تذكرة أولى الألباب و الجامع للعجب العجاب تأليف داود بن عمر الأنطاكي 1008 ه.
ويليها: ذيل التذكرة لاحد تلاميذ المؤلف وبالهامش النزهة المبهجة، في تشحيذ الأذهان وتعديل الأمزجة، للمؤلف الجزء الأول المكتبة الثقافية بيروت - لبنان
صفحة ١
يؤتى الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا (قرآن كريم) بسم الله الرحمن الرحيم سبحانك يا مبدع مواد الكائنات بلا مثال سبق، ومخترع صور الموجودات في أكمل نظام ونسق ومنوع أجناس المزاج الثاني نتائج الأوائل، ومقسم فصوله المميزة على حسب الفواعل والقوابل، ومزين جواهره بالاعراض والمجموع بالخواص، وملهم استخراجها بالتجارب والقياس من اخترت من الخواص، فكان ارتباطها بالمؤثرات على وحدانيتك أعدل شاهد، وتطابق كلياتها وجزئياتها على علمك بالكليات والجزئيات ولو زمانية أصح راد على الجاحد، تقدست حكيما علم غاية التركيب فعدله، وواحدا علم أن لا قوام بدون الاستعداد فأتقنه وأصله، فتثليث المئات وتسديس العشرات شاهد بالاتقان، وتنصيف ذلك وتربيعه، وتتسيعه وتسبيعه، وتثليثه وتسديسه، وواحده وتخميسه، ونسبه الصحيحة إلى كل ذرة في العالمين، وتوقيعه في كل تقسيم من الجهتين من أعظم الأدلة على احتياج ما سواك لفضلك، وقصور العقول وإن ذقت عن تصور ساذج لمثلك، فلك الحمد على جوهر نفيس خلص من رين العناصر الظلمانية، بالسبك في فيوض الاجرام النورانية، وعقل تيقن حين شاهد ما أودعت في الحوادث، تنزهك عن الشريك والثالث، وحكم أفضتها على ما تكاثر مزجا فاعتدل، واستخرج بها ما دق في الثلاثة من سر الأربعة على تكثرها وجل، وأجل صلاة تزيد على حركات المخيط وموجات المحيط زيادة تجل عن الاحصاء وتدق عن الاستقصاء على من اخترت من النفوس القدسية لقوام الأدوار في كل زمان، والارشاد إلى منهاج الحق وقانون الصدق في كل عصر وأوان، خصوصا على منتهى النظام وخاتمة الارتباط وانحلال القوام، شفاء النفوس من الداء العضال وكاشف ظلم الطغيان والضلال، صاحب البداية والنهاية والغاية في كل مطلب وكفاية، وعلى القائمين بإيضاح طرقه وسننه وتحرير قواعد شرعه وسننه ما تعاقبت الأسباب والعلل، واحتاجت الأجسام إلى الصحة عند تطرق الخلل.
وبعد، فتفاضل أفراد النوع الإنساني بعضها بعضا أظهر من أن يحتاج إلى دليل وارتقاؤها بالفضل وتكميل القاصرين ولو بالسعي والاجتهاد، وإن لم تساعد الاقدار غنى عن التعليل وأن ذلك ليس إلا بقدر تحصيلها من العلوم التي بها يظهر تفاوت الهمم، وينكشف للمتأمل ترافع القيم.
ولما كان العمر أقصر من أن يحيط بكلها جملة وتفصيلا، ويستقصى أصلها عدا وتحصيلا، وجبت المنافسة منها في الأنفس الموصل للنوع الأوسط إلى النظام الأقدس، ولا مرية أن المذكور ما كثر الاحتياج إليه وعم الانتفاع به وتوقفت صحة كل شخص عليه، وغير خفى على ذي العقل السليم والطبع القويم أن ذلك محصور في متعلق الأبدان والأديان. ولما كان الثاني مشيد الأركان في كل أوان وثابت البنيان بحمد الله وتوفيقه في كل زمان. والأول مما قد نبذ ظهريا وجعل نسيا منسيا
صفحة ٢
وتوازعه الجهلاء، فتماروا بنقله وانتسب إليه من ليس من أهله، فترتب على ذلك من الفساد ما أقله قتل العلماء القائمين بالسداد، وكنت ممن أنفق في تحصيله برهة من نفيس العمر الفاضل خالية من العوارض والشواغل، فأتى البيت من بابه وتسنم من هذا الشأن أعلى هضابه، فقرر قواعده ورد شوارده وأوضح دقائق مشكلاته وكشف للمتبصرين وجوه معضلاته، وألف فيه كتبا مطولة، تحيط بغالب أصوله ومتوسطة تتضمن غالب تعليله، ومختصرة لتحفظ، ونظما يحيط بالغميض: كمختصر القانون وبغية المحتاج وقواعد المشكلات ولطائف المنهاج واستقصاء العلل وشافى الأمراض والعلل، لا سيما الشرح الذي وضعته على نظم القانون، فقد تكفل بجل هذه الفنون، واستقصى المباحث الدقيقة وأحاط بالفروع الأنيقة، لم يحتج مالكه إلى كتاب سواه ولم يفتقر معه إلى سفر مطالعه إذا أمعن النظر فيما حواه حتى عن لي أن لا أكتب بعده في هذا الفن مسطورا ولا أدون دفترا ولا منشورا إلى أن انبلج صدري لكتاب غريب مرتب على نمط عجيب لم يسبق إلى مثاله ولم ينسج ناسج على منواله، ينتفع به العالم والجاهل، ويستفيد منه الغبي والفاضل قد عرى عن الغوامض الخفية وأحاط بالعجائب السنية وتزين بالجواهر البهية وجمع كل شاردة وقيد كل آبدة وانفرد بغرابة الترتيب ومحاسن التنقيح والتهذيب، لم يكلفني أحد سوى القريحة بجمعه، فهو إن شاء الله خالص لوجهه الكريم مدخر عنده جزيل نفعه، بالغت فيه بالاستقصاء واجتهدت في الجمع والاحصاء، راجيا بذلك إن وفق الله لميل القلوب إليه نصح كل واقف عليه.
بيد أنى لما شاهدت من فساد المتلبسين بالاخوان اللابسين على قلوب الأسود شعار الرهبان كتمته في سويداء القلب وسواد الأحداق، متطلبا مع ذلك إيداعه عند متصف بالاستحقاق لانى جازم باغتيال الزمان وطروق الحدثان وذهول الأذهان والله المسؤول في وضعه حيث شاء ومعاملتي فيه بمقصدي بما يشاء إنه خير من وفق للصواب وأكرم من دعى فأجاب.
ولما انتسق على هذا المنط وانتظم في هذا السلك البديع وانخرط، سميته:
بتذكرة أولى الألباب، والجامع للعجب العجاب ورتبته حسبما تخيلته الواهمة على مقدمة، وأربعة أبواب، وخاتمة.
(أما المقدمة) ففي تعداد العلوم المذكورة في هذا الكتاب، وحال الطب معها، ومكانته وما ينبغي له ولمتعاطيه، وما يتعلق بذلك من الفوائد.
(والباب الأول) في كليات هذا العلم والمدخل إليه.
(والباب الثاني) في قوانين الافراد والتركيب وأعماله العامة وما ينبغي أن يكون عليه من الخدمة في نحو السحق والقلى والغلى (1) والجمع والافراد والمراتب والدرج وأوصاف المقطع والملين والمفتح إلى غير ذلك:
(والباب الثالث) في المفردات والمركبات وما يتعلق بها من اسم وماهية ومرتبة ونفع وضرر وقدر وبدل وإصلاح مرتبا على حروف المعجم.
(والباب الرابع) في الأمراض وما يخصها من العلاج وبسط العلوم المذكورة وما يخص العلم من النفع وما يناسبه من الأمزجة وماله من المدخل في العلاج.
(والخاتمة) في نكت وغرائب ولطائف وعجائب.
وأرجو إن تم أن يأمن من أن يشفع بمثله فالله تعالى يعصمني من الموانع عن تحريره وينفعني بفعله.
