فقد جعل الاتفاق مع إنكلترا غامضا في التعبير عن تعيينه؛ ليفهم السودانيون أن الخديوي قد عينه منفردا بهذا التعيين كعادتهم في العبارات السياسية .
فأي قول فوق هذا القول يدحض مزاعم القائلين بنفور السودان من حكم مصر وعد السودانيين أمة منفصلة عن الأمة المصرية، ولولا وثوق الجنرال ونجت من ميول السودانيين وعواطفهم لافتتح منشوره باسم جلالة الملكة، ولأورد اسم حكومة مصر أو خديويها على الأسلوب الذي أورد فيه اسم «دولة بريطانيا العظمى».
وإذا نحن عدنا إلى كتاب الجنرال ونجت ذاته وإلى غيره من المؤلفين عرفنا أن الذين يعتد بهم في السودان ويعدون الأمة السودانية هم العرب الذين وفدوا على السودان من مصر، فهم الأسياد وهم أصحاب النفوذ وهم السودان.
فإذا أخذنا بقولهم هم وبقول علمائهم فليقل لنا أولئك الكتاب الذين يزعمون أن مصر أمة والسودانيين أمة كيف التوفيق بين أقوال المؤرخين الخبراء من الإنكليز ذاتهم وبين ادعائهم هم، ألا يحق لنا أن نقول إنه ادعاء لا يبرره سوى السياسة أو هو ادعاء لتبرير السياسة فقط. •••
لم يكن خروج الجيوش المصرية من السودان في سنة 1884 و1885 تخليا عن السودان حتى يصبح «ملكا لا مالك له» فيستبيح دخوله وامتلاكه كل من استطاع إلى ذلك سبيلا؛ بل عد إخلاء السودان عملا عسكريا فقط قضت به الضرورة العسكرية، والشاهد الأكبر على ذلك الأمر العالي الخديوي الصادر في 15 يناير 1884 فإن هذا الأمر نص صريحا على إلحاق إقليم السودان المصري بوزارة الحربية المصرية، وظل هذا الأمر نافذا، وظلت وزارة الحربية تتولى شئون السودان إلى أن انتهت الثورة واستعيدت البلاد، والشاهد الثاني: كتاب بطرس باشا غالي وزير الخارجية المصرية إلى اللورد كرومر في 9 أكتوبر سنة 1898 ردا على مذكرة منه، قال فيه ما نصه: «إن حكومة سمو الخديوي كما تعرف سيادتكم لم تهمل في وقت من الأوقات أمر العودة إلى احتلال أقاليمها في بلاد السودان، تلك الأقاليم التي هي منبع حياة مصر، وهي إذا كانت قد انسحبت منها مؤقتا فإنما كان ذلك عقيب ظروف بقوة قاهرة، فاستعادة الخرطوم لا توصل إلى الغرض المراد منها إذا لم يعد وادي النيل كله - الذي ضحت مصر في سبيله الضحايا العظيمة - إلى يدها وقبضتها، ولعلمي أن مسألة فاشودة هي الآن موضوع المكالمة بين بريطانيا العظمى وفرنسا، فالحكومة المصرية قد كلفتني أن أسأل سيادتكم أن تولينا وساطتكم الطيبة لدى اللورد سالسبوري حتى يعترف لمصر بحقوقها التي لا تقبل شكا، وحتى تعاد إلى مصر جميع الأقاليم التي كانت لها إلى يوم فتنة محمد أحمد.»
وإذا كان كتاب بطرس باشا غالي قد اتخذ يومئذ حجة على فرنسا في فاشودة فإنه يعد أيضا حجة قائمة على الإنكليز إلى الأبد؛ فالإنكليز اعتمدوا في مكالمة الفرنساويين في مسألة حدود السودان المصري على هذا الكتاب، وعلى الخريطة التي وضعها غوردون سنة 1879 وفي كتاب بطرس باشا ذكر «الأقاليم التي كانت تحكمها مصر حتى ثورة المهدي» ومعلوم أن أمين باشا كان يحكم إقليم خط الاستواء حتى 10 يناير 1889، وفي خريطة غوردون أن من إقليم لادو المنطقة الواقعة على الضفة اليسرى من النيل في سورمست، وهي المنطقة التي تصل بحيرة فيكتوريا نيانزا ببحيرة ألبرت نيانزا، وعلى هذه المنطقة يخفق الآن العالم الإنكليزي وحده، ولم يكن في سنة 1884 شريك للعلم المصري في تلك الأرجاء، وتدل خريطة غوردون أيضا على أن هرر وزيلع وبربره أراض مصرية، وقال غوردون: إن حاميتها كانت 3400 جندي، ونفقات بربره 17229 جنيها، ونفقات زيلع 5061 جنيها، ونفقات هرر 43229 جنيها، وأن مصوع كانت تابعة لسواكن.
وقد عرف القارئ من كلامنا السابق أن إنكلترا عاملت السودان معاملة «ملك لا مالك له» فظلت تأخذ منه وتعطي حتى سنة 1895 أي حتى اتفقت مع ألمانيا وإيطاليا، وشعرت بثبوت قدمها في مصر، فعادت إلى التمسك بحقوق مصر ولم يحسب لمصر في ذلك كله حساب حتى إن اتفاقها مع وزير خارجية مصر في 19 يناير 1899 لم تقره الأمة المصرية وهيئتها النيابية، وهو ذلك الاتفاق الذي يجعل إنكلترا شريكة مصر في السودان، وأجمع رجال القانون على أن هذا الاتفاق مخالف للشرائع والقوانين .
سلخ السودان وطريق المواصلات الإمبراطورية
مصر والسودان وقناة السويس وفلسطين والعراق وإيران لازمة لإنكلترا؛ لأنها طريق الهند كما يقول اللورد كرزون فيصفق النواب لقوله ولبلاغة حجته (؟) وإذا قالت مصر: السودان مني ولي وأنا له وهو حياتي ومني وحدي كانت حياته. صاح الكتاب الإنكليز يا لها من بدعة ويا للحق من الجور؟!
ظلت إنكلترا قرنا تنقض من قوة مصر وتأبى عليها النمو إلى أن غنمت فرصة ثورة عرابي على الحكومة بحجة تحويل الحكم إلى يد الشعب فاحتلت البلاد، فاختل حبل الأمن في السودان فكانت إذا قال لها العالم: مصر. تجيبه: السودان. إلى أن جعلته شركة بينها وبين مصر يحلل هذه الشركة التي أمرت بها إنكلترا أمرا ولم يراع فيه شرع ولا قانون «أن الدول لم تعترض عليها» كما قالت المانشستر غارديان، وتجاهلت أن تركيا احتجت وهي صاحبة الشأن على فصل مصر عن السودان.
صفحة غير معروفة