كانت مثل هذه الشخصيات بالطبع تسليني وتملأ عيني الصغيرتين بدهشة سحرية لذيذة يصعب أن يحس بها الإنسان ذلك الإحساس الخالص بعد أن يتخطى دور الطفولة، ولكنها مع ذلك لم تحفر في ذهني وقلبي نفس الأثر الذي حفره فيهما ذلك الرجل العجوز الصامت الذي ما كنت لأفطن إليه لو لم يدلوني عليه. كان الطبيب يتحدث إلى أبي ويطمئنه على حالة عمتي حين مر علينا، وأحنى رأسه انحناءة لفتت انتباهي؛ لما كانت تنم عليه من أدب مبالغ لا يمكن أن يصدر إلا عن جنتلمان حقيقي كما يقولون في هذه الأيام. كانت ملابسه نظيفة مرتبة وأنيقة بلا تعمد ولا إفراط، وكان متوسط القامة ميالا إلى القصر، ضئيل الجسم، يسير دائما على أطراف أصابعه، ويبتسم لكل من يراه ابتسامة تضيء وجهه الهادئ الطيب الوديع، وتكاد تقول لك في كل مرة: أرجوك أن تعذرني؛ فليس ذنبي أنك تراني. وحين سألت الطبيب عنه تعجب من جهلي له، وضحك أبي معه ثم قال: ربنا بحاله! كيف لم تسمع عنه حتى الآن؟ ألا تقرأ الجرائد يا أخي؟ فلما نفيت أنني أعرفه وأبديت دهشتي من أنني لم أره في زياراتي السابقة قال موجها كلامه إلى أبي: أغلب الناس لا يتصورون أن هذا الرجل المؤدب إلى حد مخجل يمكن أن يقول عن نفسه ذلك. كنت أنتظر حين سمعت عنه هذا من الطبيب السابق أنني سأرى أمامي عملاقا مؤذيا يحطم الرءوس ويكسر الأبواب والنوافذ ويرعب النزلاء. ولكنني دهشت حين رأيته في أول مرور لي على المرضى. مرق من جانبي كالظل، وحين رآني أحنى رأسه ووضع يده على قلبه وابتسم ابتسامته الصامتة الخجولة. فلما أرسلت إليه التمرجي ليدعوه ويخبره بأنني أنا الطبيب الجديد رأيته يقبل نحوي كالعروس التي تتعثر في ثوب زفافها ويميل على أذني ويهمس: «أنا هنا الله. أرجوك لا تخبر أحدا!» وضحك الطبيب وقال: إنه فيما يقول التمرجية من أقدم نزلاء المصحة. يظهر أن أهله من الأغنياء الذين يملكون الإنفاق عليه كل هذه السنين بلا أمل في الشفاء. إنني لا أعرف متى دخل المصحة، حتى الطبيب الذي قبلي لم يعرف بالضبط متى دخلها. في بعض الأحيان يخيل إلي كأنه هنا من الأزل!
وبدأ اهتمامي يتركز على هذا المريض. نسيت الإسكندر الأكبر ودموعه وصوته الباكي الذي كان يصل إلي في بعض الأحيان، ونسيت المؤلف العجوز الذي كان يلح علي في كل مرة بأن أنتظر مقاله الذي سيصلح العالم، بل كدت أيضا أنسى عمتي المسكينة التي كانت تعيش لتنتظر زوجها الغائب، أو تنتظر لتبدأ العيش بعد أن يعود. ورحت أتتبع المريض المهذب، وأختلس الفرص لأراقبه من وراء زجاج النافذة وهو جالس في الحديقة، بل وأنتهز فرصة انشغال أبي مع الطبيب الذي كان يعرفه معرفة وثيقة لأنزل إلى الحديقة وأقترب منه. كان يجلس وحده على كرسي من الكراسي القش التي توضع عادة في حدائق البيوت حول موائد الشاي، مادا ذراعيه على ركبتيه، صامتا ومستغرقا في صمته كأنه تمثال في المتحف الفرعوني، يشع من وجهه ومن عينيه الساكنتين هدوء لا يمكن أن يكون له وجود إلا في جزيرة منعزلة صافية. كنت أعرف أنه، على الرغم من أدبه الشديد المحير، لا يكلم أحدا ولا يجيب على سؤال أحد، حتى الطبيب الذي يعالجه كان قد يئس من أن يخرج من شفتيه حرفا واحدا يكشف عن حالته أو يبين أثر العلاج عليه. ومع ذلك فلم يعرف اليأس طريقه إلى قلبي الصغير، بل كنت أحس إحساسا غامضا بأن «الله» سيتكلم معي وحدي من دون الناس جميعا.
