ولو أعطيت ما مضى من الدنيا بعمامتي هذه ما قبلته، فكيف آسى على ما بقي منها! وروي أن النبي ﷺ ضرب مثلًا للدنيا ولابن آدم عند الموت، كمثل رجل له ثلاثة أخلاء، فلما حضره الموت قال لأحدهم: قد كنت لي خلًا مكرمًا مؤثرًا وقد حضرني من أمر الله تعالى ما ترى، فماذا عندك؟ فيقول: هذا أمر الله غلبني عليك ولا أستطيع أن أنفس كربك، ولكن ها أنا بين يديك فخذ مني زادًا ينفعك. ثم قال للثاني: قد كنت عندي آثر الثلاثة، وقد نزل بي أمر الله تعالى ما ترى، فماذا عندك؟ فيقول: هذا أمر الله تعالى غلبني عليك ولا أستطيع أن أنفس كربك، ولكن ها سأقوم عليك في مرضك، فإذا مت أنقيت غسلك وجودت كسوتك وسترت جسدك وعورتك. ويقول للثالث: قد نزل بي أمر الله تعالى ما ترى، وأنت أهون الثلاثة علي فماذا عندك؟ فيقول: إني قرينك وحليفك في الدنيا والآخرة، أدخل معك قبرك حين تدخله وأخرج منه حين تخرج ولا أفارقك أبدًا. قال النبي ﷺ: الأول ماله والثاني أهله والثالث عمله.
ولما لقي ميمون بن مهران الحسن البصري قال له: قد كنت أحب لقاءك فعظني. فقرأ الحسن: ﴿أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ*ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ*مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ﴾ (الشعراء٢٠٧: ٢٠٥) . فقال: عليك السلام أبا سعيد لقد وعظت أحسن موعظة، واعجبًا كل العجب للمكذب بالنشأة الأخرى وهو يرى الأولى! واعجبًا كل العجب للمكذب بالنشور وهو يموت كل ليلة ويحيا! واعجبًا كل العجب للمصدق بدار الخلود وهو يسعى لدار الغرور! واعجبًا كل العجب للمختال الفخور وإنما هو خلق من نطفة ثم يعود جيفة، وهو بين ذلك لا يدري ما يفعل به! وروي أن الله تعالى أوحى إلى آدم ﵇ قال: جماع الخير كله في أربع: واحدة لي وواحدة لك وواحدة بيني وبينك وواحدة بينك وبين الناس. فأما التي لي فأن تعبدني ولا تشرك بي شيئًا. وأما التي لك فاعمل ما شئت فإني أجزيك به. وأما التي بيني وبينك فعليك الدعاء وعلي الإجابة. وأما التي بينك وبين الناس فكن لهم كما تحب أن يكونوا لك. وقال سليمان بن داود ﵉: أوتينا ما أوتي الناس وما لم يؤتوا، وعلمنا ما علم الناس وما لم يعلموا، ولم نجد شيئًا أفضل من خشية الله تعالى في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر.
وكتب معاوية إلى عائشة ﵂ أن اكتبي إلي بكتاب توصيني فيه ولا تكثري علي، فكتبت عائشة: سلام عليك. أما بعد. فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: من التمس رضاء الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس، والسلام. ولما ضرب ابن ملجم عليًا ﵁ أدخل منزله فاعترته غشية ثم أفاق، ودعا الحسن والحسين فقال: أوصيكما بتقوى الله تعالى والرغبة في الآخرة والزهد في الدنيا. ولا تأسفا على شيء فاتكما منها، اعملا الخير وكونا للظالم خصمًا وللمظلوم عونًا، ثم دعا محمدًا وقال له: أما سمعت ما أوصيت به أخويك؟ قال: بلى. قال: فإني أوصيك به وعليك ببر أخويك وتوقيرهما ومعرفة فضلهما ولا تقطع أمرًا دونهما. ثم أقبل عليهما وقال: أوصيكما به خيرًا فإنه سيفكما وابن أبيكما، وأنتما تعلمان أن أباه كان يحبه فأحباه.
ثم قال له: يا بني أوصيك بتقوى الله في الغيب والشهادة وكلمة الحق في الرضى، والغضب والقصد في الغنى والفقر، والعدل على الصديق والعدو، والعمل في النشاط والكسل، والرضى عن الله في الشدة والرخاء. يا بني ما شر بعده الجنة بشر ولا خير بعده
1 / 27