وخلق في مزاجه وعصبه من المادة المشتعلة، حتى إذا التهب رأت منه الحياة شكلها القوي الجميل في الرجل المشبوب يرسل فروعه النارية على ما حوله: فإذا خمد رأى منه الموت شكله العنيف الجميل في الجمرة العليلة الذابلة حين تمر أنفاس الهواء عليها.
رجل طوال إذا انتصب والناس وقوف حوله رأيتهم معه أشبه بهم قعودا، مما يفرعهم من طوله، وامتداد قامته، مجدول الذراعين، مشبوح العظام
5
قد تباعد منكباه، وترامى بينهما صدر مصفح، كل ثدي من ثدييه يجمع قوة أسد.
وهو في توثيق جسمه، وتفرع بعضه من بعض كأنه شجرة رجال: كل فرع منها بطل منكر؛ وهو في إحكام تركيبه، واندماج بعضه في بعض كأنه تمثال أفرغ من حديد؛ فتوزعت فيه الكتل هنا وهنا، وكل ما فيه من الإجمال والتفصيل أنه جسم آدمي يمثل للأعين ناموس «بقاء الأنسب».
وجاءوا به والناس متقصفون عليه من ازدحامهم ينثني بعضهم على بعض لينظروا إلى الرجل الكامل، بل الذي نقص حين كمل، وهو مطل عليهم ... كأنه عبارة مبهمة في صحيفة! وكأنهم من حوله شروح وتفاسير رقمت على حاشيتها بخط دقيق، وقف كالشيء الغامض يروعهم بغموضه أضعاف ما يعجبهم بروعته! وكانوا كالشعاع: خيطا يظهر من خيط؛ وكان كالظلمة: نسيجا من قطعة واحدة؛ وأحسبه لو صاح بهم صيحة البأس لسقطت قلوبهم من علائقها سقوط أورق الشجر في قاصف من الريح، وكأن ما بينهم وبينه في الروعة والقوة كالذي تقيسه بين ألف متر انخسفت تحت الأرض، وألف متر انبثقت فوقها؛ فالبعد بين طرفيهما مضاعف كل منهما؛ وما زالت سنة الله أن تتضاعف الفروق دائما بين الأشياء التي لا يمكن أن تتفق، حتى لا يمكن أبدا أن تتفق!
أما أنا فما يعجبني شيء ما تعجبني القوة السليمة في رجل شجاع، والضعف السليم في امرأة جميلة، وكما أنظر أكثر الوقت بالنظر الساكن المفكر، أحب أن أنظر أحيانا بمثل البرق المتطاير من عيني أسد مفترس، أو الازورار الزائغ في عيني جواد جموح، وخير الناس في رأيي من غسله تاريخ أهله بضوء السماء، وضوء السيوف معا.
6 •••
وكان الرجل يظهر كأنما هو لا يمسكه الحديد الذي يعض على يديه؛ بل ذنبه الذي يعض على قلبه: ولعله قتل ضعيفا مظلوما، فتحول ضعف القتيل، وذلته، ومسكنته إلى أرواح منتقمة من كبريائه، تدس في ضميره عنصر الجبن البغيض إليه، وتربط الروح الميتة إلى روحه؛ فلا ينزع ظلمتها عن قلبه كل ما في النهار من الضوء؛ ولا يجد النور إلا في الإقرار والندم؛ فيسكن إليهما.
وتبينته فرأيته ساكنا سكون الاستهزاء؛ كأنه على ثقة مما خفي عنه، تشبه ثقته بما وضح له؛ أو لتعاسته أخفق أكثر مما فاز. والإنسان متى كثر إخفاقه صارت الخيبة في الأعمال هي الخطة التي يبني عليها؛ أو لا هذه ولا تلك، ولكنها الشجاعة تجعل المطمئن إلى غاية الحياة لا يبالي بكل وسائل هذه الغاية المحتومة!
صفحة غير معروفة