من الطبيعي لإنسان ذاق الرق في مطلع حياته أن تكون الحرية هي مدار حديثه وملاك تفكيره، «فالاشتغال بالفلسفة هو الاشتغال بتحرير النفس.» و«نحن لا نملك إلا حريتنا.» والحرية هي «أغلى النعم التي نحوزها في هذه الحياة.» والحرية هي أن يسلك الإنسان وفقا لإرادته واختياره فلا يقهره أحد على غير ما يريد. إنها حرية النفس التي تعرف كيف تحكم نفسها وفق قانون تسنه لنفسها.
وإذا تأمل الإنسان نفسه «ليعرفها» وفقا لمبدأ سقراط، فسوف يتبين له أنه مستعبد لأشياء كثيرة؛ فهو عبد لجسمه، عبد للمال، عبد للجاه والسلطان. فإذا ما أراد لنفسه الحرية الحقيقية فليلتمسها لا في الأشياء الخارجية، ولا في جسمه ولا في ماله وجاهه؛ فكل ذلك مجرد رق أخلاقي، بل إنه واجدها في نفسه وفي شيء مستقل كل الاستقلال؛ وهو «قدرته على الحكم والإرادة ... ولا شيء من الخارج يستطيع أن ينال حرية النفس بسوء» (المحادثات، 1: 17-21). فحرية الإنسان تفلت من سلطان الناس وسلطان الأشياء، و«نحن لا نملك إلا حريتنا» (المحادثات، 1: 4-27). والإله الذي منحنا الحرية محال أن يسلبنا إياها؛ فالمنحة الإلهية لا تسترد كالمنح البشرية.
33
والفيصل في أمر الحرية هو أن يفرق الإنسان بين ما في قدرته وما ليس في قدرته. ثمة أشياء ليست في قدرتنا واختيارنا؛ أجسامنا وأموالنا ومناصبنا ... إلخ، وأشياء في قدرتنا وتحت تصرفنا ونستطيع أن نوجهها كما نشاء؛ أفكارنا وعواطفنا وإرادتنا وأفعالنا وأحكامنا. علينا أن نتخذ أحكاما موافقة لطبيعة الأشياء، فنعرف أن حدوث الأشياء أمر ضروري فنذعن لها ونتقلبها كما أوجدها مصرفها جل وعلا، وألا يصيبنا منها أي كدر أو ابتئاس؛ فليست الأشياء هي ما يكدرنا بل حكمنا على الأشياء وتقييمنا لها. أما الأشياء ذاتها فمتساوية القيمة
indifferent
أي ليست بذاتها خيرا ولا شرا، إنما الخير والشر في إرادتنا؛ فإرادتنا وحدها تستطيع بإقرارها أو رفضها أن تعطي الأشياء قيمها. وإذا كان الحكيم الرواقي قد ألغى في نفسه كل انفعال فإنما يفعل ذلك لكي يخلي المكان لفعل الإرادة. «احتمل وتزهد» ... ربما تكون هذه خلاصة فكر إبكتيتوس ولباب الأخلاق الرواقية. احتمل (ما أصابك، وما ليس في مقدورك تغييره، ما ليس في ذاته خيرا ولا شرا)، وتزهد (فيما لا تملكه، ما ليس في مقدورك بلوغه، ولا هو في ذاته خير ولا شر).
ويتحدث إبكتيتوس عن أواصر القربى بين الإله والناس! ويجعلها مبدأ لفكرة عظمة النفس وفكرة الإخاء بين بني الإنسان، ويفضلها، كوثاق يربط الناس جميعا، على فكرة اشتراك الناس في العقل.
الفصل الثاني: رواقية ماركوس أوريليوس قراءة في «التأملات»
(1) رواقية معدلة
كانت رواقية ماركوس أوريليوس رواقية معتدلة ومعدلة؛ فقد اطرح ماركوس بعض مبادئ الرواق، ولم يغل في بعضها الآخر غلو القدامى، وتجنب الخوض في المنطق والطبيعيات، ودون خواطره الشخصية بأسلوب بسيط، في الأغلب الأعم، تجنب فيه ذكر المصطلحات الفنية والتخريجات المعقدة، بذلك قدم للرواقية صيغة سلسلة سائغة قريبة المأخذ، فكانت «آخر رسالة بعث بها العالم القديم إلى الأجيال المقبلة.»
صفحة غير معروفة