ولما دخل أبو الدرداء الشام قال: يا أهل الشام اسمعوا قول أخ لكم ناصح. فاجتمعوا عليه، فقال: ما لي أراكم تبنون ما لا تسكنون، وتجمعون ما لا تأكلون، وتقولون ما لا تدركون؟ إن الذين كانوا قبلكم بنوا مشيدًا وأملوا بعيدًا، وجمعوا كثيرًا فأصبح أملهم غرورًا وجمعهم بورًا ومساكنهم قبورًا. وروى الجاحظ قال: وجد مكتوبًا على حجر: ابن آدم لو رأيت يسير ما بقي من أجلك لزهدت في طول ما ترجو من أملك، ولرغبت في الزيادة من عملك ولقصرت عن حرصك وحيلك، وإنما يلقاك غدًا ندمك، وقد زلت بك قدمك، وأسلمك أهلك وحشمك، وتبرأ منك القريب وانصرف عنك الحبيب، فلا أنت في عملك زائد ولا إلى أهلك عائد.
وقال مالك بن أنس ﵁: بلغني أن امرأتين أتتا عيسى بن مريم ﵇ فقالتا: يا روح الله ادع الله أن يخرج أبانا فإنه هلك ونحن غائبتان عنه. قال: هل تعرفان قبره؟ فقالتا: نعم. فذهب معهما فأتتا قبرًا فقالتا: هذا هو. فدعا الله فأخرج لهما الذي به فإذا هو ليس به، فدعا فرد، ثم دلتاه على قبر آخر فدعا أن يخرج فخرج فإذا هو به، فلزمتاه وسلمتا عليه ثم قالتا: يا نبي الله يا معلم الخير ادع الله أن يبقيه لنا. فقال: وكيف أدعو له ولم يبق له رزق يعيش به؟ ثم رده وانصرف. وأنشد بعض الأدباء:
واأسفي من فراق قومٍ هم المصابيح والحصون!
والمزن والمدن والرواسي والخير والأمن والسكون!
لم تتغير بنا الليالي حتى توفتهم المنون!
فكل جمرٍ لنا قلوب وكل ماءٍ لنا عيون
وروي أن النعمان بن المنذر خرج متصيدًا ومعه عدي بن زيد، فمرا بشجرة، فقال عدي بن زيد: أيها الملك أتدري ما تقول هذه الشجرة؟ قال: لا. قال: فإنها تقول:
من رآنا فليحدث نفسه أنه موفٍ على قرب زوال
فصروف الدهر لا تبقى لها ولما تأتي به صم الجبال
رب ركب قد أناخوا حولنا يشربون الخمر بالماء الزلال
والأباريق عليها فدم وجياد الخيل تجري بالجلال
عمروا الدهر بعيشٍ حسن آمني دهرهم غير عجال
عصف الدهر بهم فانقرضوا وكذاك الدهر حالًا بعد حال!
قال: ثم جاوزوا الشجرة فمروا بمقبرة فقال له عدي: أتدري ما تقول هذه المقبرة؟ قال: لا. قال: فإنها تقول:
أيها الركب المخبونا على الأرض المجدونا
كما أنتم كذا كنا كما نحن تكونونا
فقال النعمان: قد علمت أن الشجرة والمقبرة لا يتكلمان، وقد علمت أنك إنما أردت عظتي فجزاك الله عني خيرًا! فما السبيل الذي تدرك به النجاة؟ قال: تدع عبادة الأوثان وتعبد الله وحده. قال: وفي هذا النجاة؟ قال: نعم. قال: فترك عبادة الأوثان وتبصر حينئذ وأخذ في العبادة والاجتهاد.
وقال عبد الله المعلم: خرجنا من المدينة حجاجًا، فلما كنا بالروثية نزلنا فوقف بنا رجل عليه ثياب رثة له منظر وهيئة، فقال: من يبغ حارسًا من يبغ ساقيًا؟ فقلت: دونك وهذه القربة. فأخذها وانطلق، فلم يلبث إلا يسيرًا حتى أقبل وقد امتلأت أثوابه طينًا، فوضعها كالمسرور الضاحك ثم قال: ألكم غير هذا؟ قلنا: لا. فأطعمناه قرصًا باردًا فأخذه وحمد الله تعالى وشكره، ثم اعتزل وقعد فأكله أكل جائع، فأدركتني عليه الرأفة فقمت إليه بطعام كثير طيب فقلت: قد علمت أنه لم يقع منك هذا القرص بموقع،
1 / 15