1964م
يا عم يحيى
كانت زوجتي قد أوت إلى الفراش وتركت باب حجرة النوم مواربا. وكنت أسمع أنفاسها تتردد وأنا جالس في الصالة أتصفح جريدة، وأنتظر حتى تسقط من يدي كما هي عادتي كل ليلة فأعرف أن موعد نومي قد جاء، أنهض لأغلق النافذة وأندس في الفراش. ولم أكن مستغرقا في الجريدة التي كنت أبحث فيها عبثا عن شيء يسليني حين سمعت الصوت. انشق فجأة في سكون الليل كالسكين اللامعة فانتفضت وطار النوم من عيني: يا عم يحيى! يا عم يحيى!
نفس الصوت الذي أسمعه منذ ليلتين، مبحوح ومرتعش ومفاجئ وملسوع، يتلوى ويستنجد ويبكي ويستغيث، كأنه جرح غائر مشقوق في مكان مظلم عميق، جرح أصبح له لسان ينزف بالعويل والصراخ كما لو كانت آلاف السياط تنهش جسد صاحبه، آلاف الأيدي والأقدام تضربه وتلكمه وتركله، وآلاف الطيور والوحوش تمزق لحمه وتلغ في دمه، وتحاول أن تبتلع صراخه فيفلت منها ليسترحم الخليقة كلها. - يا عم يحيى! يا عم يحيى!
لم يكن صوتا؛ فالصوت الإنساني مهما ارتفعت درجته نحس نحوه بنوع من الألفة. إنه لا يفاجئنا، ولا يروعنا ولا يذهلنا كما فعل. كان حشرجة مخلوق تنهار السماء فوقه، يرتج الزلزال تحت قدميه، يحز السيف على رقبته، يمر جسده على كل آلات التعذيب التي عرفتها العصور المظلمة، يسحق تحت طاحونة ثقيلة جبارة.
سقطت الجريدة من يدي ولكن النوم طار من عيني إلى الأبد. وقفت في الصالة ودقات قلبي ترتفع وترتفع. خيل إلي أن أفضل وسيلة للهروب من هذا الصوت أن أخلع ملابسي وأخرج عاريا من البيت، وأجري في الشوارع وأنا أضع يدي على أذني. كان يأتي في البداية منخفضا ممدودا، مميز الحروف، ممطوطا في نهاية كل كلمة. إن الياء في يحيى تمتد كاليد المستعطفة الذليلة الباكية، تعاتب وتشكو وتنتظر. إنه صوت طيب، مستغيث ولكنه لا يزال يرجو، ينادي ولكنه يتوقع أن يسمع من يرد عليه، يتوسل ويبكي ولكنه ينتظر ولم ييأس بعد. ثم يزداد حدة، وتسرع مقاطعه فتصطدم ببعضها كعربات القطار، وترتفع درجته وتزداد نحولا وتوترا وسخطا وعصبية فتأكل الحروف بعضها، وتقفز قفزة واحدة وراء كل دلالة بشرية لتصبح صيحة حادة جارحة مبتورة كسيف يغمد في الصدر ثم يستل فجأة، ومع كل صيحة تزداد الضربات على باب العمارة التي أسكن فيها، وتصبح الضربات هي نفسها صيحات ملهوفة ملسوعة مستغيثة، والصيحات ضربات ثقيلة وخائفة ومدوية ترج الأبواب والشبابيك.
منذ ليلتين وأنا أسمع هذا الصوت يحشرج وسط الظلام والسكون، والضربات تهز باب العمارة كأن صاحبها يدق على باب مقبرة ليوقظ أصحابها. كان في الليلتين السابقتين ينطلق فجأة ليستمر لحظات ثم يختفي فجأة كما جاء. لا نكاد نفيق من الذهول حتى يذهب. لا بد أن السكان قد ظنوا مثلي أنه أحد أقارب البواب، جاء متأخرا في عز الليل فأراد أن يوقظه من نومه الثقيل، أو كأن صاحبه يعاني من مغص هائل أو يطلب نجدة عاجلة، فأفاقوا لحظة من نومهم ثم نسوا الحكاية، أو لا بد أنهم - حين تكرر هذا الصوت في الليلة التالية - قد عزوه إلى كابوس ثقيل كتم أنفاسهم بعد أكلة دسمة، كابوس ضخم أسود كثيف الشعر اشتركوا فيه جميعا، وحين صحوا منه كان الصوت قد راح لحاله، ولكنه حين تكرر هذه الليلة على هذه الصورة الذبيحة كحشرجة مقتول، الملهوفة كأجراس عربات الحريق أو الإسعاف، الصارخة كبكاء شحاذ تنهشه وحوش الجوع، المستنجدة كصياح مجرم توشك أيدي العساكر أن تقبض عليه؛ لعله حين تكرر هذه الليلة على هذه الصورة بدأ ينبهنا إلى أنه لا بد برغم وحشيته وغربته عن عالم الأرض أن يكون مع ذلك صوتا إنسانيا؛ صوت بشر مثلنا من واجبنا على كل حال أن نرى ماذا يريد صاحبه ولماذا يعكر نومنا.
كنت لا أزال أقف في الصالة حين سمعت جاري الأستاذ عادل همام يفتح باب شرفته في غضب هائل وهو يسب ويلعن ويبرطم، وأسرعت أغلق باب غرفة النوم على زوجتي حتى لا تفزع من نومها، وفتحت أنا أيضا شباك حجرة الصالون المطلة على الشارع العمومي. كان الصوت لا يزال يرن في الآذان وعلى الأسفلت كأنه أوان نحاسية ترتطم، وتظل الموجات المنبعثة منها تتسع وتتسع صاخبة مدوية خرساء. وسمعت جاري الأستاذ عادل همام - الذي كان يبدو في روبه الأحمر وشعره المنفوش وجسده المكور كأنه بصلة إفرنجية - يشخط قائلا في صوت كالرعد: يا جدع انت! يا جدع انت! دوشتنا الله يدوشك!
ولم يكف الصوت عن رنينه الجارح المعتم الرتيب، بل ارتفع وعلت درجته وزاد إلحاحه، كأن سياطا نارية تهلبه وتغذيه بعذاب جديد: يا عم يحيى! يا عم يحيى! يا عم يحيى ! والياء الأخيرة طويلة طويلة تنتهي مقطوعة كأنها تقف في الحلق، ثم تبدأ «يا عم يحيى» من جديد أقرب إلى النشيج اليائس اليتيم المهجور. وزعق جاري، بعد أن سمع صوت نوافذ أخرى تفتح في العمارة، وأنوارا توقد، وهمسات تعلو وتتساءل وتتشابك: عم يحيى من؟ عم يحيى من يا جدع انت!
ويظهر أن صاحب الصوت سمع جاري أو تنبه إلى أنه يقصده بالسؤال، فأوقف ضرباته الهائلة على البوابة وإن لم يوقف نداءه المتكرر المستغيث: عم يحيى يا بواب! يا عم يحيى يا بواب!
صفحة غير معروفة