صفحة ٣
المقدمة بحسب ما أسلفناه وفيها فصول فصل: في تعداد العلوم وغايتها وحال هذا العلم معها العلوم من حيث هي كمال نفسي في القوة العاقلة يكون به محله عالما، وغايتها التمييز عن المشاركات في النوع والجنس بالسعادة الأبدية ولا شبهة أن بالعقلاء حاجة إلى طلب المراتب الموجبة للكمال وكل مطلوب له مادة وصورة وغاية وفاعل. فالأول بحسب المطلوبات. والثاني كذلك ولكنه متفاوت في الفائدة. والثالث نفس المطلوب. والرابع الطالب. وعار على من وهب النطق المميز للغايات أن يطلب رتبة دون الرتبة القصوى فما ظنك بالتارك أصلا وليس الطالب مكلفا بالحصول إذ ذاك مخصوصا بأمر فياض القوى بل بالاستحصال، ومما يحرك الهمم الصادقة رؤية ارتفاع بعض الحيوانات على بعض عندما يحسن صناعة واحدة كالجري في الخيل والصيد في الباز وليست محل الكمال لنقصها مثل النطق فكيف بمن أعطيه ويزيد الهمم الصادقة تحريكا إلى طلب المعالي معرفة شرف العلوم في أنفسها وتوقف النظام البدني في المعاش على بعضها كالطب والمآلي على بعض كالزهد وهما على آخر كالفقه واتصاف واجب الوجود به إنه هو السميع العليم، وإسناد الخشية بأداة الحصر إلى المتصفين به في قوله تعالى (إنما يخشى الله من عباده العلماء) وإسناد التعقل والتفكر فيما يقود النفس من القواهر والبواهر إلى إعطاء الطاعة باريها عند قيام الأدلة بقوله تعالى (وما يعقلها إلا العالمون) ونص صاحب الأدوار ومالك أزمة الوجود قبل إيجاد الآثار على شرفه بقوله عليه الصلاة والسلام (طلب العلم فريضة على كل مسلم) على أنه فرض على كل فرد من النوع وإنما ذكر المسلم بيانا لمزيد اهتمامه بتشريف من اتصف بهذا الدين الذي هو أقوم الأديان، وقول علي رضي الله عنه بأن العلم أشرف من المال لأنه يحرس صاحبه ويزكو بالانفاق وأنه حاكم وأهله أحياء ما دام الدهر وإن فقدت أعيانهم والمال بعكس ذلك كله. وقول أفلاطون: اطلب العلم تعظمك الخاصة والمال تعظمك العامة والزهد يعظمك الفريقان، كفى بالعلم شرفا أن كلا يدعيه وبالجهل ضعة أن كلا يتبرأ منه والانسان إنسان بالقوة إذا لم يعلم ولم يجهل جهلا مركبا فإذا علم كان إنسانا بالفعل أو جهل جهلا مركبا كان حيوانا بل أسوأ منه لفقدان آلة التخييل. وقال المعلم: الجهل والشهوة من صفات الأجسام والعلم والعفة من صفات الملائكة والحالة الوسطى من صفات الانسان وهو ذو جهتين إذا غلب عليه الأولان رد إلى سلك البهائم أو ضدهما التحق بالملائكة وهؤلاء أهل النفوس القدسية من الأصفياء الذين أغناهم الفيض عن تعلم المبادئ وإذا اعتدلت فيه الحالات فهو الانسان المطلق الذي أعطى كل جزء حظه من الجسماني والروحاني فهذه بلالة من بحر وذبالة من أنوار في شأن العلم (ورتبته) من كلام أهل الاعتماد والنظام الذين لا يرتاب في أنهم أقطاب مداراته وشموس مطالع صفاته. ثم من كرامات العلم معرفة موضوعه ومبادئه ومسائله وغايته وصونه عن الآفات كعدم العلم برتبته وفائدته، فلا يعتقد أن علم الفقه فوق كل العلوم شرفا إذ علم التوحيد أشرف إلا أن علم الأخلاق هو المنفرد بحفظ النظام دائما بل إلى ورود شرعنا فقد كفى عنه وتضمنته مطاويه ولا أن علم الطب كفيل بسائر الأمراض لان فيها ما لا يمكن برؤه كاستحكام الجذام، فلا تمنعه مستحقا لما فيه من إضاعته ولا تمنحه جاهلا بقدره لما فيه من إهانته ولا تستنكف عن طلبه من وضيع في نفسه لقوله عليه الصلاة والسلام (الحكمة ضالة المؤمن يطلبها ولو في أهل الشرك) ولا تخرجه عن قدره بأن تبذله لوضيع كما وقع في الطب فإنه كان من علوم الملوك يتوارث فيهم ولم يخرج عنهم خوفا على مرتبته فان موضوعه البنية الانسانية؟ التي هي أشرف الموجودات الممكنة وفيه ما يهدمها كالسم وما يفسد
صفحة ٤
بعض أجزائها كالمعميات والمصمات فإذا لم يكن العارف به أمينا متصفا بالنواميس الإلهية حاكما على عقله قاهرا لشهوات نفسه أنفذ أغراض هواه وبلغ من عدوه مناه، ومتى كان عاقلا دله ذلك على أن الانتصار للنفس من الشهوات البهيمية والصبر والتفويض للمبدع الأول من الأخلاق الحكمية النبوية حتى جاء أبقراط فبذله للأغراب فحين خرج عن آل اسقلميوس توسع فيه الناس حتى تعاطاه أراذل العالم كجهلة اليهود فرذل بهم ولم يشرفوا به، وهذا لعمري قول الحكيم الفاضل أفلاطون حيث قال:
الفضائل تستحيل في النفوس الرذلة رذائل كما يستحيل الغذاء الصالح في البدن الفاسد إلى الفساد، هذا على أنه قد يكون لباذل العلم مقصد حسن فلم يؤاخذه الله بما امتهنه بناء على قول صاحب الوجود عليه أفضل الصلاة والسلام (إنما الأعمال بالنيات) فقد نقل إلينا أن أبقراط عوتب في بذله الطب للأغراب، فقال رأيت حاجة الناس إليه عامة، والنظام متوقف عليه، وخشيت انقراض آل اسقلميوس ففعلت ما فعلت، ولعمرى قد وقع لنا مثل هذا فانى حين دخلت مصر ورأيت الفقيه الذي هو مرجع الأمور الدينية يمشى إلى أوضع يهودي للتطبب به فعزمت على أن أجعله كسائر العلوم يدرس ليستفيده المسلمون فكان في ذلك وبالى ونكد نفسي وعدم راحتي من سفهاء لازموني قليلا ثم تعاطوا التطبب فضروا الناس في أبدانهم وأموالهم وأنكروا الانتفاع بي وأفحشوا في أفاعيلي أسأل الله مقابلتهم عليها، على أنى لا أقول بأني وأبقراط سالمان من اللوم حيث لم نتبصر، فيجب على من أراد ذلك، التبصر والاختبار والتجارب والامتحان فإذا خلص له شخص بعد ذلك منحه لتخف الضرورة وكذا وقع في أحكام النجوم حتى قال الشافعي رضي الله عنه: علمان شريفان وضعهما ضعة متعاطيهما الطب والنجوم. ولمزيد حرص القدماء على حراسة العلوم وحفظها اتفقوا على أن لا تعلم إلا مشافهة ولا تدون لئلا تكثر الآراء فتذبل الأذهان عن تحريرها اتكالا على الكتب. قال المعلم الثاني في جامعه واستمر ذلك إلى أن انفرد المعلم الأول بكمال الكمالات فشرع في التدوين فهجره أستاذه أفلاطون على ذلك فاعتذر عنده عن فعله وأوقفه على ما دون فإذا هو يكتفى بأدنى إشارة فيأتي غالبا بالدلالة اللزومية دون أختيها وتارة بكبرى القياس إذا أرشدت إلى المطلوب وأخرى بأحد الجزأين الأخيرين. وقال إن الحامل له على ذلك حلول الهرم وفتور الذهن وذهاب الحدس عند انحلال الغريزية فيكون ذلك تذكرة ولمن اختار الله تبصرة فصوب رأيه وكل ذلك من البراهين القائمة على شرف العلم.
* (فصل) * ولما كان الطريق إلى استفادة العلوم: إما الالهام أو الفيض المنزل في النفوس القدسية على مشاكلاتها من الهياكل الإلهية أو التجربة المستفادة بالوقائع أو الأقيسة كانت قسمة العلوم ضرورية إلى ضروري ومكتسب وقياسي خيلته التصورات في الأقوال وهى مواد النتائج التي هي الغايات فلا جرم جعل أولا إما تصورا وهو حصول الصورة في الذهن أو تصديقا وهو الحكم أو العلم به على تلك الصورة بإيقاع أو انتزاع ومواد الأول أقسام الألفاظ والدلالات والكليات الخمس، والأقوال الشارحة بقسمي الحد والرسم. ومواد الثاني أقسام القضايا إلى حمل وشرط ومحمول ومعدول وموجهات وتعاكس وقياس وشروط ونتائج إما يقينية أو غيرها من التسعة. والمتكفل بهذا هو المنطق وهل هو من مجموع الحكمة أو أحد جزأيها أو آلة لها؟ خلاف، الأصح التفصيل كما اختاره العلامة في شرح الإشارات (والحصر الثاني) أن يقال: إن العلم إما مقصود لذاته وهو تكميل النفس في قوتها العلمية: أي النظرية
صفحة ٥
الاعتقادية والعملية وهو غاية الأول أو كهو وهذا هو علم الحكمة ثم هذه إما أن يكون موضوعها ليس ذا مادة وهذا هو الإلهي أو ذا مادة وهو الطبيعي أو ما من شأنه أن يكون ذا مادة وإن لم يكن وهو الرياضي، والثلاثة علمية أو يكون البحث فيها عن تهذيب النفس من حيث الكمالات وهو تدبير الشخص، أو من حيث حصر الأوقات التي بها بقاء المهج وهو تدبير المنزل مع نحو الزوجة والولد أو من حيث حفظ المدينة الفاضلة التي بها قوام النظام وهو علم السياسية والأخلاق. والأول أعم مطلقا، والثاني أخص منه وأعم من الثالث لاختصاصه بالملوك إن تعلق بالظاهر، والقطب الجامع إن تعلق بالباطن، والأنبياء إن تعلق بهما وكلها عملية، أو مقصود لغيره إما موصلا إلى المعاني والألفاظ فيه عرضية دعت ضرورة الإفادة والاستفادة إليها وهو الميزان، أو بواسطة الألفاظ ذاتا وهى الأدبية، ثم الرياضي إن نظر في موضوع يمكن تلاقى أجزائه على حد مشترك فالهندسة والهيئة وكل إن كان قار الذات فالعدد إن كان منفصل الاجزاء، فان اتصل فالزمان وإلا بأن لم يتصف بالوصفين فالموسيقيرى (والحصر الثالث) أن يقال العلم إن كان موضوعه الألفاظ والخط ومنفعته إظهار ما في الناس الفاضلة وغايته حلية اللسان والبيان. فالأدب وأجناسه عشرة، لأنه إن نظر في اللفظ المفرد من حيث السماع فاللغة أو الحجة فالتصريف، أو في المركب، فإما مطلقا وهو المعاني إلا أن تتبع تراكيب البلغاء وإلا فالبيان، أو مختصا بوزن، فإن كان ذا مادة فقط فالبديع أو صورة، فإن تعلق بمجرد الوزن فالعروض وإلا فالقافية أو فيما يعم المفرد والمركب معا وهو النحو أو بالخط فإن كان موضوعه الوضع الخطى فالرسم أو النقل فقوانين القراءة وإن كان موضوعه الذهن ومنفعته جلية الحدس والفكر والقوة العاقلة وغايته عصمة الذهن عن الخطأ في الفكر، فالميزان وهو المعيار الأعظم الموثق البراهين الذي لا ثقة بعلم من لم يحسنه، وقد ثبت أن سبب الطعن عليه فساد بعض من نظر فيه قبل أن تهذبه النواميس الشرعية فظن أنها برهانية كالحكمة، فلما تبين له خلاف ذلك استخف بها وتبعه أمثاله والفساد من الناظر لا من المنظور فيه