كذاك الشمس تبعد أن تسامى .... ويدنو الضوء منها والشعاع ولقد كان عليه السلام يتواضع مع علو شأنه واستظهار سلطانه ويزداد لله شكرا وذكرا، ولقد كان مع إخوانه وخلصائه كأحدهم، يلبس الخشن، ويأكل الجشب، وينصف من نفسه، ولا يستأثر على غيره إلا بما خصه الله به، ولقد كان إذا رأى عظيم ما فعل الله له من علو الشأن وخضوع أرباب الملك والسلطان يخلو بنفسه ثم يسجد بالأرض شاكرا ومتواضعا كما قال القائل:
تواضع لما زاده الله رفعة ... فكل عزيز عنده متواضع
(فصل) وأما مناقبه في البلاغة
فإنه كان عليه السلام، كان الخطيب الشحيح، والمنطيق المصقع كأنما ....... في الكتابة، ولسانا ينبوعا للبلاغة، جمع بين شارد البلاغة وقطانها، وجرى سابقا في ميدانها، وملك بكفه عنانها، كأنما خطه في الأوراق شذور العقيان في مصاحي المرجان، فلا تمج كلامه الآذان، ولا يبليه الزمان، ولقد رأيناه ينشر الرسائل التي تجمع شمل المحاسن وتضم شوارد البدائع، فهو عليه السلام ابن بجدة البلاغة ورضيع أخلاف الفصاحة، وله الموضوعات اللؤلؤية والمكاتبات الدرية، التي تناول المرمى البعيد، وتستنبط المشرع العميق، ولقد سمعته يقول النظم ويصوغ القريض، ثم يقول: إن الشعر من مظان العيب والانتقاد، ولا أرى بتركه بأسا أو كما قال في هذا المعنى، ولقد كان يحدر القرآن الكريم في أسحار الليل فيأخذ بأزمة القلوب، ولقد كان يعبر عن معاني العلوم على العموم بعبارات تنبي عن الغوص في لجج بحار العلم والاطلاع على أسرار الفهم، فلو كان ابن الرومي في زمانه لكان المعنى بقوله:
لولا عجائب صنع الله ما نبتت ... تلك الفضائل في لحم ولا عصب
صفحة ٢٦