يوجب الاجتماع عليه، وجوره يوجب الافتراق عنه، عدل الملك حياة رعيته. وفي منثور الحكم: سلطان جائر أربعين سنة خير من رعية مهملة ساعة واحدة من النهار، إذا عدل الملك فيما قرب منه صلح له ما بعد عنه. ففضل الملوك في الإعطاء وشرفها في العفو وعزها في العدل. عدة السلطان ثلاثة: مشاورة النصحاء وثبات نبات الأعوان وإقامة سوق العدل. أفضل الأزمنة أزمنة أئمة العدل. ثم: العدل ينقسم قسمين: قسم إلهي جاءت به الأنبياء والرسل ﵈ عن الله تعالى، والثاني ما يشبه العدل والسياسة الإصلاحية التي هرم عليها الكبير ونشأ عليها الصغير، وبعيد أن يبقى سلطان أو تستقيم رعيته في حال إيمان أو كفر بلا عدل قائم ولا ترتيب للأمور ثابت، فذلك مما لا يمكن ولا يجوز. وقد ذكرنا في أول الكتاب أن سليمان بن داود سلب ملكه حين جلي الخصمان بين يديه، وكان لأحدهما خاصة بسليمان فقال في نفسه: وددت أن يكون الحق لخاصتي فأقضي له، فسلبه الله تعالى ملكه وقعد الشيطان على كرسيه.
فاجعل العدل سياستك تسقط عنك جميع الآفات المفسدة للسياسة، وتقوم لك جميع الشرائط التي تقوم بها للمملكة. قال علي بن أبي طالب ﵁: إمام عادل خير من مطر وابل، وأسد حطوم خير من سلطان ظلوم، وسلطان ظلوم خير من فتنة تدوم. وقال ابن مسعود: إذا كان الإمام عادلًا فله الأجر وعليك الشكر، وإذا كان جائرًا فعليه الوزر وعليك الصبر. وقال سليمان بن داود ﵉: الرحمة والعدل يحرزان الملك. واتفق حكماء العرب والعجم على هذه الكلمات فقالوا: الملك بناء والجند أساسه، فإذا قوي الأساس قام البناء، وإن ضعف الأساس انهار البناء، فلا سلطان إلا بجند ولا جند إلا بمال، ولا مال إلا بجباية ولا جباية إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل فصار العدل أساسًا لكل الولايات.
وأما العدل النبوي فأن يجمع السلطان إلى نفسه حملة العلم الذين هم حفاظه ورعاته وفقهاؤه، وهم الأدلاء على الله والقائمون بأمر الله، والحافظون لحدود الله والناصحون لعباد الله. وروى أبو هريرة ﵁ أن النبي ﷺ قال: إن الدين النصيحة! إن الدين النصيحة! إن الدين النصيحة! قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم. فاتخذ أيها الملك العلماء شعارًا والصالحين دثارًا، فتدور المملكة بين نصائح العلماء ودعوات الصلحاء، وأخلق بملك يدور بين هاتين الخصلتين أن يقوم عموده ويطول أمده! وكيف لا وقد قربهم الله في سلطانه واصطفاهم بخالص معرفته، فقال جل من قائل: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (آل عمران: ١٨) . فبدأ بنفسه وثنى بملائكته، وثلث بأولي العلم وهم ورثة الأنبياء ﵈ والموقفون عن الله تعالى.
إن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا در همًا وإنما ورثوا العلم، ففي تعظيمهم وتقريبهم امتثال لأمر الله وتعظيم لمن أثنى عليه، ويجب ترفيع مجالسهم وتتمييز مواضعهم عن من سواهم، قال الله تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ (المجادلة: ١١) . وفيه استمالة قلوب الرعية وخلوص نياتهم لسلطانهم واجتماعهم على محبته وتوقيره، فواجب على السلطان أن لا يقع أمرًا دونهم ولا يفضل حكمًا إلا بمشاورتهم، لأنه في ملك الله يحكم وفي شريعته يتصرف، وأقل الواجبات على السلطان أن ينزل نفسه مع الله منزلة ولاته معه، أليس إذا خالف واليه أمره وما رسمه له من الأحكام عزله وعاقبه ولم يأمن سطوته؛ وإذا امتثل أوامره
1 / 52