بل المنطق يؤيد الشرائع وكذلك الحكميات لأنه قد ثبت فيها أن الكلى إذا حكم عليه بشئ تبعه جزئيه وأن النبوة كلي أجمع على صحتها فإذا لم يجد لبعض جزئيات جاءت بها كتخصيص رمضان بالصوم وتجرده عن الثياب عند الاحرام في الميقات حجة كان برهانها القطع بالحكم الكلى وهو صدق من جاء بها وأجزاؤه تسعة أو عشرة قدمنا الإشارة إليها سابقا إجمالا بحسب اللائق هنا، أو نظرا فيما جرد من المادة مطلقا كما مر وكانت منفعته صحة العقيدة وغايته حصول سعادة الدارين فالإلهي أو نظر فيما له مادة في الذهن والخارج، فإن كان موضوعه البدن ومنفعته حفظ الصحة وغايته صون الأبدان من العوارض المرضية فالطب، أو أجزاء البدن ومنفعته معرفة التركيب وغايته إيقاع التداوي على وجهه فالتشريح، أو نظر في النقطة وما يقوم عنها من مجسم ومخروط وكرة فالهندسة، أو في تركيب الأفلاك وتداخلها ومقادير أزمنتها فالهيئة ومنفعتها معرفة المواقيت وغايتها إيقاع العبادات في أوقات أرادها الشارع وجمعنا بينهما لان الأول مبادى الثاني، أو فيما يمكن تجرده فالرياضي وقد عرفت أقسامه، أو كان نظره فيما سوى الانسان، فإن كان موضوعه الجسم الحساس غير الطيور فالبيطرة أو هي فالبزدرة أو الجماد، فإن كان موضوعه الجسم النباتي فهو علم النبات ويترجم بالمفردات وعلم الزراعة وأحوال الأرض ويترجم بالفلاحة. أو المعدن، فان نظر في الطبيعي منه فعلم المعادن بقول مطلق وتقسيمها إلى سائل ونام وجامد ومنطرق وتقسيمها في أنواعها وأجناسها وأثمانها وخواصها ومكانها وزمانها أو في المصنوع فعلم الكيمياء (والحصر الرابع) أن يقال العلم إما علم بأمور ذهنية
صفحة ٦
تظهر من دال خارج أو بالعكس أو أمور خارجية المادة لا الصورة أو العكس، فالأول كالفراسة فإنها استدلال بالخلق الظاهر على الخلق الباطن، والثاني علم التعبير فإنه الاستدلال بمشاهدات النفس عند خلوها وانقضاء الشواغل على ما يقع لها في الخارج، والثالث كالهيئة، والرابع كالمنطق (والخامس) أن يقال العلم إما استدلال بعلوي على علوي فقط وهو كغالب الطبيعي أو بعلوي على سافل كالاحكام النجومية أو بسفلى على مثله كالشعبذة والسيميا والسحر أو استعانة ببعض الأجسام على بعض بشرط مخصوص نحو زمان ومكان، كعلم الطلسمات أو النظر في المواد اللطيفة إما لاصلاح البصر كالمناظر أو للوصول إلى ارتسام شئ في شئ فالمرايا أو المواد الكثيفة إما لقيام الأمكنة فعلم المعاقد أو لتعديل الخطوط والمقادير فالمساحة أو لتعديل ما يعلم به المقادير فعلم الموازين كالقبان أو القدرة على حركة الجسم العظيم بلا كلفة فجر الأثقال ومقاييس الماء أو في تحريك جسم في قدر مضبوط من الزمان فعلم السواقي أو فيما يحتال به على بلوغ المآرب على طريق القهر فعلم آلات الحرب أو على طريق خفى فعلم الروحانيات (والسادس) أن يقال العلم إما أن يستخدم الذهن مادة ذهنية كالحساب أو خارجية إما علوية كالريح والتقاويم والمواقيت أو سفلية كالنير نجات أو مركبة منهما كعلم الرصد وتسطيح الكرة. والعلم الذهني إما أن ينظر في العدد وهو الحساب وينقسم إلى ناظر في المعاملات وهو المفتوح، أو المجهولات من مثلها وهو الجبر والخطائين أو من معلومات كالتخت والرقم أو إلى تركيب البسيط وهو علم التكعيب، وأما القصب والدراهم فمن المعاملات وكذا الصبرات. أو تعلق بأعضاء مخصوصة فحساب اليد وغير الذهني فالشرعي المسترعى بالقول المطلق والاصطلاح المخصوص وإلا فالعلوم كلها ذهنية من حيث افتقارها إليه. ولنا ضابط غير هذه وهو أن مدار العلوم إما الأذهان وأصول علومها خمسة عشر علما: المنطق والحساب والهيئة والهندسة والفلسفة الأولى والثانية والإلهيات والطبيعات والفلكيات والسماء والعالم والاحكام والمرايا والموسيقى والارتماطيقى والصناعات الخمس. وإما اللسان، وأصول علومه كذلك اللغة والمعانى والبيان والبديع والعروض والقافية والاشتقاق والنحو والصرف والقراءة والصوت والمخارج والحروف وتقسيم الحروف وتوزيع اصطلاحات الأدب (أو الأبدان) وأصول علومها، كذلك الطب والتشريح والصياغات والسباحة وتركيب الآلات والكحل والجراحة والجبر والفراسة والنبض والبحارين والأقاليم والتأثيرات الهوائية والملاعب والسياسة (أو الأديان) وأصولها كذلك التفسير للكتاب والسنة والرواية والدراية والفقه والجدل والمناظرة والافتراق واستنباط الحجج وأصول الفقه والعقائد وأحوال النفس بعد المفارقة والسمعيات والسحر للوقاية وضبط السياسات من حيث إقامة الحكم والعلم بالصناعات الجالبة للاقوات فهذه ستون علما هي أصول العلوم كلها وإن كان تحتها فروع كثيرة ويتداخل بعضها في بعض وإن بعد في الظاهر فقد قال بعض المحققين إن علم العروض ديني شرعي لان في القرآن آيات موزونة حتى على الضروب البعيدة فان قال قائل إنها شعر رده العروضي بأن شرط الشعر مع الوزن القصد فتزول شبهته وزوالها شرعي بلا نزاع، وعلى هذا فقس.
(فصل) وإذ قد عرفت المنزع والدستور في تقسيم العلوم فينبغي أن تعرف أن حال الطب معها على أربعة أقسام (الأول) ما استغنى كل منهما عن الآخر وهذا كالعروض مع الطب وكالفقه معه إذ لا علاقة لأحدهما بالآخر مطلقا (الثاني) أن يستغنى الطب في نفسه عنه ولا يستغنى هو عنه وهذا كجر الأثقال ولعب الآلة فإن الطب ليس به إلى ذلك حاجة وأما هو فمحتاج إلى الطب إذ لا قدرة لمزاولها
صفحة ٧
بدون الصحة الكاملة وما تحفظ به وهذان القسمان لم نتعرض لذكرهما أصالة إذ لا ضرورة بنا إليه كما عرفت (الثالث) أن يستغنى العلم في نفسه عن الطب ويحتاج الطب إليه كالتشريح إذ لا غنية للطبيب عنه ، أما التشريح فلا حاجة به إلى الطب (الرابع) أن يحتاج كل منهما إلى الآخر كعلم العوم فإن الطبيب يحتاج إليه لما فيه من الرياضة المخرجة للفضلات المحترقة التي قد يضرها باقي أنواع الرياضة، وسنفصل أكثر هذين القسمين في مواضعه كما وعدنا إن شاء الله تعالى.
واعلم أنا لا نريد بالحاجة هنا إلا ما توقف العلم أو كاد أن يتوقف عليه وإلا فمتى أطلقنا فليس لنا علم يستغنى عن الطب أصلا لان اكتساب العلوم لا يتم إلا بسلامة البدن والحواس والعقل والنفس المدركة وهذه لما كانت في معرض الفساد لعدم بقاء المركب على حالة واحدة حال امتداده بالمختلفات المتعذر وزنها في كل وقت فلابد لها من قانون تحفظ به صحتها الدائمة وتسترد إذا زالت وهو الطب، ومن هنا ظهر أنه أشرف العلوم لان موضوعه البدن الذي هو أشرف الموجودات إذ العلوم لا تشرف إلا بمسيس الحاجة أو شرف الموضوع فما ظنك باجتماعهما ومن هنا قال إمامنا رضي الله عنه : العلم علمان علم الأبدان وعلم الأديان وعلم الأبدان مقدم على علم الأديان كذا نقله عنه في شرح المهذب، وظنه بعضهم حديثا.
(فصل) ينبغي لهذه الصناعة الاجلال والتعظيم والخضوع لمتعاطيها لينصح في بذلها وكشف دقائقها فقد اشتملت معانيها على معان لم توجد في علم غير هذا العلم من ممرض ومصحح ومفسد ومصلح ومفزع ومفرح ومقو ومضعف ومميت ومحى بإذن مودعه تقدس وتعالى، وينبغي تنزيهه عن الأراذل والضن به على ساقطي الهمة لئلا تدركهم الرذالة عند الدعوة إلى واقع في التلف فيمتنعون أو فقير عاجز فيكلفونه ما ليس في قدرته قال هرمس الثاني وهذا العلم خاص بآل أسقلميوس عليهم السلام لشرفهم فيكافؤنه، واعتذر الفاضل أبقراط في إخراجه عنهم إلى الاغراب بخوف الانقراض فكان يأخذ العهد على متعاطيه فيقول له برئت من قابض أنفس الحكماء وفياض عقول العقلاء ورافع أوج السماء، مزكى النفوس الكلية وفاطر الحركات العلوية إن خبأت نصحا أو بذلت ضرا أو كلفت بشرا أو تدلست بما يغم النفوس وقعه أو قدمت ما يقل عمله؟؟ عرفت ما يعظم نفعه، وعليك بحسن الخلق بحيث تسع الناس ولا تعظم مرضا عند صاحبه ولا تسر إلى أحد عند مريض ولا تجس نبضا وأنت معبس ولا تخبر بمكروه ولا تطالب بأجر وقدم نفع الناس على نفعك واستفرغ لمن ألقى إليك زمامه ما في وسعك فان ضيعته فأنت ضائع وكل منكما مشتر وبائع والله الشاهد على وعليك في المحسوس والمعقول والناظر إلى وإليك والسامع لما نقول فمن نكث عهده فقد استهدف لقضائه إلا أن يخرج عن أرضه وسمائه وذلك من أمحل المحال فليسلك المؤمن سنن الاعتدال وقد كانت اليونان تتخذ هذا العهد درسا والحكماء مطلقا تجعله مصحفا إلى أن فسد الزمان وكثر الغدر وقل الأمان واختلط الرفيع بالوضيع (فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) وقال بعض شراح هذا العهد إنه قال فيه ويجب اختيار الطبيب حسن الهيئة كامل الخلقة صحيح البنية نظيف الثياب طيب الرائحة يسر من نظر إليه وتقبل النفس على تناول الدواء من يديه وأن يتقن بقلبه العلوم التي تتوقف الإصابة في العلاج عليها وأن يكون متينا في دينه متمسكا بشريعته دائرا معها حيث دارت واقفا عند حدود الله تعالى ورسوله، نسبته إلى الناس بالسواخلى القلب من الهوى لا يقبل الارتشاء، ولا يفعل حيث يشأ، ليؤمن معه الخطا وتستريح إليه النفوس من العنا. قال جالينوس وهذه الزيادة منه بلا شك ولا ريبة فمن اتصف بهذه الأوصاف
صفحة ٨
فقد صلح لهذا العلم، إذ هو صناعة الملوك وأهل العفاف. فان قيل لا ضرر ولا نفع إلا بقضاء الله وقدره.
قلنا مع ما ذكر من الشروط والاحترازات من ذلك كما أرشد إليه صلاة الله وسلامه عليه حيث سئل (أيدفع الدواء القدر؟ بقوله: الدواء من القدر) فرحم الله من سلك سبيل الانصاف، وترك التعسف والخلاف، وأحل كلا محله ومقامه، ولم يتبع آراءه وأوهامه، والسلام.
