في مرحلة متأخرة من تاريخه، فلا بد إذن أن عقبات أساسية حالت دون تحقيق هذا الاتصال المباشر بين الإنسان والعالم عن طريق العلم، ولا بد أن الإنسان قد بذل جهودا كبيرة حتى استطاع أن يسيطر على عقله؛ ومن ثم يسيطر على العالم، ولا بد أن تاريخ النشاط الروحي والعقلي للإنسان كان تاريخا للأخطاء والأوهام التي تغلب عليها الإنسان بمشقة بقدر ما كان تاريخا لحقائق اكتسبت بالتدريج، فما هي هذه العقبات التي أخرت ظهور العلم، والتي لا تزال تشوه صورة المعرفة العلمية حتى يومنا هذا عند فئات كثيرة من البشر؟ (1) الأسطورة والخرافة
ظلت الأسطورة تحتل المكان الذي يشغله العلم الآن طوال الجزء الأكبر من تاريخ البشرية.
وترجع أسباب انتشار الفكر الأسطوري إلى أنه كان يقدم - في إطار بدائي - تفسيرا متكاملا للعالم؛ فالأساطير القديمة تعبر عن نظرة الشعوب التي اعتنقتها إلى الحياة والطبيعة والعالم، وتقدم تفسيرا يتلاءم مع مستوى هذه الشعوب ويرضيها إرضاء تاما، وهي - فضلا عن ذلك - تجمع بين الطبيعة والإنسان في وحدة واحدة، يزول فيها الحد الفاصل بين هذا وذاك، بحيث يبدو العالم متلائما مع غايات الإنسان محققا لأمانيه، وهي - كما قلنا منذ قليل - سمة رئيسية من سمات الفكر غير الناضج في عصور طفولة البشرية.
ومن الصعب أن يضع المرء حدا فاصلا دقيقا بين الأسطورة والخرافة، ولكن لو شئنا الدقة لقلنا: إن التفكير الأسطوري هو تفكير العصور التي لم يكن العلم قد ظهر فيها بعد، أو لم يكن قد انتشر إلى الحد الذي يجعل منه قوة مؤثرة في الحياة وفي طريقة معرفة الإنسان للعالم؛ فالأسطورة - كما قلنا - كانت تقوم بوظيفة مماثلة لتلك التي أصبح يقوم بها العلم بعد ذلك، وكانت هي الوسيلة الطبيعية لتفسير الظواهر في العصر السابق على ظهور العلم، أما التفكير الخرافي فهو التفكير الذي يقوم على إنكار العلم ورفض مناهجه، أو يلجأ - في عصر العلم - إلى أساليب سابقة على هذا العصر، وقد لا يكون هذا التحديد للفارق بين لفظي: «الأسطوري» و«الخرافي» دقيقا كل الدقة، ولكنه يفيد على أية حال في التمييز بين هذين اللفظين اللذين يختلطان - في كثير من الأحيان - في أذهان الناس. ونستطيع أن نضيف إلى ذلك فارقا آخر، هو أن الأسطورة غالبا ما تكون تفسيرا «متكاملا» للعالم أو لمجموعة من ظواهره، على حين أن الخرافة «جزئية» تتعلق بظاهرة أو حادثة واحدة. ففي العصور البدائية والقديمة كانت الأسطورة تمثل نظاما كاملا في النظر إلى العالم والإنسان، وكان هذا النظام يتسم - في كثير من الأحيان - بالاتساق والتماسك الداخلي، أما الخرافات فتتعلق بالتفاصيل، وهي قد تكون متعارضة أو متناقضة فيما بينها؛ لأن أحدا لا يحاول أن يوفق بين الخرافات المختلفة ويكون منها نظاما أو نسقا مترابطا، ومع ذلك فمن الواجب أن نعترف بأن اللفظين يستخدمان في أحيان كثيرة بمعنى واحد أو بمعنيين متقاربين، وإن كانت الدقة العلمية توجب التمييز بينهما.
وأهم مبدأ ترتكز عليه الأسطورة هو المبدأ الذي يعرف باسم «حيوية الطبيعة»
Animism ، والمقصود بهذا المبدأ هو أن التفكير الأسطوري يقوم أساسا على صبغ الظواهر الطبيعية غير الحية بصبغة الحياة؛ بحيث تسلك هذه الظواهر كما لو كانت كائنات حية تحس وتنفعل وتتعاطف أو تتنافر مع الإنسان. ولو فكرنا مليا في أية أسطورة فسوف نجدها تعتمد على هذا المبدأ اعتمادا أساسيا؛ فأسطورة إيزيس وأوزوريس - التي كان المصريون القدماء يفسرون بها فيضان النيل - هي إضفاء لطابع الحياة ولانفعالات الأحياء على ظاهرة طبيعية هي الفيضان، وأسطورة خلق العالم على يد سلسلة الآلهة التي تبدأ من زيوس - عند اليونانيين - تقوم على هذا المبدأ نفسه؛ إذ يكون لكل جزء من الطبيعة إله خاص به، ويسلك هذا الإله سلوكا مشابها لسلوك البشر، وقل مثل هذا عن أية أسطورة عند أي شعب قديم أو بدائي.
صفحة غير معروفة