ومن هنا كان التجريد صفة ملازمة للعلم: سواء تم ذلك التجريد عن طريق الرياضة (وهو الأغلب) أو عن طريق أي نوع آخر من الرموز أو الأشكال، فحين يتحدث عالم الفلك مثلا عن المدار البيضاوي لكوكب معين، لا يعني بذلك أن هذا الكوكب يرسم وراءه مدارا محددا في السماء، وإنما يعني ذلك الخط الذي نتصور - بناء على تتبع حركة الكواكب - أنه يسير فيه. وحين يتحدث عالم الجغرافيا عن خط الاستواء أو خط جرينتش لا يقصد خطا عرضيا أو طوليا مرسوما على صفحة الكرة الأرضية، بل يقصد خطا تخيليا نرمز به إلى الأماكن والمواقع على سطح هذه الأرض، وهذه الخطوط ومعها مختلف الرموز التي نستخدمها في العلم هي عالم مصطنع يخلقه العالم، ولا وجود له في الطبيعة، بل إن وجوده ذهني فحسب.
هذا العالم المصطنع الذي نستحدثه في أبحاثنا العلمية وتلك التجريدات العقلية التي نفهم من خلالها الظواهر الطبيعية، تباعد بيننا وبين عالم التجربة اليومية بالتدريج، ولو تتبعنا مسار العلم لوجدنا أن نصيب هذه التجربة المألوفة يتضاءل فيه على الدوام، على حين يزداد العلم إيغالا في عالم الرموز والتجريدات الذي خلقه بنفسه، ويصبح القدر الأكبر من التعامل الذي يقوم به العالم هو تعامله مع تلك الكيانات الفعلية التي استحدثها لكي يفهم بواسطتها الظواهر. ومن هنا كان ذلك الاتهام الذي وجهه البعض إلى العلم بأنه يفصلنا عن منابع الحياة العينية الملموسة، ويقيم عالما مصطنعا أشبه بالهيكل العظمي الذي خلا من اللحم والدم والحيوية، ويكتفي بالعلاقات المجردة بين الظواهر، وهي دائما علاقات خارجية لا تنفذ أبدا إلى صميم الواقع، ولسنا في حاجة إلى مناقشة هذا الاتهام ما دمنا قد رددنا عليه في موضع آخر،
3
ولكن الأمر الذي نود أن نوجه إليه نظر القارئ هو أن تطور العلم نحو التجريد كان أمرا تحتمه مصلحة العلم ذاته، وبالتالي يحتمه تقدم المعرفة وتقدم الإنسان؛ فاستخدام الرموز الرياضية ولغة الكم يساعد - كما قلنا - على التعبير عن حقائق العلم بمزيد من الدقة؛ إذ إن الفرق هائل - من حيث الدقة - بين قولنا: إن الحديد ساخن كما - كان يقول القدماء بمن فيهم من العلماء حتى أوائل العصر الحديث - وبين قولنا: إن درجة حرارة الحديد 350 درجة مئوية مثلا. وفضلا عن ذلك فإن هذا التحديد الكمي يسمح بالمقارنة بين الظواهر؛ إذ تتحول الألوان مثلا من صفات كيفية إلى أرقام تعبر عن موجات ضوئية معينة، فيسهل المقارنة بينها، على حين أن النظرية الكيفية تقيم بين كل لون وآخر حواجز لا يمكن عبورها، وأخيرا فإن التعبير الكمي يتيح لنا أن نتخطى النطاق المحدد للحواس البشرية أو لقدراتنا بوجه عام. فهناك أصوات أعلى وأصوات أكثر انخفاضا مما تستطيع الأذن البشرية سماعه، وهذه الأصوات يمكن تحديد ذبذباتها كميا، وإن لم يكن من الممكن التعبير عنها باللغة الكيفية المألوفة، كذلك فإن درجات الحرارة التي يتسنى لنا تحملها هي درجات محدودة، وإذا ارتفعت الحرارة عن درجة معينة (ولتكن 50 مئوية مثلا) قلنا عن الجسم: إنه ساخن، ولأننا لا نستطيع أن نلمسه فإن الساخن بدرجة 60 لا يختلف - في ضوء النظرة الكيفية - عن الساخن بدرجة 600، ولكن التحديد الكمي والرياضي هو الذي يمكنا - مع الاستعانة بأجهزة القياس المرتبطة به - من تحديد الدرجات التي تعجز الحواس البشرية عن التعبير عنها، كما يعبر عن الفوارق الجزئية الضئيلة التي لا تستطيع حواسنا العادية تمييزها.