* (الباب الأول في كليات هذا العلم والمدخل إليه) * اعلم أن لكل علم (موضوعا) هو ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية (ومبادئ) هي تصوراته وتصديقاته (ومسائل) هي مطالبه الحالة مما قبلها محل النتيجة من المقدمتين (وغاية) هي المنفعة (وحدا) هو تعريفه إجمالا. (فموضوع) هذا العلم بدن الانسان في العرف الشائع المخصوص والجسم في الاطلاق لأنه باحث عن أحوالهما الصحية والمرضية (ومبادئه) تقسيم الأجسام والأسباب الكلية والجزئية (ومسائله) العلاج وأحكامه (وغايته) جلب الصحة أو حفظها حالا والثواب في دار الآخرة مآلا (وحده) علم بأحوال بدن الانسان يحفظ به حاصل الصحة ويسترد زائلها على الأول، وأحوال الجسم على الثاني هذا هو المختار، وله رسوم كثيرة استقصيناها في شرح نظم القانون، واختير هذا الحد لدلالة صدره على النظري الكائن لا باختيارنا كالطبيعيات، وعجزه على العملي الكائن به كالنظر فيما يمرض، وقد اتفق علماء هذه الصناعة على أن مبدأ الجزء الأول قسمة الأمور الطبيعية وهى سبعة، وأسقط بعضهم الافعال محتجا بأن الطبيعيات يجب أن تكون مقومة والافعال لوازم، فليست طبيعية لعدم التقويم باللازم، ورد بأن الافعال إما غائية أو فاعلية وكلاهما مقوم للوجود إذ المادي والصوري لا يقومان غير الماهية، وقيل السحنة والألوان والذكورة والأنوثة من الطبيعيات على ما ذكرتم، لتقويمها الوجود، ورد بأنها لم توجد بجملتها في فرد بخلاف باقي الافعال. والأمور الطبيعية سبعة لأنها فرع الأسباب الداخلة والخارجة سواء أثرت بالفعل وهى الصورية أو بالقوة وهى المادية أو في الماهية وهى الفاعلية أو في المؤثر فيها وهى الغائية يظهر ذلك للفطن (أحدها الأركان) وتعرف بالاستقصاءات والعناصر والأصول والأمهات والهيولي باعتبارات مختلفة وهى أجسام لطيفة بسيطة أولية للمركبات وهى أربعة: النار تحت الفلك فالهواء فالماء فالتراب لاحتياج كل مركب إلى حرارة تلطف ورطوبة تسهل الانتفاش وبرودة تكثف ويبوسة تحفظ الصورة وهى في الأربعة على هذا الترتيب أصلية على الأصح وإنما رطب الماء أكثر من الهواء لاعتضاد المعنوية فيه بالحسية وفى الشافي أن الشيخ يرى أصالة برد التراب ولم يعزه إلى كتاب معين وعندي فيه نظر وسنستقصي ما في كل واحد من الكلام في الباب الثالث (وثانيها المزاج) وهى كيفية متشابهة الاجزاء حصلت . من تفاعل الأربعة بحيث كسر كل سورة الآخر بلا غلبة، وإلا كان المكسور كاسرا والثاني باطل وهذا التفاعل بالمواد والكيفيات دون الصور وإلا لزالت عند التغير فلم يبق الماء ماء حال الحرارة أو خلت المادة عن صورة والكل باطل. لا يقال الرطوبة الباقية فيه عند حره صورة لأنه يوجب صورتين في مادة وقد أحالته الفلسفة، وتنقسم هذه الكيفية إلى معتدل بالحقيقة والعقل والفرض والاصطلاح والغرض هنا الأخير ومعناه أن يكون للشخص مزاج لا يستقيم به غيره ويكون هذا الاعتدال في الجنس والنوع والشخص والصنف والعضو بالقياس في الخمسة إلى خارج عن كل كحيوان إلى نبات وداخل فيه كانسان إلى فرس وهكذا وإلى خارج عن الاعتدال إما في واحد كحرارة غلبت على برد مع اعتدال الآخرين وهو أربعة أو في اثنين كحرارة ويبوسة غلبا متكافئين على الآخرين وهو كذلك أيضا لكن المغلوبان تارة يتعادلان وأخرى يغلب أحدهما الآخر، وعد
صفحة ٩
هذا الاعتبار في المفرد فهذه أقسام المزاج وهى مائة وأربعة لم نسبق إلى تحريرها إذ لم يصرحوا بأكثر من سبعة عشر فتأمله وبرهان التحليل أعنى التقطير والتركيب برد الانسان إلى الحيوان وهو إلى النبات وهو إلى الكيفيات شاهد بتفاضل الأنواع كالانسان والفرس وبعضه والأصناف كتركي وهندي وهنديين والاشخاص كزيد وعمرو وزيد في نفسه والأعضاء كقلب ودماغ وأحدهما في نفسه وأن الأعدل أهل خط الاستواء في الأصح فالإقليم الرابع وفى الأعضاء أنملة السبابة فما يليه تدريجا والآخر الخلط الحار وهو عضو بالقوة القريبة وكذا في الثلاثة فما ينشأ عن كل على اختلاف رتبته وسيأتى في مواضعه (وثالثها) الخلط وهو جسم رطب سيال يستحيل إليه الغذاء أولا ورطوباته ثمانية نطفية تبقى من المنى الأصلي وعضوية مبثوثة كالطل تدفع اليبس الأصلي وعرقية تكون من الغذاء الطارئ وأخرى من الأصلي، وأربعة تتولد من المتناولات وهى المعروفة بالاخلاط عند الاطلاق وأفضلها الدم لأنه الذي يخلف المتحلل وينمى ويصلح الألوان ومنه طبيعي وهو الأحمر الطيب الرائحة الحلو بالقياس إلى باقي الاخلاط المعتدل المشرق، وقيل الطبيعي ما تولد في الكبد فقط وفيه نظر وغيره مفضول وينقسم باعتبار تغييره في نفسه وغيره إلى أربعة أقسام وقل في كل خلط كذلك. ويليه (البلغم) عند الأكثرين لقربه منه وتنمية الأعضاء وانقلابه دما إذا احتاجه، ورده في الشافي بأن الأعضاء باردة لا تقدر على قلبه دما وبأنه لو تولد الدم في غير الكبد لكان وجودها عبثا، وأجاب عن الأول بأن الأعضاء باردة بالنسبة إلى الكبد وإلا ففيها حرارة وعن الثاني بأن الكبد هي التي هيأت البلغم في رتبة تقدر الأعضاء على إحالته ولو ورد عليها غذاء بعيد لم تقدر على قلبه، وبأن التواليد في سوى الكبد نادر وإن جاز لم تنتف حاجتها اه ولعمرى إنه أجاد فالخلطان المذكوران رطبان إلا أن الأول حار والثاني بارد وخلقا بلا مفرغة لاحتياج كل عضو في كل وقت إليهما والطبيعي من البلغم حلو حال الانفصال، تفه إذا فارق برهة، وما قيل إن المراد بالحلاوة التفاهة والعكس سهو، وغير الطبيعي إن تغير بنفسه فهو التفه وغليظه النخام ورقيقه الماسخ ويقسم من حيث القوام فقط فالرقيق مخاطي والغليظ جصي إن اشتد بياضه وإلا فزجاجي أو بأحد الاخلاط فيقسم في الطعم لا غير فالمتغير بالدم حلو والصفراء مالح والسوداء حامض. وتليه (الصفراء) والطبيعي منها أحمر ناصع عند المفارقة أصفر بعدها خفيف حاد، وفائدته أن ينفصل أقله وألطفه يلزم الدم للتغذية والتلطيف وأكثره ينحدر لغسل الثفل واللزوجات والتنبيه على القيام وهو أحر من السابق في الأصح وغير الطبيعي محى إن تغير بالبلغم كراثي إن تغير بالسوداء ولم يبلغ احتراقه الغاية فان بلغ الغاية فز نجاري ولا اسم للباقي. ويليها (السوداء) وطبيعيها الراسب كالدردي للدم إذ لا رسوب للبلغم لغلظه ولا للصفراء للطفها وحركتها، وتقسم إلى ماض مع الدم للتغذية والتغليظ وإلى الطحال لينبه على الشهوة إذا دفعه إلى المعدة وطعمه بين حلاوة وعفوصة وحموضة وغير المحترق وطعمه كالمتغير به من الاخلاط قالوا وخروجه مهلك لاستيعابه البدن ولا يقربه الذباب ويغلى على الأرض وفى الشافي أن البارد اليابس من السوداء هو الطبيعي فقط والحق أنها كغيرها في الحكم على الجملة ومفرغتها الطحال والتي قبلها المرارة وكلاهما يابسان إلا أن هذه باردة وتلك حارة في الغاية وأصل توليد هذه أن الغذاء أولا يهضم بالمضغ وثانيا بالمعدة كيلوسا وينفذ ثفله من المعى إلى المقعدة وصافيه من الماسريقا إلى الكبد فينطبخ ثالثا فما علا صفراء وما رسب سوداء والمتوسط الرقيق دم والغليظ بلغم ويكمل هضمه في العروق وتتفاوت في أكثرية التوليد بحسب المناسب طعاما وسنا وفصلا وبلدا كتناول الشيخ اللبن شتاء في الروم فان الأكثر بلغم قطعا وهل الغاذي للبدن الدم
صفحة ١٠
وحده أو سائر الاخلاط معه؟ ذهب جماعة منهم صاحب الشافي إلى الأول محتجين بأن النمو والتحليل لا يكونان إلا من الألطف ولا ألطف من الدم لحرارته ورطوبته وفائدة الغذاء ليس إلا الأمران المذكوران فيكون هو الغاذي والصغرى باطلة لان التحليل بالرياضة ولا شك في اختلافها فيكون منها كالصراع محللا للأصلب قطعا وإلا لتساوى نحو الصراع والمشي والخفيف وكذا الكلام في النمو.
وأما احتجاجهم بأن النمو غير محسوس للطافة ما يدخل وهو الدم وبأنه لو كان الغاذي كل خلط على انفراده لاختلفت أجزاء البدن فمردود بأن النمو طبيعي فلا يحسن وإن كثف وبأن اختلاف أجزاء البدن قطعي. على أنا لا نقول بأن الخلط يغذى منفردا بل هي ممتزجة بقانون العدل لما مر في علة التربيع وبهذا سقط ما قاله في الشافي من أنه لو غذى كل خلط وحده عضوا مخصوصا لكان اللحم لاغتذائه بالدم أفضل من الدماغ على أنا لا نمنع زيادة البلغم في غذاء الدماغ ولان الحكيم كونه باردا رطبا لأجل التعديل بمقابلة القلب فلو غذاه الدم وحده لفات هذا القصد وتكلفه بأن الدم متشابه الاجزاء حسا مختلف معنى وإلا لتشابهت الأعضاء مبنى على أن الغاذي هو الدم وحده وقد علمت بطلانه وأما احتجاجه بأن الغاذي لو كان من الاخلاط الأربعة ممتزجة للزم أن لا يسهل الدواء خلطا بعينه ولم يقع مرض من خلط مفرد ولم يحتج إلى تمييزها في الكبد ولكانت الاخلاط خمسة للمفردات والمركب فغفلة منه وسفسطة لان ما يميزه الدواء ويوجب المرض هو الزائد الكائن من نحو إفراط الشاب الهندي صيفا في أكل العسل إذا اعترته حمى صفراوية لان الغاذي ملائم والمرض مناف وإلا لتساويا ولكان الاسهال ينقص جوهر الأعضاء وأما التمييز فللمنافع المذكورة وهو بعض من الخلط لا كله، وأما أن الاخلاط خمسة فلا مانع بل هي ثمانية كما سبق وإنما المراد بالأربعة الحاصلة من كل مركب بواسطة الكيفيات لا الممكن الانقسام بعد التوليد وأما قول الشيخ في الشفاء إن الغاذي في الحقيقة هو الدم والاخلاط كالأبازير فقد قررنا في بعض حواشينا عليه أن معنى هذا الكلام أن الاخلاط داخلة في التغذية مع مزيد فوائد أخذا من المقاس عليه ولذلك قال في الحقيقة الدقيقة لا تخفى على الذوق السليم، والثاني هو الأصح وعليه الطبيب والأكثر لظهور الاخلاط في الدم وتغذية المختلفات كما عرفت.
