شكر وتقدير
تمهيد
الجزء الأول: الفلسفة والسينما
1 - لماذا الربط بين السينما والفلسفة؟
2 - الفلسفة والمشاهدة السينمائية
الجزء الثاني: نظرية المعرفة (الإبستمولوجيا) وما وراء الطبيعة (الميتافيزيقا)
3 - الحقيقة والوهم في فيلم «استعادة كاملة»
4 - علم الوجود و«المصفوفة»
5 - العقل هو الأساس: «ذكاء اصطناعي» ومشاعر الحب لدى الروبوت
6 - «جسر المطار» وحلم السفر عبر الزمن
صفحة غير معروفة
الجزء الثالث: الوضع البشري
7 - القدر والاختيار: فلسفة «تقرير الأقلية»
8 - الهوية الشخصية: دراسة فيلم «تذكار»
9 - مشهد الرعب: «ألعاب مسلية»
10 - البحث عن معنى في جميع الأماكن الخطأ: «أن تحيا» (إيكيرو)
الجزء الرابع: الأخلاقيات والقيم
11 - «جرائم وجنح» وهشاشة الدافع الأخلاقي
12 - «حياة الآخرين»: الحظ الأخلاقي والندم
13 - «فارس الظلام»: باتمان وأخلاق الواجب والنظرية العواقبية
14 - طفولة خطرة: «الوعد» واحتمالية الفضيلة
صفحة غير معروفة
قراءات إضافية
شكر وتقدير
تمهيد
الجزء الأول: الفلسفة والسينما
1 - لماذا الربط بين السينما والفلسفة؟
2 - الفلسفة والمشاهدة السينمائية
الجزء الثاني: نظرية المعرفة (الإبستمولوجيا) وما وراء الطبيعة (الميتافيزيقا)
3 - الحقيقة والوهم في فيلم «استعادة كاملة»
4 - علم الوجود و«المصفوفة»
5 - العقل هو الأساس: «ذكاء اصطناعي» ومشاعر الحب لدى الروبوت
صفحة غير معروفة
6 - «جسر المطار» وحلم السفر عبر الزمن
الجزء الثالث: الوضع البشري
7 - القدر والاختيار: فلسفة «تقرير الأقلية»
8 - الهوية الشخصية: دراسة فيلم «تذكار»
9 - مشهد الرعب: «ألعاب مسلية»
10 - البحث عن معنى في جميع الأماكن الخطأ: «أن تحيا» (إيكيرو)
الجزء الرابع: الأخلاقيات والقيم
11 - «جرائم وجنح» وهشاشة الدافع الأخلاقي
12 - «حياة الآخرين»: الحظ الأخلاقي والندم
13 - «فارس الظلام»: باتمان وأخلاق الواجب والنظرية العواقبية
صفحة غير معروفة
14 - طفولة خطرة: «الوعد» واحتمالية الفضيلة
قراءات إضافية
السينما والفلسفة
السينما والفلسفة
ماذا تقدم إحداهما
للأخرى
تأليف
داميان كوكس ومايكل ليفين
ترجمة
نيڤين عبد الرؤوف
صفحة غير معروفة
مراجعة
هاني فتحي سليمان
شكر وتقدير
خالص الشكر لجميع من ساعدونا وهم كثر - دون أن يدري بهم أحد ودون علم منهم في كثير من الأحيان - في إعداد هذا النص وتطوير آرائنا حول الأفلام التي نناقشها، وذلك بمجرد ذكر بضع كلمات ليس إلا، وأحيانا بتقديم آراء أكثر تطورا عن أحد الأفلام أو إحدى الشخصيات أو المشكلات الفلسفية. ونشكر تحديدا طلابنا في مادة الفلسفة والسينما بجامعة بوند وجامعة غرب أستراليا. نود كذلك توجيه الشكر إلى كل من مارجريت لاكاز وإيمي باريت لينارد ولورنا ميهتا وبيل تايلر وتيد روبرتس وكارول ماك.
تمهيد
يهدف هذا الكتاب إلى تعريف القراء بمجموعة متنوعة من القضايا الفلسفية عبر عدسة السينما، فضلا عن قضايا أخرى تتعلق بطبيعة السينما ذاتها، جامعا بذلك بين موضوعين لا يجتمعان في أغلب الكتب الصادرة حديثا والتي تتناول الفلسفة والسينما. السينما وسيلة عظيمة القيمة لاستكشاف موضوعات فلسفية ومناقشتها، لكنها لا تخلو من أوجه الخطر والقصور. وإبراز الطرق التي في وسع السينما استخدامها لإضفاء حالة من الغموض الفلسفي، عبر الاستعارات وغيرها من الصور البلاغية، وذلك للتأثير في المشاعر أو مغازلة شتى الأهواء؛ هو جزء ذو أهمية من أي منهج للتحليل السينمائي الفلسفي. وسنحاول بين دفتي هذا الكتاب النظر إلى المناقشات الفلسفية السينمائية بعين النقد.
ينقسم الكتاب إلى أربعة أجزاء: في الفصل الأول من الجزء الأول سنناقش إمكانيات السينما كوسيط فلسفي؛ لماذا تشكل السينما وسيلة جيدة لمعالجة القضايا الفلسفية؟ وكيف يمكن تدعيم النقاشات الفلسفية من خلال السينما؟ وفي الفصل الثاني سنناقش بعض القضايا الفلسفية التي تطرحها السينما ذاتها. وبينما يركز هذا الفصل على قوة السينما وأهميتها، فإنه يطرح كذلك قضايا فلسفية محورية أخرى حول السينما والمشاهدة السينمائية. ونناقش عبر صفحات الكتاب المزيد من القضايا التي تتعلق بطبيعة السينما والمشاهدة السينمائية، من خلال طرح أسئلة من قبيل: لماذا تستهوينا أفلام معينة؟ كيف تحقق لنا الأفلام إمتاعا؟ كيف نستطيع اكتشاف تلاعب فيلم ما بحكمنا الفلسفي، وكيف ندرك البديهيات التي بنينا عليها هذا الحكم؟ كيف نستطيع استغلال نقاط الالتباس التي تعج بها الأفلام لأغراض فلسفية؟ (مع مراعاة الحذر بالطبع في معالجة كل من الأفلام والفلسفة.)
أعددنا الفصول في الأجزاء من الثاني حتى الرابع كي تقرأ عقب مشاهدة الأفلام المرشحة، وبعد قراءة الجزء الأول. يركز الجزء الثاني على الأفلام التي تثير تساؤلات حول نظرية المعرفة (الإبستمولوجيا) وما وراء الطبيعة (الميتافيزيقا)، وتتناول موضوعات مثل الشكوكية وعلم الوجود والذكاء الاصطناعي والزمن (لا سيما السفر عبر الزمن). ونناقش في الجزء الثالث أربعة أفلام تتصل بما قد نطلق عليه بوجه عام «الحالة البشرية»، حيث نركز على الإرادة الحرة والهوية الذاتية والموت ومعنى الحياة. نقدم كذلك بحثا متعمقا نسبيا لطبيعة المشاهدة السينمائية؛ إذ يركز الفصل التاسع على أفلام الرعب لا سيما أفلام الرعب الواقعي. فنتساءل عما يجذب الجمهور إلى تجربة الرعب؛ أي إلى مشاعر الخوف والتقزز. في حين يهتم الجزء الرابع بقضايا الأخلاق والقيم، حيث نركز على الأفلام التي تعالج بدورها الموضوعات التالية: دوافع عيش حياة أخلاقية، والحظ الأخلاقي، وأخلاق الواجب، ونظرية العواقبية (العبرة بالنتيجة)، وأخيرا نظرية الفضيلة.
إن هدف كتابنا هو إلقاء نظرة عامة على موضوعات في صميم علم الفلسفة، من منظور الكتابات الأخيرة في مجالي الفلسفة والعلاقة بينها وبين السينما. فنتناول كلا من فلسفة السينما والفلسفة في الأعمال السينمائية. هذان الجانبان من الكتاب يدعم كل منهما الآخر. وقد كانت فكرة الجمع بينهما هي الأساس الذي بني عليه هذا العمل. لقد اخترنا الأفلام بناء على محتواها وجودتها وإمكاناتها الفلسفية. بعبارة أخرى تخيرنا أفلاما تتناول قضايا فلسفية تناولا مشوها ومبتسرا في بعض الأحيان، لكنه يساعدنا كذلك في أوجه أخرى على إدراك القضايا الفلسفية المتضمنة، ومعها ندرك شيئا ما عن قيمة الفلسفة. وحيثما استطعنا استخدمنا أفلاما لا تكتفي بتسليط الضوء على الفكر الفلسفي، بل تضيف إليه.
سنستعين بأفلام كلاسيكية وأخرى معاصرة، وقد اخترنا كلا منها لتسليط الضوء على مجموعة بعينها من الأسئلة الفلسفية، أحيانا بطرق غير مألوفة مع أفلام غير متوقعة، حيث سنناقش أفلاما مشهورة وذات شعبية، إلى جانب أفلام أخرى أقل شهرة. وفي نهاية كل فصل نورد قائمة مختصرة بقراءات إضافية مقترحة وقائمة تضم أسئلة لمتابعة النقاش الفلسفي.
صفحة غير معروفة
يطمح هذا الكتاب في المقام الأول إلى التأمل الفلسفي من خلال الأفلام، وإلى التفكير في الأفلام من منظور فلسفي. وتتناول الفصول قضايا حاضرة في الأفلام من المنظورين الفلسفي والسينمائي كذلك. الأفلام وسيط صالح للنقاش الفلسفي من عدة أوجه؛ إذ يمكن استخدامها لتسليط الضوء على قضايا فلسفية، وكوسيلة لاختبار نظريات فلسفية أو إجراء تجارب فكرية فلسفية، وكمصادر لمعضلات أو ظواهر مثيرة للاهتمام تستدعي الاستقصاء الفلسفي، وكطريقة لفهم مغزى قضايا فلسفية أو تحديد الاحتمالات الفلسفية. يدفعنا التفكير المتأمل في السينما إلى دروب الفلسفة عبر طرح أسئلة عن طبيعة الأفلام ذاتها وطبيعة المشاهدة السينمائية تحديدا. في بعض الأحيان نستخدم نظريات فلسفية لتفسير الأفلام، وفي أحيان أخرى نستخدم الأفلام لتسليط الضوء على النظريات الفلسفية. كل هذه الطرق لمشاهدة الأفلام والتأمل الفلسفي يطرحها هذا الكتاب. إن الفلسفة لا تطرح منظورا فريدا للسينما، بل إن الأفلام ذاتها هي مساع، مضطربة غالبا وفي غاية البراعة أحيانا، للاستقصاءات الفلسفية.
لا يزال المجال الذي يجمع بين السينما والفلسفة مجالا حديثا نسبيا. وما توصلنا إليه في هذا الكتاب لم يكن ليتحقق دون الجهود الرائدة لأولئك الفلاسفة والمنظرين السينمائيين الذين ساعدوا على إرساء الفلسفة والسينما كمبحث جدير بالاهتمام ودائم التطور، وفي سبيله - قطعا - للازدهار. وحتى في المواضع التي اختلفنا فيها معهم، فقد تعلمنا منهم بكل تأكيد.
الجزء
الفلسفة والسينما
يضم الجزء الأول فصلين، يناقش أولهما العلاقة بين الفلسفة والسينما. والقضية الرئيسية هنا قضية تمهيدية أيضا؛ هل السينما وسيط فلسفي جدير بالثقة؟ هل الأفلام مجال للتأملات الفلسفية؟ ما الذي ينبغي لنا توقعه من الأفلام من زاوية فلسفية؟ أما الفصل الثاني فيبحث بعضا من القضايا الفلسفية الخاصة بطبيعة السينما أو التي تنطبق على أفلام بعينها بوصفها عملا جماليا (أو عملا فنيا). كيف نتناول، من منظور فلسفي، قدرة الأفلام على استثارة مشاعر قوية، بل وإرضائها على الأقل مؤقتا، واستدعاء خيالات الانتقام والرغبات النرجسية، بل والمنحرفة؟
في الجزء الأول نستعرض أوجه الاعتراض التي أبداها الفلاسفة على الإمكانيات الفلسفية للسينما، فنشرح السبل المتنوعة التي تربط ظاهريا بين السينما ونظرية الفلسفة ونطرح علامات استفهام حولها. نوضح كذلك أنه في وسع السينما أن تصبح أكثر بكثير من مجرد اختبار أو تصوير لإحدى النظريات الفلسفية. وبدلا من طرح الإمكانيات الفلسفية لدى السينما باعتبارها مجالا يخدم أغراض الفلسفة، فإننا ننظر إلى المسألة من الجهة الأخرى ونستعرض السينما (أو بعض الأفلام) بوصفها ذات طبيعة فلسفية متأصلة. سوف نناقش العديد من القضايا الفلسفية التي تطرحها السينما جنبا إلى جنب مع التقنيات السينمائية والسردية ذات الصلة.
إن الجزء الأول يشكل خلفية ورافدا في ذات الوقت للأجزاء من الثاني إلى الرابع التي نحلل فيها المشكلات الأخلاقية والميتافيزيقية والمعرفية الرئيسية فيما يتعلق بأفلام محددة.
الفصل الأول
لماذا الربط بين السينما والفلسفة؟
مقدمة
صفحة غير معروفة
يتناول هذا الكتاب مجموعة متنوعة من المشكلات الفلسفية من خلال السينما، كما يفحص أيضا قضايا تتعلق بطبيعة السينما ذاتها. ينقسم مجال السينما والفلسفة إلى محورين متمايزين إلى حد ما. يسعى أحدهما إلى بحث القضايا الفلسفية التي تطرحها الأفلام، فعلى سبيل المثال قد تتشكك الأفلام في وجهة نظر أخلاقية معينة أو تطرح أسئلة حول الشكوكية أو طبيعة الهوية الذاتية. أما المحور الآخر فيختص بالقضايا التي تطرحها السينما بوصفها شكلا من أشكال الفن. ما الذي يميز السينما أو التصوير السينمائي بوصفه شكلا فنيا؟ ما المغزى الفلسفي وراء الأساليب الفنية والتكنولوجيا التي توظفها السينما؟ ما المغزى الفلسفي لاستجابة الجمهور للسينما؟ ما هي المزايا أو المخاطر الخاصة التي تنطوي عليها السينما بالنظر إلى جاذبيتها الجماهيرية وقدرتها على إثارة مشاعر قوية؟
إحدى القضايا التي ترتبط على ما يبدو بمحوري السينما والفلسفة كليهما هي قضية السينما باعتبارها وسيطا فلسفيا. هل في وسع الأفلام «التفلسف» فعليا، لا مجرد الاكتفاء بإبراز أفكار فلسفية؟ هل في وسع الأفلام أن تصبح أدوات للاستقصاء الفلسفي؟
1
يتناول الفصل الحالي هذه المسألة. أما المحور الثاني من مجال السينما والفلسفة؛ أي التناول الفلسفي للسينما ذاتها، فنطرحه في الفصل التالي. وقبل أن نستهل موضوع العلاقة بين السينما والفلسفة، دعونا أولا نستعرض بإيجاز بعض سمات السينما التي تجعلها قاعدة جذابة للتأملات الفلسفية.
