فقال وردد صوته بعض الحاضرين: لكن دقيانوس قد هلك، هلك منذ قرون عديدة، وهلكت بعده أجيال وأجيال.
أردت أن أسخر من عبطه وأنصحه بأن يخفي جنونه الذي افتضح أمام الناس جميعا ، لولا أنني رأيته فجأة يجثو أمامي ويقبل طرف ردائي الخشن، بل ويمد شفتيه ليقبل قدمي، ويقول وهو يكاد يبكي: أيها القديس! شرفت بلادنا أيها القديس! (ثم وهو يرفع رأسه ويتطلع إلى وجوه الحاضرين) لقد قلت لكم دائما إنهم سيعودون. قلت لكم إن القديسين الثلاثة الذين ناموا في الكهف واختفت أخبارهم سوف يعودون.
هلل الجميع وكبروا وأنا أتعجب كيف يصبح الجنون شيئا عاما في هذه المدينة العجيبة، ولم أفق من حيرتي إلا وقد أخذوا ردائي وطوقوه في عنقي وقادوني - وهم يتمسحون بي ويتحسسون جسدي - في سكك المدينة. ولم ينسوا أن يقودوا معي كلبي العزيز قطمير الذي كان يعوي من الدهشة، ويحاول مذعورا أن يفر من الكلاب التي راحت تحيط به وتتشممه كأنها لم تر كلبا على صورته.
وطبيعي «أنهم سألوني عن مكان صاحبي»، فدللتهم على الكهف الذي كانا ينتظرانني فيه. ولا بد أن جموعهم قد ذهبت إليهما، وساقتهما في موكب كبير عبر شوارع المدينة التي عبر بها موكبي؛ إذ لم نكد نصل إلى قصر الملك - كما أخبروني فيما بعد - حتى رأيتهما قد سبقاني إليه. كان الملك معهما في شرفة القصر المطلة على ساحة عظيمة مزدحمة بالجماهير، تحيط به جموع من الرهبان والحراس والوزراء. وسوف تعجبون إذا قلت لكم إنه لم يكد يراني حتى نزل بنفسه من شرفة القصر، ولم يكتف بتحيتي، بل عانقني وركع أمامي؛ أنا يمليخا، الراعي المسكين الذي لم يكن يهتم به أحد، ولا كان يحلم في يوم من الأيام بأن يتعطف الملك وينظر إليه نظرة واحدة.
لا أريد أن أطيل عليكم؛ فقد أخذت من وقتكم بالفعل أكثر مما كنت أطمع فيه. ولا أريد أن أرهقكم بسرد كل ما حدث لنا قبل أن نعود إلى الكهف من جديد، على أثر صرخاتي التي دوت في أرجاء القصر، وجعلتني أنا نفسي أندهش من أن تصدر عني: أنا يمليخا العبيط الذي كانت لا تفارق الابتسامة شفتيه.
قضيت الساعات القليلة التي أمضيناها في القصر أفكر في حالي، ربما لأول مرة يتاح ليمليخا أن يفكر في حاله. إما أن هؤلاء الناس جميعا عقلاء وأنا وحدي المجنون، وإما أنهم جميعا مجانين وأنا وحدي العاقل. كل شيء يؤكد لي، كما قالوا، أنني شبح - ولكن متى خالجني الشك في هذا؟! - خرج بعد نومة استغرقت ثلاثمائة عام.