(تنبيهات: الأول) قد ثبت أن البلغم كطعام لم ينضج والدم كمعتدل النضج والصفراء كمجاوز الاستواء ولم يحترق والسوداء كمحترق ولا شك في جواز تبليغ القاصر مرتبة الذي بعده وهكذا فهل يجوز العكس فتصير السوداء صفراء قال به قوم محتجين بأن إفراط المحموم بالصفراء في المبردات يردها باردة كانقلاب البرسام ليثرغس والصحيح عدم جوازه وإلا لجاز كما قال ابن القف انقلاب اللحم المتهري نيئا (الثاني) اختلفوا في نسبة الاخلاط بعضها إلى بعض فكاد ينطبق الاجماع على أن الأكثر الدم ثم البلغم ثم الصفراء ثم السوداء ثم قال ابن القف إن نسبها تعرف من الفترات والنوب في الحمى فيكون البلغم سدس الدم والصفراء سدس البلغم والسوداء ثلاثة أرباع الصفراء وفيه نظر لان حمى الدم مطبقة وفترة البلغم ستة فينبغي أن تكون ربعا والصحيح عندي أن النسب تابعة للغذاء فأكثر المتولد من مرق لحوم الفراريج وصفرة البيض في البدن المعتل الدم ثم الصفراء للطف الحرارة ثم البلغم للطف الرطوبة بعدها والعكس في نحو لحم البقر (الثالث) أن طبائع الاخلاط على ما تقرر سابقا عند الجمهور وقال في الشفاء إن جماعة من الأطباء يرون برد الصفراء محتجين بما يحصل من القشعريرة وحر السوداء لصبر صاحبها على البرد وهو فاسد قطعا لان الأول مناقض ظاهرا وإلا لم يحتج صاحبه إلى الماء والثاني للصلابة بفرط اليبس (الرابع) اختلفوا في المهضم فقال الجمهور
صفحة ١١
خمسة الفم ولا فضلة له والمعدة وفضلة كيلوسها البراز والماسريقا ولا فضلة لها والكبد وفضلتها غالب البول والعروق وفضلتها الغليظة الأوساخ واللطيفة البخار والمتوسطة مطلقا العرق والمرتفع اللين والسافل الدم وأنكر قوم الفم والماسريقا وآخرون الثاني فقط (الخامس) اختلفوا في أن التقطير بالأنبيق يميز الاخلاط، لأنه برهان تحليل أم لا لعدم معرفة ضابط البخار، والأصح الأول وفاقا لجالينوس والأستاذ والمعلم لان السائل هو الماء ودهنيته الدم ومائيته البلغم والمتخلف هو الأرض والدخان الصفراء فإذا علمنا المقطر قبل بالوزن الصحيح كان الناقص هو الصفراء وينبنى على هذا معظم العلاج وتقادير الأدوية هكذا وبهذا نعلم أن السوداء لا ترد إلى الصفراء وما احتج به الفاضل أبو الفرج من كلام الشيخ أن البرسام قد يصير ليثرغس بالتبريد غير صحيح وإنما يقع التبريد في هذه الصورة من قصور الأعضاء عن الهضم فيتولد البلغم (ورابعها) الأعضاء وهى أجسام صلبة كائنة من أول مزاج الخلط وبسيطها التشابه الاجزاء المطابق اسم جزئه كله في الحد والرسم والصفة والأولى عكسه ويكون مركبا أوليا إن كانت أجزاؤه كلها بسيطة كالأنملة وإلا فثان إن تساوى الشيئان كالإصبع وإلا فثالث وتنقسم إلى رئيسة وهى أربعة بحسب النوع (الدماغ) ويخدمه العصب (والقلب) ويخدمه الشرايين (والكبد) ويخدمه الأوردة (وآلة التناسل) ويخدمها مجرى المنى وإلى الثلاثة الأول بحسب الشخص المراد بالرئيس المفيض القوى على غيره بحسب الحاجة وإلى مرؤوس وهو ما عدا هذه عندي وقالوا المرؤوس ما أخذ من هذه بلا واسطة وما سوى القسمين كاللحم ليس برئيس ولا مرؤوس. وللأعضاء تقسيمات من نحو ثلاثين وجها ذكرتها في شرح نظم القانون وسنستقصي الكلام في التشريح إن شاء الله تعالى (وخامسها) الأرواح وهى جسم لطيف يتكون من أنقى البخار ويحمل القوى من المبادى إلى الغايات والدليل على تولدها من البخار نقصها عند قلة الدم والفاضل جالينوس وجماعة يرون أنها من الهواء المستنشق قال الفاضل أبو الفرج ويمكن أن يستدلوا على ذلك بموت من حبس نفسه على أن هذا الموت باحتراق القوى لا بحرارة الأرواح لان الهواء يبردها إذ هو بارد بالنسبة إليها وإن كان حارا في نفسه، وتنقسم إلى طبيعية مبدؤها الكبد وغايتها حمل القوة الطبيعية إلى القلب وحيوانية مبدؤها القلب وغايتها تبليغ القوى الحيوانية إلى الدماغ ونفسانية مبدؤها الدماغ وغايتها إيصال القوة النفسية إلى ما يحس من الأعضاء على الصحيح وقيل إن قوى الأعضاء البعيدة كاللحم مفاضة هذا كله على رأى الأطباء وأما الحكماء فيرون أن مبدأ القوى كلها هو القلب والأعضاء المذكورة شرط في ظهور أفعالها (وسادسها) القوى وهى مبدأ تغيير من آخر في آخر من حيث إنه آخر كذا في الشفاء والنجاة وقيل هيئة في الجسم يمكنه بها الفعل والانفعال وهى كالأرواح قسمة ومبدأ على المذهبين السالفين (فالأولى) منها أعنى الطبيعية تنقسم إلى أربعة مخدومة أحدها (الغاذية) وهى قوة تتسلم الغذاء من الخادمة فتفعل فيه التشبيه والالصاق (والنامية) وهى قوة تتسلم ما أوصلته الغاذية فتدخله في أقطار البدن على نسبة طبيعية وهاتان غذائيتان (والمولدة) وتعرف بالمغيرة الأولى وهى التي تخلص المنى من الدم، وههنا إشكالان (أحدهما) نقله الفاضل أبو الفرج عن بعض المتأخرين أن النامية كيف تخدم المولدة مع أن النمو لا يكون إلا قبل الايجاد وتوليد المنى بعده فلا يتفقان. ورد بأنه موجود بعد الايجاد في الاخلاط المتجددة والكلام فيها لا في العناصر (والثاني) لم أجد من أورده وهو أن المولدة هل تتسلم الدم من الكبد أو بعدها فان قلتم بالأول لم تكن النامية خادمة لها لما سبق وإن قلتم بالثاني لزم أن ينفصل المنى بعد صيرورة الغذاء عضوا واللازم باطل فكذا الملزوم ولم يحضرني عن هذا جواب (والمصورة) وتعرف بالمغيرة
صفحة ١٢
الثانية وفعل هذه تخطيط الماء وتشكيله بالقوة في الذكور والفعل في الإناث هكذا ينبغي أن يفهم وهاتان دمويتان وإلى خادمة وهى أربعة أيضا (ماسكة) تستولى على الغذاء لئلا ينساب فجأة (وهاضمة) تخلعه مدة المسك صورة اللحم والخبز مثلا وتلبسه صورة العضو؟ - ذا قرروه وليس عندي بمستقيم فان الملبسة للغذاء الصورة المذكورة هي الغاذية لا الهاضمة إذ الهاضمة إنما تفعل الكيلوس والكيموس (وجاذبة) إلى كل عضو ما يحتاج إليه (ودافعة) عندما يستغنى عنه وعظيم الفلاسفة المعلم الأول يرى أن هذا في كل عضو وهو الأصح وإن خالفه جالينوس وغالب حكماء النصارى لأنها لو كانت في بعض الأعضاء دون بعض لكان الخالي عنها إما مستغن عن الغذاء أو يأتيه غذاؤه بالخاصية أو بشئ آخر والتوالي بأسرها باطلة فكذا المقدم وبيان الملازمة أن الغذاء لا إرادة له ولا ينجذب بالطبع وإلا لزم أن يكون المنكس على رأسه لا يزدرد الطعام فبقى أن يكون بالقسر ولا قاسر سوى القوى ولا مضاعفة للقوى خلافا للمسيحي ومتابعيه وإذا تأملت هذه وجدت الخادم منها مطلقا الماسكة والمخدوم مطلقا المصورة والباقي يخدم بعضه بعضا ويخدم الكل بالكيفيات ذاتا بالحرارة وعرضا بضدها والرطوبة في الهاضمة أكثر والماسكة بالعكس (وإلى حيوانية) تفعل الحياة وتبقى وإن ذهب سواها في نحو مفلوج وفعلها الشهوة والنفرة وتنقسم في فعل الهواء كالطبيعية في الغذاء إلا فيما لا حاجة هنا إليه ومعنى فعلها ما ذكرنا من تهيئة الروح لقبول ذلك فتكون علة مادية فقط والحكيم يجعل هذه نفسية لأنها إما موصلة إلى الغاية فتكون كمالا أوليا لجسم طبيعي أو مهيئة فتكون قوة حيوانية أو ممددة للدماغ بما يصير قوى دراكة فتكون نفسا معدنية إن عدمت الإرادة مطلقا وإلا فنباتية إن عدمت الشعور وإلا فحيوانية، وأما الأطباء لما اعتبروا الفعل بلا شعور مع اختصاص التصريف بالغذاء جنسا مستقلا سموه قوة طبيعية وبالشعور والتعلق بالدماغ سموه شهوة نفسية وما بينهما حيوانية فلا جرم اضطروا إلى تثليث القسمة والثالثة النفسية ومادتها ما ينبعث عن القلب صاعدا للدماغ وعنه كمالها وهى جنس لما ميز به النوع الإنساني في جنسه وتنقسم إلى مدركة للكليات وهى النفس الناطقة كالعقل والجزئيات إما ظاهرا وهى السمع والبصر والشم والذوق واللمس وسيتلى عليك في التشريح تحريرها أو باطنا وهى أيضا خمسة لأنها إما أن تدرك الصور المشتركة من الخمس الظاهرة وهى نيطاسيا المعروفة بالحس المشترك وموضعها مقدم البطن الأول من الدماغ أو تخزن لتلك القوة وهى الخيال وموضعها مؤخره أو تدرك المعاني ساذجة وهى الواهمة وموضعها مؤخر البطن الثاني في الأصح أو تحفظ لها مدركاتها إلى الحاجة وهى الحافظة وموضعها مؤخر الثالث أو تدرك الصور والمعانى مع تصريف وتركيب وتحليل وهى المتصرفة وموضعها مقدم الثاني (وإلى محركة) باعثة للشهوة والغضب وفاعلة لنحو القبض والبسط فهذه هي أنواع القوى وأماكنها حسب ما يليق بهذه الصناعة ومن أراد استيفاءها فليقصد الحكميات (وسابعها) ما لهذه القوى من الغايات وتسمى الافعال وأنواعها كالقوى لان الهضم طبيعي والشهوة حيوانية والحكم نفسي وتكون من نوع فأكثر وكل إما مفرد يتم بقوة واحدة وهو كل ما تصعب مزاولته وتشق كالقئ فإنه بالدافعة فقط أو مركب وهو ما يتم بأكثر كازدراد الطعام فإنه بدافعة الفم وجاذبة المعدة ومن ثم يسهل فعله فهذه الأمور المجمع على أنها طبيعية وقيل الذكورة والأنوثة والسن منها وستأتى.