قوة السينما ونطاق تأثيرها
يتحدث الأكاديميون كثيرا عن «الأدبيات»، التي تمثل مجموع الكتابات والأعمال الأساسية (الكلاسيكيات) التي تشكل مرجعا للأجيال المتعاقبة من البشر. ويفترض أن تنقل الأدبيات معنى وأنماطا لصياغة المفاهيم من جيل لآخر، وأن تشكل كذلك مجموع الكتابات المشتركة بين أبناء جيل واحد. نظريا، تهدف الأدبيات إلى وصف حقب وأجيال معينة وتمييزها، فتجسد على سبيل المثال مثلهم العليا (أو مثلهم العليا المزعومة) وآراءهم حول العائلة والحب والواجب الوطني. ويفترض أن تجسد الأدبيات مصدرا مرجعيا مشتركا لمجموعة من الأفراد ينتمون لثقافة ما، مهما كانت اختلافاتهم. والبعض يتساءل عما إذا كانت هذه الأعمال موجودة بالفعل أو سبق أن وجدت؛ على أي شيء استندت تلك الأعمال (الإنجيل أو غيره من الكتب المقدسة، أعمال شكسبير، أعمال جيه دي سالينجر)؟ وما المكانة التي ينبغي أن تحظى بها؟ وكيف ينبغي استخدامها؟ وما أوجه سلطتها ولأي غرض اكتسبت تلك السلطة؟
يمكن القول إن الأفلام الروائية - وندرج ضمن هذا التصنيف الأفلام الطويلة والمسلسلات التي تعرض على شاشة التليفزيون والمتاحة عبر أشكال أخرى متعددة - تشكل أدبيات أو أعمالا ومؤلفات أساسية حقيقية. إذا كان ذلك صحيحا، فإنه يرجع إلى المكانة الشعبية واللانخبوية لفن السينما؛ فأعداد من يشاهدون الأفلام ويناقشونها أكثر من أعداد من يقرءون، وبالتأكيد عدد الأفراد الذين يشاهدون الأفلام نفسها يزيد عن عدد من يقرءون الكتب نفسها، وتتخطى الأفلام الحواجز الاجتماعية والاقتصادية وغيرها من الحواجز التي تفصل بين الجماهير على نحو لم تتمكن الأعمال الكلاسيكية الغربية من فعله قط. وفي الدول المتقدمة يشاهد الجميع تقريبا الأفلام ويتحدثون عنها بين حين وآخر. ومع توافر الأفلام في صور غير مكلفة، يرى أيضا العديد من أفراد الفئات المحرومة اقتصاديا الأفلام بكثرة. وفي نظر عدد لا يستهان به، تشكل الأفلام مركزا مرجعيا مشتركا حيث تحلل القيم والقضايا الأخلاقية والتساؤلات العامة والفلسفية. تجسد الأفلام ذلك كله بطريقة مميزة، فهي متاحة بسهولة، وغالبا ما تتمتع بجاذبية جمالية، فضلا عن كونها مسلية من نواح تجعلها مؤثرة من الناحية العاطفية والفكرية أو الذهنية (انظر كارول: 2004). والأفلام عموما ليست جامدة ولا صعبة الفهم كما هي الحال عادة مع النصوص الفلسفية أو الحجج الجدلية المنهجية. تحظى الأفلام بشعبية، وهي متاحة بسهولة ومنتشرة في كل مكان وجذابة على المستوى العاطفي.
غالبا ما توظف السينما أشكالا أخرى من الفن (مثل الموسيقى والفنون المرئية والأدب)، وقدرة تلك الأشكال على التأثير فينا جزء لا يتجزأ من قوة السينما . إلا أن قدرة السينما على التأثير فينا ودغدغة مشاعرنا ليست ببساطة حاصل تأثير مكوناتها الفنية؛ ففي النهاية يوجد فيض من الموسيقى والأدب والشعر والفنون المرئية التي تؤثر فينا تأثيرا مستقلا، يزيد عن تأثيرها حال تضمينها في الأفلام. ورغم ذلك تظل قدرة الفيلم الطويل على نقل الكثير من الأشياء لأعداد غفيرة في وقت قصير نسبيا (أقل من ساعتين عادة، وأقل من ثلاث ساعات في أغلب الأحوال) أحد أبرز سماتها. لكنها أيضا سمة أثارت قلق كثير من الفلاسفة والمنظرين السينمائيين. على سبيل المثال تخوف أدورنو وهوركهايمر (1990) من التأثير السلبي المحتمل للفن الجماهيري على جمهور منقاد ولا يتمتع بحس نقدي. (ولم لا ينطبق هذا الخوف أيضا على جمهور فعال وناقد؟ فهل يستطيع هذا الجمهور مقاومة سحر السينما؟) يزعم أن ألفريد هيتشكوك قال: «جميع الممثلين خراف.» ليس هذا ما قاله بالضبط إنما قال: «لم أقل قط إن الممثلين خراف، ما قلته هو أن جميع الممثلين ينبغي معاملتهم مثل الخراف.» ما قد يدفعنا للتساؤل عن رأيه في الجمهور.
من ناحية أخرى يتبنى فلاسفة آخرون، مثل والتر بينجامين، موقفا متفائلا حيال قدرة السينما على دعم الحرية السياسية والاجتماعية والفكر الإبداعي.
2
صفحة غير معروفة
من إذن أقرب للصواب: المتشائمون مثل أدورنو أم المتفائلون مثل بينجامين؟ من الصعب حقا الإجابة عن هذا السؤال. فلنتأمل مثالا محددا، وليكن قوة الخطاب السياسي مقابل القوة السياسية للسينما. هل من المحتمل، بشكل أو بآخر، أن تتمكن حجة سياسية شفهية من تغيير المواقف مقارنة بمشاهدة فيلم سياسي؟ خطبة شابلن السياسية في نهاية فيلم «الديكتاتور العظيم» (ذا جريت ديكتاتور) (1940) تجسد مثالا مثيرا للاهتمام في هذا الإطار؛ فقد تمتعت بتأثير جدير بالاعتبار، وكثير من الناس يتذكرونها بإعجاب بعد مشاهدة الفيلم. لكن الهدف الصريح للفيلم عام 1940 كان تبديد بقايا أي انجذاب محتمل لدى جمهوره ناحية أدولف هتلر والفاشية القومية عموما، وقد حقق هذا الهدف دون الاستعانة إطلاقا بالخطبة؛ فالجانب الأكبر من التأثير الفعلي للفيلم يتحقق عندما يلعب شابلن - الذي يؤدي دور أدنويد هاينكل، ديكتاتور تومانيا - ببالون يجسد خريطة العالم ضاربا إياه بمؤخرته، وهي وسيلة مذهلة في فاعليتها للسخرية من أحلام السيطرة على العالم، أما ما إذا كانت ترقى لأن تصبح مادة لنقد فلسفي قوي للفاشية فتلك قضية أخرى.
إن السينما بطبيعتها وسيلة عظيمة القيمة لطرح موضوعات فلسفية ومناقشتها، لكن من المهم إدراك الأخطار الكامنة داخلها. قد تتسبب الأفلام في قدر من التشويش والارتباك عبر طريقة صياغتها وتصويرها، ونتيجة تلاعبها بالمشاعر أو مغازلتها لشتى الأهواء. واقتفاء أثر هذا التشويش يجسد جزءا مهما من أي منهج للتحليل الفلسفي للسينما. كثير من الأفلام تغذي تحيزات ورغبات غير واعية أو بغيضة، وتتغذى عليها وعلى الإشباع الرمزي لرغبات مكبوتة. ويعتقد أن نجاح الفيلم يعتمد غالبا على نجاحه في تلبية تلك المتطلبات (تأمل على سبيل المثال أفلام الانتقام مثل «هاري بروان» (2009)، و«أمنية الموت» (ديث ويش) (1974)، و«ذات مرة في الغرب» (وانس آبون آتايم إن ذا ويست) (1968)). وكما نصدق عادة ما نرغب في تصديقه (أو ما نتمنى تصديقه) بدلا مما يدفعنا المنطق إليه، فنحن غالبا ما نصدق أشياء معينة لأن مشاعر معينة تنتابنا. تؤثر المشاعر على ما نعتقد، مثلها مثل الرغبات، وتلك حقيقة غالبا ما تستغلها السينما وتفسر إلى حد كبير قدرتها على اجتذاب الجمهور. ولهذا تمدنا الأفلام بمعلومات خاطئة وتضللنا من المنظور الفلسفي في كثير من الأحيان، بقدر ما تطلعنا، في أحيان أخرى كثيرة أيضا، على قضايا فلسفية وتعمق معرفتنا بها.
أحد أعظم مناقب السينما هو قدرتها على الجذب والتسلية، وهي نقطة سعينا جاهدين من أجل توضيحها. هذا ما يميز السينما قطعا عن معظم الكتابات الفلسفية، التي غالبا ما تكون جافة كرمال الصحراء. وفي الوقت نفسه يظل قرب السينما (ووسائل الإعلام عموما) من الجماهير، وقدرتها على الجذب والتأثير، وعلى التلاعب بنا عاطفيا وفكريا وعلى «بث الاضطراب في نفوسنا» في صميم ما ذكرناه بالأعلى من المخاوف الأخلاقية التي أثيرت حول وسائل الإعلام، مثل تلك التي طرحها أدورنو وهوركهايمر (1990) وغيرهما. ورغم ذلك، فالاشتباك الفلسفي مع السينما ليس دوما إيجابيا. وكما أشار فرويد، قد يقدم الفن سبيل العودة من الخيال إلى الواقع؛ فللسينما فائدتها في سبر أغوار العديد من الجوانب التي تغطيها الفلسفة وليس جميعها. وتعالج أفلام بعينها موضوعات في الأخلاقيات والميتافيزيقا والدين وعلم الجمال إلى جانب موضوعات في الفلسفة الاجتماعية والسياسية. وقد يبرز جانب بعينه من بين تلك الجوانب؛ فمثل الروايات، تصور الأفلام غالبا جوانب من العلاقات البشرية الكثيرة وتستكشفها فلسفيا، لا سيما الحب والصداقة. وتلك حقيقة لا تبعث على الدهشة بالنظر إلى مدى انغماسنا عموما في الموضوعات التي تجذبنا من الناحية العاطفية مقارنة بأي موضوعات أخرى.
ما العلاقة بين الفلسفة والسينما؟
لقد اندمجت السينما والفلسفة لتشكلا مجالا مستقلا، وهو مجال يشهد نموا. إنه جزء من اتجاه نحو توسيع نطاق الموضوعات الصالحة للاستقصاء الفلسفي الجاد. وقد صاحب توسيع نطاق الموضوعات الفلسفية إدراك أن السينما وغيرها من أشكال وسائل الإعلام والترفيه قد تصبح أدوات فعالة لنقل الأفكار. وكثير من تلك الأفكار مثير للاهتمام من الناحية الفلسفية، وهي متأصلة في حياتنا اليومية، مثلها مثل الصداقة والحب والموت والهدف والمعنى. كون الحياة اليومية مصدرا للموضوعات الفلسفية ليس باكتشاف جديد؛ فطالما عرف الفلاسفة القدماء ذلك، وإن أدى إضفاء الطابع المهني الاحترافي على الفلسفة في القرن العشرين أحيانا إلى حجب هذا التركيز على الحياة اليومية. لقد شهدنا زيادة كبيرة في أعداد الكتب والمقالات التي لا تتناول الفلسفة والسينما فحسب، بل تتناول، من منظور أعم، الفلسفة والثقافة. ويركز بعضها على الفلسفة والقضايا المعتادة كما تظهر على شاشة التليفزيون (كشكل من أشكال السينما) وفي الموسيقى المعاصرة، بينما يركز البعض الآخر على قضايا فلسفية - أخلاقية وسياسية ومعرفية واجتماعية ونفسية - أكثر تقليدية، كما تظهر في أفلام الاتجاه السائد.
تمد السينما - لا سيما في جانبها الروائي - الفلسفة بمواد تصلح للبحث والتدقيق (سيناريوهات ودراسات حالة وقصص وفرضيات وحجج). إن القصص التي ترويها الأفلام، والتأكيدات التي تقرها، والفرضيات التي تطرحها أو تلمح إليها، تمد الأفراد - ومن ثم الفلاسفة - بمواد للتقييم النقدي. والأفلام تصلح كموضوعات مباشرة للاستقصاء الفلسفي. على سبيل المثال، فيلم «انتصار الإرادة» (ترايمف أوف ذا ويل) (1935) للمخرجة ليني ريفينشتال - الذي يصور مؤتمر الحزب النازي الذي انعقد في نورنبيرج عام 1934 - يقدم لنا مادة غنية بموضوعات صالحة للتأمل الفلسفي، من بينها العلاقة بين القيمة الجمالية والأخلاقية للفيلم. (غالبا ما تعتبر أفلام ريفينشتال تحفة جمالية لكنها ساقطة أخلاقيا.) ومشاهدة فيلم «انتصار الإرادة» تستدعي حتما أسئلة حول مسئولية الفنانين الأخلاقية عن إنتاجهم الفني. رغم ذلك لا تصبح الأفلام ببساطة ذات محتوى فلسفي خاص لمجرد كونها مادة صالحة للتدقيق الفلسفي (مثل طاولة أو قلم أو سحابة أو كاتدرائية)؛ فعادة ما يصبح شيء ما مادة للتدقيق الفلسفي عبر تمثيل نوع محدد من الخبرات أو الظواهر التي تحيرنا وتتحدانا فلسفيا. وتصبح الأفلام فلسفية من زاوية أكثر اكتمالا وإثارة للاهتمام عندما تفعل ما هو أكثر من ذلك. إنها تصبح فلسفية عندما تدفعنا للتأمل الفلسفي ونحن نشاهدها.
