وخير ما يفعل لمقارنة النثر العربي والنثر الفارسي أن ننظر على كتاب عربي وترجمته، لنرى كيف توافق الترجمة الأصل وكيف تخالفها مراعاة لأسلوب اللغة وذوق أهلها، فإذا قارن الباحث كتاب كليلة ودمنة العربي بالترجمة الفارسية التي كتبها نصر بن عبد الحميد والترجمة الأخرى التي كتبها الكاشفي من بعد وسماها أنوار سهيلي - عرف كيف تشترك اللغتان في كثير من الألفاظ والعبارات وضروب البديع وكيف تختلفان في الإطناب والتفصيل والمبالغة.
الفصل السادس
مكان العربية في إيران من الفارسية
قد عرفنا حال اللغة الفارسية في إيران إجمالا، كيف بدأت وكيف تطورت وكيف شاركت في فنون كثيرة، وقد يتردد في نفس القارئ هذا السؤال: ماذا أصاب اللغة العربية في هذه البلاد بعد أن صار لها لغة أدبية خاصة؟ هل استبدت اللغة الفارسية بالآداب والعلوم ولم يبق للعربية فيها مجال؟
قد تقلبت الغير باللغتين، ولكن يمكن أن يقال: إن العربية احتفظت بالسيادة في الأطوار كلها فيما عدا الشعر . فأما بيان هذا ففي هذه الكلمة الموجزة:
لا ريب أن المؤلفات العربية التي ألفت في بلاد الفرس ما بين القرن الرابع وغارات التتار أكثر جدا من نظائرها الفارسية، ولكن ينبغي أن نفرق بين الشعر وغيره فإن الأمر فيهما لا يجري على سنن واحد.
فأما العلماء المؤلفون فلا حرج على باحث أن يقول: إنهم كلهم يعرفون اللغتين، وقد ألف بعضهم فيهما ولكن المؤلفين بالعربية أشهر ذكرا وأعظم أثرا، وحسبنا أن نذكر ابن مسكويه وابن سينا والبيروني والعتبي والغزالي والرازي والزوزني والتبريزي والنسفي والبيضاوي والطوسي.
وأحسن مقياس في هذا أن نعمد إلى جماعة ممن ألفوا باللسانين لنرى مؤلفاتهم العربية أكثر وأعظم أم الفارسية، ولا أحسب الأمر يحتاج إلى عناء، فيكفينا أن نذكر الغزالي فنحن نعرف مؤلفاته العربية وليس له في الفارسية إلا رسالتان: كيمياء السعادة ونصيحة الملوك، وقد صرح في الأولى أنه ألفها بالفارسية ليفهم العامة، وفخر الدين الرازي له زهاء ثلاثة وثلاثين مؤلفا يعرف منها في الفارسية واحد فقط هو اختيارات علائي. ونصير الدين الطوسي على تأخر زمانه له نحو خمسين مؤلفا قليل منها الفارسي. والبيضاوي ألف تفسيره بالعربية ولم يمنح الفارسية إلا كتابا صغيرا أسماه نظام التواريخ.
وأما الشعر وما يتصل به فلا ريب أن النبوغ كان لشعراء الفارسية، فليس فيمن شعروا بالعربية ببلاد الفرس كثير أمثال الفردوسي أو الأنوري أو العنصري، ولكن أكثر العلماء الذين اتخذوا العربية لغة علم كانوا ينظمون شعرا عربيا. وكثير من شعراء الفرس نظموا شعرا عربيا كذلك. وحسبنا أن نعرف أن الثعالبي وهو من رجال القرن الرابع ذكر في الجزء الثالث والجزء الرابع من اليتيمة واحدا وخمسين ومائة من معاصريه الذين نظموا الشعر العربي في أرجاء بلاد الفرس، وهم أكثر من كل شعراء الفرس الذين ذكرهم عوفي وهو في القرن السابع ولكنهم لا يبلغون درجتهم في الشعر، وقليل منهم يعد شاعرا عظيما في العربية.
ومن الشعراء الذين نظموا باللغتين بديع الزمان الهمذاني وأبو الفتح البستي وقد ضاع ديوانه الفارسي، والبديع البلخي الذي مدح أحد الأمراء بشعر ملمع، وعطاء بن يعقوب الكاتب وكان له ديوانان عربي وفارسي، والباخرزي، وابن سينا، والشيخ السعدي. ومن الكتاب رشيد الدين الوطواط صاحب حديقة الشعر وله رسائل عربية نشرت إحداها في رسائل البلغاء.
صفحة غير معروفة