(فصل) وإذا كمل البدن مستتما بهذه الأمور صار حينئذ معروض أمور ثلاثة الصحة والمرض وحالة بينهما وهذه تتم بأمور تسمى الأسباب وهى إما مشتركة بين الثلاثة أو تخص جنسا منها
صفحة ١٣
والخاص إما أن يعم نوعا من ذلك الجنس أو شخصا، وكلها إما أن لا يمكن الاستغناء عنها مدة الحياة أصلا وهى الضرورية المشتركة التي إن دبرت صحيحة كانت غايتها الصحة أو فاسدة فالمرض أو متوسطة فالحالة المتوسطة وتنحصر الضروريات في ستة الهواء والماء والنوم واليقظة والمأكولات والمشروبات وستأتى في الباب الثالث والاحتباس والاستفراغ وسيأتى في الرابع والاحداث النفسانية ومادتها الحرارة وفاعلها الطارئ المحرك وصورتها تحرك البدن وغايتها الأحوال الثلاثة والفاعل قد يحرك إلى خارج فقط فيكون نحو الفرح إن كان التحريك دفعة واحدة وإلا فالخجل وإلى داخل دفعة كالغم أو تدريجا كالخوف أو إليهما دفعة كالغضب أو تدريجا كالعشق ويظهر انحصارها في الستة من الأمور الطبيعية إذ ليس للاركان دخل فيها وقد تنقسم الأسباب مطلقا إلى بادية لظهورها للطبيب وغيره وظهورها بالمرض والصحة وهى أحوال غير بدنية كتسخين الشمس يوجب أحوالا بدنية كالصداع وإلى سابقة وواصلة وكل منهما بدني يوجب أحوالا بدنية إلا أن السابقة توجبها بواسطة كالامتلاء فإنه لا يوجب الحميات إلا بعد تعفين. فقد بان أن كلا من الثلاثة يشارك الآخر في شئ ويفارقه في آخر والسبب قد يزول كالحر مع بقاء موجبه كالصداع أو بالعكس كالامتلاء والحميات وقد يزولان معا وقد يعتقبان وقد عرفت أن المتقدمة مشتركة فما عداها إما خاص بالمرض عام لأنواعه كالامتلاء والقطع والتيبس أو خاص كملاقاة حار بالفعل أو بالقوة من خارج أو داخل واشترط لتأثير السبب قوة قابل وفاعل وزمن يسع الفعل وللمادي شدة فاعل وضعف قابل وتغير مجرى إلى ضيق فيحبس وعكسه فيعكس وثقل مدفوع وانقطاع مجرى وكلها في الساذج والمادي المفرد. وأما أمراض التركيب فقد حصروها في أربعة أجناس (أحدها) جنس مزمن الخلقة ويشمل الشكل كاعوجاج المستقيم وتسفط المستدير والمجارى كضيق ما ينبغي اتساعه أو انسداده والعكس وخشونة ما تكون الملاسة شأنه والعكس وأسباب هذه خصوصا الشكلية قد تقع من حين الخلقة كفساد المادة كما وكيفا وعجز القوى الفاعلية وقد يكون عندها كنزوله سابقا برجليه أو عرضا وقد يكون بعدها ولا تنحصر لأنها قد تكون من قبل القمط أو المادة الخلطية أو العلاج أو النهوض قبل الوقت أو نحو ضربة وتزيد المجارى بتناول ما يفتح أو يقبض أو وقوع الجوهر الغريب كالحصاة أو صيرورة الخلط فاسدا في الكم والكيف والعدد وقد يكون إما زائدا كستة أصابع أو ناقصا كأربعة وكل منهما إما طبيعي أو غيره كذا قرروه وهو لا يستقيم عندي بحال لان الزائد الطبيعي كون الإصبع السادسة على سمت الأصابع البواقي وغير الطبيعي كونها في الكف مثلا فكيف يستقيم في الناقص هذا البحث فلينظر ولا شك أن أسباب هذه الأمراض قبل الولادة خاصة أما بعدها فلا يتأتى إلا النقص من أسباب بادية كالقطع (وثانيها) جنس المقدار ويتناول العظم الطبيعي كالسمن المتناسب وغير الطبيعي كغلظ عضو مخصوص وبالعكس وأسبابه إما من خارج كلصوق الزفت في السمن ودردي الخل في الهزال أو من داخل كتناول ما يوجبهما كاللوز والسندروس ويكون من توفر القوى والمواد وهذا هو الصحيح واختاره الشيخ وناقشه الفاضل أبو الفرج في الشافي وعبر عنه ببعض الفضلاء تسترا واستدل بأن العظم لا يكون إلا من توفر القوة والمادة فقط وهو دعوى لا دليل عليها (وثالثها) جنس الوضع ويشمل فساد العضو أو جاره فيمتنع أن يتحرك عنه أو إليه مع التحام أو افتراق وسبب الكل تحجر الخلط أو فساده في الكم والكيف وقد يكون قبل الولادة لما عرفت سابقا (والجنس الرابع) تفرق الاتصال وقد يكون في سائر الأعضاء إما من داخل كانقلاب الخلط أكالا أو من خارج كحرق فإن كان في الجلد ولم يبلغ فخدش
صفحة ١٤
أو بلغ فجرح فان طال فقرح أو في العضل طولا ففسخ ورض وفى العصبي فزر أو عرضا في العضل هنك والعصب شق أو في الوتر فبتر بالمثناة أو في الأربطة فباثق بالمثلثة وفى العظم كسر إن تشظى وإلا فخلع وهذه الأسباب هي ما تكون أولا كالامتلاء فيعرض عليه أمر كالعفن فيتولد منه آخر كالحمى فالأول سبب والثاني عرض والثالث مرض ويجوز انعكاس كل إلى الآخر قال فاضل الأطباء جالينوس وقد تترقى إلى مراتب ستة ولن تعدوها فان تناول لحم البقر سبب والامتلاء ثان والتعفين ثالث والحمى رابع والسل خامس والقرحة سادس وهكذا.
(فصل) ومما يلحق بهذه الأسباب أمور تسمى اللوازم وقد بينا لك أنها أمور طبيعية فمنها الذكورة وسببها فرط الحرارة سنا ومادة والبرد منها زمنا وبلدا ليحقن الهواء الحرارة في الداخل وميل المنى إلى الأيمن والأنوثة بالعكس كذا قرروه ومن هنا حكمنا أن الروم أسخن أرحاما والزنجيات أبرد والحبشة أعدل وهذا الامر لازم بالحقيقة، ومنها السحنة فالقضافة برد ويبس إن تكرج الجلد وإلا فحر والسمن برد ورطوبة إن نعم ولان وإلا فحر. ومنها الألوان فالبياض برد ورطوبة وعكسه والأصفر والأحمر حر ورطوبة وعكسه الأسود وقس على هذه البسائط ما تركب. وكالألوان الشعور هذا كله في خط الاستواء لتساوى الفصول الثمانية فيه، والإقليم الرابع لقربه من العدل وأما في غيرهما فلا دليل للون ولا سحنة لفرط حر الزنج وبرد الصقالبة وإلا لكان كل رومي بلغميا وليس بصحيح. ومنها الأسنان وأصولها أربعة: الصبا ومزاجه الحرارة والرطوبة وتطلق على الزمن المحتمل للنمو، وهو من أول الولادة إلى ثمان وعشرين سنة وأولها الصبوة فالنهوض فالحداثة فالغلامية فالمراهقة فسن التبقيل. والشبان ومزاجهم الحرارة واليبس إلا أن حرارتهم في الأصح أقوى من الصبيان ودخانيتهم أكثر ويسمى سن الوقوف وهو من آخر الصبوة إلى تمام الأربعين في الأصح قال المعلم وبتمامها يتم العقل والحزم وحسن الرأي ومنها إلى الستين سن الكهولة ومزاجها البرد واليبس وفيها يأخذ البدن في الانحطاط الخفى. ومنها إلى آخر العمر سن الشيخوخة ومزاجها البرد والرطوبة الغريبة وفيها يظهر الانحطاط.
* (فصل) * ومما يجرى مجرى اللوازم الأحوال الثلاثة أعين الصحة والمرض والحالة المتوسطة.
فالصحة حالة بدنية بها يجرى البدن وأفعاله على المجرى الطبيعي قال الفاضل أبو الفرج ينبغي أن يزاد في هذا التعريف بالذات ليخرج السبب، قال ولا ينبغي أن ترسم بأنها سلامة الافعال ولا صدورها صحيحة وإلا لكان العرض مرضا ونحو النائم مريض وفى هذا نظر لجواز أن يكون العرض مرضا فلا محظور في هذا اللازم ولان المراد بصدور الافعال أعم من أن يكون بالفعل أو بالقوة.
وتنقسم الصحة إلى كاملة وهى صحة سائر الأحوال والأزمان والأمزجة والتركيب والاتصال، وناقصة وهى ما حطت عن الأولى ولو في مرتبة كمن يمرض شتاء فقط أو في الروم والمرض ويرسم عدميا بأنه عكس الصحة ووجوديا بأنه حالة تجرى معها الافعال على خلاف المجرى الطبيعي ووهم الفاضل أبو الفرج حيث قال تجرى بها الافعال لان المرض ليس علة للأفعال بخلاف الصحة وقد علمت أقسام المرض في الأسباب، وأما تسمية أنواعه فقد تكون باسم المحل كتسمية الحال في البسيط متشابه الاجزاء أو بالنسبة إلى الموضع كذات الرئة أو إلى الحيوان الذي تعتريه كثيرا كداء الثعلب أو أن المبتلى به يصير كحيوان معلوم كداء الأسد فان وجه صاحبه يكون كوجه السبع أو إلى البلد الذي يكثر فيها كالعرق المديني والقروح البلخية وقد علمت أسماء تفرق الاتصال ونقل الفاضل أبو الفرج أن بعض الأطباء عد تفرق الاتصال من أمراض الشكل ورده بأن التفرق قد يقع ولم يفسد
صفحة ١٥
الشكل. وأما انقسام الأمراض من حيث العوارض فكثيرة كانقسامها إلى ممرض بالذات كالسل والعرض كالامتلاء وإلى معد كالجذام وغيره كالاستسقاء وانقسام الأول إلى ما بعدي بالنظر إليه كالرمد وما يحتاج في ذلك إلى مخالطة كالجرب وإلى موروث كالأبنة وغيره كالصمم وإلى ما يؤثر في الولد كالعمى الخلقي وإلى ما لا يؤثر كالنقص العارض وإلى ما يخص عضوا واحدا كالرمد فإنه لا يعدو العين وما يخص جزء عضو كالشرناق فإنه لا يكون إلا في الجفن الاعلى فقط وانقسامه من حيث المزاج إلى ساذجي مختلف يؤلم بالذات فالأصح وفاقا للشيخ. وقال جالينوس الطبيعي يؤلم بواسطة تفرق الاتصال وعليه لا يكون وجعا متشابها ولا الايلام بالبرد في أطراف العضو بل حيث يبرد والتالي باطل فكذا المقدم ثم إن المؤلم من سوء المزاج هو المختلف وهو غير المبطل للمقاومة سواء خص عضوا كالسرطان أو عم كالعفن المحم وقال الطبيب وجماعة المختلف هو العام والمستوى هو الخاص وكيف كان فالايلام للمختلف ثابت على التفسيرين لان الوجع إحساس بالمنافى والمستوى مبطل للمقاومة فلا إحساس معه ولان حرارة المدقوق أعظم من الغب وإلا لم تسخن الصلب مع أن إيلامها أقل ولان البدن يتألم مثلا بملاقاة الماء الحار فإذا تكيف به ألفه واستبرد غيره إذا انتقل إليه أولا حتى يألفه وهكذا ولان التنافي لا يكون إلا من سببين إضافيين وذلك لا يمكن في المستوى إذا تقرر هذا فقد بان أن الأمراض باعتبار المزاج اثنان وثلاثون قسما لأنها إما حارة ساذجة في عضو واحد كالصداع أو في جملة البدن كحمى العفن أو مادية كذلك كالورم الصفراوي في أصبع مثلا والغب وكذا باقي الكيفيات باعتبار الساذج والمادي مع كونه في الافراد والتركيب ثم كل من هذه إما حاد وهو الذي تسرع حركته إلى الانتهاء مع كونه خطرا والمزمن بخلافه ونظر الفاضل أبو الفرج في هذا الحصر بأن حمى يوم سريعة الحركة ولكنها غير خطرة فلا تكون من القسمين فلا يصح الحصر إلا بحذف الخطر وهو سهو ظاهر لان المراد بالخطر في الأغلب كما وقع التصريح به بل قال بعضهم لا حاجة إلى ذكر الأغلب إذ ليس هناك إلا هذه الحمى وهى فرد نادر لا حكم له ثم الفساد إن كان في كمية الاخلاط سمى ما يحدث عنه مرض الأوعية لضرره بها أولا وإلا فمرض القوة وإن كان كل ضارا بكل والاعراض والأمراض تنقسم بانقسام الافعال وقد علمت أنها غايات القوى فتكون طبيعية وحيوانية ونفسية ولا شك أن ضرر العرض بهذه الافعال إما مبطل بعض القوى أو أكثرها أو كلها وهذا شائع في سائر أنواع الافعال لكن جرت عادة بعضهم بتسمية الحار مشوشا والبارد مبطلا وهو اصطلاح لا مشاحة فيه (والحالة المتوسطة) بين الصحة والمرض على الأصح وتكون باعتبار الزمان كمن يمرض صيفا فقط والمكان كمن يمرض في الإقليم الأول مثلا والسن كمن يمرض شابا والعضو كمن يمرض في الرأس فقط والتركيب كضعيف فيه مع صحة المزاج وكما في الناقة فهذه حقيقتها لما عرض من حد الصحة والمرض فلا تكون على هذا التقدير لفظية كما زعمه بعضهم.
