============================================================
يساله كل واحد منهم مسألة واحدة في فن من العلوم غير مسألة صاحبه، ليقطعوه بها، وأتوا مجلس وعظه. فلما استقر بهم الجلوس، أطرق الشيخ - رحمه الله تعالى - فظهرت من صدره بارقة من نور لا يراها إلآ من شاء الله تعالى، ومرت على صدور المئة، ولا تمر على أحد منهم إلأ بهت واضطرب، ثم صاحوا صيحة واحدة، ومزقوا ثيابهم، وكشفوا رؤوسهم، وصعدوا إليه فوق الكرسى، ووضعوا روؤسهم على رجليه، وضج أهل المجلس ضجة واحدة، خال الناس منها أن بغداد قد زلزلت ، فجعل الشيخ يضم إلى صدره واحدا بعد الآخر، حتى أتى إلى آخرهم، ثم قال لأحدهم : أما أنت فمسألتك كذا، وجوابها كذا، وهكذا إلى أن أتم المعة، فلما انفض المجلس سألهم مفرج بن نبهان ما شأنكم؟ قالوا : إنا لما جلسنا فقدنا جميع ما نعرفه من العلم ، حتى كانه لم يمر بنا قط ، فلما ضمنا إلى صدره رجع إلى كل منا ما نزع من العلم(1) .
لم ينخدع الشيخ رحمه الله تعالى - بالمقامات التي أصبح يراها . بل عرف أن علم الحقيقة إنما هو موافقة لرسوم الشريعة مع علم المعرفة، وأي مخالفة لعلم الشريعة يعني ولوج الشيطان في السلوك ، ولو كان وليا . يقول الشيخ - رحمه الله تعالى - : خرجت في بعض سياحاتي إلى البرية، ومكثت أياما لا أجد ماء، فاشتد بي العطش، فأظلتني سحابة ونزل على منها شيء يشبه الندى، فرويت، ثم رأيت نورا أضاء به الأفق، وبدت لي صورة، وتوديت يا عبد القادر: أنا ربك! وقد أحللت لك المحرمات، أو قال : ما حرمت على غيرك، فقلت : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إخسا يا لعين، فإذا ذلك التور ظلام، وتلك الصورة دخان، ثم خاطبني وقال : يا عبد القادر، نجوت مني بعلمك بحكم ربك، وقوتك في أحوال منازلاتك، ولقد أضللت بهذه الواقعة سبعين من أهل الطريق، فقلت : لربى الفضل والمنة. قال : فقيل له : كيف علمت أنه شيطان * قال : يقول : حللت لك المحرمات (2).
(1) قلائد الحواهر في مناقب عبد القادر: للحلبى، 33 (2) شذرات الذهب في أخبار من ذهب : لابن العماد الحلي، 20/4
صفحة ٢٩