8
ما أوردناه بالأعلى هو التفسير الواقعي لسيناريو المصفوفة. حسب هذا التفسير، قد تكون معتقدات المصفوفة حقيقية، وهي بالتأكيد حقيقية في معظم الوقت. ولا يمكن إنكار أن هذه المعتقدات تتبع ما يحدث داخل كمبيوتر الآلات والأدمغة المتصلة به فقط. لكن الكثير جدا من الأشياء يحدث هناك. المصفوفة حقيقية، وعندما يضع الناس داخل المصفوفة نظريات حول وضعهم، ويطورون رؤية لعلم الوجود في هذا العالم، فإن ذلك العلم ليس مخطئا خطأ جذريا. بل هو رؤية دقيقة على الأقل لجزء صغير من العالم؛ عالم المصفوفة.
التفسير الأفلاطوني
يخبر مورفيس نيو أن المصفوفة عالم أسدل أمام عينيه ليعميه عن الحقيقة (الدقيقة 28). هل هو على خطأ؟ ليس بالضبط. ربما لا تعمي المصفوفة عيني نيو عن الحقائق العادية، لكنها تعميه عن حقائق مهمة حقا مثل وجود جسد ثان له، وكون عالمه قد صمم على يد معماري برمجي بهدف إخضاع البشر بينما تستغل الآلات أجسادهم الثانية كمصدر للطاقة، وكون الآلات انتصرت في حربها مع البشر، وكون البشر دمروا الغلاف الجوي لكوكب الأرض بهدف منع الآلات من الوصول إلى الطاقة الشمسية، وغير ذلك من حقائق. عندما كان نيو عالقا داخل المصفوفة، لم يفهم الطبيعة الحقيقية للأشياء. لكنه على مدار الفيلم يتحرر من المصفوفة، ويتأتى له استيعاب مجموعة من الحقائق المعقدة.
هذه المجموعة من الأفكار لها أصل قديم جدا في الفلسفة؛ فقد روى أفلاطون جزءا كبيرا من هذه القصة ذاتها في كتابه «الجمهورية». تخيل أفلاطون كهفا يحوي مجموعة من المساجين المقيدين والمجبورين على النظر إلى الحائط. (رءوسهم مثبتة بحيث لا يقدرون على رؤية شيء إلا الحائط.) خلف المساجين تشتعل نار ساطعة، وأمام هذه النار يروح ويجيء مجموعة من الحراس، يخفيهم عن عين المساجين خندق. يرفع الحراس أشياء من فوق الخندق، وتلقي تلك الأشياء ظلالا على الحائط. لا يشاهد المساجين دائما وأبدا إلا تلك الظلال على الحائط. أما الأشياء الحقيقية فهي خلفهم، مخفية للأبد عنهم. (لاحظ ها هنا أن أفلاطون اخترع السينما أيضا في رؤيته تلك.) وبما أن المساجين لم يختبروا تلك الأشياء بأنفسهم بل رأوا ظلالها فحسب، فإنهم يعتقدون خطأ أن الظلال هي الواقع. بعد ذلك تخيل أفلاطون أن سجينا واحدا قد تحرر، والتفت خلفه، ورأى النار وشاهد أصل الظلال؛ ومن ثم أدرك أنه حتى هذه اللحظة كان مخطئا تماما في فهم طبيعة عالمه. تحسس السجين طريقه خارج الكهف حيث ضوء النهار، واكتشف عظمة الشمس الحارقة؛ مصدر الضوء كله؛ فيعود للكهف محاولا إخبار رفاقه من المساجين عن مغامرته في العالم الحقيقي، لكن نظره لم يعد متكيفا مع عالم الكهف وظلاله، ولم يعد قادرا على متابعة تراقص الظلال على الحائط؛ فيبدو كلامه هراء مطلقا، يدفع بقية المساجين إلى نبذه باعتباره أحمق.
ابتدع أفلاطون استعارة الكهف كي يشرح رحلة الفيلسوف من الجهل بالطبيعة الحقة للأشياء إلى معرفة الواقع المطلق. وهو واحد من أعظم المتفائلين في الفلسفة الغربية؛ فهو يعتقد أن التطبيق الفلسفي للمنطق في وسعه تحريرنا من قيود جهلنا، وإرشادنا نحو فهم عميق لما هو حقيقي حقيقة مطلقة. اعتقد أفلاطون أن ما هو حقيقي على نحو مطلق يدعى «أشكالا»، وهي أجسام مثالية لا تتغير، وتمثل النماذج الأصلية للأجسام العادية. الأجسام العادية ناقصة، ودائما في تغير، وهي لا تنفك تنمو أو تتضاءل أو تتلاشى. هي نسخ أدنى مرتبة لما هو حقيقي. أما عالم التجارب العادية فهو لا يختلف كثيرا عن عالم الظلال على حائط الكهف. لا ينكر أفلاطون أن الظلال موجودة، لكنه يبدي ملاحظة فحسب حول كونها مجرد نسخ من شيء آخر، وأن المرء لن يفهم طبيعتها على الإطلاق حتى يدرك هذه الحقيقة. من منظور أفلاطون، فإن فهمنا المعتاد للعالم ناقص بالمثل ونحن عاجزون عن تجاوز هذا الفهم حتى ندرك أن موضوعات أفكارنا اليومية ليست سوى نسخ للأشكال.
