فهناك تعلم موقنًا
ما كنت إلا في غرور!
فبكى هارون، فقال الفضل بن يحيى: بعث إليك أمير المؤمنين لتسره فأحزنته! فقال هارون: دعه فإنه رآنا في ضلالة وعمى فكره أن يزيدنا عمى! وروي أن سليمان بن عبد الملك لبس أفخر ثيابه، ومس أطيب طيبه ونظر في مرآة فأعجبته نفسه وقال: أنا الملك الشاب! وخرج إلى الجمعة وقال لجاريته: كيف ترين؟ فقالت:
أنت نعم المتاع لو كنت تبقى
غير أن لا بقاء للإنسان!
ليس فيما بدا لنا منك عيب
عابه الناس غير أنك فان!
فأعرض بوجهه ثم خرج وصعد المنبر وصوته يسمع آخر المسجد، ثم ركبته الحمى فلم يزل صوته ينقص حتى ما يسمعه من حوله، فصلى ورجع بين اثنين يسحب رجليه، فلما صار على فراشه قال للجارية: ما الذي قلت لي في صحن الدار وأنا خارج؟ قالت: ما رأيتك ولا قلت لك شيئًا وأنى لي بالخروج إلى صحن الدار؟ فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون نعيت إلى نفسي. ثم عهد عهده وأوصى وصيته، فلم تدر عليه الجمعة الأخرى إلا وهو في قبره رحمه الله تعالى. ووجد مكتوبًا على قصر سيف بن ذي يزن:
من كان لا يطأ التراب برجله
وطئ التراب بصفحة الخد
من كان بينك في التراب وبينه
شبران كان كفاية البعد
لو بعثرت للناس أطباق الثرى
لم يعرف المولى من العبد!
وقال الهيثم بن عدي:
وجدوا غارًا في جبل لبنان في زمن الوليد بن عبد الملك، وفيه رجل مسجى على سرير من ذهب وعند رأسه لوح من ذهب مكتوب فيه بالرومية: أنا سبا بن أنوس بن سبأ، خدمت عيصو بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرب الديان الأكبر، وعشت بعده عمرًا طويلًا ورأيت عجبًا كثيرًا، ولم أر فيما رأيت أعجب من غافل عن الموت وهو يرى مصارع آبائه، ويقف على قبور أحبابه ويعلم أنه صائر إليهم ثم لا يتوب، وقد علمت أن الأجلاف الحفاة سينزلونني عن سريري ويتولونه، وذلك حين يتغير الزمان ويتأمر الصبيان ويكثر الحدثان، فمن أدرك هذا الزمان عاش قليلًا ومات ذليلًا! وروي أن الإسكندر مر بمدينة قد ملكها سبعة ملوك وبادوا، فقال: هل بقي من نسل الملوك الذين ملكوا هذه المدينة أحد؟ قالوا: رجل يكون في المقابر. فدعا به وقال: ما دعاك إلى لزوم المقابر؟ قال: أردت أن أعزل عظام الملوك عن عظام عبيدهم فوجدت ذلك سواء! قال: فهل لك أن تتبعني فأحيي بك شرف آبائك إن كانت لك همة. قال: إن همتي لعظيمة إن كانت بغيتي عندك. قال: وما بغيتك؟ قال: حياة لا موت فيها وشباب لا هرم معه، وغنى لا يتبعه فقر وسرور لا يغيره مكروه. قال: ما أقدر على هذا. قال: فانفذ لشأنك وخلني أطلب بغيتي ممن هي عنده. قال الإسكندر: وهذا أحكم من رأيت.
وروي في الإسرائيليات أن عيسى بن مريم ﵇، بينا هو في بعض سياحته إذ مر بجمجمة نخرة، فأمرها أن تتكلم فقالت: يا روح الله أنا بلوام بن حفص ملك اليمن عشت ألف سنة، وولد لي ألف ذكر وافتضضت ألف بكر، وهزمت ألف عسكر وقتلت ألف جبار، وافتتحت ألف مدينة، فمن رآني فلا يغتر بالدنيا فما كانت إلا كحلم نائم! فبكى عيسى ﵇. ووجد مكتوبًا على قصر بعض الملوك، وقد باد أهله وأقفرت ساحته،
1 / 18