ما هو السبيل الأمثل لفهم العلاقة بين السينما (صناعة الأفلام) والفلسفة (التفلسف)؟ هل بوسع الفيلم أن «يصبح» نصا فلسفيا، بدلا من كونه مجرد مصدر للفلاسفة؟ أمن الممكن أن «تصبح» صناعة الأفلام نوعا من التفلسف؟ أمن الممكن أن تصبح مشاهدة الأفلام نوعا من التفلسف؟ ربما يعتمد الأمر ببساطة على مدى رحابة وشمول مفهومنا عن ماهية الفلسفة.
3
يقول موراي سميث، أحد منظري الفلسفة والسينما، (2006: 33): «إن قدرة الأفلام على أن تصبح، من منظور عام، فلسفية أمر لا خلاف عليه نسبيا في رأيي. تلك حقيقة لا تبعث على الدهشة إذا نظرنا إلى كل من السينما (بوصفها شكلا فنيا) والفلسفة كامتدادات لقدرة البشر على الوعي بالذات؛ أي قدرتنا على تأمل أنفسنا.» إذا فكرنا في الفلسفة ببساطة باعتبارها تعبيرا عن قدرة البشر على التأمل، فإن الأفلام تشترك بجلاء في هذه القدرة، لكن لهذه القضية أبعادا أكبر من هذا.
كيف نفهم الإمكانات الفلسفية للسينما؟ يصوغ بازلي ليفينجستون (2008: 3) هذا السؤال على نحو مفيد فيما يطلق عليه «الفرضية الجريئة»:
صفحة غير معروفة
هل في وسع الأفلام تقديم إسهامات بارزة وإبداعية ومستقلة إلى الفلسفة باستخدام وسائل يتفرد بها الوسيط السينمائي (مثل المونتاج والعلاقات بين الصوت والصورة)، وهي إسهامات مستقلة من حيث كونها متأصلة في طبيعة السينما وليست قائمة على التعبير الفلسفي اللفظي، مثل التعليقات أو الشروح؟ تنغمس الأفلام بالفعل في تفكير فلسفي إبداعي وفي بنية المفاهيم الفلسفية الجديدة، حسب الزعم الذي كثيرا ما يتكرر في الأدبيات الضخمة المستوحاة من كتابات جيل دولوز التأملية عن السينما.
تزعم الفرضية الجريئة أن مساهمة السينما في الفلسفة، إن كانت حقيقية، فهي قطعا مساهمة لا تقبل الاختزال أو الاستبدال بأي شكل آخر من أشكال التواصل. إنها بالفعل فرضية قوية، لكن ما الذي يدفعنا إلى الاعتقاد بأن «القيمة» الفلسفية للسينما يحددها تفرد السينما الفلسفي؟ ليفينجستون نفسه ليس من أنصار الفرضية الجريئة؛ إذ يقول (ليفينجستون 2008: 12):
يجب علينا التخلي عن الفرضية الجريئة التي ترى السينما نوعا من الفلسفة، والتحول إلى فرضيات أكثر اعتدالا وقابلية للتطبيق. بعض الأفلام الروائية يصنعها مؤلف يستخدم الوسيط السينمائي، بالاشتراك مع الوسائل اللغوية، للتعبير عن منظور قائم على معرفة فلسفية. والبعض الآخر لا يصنع بهذه الطريقة لكن يمكن رغم ذلك استخدامه لتوضيح أراء مألوفة لكنها ذات قيمة حول الحكمة العملية، والشكوكية وغيرها من الموضوعات. يفتح كلا النوعين من الأفلام سبيلا إلى مواقف وحجج فلسفية، وقد يوفران حافزا لا يستهان به على التفكير الفلسفي الإبداعي ...
يستطرد ليفينجستون معدلا هذه «الفرضيات الأكثر اعتدالا وقابلية للتطبيق» على نحو كاشف، فيقول (2008: 12): «هذا يحدث ما دمنا نتذكر أن طرح تصنيفات وحجج معقدة سيتطلب تعبيرا لفظيا لا يوفره العرض السينمائي في حد ذاته؛ فوصف الحبكة، مهما كان بارعا، ليس بديلا لها.»
يقترح ليفينجستون على ما يبدو أننا إذا أردنا ممارسة الفلسفة على أصولها، بما تتطلبه من تصنيفات وحجج معقدة، فسوف نحتاج إلى الانكباب على العمل من أجل صياغة بينة؛ أي لفظية، لحجة فلسفية. بلا شك تتطلب أنواع محددة من الحجج الفلسفية ذلك تحديدا. ونحن نعلم أن السينما ليست بديلا عن أساليب مفيدة ومحددة للممارسة الفلسفية. لماذا إذن يزعم أحدهم أنها كذلك؟ لماذا قد يرغب في جعلها كذلك؟ إن زعم ليفينجستون أدنى بكثير من هذا المستوى، بل هو يلمح، بشكل أو بآخر، إلى أن السينما تخدم الفلسفة؛ إذ تقدم السينما (في بعض الأحيان) القوة الدافعة للتفلسف. إنها إحدى سبل التأمل الفلسفي. وعلى النقيض من الفرضية الجريئة، دعونا نقترح «فرضية البطلان». وفقا لهذه الفرضية ليس للسينما أي دور على الإطلاق في التأملات الفلسفية، بل إن دورها الوحيد هو تقديم قوة دافعة، أو مادة صالحة، للعمل الفلسفي الذي ينجز كليا في إطار لغوي عبر نصوص شفهية ومكتوبة. والأفلام نفسها لا تطرح نقاطا فلسفية (إلا عندما تجعل شخصياتها تعبر لفظيا عن نقاط فلسفية). ولكي تطرح الأفلام نقاطا فلسفية لا بد أن تخضع للشرح والتفسير ثم تدمج في حجة فلسفية تتطور في مسارها المعتاد. تلك هي فرضية البطلان، وهي بالأحرى استنتاج متحفظ ومحبط. أتوجد خيارات أكثر طموحا تناسب من يحترزون من الفرضية الجريئة؟
من بين الشخصيات البارزة التي ترفض ما أطلقنا عليه فرضية البطلان ستيفن مولهال (2002: 2):
أنا لا أعتبر تلك الأفلام أمثلة توضيحية رائجة، وفي المتناول، للآراء والحجج التي يطورها الفلاسفة على نحو سليم، بل أرى أنها ذاتها تتأمل تلك الآراء والحجج، وتقيمها، وتفكر فيها جديا وعلى نحو منهجي، بالطرق نفسها التي يستخدمها الفلاسفة. تلك الأفلام ليست مادة خاما للفلسفة، ولا مصدرا لتنميق الفلسفة، بل هي تمرينات فلسفية؛ ممارسة عملية للفلسفة أو ما يمكن أن نسميه تفلسفا سينمائيا.
للوهلة الأولى، نلمح أمرا محيرا بعض الشيء في الفقرة السابقة. ماذا يعني مولهال بعبارة: «بالطرق نفسها»؟ يمكن أن تصبح الأفلام ممارسة عملية للفلسفة، وأن تصبح فلسفية مثل النصوص (وأكثر من النصوص في بعض الأحيان) دون أن تتبع «الطرق نفسها التي يستخدمها الفلاسفة». إذا اتبعنا المعنى الحرفي لكلام مولهال، فسنجد أن إصراره على التكافؤ يعني، من المنظور المنهجي، أنه لا يوجد حقا داخل السينما فئة منفصلة للأفلام الفلسفية، بل الأمر ببساطة مجرد تأملات فلسفية عبر وسيط ما بنفس الطرق التي تتم بها عبر وسيط آخر. وهذا ينفي ضمنيا وجود أي قيمة في ممارسة السينما للفلسفة، وهو ما يحمل نوعا من المفارقة. بالطبع يمكن تفسير كلمات مولهال تفسيرا أقل قسوة من هذا . تزعم الفقرة السابقة بالأساس أن كلا من الممارسة الشفهية للفلسفة والممارسة السينمائية لها طريقتان للتفكير جديا ومنهجيا في الآراء والحجج. دعونا نطلق على ذلك «الفرضية المعتدلة». في حين تزعم الفرضية الجريئة أن التمثيل السينمائي للفلسفة فريد من نوعه، ولا يمكن اختزاله إلى أشكال أخرى من الممارسات الفلسفية. وتزعم فرضية البطلان، على وجه التحديد، أنه لا يوجد ما يدعى التمثيل السينمائي للفلسفة. تزعم الفرضية المعتدلة أن التمثيل السينمائي للفلسفة موجود، وأنه بالفعل تمثيل للفلسفة. رغم ذلك تنكر الفرضية المعتدلة تفرد الفلسفة السينمائية. والتمثيل السينمائي للفلسفة ليس عصيا على الترجمة إلى أشكال فلسفية لفظية؛ إذ يمكن إعادة التعبير عن الفلسفة لفظيا دون خسارة، على الأقل من حيث المبدأ. إن ممارسة الفلسفة سينمائيا لا تتطلب اتباع نفس طريقة ممارستها لفظيا (وهو ما لا يحدث عادة)؛ لكن هذا لا يدفعنا بالضرورة لاستنتاج أن ممارسة الفلسفة سينمائيا تمنحنا مدخلا إلى معارف وحقائق فلسفية يستعصي على الفلاسفة، الذين يمارسون الفلسفة بطرق غير سينمائية، الوصول إليها (وهو استنتاج يعتبر إعادة صياغة للفرضية الجريئة). تقع الفرضية المعتدلة في مكان ما بين الفرضية الجريئة وفرضية البطلان.
قد يثبت في النهاية خطأ الفرضية الجريئة دون جعل السؤال حول العلاقة بين الفلسفة والسينما مملا أو بلا جدوى. وفي نظر الكثير تعتبر الفرضية الجريئة أجرأ من اللازم. وعلى الجانب الآخر، تبدو الفرضية المعتدلة معتدلة أكثر من اللازم؛ فقد تثبت صحتها دون طرح أي أفكار مثيرة للاهتمام فعليا عن العلاقة بين السينما والفلسفة. هل يوجد شيء ذو قيمة فلسفية خاصة يمكن قوله عن ممارسة الفلسفة عبر السينما؟ يقترح إيرفينج سينجر أن الأمر يتعلق بالسمات الفنية للأفلام في حد ذاتها، فكتب قائلا (2007: 3): «بعيدا عن أي جهود مؤسفة لاستنساخ ما يفعله الفلاسفة المخضرمون، فإن الأفلام التي نعتبرها عظيمة هي أفلام فلسفية بقدر ما يستغل المعنى الذي تجسده والتقنيات التي تنقل هذا النوع من المعنى الأبعاد الصوتية والأدبية والبصرية لنوعه الفني استغلالا عميقا ومؤثرا.»
4
صفحة غير معروفة
هل سينجر على حق في استنتاجه؟ لماذا لا يمكن اعتبار فيلم ما «عظيما»، ويجسد معنى، ويوظف تقنيات تنقل هذا المعنى، و«يستغل الأبعاد الصوتية والأدبية والبصرية لنوعه الفني استغلالا عميقا ومؤثرا» ورغم ذلك لا يعتبر على وجه الدقة فيلما فلسفيا؟ (تأمل على سبيل المثال الأفلام الموسيقية مثل «قابلني في سانت لويس» (ميت مي إن سانت لويس) (1944) و«شارع 42» (فورتي تو ستريت) (1933).) وعلاوة على ذلك، ما الذي يفعله «الفلاسفة المخضرمون» في رأي سينجر؟ من بين ما يفعله الفلاسفة المخضرمون دراسة كثير من القضايا الشخصية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية نفسها التي تتناولها السينما بالبحث أحيانا. هم يجمعون ما يذكرنا بسمات ثابتة، دائما ما نتجاهلها من الخبرة البشرية؛ ويتأملون تلك الخبرة بوصفها ظاهرة إلى جانب إعمال الفكر في تماسك النظريات الفلسفية وصحة أدلتها. وتوجد بعض الأفلام التي تتفوق كثيرا (من حيث كونها أكثر تبصرا ودقة وإقناعا من الناحية الفكرية) على الفلاسفة المخضرمين في أداء بعض هذه المهام على الأقل.
ربما ينبغي لنا إذن تبني فرضية معتدلة تقضي بأن أفكارا فلسفية محددة تجسد على نحو أفضل على شاشة السينما من تجسيدها في النصوص المكتوبة؛ فربما تعمق الأفلام أحيانا من وجهات نظر فلسفية على نحو تجد النصوص المكتوبة صعوبة في تحقيقه. لا يتطلب ذلك امتلاك السينما قدرة فريدة على توظيف نمط خاص بها من التفلسف أو نوع تنفرد به من التبصر الفلسفي، ولا يتطلب امتلاك الأفلام قدرة على أداء أنشطة فلسفية لا يمكن أداؤها على الإطلاق عبر أساليب فلسفية شفهية أو مكتوبة. تلك إذن فرضية مختلفة عن الفرضية الجريئة. على الجانب الآخر، تقتضي الفرضية المعتدلة أن الأفلام قد تتفوق أحيانا على النصوص المكتوبة في أداء بعض المهام. إذن فالأفلام ليست مجرد منهل للتفلسف، وهي أيضا ليست مجرد وسائل للتأمل المنهجي في معتقدات أساسية. إنما هي طرق جيدة على نحو استثنائي لممارسة الفلسفة. إن الفرضية المعتدلة تخول السينما امتلاك مغزى فلسفي عميق.