من السهل اكتشاف التناظر بين طرح أفلاطون وسيناريو المصفوفة. داخل المصفوفة، الفرد سجين (في حجيرة) يتابع ظلالا فوق حائط (قصص افتراضية من ابتكار الكمبيوتر). نيو هو السجين المتحرر، الذي توصل في النهاية إلى فهم الحقائق الأكثر خصوصية عن عالم الآلات. بالطبع يوجد بعض الاختلافات. على العكس من عالم الأشكال الأفلاطوني، عالم الآلات ليس مثاليا، بل هو عالم قذر يرثى له. يطلق عليه مورفيس «صحراء الواقع» (الدقيقة 41). وعلى العكس من السجين العائد إلى الكهف في قصة أفلاطون والذي يتعثر هنا وهناك في الظلمة شبه التامة، يعود نيو إلى المصفوفة بقدرات خارقة، وهو على أي حال لديه مشكلات أكثر إلحاحا من التحدث إلى مجموعة من الأفراد الغافلين عن الحياة خارج المصفوفة. على الرغم من هذه الاختلافات، يجسد التفسير الأفلاطوني للمصفوفة البنية الأساسية «للثلاثية المصفوفة» تجسيدا جيدا للغاية. فعالم المصفوفة موجود حقا، لكنه مجرد نسخة للعالم الحقيقي. هذا هو التفسير الأفلاطوني للمصفوفة، وهو لا يتعارض مع الزعم الأساسي للتفسير الواقعي، بل في الحقيقة يضيف إليه. يؤكد التفسير الواقعي على وجود أشياء داخل المصفوفة، وعلى حقيقة المزاعم حولها. يكمن الفخ ها هنا في المساواة بين الوجود والواقع؛ أي الزعم بأن عالم المصفوفة واقعي مثله مثل عالم زيون؛ كلا العالمين موجودان في النهاية، ونحن لا نصف شيئا بأنه واقع إلا إذا كان موجودا. التفسير الأفلاطوني يقاوم الوقوع في هذا الفخ؛ إذ يربط مفهوم الواقع بما هو أكثر من مجرد الوجود.
إحدى طرق التعبير عن النقطة الأساسية التي يطرحها التفسير الأفلاطوني هي كالتالي: العالم خارج المصفوفة «واقعي أكثر» من العالم داخلها. للواقعية درجات، وهي تختلف عن الوجود. الأشياء إما توجد أو لا توجد. على العكس من ذلك قد تكون الأشياء أكثر أو أقل واقعية. الظلال على حائط كهف أفلاطون أقل واقعية من الأجسام التي تنعكس عنها. الملعقة داخل المصفوفة أقل واقعية من الملعقة في مدينة زيون. ماذا يحدد كون أحد الأشياء أكثر واقعية من الآخر؟ في كل من كهف أفلاطون وسيناريو المصفوفة، تتعلق المسألة بالأصالة. ملعقة زيون هي شيء أكثر أصالة لأن ملعقة المصفوفة هي نسخة منها. ملعقة زيون هي الملعقة الأصلية الحقيقية، بينما ملعقة المصفوفة تقليد مزيف إلى حد ما. يبدو تفسير مستويات الواقعية من منظور الأصالة منطقيا عند تطبيقه على نظرية الأشكال التي وضعها أفلاطون، وينجح كذلك مع سيناريو المصفوفة؛ لكنه لا يثير الاهتمام كثيرا من المنظور الفلسفي إلا إذا اعتنقت نظرية الأشكال أو اعتبرت فيلم «المصفوفة» فيلما وثائقيا.
هل يوجد سبيل أكثر إثارة للاهتمام من الناحية الفلسفية لتعريف درجات الواقعية، سبيل يقدر قصة كهف أفلاطون وحجيرة نيو حق قدرهما لكن لا يساوي بين الواقعية والأصالة؟ ربما يوجد سبيل كهذا. قد نحاول تعريف درجات الواقعية كالتالي: «أ» واقعي أكثر من «ب» إذا كانت النظرية التي تفترض «أ» تطرح رؤية أدق وأكثر اكتمالا للعالم من النظرية التي تفترض «ب».
إن منظور المصفوفة للأشياء ليس زائفا بقدر ما هو أجوف. وعلم الوجود لدى فيلسوف المصفوفة ليس خاطئا على نحو جذري بقدر ما هو سطحي. فعناصر علم الوجود الذي يطرحه فيلسوف المصفوفة ستكون أقل واقعية عن عناصر علم الوجود الذي يطرحه المعماري على سبيل المثال؛ ففيلسوف المصفوفة أقل اتصالا بالواقع. هو لا يتصل بأجزاء أقل من العالم، بل هو أقل اتصالا بالعالم كله.
صفحة غير معروفة