ولا بكثير تشبع. وقال النبي ﷺ في بعض خطبه: أيها الناس إن الأيام تطوى والأعمار تفنى والأبدان في الثرى تبلى، وإن الليل والنهار يتراكضان تراكض البريد يقربان كل بعيد ويخلقان كل جديد، وفي ذلك عباد الله ما ألهى عن الشهوات ورغب في الباقيات الصالحات.
وقال بعض الحكماء: الدنيا كالماء المالح، كلما ازداد صاحبه شربًا ازداد عطشًا، وكالكأس من العسل في أسفله السم، فللذائق منه حلاوة عاجلة، وفي أسفله الموت الزعاف، وكأحلام النائم التي تفرحه في منامه، فإذا استيقظ انقطع الفرح، وكالبرق الذي يضيء قليلًا ويذهب وشيكًا ويبقى راجيه في الظلام مقيمًا، وكدودة الإبريسم التي لا يزداد الإبريسم على نفسها لفًا إلا ازدادت من الخروج بعدًا؛ وفيه قيل:
كدود كدود القز ينسج دائمًا
ويهلك غمًا وسط ما هو ناسجه
ومثال من يستعجل زهرة الدنيا ويعرض عن الدار الأخرى مثال رجلين لقطا من الأرض حبتي عنب، فأما أحدهما فجعل يمص الحبة التذاذًا بها ثم بلعها، وأما الآخر فزرع الحبة فلما كان بعد زمان التقيا، فإذا الذي زرع الحبة قد صارت له كرما وكثرت ثمرته، وفكر الآخر في صنعه بالحبة فوجدها قد صارت عذرة ليس عنده منها إلا الحسرة على تفريطه والغبطة لصاحبه. وقال وهب بن منبه ﵁: أوحى الله تعالى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل: إن أردت أن تسكن معي في حضيرة القدس، فكن في الدنيا وحيدًا فريدًا مهمومًا وحشيًا، بمنزلة الطير الوحداني الذي يظل في الأرض الفلاة، ويأكل من رؤوس الشجر ويشرب من ماء العيون، فإذا كان الليل آوى وحده ولم يأو مع الطير استئناسًا بربه. ولبعضهم:
كم للحوادث من صروف عجائبٍ
ونوائب موصولة بنوائب
ولقد تقطع من شبابك وانقضى
ما لست أحسبه إليك بآيب
تبغي من الدنيا الكثير وإنما
يكفيك منها مثل زاد الراكب
قال مالك بن أنس ﵁: بلغني أن عيسى بن مريم ﵇ انتهى إلى قرية قد خربت حصونها وجفت أنهارها وتشعث شجرها فنادى: يا خرب أين أهلك؟ فلم يجبه أحد. ثم نادى: يا خرب أين أهلك؟ فنودي: عيسى بن مريم، بادوا وتضمنتهم الأرض وعادت أعمالهم قلائد في رقابهم إلى يوم القيامة، عيسى بن مريم فجد. قال مالك: سئلت امرأة من بقية قوم عاد يقال لها هريمة: أي عذاب الله رأيت أشد؟ قالت: كل عذاب الله شديد، وسلام الله أو رحمته على ليلة لا ريح فيها، ولقد رأيت العير تحملها الرياح بين السماء والأرض. وقال مجاهد: كان طعام يحيى بن زكريا ﵉ العشب، وإن كان ليبكي من خشية الله ما لو كان القار على عينيه لخرقه، ولقد كان الدمع اتخذ مجرى في خده.
ومر بعض الملوك ببقراط الحكيم وهو نائم فركضه برجله وقال: قم! فقام غير مرتاع منه ولا ملتفت إليه، فقال له الملك: أوما تعرفني؟ فقال: لا، ولكن أرى فيك طبع الدواب فإنها تركض برجلها! فغضب وقال: أتقول لي مثل هذا وأنت عبدي؟ فقال له بقراط: بل أنت عبد عبدي. قال: وكيف ذلك؟ قال: لأن شهواتك قد ملكتك وأنا ملكت الشهوات! قال: فأنا الملك بن الأملاك السادة، أملك من البلاد كذا ومن الأموال كذا، ومن الرجال كذا! فقال: أراك تفتخر علي بما ليس من نفسك، وإنما سبيلك أن تفتخر بنفسك،
1 / 25