الفكرة الرئيسية وراء الفرضية المعتدلة هي أن الأفلام تستطيع أحيانا التفوق على الأنواع الفلسفية المعتادة في تقديم أشكال بعينها من المادة الفلسفية. ولا يرجع ذلك فحسب إلى كون السينما أكثر إمتاعا وجاذبية على المستوى العاطفي. الأفلام في أغلب الأحيان أكثر جاذبية من الكتابة الفلسفية العادية، وفي النهاية أي من كتابات فلاسفة مثل كانط وهيجل وهيوم ورولز ودوميت لا تعتبر حقا كتابات مشوقة. إذا كانت السينما تستطيع أحيانا أن تصبح وسيطا فلسفيا أفضل، فإن ذلك يرجع جزئيا إلى قدرتها على تجسيد نوع من الفروق الدقيقة ووجهات النظر التي لا توجد غالبا في الفلسفة الاحترافية، ومن الصعب إعادة إنتاجها ضمن الأنواع الأدبية التي تستخدمها. وذلك بدوره يرجع جزئيا إلى أن الفلسفة الاحترافية مكبلة أكثر مما ينبغي بقيود أنواعها الأدبية المتخصصة؛ ألا وهي مقالات الدوريات المتخصصة والدراسات ذات الموضوع الواحد.
تستند بعض الآراء المحافظة حول قدرة السينما على ممارسة الفلسفة إلى مفهوم قيم وحصري ومفرط التدقيق لماهية الفلسفة. قد يرجع ذلك إلى أن بعض الفلاسفة لا يرغبون ببساطة في تقبل احتمالية أن الشعراء والروائيين وصناع الأفلام، وغيرهم ممن يمتهنون مهنا أقل مقاما، ربما ينجحون كثيرا فيما يخفق فيه الفلاسفة، ويتفوقون أحيانا في ممارسة الفلسفة على الفلاسفة المحترفين، ناهيك عن تقبل ذلك كحقيقة بسيطة. ويرتبط بالمفهوم «القيم» للفلسفة الافتراض المزعوم بأن على السينما تحقيق توقع ما؛ أي معايير معينة لا بد أن تفي بها كي تصبح جديرة بالنظر إليها على أنها تمارس الفلسفة أو تساهم فيها. لكن ربما يجدر بنا النظر فيما إذا كان الفلاسفة قد أساءوا فهم الترتيب الصحيح للعلاقة بين الفلسفة والسينما. ربما كان السبيل الأكثر ثراء بالأفكار هو طرح السؤال التالي: «ما الذي ينبغي على الفلسفة فعله، ما المعايير التي ينبغي أن تسعى لتحقيقها، كي تصبح أكثر شبها بأفلام (معينة) أو كي تساهم فيها؟»
يرى بعض الفلاسفة أن الممارسة الفلسفية المعاصرة شوهت الكثير من القضايا الفلسفية. وعلى وجه الخصوص، فإن فلاسفة أمثال آيريس مردوخ (1970) ومارثا نوسباوم (1990) يعتقدون أن الفلسفة - على الأقل في بعض الأحيان، وفي ميادين مثل الأخلاقيات - تبدو أكثر انسجاما، أو بعبارة أخرى أكثر قابلية للفهم وأكثر تناغما في الأدب والفنون، مقارنة بوضعها بين الفلاسفة. إن جماليات السينما وتقنياتها؛ مثل المونتاج والتركيز العميق واللقطات المقربة ولقطات التتبع، جميعها مناسبة لتركيز وتعزيز الانتباه والتأمل اللازمين اللذين يعتقد مردوخ ونوسباوم أن الأدب الروائي الجيد يجسدهما. إلا أنه في جعبة السينما ثمة حيل تفوق بكثير ما لدى الروايات؛ فالكاميرا تصحبنا إلى حيث يريدنا المخرج تحديدا، ويمكن إبراز وجهة نظر ما باستخدام الصوت أو الموسيقى. والأفلام ترينا وجوها؛ ومن ثم تطلق العنان لقدرتنا على قراءة الوجوه وإدراك مغزى الحركات والإيماءات. بينما يضطر الروائي إلى التصريح أو التلميح، بأشياء يمكن لصانع الفيلم أن يعرضها علينا. لا يعني هذا، حسب وصف مردوخ ونوسباوم، أن الأفلام دائما ما تتفوق على الروايات في اجتذاب المشاهد على المستوى النقدي والأخلاقي. (تفتقر الأفلام عموما إلى الصوت الحازم الجلي الذي نجده في بعض الروايات، رغم أن ذلك لا يعد دوما عيبا بأي حال.) وحتى مع الأبعاد الإضافية أو الحيل التي تستخدمها السينما، يتفوق كثير من الروايات (كل الروايات العظيمة تقريبا) على الأفلام في جذب القارئ إلى عالمها، ودفعه إلى التركيز في سياق أخلاقي، داعمة إدراكه للتفاصيل المهمة (أحيانا عبر حجب معلومات معينة). رغم ذلك، فإن التقنيات المتنوعة المتاحة للسينما قد تؤدي بالفعل إلى خلق درجة من الانجذاب العاطفي والأخلاقي يعجز الأدب الروائي في كثير من الأحيان عن تحقيقها. يمكننا توسيع نطاق هذا النقاش ليتجاوز الأخلاقيات وفن الرواية. السينما قادرة على طرح بعض الآراء ووجهات النظر الفلسفية بطريقة أفضل، وبمزيد من الوضوح، مقارنة بالمؤلفات المكتوبة على اختلافها. وتلك الرؤية هي بالطبع ما نطلق عليه الفرضية المعتدلة حول العلاقة بين السينما والفلسفة.
في هذا الكتاب، سوف نفحص كثيرا من الأفلام، بعضها سيوضح أفكارا فلسفية، وبعضها سيعرض ظواهر تستدعي الاستقصاء الفلسفي، والبعض الآخر يشكل في حد ذاته موضوعات للتدقيق الفلسفي. وإلى جانب ذلك سنتناول أفلاما نرى أنها تستدعي تجارب افتراضية فلسفية، وأخرى قدمت تحريا دقيقا لموضوعات فلسفية عبر حشد رسائل تذكيرية قوية حول مختلف جوانب خبرتنا بالحياة وعبر استخلاص استنتاجات منها. في الفئة الثانية من الأفلام التي نعرضها سوف نتبع الفرضية المعتدلة؛ إذ نرى أن التجارب الافتراضية في بعض الأحيان (وليس دائما) تعرض في قالب سينمائي أفضل من عرضها في القالب المقتضب عن عمد والمنفصل عن أي سياق، الذي نألفه في الكتابة الفلسفية. ونعتقد أن السينما قادرة أحيانا على إجراء تحر دقيق لجوانب أصيلة من خبرتنا البشرية يتخطى الإنجازات المعتادة لدى النصوص الفلسفية المكتوبة، وبينما تفعل ذلك تدحض بقوة الطرق الجوفاء والمفرطة التبسيط لفهم الحياة.
الفلسفة السينمائية وقصد المؤلف
إذا كانت الأفلام تمارس الفلسفة، فمن الذي يتفلسف إذن؟ في كتاب «تأمل الشاشة: السينما كنوع من الفلسفة» (2007) يزعم توماس وارتنبيرج أن فيلم «إشراقة أبدية لعقل نظيف» (إتيرنال سنشاين أوف ذا سبوتليس مايند) (2004) للمخرج ميشيل جوندري يقدم نقدا دامغا للنفعية. يطرح وارتنبيرج هذا الزعم كجزء من محاولته الدفاع عن الادعاء بأن الأفلام تمارس الفلسفة فعليا؛ وفي حالة هذا الفيلم تمارس الفلسفة عبر طرح مثال مناقض قوي يستخدم تجربة افتراضية. وبينما يطور وارتنبيرج نموذجه، يفترض أن نشأة النفعية كرؤية أخلاقية معيارية كانت في إنجلترا أثناء القرن التاسع عشر، وروادها هما جون ستيوارت ميل وجيريمي بنثام. ويرى أن قصد صناع الفيلم هو محاولة تفنيد الرؤية النفعية عبر تقديم مثال مناقض. يعرض الفيلم هذا المثال المناقض عبر السرد تحديدا، لكنه يستعين أيضا بالصوت والتمثيل وحركة الكاميرا ... إلخ. يهتم وارتنبيرج بوجه خاص بإظهار أن هذا الاعتراض الفلسفي لم يفرضه فيلسوف ما (هو في هذه الحالة) فرضا على الفيلم وليس إسقاطا لرؤية فلسفية ما عليه، لكنه اعتراض متأصل في الفيلم قصده صناعه. وعلاوة على ذلك، لا يهم بوجه عام، من منظور وارتنبيرج، ما إذا كان صناع الفيلم يدركون فعليا أنهم يستهدفون الهجوم على نظرية فلسفية نموذجية في حقل الفلسفة الأخلاقية المعيارية تدعى النفعية أم لا. فيكفي أنه كان لديهم تصور ما للفكرة ذات الصلة وفهم جيد لمكمن الخطأ المحتمل فيها. (يجسد فيلم «إشراقة أبدية لعقل نظيف» قصة شخصين يخضعان لإجراء يمحو ذكريات علاقتهما العاطفية من وعيهما بعد انفصال مؤلم. يحدث الفيلم تأثيره عادة عندما ينال تأييد الجمهور لحقيقة كون هذه الفكرة في غاية السوء، وأن في الحياة أشياء أهم من تقليص الألم.)
5
تثير العلاقة بين نوايا صناع الأفلام والاستقصاء الفلسفي للأفلام عدة أسئلة. أحد الجوانب المثيرة للاهتمام في السينما، والذي يوجد أيضا في الأشكال الأخرى من الفن السردي (مثل الروايات)، هو أنها كثيرا ما تسمح لنا برؤية وتخمين أشياء تفوق بكثير ما انتواه صناعها. قد يتضمن الفيلم في ثناياه رؤية فلسفية ما دون أن يقصد المخرج أو الكاتب إظهارها، وأحيانا دون أن يعي، حتى إنه يعتنق تلك الرؤية، أو إنها مضمرة ضمن ما يعتنقه من آراء أخرى. وبعيدا عن دعم المخرج أو الكاتب صراحة لرؤية ما (وحتى مع وجود ذلك الدعم) لا بد من مراعاة الحرص عند عزو تلك الرؤى إليهم. فهل يدعم صناع الأفلام التي تصور أبطالا يطبقون العدالة بأنفسهم خارج إطار القانون - مثل مايكل وينر مخرج فيلم «أمنية الموت» (1974) ودون سيجل مخرج فيلم «هاري القذر» (ديرتي هاري) (1971) - الآراء التي يجسدها الممثلون بتلك الأفلام حول العدالة، حتى وإن أبدى الجمهور دعما جارفا لها؟ إن تلك الأفلام تقدم حججا (رديئة للغاية) لدعم تطبيق العدالة خارج إطار القانون بصرف النظر عن إجابة السؤال السابق.
صفحة غير معروفة
يمكن تقييم الآراء الفلسفية التي تقدمها الأفلام، أو التي يعتقد أن الأفلام تقدمها، تقييما مستقلا عن قصد المؤلف. بالطبع قد لا نكون على حق دوما في كل رأي ننسبه إلى فيلم ما، سواء كان حاضرا في الفيلم عن قصد أو دون قصد، وبما أن بعض الأفلام قد تكون غامضة أو غير واضحة أو مرتبكة حيال الآراء التي تقدمها، فلن يتاح لنا دائما إدراك ما إذا كان الفيلم يجسد موقفا ما أو يدافع عنه. وهو وضع ينطبق كذلك على الحجج الفلسفية في النصوص المكتوبة كذلك، ولا يوجد سبب يدفعنا إلى افتراض تمتع السينما بأفضلية طبيعية فيما يتعلق بعرض الآراء أو الحجج الفلسفية عرضا واضحا لا يشوبه الغموض.
إن الاكتفاء بتحديد قصد صناع الفيلم قد يكون مفيدا في عملية استخلاص رد فعل فلسفي على الفيلم، وقد لا يكون مفيدا. دون قدر كبير من الأدلة الداعمة قد يستحيل فعليا تحديد قصد المؤلف، أو تبرير عزو قصد المؤلف، حتى في الحالات التي نصيب فيها. وعلى أي حال، لا يحظى قصد المؤلف دائما، بل وربما لا يحظى حتى في معظم الأحوال، بأهمية خاصة، ما لم يكن المرء مهتما تحديدا بآراء صانع أفلام بعينه. على سبيل المثال، يبدو من المهم فهم نوايا صناع الأفلام المثيرين للجدل الذين يتعمدون اختيار موضوعات معينة مثل مايكل هانيكه. إلا أن نوايا هانيكه الكامنة في أفلام مثل «فيديو بيني» (بينيز فيديو) (1992) و«ألعاب مسلية» (فاني جايمز) (1997، 2007) و«الشريط الأبيض» (ذا وايت ريبون) (2009) لا تحدد الإمكانات الفلسفية لتلك الأفلام أو تحد منها. وما ينبغي أن يثير اهتماما فلسفيا في أفلام العدالة خارج نطاق القانون التي أشرنا إليها أعلاه ليس ما إذا كان صناع تلك الأفلام يؤمنون بمفهوم العدالة الذي يصورنه، بل ما إذا كانت الأفلام تقدم ما يدعم فعليا هذا المفهوم. وبالطبع إذا انتهينا إلى أنها لا تحقق ذلك، فسيصبح السؤال الأهم فيما يتعلق بالفلسفة والسينما يخص تلقي الجمهور لتلك الأفلام. كيف يستوعب الجمهور على المستوى المعرفي أن تلك الأفلام تحاول مثلا التأثير في غرائز الانتقام لديهم؟ ولماذا يستمدون هذا القدر الكبير من نوع ما من الإشباع من تلك الأفلام؟
يعلق ليفينجستون قائلا (2008: 4): «يمتلك وارتنبيرج من الحصافة ما يجعله يسلم بأن القول إن فيلما ما يتضمن معالجة فلسفية ليس سوى «تعبير مختزل يقصد به القول إن صناع الأفلام هم من يتناولون الفلسفة فعليا في السينما أو من خلالها».» إذا كانت الوساطة ضرورية لفعل أي شيء، وإذا لم يكن الفيلم وسيطا فبالتأكيد ليس في وسع السينما ممارسة الفلسفة، وإنما مسها مسا خفيفا وحسب. قد تبدو صحة الرأي الذي يطرحه ليفينجستون واضحة جلية، لكنها في الحقيقة ليست بهذا الجلاء؛ إذ يوجد شعور طبيعي أن الأفلام، مثلها مثل الأعمال الروائية إلى حد كبير، قد تتمتع بقدر ينسب إليها شيئا من الوساطة. في وسع الأفلام فعل أشياء لأن بمقدورها إحداث تأثيرات ذات معنى تتجاوز كثيرا نوايا صناعها. ومثلما يؤدي تطور الشخصيات في الأدب الروائي إلى عرض فروق دقيقة في وجهات النظر، وتوضيح عواقب غير مقصودة قد تضيف إلى جدل فلسفي، أو تعبر عن رأي ما، تستطيع الأفلام تحقيق ذلك، بل وربما تحققه بدرجة أكبر من الأدب الروائي، بصرف النظر عما إذا كان صناعها ينوون ذلك أو يتنبئون به؛ فجزء من مهام ممنتج الأفلام (محررها) هو استخلاص أو تسليط الضوء على القصة وتطور الحبكة والمعنى الحاضر أو الآخذ في التنامي داخل الفيلم. لكن الفيلم قد يفوق أو يقل عن مجموع أجزائه من منظور قيمته الجمالية الكلية ومعناه، سواء كان ذلك مقصودا أم لا. ومن الممكن غالبا تمييز قصد المؤلف عن الأشياء التي تصورها قصة الفيلم أو المؤثرات البصرية أو الأداء.