في عصر يوم من أيام الجمعة كنت أتقدم منه في بطء وحذر حين سمعت صوتا ينادي علي قائلا: اقترب قليلا. تقدمت في وجل يحدوني الأمل الغامض وقلت: سمعت أنك لا تكلم أحدا ولا ترضى أن يكلمك أحد. ابتسم وقال مشجعا: أنا لا أتكلم إلا مع الأطفال. لماذا تأتي إلى المصحة؟ قلت: لأزور عمتي. قال: الست زكية؟
قلت نعم. فسأل: وماذا عندها؟ قلت: من سنين وهي تنتظر زوجها. تنتظر أن تطلع لها طاقة القدر. قال وهو يرفع حاجبيه: طاقة القدر؟ بالطبع تنتظر أن يكلمها الله. قلت: ربما. هز رأسه آسفا وقال: مسكينة. لم أستطع أن أنفذ طلبها. قل لها: إني آسف. قلت: لماذا؟ قال: لأنني لا أكلم أحدا.
كنت أقف أمامه حائرا حين نادى علي أبي. قرصني من أذني وأنبني على شقاوتي، وقال لي إنه يبحث عني بعد أنت انتهى موعد الزيارة، وحذرني من الاقتراب من ذلك الرجل مرة أخرى وإلا كسر رقبتي، ولكنني كنت أجري وأنط إلى جانبه، والسعادة باقتحام المجهول تنشر النشوة في جسدي كله الذي بدا كأنه تحول إلى جسد عصفور يرقص ويغني.
وتكررت زياراتنا للمصحة بعد ذلك كثيرا. وفي كل مرة كنا نرى الرجل المؤدب العجوز يحيينا في تواضع وخجل وابتسامته الصغيرة لا تفارق شفتيه، أو جالسا يتشمس في الحديقة، محني الرأس، مستغرقا في صمته، موحشا كأنه قصر عظيم مهجور. وكانت أوامر أبي المشددة بأن أبتعد عن طريقه تخيفني وتمنعني من محاولة الاقتراب منه، بل لقد كان يحرص على ألا يفلت يدي من يده طوال فترة الزيارة، ويهددني بأنه على الرغم من مظهره الهادئ يثور في بعض الأحيان، ويتشنج ويصفع كل من يعترض طريقه. وكنت بالطبع لا أصدق شيئا مما يقوله أبي، وكيف أصدق أن مثل هذا التمثال الحي يمكن أن يؤذي ذبابة؟ ولكنني كنت أجد نفسي مضطرا إلى كبت رغبتي الهائلة في الاقتراب منه كما فعلت في تلك اللحظة النادرة التي غفل فيها أبي عني، وكنت أمني نفسي بأن الفرص لا شك قادمة، وأنه سيأتي يوم أستطيع فيه أن أتحدث معه، بل ربما استطعت أيضا أن أقضي معه وقتا أطول مما أحلم به، فأعرف حكايته على حقيقتها، وأتصل بأهله في المدينة، بل وأساعده على الشفاء ما استطعت.
ولكن أحلامي سرعان ما تبددت حين قال لي أبي ذات يوم من أيام الجمعة ونحن في الطريق إلى المستشفى إننا سنحضر عمتي معنا إلى البيت، وإنه لا داعي لبقائها في المستشفى بعد أن أخذت العلاج الكافي في مثل حالتها، وإن وجودها معنا ربما ساعدها على الشفاء. وحين قال لي إنه أحضر ملابسها معه عجبت كيف لم أنتبه طوال السفر في الديزل إلى الحقيبة التي يحملها معه. وذهبنا إلى المستشفى وأنهينا الإجراءات اللازمة لخروجها، وجلسنا في قاعة الانتظار حتى تفرغ من ارتداء ملابسها. ولم يطل الانتظار كثيرا؛ فقد حضر الطبيب بعد قليل فشكره أبي على عنايته بها، كما وعده الطبيب بدوره أن يمر علينا بعد أيام ليطمئن على حالتها. وكنا ننتظر عودة عمتي ونتهيأ للانصراف حين لمحت من وراء الزجاج من يشير إلي. كان هو المريض العجوز الذي بدا عليه كأنه كان يبحث عني من مدة طويلة، وينتظر في قلق أن أذهب إليه. ويظهر أنني أنا أيضا كنت أشير إليه محاولا أن أفهمه أن يدي في يد أبي، وأن عليه هو أن يأتي إلينا حين سمعت أبي يقول للطبيب: الحق يا دكتور، الرجل سيكسر الزجاج. كان يدق بكلتا يديه على النافذة الكبيرة، حتى خيل إلي أنه لو لم يسارع الطبيب ليفتح الباب فسوف يكسره وينفذ منه. وذهب الطبيب ففتح له، وانفلت منه يجري نحوي وهو يمد يده إلي وعلى شفتيه ابتسامته التي آلمني ذبولها وانكسارها. وحين وضعت يدي في يده أخذ يربت عليها بيده الأخرى وعلى كتفي ويقول: لا مؤاخذة يا ابني. أنا آسف يا جماعة. غصبا عني. كان لا بد أن أخلق العالم. أرجوكم أن تبلغوا اعتذاري للست زكية. أنا آسف. آسف جدا.
وانصرف كما جاء على أطراف قدميه.
1964م
صفحة غير معروفة