لنكتف إذن بالحديث القصير عن عدد قليل.
لا يشك أحد اليوم في أن أكبر شعراء الحركة التعبيرية هم «جورج تراكل» و«جورج هايم» و«جوتفريد بن» (في مرحلته الأولى بوجه خاص). والثلاثة الكبار يمثلون نماذج إنسانية وفنية مختلفة، كما يعدون قمما أدبية رفيعة في الأدب الألماني الحديث، وأعمالهم تشغل النقاد والدارسين في الوقت الحاضر وتغري المزيد منهم بالكشف عن أسرارها وتفهم عالمها الساحر الفريد. فأما «هايم» و«تراكل» فقد ماتا في شرخ الشباب؛ غرق الأول في الرابعة والعشرين من عمره مع صديق له أثناء التزحلق على الجليد، وقتل الثاني نفسه بالإدمان على المخدرات التي كانت قريبة منه بحكم مهنته (فقد كان صيدليا)، بعد أن عجز عن احتمال أهوال الحرب التي لمسها بنفسه عندما كان مجندا في الخدمات الطبية. وأما «جوتفريد بن» فهو من الشعراء القلائل الذين امتد بهم العمر بعد زوال التعبيرية (مات سنة 1956)، ونحا في شعره بعد سنة 1925 نحوا أقرب إلى الكلاسيكية.
لنبدأ بالكلام عن «جورج هايم».
إنه من أعمق الشعراء التعبيريين رؤية وأشدهم يأسا وكآبة. وهو كذلك من أقلهم دعوة للإنسان الجديد الذي طالما هتفوا باسمه أو انتظروا مقدمه؛ فالموت يحوم بأجنحته السود فوق أشعاره، والموت يلفها في ظلماته الكثيفة. لقد صور هول المدينة الكبيرة، وتنبأ بفظائع حربين عالميتين. ربما اشتط خياله إلى حد الهذيان والهلوسة، ولكن صوره الشعرية قوية مؤثرة، تكاد تلمس اليد والعين بتفاصيلها الحسية وألوانها الحادة وملامحها البارزة. وقد تكون استعاراته في بعض الأحيان مفتعلة وأساطيره ورؤاه بعيدة شديدة المبالغة، ولكن فيها مسحة من الجلال لا تقاوم. وإذا أمكن أن نقارنه بأحد الشعراء، فلا شك في أن حياته العاصفة وسخطه على المدينة والطبقة الوسطى، وقوة شعره ورجولته وعنفه تقربه من شخصية الشاعر الفرنسي العظيم أرتور رامبو، كما تقربه - في مجال فني آخر - من شخصية فان جوخ الذي كان يحبه ويعجب به. وإنتاجه قليل في مجموعه، فهناك إلى جانب أشعاره مذكراته اليومية الغنية بصدق العاطفة ودقة التعبير عن روح جيله اليائس الساخط الملول، وهناك مجموعة قليلة الشأن من الأقاصيص والحكايات التي لا يمكن أن تقارن بأشعاره من حيث القوة والقدرة على التأثير. وقد يكفي أن نقرأ إحدى قصائده المشهورة - وهي «الحرب» - ونحللها تحليلا سريعا بسيطا. تقول القصيدة:
الحرب
1
نهض من رقاده، من طال نومه،
نهض من الأقباء المنخفضة العميقة.
يقف في الشفق، ضخما ومجهولا،
يسحق القمر في اليد السوداء. •••
صفحة غير معروفة