ولكن تعال نخلع ثيابنا ونلبس جميعًا ثوبًا مما في هذا النهر ونتكلم فحينئذ يتبين الفاضل من المفضول! فانصرف الملك خجلًا.
وها أنا أحكي لك أمرًا أصابني طيش عقلي وبلبل حزمي وقطع نياط قلبي، فلا يزال مرآة لي حتى يواريني التراب. وذلك أني كنت يومًا بالعراق وأنا أشرب ماء، فقال لي صاحب لي وكان له عقل:
يا فلان لعل هذا الكوز الذي تشرب فيه الماء قد كان إنسانًا يومًا من الدهر، فمات فصار ترابًا فاتفق للفخاري أن أخذ تراب القبر فصيره خزفًا وشواه بالنار، فانتظم كوزًا كما ترى وصار آنية يمتهن ويستخدم بعدما كان بشرًا سويًا يأكل ويشرب وينعم ويلذ ويطرب. فإذا الذي قاله من الجائزات، فإن الإنسان إذا مات عاد ترابًا كما كان في النشأة الأولى، ثم قد يتفق أن يحفر لحده ويعجن بالماء ترابه فيتخذ منه آنية تمتهن في البيوت أو لبنة تبنى في الجدار، أو يطين به سطح البيت أو يفرش في الدار فيوطأ بالأقدام، أو يجعل طينًا على الجدار.
وقد يجوز أن تغرس عند قبره شجرة فيستحيل تراب الإنسان شجرة وورقًا وثمرة، فترعى البهائم أوراقها ويأكل الإنسان ثمرتها، فينبت منها لحمه وينتشر منها عظمه، أو تأكل تلك الثمرات الحشرات والبهائم، فبينما كان يقتات صار قوتًا، وبينما كان يأكل صار مأكولًا ثم يعود في بطن الأرض رجيعًا يقذف به في بيت الرحاضة أو بعرًا ينبذ بالعراء، ويجوز إذا حفر قبره أن تسفي الريح ترابه فتفرق أجزاءه في بطون الأودية والتلول والوهاد، أليس في هذا ما أذهب العقول وطيش الحلوم، ومنع اللذات وهان عنده مفارقة الأهلين والأموال واللحوق بقلل الجبال، والأنس بالوحوش حتى يأتي أمر الله على الفريقين؟ أليس في هذا ما صغر الدنيا وما فيها؟ أليس في هذا ما حقر الملك عند من عظمه والمال عند من جمعه؟ أليس في هذا ما زهد في اللذات وسلى عن الشهوات؟ وقال مسعر: كم من مستقبل يومًا لا يستكمله ومنتظر غدًا وليس من أجله، إنكم لو أبصرتم الأجل ومسيره لأبغضتم الأمل وغروره. ولما بنى المأمون بن ذي النون، وكان من ملوك الأندلس، قصره وأنفق فيه بيوت أمواله، فجاء على أكمل بنيان في الأرض، وكان من عجائبه أنه صنع فيه بركة ماء كأنها بحيرة، وبنى في وسطها قبة وسيق الماء من تحت الأرض حتى علا إلى رأس القبة على تدبير قد أحكمه المهندسون، وكان الماء ينزل من أعلى القبة حواليها محيطًا بها متصلًا بعضه ببعض، فكانت القبة في غلالة من ماء سكبًا لا يفتر والمأمون قاعد فيها، فروي عنه أنه بينما هو نائم إذ سمع منشدًا ينشد هذه الأبيات:
أتبني بناء الخالدين وإنما
مقامك فيها لو عقلت قليل
لقد كان في ظل الأراك كفاية
لمن كل يوم يقتضيه رحيل
فلم يلبث بعدها إلا يسيرًا حتى قضى نحبه.
ووجد مكتوبًا على قصر قد باد أهله وأقفرت منازله:
هذي منازل أقوام عهدتهم
في خفض عيش نفيس ما له خطر
صاحت بهم نائبات الدهر فانقلبوا
إلى القبور فلا عين ولا أثر
وللشريف الرضي:
ولقد مررت على ديارهم
وطلولها بيد البلى نهب
فوقفت حتى عج من تعب
نضوي وضج بعدني الركب
وتلفتت عيني فمذ خفيت
عنها الطلول تلفت القلب
ولو قيل للدنيا صفي نفسك ما تعدت هذا البيت وهو:
ومن يأمن الدنيا يكن مثل قابض
على الماء خانته فروج الأصابع
وروي أن الحجاج قال في خطبته: أيها الناس إن ما بقي من الدنيا أشبه بما بض من الماء،
1 / 26