مثل الروايات، تتمتع الأفلام بحيوات ومعان خاصة بها تختلف مع مرور الزمن، وترتبط إلى حد ما باختلاف أنواع الجمهور. تلمح تلك الآراء إلى أن القول بأن الأفلام «تمارس الفلسفة» ليس مجرد تعبير مجازي؛ فالأفلام الجيدة غالبا ما تتخطى مجموع نوايا صناعها الإبداعية. علينا كذلك مراعاة أن نظرية السينما كثيرا ما تتشكك في نسبة الأفكار إلى المؤلف دائما؛ فالأفلام تعبر (أو ربما تعبر) عن أفكار خاصة بالمخرج، كما زعم المخرج الفرنسي تريفو (1954) عندما صاغ تعبير «سياسة المؤلف». لكن منظري السينما يشيرون إلى أن الفيلم، على عكس الرواية، هو مشروع تعاوني وحاصل جهود العديد من الأفراد لا جهود الكاتب/المخرج فحسب. وبقدر ما يجسد الفيلم مفهوم الفعالية التعاونية، ينبغي أن ينظر إليه كذلك باعتباره كيانا أكبر من مجموع أجزائه، بحيث لا يمكن أن نعزو نتائجه، بما فيها المعنى، كلية إلى المخرج أو الكاتب، أو حتى إلى حاصل جهود جميع من شاركوا في إنتاج الفيلم.
6
خاتمة
بالعودة إلى تفسير وارتنبيرج لفيلم «إشراقة أبدية لعقل نظيف»، نوجه اهتمامنا إلى مقترح ذكرناه آنفا يدفع بحتمية الاعتراف بالتفوق الفلسفي للسينما إن رغبنا في استيعاب العلاقة بين السينما والفلسفة وإدراكها حق الإدراك. ويجب على الفلسفة، على الأقل إلى حد ما ومن أوجه معينة، التطلع نحو السينما بدلا من توقع العكس.
يلفت وارتنبيرج (2007: 91) أنظارنا إلى «الفرق بين تفسيرين للأعمال الفنية؛ تفسير متمركز على صانع العمل، وتفسير متمركز على الجمهور»:
التفسيرات المتمركزة على صانع العمل الفني تطرح تأويلات ربما قصد الصانع طرحها عبر عمله. لكن ... هذا لا يعني حتمية إلمام الصانع إلماما مباشرا بالموقف الفلسفي الذي تدعي تلك التفسيرات أنه محور العمل، بل يشير فحسب إلى معقولية الاحتمال القائل بأن الصانع قد استجاب إلى مواقف أو أفكار متضمنة في ذلك العمل الفلسفي. وعلى الرغم من أن النصوص الفلسفية بمنزلة مصادر للكثير من الأفكار والنظريات والمواقف، فإنها تكتسب حياة خاصة بها داخل إطار ثقافة ما. وكل ما هو ضروري للتفسير المتمركز على صانع العمل كي يكون مقبولا في هذا السياق هو طرح احتمالية اطلاع الصانع على الأفكار والنظريات والمواقف الفلسفية بموجب وجوده العام ضمن إطار ثقافة ما مثلا. إن النفعية نظرية فلسفية اكتسبت تقديرا واسع النطاق داخل الثقافة الأمريكية بوجه عام، وشعار «أكبر نفعا لأكبر عدد من الناس» معروف لدى أعداد أكثر بكثير من أعداد من قرءوا النصوص التي انبثق منها؛ لذا يبدو معقولا في رأيي أن فيلما معاصرا ربما يستهدف تلك الرؤية.
يضفي وارتنبيرج (2007: 92) مزيدا من التأكيد على فكرته عبر الإشارة إلى «استدعاء الفيلم بوضوح لأفكار نيتشه»، إلى جانب حقيقة أن «النفعية كانت من بين ما استهدفه نقد نيتشه الفلسفي».
صفحة غير معروفة
لا حاجة للمرء برفض رأي وارتنبيرج حول ممارسة هذا الفيلم للفلسفة كي يقترح أن الشكل الذي يتخذه الدفاع عن الفيلم كوسيط للمعالجة الفلسفية يتضمن افتراضا مسبقا مثيرا للاهتمام. إذا لم نستكشف طبيعة هذا الافتراض، فسوف نسيء على الأرجح فهم آلية الارتباط الوثيق بين الفلسفة والسينما في أغلب الأوقات، وسبب هذا الارتباط. نجح وارتنبيرج في البرهنة على أن الأفلام تستطيع تقديم مواقف فلسفية، أو توضيحها، أو مناقشتها، وطرح أسئلة فلسفية، وغالبا ما تفعل ذلك. ونحن نقترح، فيما أطلقنا عليه الفرضية المعتدلة، أن الأفلام غالبا ما تتفوق حقا على النصوص الفلسفية الشفهية أو المكتوبة في القيام بالمهام السابقة. ربما السؤال المحوري ها هنا ليس هل تستطيع الأفلام القيام بذلك أو كيف تقوم به، بل كيف تعجز عنه؟ يقول وارتنبيرج (2007: 93): «لقد رأينا أن فيلما واحدا، «إشراقة أبدية لعقل نظيف» يقدم مثالا مناقضا للنفعية؛ ومن ثم يمارس الفلسفة فعليا ... وعلى عكس المتوقع لدى دارسي السينما والفلسفة على حد سواء، في وسع الأفلام الروائية تقديم حجج فلسفية عبر قصصها؛ لأنها تعرض تجارب افتراضية تلعب دورا محوريا في تقديم نماذج مناقضة للأطروحات الفلسفية.» هذا تعبير عما نطلق عليه الفرضية المعتدلة، ويبدو لنا أن مثل هذا الموقف المتواضع لن يصدمنا كموقف مناقض للحدس إلا إذا كنا غارقين حتى آذاننا في أغوار أيديولوجية ما غير منطقية حول السينما والفلسفة أو كليهما. هذا الكلام غير موجه بالضرورة إلى وارتنبيرج بقدر ما هو موجه إلى من يتحدث عنهم من المعترضين بناء على أسس فلسفية؛ فهم يؤمنون على ما يبدو بتصور بالغ السطحية حول الفلسفة وأصول التفلسف.
يفترض وارتنبيرج مسبقا عاملين في مناقشته هذه المسألة. الأول هو تفوق الفلسفة. إذا جسد فيلم ما تجربة افتراضية فلسفية فإنه يتمكن من ذلك عبر حشد قواه لمواجهة موقف فلسفي معروف؛ فالموقف الفلسفي يأتي أولا، ويمارس الفيلم الفلسفة عبر الاستجابة له بطريقة ما. (هذا ما يحدث غالبا، لكن هل يحدث دائما؟ وهل لا بد أن يحدث؟) والثاني هو تأكيده المفرط فيما يبدو على المحتوى الفكري للحجج السينمائية بدلا من طريقة إعدادها وتقديمها في الفيلم. إن جزءا مهما من منهج السينما في ممارسة الفلسفة هو قدرتها على تجسيد الحجة بطرق وجدانية؛ أي بطرق تحقق تجاوبا عاطفيا لدينا إلى جانب التجاوب الفكري. والمشاعر التي يولدها الفيلم قد تركز انتباهنا، وتمكننا من «رؤية» أو تقدير جوانب من حجة ما كانت لتطرح جانبا في أحوال أخرى. وباستثناء الحقائق القائمة على الملاحظة والتجريب (أن ترى شيئا رأي العين)، فإن التصديق في أغلب الأحيان ينبع من الرغبات والمشاعر أكثر من المنطق والدليل. وأحيانا يجب على الفكر الفلسفي ملاحظة هذا المكون الوجداني الذي يميز الفلسفة البارعة.
فلنلق نظرة على أنواع الفلسفات التي يعتقد وارتنبيرج أن فيلم «إشراقة أبدية لعقل نظيف» يناقشها. إذا استبعدنا آراء المناصرين الأوفياء لكل من النفعية وأخلاق الواجب، فسنجد أن الحقيقة الوحيدة التي جعلت، على ما يبدو، السجال بين كلتا النظريتين الأخلاقيتين المعياريتين (أو المبدأين المعياريين الرئيسيين) عصيا على التسوية؛ هي أن أي نظرية وحدها لا ترضي الحدس البشري الطبيعي، ولا تعطيه حقه فيما يتعلق بتحديد الصواب في القضايا الأخلاقية كافة.
7
تخيل ميل وبنثام، بصحبة كانط، يحضرون عرضا نهاريا بإحدى السينمات. اختار ميل وبنثام مشاهدة فيلم «إشراقة أبدية لعقل نظيف»، بينما اتجه كانط إلى صالة العرض المجاورة لمشاهدة إعادة عرض لفيلم «مذكرات آنا فرانك» (ذا دايري أوف آنا فرانك)، ثم التقيا في ردهة دار العرض بعد انتهاء الأفلام، ليقول كانط: «حسنا، لقد أخطأت تماما في كل ما كتبته عن الكذب. إن من حموا آنا وعائلتها فعلوا الصواب عندما كذبوا عند سؤالهم عن مكان العائلة. لا بد أن أعيد تأليف كتابي «أسس ميتافيزيقيا الأخلاق» و«نقد العقل المحض».» فيرد ميل وبنثام قائلين: «لا لا، في الحقيقة نحن نعتقد أنك توصلت إلى شيء ذي قيمة، إنها النفعية التي في حاجة إلى تعديلات جدية.» حسب وجهة نظر وارتنبيرج حول طريقة توليد الأفلام للحجج الفلسفية. من الصعب تخيل أي شخص، ناهيك عن كانط أو ميل أو بنثام، يغير رأيه نتيجة لترسخ مثال مناقض عرضه فيلم في ذهنه. والأمثلة المناقضة سوف يجري التعامل معها بدهاء في سياق ولاءات فكرية سابقة. رغم ذلك، تستطيع بعض الأفلام مع بعض الأشخاص في بعض الأحيان توليد نوع من التيقظ والتبصر الوجداني الذي قد يزعزع ولاءات وافتراضات سابقة حتى في وقت ظن فيه أصحابها أنها قائمة على أسس فكرية وعقلانية. الأفلام قادرة على «فرض» الأمثلة المناقضة علينا بطرق تسمح لنا بفهم وتقدير أفضل لقوتها وقيمتها كأمثلة مناقضة، وهذا لا يعني إنكار أنها قد ترفض رغم ذلك أو أنها يجب أن ترفض في بعض الأحيان.
قد ينبع افتراض وارتنبيرج المسبق حول أفضلية الفلسفة على السينما من وجهة نظر خاطئة عن نشأة المشكلات الفلسفية؛ إذ يقول (2007: 91): «رغم أن النصوص الفلسفية هي مصادر الكثير من الأفكار والنظريات والمواقف، فإن تلك الأفكار تكتسب حياة خاصة بها داخل إطار ثقافة ما.» مع ذلك فإن النصوص الفلسفية ليست دائما، ولا حتى في أغلب الأحيان، مصدر الأفكار، بل الثقافة هي المصدر. إن النصوص الفلسفية، لا الثقافة، هي المكان الذي تكتسب فيه «الكثير من الأفكار والنظريات والمواقف» حياة خاصة بها. وخارج النطاق الضيق لبعض صور الفلسفة الاحترافية، لا تنبع الفلسفة من نفسها؛ فالتساؤل الفلسفي يتولد من إحساس دائم ومركز من العجب والحيرة من الحياة، حياتنا وحياة الآخرين أيضا، كما نعيشها ونندمج فيها.
إن الأسئلة الأخلاقية التي تطرحها النفعية، والإجابات التي تقدمها، لا توجد، بداية، في كتابات ميل وبنثام، ولا ابتدعها كل منهما من لا شيء. إنما هي مسائل أخلاقية تثار في الحياة العادية. ومحاولات الفلسفة النفعية، في هذه الحالة، لترتيب وتصنيف إجابات لهذه المسائل ذات الأهمية لم تخرج إلى النور إلا بعد ما استحوذ علماء الأخلاق وذوو التفكير الفلسفي على تلك المسائل. والإيمان بأن «احتياجات الكثرة تفوق احتياجات القلة أهمية» (أو احتياجات الفرد)، حسب تعبير شخصية سبوك في مسلسل «ستار تريك»، سابق على صيغ النفعية التي ظهرت في القرن التاسع عشر. لم توجد المشكلات الفلسفية، بعيدا عن المشكلات شديدة التخصص، أولا وأخيرا في المقالات والنصوص الدعائية الفلسفية، بل هي مكون من مكونات الحياة. وغالبا ما تصورها السينما والأدب وتحللها كما هي بدرجات متفاوتة من النجاح، وتتناولها أيضا أشكال فنية أخرى، مثل الموسيقى والرسم، لا تتضمن محتوى سرديا واضحا أو ربما لا تتضمن أي عنصر سردي على الإطلاق.
