بدون الصحة الكاملة وما تحفظ به وهذان القسمان لم نتعرض لذكرهما أصالة إذ لا ضرورة بنا إليه كما عرفت (الثالث) أن يستغنى العلم في نفسه عن الطب ويحتاج الطب إليه كالتشريح إذ لا غنية للطبيب عنه ، أما التشريح فلا حاجة به إلى الطب (الرابع) أن يحتاج كل منهما إلى الآخر كعلم العوم فإن الطبيب يحتاج إليه لما فيه من الرياضة المخرجة للفضلات المحترقة التي قد يضرها باقي أنواع الرياضة، وسنفصل أكثر هذين القسمين في مواضعه كما وعدنا إن شاء الله تعالى.
واعلم أنا لا نريد بالحاجة هنا إلا ما توقف العلم أو كاد أن يتوقف عليه وإلا فمتى أطلقنا فليس لنا علم يستغنى عن الطب أصلا لان اكتساب العلوم لا يتم إلا بسلامة البدن والحواس والعقل والنفس المدركة وهذه لما كانت في معرض الفساد لعدم بقاء المركب على حالة واحدة حال امتداده بالمختلفات المتعذر وزنها في كل وقت فلابد لها من قانون تحفظ به صحتها الدائمة وتسترد إذا زالت وهو الطب، ومن هنا ظهر أنه أشرف العلوم لان موضوعه البدن الذي هو أشرف الموجودات إذ العلوم لا تشرف إلا بمسيس الحاجة أو شرف الموضوع فما ظنك باجتماعهما ومن هنا قال إمامنا رضي الله عنه : العلم علمان علم الأبدان وعلم الأديان وعلم الأبدان مقدم على علم الأديان كذا نقله عنه في شرح المهذب، وظنه بعضهم حديثا.
(فصل) ينبغي لهذه الصناعة الاجلال والتعظيم والخضوع لمتعاطيها لينصح في بذلها وكشف دقائقها فقد اشتملت معانيها على معان لم توجد في علم غير هذا العلم من ممرض ومصحح ومفسد ومصلح ومفزع ومفرح ومقو ومضعف ومميت ومحى بإذن مودعه تقدس وتعالى، وينبغي تنزيهه عن الأراذل والضن به على ساقطي الهمة لئلا تدركهم الرذالة عند الدعوة إلى واقع في التلف فيمتنعون أو فقير عاجز فيكلفونه ما ليس في قدرته قال هرمس الثاني وهذا العلم خاص بآل أسقلميوس عليهم السلام لشرفهم فيكافؤنه، واعتذر الفاضل أبقراط في إخراجه عنهم إلى الاغراب بخوف الانقراض فكان يأخذ العهد على متعاطيه فيقول له برئت من قابض أنفس الحكماء وفياض عقول العقلاء ورافع أوج السماء، مزكى النفوس الكلية وفاطر الحركات العلوية إن خبأت نصحا أو بذلت ضرا أو كلفت بشرا أو تدلست بما يغم النفوس وقعه أو قدمت ما يقل عمله؟؟ عرفت ما يعظم نفعه، وعليك بحسن الخلق بحيث تسع الناس ولا تعظم مرضا عند صاحبه ولا تسر إلى أحد عند مريض ولا تجس نبضا وأنت معبس ولا تخبر بمكروه ولا تطالب بأجر وقدم نفع الناس على نفعك واستفرغ لمن ألقى إليك زمامه ما في وسعك فان ضيعته فأنت ضائع وكل منكما مشتر وبائع والله الشاهد على وعليك في المحسوس والمعقول والناظر إلى وإليك والسامع لما نقول فمن نكث عهده فقد استهدف لقضائه إلا أن يخرج عن أرضه وسمائه وذلك من أمحل المحال فليسلك المؤمن سنن الاعتدال وقد كانت اليونان تتخذ هذا العهد درسا والحكماء مطلقا تجعله مصحفا إلى أن فسد الزمان وكثر الغدر وقل الأمان واختلط الرفيع بالوضيع (فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) وقال بعض شراح هذا العهد إنه قال فيه ويجب اختيار الطبيب حسن الهيئة كامل الخلقة صحيح البنية نظيف الثياب طيب الرائحة يسر من نظر إليه وتقبل النفس على تناول الدواء من يديه وأن يتقن بقلبه العلوم التي تتوقف الإصابة في العلاج عليها وأن يكون متينا في دينه متمسكا بشريعته دائرا معها حيث دارت واقفا عند حدود الله تعالى ورسوله، نسبته إلى الناس بالسواخلى القلب من الهوى لا يقبل الارتشاء، ولا يفعل حيث يشأ، ليؤمن معه الخطا وتستريح إليه النفوس من العنا. قال جالينوس وهذه الزيادة منه بلا شك ولا ريبة فمن اتصف بهذه الأوصاف
صفحة ٨