فالأمير بشير ترك مسقط رأسه غزير وكل ثروته حمل جمل. ومحمد علي كان جنديا بسيطا. وضاهر العمر كان خادما. وهتلر كان دهانا. ونابليون كان لا رأس مال له غير الطموح ثم صار كل شيء، فلو وجد هؤلاء في بحبوحة لعاشوا راضين ولم يفكروا بالعظائم.
أريد منك أيها القارئ الكريم أن تسأل والدك إن كان فقيرا واغتنى، كيف بنى لك البيت الذي تسكنه، وامتلك العقار الذي تستغله؟ فلو ولد في حضن النعمة أما كان ظل حيث هو، أو باع ما ورث وصار من المعدمين؟
نعم الفقر مهماز؛ فأنا وأنت وهو لولا الحاجة ما بلغنا الغاية التي جرينا إليها، الفقر نعمة يا أخي، الفقر سوط يلهب ظهر الطامح، أما المخلع والكسيح فيقضي عليهما لأنهما يثبتان أمامه.
نقرأ كثيرا في الصحف السيارة في هذه الأيام، وخصوصا بعد الحرب الأخيرة، أن الدولة الفلانية تكافح الفقر وتطارده لتقضي عليه، ولو تأملنا بعين الفكر ونظرنا إلى من نبت في حديقة هذه الدنيا من النوابغ والجبابرة وأعاظم الرجال؛ لرأينا أن معظم هؤلاء كانوا من الذين عاشوا في الأكواخ، وأذاقهم الدهر لباس الجوع والخوف.
قال شاعر الإنجليز العظيم: «الفقر سلم الطمع.» والمثل الألماني يقول: «الفقر هو الحاسة السادسة.» وقال أحدهم: «الفقر مخيف وكثيرا ما يخمد عزائمنا.» ولكن ريح الشمال القارسة هي التي تحث الرجال ليندفعوا في ميادين البطولة، وأما النسيم العليل فإنه يجعلنا نستغرق في الأحلام العذبة اللذيذة.
وبعد، فليس الفقر عارا، فلا تخجل إن كنت من الفقراء، بل استح إذا كنت لا تأكل خبزك بعرق جبينك، اخجل إذا كنت لا تأكل لقمتك حلالا، فأطيب لقمة هي تلك التي تؤتدم بالتعب، فما أحلى طعام الفقير وألذه!
إنه طعام سريع الهضم يستحيل دما نقيا، ونشاطا يدفع صاحبه إلى المزيد من الفلاح، ففقرك يا صاحبي لا يدوم ما دمت تعمل، فكد ولا تيأس. اعلم أن فقراء كثيرين مثلك أصبحوا قادة للأمم كما قرأت في صدر هذا الكلام، فما ضرك لو تشبهت بهم، ولم تنظر إلى الغارقين في الثروة حولك وحواليك.
اسمع ما رواه الرئيس هنري ويلسن عن نفسه، قال: «ولدت فقيرا وذقت طعم سؤال الأم قطعة من الخبز وهي ليست لديها لتعطيني إياها، فكم كنت أبكي وأبكي ولا أحصل على غير الدموع المرة المالحة! وأخيرا فررت من بيتنا «الأسود» في العاشرة من عمري، وفي الحادية عشرة صرت خادما، وكان فرحي عظيما بهذا المنصب الجديد. كنت أتعلم شهرا في كل سنة، وبعد إحدى عشرة سنة من العمل الشاق كان لدي زوج عجول وستة خراف أكسبتني أربعة وثمانين دولارا. لم أنفق في عمري فلسا على ملذاتي، بل كنت أقبض بيدي الثنتين على كل درهم أستحوذ عليه ولا أخلي سبيله، هذا كان شأني من يوم نشأت إلى أن بلغت الحادية والعشرين.
مشيت عشرات الأميال لأسأل إخواني البشر عملا أعيش منه. وفي الحادية والعشرين صرت سائق عربة تجرها العجول لأقطع حطبا للمطحنة، وكنت أبكر في نهوضي كل يوم قبل الفجر وأظل أعمل حتى العتمة لأقبض مرتبا قدره ستة دولارات أسبوعيا، وكان كل دولار منها يلوح لي كأنه البدر في الليلة الظلماء.
وانتهزت الفرص لأكتسب التهذيب وأتقدم، فطالعت ألف كتاب مفيد قبل أن أبلغ الحادية والعشرين، ثم تركت المزرعة قاصدا ناتيك ماشيا مسافة مائة ميل لأتعلم السكافة، وبلغ كل ما أنفقته في رحلتي هذه دولارا واحدا لا غير. وما مرت علي سنة حتى انتخبت رئيسا لأحد نوادي المباحثات في ناتيك. وبعد مرور ثماني سنوات ألقيت خطابي المشهور ضد الاسترقاق والاستعباد في مجلس الولاية الاشتراعي، وبعد اثنتي عشرة سنة صرت أحد أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي.»
صفحة غير معروفة