ولا هبة ولا عتق، ولا غير ذلك إلا بشهادتنا، هذا ما عندنا والسلام.
ثم قاموا منصرفين فلم يكادوا يبلغوا باب القصر إلا والرسل تناديهم، فدخلوا القصر فتلقاهم الوزراء بالإعظام ورفعوا منازلهم واعتذروا إليهم مما كان من صاحبهم، وقالوا لهم: إن أمير المؤمنين يعتذر إليكم من فرط موجدته، ويستجير بالله من الشيطان الرجيم ونزعته التي حملته على الجفاء عليكم، ويعلمكم أنه نادم على ما كان منه إليكم، وهو مستبصر في تعظيمكم وقضاء حقوقكم، وقد أمر لكل واحد منكم بما ترون من صلته وكسوته علامة لرضاه عنكم، فدعوا له وقبضوا ما أمر لهم به وانصرفوا غالبين لم يمسسهم سوء.
ولما نظر مالك بن دينار إلى المهلب بن أبي صفرة يجر أذياله ويتبختر في أثواب خيلائه، ناداه أن ارفع من ثيابك. فقال له المهلب: أوما تعرفني؟ قال له مالك: بلى إني أعرفك، أولك نطفة مذرة وآخرك جيفة قذرة، وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة. ويروى أن رجلًا قال لعبيد الله العمري: هذا هارون الرشيد في الطواف قد أخلي له المسعى، فقال له: لا جزاك الله عني خيرًا كلفتني أمرًا كنت عنه غنيًا! ثم جاء إليه فقال: يا هارون! فلما نظر إليه قال: لبيك يا عم! قال: كم ترى ههنا من خلق الله تعالى؟ قال: لا يحصيهم إلا الله. قال: اعلم أيها الرجل أن كل واحد منهم يسأل عن خاصة نفسه، وأنت وحدك تسأل عنهم كلهم، فانظر كيف تكون؟ قال: فبكى هارون وجلس فجعلوا يعطونه منديلًا منديلًا للدموع، ثم قال له: والله إن الرجل ليسرف في مال نفسه فيستحق الحجر عليه، فكيف بمن أسرف في مال المسلمين؟ فيقال إن هارون كان يقول بعد ذلك: إني أحب أن أحج في كل عام، وما يمنعني من ذلك إلا عبيد الله العمري.
ويروى أن الحسن بن محمد بن الحسين دخل على عمر بن عبد العزيز فقال له:
يا عمر، ثلاث من كن فيه فقد استكمل الإيمان. فقال عمر: إيه أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة! وجثى على ركبتيه، فقال الحسن: من إذا رضي لم يدخله رضاه في باطل، ومن إذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق، ومن إذا قدر لم يتناول ما ليس له. ولما ولي عمر بن عبد العزيز وفد عليه الوفود من كل بلد، فوفد عليه الحجازيون فتقدم منهم غلام للكلام، وكان حديث السن، فقال عمر: لينطق من هو أسن منك. فقال الغلام: أصلح الله أمير المؤمنين! إنما المرء بأصغريه: قلبه ولسانه، فإذا منح الله العبد لسانًا لافظًا وقلبًا حافظًا، فقد استحق الكلام وعرف فضله من سمع خطابه، ولو أن الأمر يا أمير المؤمنين بالسن لكان في الأمة من هو أحق منك بمجلسك هذا. فقال عمر: صدقت! قل ما بدا لك.
غلام: أصلح الله أمير المؤمنين! نحن وفد تهنئة لا وفد مرزئة، وقد أتيناك لمن الله الذي من علينا بك، لم تقدمنا إليك رغبة ولا رهبة، أما الرغبة فقد أتتنا منك في بلادنا، وأما الرهبة فقد أمنا جورك بعدلك. فقال له عمر: عظني يا غلام! فقال: أصلح الله أمير المؤمنين! إن ناسًا غرهم حلم الله عليهم وطول أملهم، وكثرة ثناء الناس عليهم، فزلت بهم أقدامهم فهووا في النار، فلا يغرنك حلم الله عليك وطول أملك، وكثرة ثناء الناس عليك، فتزل بك قدمك فتلتحق بالقوم، فلا جعلك الله منهم وألحقك بصالحي هذه الأمة! ثم سكت، فسأل الإمام عمر الغلام عن سنه، فإذا هو ابن إحدى عشرة سنة، ثم سأل عن نسبه فإذا هو من ولد الحسين بن علي بن أبي طالب ﵁، فتمثل عمر عند ذلك بقول الشاعر:
تعلم فليس المرء يولد عالمًا
وليس أخو علم كمن هو جاهل
وإن كبير القوم لا علم عنده
صغير إذا التفت عليه المحافل
1 / 34