إن العالم المألوف يتفتت عند تراكل إلى أكوام من الصور المتعارضة المتجاورة، تدل صيغها الملغزة المحيرة على عالم باطني غامض يؤثر أن ينطوي على سره، وهو في مجموعه شعر وحيد، يكشف عن الرعب الكامن في الجمال، ويرفع النقاب عن سحر الوجود، ويعبر عن الشوق الأخرس المحموم إلى اللامحدود، والحنين إلى الخلاص من أسر الموت والخطيئة، وانتظار النجاة التي ينعم بها الله أو تأتي بها الطبيعة العظيمة في صبر وتواضع وسكون ...
إن شعر تراكل يفيض - كما قدمت - بالكآبة، ولكنه يعبر عن هذه الكآبة بلغة موسيقية موحية، تجمع بين الجمال الرقيق والرعب الخانق. وهو بهذا التوحيد بين النقيضين يذكرنا بشعر بودلير الذي يصور أبشع ألوان القبح والقسوة والفساد والظلام بأسلوب ينم عن روح جميل نقي طيب شفاف؛ ولذلك فإن مكانة تراكل في الأدب الحديث لا يكاد يشبهها إلا مكانة بودلير أو هولدرلين. ولنقرأ معا إحدى قصائده التي تبين قدرته على التغلغل إلى أقصى أطراف الوجود مع احتفاظه بأسلوبه الرقيق الهادئ العميق، والقصيدة عنوانها الجرذان، وقد رتبها ناشر شعره مع بعض القصائد الأخرى تحت عنوان «الفلاحون».
في الفناء يبدو قمر الخريف ناصع البياض.
من حافة السقف تسقط ظلال غريبة كالأحلام.
في النوافذ الخاوية صمت مقيم؛
عندئذ تظهر الجرذان بغير ضوضاء. •••
وتجري مصفرة هنا وهناك،
وخلفها تزحف أنفاس من البخار،
مغبرة آتية من المراحيض،
التي ترتعش في ضوء القمر كالأشباح. •••
صفحة غير معروفة