يخرجون منه شبه الحلية، فقلت لبعض الغواصين: منذ كم كان هذا البحر ههنا؟ فقالوا: سبحان الله ما يذكر آباؤنا وأجدادنا إلا أن هذا البحر منذ بعث الله الطوفان.
ثم غبت عنها نحوًا من خمسمائة عام ثم انتهيت إليها، فإذا ذلك البحر قد غاض ماؤه وإذا مكانه غيضة ملتفة بالقصب والبردى والسباع حولها، وإذا صيادون يصيدون السمك في زوارق صغار فقلت لبعضهم: أين البحر الذي كان ههنا؟ فقال: سبحان الله ما يذكر آباؤنا ولا أجدادنا أنه كان ههنا قط بحر.
فغبت عنها نحوًا من خمسمائة عام ثم أتيت إلى ذلك الموضع، فإذا هو مدينة على حالته الأولى، والحصون والقصور والأسواق قائمة. فقلت لبعضهم: أين الغيضة التي كانت ههنا ومتى بنيت هذه المدينة؟ فقال: سبحان الله ما يذكر آباؤنا ولا أجدادنا إلا أن هذه المدينة على حالها منذ بعث الله الطوفان. فغبت عنها نحوًا من خمسمائة عام ثم انتهيت إليها، فإذا عاليها سافلها، وهي تدخن بدخان شديد، فلم أر أحدًا أسأله، ثم رأيت راعيًا فسألته: أين المدينة التي كانت ههنا ومتى حدث هذا الدخان؟ فقال: سبحان الله ما يذكر آباؤنا ولا أجدادنا إلا أن هذا الموضع كان هكذا منذ كان! فهذا أعجب شيء رأيته في سياحتي في الدنيا، فسبحان مبيد العباد ومفني البلاد، ووارث الأرض ومن عليها إلى يوم التناد! شعر:
قف بالديار فهذه آثارهم
تبكي الأحبة حسرة وتشوقا
كم قد وقفت بها أسائل مخبرًا
عن أهلها أو ناطقًا أو مشفقا
فأجابني داعي الهوى في رسمها:
فارقت من تهوى فعز الملتقى!
وسمعت بالعراق منشدًا ينشد هذه الأبيات:
أيها الربع الذي قد دثرا
كان عينًا ثم أضحى أثرا
أين سكانك ماذا فعلوا
خبرن عنهم سقيت المطرا!
ولقد نادى مناديهم بنا:
رحلوا واستودعوني عبرا
ومما استحسن في هذا الباب قول القائل:
رب ورقاء هتوف في الضحى
ذات شجو صدحت في فنن
ذكرت إلفًا ودهرًا صالحًا
فبكت حزنًا فهاجت حزني
فبكائي ربما أرقها
وبكاها ربما أرقني
فإذا تسعدني أسعدها
وإذا أسعدها تسعدني
ولقد تشكو فما أفهمها
ولقد أشكو فما تفهمني
غير أني بالجوى أعرفها
وهي أيضًا بالجوى تعرفني
ونظر رجل من العباد إلى باب ملك الملوك وقد شيده وأتقنه وزوقه، فقال: باب جديد وموت عتيد ونزع شديد وسفر بعيد! ولما ثقل عبد الملك بن مروان رأى غسالًا يلوي بيده ثوبًا فقال: وددت أني كنت غسالًا لا أعيش إلا بما أكتسبه يومًا فيومًا! فبلغ ذلك أبا حازم فقال: الحمد لله الذي جعلهم عند الموت يتمنون ما نحن فيه ولا نتمنى عنده ما هم فيه. وقال الرسول ﵊: اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ونفس لا تشبع وقلب لا يخشع وعين لا تدمع، هل يتوقع أحدكم من الدنيا إلا غنى مطغيًا أو فقرًا منسيًا أو مرضًا مفسدًا أو هرمًا مفندًا، أو الدجال فالدجال شر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر؟ وقال عيسى بن مريم ﵇:
أوحى الله تعالى إلى الدنيا: من خدمني فاخدميه ومن خدمك فاستخدميه، يا دنيا مري على أوليائي ولا تحلي لهم فتفتنيهم. وهذا الحرف يروى بكسر الميم من المرارة.
وقال مورق العجلي: ابن آدم، في كل يوم تؤتى رزقك وأنت تحزن وينقضي عمرك وأنت لا تحزن، تطلب ما يطغيك وعندك ما يكفيك، فلا بقليل تقنع
1 / 24