لا يبتدع الفلاسفة، على الأقل في المعتاد، المشكلات الفلسفية العامة التي هي من مكونات الحياة. وتلك المشكلات ليست من ابتداع الفلسفة ولا ملكية خاصة بها. لذا لنفهم الصلة الجذرية بين السينما والفلسفة، وكي نفهم السينما كشكل من أشكال الفلسفة، لا ينبغي لنا الاكتفاء بالنظر إلى قدرة السينما على توضيح أفكار فلسفية محددة مسبقا أو ابتداع حجج فلسفية حول مواقف فلسفية محددة مسبقا. بل إن الصلة الأكثر جوهرية تكمن في وجود مصدر عام مشترك لمزاولة الفلسفة، وهو الحياة كما نعيشها، وتوجد على وجه الخصوص في اهتمام السينما بالقصص التي نخبر بها أنفسنا عبر سعينا لفهم ذواتنا وإرشادها، وشرح وتبرير دوافعها، والتماس العذر لها. إن قدرة السينما كمنبع للفلسفة لا تستنزف عبر قدرتها على معالجة القضايا الفلسفية النمطية بطرق مختلفة؛ فالسينما تمتلك قدرة هائلة في هذا الإطار، لكنها ليست الملمح الوحيد الذي يميز علاقة السينما بالفلسفة. فمثل الأدب، السينما وسيط يوظف أساليب متعددة، ليست جميعها من صنعها، كي تجسد القضايا الفلسفية كما تثار، أو كما قد تثار، في الحياة وفي الخيال. بل إن قدرة السينما على تصوير الحياة كما تبدو في الحقيقية وفي الخيال - والحياة دائما ما تكون خيالية بدرجة ما - هي ما تشكل الصلة الجذرية بين الفلسفة والسينما.
تفترض الفصول في الجزء الثاني من هذا الكتاب أن السينما والفلسفة غالبا ما يتضافران بطرق تلقي الضوء على كل منها بالتبادل؛ فالجمع بين المناقشة النقدية العميقة وخبرة مشاهدة الأفلام قد يعد سبيلا جذابا للتعمق في الفلسفة والسينما على حد سواء. إن الفلسفة لا تطرح منظورا مبتكرا لرؤية السينما، ولا توجد صلة فريدة من نوعها بين الاثنين. بل الأفلام في حد ذاتها استقصاء فلسفي، يشوبه الارتباك غالبا، مثلما يشوب الارتباك - في أحيان كثيرة - الاستقصاء الفلسفي الذي يضطلع به الفلاسفة.
أسئلة
صفحة غير معروفة
هل تستطيع الأفلام تغيير طريقة ممارسة الفلسفة، أو هل تمكنت من ذلك بالفعل؟
هل في وسع الفلسفة تغيير طبيعة السينما، أو هل غيرت الفلسفة بالفعل من طبيعة السينما؟
هل تستطيع الفلسفة تقديم عمل سينمائي؟ ما هي أوجه الاعتراض الأقوى على هذا الزعم؟
تزعم الفرضية الجريئة أن مساهمة السينما في الفلسفة، إن كانت مساهمة حقيقية، فهي قطعا مساهمة لا تقبل الاختزال أو الاستبدال بأي شكل آخر من أشكال التواصل. ما مدى معقولية هذه الفرضية وما مدى أهميتها؟
كثير من الأفلام التي يحبها الناس ليست سوى «تفاهات للهرب من الواقع». هل هذه الأفلام مناسبة للاستقصاء الفلسفي؟ وإذا كانت مناسبة فكيف ذلك إذن، وإذا كانت غير مناسبة فلماذا؟ «تؤثر المشاعر على ما نعتقد، مثلها مثل الرغبات. وتلك حقيقة غالبا ما تستغلها السينما، وتفسر إلى حد كبير قدرتها على اجتذاب الجمهور. لذلك غالبا ما تمدنا الأفلام بمعلومات خاطئة، وتضللنا من المنظور الفلسفي، بقدر ما تطلعنا كثيرا على قضايا فلسفية وتعمق معرفتنا بها.» هل هذا صحيح؟ كيف إذن؟
ما أوجه تشابه الأفلام مع الحياة، إن وجدت؟ وهل يلعب هذا التشابه دورا في قدرة السينما على التفلسف؟
هل الأفلام وسيط أنسب للتعامل فلسفيا مع موضوعات معينة مقارنة بالأدب أو الفنون المرئية؟ هل في وسعها التفوق على كتب الفلسفة ومقالات الدوريات المتخصصة؟
هوامش
الفصل الثاني
الفلسفة والمشاهدة السينمائية
صفحة غير معروفة
مقدمة
في الفصل السابق تساءلنا عما إذا كانت الأفلام قادرة على ممارسة الفلسفة. هل في وسع الأفلام أن تصبح وسائل للاستقصاء الفلسفي؟ وكانت الإجابة هي نعم بالتأكيد. في هذا الفصل نطرح أسئلة فلسفية حول طبيعة السينما. ما القضايا الفلسفية التي تثار حول السينما في حد ذاتها؟ فيما يلي عينة من مجموعة عريضة من القضايا المتشابكة، نوقش معظمها على نطاق واسع:
لماذا تعد السينما وسيطا يتمتع بهذه الدرجة من التأثير؛ إذ يؤثر على أعداد غفيرة تأثيرا بالغا في بعض الأحيان؟
ما الذي يميز السينما أو التصوير السينمائي كشكل فني إن وجد؟
ما المغزى الفلسفي للأساليب الفنية والتكنولوجيا التي توظفها السينما؟
ما المغزى الفلسفي لاستجابات الجمهور للسينما؟
ما المزايا والمخاطر الخاصة التي قد تنطوي عليها السينما نظرا إلى جاذبيتها الجماهيرية وقدرتها على استثارة مشاعر قوية؟
ما هو التجسيد السينمائي؟ الأفلام هي، في جزء منها، تجسيدات مرئية، لكن كيف ينبغي لنا فهم ذلك وما مغزاه؟
إذا كانت السينما شكلا من أشكال الفن، فما الذي يجعل فيلما ما بديعا؟ كيف نحكم على الأفلام؟ «مفارقة الرعب» (أو «المشاعر السلبية»): إذا كان الناس لا يحبون الشعور بالخوف، فلماذا إذن يشاهدون أفلام الرعب؟ وإذا كانوا يحبون بالفعل التعرض للفزع، فلماذا يحبون شعورا سلبيا كهذا؟ وما الذي نستخلصه من ذلك فيما يتعلق بالمشاهدة السينمائية؟ «مفارقة الخيال»: كيف يمكن تفسير تعلقنا عاطفيا بشخصيات ومواقف نعلم أنها خيالية؟ إذا لم نصل إلى حل مرض لما يطلق عليه مفارقة الخيال، فمن غير المرجح أن نتمكن مطلقا من تفسير قوة الأفلام.
ما هو التوحد مع الشخصيات، وما حجم الدور الذي يلعبه التوحد والخيال فيما يتعلق برد فعل المشاهد؟
صفحة غير معروفة
الأيديولوجية والسياسة والأخلاقيات والسينما: ما العلاقة بين أخلاقيات السينما وجمالياتها؟ ما هي المسئولية الأخلاقية والسياسية للفنان؟
تمثيل المرأة في السينما (النوع الجنسي و«نظرة الرجل إلى المرأة»): كيف تمثل النساء في السينما، وما المغزى الفلسفي لذلك التمثيل؟ وماذا يعكس لنا عن السينما وعن نسب المشاهدة السينمائية؟
ما حجم الدور الذي تلعبه نظرية التحليل النفسي، وغيرها من المناهج المتخصصة التي تستخدم في التحليل السينمائي، مثل علم الرموز، لفهم العلاقة بين السينما والمشاهد؟
ما حجم الدور الذي يلعبه قصد المؤلف (أو المخرج) في فهم العلاقة بين السينما والمشاهد، وفي تفسير الفيلم ذاته؟
الكثير من الأفلام التي يحبها الناس ليست سوى «تفاهات للهرب من الواقع»، هل هذه الأفلام مناسبة للاستقصاء الفلسفي؟ وإذا كانت مناسبة فكيف إذن، وإذا كانت غير مناسبة فلماذا؟
ما المغزى الفلسفي لما يطلق عليه أفلام الأطفال فيما يتعلق بفهم استجابة الجمهور ونسب المشاهدة السينمائية؟
تسيطر القوى الاقتصادية بدرجة لا يستهان بها على طبيعة السينما عبر التحكم في أنواع الأفلام التي تنتج؛ ما يؤثر تأثيرا مباشرا وغير مباشر على العلاقة بين السينما والمشاهد. ما مدى خطورة هذا؟
كيف تؤثر دور العرض السينمائية والسمات الأخرى التي تميز بيئة مشاهدة الأفلام (على سبيل المثال المشاهدة على شاشة السينما الكبيرة مقابل المشاهدة على أقراص دي في دي في المنزل) على نسب المشاهدة السينمائية؟
تلك قائمة طويلة، ولا تغطي جميع الأسئلة المحتملة كذلك، ولن يسعنا بالطبع معالجتها جميعا. سيشغلنا السؤال الأول، حول قوة الأفلام، بداية في هذا الفصل؛ إذ ترتبط هذه القضية بطرق مختلفة وبدرجات متنوعة بجميع القضايا الفلسفية المتعلقة بالسينما تقريبا ، وتبرز كذلك أهمية تلك القضايا. إذا كانت مفاهيمنا عن الحب والعلاقات، وعن العدالة والقيمة، وعن الطرق التي نختارها لعيش حياتنا وإيجاد المعنى لها، تتأثر بالسينما، فلا عجب إذن أن الفلاسفة ومنظري السينما قد وجهوا انتباههم إلى القضايا الفلسفية المطروحة «حول» السينما. والسؤال حول كيفية تفسير قوة الأفلام يكمن في قلب مجموعة مترابطة من المشكلات الفلسفية المتصلة بالسينما، ويرتبط ارتباطا غير مباشر بالكثير من المشكلات الأخرى.
إن مناقشة القضايا الفلسفية المطروحة في الأفلام دون الالتفات إلى القضايا الفلسفية التي تطرح حول السينما ليست ممكنة فحسب، بل إن الكثير من النصوص التي تتناول الفلسفة والسينما، إن لم يكن معظمها، يقدم هذا بالضبط. مع ذلك يوجد سبب قوي يستدعي الإصرار على تناول هذا الجانب الآخر من مناقشة السينما والفلسفة؛ أي القضايا المطروحة حول السينما؛ فالوعي بالأسئلة المحورية حول طبيعة السينما وطرق معالجة تلك الأسئلة قد يدعم مناقشة القضايا الفلسفية المطروحة في الأفلام. على سبيل المثال، سنصل إلى فهم أفضل للأسئلة الفلسفية المطروحة حول الجاذبية الواضحة للرعب والعنف في السينما إذا أولينا اهتمامنا كذلك لمعالجة قدرة السينما على استثارة الرعب. ويتصل بذلك أيضا طبيعة استجابة الجمهور للرعب، رغم كونها مسألة متنازعا عليها بين منظري السينما والفلاسفة. (سوف نعود مجددا إلى هذا السؤال حول الرعب والمشاهدة السينمائية في الفصل التاسع.)
صفحة غير معروفة
وعلى نفس القدر من الأهمية، فإن تقدير بعض القضايا المطروحة حول السينما يدعم التجربة السينمائية، مثلما يساعدنا الإلمام بعض الشيء بطبيعة الموسيقى أو الفن الحداثي على شحذ مهاراتنا النقدية وانتباهنا في تلك المجالات. وإلى جانب دعم التجربة السينمائية، قد يؤدي الاطلاع النقدي على السجالات الفلسفية المثارة حول السينما، كما هي الحال مع الفنون الأخرى، أحيانا إلى تغيير طريقة مشاهدتنا للأفلام ونظرتنا إليها؛ فهو قد يغير من عادات مشاهدة الأفلام، وربما ينشأ عن ذلك، لحسن الحظ أو لسوئه (لا لحسن الحظ فقط)، وجهات نظر وأنماط جديدة للاستمتاع.
بعض القضايا الفلسفية المحورية المطروحة حول السينما تثار كذلك حول أشكال فنية أخرى، مثل الكتابة الروائية، والمسرح والتصوير الفوتوغرافي والفن والموسيقى، وكلها أشكال فنية توظفها السينما. وما يطلق عليه «مفارقتا» الخيال والرعب - وكلتاهما غير حقيقية كما سنرى لاحقا - له حضور مماثل في الأشكال الفنية الأخرى (مثل الرواية والمسرح). لا يقلل هذا من أهمية أي من القضايا المطروحة، لكنه يساعدنا على تذكر أنه مع كون السينما شكلا فنيا فريدا من نوعه يتجاوز كثيرا مجموع عناصره والأشكال الفنية المساهمة به، فإنها، كما لاحظنا في الفصل السابق، تتألف كذلك من العديد من الفنون المميزة. وعندما دفعنا بقدرة السينما على ممارسة الفلسفة زعمنا عدم وجود ما يبرر الإصرار على أن مساهمة السينما الفلسفية تنتج عن سمة متأصلة في طبيعتها لا توجد في أي شكل فني آخر. وكذلك لا يوجد ما يبرر الإصرار على أن القضايا الفلسفية التي تثيرها السينما والتي تثار حولها ترتبط جميعها بالطبيعة الأصيلة والفريدة للسينما.
لا ينبغي اعتبار أن أيا من محتوى الفصلين الأول والثاني يملي مناهج للتحليل السينمائي. ولا ينبغي اعتبار المحتوى الفلسفي للأفلام الذي سنناقشه في الفصول اللاحقة هو التحليل النهائي لتلك الأفلام، سواء من وجهة النظر الفلسفية أو من وجه نظر النقد السينمائي عامة. يمكن مناقشة الكثير من الأفلام من منظور مجموعات مستقلة نسبيا من القضايا الفلسفية. فيقدم فيلم «حياة الآخرين» (ذا لايفز أوف أذرز) تجسيدا قويا لمشكلة «الحظ الأخلاقي». لكن يمكن كذلك الاستشهاد به في مناقشة قضايا مثل الحرية والفساد والسلطة السياسية والحرمان والخوف والتعذيب، وفي مناقشة الوضع البشري عموما. وقد نوقش الفيلم، مثلا، من منظور الكيفية التي يلعب بها المعمار الذي نشاهده في الفيلم دورا مهما من الناحية الفلسفية.
