وفي مثل هذا قيل للعتابي، وكان لا يبالي بما لبس: ما لك لا تجيد الملبوس؟ فقال: إنما يرفع المرء أدبه وعقله لا حليته وحلته، لحى الله أمرأً يرضى أن ترفعه هيئته وجماله! لا والله حتى يشرفه أصغراه: لسانه وقلبه، ويعلو به أكبراه: همته ولبه. ولما دخل ضمرة بن ضمرة على المنذر بن المنذر وهو ملك، وكان ضمرة ذا رأي وعقل، احتقرته عينه لدمامته، فقال: لأن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه! ثم قال ضمرة: أبيت اللعن! إن القوم ليسوا بجزرٍ تجزرن، وإنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه، فإذا نطق نطق ببيان، وإذا قاتل قاتل بجنان، والرجال لا تكال بالقفزان ولا توزن بالقبان. فأعجب المنذر بكلامه.
وروي أن روح بن زنباع كان في طريق مكة في يوم شديد الحر مع أصحابه، فنزلوا وضربت لهم الخيام والظلال، وقدم إليهم الطعام والشراب المبرد. فبينما هم كذلك وإذا هم براع، فدعاه إلى الطعام فأبى وقال: إني صائم! فقال له روح: في مثل هذا اليوم الحار؟ قال: أفأدع أيامي تذهب باطلًا؟ فقال له روح: لقد ضننت بأيامك يا راعي إذ جاد بها روح بن زنباع. وروي أن أعرابيًا قام بين يدي سليمان بن عبد الملك وقال: يا أمير المؤمنين، إني مكلمك كلامًا فاحتمله إن كرهته، فإن وراءه ما تحب إن قبلته. فقال: هات يا أعرابي. فقال: إني سأطلق لساني بما خرست به الألسن لحق الله ولحق أمانتك! إنه قد اكتنفك رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم، وابتاعوا دنياك بدينهم ورضاك بسخط ربهم، خافوك في الله ولم يخافوا الله فيك، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك، فأعظم الناس غبنًا يوم القيامة من باع آخرته بدنيا غيره! فقال له سليمان: أما أنت فقد نصحت، وأرجو أن الله يعين على ما قلدنا وقد جردت لسانك وهو سيفك. فقال: أجل يا أمير المؤمنين، وهو لك لا عليك! وقال بن أبي العروبة: حج الحجاج فنزل بعض المياه بين مكة والمدينة ودعى بالغداء، وقال لحاجبه: انظر من يتغدى معي واسأله عن بعض الأمر. فنظر نحو الجبل فإذا هو براع بين شملتين نائم فضربه برجله وقال له: ائت الأمير! فأتاه، فقال له الحجاج: اغسل يديك وتغد معي. فقال: دعاني من هو خير منك فأجبته. فقال: من هو؟ قال: الله تعالى دعاني إلى الصيام فصمت. قال: في هذا الحر الشديد؟ قال: نعم صمت ليوم هو أشد حرًا منه! قال: فافطر وصم غدًا. قال: إن ضمنت لي البقاء إلى غد. قال: ليس ذلك إلي. قال: فكيف تسألني عاجلًا بآجل لا تقدر عليه؟ قال: لأنه طعام طيب. قال:
لم تطيبه أنت ولا الطباخ ولكن طيبته العافية! ولما حج هارون الرشيد بعث إلى مالك بن أنس بكيس فيه خمسمائة دينار، فلما قضى نسكه وانصرف ودخل المدينة بعث إلى مالك بن أنس أن أمير المؤمنين يحب أن تنتقل معه إلى مدينة السلام. فقال للرسول: قل له إن الكيس بخاتمه. وقال الرسول ﵇: والمدينة خير لهم ولو كانوا يعلمون.
وقال وهب بن منبه ﵁: إن ملكًا كان يفتن الناس ويحملهم على أكل لحم الخنزير، فأتى برجل أفضل أهل زمانه فأعظم الناس مكانه وهالهم أمره، فراوده على أكل لحم الخنزير فرق له صاحب شرطة الملك وقال له: أنا آتيك بجدي تذبحه مما يحل لك أكله، وإذا دعا الملك بلحم الخنزير أتيتك به ففعل، ثم أتى به الملك فدعا بلحم الخنزير فأتى صاحب الشرطة بلحم ذلك الجدي، فأمر به الملك أن يأكله، فأبى أن يأكله، فجعل صاحب الشرطة يغمزه أن يأكله فأبى أن يأكله، فأمر صاحب الشرطة أن يقتله. فلما ذهب به قال: ما منعك أن تأكله وهو اللحم الذي أنت ذبحته؟ أظننت أني جئتك بغيره؟ قال: لا قد علمت أنه هو، ولكنني خفت أن يفتتن الناس بي، فإن أكرهوا على أكل لحم الخنزير قالوا قد أكله فلان، فيستن
1 / 35