ولنذكر أخيرا - في صدد صفة التجريد هذه - أن هذه الصفة - التي يبدو أنها تباعد بين العلم وبين الحي الملموس - هي التي تكسب الإنسان مزيدا من السيطرة على هذا الواقع، وتتيح له فهما أفضل لقوانينه؛ فالعلم المعاصر الذي تبدو كتبه وأبحاثه كما لو كانت تعيش متقوقعة في عالمها الخاص المليء بالرموز والمعادلات والأشكال الهندسية. هذا العلم هو الذي يتمكن - عن طريق هذه الرموز المجردة ذاتها - من أن يقدم إلينا في كل يوم كشفا واختراعا جديدا يجعلنا نسيطر على نحو أفضل على ظروف معيشتنا، ويرفع مستوى حياتنا اليومية ذاتها بلا انقطاع، وتلك هي الصفة الفريدة حقا في العلم؛ أن طريقته في السيطرة على العالم الملموس والتغلغل فيه هي أن يبتعد عنه ويجرده من صفاته العينية المألوفة.
الفصل الثاني
عقبات في طريق التفكير العلمي
العلم ظاهرة متأخرة في تاريخ البشرية، وسواء أكنا من القائلين بأن العلم - بمعناه الصحيح - ظهر منذ أربعة قرون في عصر النهضة الأوروبية، أو بأنه يرجع إلى العصر اليوناني القديم حين اهتدى الإنسان - لأول مرة - إلى منهج البرهان النظري والمنطقي على قضاياه، أو حتى إلى الحضارات الشرقية الأقدم عهدا التي تركت لنا تراثا يدل على وجود معارف متراكمة لديها تستحق اسم العلم. أقول: إننا سواء أكنا من القائلين بهذا الرأي أو ذاك، فلا بد لنا من الاعتراف بأن البشرية عاشت قبل ذلك عشرات الألوف من السنين دون أن يتكشف نشاطها عن تلك الظاهرة التي نطلق عليها اسم العلم، ولو كنا ممن يتقيدون بالمعنى الدقيق لكلمة العلم، ويشترطون لكي تكون المعرفة علما أن تكون قد اكتسبت مناهج منضبطة تجمع بين الملاحظة الدقيقة والفرض العقلي والتجريب التطبيقي، وتصطنع الرياضة لغة للتعبير عن قوانينها؛ لوجب علينا عندئذ أن نشبه البشرية بإنسان عاش سبعين سنة من عمره أميا، ولم يتعلم القراءة والكتابة إلا في اليومين الأخيرين من حياته!
بل إننا نستطيع أن نقول إن البشرية - منظورا إليها ككل - ما زالت بعيدة عن اكتساب جميع سمات التفكير العلمي، وما زال هذا التفكير يقتصر فيها على مجتمعات معينة، وحتى في هذه المجتمعات يتعرض العلم لتشويهات عديدة قد تظهر حتى بين المتخصصين فيه.
فهل يعني ذلك أن العقل الإنساني ظل خلال هذا التاريخ الطويل خاملا؟ من المؤكد أن الوعي والتفكير العقلي والنشاط الروحي لم تتوقف لحظة واحدة طوال تاريخ الإنسان، بل إنها تكاد تكون مرادفة لهذا التاريخ؛ فمنذ أبعد العصور أنتج الإنسان فنونا كان بعضها رفيعا، كما أنتج أشعارا وحكما، وعرف العقائد والشرائع وكون لنفسه نظما اجتماعية وأخلاقية، أي إن عقله يعمل بلا انقطاع، فلماذا إذن لم ينتج العلم إلا في وقت متأخر؟
صفحة غير معروفة