إن فكرة وجوب تفسير بعض الأفلام بطرق متنوعة - طرق تعددية إذا كنت تفضل هذا المصطلح - ووفقا لشروط خاصة بها، تتفق جيدا مع زعمنا في الفصل الأول بأن قدرا كبيرا من الاستقصاء الفلسفي ينتج عن اشتباك دائم ومركز مع الحياة كما نعيشها. ينبغي أن تتمكن الأفلام الجيدة في بعض الأحيان من تقديم رؤى جديدة، وتوليد اهتمام وإثارة غير مألوفة، وإتاحة مناهج فلسفية متنوعة، بل ومتباينة، لمعالجة محتواها . وهو ما تحققه جزئيا عبر قدرتها على إبراز الطبيعة السياقية متعددة الأوجه لمختلف المشكلات، وأيضا عبر استثارتها كثيرا لأفكارنا وتحريكها لمشاعرنا، وقد تولد من الاستجابة العاطفية والإمتاع ما يكفي لأسر انتباهنا.
والآن لننظر عن كثب إلى بعض القضايا الفلسفية البارزة التي أثيرت حول طبيعة السينما. وهي قطعا ليست المسائل الوحيدة المهمة فلسفيا، بل قد لا يعتبرها الجميع من أهم المسائل. لكنها رغم ذلك من بين أكثر القضايا نقاشا على نطاق واسع في الكتابات الفلسفية.
قوة السينما
ينطوي الحديث عن «قوة السينما» على التباس بين معنيين أولهما احتمالية تأثير أفلام بعينها على المشاهدين الأفراد تأثيرا قويا، وثانيهما التأثير الاجتماعي والسياسي الذي قد تفرضه أفلام معينة أو السينما بوجه عام على جماهير عريضة، وكذلك فيما يتعلق بالمعتقدات والقيم الشخصية. من يتفقون مع وجهة نظر أدورنو وهوركهايمر (1990) - الذين كانوا على حق في مخاوفهم (حتى وإن لم تكن تلك المخاوف دائما في محلها) حيال التأثير السلبي المحتمل للفن الجماهيري على جماهير سلبية تفتقر إلى الحس النقدي - تقلقهم قوة السينما بالمعنى الثاني. رغم ذلك، من الواضح أنه في حال استبعاد قدرة السينما على فرض تأثير قوي على الأفراد ستتلاشى تقريبا الحاجة إلى طرح أنواع القضايا التي تثير قلق أدورنو وهوركهايمر. سوف نبحث مسألة قدرة السينما على تحريك مشاعر المشاهدين الأفراد عبر التحليل النقدي لأحد أبرز الآراء في هذا الإطار، وهو رأي نويل كارول.
يقول كارول (2004أ: 486-487): «تتألف قوة الأفلام من عنصرين: الجذب واسع النطاق والجذب القوي ... أسعى إلى شرح العنصر الأول من منظور السمات التي تجعل الأفلام مفهومة إلى حد بعيد لنطاق عريض من الجماهير.» قد يبدو ذلك غريبا بعض الشيء. فلماذا يعتقد كارول أن تفسير قوة السينما يكمن في كونها سهلة الاستيعاب لدى جماهير عريضة بدلا من قدرتها على اجتذاب الجمهور بقوة؟ إن كون السينما متاحة ومفهومة على نطاق واسع شرط ضروري للجذب واسع النطاق - فنادرا ما ينجذب الأفراد إلى قصص لا يفهمونها - لكن لماذا يعتقد أن سهولة فهم الجمهور للفيلم يفسر قوة انجذابه له؟ تصبح رؤية كارول عرضة لمزيد من التساؤلات عندما يحاول تفسير «قوة جذب الأفلام عبر تحري تلك السمات التي تمكنها من تجسيد درجة عالية جدا من الوضوح ... تكمن قوة الأفلام في وضوحها الذي يسهل على الجماهير العريضة استيعابه.» فالوضوح - وما يعنيه كارول ها هنا هو الوضوح السردي؛ أي القدرة على عرض عناصر القصة بدقة ووضوح عفوي - لا يبدو أنه السمة الصحيحة لتفسير التأثير العاطفي، في حين يشكل التأثير العاطفي جزءا لا يتجزأ من قوة الأفلام. يجسد كثير من الأفلام والكتب والمسرحيات وغيرها من الأشكال الفنية السردية قصصا بالغة الوضوح وسهلة الاستيعاب دون أن تتمتع بجاذبية أو تأثير خاص.
لا يوجد سبب يستدعي القلق حيال تأثير الفن الجماهيري، مثل السينما، إذا كان عديم القوة. وما لم تستطع السينما، في المقام الأول، التأثير بقوة على الأفراد على المستوى الشخصي، سيظل الوسيط السينمائي - حتما - وسيطا عاطلا وعاجزا على المستوى الاجتماعي والسياسي. ومن ثم فإن السؤال الأول الذي نطرحه حول قوة السينما هو كيف تستطيع ممارسة ذلك التأثير على المشاهدين الأفراد؟ لم نترك دور العرض السينمائي ونحن نبكي أو نشعر بالإحباط أو الانتشاء أو الرضا أو الخوف أو القلق؟ في معظم الأحيان، تكون هذه التأثيرات، بصرف النظر عن نوعها، مؤقتة. لكن لماذا بعد مشاهدة أفلام بعينها نكتسب عزما وإصرارا في جهودنا الرامية إلى «تغيير أنماط حياتنا» وولاءاتنا، وطريقة تفاعلنا مع الآخرين، بل وأحيانا حياتنا؟
إن قدرة السينما على التأثير علينا لا تكمن بالضرورة كليا أو حتى بدرجة أساسية في العناصر التي تنفرد بها السينما. فلنتأمل في هذا السياق التفسيرات القائمة على طبيعة السرد في حد ذاته؛ أي قدرة السينما على توليد مشاعر قوية لأسباب لا تختلف كثيرا (ولم يجب أن تختلف؟!) عما نجده في الأدب الروائي. يقدم التحليل النفسي كذلك بعض التفسيرات المحتملة، مثل قدرة السينما على الإشباع المؤقت للرغبات والتفكير القائم على الأمنيات.
صفحة غير معروفة
1
ألا تنبع من هذا رغبة الجمهور في «نهاية سعيدة» (سحر الأفلام)؟ كذلك تطرح بعض الآراء قدرة السينما أحيانا على الاستثارة العابرة لرغبات نرجسية وسادية ومازوخية، ومعادية للمرأة، وذات طبيعة متلصصة شبقية، وغيرها من الرغبات المنحرفة (رغم أنها ليست إشكالية بالضرورة ولا حتى غير أخلاقية) لدى المشاهدين، وإشباعها.
لقد رأينا في الفصل الأول أن الإجابة عن التساؤل حول ما إذا كان في وسع السينما ممارسة الفلسفة لا تتعلق بالضرورة بسمات تنفرد بها السينما، بل ربما من الأفضل الإجابة عن هذا التساؤل من منظور السمات التي تعد من مقومات السينما لكنها توجد كذلك في أشكال فنية أخرى. بالمثل يمكن تفسير قوة السينما من منظور مجموعة متنوعة من السمات السينمائية (مثل السرد، الموسيقى، التمثيل)، بدلا من تفسيرها بالاستعانة ببعض العناصر الجوهرية غير القابلة للاختزال، أو مجموعة من السمات الأساسية، التي تنفرد بها السينما. رغم ذلك يسعى جزء كبير من النقاش حول قوة السينما إلى تفسير قوتها من منظور عنصر ما تنفرد به السينما. فربما تتمتع السينما بهذه الجاذبية الآسرة لأنها واقعية على نحو لا نجده في الأشكال الفنية الأخرى. إن اللوحة الفنية هي عمل مصطنع مهما كانت واقعية المشهد الذي تجسده؛ لأنها ساكنة، فهي تجسد لحظة زمنية جامدة، بينما نحن لا نخوض غمار الحياة كسلسلة من اللحظات الجامدة. ليس في وسع اللوحة الفنية تجنب هذا النوع من الاصطناع. لكن الأفلام تصور العالم بأسلوب يبدو أكثر واقعية على مستوى جذري. يمكن تتبع الفكرة الزاعمة بأن تفرد السينما وقوتها يكمنان بطريقة ما في واقعيتها وصولا إلى المنظر السينمائي أندريه بازان. ويعد نويل كارول واحدا من أهم نقاد هذه الرؤية.
يرفض كارول تفسير قوة السينما حسب رؤية بازان التي تزعم أن «الصورة السينمائية هي تجسيد موضوعي للماضي، قطعة معبرة وصادقة من الواقع.» يقول كارول (2004أ: 485):
ينكر منظرو السينما المعاصرون وجود أي معنى حرفي يمكن استخلاصه من الفكرة القائلة بأن السينما مرآة طبيعية للواقع. ومع ذلك يتمسكون دون شك بجزء من المنهج الواقعي، يتمثل تحديدا في الافتراضات النفسية المسبقة لذلك المنهج ... ففي حين يرفضون فكرة أن السينما جزء من الواقع، يوافقون رغم ذلك على أن السينما، حسب استخداماتها المعتادة، تنقل تأثيرا واقعيا إلى مشاهديها. هذا التأثير النفسي يمكن وصفه بعدة صيغ متنوعة، من بينها الآراء التي تزعم أن السينما تعطي انطباعا بأن الواقع يروي ذاته أو توهم المتلقي بأنها تعرض صورة للواقع، أو أنها تبدو طبيعية.
ثم يستطرد كارول زاعما أن (2004أ: 485):
تلك التنويعات على فكرة التأثير الواقعي عرضة للتشكك لأنها تنسب إلى المشاهدين حالات من التصديق تعطل طرقنا المميزة للاستجابة إلى السينما وتقديرها. فإذا كنا نحن المشاهدين سنخلط في أي وقت بين التجسيدات التي تعرض أمامنا وبين ما تمثله تلك الصور في الواقع، فلن نتمكن عندئذ من الجلوس في راحة وخمول واستمتاع بينما تندفع قطعان الجاموس تجاهنا، وبينما يبوح الأحبة بأشواقهم، وبينما يعذب الأطفال.
هل يوجد بين الذين يعتقدون أن «السينما تنقل تأثيرا واقعيا إلى مشاهديها» من يعتنق أيا من الآراء التي ينسبها كارول إليهم؟ هل المنهج الواقعي في نظرية السينما، كفرضية وجودية (أنطولوجية) أو في تنويعاته الأكثر حداثة ذات الطابع النفسي، هو طريق مسدود كما يزعم كارول؟
هل يمكن إنقاذ التنويعات النفسية على فرضية بازان من هذا المصير؟ هل في وسع المرء فعليا الاحتفاظ ب «التأثير الواقعي» لقطيع الجاموس الهارب الذي يشاهده دون أن يلقي علبة الفشار من يده، ويندفع هاربا نحو باب الخروج من دار العرض؟
يطرح كارول (2004أ: 486) نقدا ثانيا للفرضية الواقعية أو للتنويع النفسي عليها:
صفحة غير معروفة
إن الإشارة إلى الواقع ها هنا لا تساعدنا كثيرا ... لأن استيعابنا لقوة الأفلام يقع إلى حد كبير على طرف النقيض من استجاباتنا الأقل حدة للحياة العادية ... وبما إن استجابتنا للواقع غالبا ما ينقصها الحماس والحيوية، فإن الزعم القائل بأن السينما تبدو جزءا من الواقع لا يقدم تفسيرا لأي من استجاباتنا القوية إلى حد استثنائي للأفلام. لذا لا بد من إيجاد تفسير آخر، لا يعتمد على الواقعية، لتعليل قوة الأفلام.
ألم يغفل كارول شيئا ها هنا؟ ألم يراوغ في حديثه عن مفهوم «الواقع» في حقيقة الأمر، أو يفترض تصورا محدودا للغاية لما يندرج تحت «الواقع»؟ بالطبع لا تعكس الأفلام بوجه عام الحياة العادية بمفهوم كارول (ولا حتى فيلم «إمباير» الصامت الذي أخرجه أندي وارهول عام 1964، والمكون من لقطة واحدة مدتها ثمان ساعات بالأبيض والأسود لمبنى إمباير ستايت ليلا، يعكس الحياة العادية). لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن التأثير «الواقعي» الذي تنقله الأفلام ليس مهما لتفسير قدرتها على اجتذاب المشاهدين (جذبا قويا وعاطفيا في بعض الأحيان). فلو كانت الحياة الواقعية أكثر تشابها مع الأفلام فيما يتصل بالسرد والأحداث، لجذبتنا الحياة العادية قطعا جذبا قويا وعاطفيا، بل وبدرجة تفوق الأفلام دون شك.
باختصار، ربما تبدو رؤية بازان، بناء على طريقة تفسيرها، متطرفة وخاطئة، لكن فكرة اعتماد قوة الأفلام جزئيا على قدرتها على «نقل تأثير واقعي لمشاهديها» لا تنطوي على إشكالية ما، بل هي صحيحة أيضا. من ناحية أخرى، تركز رؤية كارول الخاصة حول التجسيد التصويري في السينما على السمات التي تساهم في وضوح السينما وسهولة استيعابها، بدلا من واقعيتها.
يلخص كارول وجهة نظره حول قوة الأفلام كالتالي (2004أ: 189):
يؤمن منظرو السينما المعاصرون بأن الصورة السينمائية النمطية تضفي إيهاما بالواقع أو الشفافية أو الطبيعية. إلا أن هذه الورقة البحثية لا تستشهد بأي من هذه التأثيرات النفسية الواقعية، أو أي مما يضاهيها. بل تزعم - عوضا عن ذلك - أن المشاهد العادي يدرك ما تمثله الصورة السينمائية دون الرجوع إلى قاعدة ما، ولا تزعم أن المشاهد يعتقد، بأي شكل من الأشكال، بتوحد التجسيد التصويري مع ما يعبر عنه في الواقع.
