قال المؤلف رضي الله عنه: وبالجملة فهما طرفان وواسطة, فالمقتصد اللازم للقصد وهو ترك الميل فلذلك كان المقتصد منزلة بين المنزلتين, فهو فوق الظالم لنفسه ودون السابق للخيرات. قال الله تعالى: {جنات عدن يدخلونها} فجمعهم في الدخول لأنه ميراث, والعاق والبار في الميراث سواء إذا كانا معترفين النسب, فالعاصي والمطيع مقران بالرب, وعلى هذا الفرق الثلاث ناجية إن شاء الله تعالى وهو قول عمر وعثمان وأبي الدرداء وأبي سعيد الخدري وعائشة رضي الله عنها, ومن التابعين إبراهيم النخعي وكعب الأحبار وغيرهما قال عثمان: هم أهل ديننا, يعني الظالم لنفسه. وقال عمر: سابقنا سابق, ومقتصدنا ناج, وظالمنا مغفور له. وقال أبو الدرداء: السابق يدخل الجنة بغير حساب, والمقتصد يحاسب حسابا يسيرا, والظالم لنفسه يؤخذ منه ثم ينجو. فذلك قوله تعالى: {الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن} وقال كعب: هذه الأمة على ثلاث فرق كلها في الجنة ثم تلا: {ثم أورثنا الكتاب الذي اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه} إلى قوله: {جنات عدن يدخلونها} فقال: دخلوها ورب الكعبة. وبعد هذا للكفار وهو قوله تعالى: {والذين كفروا لهم نار جهنم} وخرج أبو داود الطيالسي في مسند, قال حدثنا الصلت بن دينار أبو شعيب قال: حدثنا عقبة بن صهبان الهنائي قال: سألت عائشة رضي الله عنها عن قول الله تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا} الآية فقالت لي: يا بني كل هؤلاء في الجنة, أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحياة والرزق, وأما المقتصد فمن تبع أثره من أصحابه حتى لحق به, وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلك. قال فجعلت نفسها معنا. وقال أبو إسحاق السبيعي أما الذي سمعناه من ستين سنة فكلهم ناج. وروى أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وقال: {كلهم في الجنة} وقد روى مرفوعا عن عمر وأبي الدرداء بمثل ما ذكرنا عنهما. والتقدير على القول أن يكون الظالم لنفسه هو الذي عمل الصغائر, والمقتصد قال محمد بن زيد هو الذي يعطي الدنيا حقها والآخرة حقها. فيكون (جنات عدن يدخلونها) عائدا على الجميع على هذا الشرح والتبيين, ويكون مفعول الاصطفا مضافا حذف كما حذف المضاف في قوله تعالى: {واسئل القرية} أي الذين اصطفينا دينهم فبقي اصطفيناهم فحذف العائد إلى الموصول كما حذف في قوله: {ولا أقول للذين تزدري أعينكم} أي تزدريهم فالاصطفا إذا موجه إلى دينهم كما قال: {إن الله اصطفى لكم الدين} قال أبو جعفر النحاس: وقول ثالث يكون الظالم صاحب الكبائر والمقتصد الذي لم يستحق الجنة بزيادة حسناته على سيئاته, فيكون جنات عدن يدخلونها للذين سبقوا بالخيرات لا غير. وهذا قول جماعة من أهل النظر لأن الضمير في حقيقة النظر لما يليه أولى.
صفحة ٦١