* (فصل) * ولما كانت هذه الأمراض قد تخفى على كثير وكانت الحاجة مشتدة إلى إيضاحها شخصية ليتم العلاج على الوجه الأكمل وضعوا لها دلائل تسمى العلامات والاعراض والمنذرات والمذكرات والمبشرات وتدرك بالسمع كالقراقر في الفساد والشم كالحمض في الجشاء والتخم واللون كالصفرة في اليرقان والذوق كملوحة البلغم في غلبة الصفراء واللمس كالحرارة في الحميات، وهذه كلها وما شاكلها تارة تكون عامة كالصفرة في اليرقان وتارة تكون خاصة كتهيج الوجه والأطراف على ضعف الكبد وقد تتقدم المرض بزمن طويل كمن يشرب كثيرا ويبول قليلا فإنه لابد وأن يقع في الاستسقاء إذا لم يكن مدقوقا ولا صفراويا وكمن يحمر بياض عينيه من غير علة فيهما فإنه
صفحة ١٦
لابد وأن يقع في الجذام والعلامات بأسرها من حيث الزمان ثلاثة ماض ينفع الطبيب فقط في ازدياد الثقة به كانحطاط النبض على إسهال تقدم ونداوة البدن على عرق وحاضر ينفع المريض وحده فيما ينبغي أن يدبر به نفسه كسرعة النبض على فرط الحرارة ومستقبل ينفعهما في الامرين المذكورين كحكة الانف والحمرة على أنه سيرعف ويكون من حيث ما يدرك به في الحس كهو في التقسيم والحس من العلامات لازم ولو من حيث الافعال لان المقوم للجوهر هو نفس الافعال من حيث هي أما من حيث التمام والنقص فمن اللوازم. واختلفوا في ترادف الدليل والعرض والأصح اختلافهما لأنهما من حيث الطبيب أدلة والمريض أعراض وما قيل إن العرض أعم يلزم عليه أن يكون لنا دليل ليس بعرض وهو غير ظاهر، والعلامات إما جزئية كالكائنة لمرض بعينه كحمرة العين واختلاط العقل على البرسام أو كلية تدل على كل مرض دلالة مطلقة وإن كانت قابلة للتفصيل والأول يذكر في مواضعه من الباب الرابع. والثاني إما أن يدل على حال البدن كله وهو النبض أو أكثر وهو القارورة أو يؤخذ من ظاهره فقط الدلالة على حالاته كلها وهو الفراسة أو بعضها كبياض الشفة السفلى على مرض المقعدة وكل يأتي مفصلا. ولما كان غرض الطب النظر في بدن الانسان من حيث أحواله الثلاثة التي عرفتها أتينا على أقسامها ليستحضرها العامل بها وهذا هو التقسيم الأول وسيأتى الثاني الذي نسبته إلى الأول كالشخص إلى النوع، فلنبدأ في أحكام التدبير مقدمين أحوال الصحة لأنها الأصل في الأصح وهو تتم بتدبير الأسباب الضرورية وقد وعدنا بها في أماكنها فلنتكلم في أمورها الكلية.
* (فصل) * اعلم أن المتناول إما فاعل بالمادة والكيفية ذاتا وعرضا وهو الغذاء أو بالكيفية فقط وهو الدواء أو بالصورة وهو ذو الخاصية موافقة كالبادرزهر أو مخالفة كالسم فهذه بسائط المتناولات مثل الخبز والسقمونيا، وقرن الأيل والزرنيخ فان تركبت نسبت إلى ما غلب عليها فيقال لنحو الماش غذاء دوائي لأنه يفعل بالمادة والكيفية ولنحو الاسفاناخ دواء غذائي لان فعله بالكيفية أكثر ولنحو البنج دواء سمى لأنه يفعل بالكيفية أكثر من الصورة وعكسه البلادر وقس على هذا ما ستقف عليه في المفردات إن شاء الله تعالى، ثم الغذاء إما رقيق لطيف كالاسفاناخ أو غليظ كالجبن أو معتدل كمرق الحملان وكل منهما إما جيد كمرق الفراريج والبيض والسمك الصغار أو معتدل كمرق الجدي والحمص والجبن الطري أو ردئ كالخردل والثوم والبصل وكل إما كثير الغذاء كالنيمرشت أو معتدله كمرق الحمص بالعسل أو قليله كسائر البقول فعلى حافظ الصحة أن يستعمل المعتدل من كلها والناقة اللطيف ومريد القوة كأواخر النقاهة الغليظ. ويجب اجتناب ما عدا التين والعنب من الفواكه إلا السفرجل لكثير البخار والكمثرى للصفراوي والتفاح لذي الخفقان إلى غير ذلك ولا بأس بأكل يابسها وما مضت عليه أيام من قطعه ويجتنب تناول الخبز الحار لاحداثه العفونة والبخار ولطيف فوق كثيف كبطيخ على لحم وما عهد من جمعه الضرر الشديد إما لاتفاقه طبعا كسمك ولبن وما قيل من أن أكلهما كالاستكثار من أحدهما فباطل لاختلاف الصورة الجوهرية. على أن هذا البحث لا ينفى الضرر إذ الاكثار ضار مطلقا أو طعما كزبيب وعسل لا قصب وسكر لاتحاد النوع. وإما بالخاصية كهريسة ورمان وعنب وورس وأرز وخل وعدس وماش ولبن ودجاج وبطيخ أصفر وعسل. ويجب محاذاة الفم بما يتناول منه وتصغير اللقمة وطول المضغ وكونه بكرة في الصيف ووسطا في الشتاء وأكثره مرتان في اليوم والليلة وأقله واحدة وأن لا يدخل غذاء على آخر قبل هضمه كالأطعمة المختلفة في وقت واحد إذا سلك بها الطريق
صفحة ١٧
الصحيحة في الترتيب. واعلم أنه لا ترتيب بين الحلو وغيره إذ لابد وأن تجذبه المعدة إلى نفسها وإن أكل أخيرا وإنما الترتيب في غيره ولا يجوز التملي بحيث تسقط الشهوة بل يقطع وهى باقية ومتى كان الصدر ثقيلا وطعم الغذاء في الجشاء والثفل لم يخرج لم يجز التناول. ويجب على من وثق بنقاء بدنه أن لا يتناول طعاما حتى تشتهيه معدته أما ذوو الاخلاط فلا يصابر والجوع خصوصا المحرورين فإنها تنصب إلى المعدة فتفسد الشاهية ونقل عن الطبيب أنه مكث مدة عمره لم يأكل الرمان والتوت وكان يقول إن لي بدنا يضره الرمان والتوت وزاد بعضهم البطيخ والمشمش وقالوا إن هذه الأربعة تتكيف بما غلب على البدن من الاخلاط وعندي أنه ينبغي أن تؤكل وتتبع بما يصلحها كالسكنجبين أو تخرج بالقئ أو الاسهال فإنها تورث التنقية وينبغي أن يمزج بالحلو الحامض والحريف والمالح بالدسم والقابض بالمحلل وأن يكثر البلغمي ما احتمل من الحلو والسوداوي من الدهن والصفراوي من الحامض والدموي من نحو العدس والباقلاء لما في ذلك من التعديل وأن يجعل الغذاء مضادا للزمان فيستكثر في الربيع من البارد اليابس كالزرشكيات والممزوجات ويهجر الحلاوات واللحوم والبيض ويبالغ في الصيف من نحو اللبن والبقول الباردة الرطبة ويهجر كل حار يابس كلحم الجمل والحمام والحجل والخريف عكس الربيع والشتاء عكس الصيف. ومن وصايا الحكماء في هذا المحل من أراد البقاء ولم يبق إلا الله فليباكر بالغداء ولا يتماسى في العشاء ولا يأكل على الامتلاء فإنما يأكل المرء ليعيش لا أنه يعيش ليأكل. ولبعضهم من اجتنب النتن والدخان والغبار ولم يمتلئ من الطعام ولم يأكل عند المنام ونقى الفضول في معتدلات الفصول كان حريا بأن لا يطرقه المرض إلا إذا حل الاجل. وقال أبقراط بالغ في الدواء ما أحسست بمرض ودعه ما وثقت بالصحة والحمية في أيام الصحة كالتخليط في أيام المرض وأخذ الدواء عند الاستغناء عنه كتركه عند الحاجة إليه. وقال جالينوس من أقلل مضاجعة النساء واجتنب الاكل عند المساء ولم يقرب ما بات من الطعام أمن من مطلق الأسقام، واستوصى بعضهم طبيبا فقال دع الامتلاء وأقلل من الماء واهجر النساء ولا تأكل ما يورث الهضم العناء تأمن من الأذى، وقال بعض الفضلاء من بات وفى بطنه شئ من التمر فقد عرض نفسه لأنواع البلاء، ومن تناول عند النوم قليلا من الجوز فقد حصن نفسه من الأذى، ومن تناول اللبن والحوامض أسرعت إليه الأمراض، ومن لم يرتض قبل أكله فليستهدف للمزمنات. ومن القوانين الكلية لسائر الأمزجة الرياضة قبل الاكل وستأتى والدخول إلى الخلاء وعدم شرب الماء إلى حين الهضم فمن لم يستطع فليأخذ القليل من الماء البارد مصا من ضيق بعد مزجه بنحو الخل. وأما المشروبات فيعدل لها المزاج من أرادها كالبنفسجي للصفراوي والعسلي للبلغمي والفاكهي للسوداوي والليموني للدموي وسيأتى بسط ما في الماء والأشربة من النفع والضرر والجيد والردئ في الباب الثالث وإذا تقرر أنها لمجرد البذرقة فلا يجوز أخذها قبل الهضم ولكنه مرجوح والصحيح أن الأشربة حتى الشراب الصرف مشتملة على البذرقة والترقيق والتغذية وإيصال المأكولات إلى أقاصى العروق فليحذ بها حذو الغذاء أما الماء فلا تغذية فيه كما ستراه فلا يؤخذ بعد الأسباب الضرورية كالنوم والحركة ولا بعد تتابع الاستفراغ كجماع وحمام، وأما منع بعضهم عن الشرب قائما وباليسار فقد قال الأكثر هو غير طبي والصحيح أنه مع غير الجلوس ضار وكذا بالثقيل والواسع، وأما باليسار فان ثبت أنه شرعي فصاحب الشرع أدرى بما فيه ومجرد النهى دليله إذا ثبت وإن لم يقله الأطباء هذا ما يليق تحريره في هذا الباب وسيأتي باقي العلم في مواضعه.