لم أحك لكم شيئا عن حياتي قبل أن أرقد هذه الرقدة المميتة التي أرادوا أن يقنعوني بها - لا عن نفسي ولا عن أبوي، اعتمادا على أنكم ستدركون بأنفسكم أنني حتى لو أردت فلن أجد ما أحكيه عن نفسي ولا عن أبوي اللذين كانا قد ماتا من زمن بعيد - حتى قبورهما لم أكن أعرف مكانها؛ مما كان يجعلني أشك في بعض الأحيان إن كان لي أب وأم وتاريخ مثل بقية الناس. كنت أعيش مهملا من كل شيء ومن كل إنسان - اللهم إلا إذا استثنيتم، كما قلت من قبل، غنمي وكلبي العزيز قطمير - وكنت قد دربت نفسي على السعادة بهذا الإهمال، أؤدي عمل اليوم، وأتجول في السوق، وأغني لغنمي، وأداعب كلبي، وأتكلم مع الأشجار والعصافير والنجوم، حتى كان يوم وأنا أتجول كعادتي في السوق - أرجوكم ألا تعدوا ذلك حادثة؛ فلم يمر بي شيء يرتفع إلى مستوى الأحداث - ورأيت موكبا من الفرسان والحراس والعبيد يسيرون أمام عربة فخمة لم تر مثلها عيناي. أنتم بالطبع تتصورون أنني وقفت على جانب الطريق مثل بقية الناس، أتطلع في شوق غامض إلى داخل العربة. هل أقول لكم إن قلبي انتفض كالعصفور المذبوح حين وقعت عيناي على وجه لم أر أجمل منه في يوم من الأيام؟ إن هذه حادثة مكررة - الشحاذ الذي يقف على جانب الطريق ويحلم بأن الأميرة أحبته من أول نظرة - ولكنني أرجوكم ألا تقسوا علي، وأن تصدقوني إن قلت لكم إنني أنا أيضا قد حدث لي ما حدث للشحاذ المسكين؛ فقد وقعت عيناي على الوجه الجميل كما قلت، وخيل إلي في لحظة من لحظات الجنون أو السعادة المفاجئة أن عينيها أيضا التقتا بعيني، وأنها - أرجوكم ألا تضحكوا مني؛ فأنا كما تعلمون شبح لا مكان له في عالمكم، سيعود إلى كهفه المعتم الأمين بعد قليل - أيضا قد بادلتني حبا بحب، في لحظة خاطفة، سعيدة ومخيفة وباهرة كضوء البرق. ولم أفق من هذا الحلم الجميل إلا على صفعة قوية على قفاي، لاحظت أنها أضحكت الأميرة الفاتنة، فضحكت أنا أيضا وغفرت لصاحبها قسوته، خصوصا إذا عرفتم أنني التفت فوجدته حارسا أسود ضخما غليظ الكفين، من الحكمة دائما أن يتجنب الإنسان طريقه، ولا يوقظ غضبة سياطه. هذه الحادثة - إن شاء كرمكم أن تسموها كذلك - هي التي جعلتني أرضى عن وجودي، بل وأشكر الآلهة التي ساقت قدمي إلى السوق في ذلك اليوم، وأنعمت علي بتلك النظرة السماوية، كما رزقتني بتلك الصفعة التي لا أشك في أنني أستحقها. من ذلك اليوم، أو قولوا من تلك اللحظة، وأنا أكلم الأشجار والعصافير والنجوم كما قلت لكم للأسف أكثر من مرة، من تلك اللحظة وأنا أحلم وأغني لنفسي ولا أنتظر شيئا.
هل استطردت كثيرا بغير داع؟ أسألكم للمرة الأخيرة أن تعفوا عني؛ فربما دفعني إلى ذلك أنني أردت على الرغم من كل شيء ألا تخلو حياتي من حادثة واحدة أرويها لكم، من ذكرى واحدة يمكن من أجلها أن تسمى هذه الحياة نفسها حياة، ولكن هأنا قد فشلت أيضا في هذا، ولا شك أنني قد استحققت سخطكم؛ مما يجعلني ألتمس منكم العفو من جديد.
صدقوني إذا قلت لكم إن بكائي ذلك اليوم كان شيئا غريبا علي، شيئا دهشت أنا نفسي له، أن يمليخا الذي لم تفارق الابتسامة يوما شفتيه، هل قلت بكائي، لا لم يكن بكاء. كان عويلا، نباحا، نشيجا مفجوعا يشق صدرا مفجوعا، آهات لم تخرج بعد من شفتي إنسان، وقد لا تسمعونها أبدا من إنسان. وما بالكم برجل نام في عالم لم يمت إليه بسبب، ثم صحا بعد ثلاثة قرون ليرى نفس العالم الذي لا يمت إليه بسبب؟ ألا تجدون العذر لصاحبه، الذي لا يكره شيئا كما يكره المبالغة وادعاء المأساة إذا قال لكم إنه بكى، لا، بل صرخ، لا، بل نبح وأعول كوحش يذبح ويسلخ ويداس على جثته بالأقدام؟ وهل ستفهمونني أو تغفرون لي إن قلت لكم إن بكائي المتقطع المخنوق هو في نهاية الأمر كل ما فعلته في حياتي، حتى إن الأجيال لن تجد ما تقوله بعد ذلك عني - إن ذكرتني أو قالت شيئا - سوى أنني بكيت؟
معذرة. أنا أقول لكم مرة أخرى إنني لا أود أن أطيل عليكم، لكنني قد أطلت وربما أمللت، فما العمل يا ترى؟ لا شك أنكم تطلبون مني الآن أن أدخل مباشرة في الموضوع، وأن أروي لكم سبب بكائي.
صفحة غير معروفة