لكن ربما كان يجدر بالورقة البحثية زعم وجود هذا التوحد. فعندما نرى خيلا تعدو في أحد الأفلام، نعتقد، بشكل ما، «بتوحد التجسيد مع ما يصوره.» توجد طريقتان رئيسيتان لتفسير هذا الزعم المتعلق بالاستجابة «الواقعية من الناحية النفسية» للصور السينمائية. التفسير الأول، وهو تفسير جامح، يقضي بأن الجمهور يفترض أن صورة الخيل وهي تعدو تجسد حدثا تاريخيا؛ فلا بد أن الخيل اضطرت إلى العدو في الواقع قبل أن تأتي الكاميرا و«تلتقط» عدوهم بطريقة مكنت من نقله إلى جهاز عرض ثم «إعادة عرض المشهد» أمامنا . والثاني، التفسير المتواضع، يفترض الجمهور أن الصورة السينمائية لخيل تعدو تجسد مجموعة معينة من الخيول في العالم الخيالي الخاص بالفيلم، وأن ما تفعله الخيل في الصورة - العدو - هو تحديدا ما تفعله في ذلك العالم. وكقاعدة عامة، كلما بدت الخيل في الفيلم أشبه بالخيل الحقيقية، كان التجسيد أكثر واقعية، ويعد ذلك نجاحا في الاستحضار بأذهاننا صورة أكثر تأثيرا وجاذبية لعالم من الخيل العداءة. بالطبع لن نميل إلى الخلط بين العالم الخيالي الذي يخلقه الفيلم والعالم الحقيقي. يستخدم منظرو السينما مصطلح «حكائي» للإشارة إلى عناصر الفيلم التي تنتمي إلى العالم الخيالي للفيلم. ولا يخلط المشاهد العادي بين الجوانب الحكائية الجلية في أحد الأفلام مع الجوانب غير الحكائية. على سبيل المثال، إذا كانت الموسيقى التصويرية تصاحب مشهد الخيل التي تعدو في الفيلم، فذلك لا يجعلنا نفترض أن الخيل تستطيع سماع تلك الموسيقى. (الموسيقى التصويرية عنصر غير حكائي.) وسيتطلب تقديم الموسيقى كعنصر حكائي في الفيلم إضافة عامل تجسيدي (كأن يظهر في الفيلم مكبرات صوت تصدح بالموسيقى). إن قدرة السينما على التجسيد «الواقعي» لعالم خيالي تشكل جانبا واضحا من قوتها، حتى وإن لم يقدم ذلك تفسيرا متكاملا لقوة فيلم بعينه. لا يتغاضى كارول عن الخاصية التصويرية للتجسيد السينمائي، لكنه لا يولي اهتماما خاصا للخاصية الواقعية لهذا التجسيد في تفسيره لقدرة السينما على التأثير في الجمهور. ونحن نرى أن هذا خطأ من جانبه. لقد أصاب في الاعتراض على ما نطلق عليه التفسير الجامح للتأثيرات النفسية الواقعية، لكنه أغفل الأهمية المحورية للصيغة المتواضعة من الواقعية.
لكن ما هي تفاصيل نظرية كارول الخاصة؟ لقد لاحظنا أنه يؤكد على وضوح الفن السينمائي، على النقيض من الأشكال الفنية الأخرى، في محاولة لشرح اتساع نطاق قدرة السينما على تحريك مشاعر الجمهور. حان الوقت كي نلقي نظرة على بعض من تفاصيل وجهة نظره.
ينقسم تفسير كارول (2004أ: 487) «لاستجابتنا القوية إلى حد استثنائي للأفلام» إلى عدة أجزاء. فيتناول أولا التجسيد التصويري: «أيا كانت السمات أو الإشارات التي نوظفها في عملية التعرف على الأشياء ؛ فنحن نحشدها كذلك للتعرف على ما تجسده الصور ... ويتناقض التطور السريع لهذه القدرة على التعرف على الصور تناقضا بالغا مع تعلم نظام من الرموز مثل اللغة.» إن السهولة التي يتعامل بها الناس مع التجسيد التصويري هي إحدى «السمات التي تجعل السينما بوجه عام مفهومة للجماهير غير المثقفة ... لقد أصبحت الأفلام ظاهرة عالمية لأنها استندت في استغلالها لقدرة التعرف على الصور - مقارنة بأنظمة الرموز التي تتطلب إتقانا لعمليات مثل القراءة ... كي تفهم - إلى قدرة بيولوجية تنمو لدى البشر وهم يتعلمون إدراك الأشياء والأحداث في بيئتهم.»
حتى الآن حاول كارول تفسير السبب الذي يجعل الأفلام أسهل بوجه عام في الفهم والمتابعة مقارنة بالروايات: «إن التعرف على صور الأفلام أكثر شبها برد فعل تلقائي من شبهه بعملية مثل القراءة» (كارول 2004أ: 489). لكنه لم يقدم بعد تفسيرا لكون «الفيلم العادي، حال تكافؤ جميع الظروف، أسهل في المتابعة من مسرحية عادية» (2004أ: 490)، بما أنه في المسرح (وفي بعض الأشكال الفنية الأخرى) «لا يتحقق التعرف على ما تشير إليه التجسيدات، كما في الأفلام، عادة عبر عمليات مكتسبة مثل تفسير الرموز أو القراءة أو الاستنتاج» (2004أ: 489).
هذا يقودنا إلى الجزء الثاني من تفسير كارول «لاستجابتنا القوية إلى حد استثنائي للأفلام»:
صفحة غير معروفة
يتمتع صانع الفيلم في فيلمه بتحكم في انتباه المشاهد (من خلال تنويع أطر الصور على سبيل المثال، وذلك باستخدام تقنيات مثل اختيار وضع الكاميرا الذي يسمح للمخرج بتركيز انتباه المشاهد) يفوق بمراحل ما يتيسر للمخرج المسرحي. والنتيجة أن مشاهد الفيلم ينظر دائما إلى حيث ينبغي له النظر، ودائما ما يولي اهتمامه إلى التفاصيل المطلوبة ملاحظتها؛ ومن ثم يستوعب، دون جهد تقريبا، الحدث الدائر أمامه، على النحو المقصود تماما ... الأفلام أسهل على المستوى الإدراكي. وقد يفسر عامل الوضوح الإدراكي الذي تتمتع به الأفلام أيضا ما تولده من انجذاب قوي واسع النطاق. (2004أ: 490)
تنطوي وجهة النظر السابقة على شيء من الصواب. لكن من غير المرجح على ما يبدو أن يقدم الوضوح الإدراكي الذي يحققه الفيلم، عبر أدوات معينة تركز انتباه المشاهدين، تفسيرا كاملا لقوة الأفلام مقارنة بالمسرحيات حتى وإن كان صحيحا أن تأثير الأفلام علينا يكون عادة أقوى من المسرحيات. ومن جديد لا ينبغي تجاهل التفسيرات الأكثر وضوحا. ربما كان موضوع معظم المسرحيات مقارنة بالأفلام أقل جذبا من نواح أخرى، وإن لم يقل وضوحا عنها. ربما لا يغازل المسرح المشاعر بقدر ما تفعل الأفلام. ربما يخلط كارول بين الفكرة القائلة بأن الأفلام «تفرض علينا تأثيرا أقوى» بفكرة أن الأفلام «تؤثر على أعداد أكبر منا على نحو أقوى». والفكرة الأخيرة لا تبعث على الدهشة بما أن جمهور المسرحيات يتضاءل مقارنة بجمهور الأفلام. وعموما قضاء أمسية مسرحية نشاط مكلف حقا بينما الأفلام رخيصة نسبيا (حتى وإن لم ينطبق ذلك على الفشار) ويمكن في كثير من الأحيان مشاهدتها مجانا. وأخيرا يجدر بنا ألا نسارع بقبول الزعم القائل بأن الأفلام قادرة على جذبنا على مستوى أعمق من المسرح باعتبار ذلك الزعم حقيقة جوهرية حول كل من المسرح والسينما؛ فالمسرح القوي يؤثر فينا تأثيرا عميقا دون شك. وربما كان تحقيق تأثير قوي في المسرح أصعب من تحقيقه في السينما، ويرجع ذلك جزئيا إلى الأسباب التي حددها كارول - توجيه انتباه المشاهدين مهمة أسهل على صناع الأفلام من المخرجين المسرحيين - لكن هذا لا يقدم بعد تفسيرا جيدا للتأثير الذي تفرضه الأفلام علينا؛ إنه يساعدنا على تفسير الجاذبية الواسعة التي تتمتع بها الأفلام (فهي رخيصة مقارنة بالمسرح، والأفلام المتوسطة الجودة أكثر جاذبية من المسرحيات المتوسطة الجودة)، لكن لا يزال علينا إيجاد تفسيرات أعمق وأكثر تكاملا لقوة الأفلام. وربما تشترك تلك التفسيرات في بعض عناصرها مع قوة الأشكال الفنية السردية الأخرى (وغير السردية بالتأكيد).
إن العامل الثاني الذي يقترحه كارول لتبرير قوة الأفلام - وهو التركيز الموجه لانتباه المشاهد - لا يكفي على ما يبدو لتفسير قوة السينما تفسيرا متكاملا حتى عند ضمه إلى عامل التجسيد التصويري. ما قد يحققه هذان العاملان في الواقع هو المساعدة في جذب المشاهدين والتأثير عليهم عاطفيا. فربما يساعدان على توليد التأثير العاطفي الذي تحدثه الأفلام لدى المشاهدين دون أن يشكلا فعليا السبل المباشرة لتوليد هذا التأثير. قد يوجد عدد كبير من العوامل الأخرى التي تساهم في انجذابنا العاطفي ناحية السينما، أو تمنعه، إلى حد أكبر بكثير من العوامل التي يقترحها كارول.
العامل الثالث الذي يتضمنه تفسير كارول يتعلق بدعم الجانب السردي للأفلام لسهولة استيعابها ومن ثم لقوتها. يقدم السرد تفسيرا للحدث، والجماهير مهتمة بطبيعتها بمعرفة تفسير الحدث. يقول كارول (2004أ: 493): «بقدر ما تصور قصص الأفلام أفعال الشخصيات بأساليب تعكس منطق الاستدلال العملي، تكون الأفلام مفهومة على نطاق واسع؛ نظرا لكون الاستدلال العملي شكلا عاما من أشكال اتخاذ القرار لدى البشر.» وفي إطار سهولة الفهم، يبرز جانب آخر مستقل نسبيا من السرد؛ الأفلام تصنع التشويق عبر خلق مواقف، أو طرح أسئلة، من خلال قصة ننتظر - نحن المشاهدين - في ترقب حلها أو تقديم إجابة لها. ويرى كارول (2004أ: 494) أن نموذج السؤال والإجابة هذا (الذي يطلق عليه النموذج التساؤلي) «أكثر أسلوب سردي مميز في الأفلام.» وقليل من ينكرون أن قصة مشوقة أو جذابة هي عنصر ضروري في تفسير قوة السينما.
لكن كارول يغفل هنا أيضا على ما يبدو دور النموذج التساؤلي في إثارة المشاعر لصالح دوره الإدراكي وقدرته على تحريك الحبكة عبر طرح المشكلات ثم معالجتها؛ ومن ثم إشباع فضولنا. وبينما تعمل الإثارة المرتبطة بحبكة جيدة على أسر انتباه الجمهور وقد تسهم في إحداث رد فعل عاطفي قوي، فإن حقيقة كونها تطرح أسئلة ثم تجيب عنها تجعلها مستقلة نسبيا عن تلك العوامل السردية التي تثير استجابات عاطفية قوية. تذكر أن كارول يسعى للإجابة عن سؤالين مترابطين، وهما: ما سر قوة الأفلام؟ وما السبب وراء كون تأثيرها واسع الانتشار؟ ربما لا يشكل الوضوح السردي سوى جزء من تفسير جاذبية السينما الواسعة النطاق، لكنه لا يصلح كتفسير لقوة السينما في حد ذاتها. وهو يساعد على تفسير الجاذبية السردية للأفلام - كيف تستحوذ على الجمهور - لكنه لا يعطي تفسيرا على الأرجح لما قد يبديه الجمهور من اهتمام كبير ب «جلسة الأسئلة والأجوبة» الخيالية التي يشاهدونها على الشاشة. إن قوة الأفلام تكمن غالبا في نوع من الارتباط العاطفي الذي لا تفسره جاذبية السرد المعرفية.
إن تقنيات السينما والحبكة وطبيعة التجسيد السينمائي كلها عناصر مهمة في تفسير قوة الأفلام، لكنها ليست بأي حال من الأحوال العناصر الوحيدة، بل وربما ليست العناصر الأهم في واقع الأمر؛ إذ تنحصر أهميتها في مقدار إسهامها في تفسير التأثير الذي يحدثه «بعض» الأفلام على «بعض» المشاهدين في «بعض» الأوقات. والعناصر الثلاثة التي يركز عليها كارول مهمة بقدر ما تساعد على التوحد مع الشخصيات، وتغذي الخيالات والأمنيات والرغبات (كالانتقام وغيره)، وشتى صور التحيزات والميول التلصصية الشبقية وغيرها من الميول التي قد تثار مؤقتا. عندما يصوب هاري كالاهان (المعروف بهاري القذر) مسدسه الضخم من طراز 44 ماجنم نحو المجرم في فيلم «تأثير مفاجئ» (صدن إيمباكت) (1983) قائلا: «هيا، أطلق مسدسك إن كنت تملك الجرأة» فإنه يقولها نيابة عنا جميعا؛ ومن ثم نشعر بالامتنان والرضا. في تلك اللحظة تسود العدالة، لا في الموقف الذي يمر به هاري فحسب بل في المواقف - ربما جميع المواقف - التي عانينا فيها من الظلم (سواء كان حقيقيا أو متخيلا) والتي قد نعانيها في المستقبل.
تكمن المشكلة في تركيز كارول على الجانب الإدراكي بدلا من الجانب العاطفي، ما يجعله يتوقف على بعد خطوة واحدة (حسب زعم البعض) من تقديم تفسير مقبول لقوة الأفلام. لكن كارول يختلف مع هذا الرأي (2004أ: 496) قائلا:
في سعينا هذا لتفسير قوة الأفلام اقتصر تناولنا على سمات الأفلام التي تخاطب الملكات «الإدراكية» لدى الجمهور. وهو موضوع يلعب دون شك دورا محوريا في هذا النقاش؛ لأننا لن نتمكن من تحديد السمات التي تفسر تأثير الأفلام واسع الانتشار والاستثنائي إلا إذا ركزنا على القدرات الإدراكية - لا سيما تلك المترسخة بعمق مثل التجسيد التصويري والمنطق العملي والدافع لإيجاد إجابات على أسئلتنا - بما أن القدرات الإدراكية، على المستوى الذي ناقشناه، هي المرشح الأكثر قبولا للعب دور العناصر المشتركة بين جموع جماهير الأفلام.
في الحقيقة، وجه كارول تركيزه في الاتجاه الخاطئ؛ فالملكات الإدراكية لدى الجمهور تقبع في جميع الحالات تقريبا تحت إمرة الطبائع الوجدانية للمشاهدين واحتياجاتها التي لا تنقطع.
مفارقة الخيال
صفحة غير معروفة