صفحة ١٨
* (الباب الثاني في القوانين الجامعة لأحوال المفردات والمركبات) * وما ينبغي لكل منهما ونتكلم عليه بقول كلي إذ التفصيل موكول إلى الحروف المرتبة بعد ويشتمل هذا الباب على فصلين (الأول) في أحوال المفردات والمركبات وما ينبغي أن تكون عليه. اعلم أن هذا الفن هو الفن الأعظم والعمدة الكبرى في هذه الصناعة والجاهل به مقلد لا يجوز الركون إليه ولا الوثوق به ولا في أمر نفسه لاحتمال أن يأكل السم ولم يدر فان بعض المفردات في أشخاصها نفسها منها ما هو سم كالأسود من الغاريقون والأغبر من الجندبادستر والأزرق من الحلتيت إلى غير ذلك ولا شبهة في أن الجاهل بالمفردات متعذر عليه التركيب لقلة من يوثق به بل لعدمه الآن فعليك بالاجتهاد في تحرير هذا الفن وتركيبه وتحقيقه وتهذيبه والناس تظن أن معرفته لا تتم إلا بالوقوف على النبات في سائر حالاته العارضة له من يوم طلوعه إلى وقت قطعه ولعمرى هذا ليس بلازم لسهولة الوصول إلى سائر المفردات بما عدا السمع من الحس وخصوصا في زماننا هذا فقد أتقن السلف رحمهم الله تعالى ذلك حتى وجدناه مهذبا مرتبا فنحن كالمقتبسين من تلك المصابيح ذبالة والمغترفين من تلك؟؟ بلالة، وأول من ألف شمل هذا النمط وبسط للناس فيه ما انبسط ديسقريدوس اليوناني في كتابه الموسوم بالمقالات في الحشائش ولكنه لم يذكر إلا الأقل حتى إنه أغفل ما كثر تداوله وامتلا الكون بوجوده كالكمون والسقمونيا والغاريقون ثم روفس فكان ما ذكره قريبا من كلام الأول ثم فولس فاقتصر على ما يقع في الاكحال خاصة على أنه أخل بمعظمها كاللؤلؤ والأثمد ثم أندروماخس الأصغر فذكر مفردات الترياق الكبير فقط ثم رأس البغل الملقب بجالينوس وهو غير الطبيب المشهور فجمع كثيرا من المفردات ولكنه لم يذكر إلا المنافع خاصة دون باقي الأحوال ولم أعلم من الروم مؤلفا غير هؤلاء ثم انتقلت الصناعة إلى أيدي النصارى فأول من هذب المفردات اليونانية ونقلها إلى اللسان السرياني دويدرس البابلي ولم يزد على ما ذكروه شيئا حتى أتى الفاضل المعرب والكامل المجرب إسحق بن حنين النيسابوري، فعرب اليونانيات والسريانيات وأضاف إليها مصطلح الأقباط لأنه أخذ العلم عن حكماء مصر وأنطاكية واستخرج مضار الأدوية ومصلحاتها ثم تلاه ولده حنين ففصل الأغذية من الأدوية فقط ولم أعلم من النصارى من أفرد هذا الفن غير هؤلاء وأما النجاشعة فلهم كثير من الكناشات ثم انتقلت الصناعة إلى الاسلام وأول واضع فيها الكتب من هذا القسم الإمام محمد بن زكريا الرازي ثم مولانا الفرد الأكمل والمتبحر الأفضل الأمثل الحسين بن عبد الله بن سينا رئيس الحكماء فضلا عن الأطباء فوضع الكتاب الثاني من القانون وهو أول من مهد لكل مفرد سبعة أشياء وأخل بالأغلب إما لاشتغال باله أو لعدم مساعدة الزمان له ثم ترادفت المصنفون على اختلاف أحوالهم فوضعوا في هذا الفن كتبا كثيرة من أجلها مفردات ابن الأشعث وأبي حنيفة والشريف بن الجزار والصائغ وجرجس بن يوحنا وأمين الدولة وابن التلميذ وابن البيطار وصاحب مالا يسع وأجل هؤلاء الكتب الكتاب الموسوم بمنهاج البيان صناعة الطبيب الفاضل يحيى بن جزلة رحمه الله تعالى فقد جمع المهم من قسمي الافراد والتركيب في ألطف قالب وأحسن ترتيب. وأظن أن آخر من وضع في هذا الفن الحاذق الفاضل محمد بن علي الصوري، وكل من هؤلاء لم يخل كتابه مع ما فيه من الفوائد عن إخلال بالجليل من المقاصد إما ببدل أو إصلاح أو تقدير أو إطلاق للمنفعة وشرطها التقييد ككي الثآليل بعود التين والشرط أن يكون ذكرا ونفع البنج للأسنان والشرط أن يكون في غير فارس فإنه سم هناك وبالعكس كقولهم في دهن النفط إنه يحلل الأورام طلاء والحال أنه يحلل الأورام
صفحة ١٩
الباردة خاصة كيف استعمل كالتنطيل وكالتخليط والتكرار من جهة الأسماء كذكرهم القطب في محل وقاتل أبيه في آخر وكلاهما واحد وفى المراتب والدرج كقولهم في الاورمالى إنه خار ولم يذكروا في أي درجة وهل هو يابس أو رطب وفى الماهية كقولهم في الا كتامكت دواء هندي وما الذي تدل عليه هذه اللفظة من ماهية الدواء وفى المضار كقولهم في الزنجبيل إنه يضر باللثة مع أنه ضار بالصفراويين مطلقا وبالكلى المهزولة وفى المصلحات كقولهم في السقمونيا ويصلحها الإهليلج الأصفر مع أن هذا في الصفراويين خاصة أما في البلغميين فلا يصلحها إلا الانيسون خاصة وفى السوداويين الكثيرا أو في الأوزان كقولهم في الماهودانة إن حد الشربة منها خمس عشرة حبة. ولعمرى إن هذا القدر قاتل لا محالة مطلقا وفى حب النيل إن حد الشربة منه نصف درهم ولقد شاهدت من شرب منه ثمانية عشر درهما إلى غير ذلك مما ستراه في كتابنا هذا ولقد ترجمنا هؤلاء مع غيرهم من الحكماء في طبقاتنا وذكرنا ما اشتملت عليه كتبهم ونحن إن شاء الله ذاكرون في هذا الباب والذي يليه ما أغفله أهل هذه الصناعة وما حدث من الأدوية والتجارب لهم ولنا إلى يومنا هذا وهو مفتتح ربيع الآخر من شهور سنة ست وسبعين وتسعمائة من الهجرة على مشرفها أفضل الصلاة والسلام سالكين طريق الايجاز غير موكلين من يطالعه إلى الاعواز والله سبحانه وتعالى السئول في التوفيق للاتمام وبقائه نافعا للأنام على صفحات الدهور ما بقيت الأيام.
* (فصل) * اعلم أن كل واحد من هذه المفردات يفتقر إلى قوانين عشرة (الأول) ذكر أسمائه بالألسن المختلفة ليعم نفعه (الثاني) ذكر ماهيته من لون ورائحة وطعم وتكرج وخشونة وملاسة وطول وقصر (الثالث) ذكر جيده ورديئه ليؤخذ أو يجتنب (الرابع) ذكر درجته في الكيفيات الأربع ليتبين الدخول به في التراكيب (الخامس) ذكر منافعه في سائر أعضاء البدن (السادس) كيفية التصرف به مفردا أو مع غيره مغسولا أولا مسجوقا في الغاية أولا إلى غير ذلك (السابع) ذكر مضاره (الثامن) ذكر ما يصلحه (التاسع) ذكر المقدار المأخوذ منه مفردا أو مركبا مطبوخا أو منشفا بجرمه أو عصارته أوراقا أو أصولا إلى غير ذلك من أجزاء النباتات التسعة (العاشر) ذكر ما يقوم مقامه إذا فقد سيتلى عليك كل ذلك إن شاء الله تعالى. وزاد بعضهم أمرين آخرين الأول الزمان الذي يقطع فيه الدواء ويدخر كأخذ الطيون حادى عشر تشرين الأول يعنى خامس عشر بابه فإنه لا يفسد حينئذ، والثاني من أين يجلب الدواء ككون السقمونيا من جبال أنطاكية ويترتب على ذلك فوائد مهمة في العلاج، فقد قال الفاضل أبقراط عالجوا كل مريض بعقاقير أرضه فإنه أجلب لصحته ولا شك في الاحتياج إليهما فسأذكرهما إن شاء الله تعالى لئلا نخل بما يحتاج إليه وأما كون المفرد من استخراج فلان وأول من داوى به شخص بعينه لشخص معين فأمر لا يترتب عليه في العلاج شئ فلا نطيل باستيفائه.
* (فصل) * وإنما كان التداوي والاغتذاء بهذه العقاقير للتناسب الواقع بين المتداوى والمتداوى به وذلك أن الأجسام إما متناسبة متشابهة الاجزاء متحدة الجواهر وهذه هي البسائط، ثم إما أن ترد على بدن الانسان أولا. الثاني الفلكيات والأول العناصر وقد علمت حكمهما أو غير متألفة متشابهة وهى المركبات إما بلا صورة نوعية وتسمى طينا إن قامت من التراب والماء وزبدا من الماء والهواء وبخارا من الماء والنار وغبارا من الهواء والتراب ولا اسم لما قام من الهواء والنار لسرعة تحلله كما قرروه أو بها. فإما أن لا تكون ذا قوة غاذية ولا نامية وهى المعدنيات. إما محكمة التركيب ذائبة كالزئبق أو جامدة إما محفوظة الرطوبة بحيث تحلها الحرارة وهى المنطرقات
صفحة ٢٠