ألا ترى أن النبي ﷺ كان في غزوة، فأمرهم بالنزول فقال له سعد: يا رسول الله إن كان هذا بأمرك فسمعًا وطاعة، وإن يكن غير ذلك فليس بمنزل. فسمع منه النبي ﷺ وقال: ارتحلوا! ومن أقبح ما يوصف به الرجال، ملوكًا كانوا أو سوقة، الاستبداد بالرأي وترك المشاورة، وسنعقد للمشاورة بابًا إن شاء الله تعالى. والخصلة الثالثة ما روى البخاري ومسلم أن رجلًا قال: يا رسول الله استعملني. فقال النبي ﷺ: إنا لا نستعمل على عملنا من أراده. والسر فيه أن الولايات أمانات وتصريف في أرواح الخلائق وأموالهم، والتسرع إلى الأمانة دليل على الخيانة، وإنما يخطبها من يريد أكلها، فإذا أؤتمن خائن على موضع الأمانات كان كمن استرعى الذئب على الغنم. ومن هذه الخصلة تفسد قلوب الرعايا على ملوكها، لأنه إذا اهتضمت حقوقهم وأكلت أموالهم فسدت نياتهم، وأطلقوا ألسنتهم بالدعاء والتشكي، وذكروا سائر الملوك بالعدل والإحسان فكانوا كالبيت السائر الذي أنشدناه أولًا.
وراعي الشاء يحمي الذئب عنها فكيف إذا الذئاب لها رعاء؟
وإذا خان أهل الأمانات وفسد أهل الولايات، كان الأمر كما قال الأول:
بالملح يصلح ما يخشى تغيره فكيف بالملح أن حلت به الغير؟
ولغيره في مثل ذلك:
ذئب تراه مصليًا فإذا مررت به ركع!
يدعو وجل دعائه: ما للفريسة لا تقع؟
عجل بها يا ذا العلا إن الفؤاد قد انقطع!
ومن أشراط الساعة التصدي للأمانة وخطبة الولاية. وروي عن النبي ﷺ أنه قال: من أشراط الساعة أن تكون الزكاة مغرمًا والأمانة مغنمًا، فحينئذ يدعو عليه الضعيف وأهل الصلاح ويقعد له الشرير بالمراصد ويخامر عليه القوي، ويقبح ثناؤه عند الجماعة ويتمنوا الراحة منه، وينتظرون من يصلح لها سواه.
الباب الحادي عشر: في بيان معرفة الخصال التي هي قواعد السلطان ولا ثبات له دونها
فأول الخصال وأحقها بالرعاية العدل الذي هو قوام الملك، ودوام الدول ورأس كل مملكة سواء كانت نبوية أو إصطلاحية. اعلم أرشدك الله تعالى أن الله تعالى أمر بالعدل، ثم علم ﷾ أن كل الناس ليست تصلح على العدل بل تطلب الإحسان وهو فوق العدل، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾ (النحل: ٩٠) . فلو وسع الخلق العدل ما قرن به الإحسان، فمن لا يصلح حتى يزاد على العدل كيف يصلح إذا لم يبلغ به العدل والعدل ميزان الله في الأرض، الذي به يؤخذ للضعيف من القوي وللمحق من المبطل؟ وليس موضع ميزان الله الذي وضعه من القيام بالقسط فقد تعرض لسخط الله.
واعلم أيها الوالي أن الملك بمنزلة رجل: فرأسه أنت وقلبه وزيرك ويداه أعوانك، ورجلاه رعيتك وروحه عدلك، وما بقي جسد بلا روح. وإذا أردت ذروة العدل فاعلم أن الرعية ثلاثة أنفس: كبير وصغير ووسط، فاجعل كبيرهم أبًا ووسطهم أخًا وصغيرهم ولدًا. فبر أباك وأكرم أخاك وارحم ولدك، فإنك واصل بذلك إلى بر الله وكرامته ورحمته. واعلم أن عدل الملك
1 / 51